تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة

أبو منصور المَاتُرِيدي

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وجعله قيمًا لا عوج فيه مستقيمًا، ودعا إلى اتباعه، والسير على منهاجه. وأشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، القائل: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ). وأشهد أن محمدا عبد اللَّه ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وعلم الأمة القرآن، وقال: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " (¬1)، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد: فالتفسير من أجل العلوم قدرًا، وأعلاها شرفًا وذكرا، وأعظمها أجرا، وأسناها منقبة، يملأ العيون نورًا، والقلوب سرورًا، والصدور انشراحًا، ويفيد الأمور اتساعًا وانفتاحًا، لا يفنى بكثرة الإنفاق كنزه، ولا يبلى على طول الزمان عزهُ، به تتعلق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم؛ لذا كان أولى بالالتفات إليه، وأجدر بالاعتماد عليه؛ وكيف لا؟ وهو يتعلق بتفسير أعظم كتاب، وأضبط كتاب، وأهدى كتاب؛ القرآن الكريم الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42). ولقد قام سلفنا الصالح من كبار العلماء العاملين بجهود عظيمة في مجال تفسير القرآن الكريم، فعبدوا طرقه، ويسروا صعبه، وبينوا مسائله، راجين مرضاة اللَّه، طالبين رضاه، ملتمسين عفوه ومغفرته. ومما لا شك فيهه أن دراسة التراث التفسيري متمثلا في تحقيق أمهات كتب التفسير، والعناية بها، والاطلاع عليها - يسهم كل ذلك بحظ وافر في التعرف على كتاب الله العظيم، وتفهم آياته، ومعرفة تعاليمه؛ مما ييسر العمل به. أضف إلى ذلك: التعرف على هذا التراث الضخم، والثروة التفسيرية الهائلة الكاشفة عن جهود علمائنا الأجلاء في خدمة القرآن الكويم. لكل هذا آثرنا تحقيق كتاب " تأويلات أهل السنة " لأبي منصور الماتريدي؛ وذلك لأهمية هذا الكتاب في استخلاص مسائل العقيدة من آي الذكر الحكيم، وأيضًا لأن هذا ¬_______ (¬1) أخرجه البخاري (8/ 692) في كتاب فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5027) (5028)، وأخرجه أبو داود برقم (1425)، والترمذي برقم (907، 908، 909)، وابن ماجة برقم (211)، والدارمي (2//437)، وأحمد في المسند (1/ 58، 69).

الكتاب غير معروف عند كثير من الناس رغم أهميته، ومؤلفه أيضًا عالم فذ يحتاج من المحققين والدارسين الالتفات إليه، ومن ثم حاولنا أن نسهم بجهد متواضع بتحقيق هذا الكتاب؛ للوصول إلى هدفنا المنشود. ويشتمل تحقيق الكتاب على: مقدمة وتمهيد، وبابين، وخاتمة، وفهارس مفصلة. فأما المقدمة فتشتمل على: المنهج المتبع في تحقيق الكتاب. وأما التمهيد فيشتمل على: أولا: التعريف بعصر الماتريدي من الناحية: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، والعلمية، والثقافية. ثانيا: التعريف بالماتريدي: مولده ونشأته، ونسبه، ووفاته. ثالثا: التعريف بشيوخ الماتريدي وتلاميذه. رابعا: قيمة الماتريدي العلمية من خلال بيان أبرز مصنفاته. خامسا: منزلة تفسير " تأويلات أهل السنة " بين مصنفات الماتريدي. الباب الأول: القسم الدراسي، ويشتمل على عدة فصول: الفصل الأول: نشأة التفسير وتطوره. الفصل الثاني: المدارس التفسيرية. الفصل الثالث: المناهج التفسيرية القديمة والحديثة. الفصل الرابع: انتماء الماتريدي التفسيري. الفصل الخامس: بذور التجديد في تفسير الماتريدي. الفصل السادس: منهج الماتريدي في التفسير. الفصل السابع: تأثر الماتريدي بمن سبقوه من خلال تفسيره: - في التفسير. - في العقيدة. - في الفقه. - في علوم اللغة. الفصل الثامن: تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده إلى العصر الحاضر من خلال تفسيره.

وعملي فيه على النحو التالي

- في التفسير. - في العقيدة. - في الفقه. - في علوم اللغة. الفصل التاسع: القضايا العلمية التي تناولها الماتريدي في تفسيره. - القضايا العقدية والكلامية. - القضايا الفقهية. - القضايا اللغوية والبلاغية. الباب الثاني: القسم التحقيقي. وعملي فيه على النحو التالي: 1 - نسخ المخطوط مع الالتزام بالإملاء والترقيم الحديث. 2 - مقابلة النسخة التي ستكون أصلا بالنسخ الخطية الأخرى للكتاب مع إثبات الفروق في هامش الكتاب. 3 - ضبط النص وسد ما فيه من خلل. 4 - تشكيل الأحاديث النبوية تشكيلاً حرفيا. 5 - تشكيل الكلمات الغريبة في النص. 6 - وضع الآيات التي يفسرها المؤلف وضعًا إجماليا في بداية التفسير مع ترقيمها هكذا: قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3). 7 - ترقيم الآيات القرآنية المستشهد بها في تفسير الآية مع تخريجها. 8 - تخريج الأحاديث النبوية واتبعنا فيها المنهج التالي: أولاً: إذا كان الحديث في الكتب التسعة قمت بتخريجه منها، مع بيان الحكم على الحديث.

ثانيًا: إذا لم يكن الحديث في البخاري ومسلم أشرت إلى الحديث من حيث الصحة والضعف نقلاً عن أئمة هذا الفن. ثالثا: إذا لم يكن الحديث في الكتب التسعة خرجته من باقي كتب السنة مع بيان الصحة والضعف. 9 - تخريج الآثار وعزوها إلى مظانها مع بيان الراجح منها. 15 - توثيق الأقوال والنقول الواردة في الكتاب. 11 - توضيح الغريب بالرجوع إلى كتب اللغة وغريب الحديث وغريب القرآن. 12 - تراجم الأعلام الوادة في الكتاب مع توثيق الترجمة بمصدرين أو أكثر. 13 - التعريف بالأماكن والقبائل والبلدان. 14 - شرح المصطلحات الفقهية والأصولية الواردة في الكتاب، مع بيان الاصطلاحات المشهورة في كل فن. 15 - الرجوع إلى كتب الناسخ والمنسوخ وتوثيق ما يحتاج إلى توثيق. 16 - الرجوع إلى كتب معاني القرآن. 17 - الرجوع إلى كتب البلاغة. 18 - الرجوع إلى كتب القراءات المتواترة والشاذة وتوثيق القراءات الواردة في النص مع ضبطها. 19 - التعليق على بعض المسائل الفقهية، مع بيان الراجح من المرجوح، وأدلة كل فريق مع الترجيح. 20 - التعليق على بعض المسائل الأصولية، وبيان أدلة كل فريق، مع التوثيق. 21 - التعليق على بعض المسائل العقائدية وبيان مذهب السلف الصالح. 22 - تتبع الدخيل الموجود في تفسير المؤلف، مع بيان وجه ضعفه. وبهذا نكون قد وضعنا القارئ على بينة من المنهج المتبع في تحقيق الكتاب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. * * *

الباب الأول عصر الماتريدي

الباب الأول عصر الماتريدي ويشتمل على الفصول الآتية: الفصل الأول: قيام الدولة العباسية. الفصل الثاني: أبرز الأحداث السياسية في الدولة العباسية. الفصل الثالث: ظاهرة الدولة المستقلة في الشرق الإسلامي. الفصل الرابع: نظام الحكم في الدولة العباسية. الفصل الخامس: الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي. الفصل السادس: الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي.

الفصل الأول قيام الدولة العباسية

الفصل الأول قيام الدولة العباسية تمخضت الأحداث المتلاحقة التي اعتورت المسلمين منذ عهد الشهيد عثمان - رضي اللَّه عنه - عن مذاهب سياسية عدة، كان أعظمها خطرًا في التاريخ السياسي للدولتين الأموية والعباسية الحزب الشيعي، فهو أقدم الأحزاب الإسلامية على الإطلاق، حيث ظهر في آخر عصر عثمان، ونما واشتد عوده منذ عهد علي بن أبي طالب، وغدا ذا أثر كبير في توجيه مسار الحياة السياسية في الدولة الإسلامية. وقد أجمع الشيعة على أن علي بن أبي طالب هو الخليفة المختار من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأنه أفضل الصحابة، رضي اللَّه عنهم أجمعين. كما رأى الشيعة في مبايعة أبي بكر وعمر وعثمان بالخلافة افتئاتًا على حق علي في الخلافة، كما ساءهم جدًّا أن يستوي معاوية على كرسيها، وعدُّوا ذلك جورًا وظلمًا حاق بعلي وآله ولابد من رفعه. وتباينت مواقف الشيعة من علي، واختلفت آراؤهم فيه، فالمقتصدون منهم قدَّموه على جميع الصحابة دون تكفير أحد منهم، ودون السمو به إلى مرتبة النبوة، أما المغالون فرفعوه إلى درجة النبوة والتقديس. على أن المغالين والمقتصدين جمع بينهم الإيمان بحق علي وبنيه في الخلافة، وعملوا منذ بداية العصر الأموي على تحويل الخلافة إلى البيت العلوي. وبعد أن استشهد الحسين في كربلاء، انتشر التشيع في أنحاء الدولة الإسلامية ونادى فريق الشيعة بعلي زين العابدين بن الحسين بن علي إمامًا، وعرف هَؤُلَاءِ بالشيعة الإمامية، بينما قام فريق آخر يتزعمه المختار بن عبيد الثقفي، وقائد حرسه أبو عمرو بن كيسان -وكان من موالي الفرس- بالدعوة لمُحَمَّد بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية - نسبة إلى أمه خولة بنت قيس بن جعفر الحنفي- مؤلفًا فرقة من غلاة الشيعة نسبت إلى المختار بن عبيد الثقفي مرة وعرفت بالمختارية، وإلى صاحب شرطته وحرسه مرة ثانية

وعرفت بالكيسانية، وإلى أبي هاشم عبد اللَّه بن مُحَمَّد بن الحنفية مرة ثالثة، وعرفت بالهاشمية. وإذا كان مُحَمَّد بن الحنفية زاهدًا في الخلافة معرضًا عنها، بدليل أنه بايع عبد الملك ابن مروان راضيًا، فإن ولده أبا هاشم عبد اللَّه رأى أن لآل علي حقًّا فيها؛ فجعل يسعى للدعوة سرًّا إلى الخلافة. وأحس سليمان بن عبد الملك بما يدبره أبو هاشم، وبتطلعه إلى الخلافة لا سيما بعد أن آنس منه علمًا واسعًا وذكاءً متقدًا، فأرسل من دس له السم عند عودته من الشام، فلما أحس أبو هاشم بدنو أجله آثر أن يتوجه إلى الحميمة للإقامة لدى علي بن عبد الله ابن عَبَّاسٍ، فعرفه حاله وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده، وأعلمه كيف يصنع ثم مات عنده. ولا ريب أن أبا هاشم قد أبلغ شيعته ودعاته قبل وفاته أن أمر الخلافة مصروف إلى مُحَمَّد بن علي العباسي، وأمرهم بطاعته والإذعان له. وكذلك فإن أبا هاشم قد أمد مُحَمَّد بن علي بأسماء الدعاة للشيعة في الكوفة وخراسان وسلمه كتبًا إليهم حتى يطمئنوا له. " وعلى أساس هذه الوصية ورث مُحَمَّد بن علي العباسي حق الكيسانية في الإمامة، فما كاد أبو هاشم يموت حتى قصده الشيعة وبايعوه ثم عادوا إلى مراكزهم، وبدءوا في نشر الدعوة لمُحَمَّد بن علي العباسي عن طريق الدعاة ". وخليق بنا أن نتساءل: لماذا عدل أبو هاشم عن أهل بيته من العلويين، وحَوَّل حقهم في الخلافة إلى بني عمه من العباسيين؟ يقول د / حسن إبراهيم حسن: " لكي نجيب على هذا السؤال نرجع إلى الوراء قليلاً فنقول: إنه منذ وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لم يرشح المسلمون للخلافة أحدًا من بني هاشم إلا علي بن أبي طالب وأولاده، ولم تتجه الأنظار إلى العباس عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد وفاته؛ لأنه لم يكن من السابقين إلى الإسلام؛ ومن ثم لم يرشَّح للخلافة هو ولا أولاده من بعده، وقد

تنظيم الدعوة العباسية:

قيل: إن أبا سفيان جاء العباس بعد بيعة أبي بكر فقال له: ابسط يدك أبايعك، فأَبى العباس. وكانت العلاقة بين بني -هاشم علويين وعباسيين- تقوم على الود والصفاء، وكان البيتان متحدين على العدو المشترك من بني أمية، إلى أن انتقل حق الإمامة من العلويين إلى العباسيين بنزول أبي هاشم بن مُحَمَّد ابن الحنفية. ويظهر أن العباسيين كانوا في أواخر القرن الأول الهجري أكثر كفاية ونشاطًا في الناحية السياسية من العلويين، وأكثر تطلعًا منهم إلى النفوذ والسلطان. وقد قيل: إن أبا هاشم إنما فعل ذلك؛ لأنه لم يجد بين أفراد البيت العلوي من يستطيع النهوض بأعباء إمامة المسلمين، أضف إلى ذلك اختلاف اعتقاد الشيعة الكيسانية (أنصار أبي هاشم) عن اعتقاد الشيعة الإمامية (أنصار أولاد فاطمة). على أن هناك مسألة جديرة بالملاحظة، وهي أن نزول أبي هاشم بن مُحَمَّد ابن الحنفية عن حقه في الخلافة لا يمكن أن يعتبر نزولاً من العلويين جميعًا؛ لأن فريقًا كبيرًا منهم ظل متمسكًا بعقائد الشيعة الإمامية بدليل قيامهم في وجه العباسيين بعد قيام دولتهم ". تنظيم الدعوة العباسية: أدرك مُحَمَّد بن علي بن عبد اللَّه العباسي أن تحويل الدعوة إلى الخلافة من البيت العلوي إلى البيت العباسي على هذا النحو المفاجئ قد يقضي على الدعوة قضاء لا قيام لها بعده، فآثر أن يمهد لذلك بتهيئة النفوس والعقول، بأن اختار لدعوته شعارًا تتستر وراءه، ويضمن انضمام العباسيين والعلويين جميعًا إليه، وهو " الرضا من آل مُحَمَّد "، ويقصد به أي شخص من آل البيت النبوي يتفق عليه في الوقت المناسب؛ درءًا وتقية لما قد يصيب الدعوة من أخطار إذا ما اكتشفت السلطات الأموية سرها، وفي الوقت نفسه كسبًا لأنصار جدد من شيعة فارس الذين كانوا يميلون -سواء عن إيمان عقائدي راسخ أو بدافع من الشعور القومي- للعلويين، وزيادة في تعمية الأمر على الأمويين والعلويين وتجنبًا لإثارة الشبهات في نواياه الحقيقية. مراكز الدعوة العباسية: اتخذ مُحَمَّد بن علي العباسي الكوفة وخراسان مركزين لنشر الدعوة العباسية وبث مبادئها وأهدافها، أما الكوفة فلأنها مهد التشيع ومستقر أنصار آل البيت، وأما خراسان

نجاح الدعوة في العراق:

فلما كان يعانيه الموالي الفرس من عسف الأمويين وجورهم، بالإضافة إلى اعتقادهم في نظرية الحق الملكي المقدس التي سادت الفكر الفارسي منذ أمد بعيد. يقول الإمام مُحَمَّد بن علي العباسي مصورًا طبيعة الأمصار الإسلامية ونوع الأهواء والأفكار السائدة بها آنذاك: " أما الكوفة فشيعة علي، وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف، وأما الجزيرة فحرورية، وأعراب لأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأما أهل الشام فلا يعرفون غير معاوية وطاعة بني أمية، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهم أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، ولم يقدح فيها فساد، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجسام منكرة، وبعد فإني أتفاءل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق. ولم يكد القرن الهجري الأول ينتهي حتى انطلقت الدعوة السرية للبيت العباسي من الحميمة وأخذ مُحَمَّد بن علي العباسي يوجه الدعاة في الآفاق فكان للعراق دعاة على التوالي هم: ميسرة العبدي (102) - (105 هـ)، وبكير بن ماهان (105) - (127 هـ) ثم أبو سلمة الخلال (127 - 132 هـ). كما وجه الدعاة إلى خراسَان وكان أولهم أبو عكرمة السراج. " ويلي طبقة الدعاة في المرتبة طائفة النقباء الذين يأتمرون بأمرهم، ويجهلون إمام الوقت، وكان لكل داعية اثنا عشر نقيبًا، ولكل نقيب سبعون عاملا يديرون الوحدات المتفرعة، ويشرفون على الخلايا السرية المنبثة في مختلف الأقاليم، وكان الدعاة والنقباء يتميزون بإخلاصهم الشديد للدعوة وتفانيهم في خدمتها، كما كانوا يتصفون ببعد النظر والقدرة على فهم تقسيمات الناس، وتمييز عناصرهم؛ تمهيدًا لاجتذابهم إلى دعوتهم، وبالبراعة في التخفي والتنكر، مع حظ كبير من الثقافة والعلوم الدِّينية واللغوية ". نجاح الدعوة في العراق: لعب بكير بن ماهان الذي ولي أمر الدعوة العباسية في العراق دورًا كبيرًا في تاريخ الدعوة العباسية على مدار اثنين وعشرين عامًا، وإليه يرجع الفضل في تنظيم الدعوة في

الدعوة في خراسان:

إطار من السرية الشديدة والحيطة الحذِرة. ثم خلفه أبو سلمة الخلال وكان سمحًا كريمًا فصيحًا عالمًا بالأخبار والأشعار والسير والجدل والتفسير، وقد نهض بأمر الدعوة في طورها العسكري العنيف. ودرج المؤرخون على تقسيم الدعوة العباسية إلى طورين متعاقبين مرت بهما. أما الأولى: فتبدأ مع مطلع القرن الثاني الهجري وتنتهي بانضمام أبي مسلم الخراساني إليها، ولم تصطنع الدعوة العباسية في هذا الطور أسلوب العنف والشدة، وإنما جنحت إلى الدعوة السلمية التي امتازت بشيء غير قليل من السرية والكتمان؛ إذ كان الدعاة يجوبون البلاد الإسلامية متظاهرين بالتجارة أو أداء فريضة الحج. أما الطور الثاني: فيبدأ بانضمام أبي مسلم الخراساني إلى الدعوة العباسية، وهو الطور الذي نشبت فيه الحروب بين بني أمية وبني عباس، والتي أفضت إلى زوال السيادة الأموية وقيام الدولة العباسية. الدعوة في خراسان: لقيت الدعوة العباسية في خراسان شيئًا غير قليل من العنت والمحن إبان ولاية أسد بن عبد اللَّه القسري، على الرغم مما حرص عليه الدعاة من إضفاء السرية عليها. ولم يكتب للدعوة في خراسان الذيوع والانتشار إلا بعد وفاة أسد بن عبد اللَّه سنة 120 هـ، وعمد الدعاة في خراسان إلى جملة مبادئ وشعارات، وجدوا أن إذاعتها وترديدها جدير بأن يجذب العرب والموالي الفرس جميعًا إلى الدعوة العباسية كتحقيق مبدأ المساواة الذي كانت تتستر وراءه نزعات متباينة، والذي أيده جماعات كبيرة من الشعوبيين العجم؛ لأنه يحقق لهم مكاسب تهدف إلى إحياء المجد الفارسي القديم، كما أيده آخرون من العرب على أساس تسوية الموالي بالعرب؛ استنادًا إلى مبدأ الفقهاء في

سقوط الدولة الأموية:

الإصلاح ومحاربة الظلم والتعسف، كذلك طالب الدعاة بالدعوة إلى الإصلاح، ويقصد به الدعوة إلى الكتاب والسنة. وقد أدت هذه الشعارات إلى ازدياد عدد المؤيدين للدعوة في خراسان للرضا من آل مُحَمَّد، وانتشارها في بلاد فارس وخراسان وخوارزم وبلاد ما وراء النهر ". سقوط الدولة الأموية: توفي الإمام مُحَمَّد بن علي بن عبد اللَّه حامل لواء الدعوة العباسية سنة 125 هـ بعد أن أوصى بالأمر من بعده لابنه إبراهيم. وفي عهد إبراهيم دخلت الدعوة العباسية طور الصدام الحربي مع الأمويين، وقيض لها شخصيّتان بارزتان يرجع إليهما الفضل الأكبر في نجاح الدعوة العباسية، هما: أبو سلمة الخلال الذي تولى رئاسة الدعوة خلفًا لبكير بن ماهان، وأبو مسلم الخراساني الذي قاد الجيوش العباسية إلى النصر والقضاء على الدولة الأموية. إذ لم تدم السرية التي أسبغها العباسيون على دعوتهم، بل أميط عنها اللثام في عهد مروان بن مُحَمَّد آخر خلفاء بني أمية (127 - 132 هـ) حيث وقَعَ على رسالة لإبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخراساني، فقبض مروان على إبراهيم، وسجنه ثم قتله. وكان إبراهيم قد عهد إلى أخيه أبي العباس السفاح وأوصاه بمواصلة الدعوة والمسير إلى الكوفة، فلما قتل إبراهيم الإمام سار رسوله إلى الحميمة وسلم وصيته إلى أبي العباس الذي توجه إلى الكوفة ومعه كبار بني هاشم من ولد العباس، وفيهم أخوه أبو جعفر المنصور حيث أنزلهم أبو سلمة الخلال داعي الدعاة في دارٍ لأحد أتباعه وكتم أمرهم نحوًا من أربعين ليلة، وحاول أن يصرف الأمر إلى آل علي بن أبي طالب عندما بلغه نبأ وفاة إبراهيم الإمام ولكنه أخفق في هذه المحاولة، واضطر إلى مبايعة أبي العباس السفاح بالخلافة. ولم يستطع والي الكوفة آنذاك مُحَمَّد بن خالد بن عبد اللَّه القسري مواجهة العباسيين

والقضاء على دعوتهم في الكوفة؛ فاضطر إلى تسليمها والإذعان لأصحاب الدولة الجديدة. وفي الجامع الأموي بويع لأبي العباس بالخلافة في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 132 هـ. ثم خطب خطبة مدح فيها آل البيت وقرر حق العباسيين في الخلافة، ثم سب الأمويين الذين استأثروا بالأمر دون أهله وذويه، ثم أثنى على أهل الكوفة قائلاً: " يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدركتم زماننا، وأتاكم اللَّه بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير ". ثم خرج العباس بعد الخطبة إلى معسكر أبي سلمة حيث أقام شهرًا، ثم ارتحل من هناك، فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة. وعلى هذا النحو خرجت الدولة العباسية إلى الوجود السياسي الإسلامي، وقضي على الأمويين قضاءً سوف نعرف طرفًا منه في الفصل القادم. * * *

الفصل الثاني

الفصل الثاني أبرز الأحداث السياسية في الدولة العباسية حتى دخول البويهيين بغداد إن الناظر في تاريخ الدولة العباسية منذ قيامها وحتى سقوطها يجده مشحونًا بأحداث جسام يحتاج درسها واستيعابها مجلدات تند عن الحصر. لذلك آثرنا أن نجتزئ في هذا الفصل ببعض هذه الأحداث التي نرى أنها تهب القارئ الكريم تصورًا عامًا عن الدولة العباسية من الناحية السياسية. القضاء على الأمويين واستئصال شأفتهم: لم يكد لواء الخلافة يتحول إلى أبي العباس السفاح حتى عمد إلى الانتقام من بني أمية جزاء ابتزازهم الخلافة، واستئثارهم بها دون أهلها من آل البيت، وعقابًا لهم على إيذاء العلويين والعباسيين جميعًا. وذهب نفر من المؤرخين إلى أن سياسة العباسيين تلك إن هي إلا امتداد للعداء المستحكمة حلقاته بين بني أمية وبني هاشم منذ الجاهلية، وهو عداء لم تنجح مبادئ الإسلام في العدل والإخاء والمساواة في استئصال جذوره من النفوس والضمائر، بل لعل الإسلام زاده شدة وضراوة؛ نظرًا لما كان بينهما من منافسة قوية على الظفر بمنصب الخلافة. ومهما يكن من أمر فقد بالغ أبو العباس السفاح في التنكيل ببني أمية وافتن في إنزال ألوان الأذى وضروب القتل بهم، فقتل عبد اللَّه بن علي عم السفاح ثلاثمائة من بني أمية منهم: إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك، وعبد الجبار بن يزيد ابن عبد الملك، ومروان بن مُحَمَّد آخر خلفاء بني أمية. وروي عن أبي العباس السفاح أنه لما أُتي برأس مروان بن مُحَمَّد ووضع بين يديه، سجد فأطال السجود، ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله الذي لم يبق ثأري قِبَلَكَ وقِبَلَ رهطك، الحمد لله الذي أظفرني بك وأظهرني عليك، ثم قال: ما أبالي متى طرقني الموت؛ فقد قتلت بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم، وتمثل بقول الشاعر:

لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ ترويني ثم حول وجهه إلى القبلة فأطال السجود، ثم جلس وقد أسفر وجهه، وتمثل بقول العباس بن عبد المطلب من أبيات له: أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواطع في أيماننا تقطر الدما تورثن من أشياخ صدق تقربوا ... بهن إلى يوم الوغى فتقدما إذا خالطت هام الرجال تركتها ... كبيض نعام في الوغى متحطما والحق أن الشعراء قد أذكوا لدى بني العباس نيران العداوة ضد بني أمية، وزادوها اشتعالاً، فروي أن السفاح كان جالسًا في مجلس الخلافة، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أكرمه السفاح، فدخل عليه سديف الشاعر فأنشده: لا يغرنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داءً دويًّا فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويًّا فالتفت سليمان وقال: قتلتني يا شيخ، ثم دخل السفاح وأخذ سليمان فقتل. وقد أسرف العباسيون في التنكيل بالأمويين إسرافًا لا يراعي للموت حقًّا ولا يعرف له جلاله وحرمته، فنبشوا قبر معاوية بن أبي سفيان، فلم يجدوا فيه إلا خيطًا مثل الهباء، ونبشوا قبر يزيد بن معاوية، فوجدوا فيه حطامًا كأنه الرماد. ولم تكن سياسة الانتقام التي اصطنعها أبو العباس السفاح ضرورة طارئة ألجأه إليها إشباع روحه النزاعة إلى الانتقام، أو تثبيت أركان دولته الناشئة، بل كانت سياسة مضطردة توشك أن تسم العصر العباسي الأول كله بميسمها؛ يقول ابن دأب - وقد كان من خواص الخليفة الهادي: " دعاني الخليفة الهادي في وقت من الليل لم تجر العادة أنه يدعوني في مثله، فدخلت إليه، فإذا هو جالس في بيت صغير شتوي وقدامه جزء ينظر فيه، فقال لي: يا عيسى، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: إني أرقت في هذه الليلة وتداعت إِلَيَّ الخواطر واشتملت عَلَيَّ الهموم وهاج لي ما جرت إليه بني أمية من بني حرب وبني مروان في سفك دمائنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا عبد اللَّه بن علي قد قتل منهم على نهر أبي فطرس فلانًا وفلانًا، حتى أتيت على تسمية من قتل منهم، وهذا عبد الصمد بن علي قد

قتل منهم بالحجاز في وقت واحد نحو ما قتل عبد اللَّه بن علي. . . ". قال ابن دأب: فسر واللَّه الهادي. الصعوبات التي واجهت أبا جعفر المنصور في سبيل إرساء دعائم الدولة العباسية وتثبيت أركانها: توفي أبو العباس السفاح سنة 136 هـ بعد أن عهد بالخلافة إلى أخيه أبي جعفر المنصور على أن يليه في ولاية العهد عيسى بن موسى بن مُحَمَّد العباسي. وقد أنفق أبو جعفر سني خلافته في تثبيث دعائم الملك العباسي وتوطيد أركان الخلافة الجديدة، وأبدى من الحزم والفطنة والكفاية ما هو خليق بعظماء الرجال، حتى عده المؤرخون بحق المؤسس الحقيقي للدولة العباسية؛ إذ استطاع أبو جعفر بفضل ما أتيح له من مواهب سياسية جماعها الحزم والشجاعة وسداد الرأي أن يقضي على الأخطار المحدقة بالدولة العباسية في طورها الباكر، ولا غرو فهو على حد قول السيوطي: " فحل بني عباس هيبة وشجاعة وحزمًا، ورأيًا وجبروتًا، جَمَّاعًا للمال تاركًا اللهو واللعب، كامل العقل جيد المشاركة في العلم والأدب، فقيه النفس قتل خلقًا كثيرًا حتى استقام ملكه ". وقد تمثلت هذه الأخطار التي واجهت أبا جعفر فيما يلي: 1 - ثورة عبد اللَّه بن علي العباسي. 2 - تضخم نفوذ أبي مسلم الخراساني وإدلاله على الخلفاء العباسيين. 3 - ثورات العلويين. أولا: ثورة عبد اللَّه بن علي العباسي: أبي عبد اللَّه بن علي العباسي أن يبايع أبا جعفر المنصور، ورأى أنه أحق بالخلافة من ابن أخيه، فادعى أن أبا العباس لما أراد توجيه الجند لقتال مروان بن مُحَمَّد قال لهم: " من انتدب منكم للمسير إليه فهو ولي عهدي، وإنه لم ينتدب لهذا الأمر أحدًا غيري "، فبايعه الجند والقواد بالخلافة. ولم تكد هذه الأخبار تنتهي إلى مسامع أبي جعفر حتى وجه إليه أبا مسلم الخراساني الذي قال له: لا تخفه فأنا أكفيكه إن شاء اللَّه، فإن عامة جنده من

القضاء على أبي مسلم الخراساني:

أهل خراسان وهم لا يعصونني. وتمكن أبو مسلم الخراساني من إلحاق الهزيمة بجند عبد اللَّه بن علي في بلاد الشام، وفر عبد اللَّه من ميدان القتال حتى وصل إلى البصرة، واختفى عند أخيه سليمان بن علي، وكان قد وليها من قبل المنصور، واستولى أبو مسلم على ما في معسكر عبد اللَّه من مال وعتاد. وثمة خطآن وقع فيهما عبد اللَّه بن علي تسببا في هزيمته: أولهما: احتياله على قتل حميد بن قحطبة، والذي كان يعد من أعظم قواد الدولة العباسية، وكان قد انضم إلى عبد اللَّه، فلما وقف على مؤامرته للفتك به انضم إلى أبي مسلم الخراساني. ثانيهما: قتله من كان في جيشه من الخراسانيين، مما أضعف قوته وأثار حفيظة من بقي معه من الجند، فلم يخلصوا له ولدعوته. وذكر الطبري أن عبد اللَّه بن علي بايع أبا جعفر المنصور سنة 138 هـ حين كان أخوه سليمان لا يزال على ولاية البصرة، وأن سليمان لما عزل اختفى عبد اللَّه خوفًا على حياته، ثم ألح المنصور على سليمان بن علي وعيسى بن موسى بإحضار عبد الله وأعطاهما الأمان على ألا يسيء إليه، ولكنه أمر بحبسه، وقتل بعض أصحابه، ثم قتله سنة 149 هـ بعد أن حبسه تسع سنوات. وهكذا قضى أبو جعفر على فتنة كانت خليقة أن تعصف بالدولة العباسية في مهدها، أو على أقل تقدير تفرق بين أفراد البيت العباسي وتشتت شمله. القضاء على أبي مسلم الخراساني: لعل من نافلة القول أن نذكر ما أنفقه أبو مسلم الخراساني من مجهود كبير في سبيل الدعوة العباسية، وإخراجها من رحم الظلم والاضطهاد إلى نور الخلافة والملك، وحسن بلائه في الحروب التي خاضها العباسيون ضد الأمويين، فذاك أمر يحتاج بسط القول فيه وإقامة الأدلة والشواهد عليه صفحات كثيرة تضيق عنها هذه الدراسة الموجزة. وأحسب أن أبا جعفر المنصور قد أدرك أن رسوخ قدمه في الملك والحكم منوط بالقضاء على أبي مسلم الخراساني الذي مثل نفوذه المتزايد وإعجابه بما قدم للدولة

العباسية وإدلاله على رجالها خطرًا كبيرًا جديرًا بأن يحيل الخلافة العباسية ألعوبة في يد أبي مسلم يحولها كيف شاء. والحق أن روح العداء بين أبي جعفر المنصور وأبي مسلم الخراساني قديمة، تسبق من غير شك ولاية المنصور للخلافة العباسية. وهو عداء قد تلون في أكثر جوانبه بالمنافسة والتسابق في مضمار السياسة، ثم غدا حقدًا خالصًا وكرهًا مستحكمًا. ولا مراء في أن تصرفات أبي مسلم الخراساني قد أوغرت صدر المنصور عليه، وحملته على أن يتربص به الدوائر ويغتنم الفرصة تسنح كي يتخلص منه. ولا بأس أن نذكر طرفًا من العداوة بين الرجلين حتى يتبين القارئ صدق كلامنا: - تقدم أبي مسلم الخراساني على المنصور في طريق الحج، وعدم انتظاره إياه في طريق العودة عندما بلغه نبأ وفاة أبي العباس السفاح. - بعد وفاة السفاح أرسل أبو مسلم إلى المنصور رسالة يعزيه فيها دون أن يهنئه بالخلافة. - كان المنصور قد أمر الحسن بن قحطبة، والي الجزيرة، أن يلحق بأبي مسلم عند توجهه لمقاتلة عبد اللَّه بن علي في الشام، فكتب ابن قحطبة إلى وزير المنصور يقول: " إني قد رأيت بأبي مسلم أنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقي الكتاب من يده إلى مالك بن الهيثم، فيقرأه ويضحكان استهزاء ". - تجرأ أبو مسلم وقتل سليمان بن كثير الخزاعي أحد شيوخ الدعوة العباسية دون استشارة الخليفة. - تحديه لأمر المنصور عندما صرفه عن ولاية خراسان وولاه الشام ومصر وقوله: " هو يوليني الشام ومصر، وخراسان لي "، واستمراره في السير إلى خراسان. - تقديمه لاسمه على اسم الخليفة في رسائله.

- ادعى أبو مسلم أنه ينتسب إلى سليط بن عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ. وهكذا اجتمعت لدى أبي جعفر المنصور الأدلة المقنعة للفتك بأبي مسلم، وطفق يدبر أمر اغتياله، فولى هشام بن عمر العقيلي مكان أبي مسلم، فانصرف أبو مسلم، وأقبل يريد خراسان مغاضبًا لأبي جعفر؛ حتى يثير أهل خراسان عليه ويجعل العباسيين دائمًا في قبضة يده، فمر بالمدائن، وأبو جعفر ينزل برومية على مقربة منها، فلم يسع إلى لقائه، ونفذ لوجهه حتى جاز حلوان، فسير إليه المنصور نفرًا من أصحابه فلحقوه وعظموا عليه الخطب، وحذروه عاقبة البغي ونصحوه بالرجوع إلى المنصور، فأقبل إلى العراق وقدم على أبي جعفر، فأمر الناس بتلقيه، فتلقاه بنو هاشم والناس، فدخل على المنصور فقبل يده، وأمره المنصور بأن ينصرف ويروح نفسه ويدخل الحمام، فانصرف، فلما كان الغد دعا المنصور عددًا من الحرس وأمرهم بالجلوس وراء الرواق فإذا صفق بيديه وثبوا على أبي مسلم فقتلوه، ثم أرسل إلى أبي مسلم يستدعيه، ثم أخذ يعاتبه على مخالفته له، فلما طال عتاب المنصور قال أبو مسلم: " لا يقال هذا لي بعد بلائي وما كان مني ". فقال له المنصور: " يا ابن الخبيثة، واللَّه لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت في دولتنا وبريحنا، فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا "، فأخذ أبو مسلم بيده يقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور: " ما رأيتك اليوم، واللَّه ما زدتني إلا غضبًا "، قال أبو مسلم: " دع هذا فقد أصبحت ما أخاف إلا اللَّه تعالى "، فغضب المنصور وشتمه، ثم صفق بيده على الأخرى، فخرج عليه الحرس فأخذوه بسيوفهم حتى قتلوه، وتم ذلك في شعبان سنة مائة وستة وثلاثين هجرية. ثم خطب المنصور في الناس بعد أن قتله فقال: " أيها الناس، لا تخرجوا عن أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإن من أسر غش إمامه أظهر الله سريرته في فلتات لسانه وسقطات أفعاله، وأبداها اللَّه لإمامه الذي بادر بإعزاز دينه به وإعلاء حقه بفلجه، إنا لم نبخسكم حقوقكم، ولم نبخس الدِّين حقه عليكم، وإن أبا مسلم بايعنا وبايع لنا على أنه من نكث بيعتنا فقد أباح لنا دمه، ثم نكث بيعته هو، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه ". ثم اضطرب أصحاب أبي مسلم بعد قتله، ففرقت فيهم الأموال، فأمسكوا رغبة ورهبة.

ويرى الدكتور حسن إبراهيم حسن أن أبا جعفر المنصور كان مدفوعًا إلى ذلك بما كان بينه وبين أبي مسلم من حزازات شخصية قديمة، وقد زاد أبو مسلم النار اشتعالاً بتماديه في زهوه وإعجابه بنفسه وإسرافه في قتل النفوس البريئة بغير شفقة ولا رحمة. كما يرى د/ حسن أن إخلاص أبي مسلم وتفانيه في نصرة العباسيين أمر لم يقم الدليل بعد على إضعافه أو دحضه. ومهما يكن من أمر فقد كان القضاء على أبي مسلم ضرورة ألجأ المنصور إليها سطوة أبي مسلم وازدياد نفوذه، مع ما ينطوي عليه ذلك من مناوأة له وتهديد لحكمه. ثورات العلويَّين: مُحَمَّد النفس الزكية وأخوه إبراهيم: أشرنا من قبل إلى أن الدعوة العباسية قد رفعت شعار: " الرضا من آل مُحَمَّد " حتى تأمن مناوأة العلويين لهم، وخروجهم عليهم إن هم كشفوا عن نواياهم الحقيقية في الاستئثار بمنصب الخلافة، " فلما ظفر العباسيون بالخلافة وأقاموا دولتهم على أنقاض دولة بني أمية، لم يرق ذلك في نظر العلويين ولم تطب بذلك نفوسهم، على الرغم من أن الجميع من أولاد هاشم، وعلى الرغم من كونهم يدًا واحدة على بني أمية، واشتراكهم في العمل على إزالة دولتهم؛ إذ أدركوا أن العباسيين قد خدعوهم واستأثروا بالخلافة دونهم مع أنهم أحق بها منهم، فنابذوهم العداء ونظروا إليهم كما كانوا ينظرون إلى الأمويين من قبل، فظلوا يناضلون ويكافحون ابتغاء الوصول إلى حقهم في الخلافة ". ولا تمر سنوات كثيرة من عمر الخلافة العباسية حتى يخرج على أبي جعفر المنصور مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية وأخوه إبراهيم. ولم تنجح محاولات العباسيين في استرضاء العلويين من القول اللين حتى العطاء الجزيل؛ فقد كان النفس الزكية يرى أنه أحق بالخلافة وأن أبا جعفر المنصور قد اغتصبها واستأثر بها من دونه، فامتنع في أول الأمر عن مبايعة السفاح ثم تخلف هو وأخوه إبراهيم عن بيعة المنصور، فلم يجد المنصور بدًّا من العمل على التخلص منهما حتى يستقيم له أمر الملك. وكان أن عهد المنصور بولاية المدينة إلى رباح بن عثمان بن حيان ابن عم مسلمة بن

عقبة قائد الحرة في عهد يزيد بن معاوية، فقدم عثمان المدينة سنة 141 هـ وخطب أهلها خطبة سداها ولحمتها التهديد والتخويف، فكان مما قال فيها: " يا أهل المدينة أنا الأفعى ابن الأفعى عثمان بن حيان وابن عم مسلمة بن عقبة، المبيد خضراءكم المفني رجالكم، واللَّه لأدعنها بلقعًا لا ينبح فيها كلب ". بيد أن أهل المدينة قد هوت أفئدتهم إلى مُحَمَّد النفس الزكية، وتدفقت نفوسهم حماسة لآل بيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلم يحفلوا بتهديد عثمان، بل أغلظوا له القول وهموا بالفتك به. فكتب إليهم المنصور قائلاً: " يا أهل المدينة، فإن واليكم كتب إلي يذكر غشكم وخلافكم وسوء رأيكم واستمالتكم على بيعة أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنتهوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفًا، وليقطعن البر والبحر عنكم، وليبعثن عليكم رجالا غلاظ الأكباد بعاد الأرحام ". ولم يزحزح كتاب المنصور أهل المدينة عن موقفهم، بل لعله زادهم إصرارًا على الانتصار للعلويين، فقبض عامله على عبد اللَّه بن الحسن أبي مُحَمَّد النفس الزكية وإخوته وذوي قرباه. بيد أن عبد اللَّه لم يكن بالرجل الذي تلين قناته، بل كان يعتقد في أحقية ابنه بالخلافة دون المنصور والسفاح من قبله. فطلب إلى ابنه أن يواصل مناجزة العباسيين، وألا يحفل بما يعوقه في سبيل الحق من صعوبات. واشتد إيذاء المنصور لأشياع النفس الزكية، وعظم البلاء النازل بهم حتى اضطروا محمدًا إلى الخروج، ولما تتهيأ الظروف بعد لخروجه وذلك في سنة 145 هـ، وقد شجعه على ذلك ظنه إجماع الناس على نصرته وشدة ميلهم إليه، وتلك الفتوى التي أفتى بها الإمام مالك بن أنس؛ حيث أفتى بجواز نقض بيعة المنصور حين قال لأهل المدينة: " إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين ".

أبرز الأحداث السياسية في عهد الخليفة المهدي:

خرج مُحَمَّد النفس الزكية في مائتين وخمسين من أصحابه، فتوجه إلى السجن وأطلق سراح من فيه، ثم قبض على عامل أبي جعفر المنصور في المدينة وأمر بحبسه. وفي الوقت الذي خرج فيه النفس الزكية في المدينة كان أخوه إبراهيم يدعو له في البصرة ويأخذ من أهلها البيعة له. والحق أن أبا منصور لم يدع وسيلة تمكنه من الظهور على خصمه إلا اصطنعها، فكانت سياسته تجاه هذه الثورة مزيجًا من الحزم والدهاء، وقد ندب المنصور ابن عمه وولي عهده عيسى بن موسى للقضاء على النفس الزكية، فنهض بما أمر به خير نهوض لاسيما وقد تفرق عن النفس الزكية جل أنصاره وشيعته، فبقي في نفر قليل من خاصته، لم يغنه في مواجهة جيش مدرب منظم كجيش عيسى بن موسى، وقتل النفس الزكية واحتز رأسه وذلك في رمضان سنة 145 هـ. وبعد أن فرغ عيسى من النفس الزكية في المدينة أمره المنصور بالتوجه إلى العراق للقضاء على أخيه إبراهيم، وكان قد تغلب على البصرة والأهواز وفارس، ودارت رحى الحرب وحمي وطيسها في باخمري بين الكوفة وواسط، وانجلى غبارها عن هزيمة إبراهيم وجنده، ولم يزل يناضل العباسيين في فئة قليلة حتى قتل فاحتز ابن قحطبة رأسه. وهكذا استطاع المنصور بما أتيح له من حزم وذكاء أن يقضي على أول ثورة يحمل لواءها العلويون، فوطد دعائم خلافته ومكن لها من البقاء والاستمرار. أبرز الأحداث السياسية في عهد الخليفة المهدي: ولي الخلافة العباسية بعد أبي جعفر المنصور ابنه المهدي، ولبث في منصب

ومن الثورات والفتن التي وقعت في عهد المهدي:

الخلافة عشر سنوات (158 - 169 هـ)، وامتازت ولايته بالاعتدال والرفق بالرعية، بعد أن أرهقها المنصور إبان خلافته من أمرها عُسرًا، " فرد الأموال التي صادرها أبوه إلى أهلها، وأطلق العلويين الذين حبسهم أبوه، وعفا عنهم وأجرى عليهم الأرزاق ". ومن الثورات والفتن التي وقعت في عهد المهدي: خرج عبد السلام بن هاشم من الخوارج في الجزيرة، واشتدت شوكته وكثرت شيعته وأنصاره فعاث في الأرض فسادًا، فأرسل إليه المهدي عدة قواد هزم بعضهم، لكنه في النهاية هزم وفر إلى قنسرين حتى قتل بها. كما خرج عبد اللَّه بن مروان الأموي ببلاد الشام، فأرسل إليه المهدي من هزمه وأسره، فحبسمه المهدي ثم عفا عنه وأجزل له العطاء. بيد أن أكثر هذه الثورات أهمية وأعظمها خطرًا على سياسة الدولة واستقرار المجتمع، تلك التي حمل لواءها الزنادقة، فقد أذاعوا في المجتمع مبادئ فاسدة تخالف أصول الإسلام أشد المخالفة، وهي مبادئ تقوم على نوع من الديمقراطية الفاسدة التي تبيح المحرمات وتعبث بالآداب الاجتماعية والزوجية المرعية، وتعرض الحياة السياسية والدِّينية للخطر. والحق أن المهدي قد اشتد على الزنادقة ونكل بهم وحمى المجتمع من فسادهم وانحلالهم، وقد حذا ابنه الهادي من بعده نفس السياسة التي لزمها أبوه تجاه الزنادقة، فتعقبهم وقتل من ظفر به منهم. هارون الرشيد: (170 - 193 هـ): إن عصر هارون الرشيد يعد -بحق- العصر الذهبي للخلافة العباسية؛ إذ بلغت أوج

عظمتها وذروة قوتها في ميادين السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة جميعًا. لقد كانت الدولة الإسلامية في تلك الفترة الدولة الكبرى والأولى والأقوى في العالم كله، وقد ازداد اختلاط عناصر السكان فيها بعضهم ببعض، وظهرت في الحياة العامة أخصب النزعات الاجتماعية والفكرية والدِّينية على صعيد واحد. . وزادت في الوقت نفسه أعداد المسلمين في الدولة مقابل الأديان الأخرى، وغدا المسلمون بصورة عامة أكثر من نصف السكان. وبلغ اقتصاد الدولة ذروة قوته وازدهاره، حتى بلغت الأموال في خزائن الرشيد ما يقرب من 72 مليون دينار، عدا الضريبة العينية التي كانت تؤخذ مما تنتجه الأرض من الحبوب، وحق للرشيد أن يخاطب السحابة قائلاً: اذهبي حيث شئت يأتيني خراجك. ومع ذلك، فإن عهد هارون الرشيد لم يخل من الفتن والأزمات: فقد خرج في زمنه يحيى بن عبد اللَّه بن الحسن العلوي بـ " الديلم " يدعو لنفسه، فقويت شوكته، والتف حوله الشيعة، فبعث إليه الرشيد، ففت في عضده، فطلب الصلح من الرشيد، فصالحه، ثم أمنه، ثم حبسه حتى مات. وخرج الوليد بن مطرف الشاري وحقق انتصارات على جيوش الرشيد، وأفسد في الأرض، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فهزم الوليد وقتله. وفي عهد الرشيد لم تكف حركات البربر في إفريقية؛ رغبة في الخروج عن الحكم العباسي، ولكن الرشيد بعث إليهم هرثمة بن أعين فقضى على هذه الحركات، وعمل الرشيد على قيام دولة الأغالبة لصد هجمات البربر والوقوف في وجه دولة الأدارسة، لكن

ما لبثت هذه الدولة أن استقلت عن الدولة العباسية. وفي مصر ثار أهل الحوف مرتين: الأولى سنة 178 هـ، فأرسل الرشيد هرثمة بن أعين فأخمدهم. والثانية سنة 189 هـ بقيادة أبي النداء الذي خرج في مائة ألف رجل، وكان في أيلة، وأفسد مفسدة عظيمة، فأرسل إليه الرشيد جيشًا، وأرسل والي مصر جيشًا آخر، فانهزم أبو النداء، فأعلن أهل الحوف الإذعان والطاعة لما رأوه من انهزام قائدهم. ولما ولي الأمين الخلافة وقع الخلاف بينه وبين أخيه المأمون، ووقع بينهما القتال، خاصة عندما خلع الأمين أخاه المأمون وعهد بالأمر لابنه موسى، فدار القتال، وحاصر طاهر بن الحسين قائد جيش المأمون بغداد أربعة عشر شهرًا وقطع عنها الأقوات، حتى وقع الناس في عنت شديد، وانتصر طاهر، وقتل الأمين، وتمت البيعة للمأمون سنة مائة وثمانية وتسعين. وقيل: إن الأمين كان غير مهتم بشئون دولته؛ حيث كان يحب اللهو والمجون، ومن ثم كثرت الفتن في عهده، وازدادت الثورات، فاشتعلت نار الفتنة في الشام، فقام علي بن عبد اللَّه بن خالد بن يزيد بن معاوية، يدعو لنفسه، فعظم أمره، واشتد خطره حتى احتل دمشق، وكاد يستقر له الأمر لولا النزاع الذي وقع بين اليمنيين والمضريين من أتباعه، وبعث الأمين جيشًا يعيد الاستقرار إلى بلاد الشام، لكنه لم يفعل شيئًا، ومن ثم بقيت بلاد الشام في اضطراب وقلاقل قيل: سنتين، أو أكثر. وفي ولاية المأمون: كان خروج بعض العلويين، فخرج عليه أبو السرايا سنة 199 هـ بالكوفة، وأوقع بجيوش الحسن بن سهل، ولم يستطع المأمون إخماد حركته إلا بعد عناء شديد؛ فقد هزمه هرثمة بن أعين. وأراد المأمون استمالة العلويين فعين ولي عهده منهم، فولى علي بن موسى الكاظم وخلع أخاه القاسم من ولاية العهد، فاستثار بذلك حفيظة العباسيين وثاروا عليه في عدة مناطق.

كما شق عصا الطاعة نصر بن شبث الذي كان يتعصب للأمين؛ فبعث له المأمون من يقاتله، واستمرت المناوشات بينهم خمس سنين، طلب بعدها نصر الأمان. كما ثار المصريون، فبعث لهم عبد اللَّه بن طاهر؛ لإخماد الثورة، فاستولى على الفسطاط، وأقر الأمن، وأصلح البلاد. ومن أخطر الأحداث التي ظهرت في عهد المأمون فتنة القول بخلق القرآن، فقد أمر بامتحان القضاة والمحدثين في الولآيات، وابْتُليَ الإمام أحمد بن حنبل فيها ابتلاء شديدًا. ولما تولى المعتصم وقعت في عهده أحداث كثيرة، ففي عهده أغار الزط على الدولة العباسية، واستولوا على طريق البصرة، فحالوا دون وصول المئونة والأقوات إلى بغداد، فقاتلهم وأرغمهم على طلب الأمان، وكثر في عهده الترك وازداد نفوذهم. وقد أغار الروم على بلاد الإسلام، فاستغاث الناس بالمعتصم، وكان ذلك في سنة 223 هـ؛ فسير إليهم المعتصم جيشًا، وخرج على رأسه، فحارب الروم وهزمهم، وفتح حصونا كثيرة، وفتح عمورية. وفي هذا يقول الشاعر العباسي أبو تمام: يا يوم وقعة عمورية انصرفت ... منك المنى حفلاً معسولة الحلب أبقيت جدَّ بني الإسلام في صعد ... والمشركين ودار الشرك في صبب وقبلَ وفاة المعتصم: خرج المبرقع اليماني الذي أشعل نار الفتنة بـ " فلسطين "، فأرسل إليه المعتصم رجاء بن أيوب، فلم يقدر على المبرقع الذي تجمع حوله الفلاحون، فانتظر حتى ذهب عنه الفلاحون إلى زراعتهم، وبقي المبرقع في نفر قليل، فأغار عليه رجاء وأنزل به الهزيمة هو ومن معه. وتوفي المعتصم وتولى الواثق باللَّه سنة 227 هـ، وسار الواثق على سيرة أبيه المعتصم، فاعتمد على الأتراك الذين شغلوا أعلى المناصب في كل ولايات الدولة.

ولم يمكث الواثق في الخلافة كثيرًا فقد توفي سنة 232 هـ، وتولى بعده المتوكل. الخلافة العباسية مذ وليها المتوكل حتى سيطرة البويهيين عليها، أهم الأحداث السياسية: غدا مقررًا بين المؤرخين أن عهد الخليفة المتوكل العباسي يعتبر بدء عصر انحلال الخلافة العباسية الذي انتهى بسقوطها تحت أقدام التتار سنة 656 هـ. ويسيرٌ على الباحث الوقوف على علة هذا الضعف المطبق الذي اتسم به تاريخ الخلافة العباسية مذ وليها المتوكل الذي كانت ولايته حدًّا يفرق بين عهدين من زمانها، كان الأول منهما عهد ازدهار واستقرار وقوة بينما كان الثاني على النقيض من ذلك. وهذه العلة إنما هي اعتماد العباسيين على الفرس ثم على الأتراك وإيثارهم إياهم بالمناصب المدنية والعسكرية على العرب الذين كانوا مادة الإسلام وقوام الدولة الإسلامية فضعفت عصبتهم وانحطت منزلتهم وانصرفت قلوبهم عن تأييد الدولة. وكان اعتماد العباسيين على العنصر التركي منذ عهد المعتصم (218 - 227 هـ) إرهاصًا ببدء عصر جديد في تاريخ الدولة العباسية محرف بعصر نفوذ الأتراك يبدأ بولاية المتوكل وينتهي بدخول البويهيين بغداد (232 - 334 هـ). وقد استبد الأتراك بمقاليد الأمور وتغلغل نفوذهم في الدولة بحيث أصبح الخليفة العباسي " مسلوب السلطة مهيض الجانب ضعيف الإرادة ". ولم يتورع الأتراك عن قتل الخلفاء العباسيين الذين وقفوا ضد أطماعهم واستبدادهم فدبروا مؤامرة لاغتيال الخليفة المتوكل " 247 هـ " اشترك فيها ابنه المنتصر الذي طوعت له نفسه قتل أبيه، فذاق وبال أمره، فلم يمكث في الخلافة ستة أشهر إلا وقد أغرى الأتراك طبيبه ابن طيفور بقتله وأعطوه ثلاثين ألف دينار، ففصده بريشة مسمومة سنة 248 هـ.

البويهيون:

ومنذ ذلك التاريخ غدت تولية الخلفاء وعزلهم منوطة بإرادة الأتراك، فقد كانوا يعملون على تولية الخلافة من يطمئنون إليه من أمراء البيت العباسي، وما أدق عبارة الفخري صاحب الآداب السلطانية في بيان هذه الحالة التي آل إليها أمر خلفاء بني العباس حيث قال: " كان الأتراك منذ قتل المتوكل قد استولوا على المملكة واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه وإن شاءوا خلعوه وإن شاءوا قتلوه ". ونتج عن ضعف الخلافة العباسية استقلال أكثر الولايات الإسلامية في مشرق الدولة ومغربها، فانفرد الطولونيون بحكم مصر (254 - 292 هـ) ثم الإخشيديون (323 - 358 هـ) وأخيرًا الفاطميون (358 - 567 هـ). أما في المشرق فقد قامت الدولة الطاهرية (205 - 259 هـ) في خراسان، ومنهم انتقلت السلطة إلى أسرة جديدة هي الدولة الصفارية (254 - 295 هـ) التي قامت على يد يعقوب ابن الليث الصفار، والدولة السامانية (266 - 389 هـ) التي تفرعت عنها الدولة الغزنوية (351 - 582 هـ). البويهيون: وإزاء استبداد الأتراك بشئون الدولة تطلع الخلفاء العباسيون إلى قوة جديدة تقيل الخلافة من عثرتها وتستأصل شأفة الأتراك، فوجدوا في دولة بني بويه الفتية ضالتهم، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار. برز البويهيون إلى رحاب التاريخ الإسلامي في مطلع القرن الرابع الهجري وسرعان ما ترقوا في معارج القوة والنفوذ، فدانت لعلي بن بويه بلاد فارس بالطاعة (323 هـ) وانتزع من الخليفة الراضي العباسي اعترافًا بسلطانه. وتوجوا انتصاراتهم بدخول بغداد حاضرة الخلافة العباسية عام 334 هـ في عهد أحمد ابن بويه (334 - 356 هـ) فقابله الخليفة المستكفي واحتفى به وخلع عليه ولقبه معز الدولة، ولقب أخاه عليًّا عماد الدولة، ولقب أخاه الحسن ركن الدولة، وضرب ألقابهم على السكة، ولقب المستكفي إمام الحق وضرب ذلك على السكة، على أن البويهيين استأثروا بالسلطة دون الخلفاء كما صنع أسلافهم من الترك.

ثورة البساسيري: ذروة الضعف اثعباسي، ودخول السلاجقة بغداد:

فعمل معز الدولة على توطيد مركزه وتقوية نفوذه في بلاد العراق التي أذعنت لحكمه إذعانًا كاملاً، ولم يلبث أن استبد بالسلطان دون الخليفة وعمل على إضعاف الخلافة العباسية وفكر في القضاء عليها وإقامة خلافة شيعية على أنقاضها، " ولكنه عدل عن هذه السياسة لما قد يتعرض له سلطانه من خطر بسبب وجود خلافة علوية يطيعها الجند، ويعترف بها الديلم، ويكونون أداة في يد الخليفة يستغلها لمصلحته متى شاء ". وبلغ من إهانة معز الدولة البويهي للخلافة العباسية وانتقاصه من قدر خلفائها أن قبض على الخليفة المستكفي وسمل عينيه وحبسه إلى أن مات، وأجلس المطيع (334 - 363 هـ) على كرسي الخلافة وحدد له راتبًا مائة دينار في اليوم، ثم قطع ذلك الراتب وحدد له إقطاعات يسيرة يعيش منها كما عين له كاتبًا يتصرف في شئونها. ثورة البساسيري: ذروة الضعف العباسي، ودخول السلاجقة بغداد: بلغ ضعف الخلافة العباسية غايته وعجزها منتهاه في عهد الخليفة القائم بأمر الله العباسي الذي تحقق من خيانة البساسيري ذي الميول الشيعية، وتأكد من مكاتبته الخلافة الفاطمية في مصر. فطلب إلى الملك الرحيم البويهي إبعاده عن العراق، فسار البساسيري إلى الرحبة بلد نور الدولة لمصاهرة بينهما، وعندئذ أدرك القائم بأمر اللَّه أن نجم البويهيين قد أفل وأنهم أمسوا عاجزين عن حماية الخلافة العباسية ودرء خطر البساسيري عنها، وأنه لا مناص من الاستعانة بالسلاجقة الذين طوى ملكهم بلاد الفرس والجزيرة وأصبحوا قاب قوسين أو أدنى من بغداد. وكان أن أرسل طغرلبك إلى الخليفة العباسي القائم رسولاً يبالغ في إظهار الطاعة والعبودية، فانتهز الخليفة ذلك وأمر بقطع الخطبة للملك الرحيم، والخطبة لطغرلبك بجوامع بغداد في رمضان سنة 447 هـ " ثم أرسل طغرلبك يستأذن الخليفة العباسي في دخول بغداد، فأذن له فوصل إلى النهروان، وخرج الوزير إلى لقائه في موكب عظيم من القضاة والنقباء والأشراف والشهود والخدم وأعيان الدولة، وصحبه أعيان الأمراء من عسكر الرحيم ".

واستغل البساسيري خروج طغرلبك من العراق وانشغاله بحصار الموصل ونصيبين فكاتب إبراهيم ينال أخا طغرلبك وأخذ يعده ويمنيه ويطمعه في ملك أخيه حتى أصغى إليه وحالف أخاه، فترك الموصل إلى الري، فتقدم البساسيري إلى الموصل وحاصرها وتمكن من إخضاعها سنة 450 هـ وتهيأ لدخول بغداد، أما طغرلبك فقد انصرف إلى القضاء على عصيان أخيه إبراهيم ينال وتمكن من الظفر به وقتله بالقرب من الري سنة 450 هـ. وكان إبراهيم قد خرج على طغرلبك فعفا عنه، وإنما قتله في هذه المرة لأنه علم أن جميع ما جرى على الخليفة كان بسببه فلهذا لم يعف عنه. قدم البساسيري بغداد سنة 450 هـ بالرايات المصرية، وعليها ألقاب المستنصر صاحب مصر، وجرى القتال بينه وبين الخليفة القائم الذي انضم إليه نفر من أهل السنة وقاتلوا معه، بيد أن الخليفة لم يقو على صد البساسيري عن دار الخلافة فاستولى عليها بعد قتال دام شهرًا، وأقيمت الخطبة للمستنصر الفاطمي وزيد في الآذان: حي على خير العمل. ثم قبض البساسيري على الخليفة وحمله إلى مدينة عانة حيث حبسه بها. ولما فرغ السلطان طغرلبك من أمر أخيه إبراهيم ينال، عمل على إعادة الخليفة إلى بغداد، فكتب إلى قريش بن بدران يأمره أن يعيد الخليفة إلى داره ويتوعده إن لم يفعل ذلك، فكتب قريش إلى مهارش بن مجلي يخبره بذلك، فتولى مهارش أمر إعادة الخليفة إلى بغداد. ثم جهز طغرلبك جيشًا لقتال البساسيري الذي لحق بواسط يتهيأ لقتال السلاجقة ليمنعه من الدخول إلى بلاد الشام، فظفر به جيش طغرلبك فقتل وحملت رأسه إلى بغداد. وهكذا كانت فتنة البساسيري -كما ذكر ابن الأثير- أهم الأسباب التي حملت الخلافة العباسية على الاستعانة بالسلاجقة لتخليصهم من استبداد البويهيين ذوي الميول الشيعية والتي مثل البساسيري شكلاً من أشكالها.

الفصل الثالث ظاهرة الدول المستقلة في الشرق الإسلامي

الفصل الثالث ظاهرة الدول المستقلة في الشرق الإسلامي تميز تاريخ الدولة العباسية بظاهرة فريدة لم يشهدها تاريخ الخلافتين الراشدة والأموية، وهي ظاهرة الدول المستقلة في المشرق والمغرب جميعًا. وإذا كان ظهور النزعات الاستقلالية في العالم الإسلامي يرجع إلى أواخر العصر الأموي، فإن هذه الظاهرة قد اتسعت على نحو كبير منذ مطلع الدولة العباسية، فقامت الدولة الأموية بالأندلس (138 - 397 هـ) على يد عبد الرحمن الداخل، وأسس إدريس بن عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن بن علي دولة الأدارسة في المغرب الأقصى (172 - 311 هـ) وقامت دولة الأغالبة في تونس (184 - 269 هـ) على يد إبراهيم بن الأغلب، وفي مصر ظهر الطولونيون (254 - 292 هـ) ثم الإخشيديون (323 - 358 هـ) ثم الخلافة الفاطمية (358 - 567 هـ). أما في الشرق فثمة دول استطاعت الاستقلال عن الدولة العباسية، فقد قامت الدولة الطاهرية في خراسان -نسبة إلى طاهر بن الحسين (205 - 259 هـ) - وعلى أنقاضها نشأت الدولة الصفارية (254 - 290 هـ) على يد يعقوب بن الليث الصفار، كما ظهرت الدولة السامانية (266 - 389 هـ). ونستطيع أن نرد أسباب هذ الظاهرة -وهي نشأة الدول المستقلة- إلى تضخم نفوذ الأتراك في الدولة العباسية، واستبدادهم بتصريف الشئون السياسية دون الخلفاء، فأحدث الأتراك كثيرًا من القلاقل والاضطرابات، وغدت الدولة العباسية مسرحًا للفوضى والاضطرابات السياسية، الأمر الذي ترتب عليه ضعف السلطة المركزية في بغداد وما ارتبط به من استقلال أكثر الولايات الإسلامية. وثمة أمر آخر هو أن انحسار نفوذ العرب والفرس وضعف مكانتهم وهوان شأنهم في الدولة العباسية، دفعهم دفعًا إلى الاستقلال ببعض بلدان الدولة العباسية في المشرق الإسلامي، قكانت الدولتان: الصفارية والسامانية. وهاتان الدولتان تقع في إطارهما مدينة سمرقند التي ولد فيها الماتريدي؛ ولذلك

أولا: الدولة الصفارية (254 - 295 هـ):

سنتعرض لكل واحدة منهما بشيء من التفصيل. أولًا: الدولة الصفارية (254 - 290 هـ): قامت الدولة الصفارية على أنقاض الدولة الطاهرية ويرجع تأسيسها إلى يعقوب بن الليث الصفار (254 - 265 هـ)، الذي اتخذ من سجستان مركزًا لانطلاقها. وتقع سجستان في أقصى الشرق من إيران وتسمى أيضا " نيمروز " وهي كلمة فارسية تعني " نصف يوم " أي أنها بخيراتها وثرواتها تساوي نصف ما تطلع عليه الشمس، وهذا على سبيل المبالغة لا الحقيقة. وقد انضم يعقوب إلى أحد قادة المطوعة ويدعى صالح بن النضر في ثورته على والي سجستان إبراهيم القوسي؛ لظلمه واستبداده، فتمكنوا من خلعه والاستيلاء على سجستان سنة 237 هـ. والمطوعة جماعات عسكرية تعمل على حماية سجستان وفارس وكرمان من الفوضى التي تعرضت لها إثر ثورات الخوارج. لم يكن صالح بن النضر أحسن حالاً من الوالي السابق من قبل الطاهريين، فبغى على الرعية ولم يسر فيهم سيرة العدل التي كانوا يرجونها منه، فشكوه إلى يعقوب وأغروه بأن يتولى عليهم بدلاً منه، فاستجاب لهم واستطاع أن يتخلص من صالح بن النضر، وأخذ يعمل على توطيد ملكه وتدعيم مركزه بالقضاء على المتمردين والمنشقين عليه، فحارب الخوارج الذين رفضوا الدخول في طاعته وقتل كثيرًا منهم حتى كاد أن يفنيهم، وأذاع أنه يحارب الخوارج عن أمر الخليفة العباسي. ولم يكتف يعقوب بحكم سجستان بل مد نفوذه إلى بوشنج وهراة وما والاها، واحتل نيسابور التي كان يحكمها الطاهريون، وضم إليه بلاد فارس وخراسان، وكرمان، والسند، وطبرستان، والري، وقزوين وأذربيجان وجنديسابور، والأهواز، حتى لقد هدد بغداد نفسها سنة 257 هـ، فأسس بذلك ملكًا عريضًا في شرق الدولة الإسلامية.

والحق أن الملكات السياسية والمواهب الشخصية التي اتسم بها يعقوب بن الليث هي التي أتاحت له ما حقق من نجاح كبير في تأسيس دولته الجديدة، فقد امتاز باليقظة وحسن التدبير، والتفكير العميق في عواقب الأمور ونتائجها، والقدرة على اختيار رجاله وإعداد جيوشه الإعداد السليم؛ فلا عجب أن قال عنه المسعودي: " كانت سياسة يعقوب لمن معه من الجيوش سياسة لم يسمع بمثلها ممن سلف من الملوك من الأمم الغابرة من الفرس وغيرهم ممن سلف وخلف، وحسن انقيادهم لأمره، واستقامتهم على طاعته؛ لما قد شملهم من إحسانه، وغمرهم من بره، وملأ قلوبهم من هيبته ". لا ريب أن الخلافة العباسية أوجست خيفة من يعقوب بن الليث الصفار، ورأت في اتساع ملكه تهديدًا خطيرًا لنفوذها، وكسرًا للقاعدة التي جرت عليها في تولية حكام الأطراف بناء على تفويض منها، فاعتبرت يعقوب متمردًا، وجمع الخليفة الحجاج القادمين من المشرق من خراسان والري وطبرستان وجرجان سنة 261 هـ وأعلمهم أنه لم يفوض يعقوب، وأن دخوله خراسان وقضاءه على الطاهريين لم يكن بأمره، ورد يعقوب على ذلك بمزيد من التحدي وقصد إقليم فارس فاستولى عليه سنة 261 هـ. وبدأ يعقوب يفكر في الاستيلاء على بغداد فتحرك صوبها سنة 262 هـ، مستغلًا انشغال الخلافة العباسية بالقضاء على ثورة الزنج، فرأت الخلافة استمالته وإرضاءه ريثما تفرغ من أمر الزنج، فأبي يعقوب مهادنة العباسيين وقال: إنه لا يرضيه إلا أن يسير إلى باب المعتمد. والتقت جيوش العباسيين بجيش يعقوب في قرية " اصطر بند " على مقربة من واسط في رجب سنة 262 هـ، وكان الخليفة العباسي المعتمد يقود الجيش بنفسه، ومعه أخوه طلحة في القلب. وانجلى غبار المعركة عن هزيمة منكرة للصفار وجنده، وغنم جند الخليفة معسكره وتراجع يعقوب في فلوله، وتوفي بعد ذلك بقليل في سنة 265 هـ. خلف يعقوب بن الليث أخوه عمرو بن الليث، فبادر إلى استرضاء العباسيين

ومهادنتهم، فوثق به الخلفاء العباسيون حتى عهدوا إليه بولاية شرطة بغداد بالإضافة إلى حكم ولايات خراسان وفارس وأصبهان وسجستان والسند وكرمان، فقوي نفوذه واستقر ملكه. وقد اتبع عمرو بن الليث نظامًا دقيقًا في مراقبة عماله وقواده، ورتب موارد دولته وعمل على تنميتها وزيادتها. ولم يقنع عمرو بما استقام له من ملك ونفوذ على كثير من الولايات والممالك، فطمع في بلاد ما وراء النهر التي كانت تحت حكم الدولة السامانية. والحق أن الخلافة العباسية هي التي أغرت عمرو بحرب السامانيين؛ إذ أرسلت إليه تفويضًا بحكم بلاد ما وراء النهر، وفي الوقت نفسه كتبت إلى الأمير إسماعيل بن أحمد الساماني سرًّا تدعوه إلى حرب الصفار وتعده بتوليته على ما تحت يديه من بلاد. ويقول ابن الفقيه موضحًا هذه الخطة: " كتب المعتضد إلى الصفار يأمره أن يطلب إسماعيل بن أحمد، وأنه قد ولاه عمله، وكتب إلى إسماعيل بمثل ذلك ". وكان أن رفض الأمير إسماعيل الساماني تسليم بلاد ما وراء النهر، وكتب إلى عمرو بن الليث قائلاً: " إنك قد وليت دنيا عريضة، وأنا في يدي ما وراء النهر، وأنا في ثغر، فاقنع بما في يدك، واتركني مقيمًا بهذا الثغر ". وأسفر الصراع بين الجانبين عن هزيمة عمرو بن الليث الصفار ووقوعه في الأسر سنة 287 هـ، وعامله الأمير الساماني معاملة كريمة، وخيره بين البقاء عنده أو إرساله إلى الخليفة فاختار السير إلى المعتضد، ولكن الخليفة أمر أن يشهر به ويلقى في السجن ثم قتله سنة 289 هـ. وقد تولى إمارة الدولة الصفارية -بعد عمرو بن الليث- طاهر بن مُحَمَّد بن عمرو بن الليث وكان صغيرًا لاهيًا عابثًا، فغلب عليه السبكري -غلام عمرو بن الليث- فاستبد

الدولة السامانية

بالسلطة دونه، ولم يكن لهذا الأمير الصغير حول ولا طول، بل إن السبكري قبض عليه وعلى أخيه يعقوب، وأرسل بهما إلى بغداد سنة 296 هـ، وبذلك خلا له حكم الدولة الصفارية. ولم تكد الأمور تستقيم للسبكري حتى سار إليه الليث بن علي بن الليث وهزمه وطرده من فارس، وذلك سنة 297 هـ، فاستنجد السبكري بالخليفة فسير جيشًا إلى الليث أوقع به الهزيمة، وعاد السبكري إلى ولاية الدولة الصفارية، لكنه تمرد على الخلافة العباسية، ورفض أداء الأموال إليها، فعملت على التخلص منه، فانتزعت منه فارس سنة 298 هـ، فلجأ إلى سجستان، فسار إليه الأمير أحمد بن إسماعيل الساماني، فاستولى على سجستان وقبض على السبكري وعلى مُحَمَّد بن علي بن الليث الصفار وبعث بهما إلى بغداد سنة 298 هـ، وبذلك قُضي على الدولة الصفارية قضاء لا قيام لها بعده. ويسعنا -بعد هذا العرض الموجز- أن نرجع سقوط الدولة الصفارية إلى سببين اثنين: الأول: جهود الدولة العباسية وحرصها على التخلص منها. الثاني: الهزائم المتكررة التي ألمت بجيوشها، هذا بالإضافة إلى تمرد قوادها، وما ترتب على ذلك من ضعف للدولة وانهيارها في النهاية. الدولة السامانية قامت الدولة السامانية في " منطقة ما وراء النهر "، وتشمل جغرافيا المناطق الواقعة على جانبي نهر جيحون مباشرة وإلى الشمال منه قليلا، وينتسب سكان هذه الأقاليم إلى الجنس الفارسي، الآري -لغة ودمًا وثقافة- أما المناطق التي تقع إلى أقصى الشمال والشرق، فهي مناطق خاصة بالترك، وهم عنصر آخر يعرف بالعنصر الطوراني، وتسمى بلادهم تركستان. ويرتبط هذا الإقليم بخراسان وسجستان جغرافيًّا وسياسيًّا؛ ولذلك اعتبر المقدسي هذه الأقاليم الثلاثة إقليمًا واحدًا أسماه بالمشرق. ويشمل إقليم ما وراء النهر عدة كور منها: بخارى وأشروسنة والشاش وفرغانة وكش

ونسف والصغانيان والختل وخوارزم والترمذ. أما الدولة السامانية فتنتسب إلى أسرة فارسية عريقة في المجد يرجع أصلها إلى بهران ابن جور. ودخلت هذه الأسرة في الإسلام في العهد الأموي، في ولاية خالد القسري الذي كان مهتمًّا بأبناء الأسر الفارسية العريقة، وأدنى إليه سامان وأكرمه، فأسلم على يديه وولاه بلخ، فلما رزقه اللَّه بولده سماه أسدًا تيمنًا باسم هذا الوالي الكريم. وظهر أبناء سامان الأربعة على مسرح الأحداث السياسية في عهد الخليفة المأمون فولي نوح بن أسد سمرقند في سنة 204 هـ، وأحمد بن أسد فرغانة، ويحيى بن أسد الشاش وأشروسنة، وإلياس بن أسد هراة، ولما ولي طاهر بن الحسين بلاد خراسان أقرهم في هذه الأعمال. واشتهر من أبناء أحمد بن أسد إسماعيل ونصر. فخلف نصر أباه على سمرقند وما يليها من قبل الطاهريين حتى ولاه الخليفة العباسي المعتمد بلاد ما وراء النهر سنة 261 هـ. ومن ثم تأسست الدولة السامانية، وولَّى نصر أخاه إسماعيل على بخارى. ولم يلبث العداء أن أنشب أظفاره بين الأخوين إسماعيل ونصر، وكان إسماعيل -كما مر- ينوب عن أخيه في حكم بخارى، فآنس منه نصر طمعًا في المال واستئثارًا بالسلطة، فوقعت حروب بين الأخوين انتهت بانتصار إسماعيل سنة 275 هـ، ولكنه أبدى إيثارًا وتعظيمًا كبيرًا لأخيه، فترجل عن جواده، وقبل ركابه وقال: إني مقر بأني أخطأت والذنب كله ذنبي، فبكى نصر لوفاء أخيه ورجع إلى سمرقند تاركًا إياه نائبًا عنه في بخارى. وآل أمر الدولة السامانية بعد وفاة نصر بن أحمد الساماني إلى أخيه إسماعيل بن أحمد سنة 279 هـ، ويمكننا أن نعتبر إسماعيل المؤسس الحقيقي للدولة السامانية، ففي عهده ظهرت الدولة بمظهر القوة، وقامت بدور كبير في إزالة الدولة الصفارية. واستطاع إسماعيل بفضل كفايته السياسية والحربية أن يخضع لسلطانه بلاد ما وراء

علاقة السامانيين بالخلافة:

النهر كلها، ونجح في أن يضم إلى دولته خراسان وبعض المناطق الإيرانية الأخرى، واتخذ من بخارى عاصمة لدولته. وقد وصف ابن الأثير إسماعيل بن أحمد الساماني فقال: " إنه كان خَيِّرًا يحب أهل العلم والدِّين، ويكرمهم ". وقال في موضع آخر: " إنه كان عاقلاً عادلاً حسن السيرة في رعيته، حليمًا. وحكي عنه أنه كان لولده أحمد مؤدب يؤدبه، فمر به الأمير إسماعيل يومًا، والمؤدب لا يعلم به، فسمعه وهو يسب ابنه ويقول له: لا بارك اللَّه فيك ولا فيمن ولدك، فدخل إليه، فقال له: يا هذا، نحن لم نذنب ذنبًا لتسبنا فهل ترى أن تعفينا من سبك، وتخص المذنب بشتمك وذمك؟ فارتاع المؤدب، فخرج إسماعيل من عنده وأمر له بصلة جزاء لخوفه منه ". علاقة السامانيين بالخلافة: تختلف الدولة السامانية في علاقتها بالخلافة العباسية عن الدولة الصفارية إلى حد كبير؛ فالصفاريون لم يعترفوا بسلطان الخليفة العباسي عليهم وتمردوا على نفوذه الروحي، بل سعوا إلى الاستيلاء على بغداد نفسها. أما الدولة السامانية فنعمت بالاستقلال في ظل الولاء الإسمي للخلافة العباسية، بعد أن أثبتت تجربة الصفاريين فشل الحركات المناوئة للخلافة المتحدية لسلطانها، وتأكد أن الخلافة -حتى في أحلك ظروفها- كانت تتمتع بنفوذ روحي لا يستهان به، وأنها قادرة على تحريك الأحداث والإسهام فيها بالتدخل المباشر أو بالاستعانة بحلفائها. فوعى السامانيون هذا الدرس، واعترفوا بالنفوذ الروحي للخلافة، ورفعوا راية الجهاد في الثغور، وأبدوا تعاونًا مخلصًا مع الخلافة في مواجهة أعدائها. ومن أمارات هذا الولاء الذي أبداه السامانيون للخلافة العباسية: - تمسكهم بالمذهب السني الذي تدين به الدولة العباسية، ورفضهم إقامة علاقات مع الفاطميين عندما حاولوا استمالتهم إليهم. - كما أقام السامانيون الخطبة للعباسيين ونقشوا أسماءهم على السكة، وحرصوا على إكساب حكمهم صفة شرعية بالحصول على تفويض منهم.

وفي المقابل بدأت الخلافة العباسية تثق في السامانيين وتطمئن إلى صدق ولائهم، فاتخذت منهم أنصارًا لها في المشرق خلفًا للطاهريين، وقد أشرنا قبل قليل إلى نجاح التحالف " العباسي الساماني " في القضاء على الدولة الصفارية التي هددت العباسيين تهديدًا مباشرًا. كما أدى السامانيون دورًا آخر لصالح الخلافة العباسية، وهو التصدي للزيدية في طبرستان، وتمكنوا من إسقاط دولة الحسن بن زيد سنة 287 هـ، ونجحوا في استمالة القائد الديلمي أسفار بن شيرويه فتخلى عن ولائه للزيدية، وانضم إليهم، وتكفل بإسقاط الدولة الزيدية الثانية سنة 316 هـ. وكانت بخارى حاضرة الدولة السامانية في عهد الأمير إسماعيل، فقد شيدت فيها القصور المنيفة، والمنشآت الكبيرة، والمدارس الدِّينية، ووفد عليها العلماء من كل حدب وصوب؛ لما وجدوه من التشجيع والحفاوة. وقد حكم إسماعيل أكثر من ثلاثين سنة، سار فيها سيرة حسنة في الرعية، فأرسى قواعد العدل والإحسان؛ ولذلك كان لا يتهاون مع عماله إذا ظلموا الرعية. وكانت خراسان تنقسم إلى أربعة أقسام: قسم عاصمته نيسابور، وقسم عاصمته مرو، وثالث عاصمته هراة، والأخير عاصمته بلخ. وأما بلاد ما وراء النهر فكانت تنقسم خمسة أقسام: الأول: الصغد، ولها عاصمتان هما بخارى وسمرقند. والثاني: خوارزم. والثالثة صغانيان. والرابع: فرغانة. والخامس: الشاش. وقد كان لعمال إسماعيل على هذه الولايات سلطات واسعة. وقد توفي الأمير إسماعيل عام 295 هـ، وبعد وفاته بدأت الدولة السامانية في الضعف والانحلال، وكان ذلك لعدة عوامل:

أولها: انقسام البيت الساماني على نفسه طمعًا في السيادة. ثانيها: رجال الدولة السامانية الذين كانت لهم مطامع خاصة، فسعوا إلى تحقيق هذه المطامع على حساب الدولة. ثالثها: ضعف أمراء آل سامان حتى أصبحوا ألعوبة في أيدي كبار رجال الدولة. وترتب على ضعف الدولة السامانية ازدياد نفوذ الترك الذين كانوا مجرد خدم وأتباع، فتمكنوا من القضاء على الدولة السامانية وبسطوا نفوذهم كذلك على كثير من البلدان الإسلامية. وبرغم ضعف الدولة السامانية بعد الأمير إسماعيل، فإنها ظلت قائمة حتى منتصف القرن الرابع الهجري، فقد تولى الأمير أحمد بن إسماعيل الحكم بعد أبيه، وحاول المحافظة على ملك الدولة السامانية قدر جهده، لكنه لم يستطع تخليص طبرستان من الأمير الحسن بن علي الزيدي الملقب بالأطرش الذي تغلب عليها وعلى بلاد الديلم، وهدى اللَّه على يديه نفرًا كثيرًا ممن لم يدخلوا الإسلام من أهل تلك البلاد، فالتفوا حوله، وطردوا والي السامانيين من بلادهم. وتُوُفيَ أحمد بن إسماعيل سنة 301 هـ إثر مؤامرة دبرت له، وولي من بعده ابنه نصر، وكان صغيرًا فتنافس أمراء البيت الساماني على الوصول إلى الحكم، فشق عليه عمه إسحاق بن أحمد عصا الطاعة، فاستقل بسمرقند، واستقل أبو صالح منصور بن إسحاق في نيسابور، ولكن نصرًا عاجلهم وقضى على ثورتهم. كما هزم العلويين الذين زاد خطرهم في طبرستان وقتل قائدهم، فاستطاع الأمير نصر بسبب هذه الانتصارات استعادة نفوذ الدولة السامانية على بلاد ما وراء النهر. وتوفي الأمير نصر، فبدأ الانهيار الكامل للدولة السامانية، فاستقل الأمراء، كلٌّ بجهة معينة، فواجه الأمير نوح بن نصر الذي خلف والده مصاعب كثيرة، منها خروج أبي إسحاق أحمد في بخارى، وأبو علي الأصفهاني في نيسابور. وأخطر ما واجهه غزو ركن الدولة البويهي لبلاد الري واستيلاؤه عليها، ولكن القائد الساماني أبا علي طرد منها البويهيين، لكنه انقلب على سادته واستقل بها، بل طمع في

إقليم خراسان. ومن ثم بدأ انحسار النفوذ الساماني فما عاد يتجاوز بلاد ما وراء النهر. ومع ازدياد نفوذ البويهيين وضعف أمراء الدولة السامانية ازداد الانحسار، فألقى الأمراء السامانيون بأنفسهم في أحضان الدولة الغزنوية الناشئة، حتى آل أمر دولتهم جميعه إلى هذه الدولة، فسقطت بذلك الدولة السامانية بعدما حكمت بلاد ما وراء النهر وما جاورها قرابة قرن ونصف. على أنه ينبغي أن نسجل للدولة السامانية عدة أمور تعد في ميزان فضائل هذه الدولة وأمرائها: أولها: أن الحضارة الإسلامية ازدهرت في عهد الدولة السامانية؛ حتى كانت بخارى، وسمرقند، وبلخ تحت حكمهم منارات للعلوم الدِّينية، يفد إليها الطلاب من كل حدب وصوب. ثانيها: انتشار الرخاء في عهدهم، واتباعهم سبيل الحق في حكمهم؛ حتى مدحهم المقدسي الذي رحل إلى بلادهم، فقال: إنهم أحسن سيرة، وهذا فضلاً عما عرف عنهم من إجلال للعلم وأهله، فقد كان من رسومهم ألا يكلفوا أهل العلم تقبيل الأرض بين أيديهم. وقال في وصف أهل خراسان في العهد الساماني: إنهم من أشد الناس تمسكًا بالحق، وهم بالخير والشر أعلم. كما أقر بعلمهم الكثير، وحفظهم العجيب، واستقرار الأمور في خراسان، وانتشار الرخاء فيها. ثالثها: عدم قصر عنايتهم على العلوم الدِّينية، بل اهتم أمراء الدولة السامانية بالعلوم الطبيعية والأدبية، فقد نبغ علماء وشعراء في بلاط هذه الدولة، فنبغ الرودكي، أول شاعر غنائي في فارس، ومؤسس الملحمة التعليمية التي تعد من أخصب فروع الأدب الفارسي. وابن سينا الفيلسوف الطبيب الذي بدأ يظهر إنتاجه في عصر منصور بن نوح الساماني 350 هـ وبخاصة كتابه القانون في الطب.

ونسجل أيضًا في هذا المقام أن الماتريدي صاحب التفسير المحقق بين أيدينا عاش في سمرقند، ويمكننا القول: إنه عاش عمره كله في ظل الدولة السامانية، وما من شك في أنه تأثر بأحداثها، ونعم بخيرها، واستقرارها الفكري والعلمي، برغم ما حصل فيها من أحداث سياسية مضطربة في بعض المراحل، فكان ذلك من عوامل نبوغه في العلوم الدِّينية المختلفة، كما سنعرف في الباب الثاني من هذه الدراسة. * * *

الفصل الرابع نظام الحكم في الدولة العباسية

الفصل الرابع نظام الحكم في الدولة العباسية يقصد بنظام الحكم: أجهزة الدولة المختلفة التي تصرف أمورها، وتدبر شئونها، وتكون بمثابة حلقة الوصل بين الرعية وبين الحكام، وذلك حتى تنضبط حركة الحياة ويتمكن الناس من القيام بالوظائف المنوطة بهم على نحوٍ تتحقق به خلافة الإنسان في الأرض على الوجه المرضي. والحديث عن نظام الحكم في أي عصر من عصور التاريخ ذو شعب ثلاث: 1 - النظام السياسي. 2 - النظام الإداري. 3 - النظام القضائي. ولإعطاء القارئ صورة عن نظام الحكم في الدولة العباسية في الفترة محل الدراسة نعرض لهذه الأنظمة الثلاثة في شيء من الإيجاز: أولاً: النظام السياسي: ويتمثل هذا النظام فيما يلي: أ - الخلافة: عرف صاحب الأحكام السلطانية الخلافة بقوله: " الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا ". كما عرفها ابن خلدون بأنها " حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به ". ومن البين أن التعريفين ينطويان على معنى الجمع بين السلطتين الدِّينية والدنيوية.

وقد كانت الخلافة في الدولة العباسية وراثية، تنتقل من الآباء إلى الأبناء. والخلفاء العباسيون يقتفون في ذلك أثر الأمويين الذين ابتدعوا مبدأ توريث الخلافة، بعد أن كانت شورى يتداولها المسلمون فيما بينهم دون قصرها على بيت دون بيت أو أسرة دون أسرة. وامتاز نظام الحكم في العصر العباسي الأول بغلبة النزعة الاستبدادية عليه، فالخليفة العباسي يملك السلطات كلها في يده، على الرغم من أن أصحاب الدواوين أو البارزين من أصحاب البيت العباسي كانوا بمثابة مستشارين غير رسميين. ودرج الخلفاء العباسيون على نظام تولية العهد أكثر من واحد، فقد عهد السفاح بالخلافة إلى أخيه أبي جعفر المنصور ثم إلى أخيه عيسى بن موسى، وكذلك فإن المهدي عهد بالخلافة إلى ولديه الهادي ثم لهارون الرشيد، وأما هارون الرشيد فولى عهده أولاده الثلاثة: الأمين والمأمون والمؤتمن، وقسم البلاد بينهم. ولا ريب أن هذا النظام في ولاية العهد قد أثمر العداوة والبغضاء بين أبناء البيت العباسي بدافع المنافسة والرغبة في الظفر بمنصب الخلافة. وقد آل أمر الخلافة العباسية منذ عهد المتوكل " 232 - 247 هـ " إلى حالة من الوهن والضعف، بسبب ازدياد نفوذ الأتراك ثم البويهيين والسلاجقة، وغدا الخلفاء العباسيون ألعوبة في يد هَؤُلَاءِ، وهو ما أشرنا إليه في المبحث الثاني من هذه الدراسة. وعلى الرغم من ضعف الخلافة في عصر إمرة الأمراء وبني بويه، فقد استمر الخلفاء العباسيون يولون العهد أبناءهم، غير أن الأتراك والبويهيين من بعدهم كانوا لا يحفلون بهذا النظام إذ كان لا يتفق مع مصالحهم. ب - الوزارة: اقتبس العباسيون نظام الوزارة من الفرس، والحق أن الوزارة كاختصاص ومهام ولقب قد استحدثت في العصر العباسي، وإن عرفت كاختصاص فقط دون اللقب في العصر الأموي، فكان عبد الحميد بن يحيى بن سعيد كاتب مروان بن مُحَمَّد يقوم في الخلافة مقام الوزير من حيث تقريب الخليفة له واعتماده عليه في المشورة والرأي.

ولم تتضح مهام الوزارة وأعمال الوزير في صدر الدولة العباسية، ولكنها لم تلبث أن تحددت وصيغت الصياغة النهائية في أواخر العهد العباسي. وكان أكثر وزراء الدولة العباسية من الفرس أو الترك، واشتهر من وزراء العصر الأول البرامكة وبنو سهل، ومن وزراء العصر الثاني بنو الفرات وبنو وهب وبنو الجراح. وأرهبت قوة الدولة العباسية وحزم خلفائها الوزراء، فلم يستبدوا بأمر دون الخليفة، ولم ينفردوا برأي دون الرجوع إليه، بل كان الواحد منهم يتجنب أن يسمى وزيرًا بعد أن مات أبو الجهم على يد المنصور، فكان خالد بن برمك يعمل عمل الوزراء ويأبى أن يسمى وزيرًا على الرغم من منزلته عند الخلفاء. ولم يتردد الخلفاء العباسيون الأوائل في البطش بأي وزير يرون في تضخم نفوذه خطرًا على كرسي الخلافة، ومقتل أبي سلمة الخلال على يد السفاح، وأبي الجهم على يد المنصور، ونكبة البرامكة في عهد الرشيد أمثلة صادقة على قوة الخلافة، وتضاؤل نفوذ الوزراء إلى جوار الخلفاء. ولقد عرف العصر العباسي شكلين من أشكال الوزارة: الأول: وزارة تنفيذ: وهي التي تقتصر مهمة الوزير فيها على تنفيذ أوامر الخليفة وعدم التصرف في شئون الدولة من تلقاء نفسه. الثاني: وزارة تفويض: وهي أن يكل الخليفة الوزارة إلى شخص يثق فيه، ويفوض إليه النظر في أمور الدولة والتصرف في شئونها دون الرجوع إليه. ومن أشهر وزراء التفويض: آل برمك وآل سهل والفضل بن الربيع. ولما ضعفت الخلافة العباسية ودب الوهن في أوصالها، تزايد نفوذ الوزراء وتعاظم خطرهم، وقويت المنافسة على كرسي الوزارة. ولم يكد البويهيون يستولون على بغداد سنة 334 هـ حتى استبدوا بالسلطة دون الخلفاء العباسيين وقضوا على نفوذ الوزراء وحلوا محلهم، ولكنهم اتخذوا لأنفسهم وزراء اشتهر بعضهم كأبي الفضل مُحَمَّد بن العميد وزير ركن الدولة بن بويه.

ثانيا: النظام الإداري:

ج - الكتابة: اقتضى تطور منصب الوزارة وتشعب أعماله استحداث نظام جديد يعاون موظفوه الوزير في الإشراف على الدواوين وإدارة شئونها، وهو نظام الكتابة. ووجد في هذا العصر كاتب للرسائل، وكاتب للخراج، وكاتب للجند، وكاتب للشرطة. ومهمة كاتب الرسائل: إذاعة المراسيم والبراءات وتحرير الرسائل السياسية وختمها بخاتم الخلافة بعد اعتمادها من الخليفة، ومراجعة الرسائل الرسمية ووضعها في الصيغة النهائية وختمها بخاتمه، كما كان يجلس مع الخليفة في مجلس القضاء للنظر في المظالم وختم الأحكام بخاتم الخليفة. واشتهر من كتاب الدولة العباسية: يحيى بن خالد البرمكي، والفضل بن الربيع والفضل بن سهل والحسن بن سهل، وأحمد بن يوسف ومُحَمَّد بن عبد الملك بن الزيات. د - الحجابة: استحدث الأمويون وظيفة سياسية جديدة في بلاطهم هي الحجابة، ومهمة الحاجب: حجب الخليفة عن الناس، وتنظيم دخول الرعية عليه وفقًا لمنازلهم الاجتماعية، ومراتبهم في الدولة. ولعل الأمويين قد خافوا على أنفسهم من الرعية بعد حادثة الخوارج مع علي ومعاوية وعمرو بن العاص. وقد حذا العباسيون حذو الأمويين في اتخاذ الحجاب، بيد أن مرتبة الحاجب قد ارتقت وزادت مكانته في بلاط العباسيين، فأصبح يستشار في كثير من أمور الدولة، ويستبد بالنفوذ دون الوزير ويلزم أصحاب الدواوين بالرجوع إليه. ثانيًا: النظام الإداري: أ - تعيين الولاة: امتاز النظام الإداري في العصر العباسي الأول بالمركزية التي غدا معها ولاة الأقاليم

مجرد عمال لا ولاة ينفردون بالسلطة المطلقة، وهو ما يفرق بين النظام الإداري العباسي والأموي، حيث كان ولاة الدولة الأموية يتمتعون بنفوذ كبير وسلطة لا يغلها استبداد الخليفة، فلا غرو أن اقتصرت وظيفة الوالي في بداية تاريخ الدولة العباسية على الصلاة وقيادة الجند. ودرج الخلفاء العباسيون على اختيار العمال أو الولاة من بيت أفراد البيت العباسي أو من بين كبار القادة، " غير أن هَؤُلَاءِ وأُولَئِكَ آثروا البقاء في بغداد أو في سامراء، وأنابوا عنهم نوابًا يحكمون هذه الولايات باسمهم. ولم يكن هذا التقليد شديد الخطر على الدولة العباسية وهي في قوتها، على أنه لما ضعفت السلطة المركزية ساءت الحالة في هذه الولايات، وجنح بعض نواب الولاة إلى الاستقلال، فظهرت في مصر الدولتان الطولونية والإخشيدية، وظهرت في المشرق الدول: الطاهرية، والصفارية والسامانية ". ب - الدواوين: كلمة الديوان كلمة فارسية تعني السجل يكتب فيه ما يختص بشئون الإدارة. ثم أصبحت تدل على المكان الذي يعمل فيه الكُتَّاب على اختلاف مهامهم. وتشبه الدواوين في نظامها وأعمالها الوزارات في العصر الحاضر. وأول من دون الدواوين في الدولة الإسلامية هو عبد الملك بن مروان. ثم كثرت الدواوين في العصر العباسي لتنظيم شئون الدولة، ومنها: ديوان الخراج، وديوان الجند، وديوان الموالي والغلمان، وديوان البريد، وديوان زمام النفقات، وديوان الدية، وديوان الرسائل، وديوان الحوائج، وديوان المنح، وديوان الأكرة للإشراف على الترع والجسور وشئون الري. ويرجع الفضل في تنظيم إدارة الدواوين في العصر العباسي الأول إلى خالد بن برمك، كما يرجع الفضل في إنشاء ديوان الزمام إلى المهدي لجمع ضرائب العراق، وهو أول من أحدث هذا الديوان.

ثالثا: النظام القضائي:

ج - البريد: أَوْلَى الخلفاء العباسيون نظام البريد عناية كبيرة وحفاوة بالغة تتلاءم مع ما عسى أن يقدمه صاحب البريد من معلومات عن الأمصار والولاة، فهو بمثابة جهاز المخابرات في الدول الحديثة. وكان لديوان البريد محطات على طول الطريق، وظل الحمام الزاجل مستخدمًا في نقل الرسائل حتى عهد الخليفة المعتصم. وكان البريد خاصًّا بأعمال الدولة لا لنقل رسائل الجمهور، ومن ثم كان مصلحة من مصالح الدولة الخاصة، فكان صاحب البريد يراقب العمال، ويتجسس على الأعداء، ويقوم بالأعمال التي يقوم بها رئيس قلم المخابرات في وزارة الدفاع الآن، وكانت مهمة صاحب البريد أول الأمر توصيل الأخبار إلى الخليفة من عماله في الأقاليم، ثم توسعوا فيه حتى جعلوا صاحبه عينًا للخليفة ينقل أوامره إلى ولاته كما ينقل أخبار ولاته إليه. 4 - الشرطة: اعتمد الخلقاء على الشرطة في حفظ الأمن، ونشر الاستقرار والضرب على أيدي المجرمين والمفسدين. وألحقت الشرطة في أول الأمر بالقضاء؛ لأنها تقوم على تنفيذ الأحكام القضائية وصاحبها يتولى إقامة الحدود، ثم لم تلبث أن غدت نظامًا مستقلاً. وكان صاحب الشرطة يُختار من علية القوم وذوي العصبية والناس؛ حتى يكون قادرًا على ضبط المجرمين وإقامة الحدود، وتنفيذ العقوبات. وصاحب الشرطة يختار له مساعدين يأتمرون بأمره ويصدرون عن رأيه. ثالثًا: النظام القضائي: ويشتمل على: القضاة، والنظر في المظالم، والحسبة. أ - القضاة: عرف منصب القضاء في الدولة الإسلامية منذ عصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية. وكان القاضي يصدر في أحكامه عن كتاب اللَّه وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم عن رأيه

واجتهاده. فلما كانت الدولة العباسية، وتقررت المذاهب الفقهية المختلفة، غدا كل قاض يصدر في أحكامه عن مذهب منها، ويُعَوِّل في الفصل بين الناس عليه. كما استحدثت الدولة العباسية منصب " قاضي القضاة "، وأول من تلقب بهذا اللقب أبو يوسف في عهد هارون الرشيد. وكان القضاة في العصر العباسي ينظرون في القضايا المدنية والدعاوى والأوقاف، وتنصيب الأوصياء، وأحيانًا المظالم والقصاص وبيت المال. ب - النظر في المظالم: ويختص صاحب المظالم بالنظر في القضايا التي عجز القضاة عن الفصل فيها، وكان يتولى النظر في المظالم -أحيانًا- الخلفاء أنفسهم، فكان بعض خلفاء بني العباس يجلس لهذا الأمر؛ ليحكم في المظالم. كما كان يرأس محكمة المظالم -إن لم يكن رئيسها هو الخليفة- الوالي أو من ينوب عنه. وكان صاحب المظالم يعين للناس يومًا يقصدونه فيه، أو أسبوعًا كاملاً يفرغ لهم فيه. وتنعقد محكمة المظالم في الأعم الأغلب في المسجد، وكان يحضرها خمس جماعات لابد من حضورهم هم: أ - جماعة الحماة أو الأعوان: ومهمتهم التغلب على من يلجأ إلى العنف أو يحاول الفرار. ب - جماعة الحكام: ومهمتهم الإحاطة بما يصدر من الأحكام لرد الحقوق إلى أهلها، والعلم بما يجري بين الخصموم. ج - جماعة الفقهاء: الذين يرجع إليهم صاحب المظالم فيما أشكل عليه. د - جماعة الكتاب: ويقومون بتدوين أقوال الخصوم. هـ - الشهود. ويختلف اختصاص صاحب المظالم عن اختصاص القاضي في عدة أمور: أولها: صاحب المظالم ينظر في القضايا التي يقيمها الأفراد على الولاة وعمال

الخراج. ثانيها: صاحب المظالم ينظر في القضايا التي يعجز عنها القاضي. ثالثها: صاحب المظالم يحكم في القضايا التي تتعلق بإقامة العبادات كالحج والأعياد والجمع والجهاد. ج - الحسبة: وضع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب نظام الحسبة في الإسلام، ويعني هذا النظام: النظر فيما يتعلق بالنظام العام من أمور تقتضي الفصل فيها على وجه السرعة. ومن وظائف المحتسب أنه: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحافظ على الآداب العامة، ويشرف على نظام السوق، ويستوفي الديون ويراقب المكاييل والموازين تجنبًا للتطفيف، ويعاقب العابثين. . . إلخ. بيد أن مصطلح الحسبة لم يستخدم أو يتداول في العصر العباسي بالرغم من تطبيق مفهومه. * * *

الفصل الخامس الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي

الفصل الخامس الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي لا مرية في أن الأوضاع الاجتماعية في عصر من العصور تؤثر تأثيرًا كبيرًا في أفراد المجتمع عامتهم وخاصتهم على السواء، ولعل أكثر الطبقات الاجتماعية تأثرًا بهذه الأوضاع هم العلماء؛ فهم أكثر اتصالاً بحياة الناس وأشد اهتمامًا بشئونهم ورغبة في معرفة مشاكلهم والقضاء عليها. ومرادنا من دراسة الحالة الاجتماعية: بيان طبقات المجتمع من حيث: الجنس، والدِّين، وما يربط هذه الطبقات بعضها ببعض من صلات وأواصر دينية أو اقتصادية أو اجتماعية. كما تُعني دراسة الأوضاع الاجتماعية عناية فائقة بمظاهر الحياة في المجتمع. وتنتظم دراستنا للحالة الاجتماعية للفترة التاريخية التي نحن بصددها مبحثين اثنين هما: المبحث الأول: سكان الدولة العباسية. المبحث الثاني: مظاهر الحياة الاجتماعية. * * *

المبحث الأول عناصر السكان في الدولة العباسية في عصر الماتريدي

المبحث الأول عناصر السكان في الدولة العباسية في عصر الماتريدي تنوع سكان الدولة العباسية تنوعًا كبيرًا، واختلفت عناصرهم وطبقاتهم أشد ما يكون الاختلاف، وانصهرت جميعها في بوتقة المجتمع العربي الإسلامي في العصر العباسي. وهذه العناصر هي: 1 - العنصر العربي: وقد أفاضت الدولة الأموية على العرب تميزًا في المكانة الاجتماعية والاقتصادية، حيث آثرتهم بالمناصب السياسية وقصرتها عليهم، ونظرت بعين الازدراء للعناصر الأخرى، وحرمتها من المشاركة السياسية الفاعلة. أما الدولة العباسية فقامت على أكتاف الموالي من الفرس، وبرزت إلى الوجود بفضل مناصرتهم وتأييدهم، فلا غرو أن قدمهم العباسيون وآثروهم بالمناصب وأجروا عليهم الأعطيات السخية، وفي المقابل تأخر العرب وصارت منزلتهم دون منزلة الفرس بكثير، وحسبك دليلاً على صحة ذلك أن المعتصم " 218 - 225 هـ " أخرج العرب من ديوان العطاء. ولقد عبر الجاحظ عن هذه الحالة في عبارة موجزة فقال: " دولة بني العباس أعجمية خراسانية، ودولة بني مروان عربية أعرابية ". 2 - العنصر الفارسي: وقد أشرنا قبل قليل إلى تميز مكانة الفرس لدى الخلفاء العباسيين، فأسندوا إليهم المناصب الهامة، واعتمدوا عليهم اعتمادًا كبيرًا في تصريف شئون دولتهم. وتخبرنا المصادر التاريخية أن أول من استعملهم هو الخليفة أبو جعفر المنصور، فاستن بسنته في استعمالهم الخلفاء العباسيون من بعده حتى بلغ نفوذهم ذروته في عهد هارون الرشيد، فكان مدبر أمر دولته آل برمك وأصولهم ساسانية. وكذلك انتصر المأمون للفرس وأدناهم إليه واعتمد عليهم في حرب أخيه الأمين، فلما انتصر على أخيه وآل أمر الملك إليه بفضل نصرة الفرس له قربهم أكثر، فازدادوا نفوذًا وتدخلاً في شئون الخلافة العباسية.

3 - العنصر التركي: ازداد نفوذ الفرس في الدولة العباسية، وأصبحوا يمثلون خطرًا كبيرًا على سلطة الخلفاء العباسيين، فلم يجد العباسيون مناصًا من الاعتماد على عنصر جديد يثقون في ولائه ومناصرته لهم، فاستعان المعتصم بالعنصر التركي وأدخله إلى المجتمع العباسي. غير أن هذا العنصر استبد بالأمور دون الخلفاء منذ عصر المتوكل " 232 - 247 هـ "، وغدا الترك أصحاب السلطان الحقيقي في الدولة، والخلفاء ألعوبة في أيديهم. 4 - المولدون: نشأ نتيجة الاختلاط بين العناصر السابقة عنصر جديد لم يكن موجودًا من قبل، وهذا العنصر هو المولدون، وكان لهَؤُلَاءِ مميزات وصفات مختلفة في أجسامهم وعقولهم وأفكارهم، وأثر لا ينكر في الحياة الاجتماعية والعلمية. 5 - اليهود والنصارى: وعلى الرغم من أن هَؤُلَاءِ كانوا قلة في المجتمع العباسي إلا أنهم تمتعوا بكافة الحقوق في ظل التسامح الدِّيني الذي دعا إليه الإسلام، فكانوا يقيمون شعائرهم الدِّينية في حرية كاملة، ويعيشون في طوائف منفصلة عن بعضها مختلطين مع المسلمين، فلم يكن لهم في المدن الإسلامية أحياء مخصصة إلا إذا آثروا الحياة في أحياء خاصة بهم، فتتكون تلقائيًّا لهم أحياء خاصة. طبقة الرقيق: كثرت هذه الطبقة في المجتمع العباسي كثرة ظاهرة، فنشأت أسواق خاصة بهم في بغداد، وامتلأت قصور الخلفاء والأغنياء والحكام بالجواري. كما عني العباسيون بتهذيبهن وتعليمهن ضروبًا من الفنون لا سيما الشعر والغناء. ونَعِمَ الرقيق في ظل الدولة العباسية بكافة حقوق المواطنة التي كان يتمتع بها سائر طبقات المجتمع من الأحرار، وحسبك دليلاً على صدق ما نقول أن كثيرًا من أمهات الخلفاء العباسيين كن من الرقيق. وكان ذلك بفضل ما أرساه الإسلام من مبادئ العدل والمساواة دون تمييز بين عربي وعجمي أو حر وعبد، فالكل سواء في الحقوق الإنسانية.

هذا عن العناصر السكانية في المجتمع العباسي عامة أما بلاد وراء النهر -مسقط رأس الماتريدي- فإن غالبية السكان فيها كانوا من الفرس والترك، وثمة طوائف عربية استوطنت هذه البلاد على أثر الفتوحات الإسلامية، فاندمجوا مع سكان البلاد الأصليين، الذين دخل منهم في الإسلام من دخل، وبقي منهم على دينه بقي، متمتعًا في ظل الإسلام بكافة الحقوق الإنسانية. * * *

المبحث الثاني مظاهر الحياة الاجتماعية

المبحث الثاني مظاهر الحياة الاجتماعية امتازت الحياة الاجتماعية في عصر الماتريدي بمظاهر عدة، لعل أبرزها: - ظهور حركة الشعوبية. - ظاهرة الزندقة. - غلبة اللهو والترف على المجتمع. أولاً: الشعوبية: نشأت ظاهرة الشعوبية كنتيجة طبيعية للصدام السياسي والحضاري بين العرب والموالي، فتعصب العرب لجنسهم واحتقروا الموالي، وتعصب الموالي -الفرس والترك- لأرومتهم، ورأي الفرس أنهم ذوو سابقة في الحضارة والمدنية وأن العرب طارئون على هذه الحضارة. وغلبت هذه النزعة من العصبية على الدولة العباسية وأذكى نيرانها مساندة العباسيين للموالي وتقديمهم إياهم على العرب. وبلغت الشعوبية ذروة خطورتها في القرن الثالث الهجري، حيث نشط الفرس في الهجوم على العرب والتفتيش عن مثالبهم، وتجريدهم من كل ميزة وفضيلة، وربما ساعد على ذلك أن الخلفاء العباسيين لم يتعصبوا للعرب كجنس بقدر ما تعصبوا للإسلام كدين يسوي بين الناس في الحقوق والواجبات، ولا يرى للعرب فضلاً على سائر الأجناس إلا بالتقوى. وثمة نزعات ثلاث تألفت ظاهرة الشعوبية من مجموعها: النزعة الأولى: وتذهب إلى أن العرب خير الأمم؛ لأنهم ظلوا ينعمون بالاستقلال والحرية، بالرغم من أنهم كانوا يتاخمون أكبر دولتين: الفرس والروم، كما أنهم يتمتعون بصفات أخلاقية امتازوا بها عن غيرهم، كالكرم والوفاء والنجدة، بالإضافة إلى أن الإسلام -وهذا هو العامل الأهم- نزل بأرضهم، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منهم، وهم حاملو لواء دعوته إلى الناس، فكل من أسلم ففي عنقه للعرب منَّة لا تقدر. النزعة الثانية: ترى أن العرب ليسوا بأفضل الأمم، فالأمم كلها متساوية، يؤيد ذلك قول اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

ثانيا: الزندقة:

ويمثل هذه النزعة وينتصر لها العلماء والصالحون من العرب العجم جميعًا. النزعة الثالثة: يؤمن أصحاب هذه النزعة بأفضلية العجم على العرب، ويفندون الحجج التي ارتكز عليها أصحاب النزعة الأولى في تفضيل العرب، فيقولون: إن الإسلام ليس دينًا عربيًّا أنزله اللَّه لهداية العرب وحدهم، بل هو دين عام للناس أجمعين، ودعوته موجهة لكل الأجناس، وليس للعرب ما يمتازون به عن غيرهم. وما افتخروا به من سجايا كريمة وشيم نبيلة كالكرم والوفاء والنجدة وغيرها، ليست قصرًا عليهم بل يشاركهم فيها سائر الأمم. وقد أطلقت الشعوبية على هذه النزعة الأخيرة حتى غدت مرادفة لها، فصنف العجم كتبًا في مثالب العرب ومناقب العجم، بل تجرأ الشعوبيون فوضعوا الأحاديث ونسبوها زورًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، إثباتًا لفضيلة العجم. ثانيًا: الزندقة: لعل من الأسباب التي أدت إلى شيوع الزندقة وقوة تيارها في العصر العباسي: نشاط الحركة العلمية العقلية في هذا العصر؛ إذ لم يقتصر البحث على العلوم الدِّينية النقلية من جمع أحاديث وتفسير للقرآن، واستنباط للأحكام الشرعية، بل تعداها إلى دراسة المنطق والكلام والفلسفة وغيرها من العلوم التي تثير في النفس والعقل من الحيرة والشك أكثر مما تثبت فيهما من الإيمان واليقين. وكذلك فإن كثيرًا من الفرس ساءهم ألا يحققوا ما يطمحون إليه من مطامع، ورأوا أن الإسلام ما دام قويًا، فلن يتحقق لهم ما يرنون إليه؛ ولذلك عملوا على هدم الإسلام من داخله عن طريق نشر المبادئ المانوية والزرادشتية والمزدكية، فكان ذلك عاملاً مباشرًا أسهم في ذيوع الزندقة وانتشار أفكارها الهدامة. وتعني الزندقة اعتناق الإسلام ظاهرًا، واعتناق أديان الفرس باطنًا، وخاصة مذهب ماني، وإنما أظهروا الإسلام رغبة في إفساده وهدم تعاليمه، أو لنيل الجاه والظفر بالسلطان. واجتهد الخلفاء العباسيون في تعقب الزنادقة ومحاكمتهم، كما شجعوا المتكلمين وأهل الجدل على تأليف الكتب للرد على الزنادقة، وأمر الخلفاء بمناظرتهم واستتابتهم، فإن تابوا وإلا قتلوا.

ثالثا: حياة الترف واللهو:

وأوصى الخليفة المهدي ابنه وولي عهده موسى الهادي - إذا آل إليه أمر الخلافة من بعده- بتعقبهم والقضاء عليهم. واستحدث هارون الرشيد وظيفة جديدة سمى صاحبها بـ " صاحب الزنادقة " مهمته امتحان كل من يتهم بالزندقة ومحاكمته إن ثبتت عليه التهمة. وذكر الطبري والمسعودي أن المأمون بلغه خبر عشرة من الزنادقة في البصرة، فبعث إليهم، وامتحنهم واحدًا واحدًا، وأظهر لهم صورة ماني، وأمرهم أن يتفلوا عليها ويبرءوا منها، فلما أبوا أمر بهم فقتلوا. وثمة نزعة إيمانية صادقة ظهرت كردِّ فعل لنزعة الإلحاد والزندقة، حيث كثر العلماء المؤمنون الذين وقفوا حياتهم على خدمة الدِّين، والتمسك بآدابه ومبادئه. وفي الحق أن هذه النزعة الإيمانية كانت هي الغالبة على المجتمع العباسي؛ إذ كان الزنادقة قلة إذا قيسوا بالمؤمنين الأتقياء. ثالثًا: حياة الترف واللهو: تدفقت الثروة وعم الرخاء في الدولة العباسية، فانغمس كثير من الخلفاء والأمراء في حياة الترف والمجون، بل أصبح الترف سمة امتازت بها حياة كثير من الناس في هذا العصر، وقد تجلت مظاهر الترف واللهو في عدة أمور أبرزها: أ - القصور المنيفة التي شيدت على أحسن طراز، فقد كانت قصور الأمراء والخلفاء مضرب الأمثال في رونقها وبهائها، وفخامة بنائها واتساعها، والحدائق التي تحيط بها. ب - شاع الغناء في هذا العصر، وكثر المغنون، حيث حفلت قصور الأمراء بالمغنين من الجواري، واشتهر من المغنين عدد غير قليل لعل أبرزهم إبراهيم بن إسحاق الموصلي. وحذا الأمراء والوزارء حذو خلفاء الدولة العباسية في الانغماس في حياة اللهو والترف، وقد أوجدت هذه الحالة جماعة متطوعة تنكر على الفساق ببغداد، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأثمرت حياة اللهو كذلك حياة مقابلة لها هي حياة الزهد التي سلكها بعض الناس. * * *

الفصل السادس الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي

الفصل السادس الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي كان الإسلام محور الحركة العلمية وأساسها الأول حتى أواخر العصر الأموي، فالعلوم التي يتدارسها المسلمون ويعنون بتدوينها وجمع مسائلها علوم دينية مادتها مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وغايتها خدمة الإسلام ودعم أصوله وأركانه. فمبنى الفقه على الكتاب والسنة الصحيحة، ومدار الحديث على أقوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله المأثورة عنه، وأساس التاريخ سيرة النبي وغزواته. أما العلوم الدنيوية: كالطب والكيمياء فحظ المسلمين من الاشتغال بها قليل، واهتمامهم بها ضعيف، وأكثر من برعوا فيها واهتموا بها من غير المسلمين. أما الدولة العباسية فمعلوم لكل أحد أن الحركة العلمية نشطت في عصرها نشاطًا كبيرًا، وتنازعت العلوم الدِّينية والعلوم العقلية اهتمام المسلمين وعنايتهم، فكثر التدوين والتصنيف ورتبت مسائل العلوم، وميِّز كل علم عن غيره واستقل بموضوعه ومنهجه، واستحدثت علوم جديدة كعلم التفسير والحديث وأصول الفقه، وعني المسلمون بترجمة العلوم العقلية كالفلسفة والمنطق والرياضيات والطبيعة والكيمياء عن اليونان والهند. فلا غرو أن أثرى هذا النشاط الحركة العلمية في عصر الدولة العباسية -عصر الماتريدي- ثراء عظيمًا، حتى عد هذا العصر بحق العصر الذهبي للحضارة الإسلامية القائمة على العلم الدِّيني والدنيوي على سواء. ويمكننا أن نتلمَّس ملامح الحركة العلمية ونقف على آثارها ونتائجها ببيان أهم العلوم التي دونت في القرنين الثالث والرابع الهجريين. العلوم المدونة في القرنين الثالث والرابع الهجريين وعُني المسلمون منذ مطلع القرن الثالث الهجري بتدوين العلوم وجمع مسائلها وترتيب أبوابها، واتسعت دائرة اهتمامهم العلمي لتشمل إلى جانب العلوم الدِّينية العلوم العقلية، وفيما يلي نعرض بإيجاز لأبرز هذه العلوم: 1 - علم القراءات: القراءات: جمع قراءة، وهي في اللغة: مصدر سماعي لقرأ، وفي الاصطلاح: مذهب

يذهب إلى إمام من أئمة القراء مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئتها. ونستطيع أن نقول: إن الدافع وراء اهتمام المسلمين بهذا العلم والتصنيف فيه خشية جماعة القراء من أن تتأثر قراءة القرآن باللكنة الأعجمية لا سيما بعد دخول الفرس في الإسلام أفواجًا، ومن ثم اهتم هَؤُلَاءِ بضبط القراءات القرآنية وجعلوها علمًا كسائر العلوم. وبرز في علم القراءات رجال كثيرون، من أشهرهم: 1 - عبد اللَّه بن عامر بدمشق، توفي 118 هـ. 2 - عبد اللَّه بن كثير بمكة (توفي: 120 هـ). 3 - أبو بكر عاصم بن أبي النجود بالكوفة، توفي 128 هـ. 4 - حمزة بن حبيب الزيات بالكوفة، توفي 156 هـ. 5 - أبو عمر بن العلاء المازني بالبصرة (توفي: 164 هـ). 6 - نافع بن أبي نافع بالمدينة (ت: 167 هـ)، وأخذ عنه أبو سعيد عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش (توفي 197 هـ)، وهو الذي يقرأ له أهل المغرب. 7 - أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي بالكوفة، توفي 189 هـ. وهَؤُلَاءِ هم المعروفون بالقراء السبعة الذين فاقوا غيرهم في الإتقان والضبط، ويليهم في الشهرة: 8 - أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، توفي 130 هـ. 9 - يعقوب بن إسحاق الحضرمي، توفي 205 هـ. 10 - خلف بن هشام البزار توفي 229 هـ. وقراءات ما عدا هَؤُلَاءِ العشرة قراءات شاذة. والحق أن أول من تتبع وجوه القراءات، وتقصى أنواع الشاذ منها، وبحث أسانيدها وميز فيها الصحيح من الموضوع هارون بن موسى القاري، (ت: 179 هـ). أما أول من صنف في القراءات فهو أبو عبيد القاسم بن سلام (ت: 244 هـ). وخليق بنا أن نسجل في هذا المقام الملاحظة التالية، وهي أن أكثر القراء وأشهرهم وأبرز من دونوا في علم القراءات قد ظهروا في العصر العباسي، وفي الفترة التاريخية التي

نحن بصددها تحديدًا، عصر الماتريدي. ولا ريب أن تدوين القراءات وتأصيل مسائلها عاملٌ مهم أورث حركة التشريع الإسلامي شيئًا غير قليل من القوة والازدهار. 2 - علم التفسير: سيأتي بمشيئة اللَّه تعالى الكلام عن بيان مفهوم علم التفسير عند الحديث عن التفسير ومناهج المفسرين وكذلك سيأتي الحديث عن نشأة علم التفسير وتطوره، إلا أننا نقول هاهنا في عجالة سريعة إن علم التفسير نشأ في أول أمره فرعًا من فروع الحديث، حيث كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يفسر القرآن لأصحابه ويبين لهم معانيه الخافية عنهم، ثم عني الصحابة من بعده بتفسير القرآن، وأُثِرَتْ عنهم آراء كثيرة في التفسير وأقوال كانت أساسًا صالحًا قامت عليه المدارس التفسيرية فيما بعد. وقد تطور علم التفسير في عصر التابعين، فجاءت طبقة جمعت الأقوال التفسيرية المأثورة عن الصحابة والتابعين، شأنهم في ذلك شأن المحدثين، كما رحل بعض العلماء لجمع روايات التفسير من الأمصار المختلفة. ولم يلبث علم التفسير أن انفصل عن علم الحديث، في العصر العباسي، وقام المفسرون بترتيب الروايات التفسيرية وفق ترتيب السور والآيات، ويذكر ابن النديم: أن عمر بن بكير كان من أصحاب الفراء صاحب كتاب " معاني القرآن " المتوفى سنة 207 هـ، وكان منقطعًا إلى الحسن بن سهل، فكتب إلى الفراء أن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولاً أو تجعل في ذلك كتابًا أرجع إليه، فقام الفراء بذلك فوضع كتابًا في التفسير. ثم وضع ابن جرير الطبري بعد ذلك تفسيرًا، عمادُه الروايات التفسيرية المأثورة عن الصحابة والتابعين، بيد أنه أضاف إلى تفسيره شيئًا من التفسير بالرأي. فمنذ ذلك التاريخ غدا القرآن الكريم معينًا خصبًا لكثير من العلوم، فعلماء النحو اعتمدوا عليه في استنباط القواعد النحوية، وألفوا كتبًا في إعراب المشكل من آياته، وعني أهل اللغة بتفسير مفرداته وشرح معانيه، كما عَوَّل عليه الفقهاء في بناء آرائهم وتأسيس مذاهبهم الفقهية، وصنفت كتب في تفسير آيات الأحكام، وأخذ العلماء يفسرون القرآن،

كل بما يتفق مع رأيه، حتى علماء الكلام أَوَّلُوا بعض الصفات بما يتفق مع آرائهم. 3 - الحديث وعلومه: علم الحديث هو علم يشتمل على أقوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأفعاله وتقريراته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها. ولم يدون الحديث النبوي الشريف تدوينًا منظمًا إلا منذ مطلع القرن الثاني الهجري وقبل هذا التاريخ كان الصحابة يكتبون منه ما استقامت لهم سبل الكتابة وتيسرت أسبابها، غير أن تدوينهم كان تدوينًا خلا من النظام والترتيب. ومن أشهر من كتب الحديث عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، حتى قال فيه أبو هريرة: " ما من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أحد أكثر مني حديثًا إلا ما كان من عبد اللَّه بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب ". ثم رأى عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يجمع حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جمعًا منظمًا ويدونه تدوينًا مستوعبًا، فكتب إلى عامله على المدينة أبي بكر مُحَمَّد بن عمرو بن حزم: " أن انظر ما كان من حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسننه فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ". ومنذ ذلك التاريخ بدأت عناية المسلمين بتدوين الحديث تقوى وتشتد، وبرز في ميدان جمع الأحاديث أسماء كثيرة نذكرها بكل إجلال وتقدير، وتوزع هَؤُلَاءِ على الأمصار الإسلامية المختلفة: ففي مكة عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المتوفى سنة 150 هـ. وفي المدينة مُحَمَّد بن إسحاق المتوفى سنة 151 هـ، ومالك بن أنس المتوفى سنة 179 هـ. وبالبصرة الربيع بن صبيح المتوفى سنة 160 هـ وحماد بن سلمة المتوفى سنة 176 هـ. وفي الكوفة سفيان الثوري المتوفى سنة 161 هـ. وفي الشام الأوزاعي المتوفى سنة 157 هـ.

وفي اليمن معمر بن راشد المتوفى سنة 153 هـ. وفي خراسان عبد اللَّه بن المبارك المتوفى سنة 181 هـ. وبمصر الليث بن سعد المتوفى سنة 175 هـ. وكانت طريقتهم في التدوين تعتمد على وحدة الموضوع في أبواب منفصلة يحتوي كل باب على الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد، فجمعت أحاديث الصلاة في باب، والزكاة في باب آخر، وهكذا. ومن أشهر هذه المصنفات موطأ الإمام مالك. ثم جاءت طبقة أخرى من علماء الحديث انتهجت نهجًا آخر، فكتبت السنة على طريقة المسانيد، وأساسها وحدة الراوي وإن اختلف الموضوع، ومن أشهر المسانيد مسند الإمام أحمد. وفي القرن الثالث الهجري جاءت طبقة أخرى، وجدت أمامها ثروة عظيمة من الأحاديث، فاتبعت أسلوب الانتقاء والاختيار، فألفت ما عرف بالصحاح، وأفردت الحديث عن غيره من فتاوى الصحابة وأقوالهم، وفي طليعة كتب الصحاح: صحيح البخاري المتوفى سنة 256 هـ، وصحيح مسلم المتوفي سنة 261 هـ، وحذا حذو البخاري ومسلم الإمام أبو داود المتوفى سنة 275 هـ، وأبو عيسى الترمذي المتوفى سنة 279 هـ، وابن ماجه المتوفى سنة 303 هـ وغيرهم. ووجد بجانب المحدثين فريق من العلماء توفروا على نقد رواة الحديث، وجرح بعضهم وتعديل البعض الآخر، وعرفوا بعلماء الجرح والتعديل. قال الذهبي: أول من زكى وجرح من التابعين -وإن كان قد وقع ذلك قبلهم- الشعبي وابن سيرين؛ حفظ عنهما توثيق أناس وتضعيف آخرين. وذلك لأن الصحابة كانوا عدولا، وكبار التابعين الآخذين عنهم كانوا ثقات، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين ضعيف إلا الواحد بعد الواحد، كالحارث الأعور، والمختار الكذاب. فلما مضى القرن الأول، وجاء القرن الثاني، كان من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء الذين كان ضعفهم من قبل تحملهم وضبطهم، فتراهم يرفعون الموقوف، ويرسلون كثيرا، ولهم غلط كأبي هارون العبدي.

فلما كان آخر عصر التابعين -وهو حدود الخمسين ومائة- تكلم في التوثيق والتضعيف أئمة. وقال صالح جزرة: أول من تكلم في الرجال شعبة، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان، ثم أحمد وابن معين. قال السيوطي: يعني أنه أول من تصدى لذلك، وإلا فقد سبقهم من الصحابة والتابعين من علمت. وألف في الجرح والتعديل أئمة في الحديث. منهم من ألف في الضعاف كالبخاري والنسائي والعقيلي والدارقطني وغيرهم. ومنهم من ألف في الثقات كابن حبان. ومنهم من ألف فيهما كالبخاري وابن أبي خيثمة، وابن أبي حاتم. ومن أشهر علماء الجرح والتعديل: يَحْيَى بن سعيد القطان المتوفى سنة 189 هـ، وعبد الرحمن بن مهدي المتوفى سنة 198 هـ، ويحيى بن معين المتوفى سنة 233 هـ، وأحمد بن حنبل المتوفى 241 هـ. 4 - علم الفقه: علم الفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية. ظهرت فكرة كتابة بعض الأحكام الفقهية منذ عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعصر الخلافة الراشدة، غير أننا لا نستطيع أن نقول: إن علم الفقه ظهر في هذه المرحلة من تاريخ الإسلام؛ لأن هذه الكتابات -وإن سلمنا بوجودها- لا تمثل ظاهرة عامة جديرة بأن تؤسس علما مهما كعلم الفقه؛ له أصوله وقواعده، وغاية الأمر أن هذه الكتابات دليل على أن مسائل علم الفقه شغلت المسلمين منذ طور مبكر، وأنها كذلك إرهاص مؤذن لنشأة علم الفقه في مرحلة تالية، وإن كانت هي بذاتها لا تمثل علما ولا ترقى إلى رتبته، كما نفهم نحن مصطلح العلم من ضرورة أن يتاح له منهج في الدرس ومادة مجموعة ومسائل مرتبة وعلماء يتوفرون عليه. إن فكرة التدوين الفقهي المنظم وليدة القرن الثاني الهجري، حيث تدلنا المصادر

التاريخية على أن فقهاء المدينة قاموا بجمع فتاوى ابن عمر وعائشة وابن عَبَّاسٍ ومن بعدهم من كبار التابعين الذين ظهروا بالمدينة. وكذلك جمع فقهاء العراق فتاوى عبد اللَّه بن مسعود، وقضايا علي بن أبي طالب وفتاواه، وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة. وقد وضعت بعض المؤلفات الفقهية في هذا العصر، فقد ألف أبو حنيفة (الفقه الأكبر) وإبراهيم النخعي (فتاوى الشيوخ وآراؤهم)، وغيرهما. وكانت هذه المؤلفات تجمع بين الفقه والحديث. وهناك من ألف من الفقه مجردًا عن الحديث: كمُحَمَّد بن الحسن في كتبه الستة التي جمع فيها مسائل الأصول في مذهب إمامه أبي حنيفة وهي: المبسوط، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والزيادات، والسير الصغير، والسير الكبير، ومثل: المدونة التي رواها سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك. وبجانب هذين النوعين من التدوين وجد تدوين المسائل الفقهيهة مصحوبًا بأدلتها من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، مثل كتاب الأم الذي رواه الربيع عن الإمام الشافعي. واستمر الفقه في التطور والازدهار حتى أصبح علمًا قائمًا على سوقه. 5 - علم أصول الفقه: لم يكن استنباط الأحكام في زمن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصدر الإسلام بحاجة إلى أكثر من الرجوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في حيانه وإلى أصحابه بعد مماته، ولكن لما بعدت الشقة بين الناس والعهد النبوي احتاج المسلمون إلى وضع العلوم وتأسيس مناهجها، ومن هذه العلوم أصول الففه. وقد أخذ الإمام الشافعي على عاتقه مهمة جمع قواعد علم أصول الفقه المبثوثة في بطون الكتب، والموجودة في سنة النبي وآثار الصحابة، ومن قبل ذلك وبعده من القرآن الكريم. والسبب الذي دفع الشافعي إلى كتابة علم أصول الفقه هو ما ذكره ابن خلدون حينما

قال: " لما وجد -أي الشافعي- الخلاف والنزاع مستمرًا بين فقهاء الحجاز وفقهاء العراق، أو بين أهل الحديث وأهل الرأي، ووجد أن أهل الرأي على جانب من قوة البحث والنظر، وأنهم أصحاب حجاج ولسن، وأهل جدال وشغب، وأنهم قد أسرفوا في الطعن على أهل الحديث وأئمتهم، والحط من قدرهم وقيمتهم، والرد على رأيهم ومذهبهم، ووجد كذلك أن جمهرة المحدثين، وبخاصة من كان موجودًا في العراق منهم على شيء غير يسير من الخمول والكسل، وضعف البحث والنظر، وفساد الاستدلال والجدل، وأنهم غير قادرين -القدرة التامة- على الانتصار لمذاهبهم والدفاع عن آرائهم، والرد على خصومهم، والصمود في وجوههم؛ بسبب عدم الإدراك الصحيح لمباحث أصول الفقه، وسوء التمييز بين الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وما إلى ذلك من المباحث. لما وجد الأمر كذلك وأدرك حقيقة ما هنالك. . وضع مؤلفا جامعًا في أصول الفقه، يعين على فهم حقائقه، وإدراك دقائقه، ويكون القدرة على الاستدلال بأدلة الشرع، وبيان كيفية إثباتها ". وقد تتابع العلماء بعد الشافعي في تدوين مسائل هذا العلم، من هَؤُلَاءِ الإمام أحمد بن حنبل الذي ألف كتاب " الناسخ والمنسوخ ". 6 - تدوين علم النحو واللغة: كان لاتساع الفتوحات الإسلامية، ودخول الكثير من العجم في الإسلام، واختلاطهم بالعرب - الأثر البالغ على الملكة اللسانية العربية، فبدأ اللحن يتسرب إلى اللسان العربي، فخاف العلماء أن يتعرض القرآن الكريم للتحريف أو ينغلق فهمه على الناس، ومن ثم بادروا إلى وضع القواعد الضابطة للسان العربي من الانحراف وهو ما اصطلح على تسميته بـ " علم النحو ". وقيل: إن أبا الأسود الدؤلي هو أول من اشتغل بعلم النحو. وقيل: إنه تعلم أصوله عن الإمام علي، وأن سبب التفكير في وضعه هو تسرب اللحن إلى القرآن الكريم، ومن ثم، وضع علم النحو. وكانت مدرسة البصرة هي أولَى المدارس النحوية نشأة وأسبقها ظهورًا، تلتها مدرسة

الكوفة، وقد ألف تلاميذ المدرستين تآليف كثيرة، وتتابع الناس يكتبون في هذا العلم؛ حتى انتهى الأمر إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد، فهذب الصناعة، وكمل أبوابها، وأخذ عنه سيبويه، فكمل تفاريعها، واستكثر من أدلتها وشواهدها، ووضع فيها كتابه المشهور. وممن كتب في هذا الفن: الأصمعي، وأبو عبيدة، وأبو عمرو بن العلاء، وجميع من ذكرت من علماء البصرة، ومن أشهر علماء الكوفة الذين كتبوا في هذا الفن: الكسائي والفراء. وكما تسرب اللحن إلى تركيب الجملة تسرب أيضًا إلى الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضعه، ومن ثم وجدت الحاجة إلى معاجم تحفظ المفردات اللغوية، حتى لا تندرس، فيترتب على ذلك جهل بالقرآن والحديث. ولذلك شمر علماء اللغة عن سواعدهم، وبدءوا يجمعون الكلمات العربية، ويحددون معانيها، فرحلوا إلى البادية واستقوا اللغة من منابعها الأولى، كما أخذوا عن عرب البدو الذين وفدوا إلى الحضر، وكان من أهم مصادرهم: القرآن الكريم، والشعر العربي الجاهلي والإسلامي الموثوق به. وقد تم جمع اللغة على مراحل ثلاث: المرحلة الأولى: جمع المفردات كيفما اتفق. المرحلة الثانية: جُمعت فيها الكلمات المتقاربة نوعًا من التقارب، أو ما لها موضع واحد. المرحلة الثالثة: جمع المعاجم، وذلك في أواخر القرن الثاني الهجري حين وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي منهج كتاب العين الذي حصر فيه مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي، والثلاثي، والرباعي، والخماسي، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف عليه، واعتمد فيه على ترتيب المخارج، فبدأ بحروف الحلق ثم ما بعده حتى وصل إلى الحروف الشفوية، وجعل أحرُف العلة آخرًا، وبدأ من حروف الحلق بالعين؛ ولذلك سمى كتابه بـ " العين ".

وفي القرن الثالث الهجري انتشرت المعاجم الواسعة التي سار فيها أصحابها على طريقة الخليل بن أحمد من حيث ترتيب حروف المعجم على المخارج الصوتية والابتداء بحروف الحلق، ثم انتشرت المعاجم بعد ذلك في القرون التالية مصطنعة مناهج جديدة أكثر تيسيرًا، وموجود بين أيدينا الكثير منها الآن. 7 - الأدب: تطور الأدب كثيرًا في العصر العباسي، وبخاصة الشعر؛ حيث وجد شعراء مجددون في معاني القصيدة وديباجتها كأبي تمام؛ مما أدى إلى وجود نهضة أدبية وشعرية يمكن أن يقال عنها: إنها فاقت العصور السابقة. ولم ينل الأدب العناية في جمعه وتأليفه مثلما نالت اللغة، فقد كان جمع الأدب والشعر في العصور الإسلامية الأولى قائما على الانتقاء والاختيار لا الاستقصاء والشمولية؛ ولعل السبب في ذلك أنه لا يستطيع فرد أو أفراد أن يقوموا بذلك. وقد دون عدد من الكتب في الأدب ونقده في العصر العباسي؛ ككتابي أدب الكاتب، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والنوادر لأبي علي القالي، وتعتبر هذه الكتب أركانًا في الأدب وعلومه. 8 - التاريخ والجغرافيا: كان الاعتماد في التاريخ -في بادئ الأمر- على السماع، فكان العرب يتناقلون أخبارهم وسير أجدادهم شفويًّا، ولكن لما جاء القرن الثاني الهجري أخذ البحث في التاريخ وتدوينه يأخذ جانبًا من اهتمام العلماء، وانصرف اهتمام المؤرخين في أول الأمر إلى السيرة النبوية، فكتب ابن إسحاق سيرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكان ذلك في منتصف القرن الثاني الهجري، وفي أواخر هذا القرن وضع هشام بن مُحَمَّد الكلبي والواقدي كثيرًا من المصنفات والرسائل التاريخية شملت العصور المختلفة، ثم جاء ابن هشام أواخر هذا القرن وبداية القرن الثالث فكتب سيرته الشهيرة المتناقلة بين الناس. وفي القرن الثالث تطور التاريخ تطورًا كبيرًا، فوجدت المصنفات الكبيرة، واتسعت

مادته باتساع حوادث الدولة الإسلامية، فوجدت مؤلفات في الحوادث، ومؤلفات في الأنساب، ومؤلفات في تاريخ الأمم والملوك، ومؤلفات في تاريخ الأديان: كاليهودية، والنصرانية، ومؤلفات في التراجم. ومن أشهر المؤلفات في القرن الثالث: كتاب الطبقات الكبرى لمُحَمَّد بن سعد المتوفي سنة 230 هـ، وكتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة المتوفي سنة 276 هـ، وكتاب فتوح البلدان للبلازدي المتوفي سنة 279 هـ، وكتاب الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدِّينوري المتوفي سنة 282 هـ، وكتاب تاريخ الأمم والملوك للطبري المتوفي سنة 310 هـ. ومعنى هذا أن القرن الثالث الهجري شهد نهضة في علم التاريخ لم تشهدها القرون السابقة وربما القرون اللاحقة؛ حيث الاعتماد على هذه المصنفات والمؤلفات في الغالب الأعم. أما في مجال الجغرافيا فقد بدأ التدوين فيه متأخرًا عن التاريخ، ويعتبر أبو القاسم عبيد اللَّه بن خرداذبة الذي عاش في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، وهو فارسي الأصل - يعتبر من أقدم علماء الجغرافيا، وقد ألف كتاب: المسالك والممالك. ثم تلاه اليعقوبي المتوفي سنة 282 هـ، وألف في ذلك كتاب: البلدان. 9 - علم الطب: كان لاختلاط العرب بالعجم أثر في تنمية المعارف، وبخاصة بعد عملية الترجمة التي ازدهرت في عصر الخليفة المأمون، ومن العلوم التي نقلها المسلمون عن الأمم الأخرى بفضل حركة الترجمة، علم الطب، فنبغ عدد غير قليل من الأطباء في عصر الرشيد، والمأمون، والمعتصم، وبخاصة عصر الواثق، وكانت مهنة الطلب يزاولها في بداية الأمر غير المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم، فاشتهر عصر الرشيد بختيشوع المتوفى سنة 244 هـ، وفي عهد المعتصم يحيى بن ماسويه المتوفى سنة 242 هـ. وفي عهد الواثق بدأ التأليف الفعلي لعلم الطب، فقد طلب من حنين بن إسحاق المتوفي سنة 270 هـ وضع كتاب في الطب، فألف كتابًا ذكر فيه الفرق بين الغذاء والدواء وغيرها من المسائل الطبية. ثم بدأت المصنفات تترى بعد ذلك، وبنيت المستشفيات في بغداد وغيرها.

الباب الثاني ترجمة الماتريدي

الباب الثاني ترجمة الماتريدي ويشتمل على عدة فصول: الفصل الأول: اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته. الفصل الثاني: البيئة التي نشأ فيها الماتريدي. الفصل الثالث: شيوخه وأقرانه وتلاميذه. الفصل الرابع: قيمة الماتريدي العلمية.

الفصل الأول اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته

الفصل الأول اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته اسمه وكنيته: الماتريدي هو: مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود بن مُحَمَّد أبو منصور الماتريدي. وأصل نسبته: ماتريت أو ماتريد وهي محلة من سمرقند، وأحيانًا تضاف نسبته إلى سمرقند، فيقال: أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود الماتريدي السمرقندي، وكنيته: أبو منصور. ألقابه: لُقِّبَ الماتريدي بألقاب كثيرة نذكر منها: " إمام الهدى "، و " إمام المتكلمين "، و " مصحح عقائد المسلمين "، و " رئيس أهل السنة "، وهي ألقاب تومئ إلى ما له من مكانة مرموقة في نفوس مؤرخيه على قلتهم، كما تدل على منزلته العلمية الممتازة بين أصحابه. نسبه: قيل: إن نسب الماتريدي يرجع إلى أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، وهذه النسبة تشريف له، ودليل على علو قدر أسرته وشرف نسبه؛ إذ إنها تنتهى إلى أبي أيوب الأنصاري، وهو الذي نزل عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين هاجر إلى المدينة. لهذا يذكره البياضي فيقول: الإمام أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود الماتريدي الأنصاري. وترجح هذه النسبة لدينا؛ لأن أحد شيوخ الماتريدي وهو أبو نصر العياضي من نسل ابن عبادة الأنصاري، وكذلك جاء في كتاب السمعاني أن أم القاضي الإمام أبي الحسن

علي بن الحسن وهو من سلالة أبي أيوب الأنصاري كانت بنت الإمام أبي منصور الماتريدي، ولا شك أن شرفاء العرب كانوا يراعون الكفاءة في الزواج في البلاد النائية. والحقيقة أن كتب التراجم لا تعطينا شيئًا عن أسرة الماتريدي غير ما ذكره الدكتور خليف في مقدمة تحقيق كتاب التوحيد للماتريدي، فقد ذكر أن الأستاذ " تربتون " ذهب إلى أن مؤلف كتاب " نقض المبتدعة عن السواد الأعظم على طريقة الإمام أبي حنيفة " - هو أبو القاسم إسحاق بن مُحَمَّد الماتريدي (342 هـ) وربما يكون شقيق الماتريدي، وأنه تتلمذ على يد الإمام المانريدي، ولا يستبعد الدكتور خليف أن يكون تتلمذ على يده، لكنه يستبعد أن يكون شقيقه، ويرى أن المقصود هو القاضي أبو القاسم إسحاق بن مُحَمَّد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي. ولعل الذي ذهب إليه الدكتور خليف هو الأقرب إلى الصواب؛ إذ إن المؤرخين لا يذكرون شيئًا عن هذه القرابة، ولا يعني مجرد الاشتراك في النسبة (الماتريدي) أنهما شقيقان؛ لأنها نسبة إلى الموطن وليست إلى العائلة أو القبيلة، ولقد عُرِفَ أكثر من شخص بالماتريدي، مثل القاضي الماتريدي الحسين الذي كان رفيقًا لأبي شجاع وإليه انتهت رئاسة أصحاب الإمام. إذن فالباحث عن أسرة الماتريدي يجد صعوبة بالغة، وقد لا يهتدي إلى شيء ذي قيمة؛ نظرًا لإهمال المصادر التاريخية لذلك وسكوتها عنه. مولده: لم تذكر المصادر التاريخية شيئًا نطمئن إليه عن تاريخ مولد الماتريدي، ولكن نستطيع أن نتلمس مولده في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري، وعلى وجه التحديد في عهد المتوكل (232 - 247 هـ)، وبهذا يكون مولده متقدمًا على مولد أبي الحسن الأشعري ببضع وعشرين سنة على الأقل؛ إذ ولد الأشعري سنة 260 هـ، وقيل: سنة 270 هـ. ويرجح كون مولده في عهد المتوكل أن هناك شيخين من شيوخه هما: مُحَمَّد بن

مقاتل الرازي، ونصير بن يحيى البلخي، مات الأول منهما سنة 248 هـ، وتوفي الثاني سنة 268 هـ؛ أضف إلى هذا أن من أقرانه من توفي سنة 268 هـ وهو مُحَمَّد بن عبد اللَّه بن المغيرة بن عمرو الأزدي. ويعني هذا أن الماتريدي قد ولد قبل عام 248 هـ بوقت يسمح له بتلقي العلم عن شيخه الذي مات في تلك السنة. ومن خلال ما سبق يمكننا القول: إن الماتريدي قد يكون ولد في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري، أي ما بين سنة 233 هـ وحتى سنة 240 هـ؛ لأنه كما سبق أن قررنا منذ قليل -اعتمادًا على رواية وفيات الأعيان- أنه ولد قبل الأشعري ببضع وعشرين سنة، وقيل في إحدى الروايات: إن الأشعري ولد سنة 260 هـ، وبضم هذه الرواية إلى الرواية الأخرى التي ذكرت أن وفاة شيخه مُحَمَّد بن مقاتل كانت سنة 248 هـ يتبين لنا صحة ما ذهبنا إليه، فقد يكون سنه على أقصى تقدير يوم وفاة شيخه خمسة عشر عامًا، وعلى أدنى تقدير ثماني سنوات، ولا يعقل أن يكون الماتريدي قد بدأ في تلقي العلم قبل الثامنة من عمره؛ لأنه وقتها يكون صغيرًا جدَّا، وعلى فرض صحة ذلك فإنه لا يكون على أيدي الشيوخ الكبار أمثال الشيخ مُحَمَّد بن مقاتل، بل يكون على أيدي شيوخ صغار؛ حيث يبدأ الطفل في حفظ القرآن الكريم أولاً، وشيئًا من الحديث والشعر العربي، وعلى أقصى تقدير بعض مبادئ العلوم. وفاة الماتريدي وضريحه: اتفقت معظم كتب التراجم على أن الماتريدي توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بعد الهجرة، بينما ذكر صاحب كشف الظنون أنه توفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، ويقطع بهذا بعض المؤرخين المحدثين، أما طاش كبرى زاده فيذكر أنه مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، ولكن الصحيح المشهور هو الأول وهو ما أجمع عليه أصحاب الطبقات، وهو سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.

الفصل الثاني البيئة التي نشأ فيها الماتريدي

الفصل الثاني البيئة التي نشأ فيها الماتريدي عرفنا في الفصل السابق أن الماتريدي قد يكون ولد في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، ومعنى هذا أن الماتريدي عاش في الفترة ما بين أواخر النصف الأول من القرن الثالث والنصف الأول من القرن الرابع، وكان ذلك في مدينة سمرقند التي تقع في إطار الدولة السامانية، والتي أشرنا إلى طرف من تاريخها في الفصل الثالث من الباب الأول، وقد رأينا أن نتمم ذلك بهذه الدراسة الموجزة لمدينة سمرقند التي نشأ فيها الماتريدي. تاريخ سمرقند: وسمرقند -بفتح السين والميم- ويقال لها: سمران: بلد معروف مشهور، قيل: إنه من أبنية ذي القرنين بما وراء النهر. قال أبو عون: سمرقند في الإقليم الرابع، طولها تسع وثمانون درجة ونصف، وعرضها ست وثلاثون درجة ونصف. وقال الأزهري: بناها شمر أبو كرب، فسميت شمر كنت، فعربت فقيل: سمرقند. وقيل: إن سمرقند من بناء الإسكندر، واستدارة حائطها اثنا عشر فرسخًا، وفيها بساتين ومزارع وأرجاء، ولها اثنا عشر بابًا، من الباب إلى الباب فرسخ، وعلى السور آزاج، وأبرجة للحرب، والأبواب الاثنا عشر من حديد، وبين كل بابين منزل للنواب، فإذا جزت المزارع صرت إلى الربض، وفيه أبنية وأسواق. صفة سمرقند: وأيًّا من كان الذي بني مدينة سمرقند، فإنها مدينة عظيمة، من أعظم مدن أوزبكستان في الاتحاد السوفيتي سابقًا، وهي بلد ثري جليل عتيق، ومصر بهي رشيق، رضي كثير الرقيق، وماء غزير بنهر عميق، بناء قوي سني وثيق، ودرس كثير لأهل الفريق، وعيش هنيء إليها الطريق، وحمل المتاع من كل فج عميق، وعلوم كثيرة وصدر نفيق، وخيل ورجال ومال دقيق، ذو رساتيق جليلة ومدن نفيسة وأشجار وأنهار، وتجار، في الصيف

جنة، أهل جماعة وسنة، ومعروف وصدقة، وحزم وهمة، غير أن في أهلها وهوائها بردًا، جفاة مع الغرباء، بلية في الشتاء، يشغبون على الأمراء، وفيهم نفخ وعجب ومراء، جيدة الجواري ردية الغلمان. وليس غريبًا أن تكون سمرقند بهذا الوصف، فقد ذكر أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن مدينة خلف نهر جيحون تدعى سمرقند، ثم قال: لا تقولوا: سمرقند، ولكن قولوا: المدينة المحفوظة، فقال أناس: يا أبا حمزة ما حفظها؟ فقال: أخبرني حبيبي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن مدينة بخراسان خلف النهر تدعى المحفوظة، لها أبواب على كل باب منها خمسة آلاف ملك يحفظونها يسبحون ويهللون، وفوق المدينة خمسة آلاف ملك يبسطون أجنحتهم على أن يحفظوا أهلها، ومن فوقهم ملك له ألف رأس وألف فم وألف لسان ينادي: يا دائم، يا دائم، يا اللَّه يا صمد، احفظ هذه المدينة، وخلف المدينة روضة من رياض الجنة وخارج المدينة ماء حلو عذب، من شرب منه شرب من ماء الجنة، ومن اغتسل فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وخارج المدينة على ثلاث فراسخ ملائكة يطوفون يحرسون رساتيقها، ويدعون اللَّه بالذكر لهم، وخلف هَؤُلَاءِ الملائكة واد فيه حيات وحية تخرج على صفة الآدميين، تنادي يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، ارحم هذه المدينة المحفوظة، ومن تعبد فيها ليلة تقبل اللَّه منه عبادة سبعين سنة، ومن صام فيها يومًا فكأنما صام الدهر، ومن أطعم فيها مسكينًا لا يدخل منزله فقر أبدًا، ومن مات في هذه المدينة فكأنما مات في السماء السابعة ويحشر يوم القيامة مع الملائكة في الجنة. وزاد حذيفة بن اليمان في رواية: ومن خلفها قرية يقال لها: قطوان يبعث منها سبعون ألف شهيد كل شهيد منهم في سبعين من أهل بيته. وهذا الحديث في كتاب الأفانين للسمعاني، بيد أني لم أعثر له على إسناد ولم أجده في كتب الحديث المعتمدة. وللحق فقد كثر الواصفون لسمرقند حتى لقد استهوت الشعراء واستحفزت قريحتهم، منهم أحد ظرفاء العراق الذي كتب: وليس اختياري سمرقند محلة ... ودار مقام لا اختيار ولا رضا

ولكن قلبي حلَّ فيها فعاقني ... وأقعدني بالصغر عن فسحة الفضا وإني لممن يرقب الدهر راجيًا ... ليوم سرور غير مغرى بما مضى وقال البستي: للناس في أخراهم جنة ... وجنة الدنيا سمرقند يا من يسوي أرض بلخ بها ... هل يستوي الحنظل والقند دخول الإسلام سمرقند: وأول من دخل سمرقند من المسلمين وفتحها هو سعيد بن عثمان عندما ولي خراسان من جهة معاوية سنة خمس وخمسين من الهجرة، فقد عبر النهر ونزل عليها محاصرًا، لكنه تركها، ومن ثم قال يزيد بن مفرغ يمدح سعيد بن عثمان وكان قد فتحها: لهفي على الأمر الذي ... كانت عواقبه الندامه تركي سعيدًا ذا الندى ... والبيت ترفعه الدعامه فتحت سمرقند له ... وبنى بعرصتها خيامه وتبعت عبد بني علا ... ج تلك أشراط القيامه وفي سنة سبع وثمانين من الهجرة عبر قتيبة بن مسلم الباهلي النهر وغزا بخارى والشاش ونزل على سمرقند، وهي غزوته الأولى، ثم غزا ما وراء النهر عدة غزوات في سنين سبع، وصالح أهلها على أن له ما في بيوت النيران وحلية الأصنام، فأخرجت إليه الأصنام وأمر بتحريقها، فقال سدنتها: إن فيها أصنامًا من أحرقها هلك، فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، وأخذ شعلة نار وأحرقها، فاضطرمت، فوجد بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب خمسين ألف مثقال. ويمكن أن نقول: إن الماتريدي عاش في عصر الدولة السامانية التي وليت سمرقند ما بين 261 - 389 هـ، وكان ملوكها أحسن الملوك سيرة وإجلالاً للعلم وأهله كما أشرنا من قبل. لقد نشأ الماتريدي في هذه المدينة التي تتمتع بخصائص ومميزات، سواء من ناحية طبيعتها، أو أهلها، أو حتى حكامها، وهذه أمور تساعد على تحصيل العلم والبروز فيه،

وقد استفاد الماتريدي من مميزات نشأته في هذه البيئة فبرز في علوم شتى، أهمها: العقيدة، والتفسير فكان واحد عصره إمام دهره. موقع سمرقند الجغرافي وحدودها: تقع سمرقند في القارة الآسيوية، وكانت عاصمة لبلاد الصغد فيما وراء النهر، وتقع خلف نهر جيحون على الضَّفة الجنوبية منه، وتقع بخارى على الضفاف السفلى من هذا النهر، ويتبع سمرقند مدن: كرمانة، ودبوسية، وأشروسنة، والشاس، وتخسانجكث. ولها حصن استدارة حائطه اثنا عشر فرسخًا في أعلاه أبرجة للحرب، وكان لها أربعة أبواب: باب مما يلي المشرق يعرف بباب الصين، مرتفع من جهة الأرض، ينزل إليه بدرج مطل على وادي الصغد، وباب مما يلي المغرب ويعرف بباب النوبهار، وباب مما يلي الشمال يعرف بباب بخارى، وباب مما يلي الجنوب يعرف بباب كش. سمرقند إداريًّا: خضعت سمرقند بعد الفتح الإسلامي لحكم الدولة الأموية، ولما سقطت الدولة الأموية صارت إلى الدولة العباسية، حتى جاء عصر الدويلات، فتبادلت عليها ممالك عدة، حتى خضعت لحكم السلاجقة كسائر بلاد ما وراء النهر، ثم خضعت للمغول حتى أجلتها الروس بعد غزوها عام 1875 م، فأصبحت خاضعة من الناحية الإدارية للاتحاد السوفيتي سابقًا، وهي الآن أصبحت تابعة لجمهورية أوزبكستان. الحركة الثقافية في سمرقند: تمتعت سمرقند بمكانة علمية وثقافية مرموقة، فقد خرج منها علماء أفذاذ في تاريخ الإسلام، كانت لهم بصمتهم الواضحة في الفكر الإسلامي، بل والإنساني، من أمثال: البخاري، ومسلم، وأبي زيد الدبوسي، وآل البزدوي، والكاساني، وعبد اللَّه النسفي، وأبي الحسن الكرخي، والجصاص الرازي، وأبي بكر الشاشي وغيرهم من قادة الفكر الإسلامي، ممن لا يتسع المقام لذكرهم. هذه هي البيئة التي نشأ فيها الماتريدي، وهي بيئة -من غير شك- تساعد على مدارسة العلم وتحصيله والنبوغ فيه، ولقد كان لها أكبر الأثر في نبوغ صاحبنا الماتريدي.

الفصل الثالث شيوخه وتلاميذه وأقرانه

الفصل الثالث شيوخه وتلاميذه وأقرانه أولاً: شيوخه: إن المصادر التي تحدثت عن هذا الإمام في تلقيه للعلوم والمعارف إنما تحدثت عن الصلة القوية بمدرسة الرأي، تلك المدرسة التي تتصل حلقاتها وتأثرها بالإمام المبجل أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التيمي الكوفي المولود سنة ثمانين في حياة بعض الصحابة، تلقى علومه على عطاء بن أبي رباح والشعبي والأعرج وابن دينار وخلق كثير، قال فيه الإمام الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، وقال علي بن عاصم: لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم، وتوفي شهيدًا سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة. ولقد تتلمذ الشيخ أبو منصور الماتريدي على يد علماء كبار، ذكرت منهم كتب التراجم أربعة علماء يحتلون مكانة بارزة بين أعلام الفقه الحنفي وبين علماء زمانهم وهم: 1 - أبو نصر العياضي: أحمد بن العباس بن الحسين بن جبلة بن غالب بن جابر بن نوفل بن عياض بن يَحْيَى ابن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي الفقيه السمرقندي. قال في الجواهر المضيَّة عن أبي منصور الماتريدي: تخرج بأبي نصر العياضي، وأبو نصر العياضي ينتسب إلى الأنصار الذين ينتسب إليهم الماتريدي، وهو من أهل العلم والجهاد، لم يكن يضاهيه لعلمه وورعه وجلادته وشهامته أحد، استشهد وخَلَّفَ أربعين رجلاً من أصحابه كانوا من أقران الماتريدي، وله ولدان فقيهان فاضلان: أبو بكر مُحَمَّد، وأبو أحمد.

وذكره أبو المعين النسفي بـ في كتابه " التبصرة " قائلاً: كان أبو نصر العياضي يحرص أشد الحرص على جهاد أعداء اللَّه الكفرة، وكان من أشجع أهل زمانه وأربطهم جأشًا وأشدهم شكيمة، وكان في العلم بحرًا لا يدرك قعره، أما في الفروع والأصول فلا يدانيه غيره، ومن نظر في كتابه المصنف، في مسألة الصفات، وما أتى فيه من الدلائل على صحة قول أهل الحق وبطلان قول المعتزلة عرف تبحره في ذلك. وقال أبو القاسم الحكيم السمرقندي: ما أتى الفقيه أبا نصر العياضي أحد من أهل البدع والأهواء، وأولى الجدال والمراء في الدِّين بآية من القرآن يحتج بها عليه لمذهبه - إلا تلقاها أبونصر العياضي مبتدئًا بما يفحمه ويقطعه. وقد تفقه أبو نصر العياضي على الإمام أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني، تلميذ سليمان بن موسى الجوزجاني، وتفقه عليه جماعة منهم ولداه. 2 - أبو بكر أحمد الجوزجاني: الجوزجاني من رجال القرن الثالث الهجري، روى عنه أبو منصور الماتريدي، وقد تتلمذ أبو بكر أحمد الجوزجاني على أبي سليمان الجوزجاني، وكان في أنواع العلوم في الذروة العالية، ومن مصنفاته: (الفروق)، و (التمييز)، و (التوبة) وغيرها. 3 - مُحَمَّد بن مقاتل الرازي: مُحَمَّد بن مقاتل هو قاضي الري، رُويَ عن أبي مطيع، وقال الذهبي: إنه حدث عن وكيع وطبقته. وقيل: تفقه على أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي. 4 - نصير بن يَحْيَى البلخي: وقد تفقه على الإمام أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني، وأبي مطيع الحكم بن عبد اللَّه البلخي، وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي. ونظرة عامة إلى شيوخ الماتريدي تبين لنا أنهم جميعًا يرجعون في علمهم إلى الإمام أبي حنيفة، فأبو بكر الجوزجاني ونصير البلخي تفقها على الإمام سليمان بن موسى بن

سليمان الجوزجاني الذي تفقه بدوره على أبي يوسف ومُحَمَّد بن الحسن الشيباني تلميذي أبي حنيفة، كما أن مُحَمَّد بن مقاتل الرازي ونصيرًا البلخي قد تفقها على الإمامين: أبي مطيع الحكم بن عبد اللَّه البلخي، وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي اللذين تفقها على الإمام أبي حنيفة، وأخذ مُحَمَّد بن مقاتل أيضًا عن مُحَمَّد بن الحسن. ويدلنا ذلك على أن أساتذة الماتريدي وشيوخه يتبعون في الفقه مذهب أبي حنيفة، ومن ثم فهو يعتبر متخرجًا من مدرسة أبي حنيفة وعلى يد أعلام المذهب الحنفي، ولا أدل على ذلك من أنه كان يتبع المذهب الحنفي في الفقه، وبلغ فيه شأوًا عظيمًا بين أقرانه. وفيما يلي نبين في عجالة أبرز الصلات بين أبي حنيفة والماتريدي، وهي صلات علمية ومذهبية وكلامية. وأول هذه الصلات ما نراه عند الماتريدي من آراء أبي حنيفة الكلامية، فقد كان لأبي حنيفة آراء كلامية، فلقد روي عنه في علم الكلام موقفان: الأول: يروى أن أبا حنيفة نظر في علم الكلام في مبدأ طلبه للعلم، وبلغ في معرفة أصوله ومذاهبه مبلغًا عظيمًا حتى غدا يشار إليه بالبنان، فمضى عليه زمن يخاصم عنه ويناضل؛ حتى دخل البصرة؛ لأن أكثر الفرق بها، وأخذ ينازع تلك الفرق؛ لأنه كان يعد الكلام أرفع العلوم وأفضلها؛ لكونه في أصول الدِّين. أما الموقف الثاني: فيتمثل في انصراف الإمام أبي حنيفة عن الكلام وانشغاله بالفقه الذي ذاع صيته فيه، واشتهر به، ولقد ذكر عنه أنه نهى عن الخوض في علم الكلام والاشتغال به، وأنه ذكر أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يشتغلون بعلم الكلام مع أنهم عليه أقدر وبه أعرف، بل نهوا عنه أشد النهي، ولم يخوضوا إلا في الشرائع وأبواب الفقه وتعليم الناس، ومن ثم انصرف أبو حنيفة عن الكلام إلى الفقه. ويمكن القول: إن الماتريدي قد استفاد من آراء أبي حنيفة الكلامية التي دونها في رسائله: كالفقه الأكبر، والفقه الأوسط، والعالم والمتعلم، ورسالته إلى أبي مسلم، وهي رسائل صغيرة، اشتملت -وخاصة رسالة الفقه الأكبر- على بيان عقيدة أهل التوحيد، وما يصح الاعتقاد عليه، وبعض الأدلة لبعض القضايا الكلامية، ونفي الإرجاء.

ولا يغيب عنا في هذا المقام مناظرات أبي حنيفة مع المخالفين في العقيدة. ولما انصرف أبو حنيفة إلى الفقه استفاد منه الماتريدي أيضًا، غير أن هناك قضايا كلامية كثيرة نشبت ولم يبد أبو حنيفة فيها رأيًا أو جاءت بعد عصره، فخاض فيها الماتريدي ونقد آراء المخالفين، وعالج قضايا لم تكن موجودة مثل قضية المعرفة، كما كتب بحثًا تفصيليًّا عن الصفات وإثبات التوحيد، واستخدام العقل في ذلك، كذلك كان علم الكلام غير مقبول عند أهل السنة قبل الماتريدي، فجاء الماتريدي وأسس منه علمًا قائمًا على سوقه يلقى تأييدًا ويجد قبولاً لدى علماء أهل السنة. وخلاصة القول: إنه إذا كان يرجع لأبي حنيفة الفضل في القيام بأول محاولة لإقامة مذهب كلامي على اعتقاد أهل السنة، فإن للماتريدي فضل إقامة مذهب متكامل أيده بالحجة والبرهان للتعبير عن اعتقاد أهل السنة، ولكن يبقى الماتريدي منتسبًا إلى أبي حنيفة ومدرسته. ثانيًا: تلاميذه: قد تتلمذ على يد الشيخ أبي منصور الماتريدي كثيرون، صاروا شيوخًا وعلماء كبارًا، وأسهموا في نهضة الحياة الفكرية والثقافية والعلمية في العالم الإسلامي. ومن هَؤُلَاءِ الذين تخرجوا بأبي منصور الماتريدي: 1 - إسحاق بن مُحَمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن زيد، أبو القاسم القاضي الحكيم السمرقندي. قال عنه أبو سعد السمعاني: روى عن عبد اللَّه بن سهل الزاهد، وعمرو بن عاصم المروزي، وتفقه بأبي منصور الماتريدي. وقد تولى إسحاق قضاء سمرقند أيامًا طويلة، وحمدت سيرته، ولقب بـ " الحكيم "؛ لكثرة حكمته ومواعظه. ورُويَ عنه عبد الكريم بن مُحَمَّد الفقيه السمرقندي في جماعة. وقد توفي - رحمه اللَّه - في شهر المحرم يوم عاشوراء، سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة

بسمرقند، ودفن بها. وذكر صاحب الطبقات السنية آخر يسمى إسحاق بن مُحَمَّد أبو القاسم المعروف بـ " الحكيم السمرقندي "، ثم قال: أخذ عن الماتريدي الفقه والكلام، ثم قال: ذكره في الجواهر، وقال: أظنه الذي قبله. والراجح أنهما شخص واحد؛ لأمرين: الأول: تطابق الاسمين. الثاني: أن الشيخ المأخوذ عنه في كلتا الحالتين هو الماتريدي. وقد جمع صاحب الفوائد البهية في ترجمة الحكيم السمرقندي بين ما ورد فيها في الجواهر المضيَّة وما جاء في الطبقات. 2 - عبد الكريم بن موسى بن عيسى أبو مُحَمَّد الفقيه البزدوي النسفي. قال عنه في الطبقات: تفقه على الإمام أبي منصور الماتريدي، وسمع من منصور أبي طلحة البزدوي صاحب البخاري، وبالبصرة من أبي علي اللؤلؤي، وحدث، وكان زاهدًا مفتيًا، رُويَ عنه أهل سمرقند. وقد توفي - رحمه اللَّه - في شهر رمضان سنة تسعين وثلاثمائة. 3 - أبو عبد الرحمن بن أبي الليث البخاري: قال عنه في الجواهر: صاحب أبي القاسم إسحاق بن مُحَمَّد المعروف بـ " الحكيم "، وأستاذهما أبو منصور الماتريدي، وعنه أخذ علم الكلام والفقه. ولم نعرف له سنة وفاة. ثالثًا - أقرانه: ومن أقران الماتريدي الذين صاحبوه في أثناء رحلته لطلب العلم وزاملوه: 1 - علي بن سعيد، أبو الحسن الرُّسْتُغْفَنيُّ، وهو من كبار مشايخ سمرقند، ومن

أصحاب الماتريدي الكبار، وله ذكر في الفقه والأصول في كتب أهل الطبقات، وهو منسوب إلى إحدى قرى سمرقند. ولعلي بن سعيد عدة مؤلفات، منها: " إرشاد المهتدي "، و " الزوائد والفوائد ". وقد وقع خلاف بينه وبين الماتريدي حول مسألة المجتهد إذا أخطأ في إصابة الحق: فهو عند أبي منصور يكون مخطئًا في الاجتهاد، وعند أبي الحسن يكون مصيبًا فيه. 2 - مُحَمَّد بن أسلم بن مسلمة بن عبد اللَّه بن المغيرة بن عمرو بن عوف الأزدي، وكنيته: أبو عبد اللَّه، ولي قضاء سمرقند في أيام نصر بن أحمد بن أسد بن سامان الكبير. وقد توفي في شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وستين ومائتين. 3 - مُحَمَّد بن اليمان، وكنيته: أبو بكر، الملقب بالسمرقندي الإمام، قال عنه في الجواهر: من طبقة الماتريدي. صاحب كتاب " معالم الدِّين "، وله كتاب " الرد على الكرامية ". ومن خلال دراسة شيوخ الماتريدي وتلاميذه وأقرانه نتبين أن بيئة الماتريدي كانت غَاصَّةً بالعلماء الكبار من ذوي القدر والسبق، كما يتضح لنا طبيعة الحياة العلمية والفكرية والثقافية الحافلة التي كان يعيشها هذا العالم الجليل أبو منصور الماتريدي، ومدى ما بلغته من نضج وازدهار. * * *

الفصل الرابع قيمة الماتريدي العلمية

الفصل الرابع قيمة الماتريدي العلمية تبين لنا مما سبق أن الماتريدي تعلم على أيدي علماء كبار ينتسبون إلى أبي حنيفة، وأنه قد استفاد من آراء أبي حنيفة الكلامية، ولكنه لم يكن مجرد شارح ومفصل لطريقة أبي حنيفة، بل كان مبتكرًا، له منهجه الخاص به ومذهبه المغاير للمذاهب الكلامية الشائعة آنذاك، ومن ثم فإن علم الكلام استوى على سوقه على يد الماتريدي. ولكي نتعرف قيمة الماتريدي العلمية لابد أن نعرض لأمرين: أولاً: مصنفاته: لم يكن الماتريدي متكلمًا فحسب، بل كان فقيهًا مفسرًا، ولعل أبرز ما يدل على علمه الواسع تلك الآثار والمصنفات الجليلة التي خلفها لنا، وهي على النحو الآتي: 1 - مصنفاته في التفسير والتأويل: وفي هذا المجال ذكرت له كتب الطبقات كتابًا يسمى: " تأويلات أهل السنة " ذكره بهذا العنوان صاحب كتاب كشف الظنون وهو الكتاب الذي نقدم له ونقوم بتحقيقه. وقد عنونت له نسخة كوبريلي بـ " تأويلات أبي منصور الماتريدي في التفسير "، ويقول السمرقندي في مقدمة شرح هذا الكتاب: كتاب التأويلات المنسوب إلى الشيخ إمام الملة أبي منصور مُحَمَّد بن أحمد الماتريدي السمرقندي. وذكره أصحاب التراجم والطبقات تحت عنوان " تأويلات القرآن "، وتحمله نسخ موجودة في تركيا وألمانيا ودمشق والمدينة المنورة وطشقند والمتحف البريطاني. وذكر صاحب كشف الظنون كتابًا آخر يحمل عنوان: (تأويلات الماتريدية في بيان أصول أهل السنة وأصول التوحيد)، جاء في وصفه له أنه أخذه عنه أصحابه المبرزون تلقفًا؛ ولهذا كان أسهل تناولًا من كتبه، جمعه الشيخ الإمام علاء الدِّين مُحَمَّد بن أحمد ابن أبي أحمد السمرقندي صاحب " تحفة الفقهاء " في ثمانية مجلدات.

وعلى هذا فكتاب (تأويلات أهل السنة) غير كتاب (تأويلات الماتريدية) عند حاجي خليفة صاحب كشف الظنون. وبمراجعة بعض نسخ التأويلات المنسوبة للماتريدي تبين لنا: 1 - أن نسخة دار الكتب المصرية التي تحمل عنوان (تأويلات أهل السنة) ينقص منها الورقة الأولى، ولكن الثانية توافق ما يقابلها من نسخة كوبريلي. 2 - أن نسخة مكتبة علي باشا كاملة غير أنها لا تذكر شيئًا عن المؤلف، وتحمل اسم (تأويلات القرآن)، وتبين من المراجعة أن نسختي دار الكتب المصرية ونسخة مكتبة علي باشا مأخوذتان عن كتاب واحد، والخلاف فقط في التسمية. ويتضح من هذا أن هاتين النسختين هما كتاب واحد، فالاختلاف بينهما لا يعدو الاختلاف في الاسم، وهو للماتريدي. أما (تأويلات الماتريدية) الذي ذكره صاحب كشف الظنون، وذكر أن تلامذته تلقفوه عنه، فهو على ما ذكر حتى وإن أسند في بعض نسخه إلى الماتريدي؛ لأنه أسهل تناولًا من كتبه المصنفة، كما يؤكد ذلك مراجعة نسخة دار الكتب المصرية على الجزء الأول من نسخة (تأويلات الماتريدية). أما ما ذكره الشيخ علاء الدِّين في مقدمته من أن الكتاب المسمى بـ (تأويلات القرآن أو تأويلات أهل السنة) ليس مما صنفه الماتريدي بنفسه وإنما أخذه عنه أصحابه تلقفًا، فهذا يخالف ما ذكرناه سابقًا، ويخالف ما يقرره الواقع، وما تكشفه الموازنة بين أسلوب الكتاب وكتاب التوحيد الذي اتفق المؤرخون جميعًا على أنه من تأليف الماتريدي، أضف إلى هذا أن وحدة المنهج ووحدة الأسلوب تكشفان عن أن الكتاب من عمل واحد لا جماعة. وعلى هذا فكتاب (تأويلات أهل السنة) الذي نقوم بتحقيقه هو لأبي منصور الماتريدي السمرقندي. 2 - مصنفاته في علم الكلام: صنف الماتريدي - رحمه اللَّه - عدة كتب في مجال علم الكلام ذكرتها المصادر،

منها: - كتاب: (التوحيد) مخطوط بمكتبة جامعة كامبردج، رقم 398، 3651 وقد طبع بمطبعة الجامعة بتحقيق الدكتور/ خليف. - كتاب: (المقالات) مخطوط في مكتبة كيرولو باستانبول، رقم 856، وهناك نسخة ناقصة منه بمكتبة إيمنينول باستانبول. أيضًا. - كتاب: (الرد على القرامطة). - كتاب: (بيان وهم المعتزلة). - كتاب: (رد الأصول الخمسة لأبي مُحَمَّد الباهلي). - كتاب: (رد أوائل الأدلة للكعبي). - كتاب: (رد وعيد الفساق للكعبي). - كتاب: (رد تهذيب الجدل للكعبي). - كتاب: (رد الإمامة لبعض الروافض). ولقد زاد بروكلمان كتاب (الأصول) في قائمة كتب الماتريدي، وذكر أنه لمؤلف مجهول، وذكر أيضًا أن كتابي (التوحيد) و (المقالات) هما كتاب واحد، بيد أنه أشار في الهامش إلى أنهما كتابان مستقلان في فهارس المرتضى. ولم يحفظ لنا الزمان من هذه الكتب سوى كتاب (التوحيد) وكتاب (المقالات)، وكتاب (التوحيد) صحيح النسبة إلى الماتريدي، ذكرته كل كتب التراجم قديمًا وحديثًا. 3 - مصنفاته في الفقه وأصوله: ذكرت كتب الطبقات للماتريدي في هذا المجال كتابين: كتاب (الجدل)، وكتاب (مآخذ الشرائع). وهذان الكتابان لهما أهميتهما ومكانتهما في أصول الفقه بين أتباع المذهب الحنفي، فيذكر الإمام علاء الدِّين الحنفي في ميزان الأصول: أن تصانيف أصحابنا قسمان: قسم وقع في غاية الإحكام والإتقان؛ لصدوره ممن جمع الأصول والفروع، مثل

(مآخذ الشرائع) وكتاب (الجدل) للماتريدي ونحوهما. وقسم وقع في نهاية التحقيق والمعاني وحسن الترتيب، ويذكر الإمام علاء الدِّين أنه قد هجر القسم الأول؛ لقصور الهمم والتواني، واشتهر القسم الآخر. ولم يقع لنا شيء من هذين المؤلفين، غير أن بعض كتب الأصول قد نقلت عنهما، فقد جاء في كتاب كشف الأسرار على أصول البزدوي في أثناء الحديث عن خبر الواحد إذا خالف عموم الكتاب أو ظاهره، وبيان الآراء في صحة تخصيص هذا العموم به: " وعند العراقيين من مشايخنا والقاضي والإمام أبي زيد ومن تابعه من المتأخرين: لما أفادت عمومات الكتاب وظواهره، اليقين كالنصوص، والخصوصات لا يجوز تخصيصها ومعارضتها به. فأما من جعلها ظنية من مشايخنا مثل الشيخ أبي منصور ومن تابعه من مشايخ سمرقند، فيحتمل أن يجوز تخصيصها بها. وجاء في بدائع الصنائع في أثناء استنباط أوقات الصلوات الخمس من قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18): " قال الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي: إنهم فهموا من هذه الآية فرضية الصلوات الخمس، ولو كانت أفهامهم مثل أفهام أهل زماننا، لما فهموا منها سوى التسبيح المذكور ". 4 - كتب أخرى: ذكر فؤاد سركين أن للماتريدي رسالة فيما لا يجوز الوقف فيه في القرآن، وهي رسالة صغيرة الحجم، موداعة بدار الكتب المصرية برقم 384 قراءات. وعدد صفحاتها خمس، وتدور حول بيان المواضع التي لا يجوز الوقف عليها في قراءة القرآن، وفيما لو تعمد الواقف عليها الوقف بأنه يكفر، ولو وقف ساهيًا فسدت صلاته، وقد بينها الماتريدي -إن صحت نسبتها إليه- في اثنين وخمسين موضعًا في القرآن. وهذه الرسالة لم يذكرها أحد للماتريدي سوى سزكين، ومع هذا فلا يستبعد أن تكون له؛ لأن الماتريدي كان دائم الاهتمام بالقرآن وتأويله وبيان أحكامه.

وذكر له بروكلمان أيضًا كتاب (مقتطفات في الوعظ)، ولم يذكره للماتريدي أحد سوى بروكلمان فيما نعلم من كتب الطبقات. 5 - كتب نسبت إلى الماتريدي: ومن الكتب المنسوبة إلى الماتريدي: 1 - كتاب: " شرح الفقه الأكبر " وهو مطبوع في حيدر آباد سنة 1365 هـ، ذكره فيننسك، وذكر أنه راجع بعض النسخ المخطوطة لهذا الشرح فلم يجد فيها التصريح بنسبته إلى الماتريدي، ورجح أن السبب في هذه النسبة وقوع بعض أقوال الماتريدي فيه، وأيد هذا الشيخ أبو زهرة في كتابه عن أبي حنيفة، واستند في ذلك إلى الخلاف مع آراء الأشعرية، والمذهب الأشعري لم يتم إلا بعد الجيل الذي تلا وفاة الأشعري. ومن ثم يترجح أن نسبة هذا الشرح إلى الماتريدي نسبة غير صحيحة. 2 - كتاب العقيدة، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية مخطوطة تحت رقم (147) تيمور عقائد، وينفي نسبته للماتريدي السبب السابق نفسه في نفي نسبة كتاب (شرح الفقه الأكبر) إليه؛ إذ اشتمل الكتاب على الخلاف بين الأشعرية والماتريدية. 3 - كتاب (شرح الإبانة)، وهي نسبة غير صحيحة؛ لافتقارها إلى السند، كذلك لم نر أحدًا نسب هذا الكتاب إلى الماتريدي من أصحاب كتب الطبقات، سواء القدماء أو المحدثون، كذلك لم يرد أن كتاب (الإبانة للأشعري) وصل إلى بلاد ما وراء النهر في عصر الماتريدي. إذن فنسبة الشيخ مصطفى عبد الرازق هذا الكتاب إلى الماتريدي غير صحيحة. وهذه الكتب التي ذكرتها كلها مخطوطة باستثناء كتاب التوحيد، بل إن معظم هذه الكتب مفقود. ثانيًا: ثناء العلماء على الماتريدي: ليس غريبًا -بعد هذا كله- أن يثني العلماء على الماتريدي ثناء عظيمًا، ولقد رأينا كيف لقبوه بألقاب هو لها أهل، فقد لقبوه -كما ذكرنا- بإمام الهدى، وإمام المتكلمين، ومصحح عقائد المسلمين وغيرها.

ولن نحصي ما أثنى عليه به العلماء، ومن ثم نقتطف بعض الومضات الكاشفة عن تقدير العلماء له والمبرزة لمكانته العالية عندهم. ففي الفواكه الدواني يأتي الماتريدي وأبو الحسن الأشعري على رأس علماء أهل السنة، فيقول: " كذلك عند أهل السنة وإمامهم أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي ". قال صاحب النشر الطيب على شرح الشيخ الطيب الوزاني عند كلامه عن الماتريدي: " وكان معاصرًا للأشعري، وسبقه إلى نصرة أهل السنة ". والفرقة الناجية -كما يرى بعض العلماء- هم الأشاعرة مع الماتريدية الذين تابعوا في الأصول علم الهدى الشيخ أبي منصور الماتريدي. ويراه بعضهم رئيس مشايخ سمرقند، قال صاحب كشف الأسرار: " وهو مذهب مشايخ سمرقند، رئيسهم الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي رحمهم اللَّه ". وقال عنه التميمي: إنه قد فاق الأقران وتجمل به الزمان، وشاعت مؤلفاته، وسارت مصنفاته، واتفق الموافق والمخالف على علو قدره وعظمة محله، فإنه كان من كبار العلماء الأعلام الذين بعلمهم يقتدى وبنورهم يهتدي. قال التفتازاني: إن المشهور من أهل السنة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري، أول من خالف أبا علي الجبائي ورجع عن مذهبه إلى السنة. وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي، وهو مُحَمَّد بن مُحَمَّد، كان يلقب بإمام الهدى. ويقول أبو معين النسفي في التبصرة: ولو لم يكن في الحنفية إلا الإمام أبو منصور الماتريدي الذي غاص في بحور العلم، واستخرج دررها وأتى حجج الدِّين، فزين

بفصاحته، وغزارة علومه، وجودة قريحته غررها، حتى أمر الشيخ أبو القاسم الحكيم السمرقندي أن يكتب على قبره حين توفي: هذا قبر من حاز العلوم بأنفاسه واستنفد الوسع في نشره وأقياسه، فحمدت في الدِّين آثاره. . . اجتمع عنده وحده من أنواع العلوم الملية والحكمية ما يجتمع في العادات الجارية في كثير من المبرزين المحصلين؛ ولهذا كان أستاذه أبو نصر العياضي لا يتكلم في مجالسه ما لم يحضر، وكان كل من رآه من بعيد نظر إليه نظر المتعجب وقال: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ). ويذكر أيضًا أنهم قالوا في تقديره: كان من أكابر الأئمة وأوتاد الملة. وقال الكفوي في ترجمته: إمام المتكلمين ومصحح عقائد المسلمين، نصره الله بالصراط المستقيم، فصار في نصرة الدِّين القويم، صنف التصانيف الجليلة، ورد أقوال أصحاب العقائد الباطلة. قال صاحب الروضة البهية: اعلم أن مدار جميع عقائد أهل السنة والجماعة على كلام قطبين: أحدهما: الإمام أبو الحسن الأشعري، والثاني: الإمام أبو منصور الماتريدي، فكل من اتبع واحدًا منها اهتدى وسلم من الزيغ والفساد في عقيدته. وقال العلامة الدردير: واشتهر الأشاعرة بهذا الاسم -أي أهل السنة- في ديار خراسان والعراق والحجاز والشام وأكثر الأقطار. وأما ديار ما وراء النهر فالمشهور فيها بهذا الاسم هو أبو منصور الماتريدي وأتباعه المعرفون بالماتريدية، وكلام الفريقين على هدى ونور. وفي مفتاح السعادة: إن رئيس أهل السنة والجماعة في علم الكلام رجلان: أحدهما: حنفي، والآخر: شافعي، أما الحنفي: فهو أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود الماتريدي إمام الهدى. . . وأما الآخر الشافعي: فهو شيخ السنة ورئيس الجماعة إمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدِّين، والساعي في حفظ عقائد المسلمين أبو الحسن الأشعري البصري. ويرى الشيخ مُحَمَّد زاهد الكوثري: أنه إذا أطلق أهل السنة فالمراد بهم الأشاعرة

والماتريدية، وعند التحقيق، والاستقراء ثلاث طوائف: الأولى: أهل الحديث ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية من الكتاب، والسنة، والإجماع. الثانية: أهل النظر العقلي وهم الأشعرية، والحنفية، وشيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي. الثالثة: أهل الوجدان والكشف، وهم الصوفية ومبادئهم هي مبادئ أهل النظر والحديث في البداية، والكشف والإلهام في النهاية. وقد ذكر العلامة البغدادي: أن أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث، وأخرج من هَؤُلَاءِ الحشوية الذين يشترون لهو الحديث، ومن أهل السنة فقهاء هذين الفريقين -الرأي والحديث- وقراؤهم ومحدثوهم ومتكلمو أهل الحديث. ويقول الزبيدي عن الماتريدي في شرحه على الإحياء: وحاصل ما ذكروه أنه كان إمامًا جليلاً مناضلاً عن الدِّين مُجليًا لعقائد أهل السنة، قطع المعتزلة وذوي البدع في مناظراتهم، وخصمهم في محاوراتهم حتى أسكتهم. وقال عنه صاحب إشارات المرام العلامة كمال الدِّين أحمد البياضي الحنفي -من علماء القرن الحادي عشر الهجري-: " وحقق الأصول في كتبه بقواطع الأدلة، وأتقن التفاريع بلوامع البراهين اليقينية ". فالماتريدي على هذا محقق مدقق، قال الكوثري يصف تدقيقه وتحقيقه: إلى أن جاء إمام أهل السنة فيما وراء النهر أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد الماتريدي المعروف بإمام الهدى، فتفرغ لتحقيق مسائلها وتدقيق دلائلها، فأرضى بمؤلفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد. يدلنا هذا كله على مكانة الماتريدي العالية، وقدمه الراسخة في العلم، وذيوع شهرته، ومحبة العلماء له، واقتدائهم به، وأخذهم عنه، فرحم اللَّه - تعالى - الشيخ الماتريدي لقاء ما قدمه للعقيدة الإسلامية الصحيحة من جهود مشكورة في الذب عنها، ودحض شبه المغرضين حولها.

الباب الثالث الفرق والمذاهب الإسلامية

الباب الثالث الفرق والمذاهب الإسلامية ويشتمل على الفصلين الآتيين: الفصل الأول: الفرق السياسية. الفصل الثاني: المذاهب الاعتقادية.

الفصل الأول الفرق السياسية

الفصل الأول الفرق السياسية السياق التاريخي لنشأة الفرق الإسلامية: إن الحديث عن الفرق الإسلامية ومذاهبها السياسية وآرائها العقدية يمت بأوثق الأسباب للأحداث السياسية التي ألمت بالمجتمع الإسلامي منذ وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولما شجر بين المسلمين من وجوه الخلاف حول بعض المسائل التي طرأت بعد رحيل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأعظم مسألة نشب فيها الخلاف ووقع التخاصم والنزاع بسببها بين المسلمين هي مسألة الإمامة أو الخلافة العظمى، بحيث يصح لنا أن نزعم أن مدار الخلاف بين المسلمين وما انبنى عليه من ظهور الفرق المتباينة في الأصول تباينها في الفروع - على الإمامة. ومن الحق أن نقرر أن الفرق التي نزعت في أول أمرها منزعًا سياسيًّا، وخرجت إلى الوجود من رحم الأحداث السياسية نفسها، لم تلبث أن صارت لها آراء في الأصول الاعتقادية والفروع الفقهية جميعًا، على نحو مثلت معه هذه الآراء مذاهب مستقلة لعلها أبقى أثرًا وأعظم خطرًا في التاريخ من المعتقدات السياسية التي غدت مسائل تاريخية لا يعول عليها كثيرًا ولا يلتفت إليها إلا قليلاً في واقعنا المعاصر. ولا غرو في أن ترتبط المذاهب السياسية بالنظريات العقدية في ظل شريعة لا تفصل بين الدِّين والسياسة فصلاً قاطعًا، على غرار الشرائع الأخرى، فالدِّين -في شريعة الإسلام- لب السياسة وقوامها، ووظيفة السياسة منوطة بحماية الإسلام والذود عن أصوله المقررة، وحراسته من عبث العابثين وهجوم المغرضين، وذلك ما سبق إلى الالتفات إليه ابن خلدون حين عرف الخلافة بأنها: " حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا ". وثمة أمر آخر نود الإلماح إليه والتنويه به، وهو أن الخلاف بين الفرق الإسلامية لم يمس ركنًا من أركان الإسلام، أو أصلاً من أصوله الثابتة التي نقلت إلينا بالتواتر فغدت

معلومة من الدِّين بالضرورة لا يسع مسلمًا إنكارها أو التشكيك فيها، " فلم يكن الاختلاف في وحدانية اللَّه تعالى وشهادة أن محمدًا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا في أن القرآن نزل من عند اللَّه القدير، وأنه معجزة النبي الكبرى، ولا في أنه يروى بطريق متواتر نقلته الأجيال الإسلامية كلها جيلاً بعد جيل، ولا في أصول الفرائض كالصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم، ولا في طريق أداء هذه التكليفات، وإنما الاختلاف في أمور لا تمس الأركان ولا الأصول العامة ". وغني عن البيان أن شيئًا من الخلاف بين المسلمين لم يقع إبان عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " فقد كان المسلمون على منهاج واحد في أصول الدِّين وفروعه، غير من أظهر وفاقًا وأضمر نفاقًا ". ولا غرابة في ذلك؛ إذ كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوضح للصحابة ما تشابه عليهم من مسائل الدِّين، ويجيب عما يُطْرَحُ عليه من أسئلة جوابًا يُلْقي في ضمير السائل برد اليقين ويقطع من نفسه وعقله دواعي الحيرة والاضطراب. ويوشك الإجماع أن ينعقد على أن أول خلاف حقيقي واجه الجماعة الإسلامية ظهر بعد وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو خلافهم حول الإمامة، حيث سارع الأنصار إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة للنظر في أمر الإمامة وتعيين من يخلف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولما يوارِ التراب بعد جسده الطاهر، وأذعنت الأنصار إلى البيعة لسعد بن عبادة سيد الخزرج غير مدافع، ولم يَرْتَبِ الأنصار في أن الإمامة حق لهم، ولا ينبغي أن تخرج عنهم إلى إخوانهم المهاجرين، ولم يعدموا من الأدلة الواضحة والبراهين المفحمة -في نظرهم- ما يسوقونه بين يدي رأيهم ذاك، " فإن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لَبِثَ في قومه في مكة نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام، فما آمن منهم إلا قليل، ولا منعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الأذى ولا أعزوا الدِّين، فلما هاجر من مكة إلى المدينة نصره الأنصار وآمنوا به وأعزوا دينه ومنعوه وصحبه ممن أراد بهم سوءًا وكانوا معه على عدوه حتى خضعت له جزيرة العرب، وتوفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو عنهم راض، وبهم قرير العين، فهم أولى الناس أن يخلفوه ". بيد أن " نظرية الأنصار " تلك وجدت إنكارًا ومعارضة من المهاجرين؛ إذ لم يكد خبر السقيفة ينتهي إلى أبي بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - حتى قصدا نحو مجتمع الأنصار في

نفر من المهاجرين، لإبداء الرأي في أمر الخلافة، فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الإمامة في قريش " وأن العرب لا تذعن بالطاعة إلا لهم، كما أنهم عشيرة الرسول وذوو رحمه، فهم أول من آمن به، واحتملوا في سبيل نصرته من العنت والمشقة شيئًا كثيرا يُسَوِّغُ لهم أن يرثوا الأمر من بعده. وكما كان الأنصار أول من أعز الإسلام وانتصر له، كانوا أول من حماه شر الفتنة، وعواقب الخلاف، فأذعنوا لإخوانهم المهاجرين منقادين، ورجعوا إلى الحق طائعين " بعد

أن قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وبعد أن جرد الحباب بن المنذر سيفه وقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، من يبارزني؟ وبعد أن قام قيس بن سعد بنصرة أبيه سعد بن عبادة حتى قال عمر بن الخطاب في شأنه ما قال. ثم بايعوا أبا بكر رضوان الله عليه، واجتمعوا على إمامته، واتفقوا على خلافته، وانقادوا لطاعته ". وثمة نظرية ثالثة ذهب بعض الباحثين إلى أن لها وجودًا ظاهرًا آنذاك، وهي أن تكون الخلافة في بيت النبي، وأولى الناس من قرابة النبي وأمسهم رحمًا به هو علي بن أبي طالب - كرم اللَّه وجهه - فقُدْمَتُه في الإسلام وسابقته في الذود عنه معروفة ذائعة، ومكانه من النبي مكانه، فهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة، ووالد سبطيه الحسن والحسين، وجهاده وفضله وعلمه لا ينكر. على هذا النحو رأى القائلون بهذه النظرية أن بيت بني هاشم أحق بالخلافة من سواه، وروي في ذلك أن عليًّا سأل عما حدث في سقيفة بني ساعدة فقال: ماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال علي: " احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ". يريد أن المهاجرين احتجوا بأنهم من شجرة النبي فأولى بالاحتجاج من يجمعهم والنبي أنهم من ثمرة قريش وهم قرابته. ومهما يكن من أمر فقد آل أمر الخلافة إلى أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكانت بيعته بيعة حرة؛ إذ توفي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دون أن يحدد من يخلفه في هذا الأمر، وخلا الكتاب من النص عليه أو تعيينه، " صحيح أنه قد ورد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا بكر بأن يؤم المسلمين في الصلاة أثناء مرضه الذي مات فيه، وفهم البعض أن الصحابة قد اختاروه لهذا وقالوا: قد اختاره الرسول لأمر ديننا، فأولى أن نختاره لأمر دنيانا، ولكن هذا لا يعد عهدًا، وإن كان في جملته يشير إلى فضل أبي بكر ومقامه بين الصحابة؛ إذ لو كان عهدًا لاستشهد به في السقيفة وحسم النزاع ". ثم عهد أبو بكر -لما أحس بدنو أجله وخاف على المسلمين شر الفتنة وعاقبة الخلاف

الفتنة الكبرى في عهد عثمان وعلي ونشأة الأحزاب السياسية:

- بالإمامة لعمر على سبيل الترشيح. وسكن الخلاف ونامت الفتنة في خلافة الشيخين أبي بكر وعمر؛ لأنهما أخذا نفسيهما بالعدل الشامل المطلق في دقيق الأمور وجليلها، وانتصف كل واحد منهما من نفسه قبل أن ينتصف من رعيته، وبلغا من العدل والمساواة بين الناس مبلغًا أرهق من أتى بعدهما إذا رغب أن يحذو حذوهما ولا يخالف سيرتهما. كما شغل المسلمون آنذاك بقمع المرتدين في داخل الجزيرة العربية، وبالجهاد وفتح الأمصار خارجها لنشر الإسلام وإعلان التوحيد، فغدا المسلمون كما كانوا في العهد النبوي على منهاج واحد ورأي واحد أتاح للدولة أن تزدهر في فترة قصيرة من عمر الحضارة الإنسانية. الفتنة الكبرى في عهد عثمان وعلي ونشأة الأحزاب السياسية: ولي الخلافة عثمان بن عفان بعد مقتل عمر بن الخطاب - رضوان اللَّه عليهما - بعد أن أعطى المواثيق والعهود بالنصح للأمة، والالتزام بسنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر. ورضي المسلمون على خلافة عثمان في ست السنين الأولى، ثم نقموا منه أمورًا رأوا أنه خالف فيها عن سيرة الشيخين وانحرف عن سنة النبي الكريم. واستحال الإنكار الهادئ والاعتراض الناصح سخطًا عارمًا عم الأمصار المختلفة، وثورة عنيفة عمد المنخرطون فيها إلى خلع الخليفة عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وأفضت الثورة المسلحة إلى مقتل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بعد أن حوصر في داره أربعين يومًا منع خلالها من إمامة المسلمين في الصلاة. وقد فتح مقتل عثمان على المسلمين باب الفتنة واسعًا، وأذكى نيران الخلاف بينهم من جديد، وأورث القلوب والضمائر ضغنًا وسوء ظن كان خليقًا بأن يعصف بالوحدة الإسلامية ويقوض أركانها في هذا الطور الباكر. ولم يستطع علي بن أبي، طالب -الذي بويع بالخلافة من أغلبية المسلمين- أن يرأب صدع الخلاف وينتاش المسلمين من هوة الفتنة السحيقة التي تردوا فيها.

وكان من أشد المعارضين لعلي طلحة بن عبيد اللَّه والزبير بن العوام ومعاوية بن أبي سفيان؛ إذ رأوا أنه قعد عن نصرة عثمان، وكان في استطاعته رد الناس عنه، وكان من حجة بعضهم أنه -وقد بويع- يجب عليه أن يقتص من قتلة عثمان، ويقول كل من طلحة والزبير: إنه أولى بالمطالبة بدم عثمان؛ لأنه من الستة الذين انتخبهم عمر للشورى، ومن السابقين للإسلام، ويقول معاوية: إنه أولى الناس رحمًا بعثمان، وأقوى أهل بيته على المطالبة بدمه. يقول أبو الحسن الأشعري: " ثم بويع علي بن أبي طالب - رضوان اللَّه عليه - فاختلف الناس في أمره، فمن بين منكر لإمامته، ومن بين قاعد عنه، ومن بين قائل بإمامته معتقد لخلافته، وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم ". وأما طلحة والزبير فقُتلا يوم الجمل، وبقي معاوية وحده حاملاً لواء المعارضة لخلافة علي بن أبي طالب، مستعصمًا بالشام مطمئنًا إلى إخلاص أهله وصدق ولائهم. لم يجد علي بن أبي طالب مفرًّا من قتال معاوية بن أبي سفيان للقضاء على خطره ورد المسلمين إلى ما كانوا عليه من وحدة وتماسك، فقاتله في صفين وكاد النصر يتم له لولا أن عمد معاوية إلى خدعة التحكيم، " فقال لعمرو بن العاص: ألم تزعم أنك لم تقع في أمر فظيع فأردت الخروج منه إلا خرجت؟ قال: بلى، قال: فما المخرج؟ قال له عمرو بن العاص: فلي عليك ألا تخرج مصر من يدي ما بقيت؟ قال: لك ذلك، ولك به عهد الله وميثاقه، قال: مر بالمصاحف فترفع، ثم يقول أهل الشام لأهل العراق: يا أهل العراق كتاب اللَّه بيننا وبينكم، البقية البقية، فإنه إن أجابك إلى ما تريده خالفه أصحابه، وإن خالفك خالفه أصحابه "، وكان عمرو بن العاص في رأيه الذي أشار به كأنه ينظر إلى الغيب من وراء حجاب رقيق، فأمر معاوية أصحابه برفع المصاحف وبما أشار به عليه عمرو بن العاص، ففعلوا ذلك، فاضطرب أهل العراق على عليٍّ - رضوان اللَّه عليه - وأبوا عليه

أولا: الخوراج

إلا التحكيم، وأن يبعث عليٌّ حكمًا ويبعث معاوية حكمًا، فأجابهم عليٌّ إلى ذلك بعد امتناع أهل العراق عليه ألا يجيبهم إليه، فلما أجاب عليٌّ إلى ذلك بعث معاوية وأهل الشام عمرو بن العاص حكمًا، وبعث علي وأهل العراق أبا موسى حكمًا، وأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق، ومن هاهنا بدأ أمر الخلاف بين المسلمين يزداد تشعبا، وبدأت الفرق المختلفة في الظهور، كالتالي: أولًا: الخوراج بينا في هذا العرض السابق لأحداث النزاع بين عليٍّ ومعاوية أن أصحاب عليٍّ من أهل العراق قد حملوه حملاً على إجابة معاوية إلى التحكيم حين أمر بالمصاحف فرفعت على أسنة الرماح، وقال أهل الشام لأهل العراق: يا أهل العراق، كتاب اللَّه بيننا وبينكم، وذلك على الرغم من أن عليًّا - كرم اللَّه وجهه - بَيَّنَ لهم ما ينطوي عليه نداء معاوية بتحكيم كتاب اللَّه من مكر وخديعة، فأبوا إلا التحكيم. فلما وقف هَؤُلَاءِ على خدعة التحكيم وأدركوا مرماه البعيد الذي أراده معاوية، رفضوا التحكيم وطلبوا إلى علي أن ينقض ما أعطاه للحكمين -أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص- من العهد والميثاق؛ لأن حكم اللَّه في الأمر واضح جلي، والتحكيم يتضمن شك كل فريق من المحاربين أيهما المحق، وليس يصح هذا الشك؛ لأنهم وقتلاهم إنما حاربوا وهم مؤمنون -بلا شك- أن الحق في جانبهم. وهذه المعاني المختلجة في نفوسهم صاغها أحدهم في الجملة الآتية: " لا حكم إلا لله " فسرت الجملة سير البرق إلى من يعتنق هذا الرأي، وتجاوبتها الأنحاء، وأصبحت شعار هذه الطائفة. وذهبت الخوارج إلى إكفار علي إذ قبل التحكيم، وطلبوا إليه أن يقر بما باء به من إثم ثم يتوب ويرجع إلى قتال أهل البغي؛ وإلا تخلوا عنه وصاروا من عدوه بعد أن كانوا من شيعته. فأبى علي إلا الوفاء بما أعطى من عهود ومواثيق، ثم كيف يقر على نفسه بالكفر ولم يشرك باللَّه شيئًا مذ آمن، وهبه أخطأ في قبول التحكيم -مع الأخذ بعين الاعتبار أنه قبله مضطرًّا لا مختارًا - فلا يعدو أن يكون مجتهدًا أخطأ فله أجر واحد، وإن كان قد أصاب فله أجران، ولا يستقيم لذي عقل إكفار المجتهد المخطئ.

جماع رأي الخوراج وما جمعهم من مبادئ: لم تلبث آراء الخوراج السياسية أن تحددت، وأخذت شكل نظرية يسع الدارسين ومؤرخي الفرق إضافتها إلى النظريات السياسية الإسلامية، ولا ريب أن مناظرات رؤسائهم ومجادلاتهم لخصومهم كابن عَبَّاسٍ، وعلي بن أبي طالب وابن زياد وعبد اللَّه بن الزبير قد أسهمت بشكل ملحوظ في بلورة موقفهم السياسي وتحديد معالمه. ومعلوم أن الخوراج لم يكونوا نحلة واحدة متفقة آراؤها وأنظارها إلى مسائل السياسة والعقيدة، بل تفرقوا أحزابًا شتى ومذاهب متعارضة، بيد أن ثمة مبدأين عامين يجمعان بين فرقهم المتباينة، هما: - القول بإكفار علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بتحكيم الحكمين. - أما المبدأ العام الثاني: فهو وجوب الخروج على الإمام الجائر. وقد ذكر الكعبي في مقالاته أن مما يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها الإكفار بارتكاب الذنوب، بيد أن عبد القاهر البغدادي ذهب إلى أن رأي الكعبي منابذ للصواب، وأنه قد أخطأ في دعواه إجماع الخوارج على تكفير مرتكبي الذنوب منهم، واحتج البغدادي بأن النجدات من الخوارج لا يكفرون أصحاب الحدود من موافقيهم، وقد قال قوم من الخوارج: إن التكفير إنما يكون بالذنوب التي ليس فيها وعيد مخصوص، فأما الذنب الذي فيه حدٌّ أو وعيد في القرآن، فلا يزاد صاحبه على الاسم الذي ورد فيه، مثل تسميته زانيًا وسارقًا، ونحو ذلك. وقد قالت النجدات: إن صاحب الكبيرة من موافقيهم كافر نعمة وليس فيه كفر دين. يقول عبد القاهر البغدادي: وفي هذا بيان خطأ الكعبي في حكايته عن جميع الخوراج تكفير أصحاب الذنوب كلهم منهم ومن غيرهم. وإنما الصواب فيما يجمع الخوارج كلها ما حكاه شيخنا أبو الحسن - رحمه اللَّه - من تكفيرهم عليًّا وعثمان، وأصحاب الجمل، والحكمين، ومن صوبهما أو صوب أحدهما أو رضي بالتحكيم.

فرق الخوارج:

ومهما يكن من أمر فإن ما ذهب إليه الخوارج من تكفير لأقطاب الصحابة وأعلامهم قد دفع المسلمين إلى البحث في ماهية الكفر والإيمان؟ وتمييز الحدود الفارقة بين المعصية والكفر والفسوق، والتماس العلاقة بين الإيمان وبين العمل، إلى آخر هذه المسائل اللاهوتية التي ترتب عليها نشأة كثير من الفرق الدِّينية. ومن بين المبادئ التي أذاعها الخوارج في المجتمع الإسلامي أن الخلافة ليست حقًّا مقصورًا قريش دون سائر العرب، بل يتولاها من تحققت فيه شروطها من الكفاية والعدل والبيعة الحرة، وخالفوا في ذلك ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من اشتراط القرشية إعمالاً لحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الأئمة من قريش ". ورأى الخوارج أن عدم اشتراط القرشية ينسجم مع ما جاء به الإسلام من مبادئ العدل والمساواة بين الناس دونما نظر إلى لون أو جنس، فمناط المفاضلة بين الناس التقوى والعمل الصالح. فرق الخوارج: الخوارج عشرون فرقة، ذكرها البغدادي صاحب الفرق بين الفرق وهي: المحكمة الأولى، والأزارقة، والنجدات، والصفرية، ثم العجاردة المفترقة فرقًا منها: الحازمية، والشعيبية، والمعلومية، والمجهولية، وأصحاب طاعة لا يراد اللَّه تعالى بها، والصلتية، والأخنسية، والشبيبية، والشيبانية، والمعبدية، والرشيدية، والمكرمية، والحمزية، والشمراخية، والإبراهيمية، والواقفة، والإباضية. والإباضية منهم افترقت فرقًا معظمها فريقان: حفصية وحارثية. وليس من وكدنا في هذا المقام -وهو مقام إيجاز واختصار وليس مقام بسط وتطويل- أن نستوعب آراء هذه الفرق جميعها، وإنما نجتزئ بذكر فرق خمسة منها، رأى الباحثون قبلنا أنها أشهر فرق الخوارج، وهي: - المحكمة الأولى.

أولا: المحكمة الأولى:

- الأزارقة. - النجدات. - الصفرية. - الإباضية. أولًا: المحكمة الأولى: وهم من خرج على عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين قبل التحكيم، ويقال لهم: محكمة، وشراة، وسموا محكمة؛ لقولهم: " لا حكم إلا لله "، وأما تسميتهم بالشراة فمحمولة على قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)، فكانوا يقولون: شرينا أنفسنا في طاعة اللَّه، أي: بعناها بالجنة. يقول عبد القاهر البغدادي: " واختلفوا في أول من تشرى منهم، فقيل: عروة بن حدير أخو مرداس الخارجي، وقيل: أولهم يزيد بن عاصم المحاربي، وقيل: رجل من ربيعة من بني يشكر، كان مع عليٍّ بصفين، فلما رأى اتفاق الفريقين على الحكمين استوى على فرسه وحمل على أصحاب معاوية وقتل منهم رجلاً، وحمل على أصحاب عليٍّ وقتل منهم رجلاً، ثم نادى بأعلى صوته، ألا إني قد خلعت عليًّا ومعاوية، وبرئت من حكمهما ثم قاتل أصحاب عليٍّ حتى قتله قوم من همدان ". ومهما يكن من أمر فقد انحاز الخوارج بعد صفين إلى حروراء، وهم يومئذ اثنا عشر ألفًا، وزعيمهم يومئذ عبد اللَّه بن الكواء وشبث بن ربعي، فخرج إليهم علي بن أبي طالب يناظرهم فوضحت حجته عليهم، فلم يسع بعض الخوارج إلا الإذعان للحق، فانضموا إلى علي وكان منهم ابن الكواء نفسه، وخرج الباقون إلى النهروان وأَمَّرُوا على أنفسهم رجلين، أحدهما: عبد اللَّه بن وهب الراسبي، والآخر: حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية. فلما رأى علي انحراف الخوارج عن سماحة الإسلام ومحاولتهم فرض آرائهم على الناس بالقوة والبطش وليس بالجدال بالتي هي أحسن، عمد إليهم في أربعة آلاف من أصحابه، وناظرهم مرة أخرى، وبين لهم وجه الحق فيما نقموا منه، فاستمال منهم يومئذ ثمانية آلاف، ولم يبق إلا أربعة آلاف أبوا إلا قتال عليٍّ وأَمَّرُوا عليهم -كما ذكرنا-

خلاصة رأي المحكمة الأولى:

عبد اللَّه بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير البجلي. والتقى الجمعان في النهروان، وظهر عليٌّ وصحبه على الخوارج، وقتل عبد اللَّه بن وهب، وذو الثدية، ولم يفلت من الخوارج في هذا اليوم إلا تسعة أنفس: صار منهم رجلان إلى سجستان، ومن أتباعهما خوارج سجستان، ورجلان إلى اليمن، ومن أتباعهما إباضية اليمن، ورجلان صارا إلى عمان، ومن أتباعهما خوارج عمان، ورجلان إلى ناحية الجزيرة، ومن أتباعهما كان خوارج الجزيرة، ورجل منهم صار إلى تل موزن. خلاصة رأي المحكمة الأولى: ذهب المحكمة الأولى -كسائر الخوارج- إلى إكفار علي وعثمان، وأصحاب الجمل وصفين، ومعاوية وصحبه، والحكمين، ومن رضي بالتحكيم. ومن آرائهم كذلك إكفار كل ذي ذنب ومعصية، والقول بخلوده في النار. ثانيًا: الأزارقة: تنسب هذه الفرقة إلى نافع بن الأزرق الحنفي، وهم أقوى فرق الخوارج بأسًا وأعزها نفرًا، يقول البغدادي: " ولم تكن للخوارج قط فرقة أكثر عددًا ولا أشد منهم شوكة ". وقد بايع الأزارقة نافع بن الأزرق وسموه أمير المؤمنين، ولم يلبث أن انضم إليهم خوارج عمان واليمامة فصاروا أكثر من عشرين ألفًا. وقد هدد الخوارج الأزارقة الدولة الإسلامية تهديدًا كبيرًا، حيث استولوا على الأهواز وما وراءها من أرض فارس، ثم بسطوا نفوذهم على كرمان وجبوا خراجها، فحاربهم عبد اللَّه بن الحارث عامل عبد اللَّه بن الزبير على البصرة، ومنيت الجيوش التي وجهها لقتالهم بهزائم منكرة، فعهد عبد اللَّه بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة بقتالهم، فهزمهم عند الأهواز وقتل نافع بن الأزرق، فبايعت الأزارقة بعده عبيد اللَّه بن مأمون التميمي فقتل، ثم بايعوا قطري بن الفجاءة وسموه أمير المؤمنين، " فقاتلهم المهلب حروبًا كانت سجالاً، وانهزمت الأزارقة في آخرها إلى سابور من أرض فارس، وجعلوها دار هجرتهم، وثبت المهلب وبنوه وأتباعهم على قتالهم تسع عشرة سنة، بعضها في أيام عبد اللَّه بن

خلاصة المبادئ التي اعتنقها الأزارقة:

الزبير، وباقيها في زمان خلافة عبد الملك بن مروان وولاية الحجاج على العراق ". وكان المهلب قبل الواقعة يثير خلافهم، فتحتدم المناقشة بينهم احتدامًا شديدًا، ثم يلقاهم وهم على هذا الخلاف؛ ولذا أخذ شأن الخوارج يضعف في عهد قطري بن الفجاءة؛ لاختلافهم فرقًا من جهة، ولأثر هذا الاختلاف في مواقفهم في ميدان القتال من جهة ثانية، وتألب المسلمين عليهم من جهة ثالثة، وغلظتهم في معاملة مخالفيهم من جهة رابعة. وقد توالت هزائمهم على يد المهلب ومن جاء بعده من قواد الأمويين حتى انتهى أمرهم. خلاصة المبادئ التي اعتنقها الأزارقة: أجمل عبد القاهر البغدادي مبادئ الأزارقة في مسائل أربعة: أولاً: قولهم بأن مخالفيهم من هذه الأمة مشركون، وكانت المحكمة الأولى يقولون: إنهم كفرة لا مشركون. ثانيًا: قولهم: إن القعدة -ممن كان على رأيهم- عن الهجرة إليهم مشركون وإن كانوا على رأيهم. ثالثًا: أنهم أوجبوا امتحان من قصد عسكرهم إذا ادعى أنه منهم: أن يُدْفعَ إليه أسير من مخالفيهم ويأمروه بقتله، فإن قتله صدقوه في دعواه أنه منهم، وإن لم يقتله قالوا: هذا منافق ومشرك وقتلوه. رابعًا: استباحوا قتل نساء مخالفيهم، وقتل أطفالهم، وزعموا أن الأطفال مشركون، وقطعوا بأن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار. ومن آرائهم كذلك: أن مرتكب الكبيرة والمعصية كافر مخلد في النار، وأن دار مخالفيهم دار كفر، كما يكفرون -كسائر الخوارج- عليًّا في التحكيم، والحكمين أبا موسى وعمرو بن العاص.

ثالثا: النجدات:

ومن الآراء الفقهية التي انفرد بها الأزارقة: أنهم ينكرون حد الرجم على الزاني المحصن، وحجتهم في ذلك أن القرآن لم ينص على ذلك، فيهملون بذلك السنة الصحيحة في رجم الزاني المحصن. كما يرون أن حد القذف لا يثبت إلا لمن يقذف محصنة بالزنى، ولا يثبت على من يقذف المحصنين من الرجال؛ لأنهم أخذوا بظاهر النص (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4). فلم يذكر حد قذف المحصنين من الرجال. ثالثًا: النجدات: وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي، والسبب في ظهور هذه الفرقة أن بعض الخوارج الأزارقة قد نقموا من رئيسهم نافع بن الأزرق براءته من القعدة عنه بعد أن كانوا على رأيه وإكفاره إياهم، وأنه استحل قتل أطفال مخالفيه ونسائهم؛ ففارق نافعًا جماعة من أتباعه منهم أبو فديك وعطية الحنفي، وراشد الطويل وغيرهم، وذهبوا إلى اليمامة، وبايعوا بها نجدة بن عامر وأكفروا من قال بإكفار القعدة منهم عن الهجرة إليهم، كما أكفروا من قال بإمامة نافع. ومن المسائل التي خالف فيها النجدات الأزارقة استحلالهم دماء أهل الذمة، وأما الأزارقة فذهبوا إلى تحريم دمائهم احترامًا لذمتهم التي دخلوا بها في أمان أهل الإسلام. وقال النجدات بعدم وجوب نصب الإمام، من ناحية الشرع، وأن إقامة إمام واجبة وجوبًا مصلحيًّا، فإذا أقام المسلمون حدود الدِّين والتزموا أحكام الشريعة وتناصفوا فيما بينهم، فليس ثمة حاجة إلى وجود خليفة أو إمام. وقد ابتدع النجدات مبدأً جديدًا لم يكن معروفًا عند الخوارج آنذاك، وهو مبدأ التقية ومعناه: " أن يظهر الخارجي أنه جماعي؛ حقنًا لدمه، ومنعًا للاعتداء عليه، ويخفي عقيدته حتى يحين الوقت المناسب لإظهارها ".

رابعا: الصفرية:

وقد تولى نجدة أصحاب الحدود ممن هم على مثل رأيه، وقال: لعل اللَّه يعذبهم بذنوبهم في غير نار جهنم ثم يدخلهم الجنة، وزعم أن النار يدخلها من خالفه في دينه. وزعم النجدات كذلك أن من نظر نظرة صغيرة أو كذب كذبة صغيرة ثم أصر عليها فهو مشرك، وأن من زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر فهو مسلم. فمناط الشرك في ارتكاب المعصية صغيرة كانت أو كبيرة إنما هو الإصرار عليها، فمن أصر على صغيرة فهو مشرك، ومن لم يصر على كبيرة فهو مسلم، وإن شاب إسلامه شيء من نقص، يلحقه بأهل المعصية. ومن بدع نجدة وضلالاته أنه أسقط حد الخمر. وجماع مذهب النجدات أن الدِّين أمران: أحدهما: معرفة اللَّه تعالى ومعرفة رسوله، وتحريم دماء المسلمين وأموالهم. والثاني: الإقرار بما جاء من عند اللَّه جملة. وما سوى ذلك من التحريم والتحليل وسائر الشرائع، فإن الناس يعذرون بجهلها، وأنه لا يأثم المجتهد إذا أخطأ. ولم يلبث النجدات أن ثاروا على رئيسهم نجدة وخرجوا عليه لأمور نقموها منه، وقد تشعبوا لهذا إلى ثلاث فرق: 1 - فرقة صارت مع عطية بن الأسود الحنفي إلى سجستان، وتبعهم خوارج سجستان؛ ولهذا قيل لخوارج سجستان في ذلك الوقت: عطوية. 2 - وفرقة صارت مع أبي فديك حربًا على نجدة، وهم الذين قتلوا نجدة. 3 - وفرقة عذروا نجدة في أحداثه وأقاموا على إمامته. رابعًا: الصفرية: تنسب هذه الفرقة من الخوارج إلى زياد بن الأصفر، وقد اختلف الخوارج الصفرية في

الحكم على مرتكب الكبيرة، وتباينت آراؤهم في ذلك أشد التباين: فمنهم من ذهب إلى الحكم عليه بالشرك، شأنهم في ذلك شأن الأزارقة. وزعم بعضهم أن الذنب الموضوع له حد لا نتجاوز تسمية اللَّه فيه من أنه زانٍ أو سارق أو قاذف وليس صاحبه كافرًا ولا مشركًا، أما الذنب الذي لم تقرر له الشريعة حدًّا كترك الصلاة والصوم فهو كفر وصاحبه كافر. وثمة من الصفرية من رأى أن صاحب الذنب لا يحكم عليه بالكفر حتى يرفع إلى الوالي فيحده. ولم ير الصفرية -خلافًا للأزارقة- فتل أطفال مخالفيهم وسبي نسائهم، كما أنهم لا يوافقون الأزارقة فيما ذهبوا إليه من عذاب الأطفال. ومن أئمة الصفرية: عمران بن حطان السدوسي، وأبو بلال مرداس الخارجي. فأما أبو بلال مرداس، فقد خرج في أيام يزيد بن معاوية بناحية البصرة على عبيد الله ابن زياد، فأرسل إليه عبيد اللَّه من قتله. فلما قتل مرداس اتخذت الصفرية عمران بن حطان إمامًا، وهو الذي رثى مرداسًا بقصائد يقول في بعضها: أنكرتُ بعدك ما قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس وكان عمران بن حطان هذا ناسكًا شاعرًا شديدًا في مذهب الصفرية وبلغ من خبثه في بغض علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رثى عبد الرحمن بن ملجم، وقال في ضربه عليًّا: يا ضربة من منيب ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانًا إني لأذكره يومًا فأحسبه ... أوفى البرية عند اللَّه ميزانًا قال عبد القاهر: وقد أجبناه عن شعره هذا بقولنا: يا ضربة من كفور ما استفاد بها ... إلا الجزاء بما يصليه نيرانا إني لألعنه دينًا وألعن من ... يرجو له أبدًا عفوًا وغفرانًا ذاك الشقي لأشقى الناس كلهم ... أخفهم عند رب الناس ميزانًا

خامسا: الإباضية:

ويقول الإمام مُحَمَّد أبو زهرة في شأن هذه الفرقة: " ومن أخبار الذين تولوا أمر هذه الطائفة من الخوارج نتبين أنها لا ترى إباحة دماء المسلمين، ولا ترى أن دار المخالفين دار حرب، ولا ترى جواز سبي النساء والذرية، بل لا ترى قتال أحد غير معسكر السلطان ". خامسًا: الإباضية: وإمام هذه الفرقة عبد اللَّه بن إباض، به تعرف وإليه تنسب، وقد افترقت إلى فرق أربعة، بيد أن ثمة مبادئ مشتركة تجمع بينها وتسوغ للباحث ردها إلى أصل واحد أو فرقة واحدة، ومنها: القول بأن مخالفيهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين، ولكنهم كفار، وكفرهم كفر نعمة لا كفر اعتقاد؛ وذلك لأنهم لم يكفروا باللَّه، ولكنهم قصروا في جنب اللَّه تعالى. وصحح الإباضية مناكحة مخالفيهم والتوارث بينهم، وأجازوا شهادتهم. وذهب الإباضية إلى أن دماء مخالفيهم حرام، وإن أسروا ذلك في أنفسهم ولم يعلنوه. واستحل الإباضية من غنائم المسلمين الخيل والسلاح، وسواهما من أدوات الحرب وأسباب القوة، دون الذهب والفضة فإنهم يردونها على أصحابهما عند الغنيمة. ويقول الإمام مُحَمَّد أبو زهرة عن الإباضية: " وهم أكثر الخوارج اعتدالًا، وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيرًا، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو؛ ولذلك بقوا، ولهم فقه جيد، وفيهم علماء ممتازون، ويقيم طوائف منهم في بعض واحات الصحراء الغربية، وبعض آخر في بلاد الزنجبار، ولهم آراء فقهية، وقد اقتبست القوانين المصرية في المواريث بعض آرائهم، وذلك في الميراث بولاء العتاقة، فإن القانون المصري أخره عن كل الورثة حتى عن الرد على أحد الزوجين، مع أن المذاهب الأربعة كلها تجعله عقب العصبة النسبية ويسبق الرد على أصحاب الفروض الأقارب ". ثانيا: الشيعة نشأ المذهب الشيعي -كما ألمحنا إلى ذلك آنفًا- كنتيجة مباشرة لإشكالية الإمامة التي

أورثت الجماعة الإسلامية شيئًا غير قليل من الفرقة والاختلاف، ومزقتهم شيعًا وأحزابًا متصارعة. ولم يكن لدى أعضاء هذا الحزب في مبدأ ظهوره تصور محدد أو فكرة واضحة عن نظرية الإمامة، غاية الأمر أن ثمة من المسلمين من رأى أن عليًّا أحق بالخلافة من سائر أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنه أولى قرابته بها، فيذكر ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة أن من الصحابة من فضلوا عليًّا، وذهبوا إلى القول بأن الخلافة حق له، منهم: عمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد اللَّه، وأبي بن كعب، وحذيفة، وأبو أيوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وعثمان بن حنيف، وأبو الهيثم بن التيهان، والعباس بن عبد المطلب وبنوه، وبنو هاشم كافة. تلك هي الفكرة المبدئية التي قام على أساسها مذهب الشيعة، ثم تطورت هذه الفكرة نتيجة عوامل متباينة إلى نظرية لها أصول محددة وقواعد مجمع عليها من جانب الشيعة. وأول هذه العوامل: الشعور العاطفي الذي خامر نفوس أكثر المسلمين بسبب الاضطهاد الذي وقع على آل بيت النبي عامة، وآل عليٍّ خاصة، والأحداث المحزنة التي تعاقبت على عليٍّ وآله، ونستطيع أن نلتمس هذه الأحداث في " مصرع عليٍّ على يد الخوارج، ثم في التِياثِ (¬1) الأمر على ابنه الحسن، وتخاذل الناس عن نصرته حتى اضطر إلى التسليم، ثم في موته في ظروف مريبة غامضة يرى شيعته أنها من تدبير أعدائه، فبموته ضاع الأمل الذي كان باقيًا في أن حقه ربما كان سيعود إليه بعد وفاة معاوية. ثم في قسوة زياد -الذي ألحقه معاوية بنسبه- على رجال الشيعة واضطهاده لهم، وإرساله حجر بن عدي -من زعمائهم ومن أشراف العرب ومن خير الناس تقوى وعبادة، وأبطال فتح نهاوند- إلى الشام ليقتل؛ وذلك لاتهامه بأنه كان يعمل لإحداث ثورة في الكوفة، ثم في تقرير معاوية العهد لابنه يزيد، فأغلق الباب نهائيَّا على أي أمل في عودة أبناء علي إلى الخلافة. وأخيرًا وهذه هي الطامة الكبرى والفاجعة التي حفرت في قلوب الشيعة وقلوب المسلمين آثارًا عميقة من الحزن واللوعة، لا يمكن أن يمحوها الزمن: ألا وهي مقتل الحسين. كل هذه الأحداث أو المآسي المتتابعة هي التي كونت فرقة الشيعة ودفعتهم إلى إنتاج آرائهم، وأعطتهم هذه القوة التي جعلت منهم أكبر هيئة في المعترك السياسي الدِّيني، ¬

_ (¬1) الِالْتِيَاثُ: الاختِلاط وَالِالْتِفَافُ؛ يُقَالُ: الْتاثَتِ الخطُوب، والتاثَ برأْس الْقَلَمِ شعَرة، وإِنَّ الْمَجْلِسَ لِيَجْمَعُ لَوِيثَةً مِنَ النَّاسِ أَي أَخلاطاً لَيْسُوا مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَنَاقَةٌ ذاتُ لَوْثٍ أَي لَحْمٍ وسِمَنٍ قَدْ لِيثَ بِهَا. وَالْمُلَاثُ والمِلْوَث: السَّيِّدُ الشَّرِيفُ لأَنَّ الأَمر يُلاثُ بِهِ ويُعْصَب أَي تُقْرَنُ بِهِ الأُمور وتُعْقَدُ، وَجَمْعُهُ مَلاوِث. اهـ (لسان العرب. 2/ 187).

ومكنتهم من أن يصيروا الحزب الخالد الذي لا يزال باقيًا بتمام قوته ووجوده إلى اليوم ". إذن فقد أسهمت هذه الأحداث المفجعة في تكوين فرقة الشيعة وفي إنتاج آرائها في السياسة ثم في العقيدة، وبَيَّنٌ أن هذا العامل التاريخي يستند على الشعور والوجدان أكثر مما يقوم على البرهان والحجة. وثمة عامل آخر ساعد بشكل كبير على قوة التيار الشيعي، ومنحه ذيوعًا وانتشارًا، وتأثيرًا في الحياة السياسية، ألا وهو انضمام الموالي الفرس إلى الحركة الشيعية. والحق أن فكرة الشيعة عن الخلافة وما ذهبوا إليه من ضرورة تخصيصها بعلي وبنيه لاءمت إلى حد كبير نظرية الحق الملكي المقدس التي اعتنقها الفرس؛ يقول الأستاذ دوزي موضحًا حقيقة هذا العامل: " إن الشيعة فرقة فارسية في حقيقتها وجوهرها. . . إن الفارسي لم يكن يستطيع أن يتصور أن يوجد خليفة بالانتخاب، فهذه الفكرة غير معهودة له وغير معقولة، وإنما المبدأ الوحيد الذي يمكنه أن يفهمه هو مبدأ الوراثة، وكل الذي كان هو في حاجة إليه، وقد تغيرت بيئته واعتنق دينًا جديدًا، هو أن ينقل ولاءه ويحول وجهة شعوره من أفراد أسرة مقدسة إلى أخرى. فليس من المبالغة إذن في شيء -وإن كان الدافع ونوع العاطفة ولا شك مختلفين وكان حدوث العملية غير شعوري- أن يقال: إن " البيت النبوي "، وقد مثله آل علي، قد حل في قلوب الفرس واعتبارهم محل بيت آل ساسان ". ويسعنا أن نضيف سببًا آخر يفسر لنا انضمام الفرس إلى الشيعة وهو دفاعهم عما رأوه حقًّا لعلي وبنيه، وهو اضطهاد الأمويين للموالي والذي أورثهم شعورًا مؤلمًا بانخفاض مستواهم المعيشي، وتدني مكانتهم الاجتماعية عن العرب. نتج عن العوامل السابقة مجتمعة تطور الفكرة الشيعية وتبلور ملامحها، وغدا للشيعة رأي محدد في الإمامة ذكره ابن خلدون فقال: " إن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بتعيينهم، بل هي ركن الدِّين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفالها ولا تفويضها إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصومًا من الكبائر والصغائر، وإن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو الذي عينه صلوات الله

أبرز فرق الشيعة:

وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم، لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة ". أبرز فرق الشيعة: يطلق مصطلح الشيعة على فرق عدة منها المتطرف ومنها المقتصد، عد منها البغدادي عشرين فرقة اعتبرها معدودة في فرق الأمة، وما سوى هذه الفرق العشرين، فليسوا من فرق الإسلام وإن كانوا منتسبين إليه. ونكتفي هاهنا بذكر أبرز فرق الشيعة: الزيدية: تنسب هذه الفرقة إلى زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان زيد قد خرج على هشام بن عبد الملك بالكوفة فقتل وصلب، ويقول المسعودي في سبب خروجه: كان زيد دخل على هشام، فلما مثل بين يديه لم ير موضعًا يجلس فيه فجلس حيث انتهى به المجلس، وقال: يا أمير المؤمنين، ليس أحد يكبر عن تقوى اللَّه ولا يصغر دون تقوى اللَّه، فقال هشام: اسكت لا أم لك، أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة، وأنت ابن أمة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لك جوابًا إن أحببت أجبتك به، وإن أحببت سكت عنه، فقال هشام: بل أجب قال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحاق، فلم يمنعه ذلك أن يبعثه اللَّه نبيًّا، وجعله اللَّه للعرب أبًا، فأخرج من صلبه خير البشر محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي، وقام وهو يقول: شرده الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد منخرق الكمين يشكو الجوى ... تنكثه أطراف مرو حداد

الإمامية:

قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد إن يحدث اللَّه له دولة ... يترك آثار العدا كالرماد فمضى إلى الكوفة وخرج عنها، ومعه القراء والأشراف، فلما قامت الحرب انهزم عنه أصحابه، وبقي في جماعة يسيرة، فقاتل بهم أشد قتال وهو يقول متمثلاً: أذل الحياة وعز الممات ... وكلا أراه طعامًا وبيلاً فإن كان لابد من واحد ... فسيري إلى الموت سيرًا جميلاً وانتهى الأمر بقتله. والحق أن الزيدية أقرب فرق الشيعة إلى الجماعة الإسلامية وأكثرها اعتدالاً؛ فهي لم ترفع الأئمة إلى مرتبة النبوة، بل لم ترفعهم إلى مرتبة تقاربها بل اعتبروهم كسائر الناس، ولكنهم أفضل الناس بعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والزيدية لا يؤمنون بأن الإمام الذي أوصى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد عينه بالاسم والشخص، بل عرفه بالوصف، وأن الأوصاف التي عرفت تجعل الإمام عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو الإمام من بعده؛ لأن هذه الأوصاف لم تتحقق في أحد بمقدار تحققها فيه. وهذه الأوصاف توجب أن يكون هاشميا ورعا تقيا، عالمًا سخيا، يخرج داعيًا لنفسه، ومن بعد علي يشترط أن يكون فاطميًّا أي من ذرية السيدة فاطمة رضي اللَّه عنها. الإمامية: وهم يجعلون الإمام بعد علي زين العابدين مُحَمَّد الباقر لا زيد بن علي، وأهم فرقهم الاثنا عشرية والإسماعيلية. والاثنا عشرية هي الفرقة التي تقول باثنى عشر إمامًا، هم: علي المرتضى، والحسن المجتبى، والحسين الشهيد، وعلي زين العابدين السجاد، ومُحَمَّد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومُحَمَّد النقي، وعلي التقي، والحسن العسكري الزكي، ومُحَمَّد المهدي الذي اختبأ واختفى سنة 260 هـ وما يزال مستورًا حتى يظهر في آخر الزمان؛ ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورًا.

أما الإسماعيلية فساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق، وزعموا أن الإمام بعده ابنه إسماعيل، وإليه تنسب هذه الفرقة. وافترقت الإسماعيلية فرقتين: - فرقة منتظرة لإسماعيل بن جعفر، مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه. - وفرقة قال: كان الإمام بعد جعفر سبطه مُحَمَّد بن إسماعيل بن جعفر، حيث إن جعفرًا نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه مُحَمَّد بن إسماعيل. وقد نشأ ذلك المذهب بالعراق كغيره من مذاهب الشيعة، واضطهد كما اضطهد غيره، وقد فر المعتنقون له بتأثير الاضطهاد إلى فارس وخراسان، وما وراء ذلك من الأقاليم الإسلامية كالهند والتركستان، وهناك خالط مذهبهم بعض آراء من عقائد الفرس القديمة، والأفكار الهندية، وتحت تأثير ذلك انحرف كثيرون منهم فقام فيهم ذوو أهواء؛ ولذلك حمل اسم الإسماعيلية طوائف كثيرة، بعضهم لم يخرجوا عن دائرة الإسلام، وبعضهم انحرفوا بما انتحلوا من نحل لا يتفق ما اشتملت عليه مع المقرر الثابت من الأحكام الإسلامية، وقد سموا الباطنية أو الباطنيين؛ وذلك لاتجاههم إلى الاستخفاء عن الناس، الذي كان وليد الاضطهاد أولًا، ثم صار حالة نفسية عند طوائف منهم. ومن الآراء الشاذة التي قال بها الإسماعيلية الباطنية: - زعمهم أن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل طلبًا للزعامة بدعوة النبوة والإمامة. - تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلًا يورث تضليلًا، فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته وإدمان خدمته، والمراد بالصوم الإمساك عن إفشاء سر الإمام دون الإمساك عن الطعام، والزنى عندهم إفشاء سرهم بغير عهد وميثاق. وزعموا أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها، وتأولوا في ذلك قوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، وحملوا اليقين على معرفة التأويل.

كما زعموا أن تكاليف الدِّين وشعائره ليست إلا للعامة ولا يلزم الخاصة أن يعملوا بها. ويقول البغدادي موضحًا خطر الباطنية: " اعلموا -أسعدكم اللَّه- أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس، بل أعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان؛ لأن الذين ضلوا عن الدِّين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلون بالدجال في وقت ظهوره؛ لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها على أربعين يومًا، وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر. الكيسانية والراوندية: سميت الكيسانية بذلك نسبة إلى كيسان رئيس جند المختار ابن عبيد اللَّه الثقفي الذي خرج ودعا إلى مُحَمَّد بن الحنفية. ْومنهم من يزعم أن مُحَمَّد بن الحنفية لا يزال حيًّا بجبال رضوى. ومنهم من قال: إن الإمام بعد ابن الحنفية ابنه عبد اللَّه بن مُحَمَّد أبو هاشم الذي أوصى لمُحَمَّد بن علي بن عبد اللَّه بن العباس بالإمامة، ومن ثم انتقلت الإمامة من أبناء علي إلى أبناء العباس. ومن الكيسانية نشأت الراوندية، حيث أوصى مُحَمَّد بن علي بن عبد اللَّه بن العباس إلى ابنه إبراهيم، وإبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس السفاح مؤسس الدولة العباسية. والراوندية فرقة تشيعت للعباسيين ولم تكتف بمدح العباس بل أنكروا على أبي بكر وعثمان أن تقلدوا الخلافة مع وجود العباس، وأنه ما كان يجوز لأحد أن يتولاها إلا العباس وعلي؛ لأن العباس أذن له فيها. بل ذهبوا إلى أبعد من هذا حينما قَالَ بَعْضُهُمْ بالتناسخ، أي: حلول روح آدم في زعيم لهم، وروح جبريل في آخر.

ثالثا: المرجئة

ثالثًا: المرجئة يوشك إجماع المؤرخين والمهتمين بعلم الكلام أن ينعقد على أن ظهور المرجئة كفرقة لها قسماتها الفكرية المميزة وآراؤها العقدية المغايرة للمألوف آنذاك - قد ارتبط ارتباطًا مباشرًا بمغالاة الخوارج في تكفير مخالفيهم، والنظر إلى مرتكب الكبيرة على أنه كافر، تخرجه ذنوبه من دائرة الإيمان والإسلام جميعًا، واعتبار العمل جزءًا من إيمان صاحبه، وأن الفصل بينهما فصل بين مرتبطين ضرورة. وعلى العكس من معتقد الخوارج، ذهبت المرجئة إلى أن الإيمان عقد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليث ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ووليٌّ لله عَزَّ وَجَلَّ، من أهل الجنة. ولما كان الإيمان عند المرجئة غير مرتبط بعمل الجوارح قال مقاتل بن سليمان -وكان من كبار المرجئة-: لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلًا، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلاً. وذهب عبد القاهر البغدادي إلى أن سبب تسميتهم بالمرجئة من الإرجاء بمعنى التأخير؛ لأنهم أخروا العمل عن الإيمان، بيد أن الراجح لدينا فيما يتصل بأمر التسمية، أنهم سموا بذلك؛ لأنهم يرجئون الحكم على صاحب الكبيرة إلى يوم الدِّين، ويفوضون أمره إلى ربه. ونحسب أن هذا الرأي يستقيم مع الملابسات التاريخية التي واكبت نشأة المرجئة في المجتمع الإسلامي، فهم قد ظهروا في عصر غلبت عليه نزعة تكفير الخصوم، أو على أقل تقدير نسبتهم إلى الفسوق والعصيان والمخالفة عن أوامر اللَّه، أما الخوارج فيكفرون عثمان وعليًّا والقائلين بالتحكيم، وثمة من الشيعة من يكفر أبا بكر وعمر وعثمان، والفريقان جميعًا -الشيعة والخوارج- يكفرون الأمويين ويعدونهم مغتصبين للخلافة،

والأمويون يقاتلون الجميع ويرون أنهم ضالون مضلون، " فظهرت المرجئة تسالم الجميع، ولا تكفر طائفة منهم، وتقول: إن الفرق الثلاث: الخوارج والشيعة والأمويين مؤمنون، وبعضهم مخطئ وبعضهم مصيب، ولسنا نستطيع أن نعين المصيب، فلنترك أمرهم جميعًا إلى اللَّه، ومن هَؤُلَاءِ بنو أمية، فهم يشهدون أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن محمدًا رسول اللَّه، فليسوا إذن كفارًا ولا مشركين، بل مسلمين نرجىء أمرهم إلى اللَّه الذي يعرف سرائر الناس ويحاسبهم عليها ". والحق أن هذه الفرقة قد وجدت لنفسها من مواقف بعض الصحابة تجاه الفتنة مستندًا دعمت به وجهة نظرها، بل يصح لنا أن نعتبر مواقف هَؤُلَاءِ الصحابة البذرة الأولى التي نبتت منها المرجئة، وتفصيل ذلك أن ثمة من الصحابة فئة لما رأوا الفتنة محدقة بالمسلمين، ومقالة الكفر فاشية بين الناس جارية على ألسنتهم يرمون بها كل أحد مهما علا قدره وتميزت مكانته -: اعتصمت هذه الفئة من الصحابة بالصمت، وأحجمت عن الانخراط في الفتنة، وتمسكت بحديث أبي بكرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ستكون فتن: القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه، فقال رجل: يا رسول اللَّه، من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة ". ومن الصحابة الذين امتنعوا عن المشاركة في الفتنة عملًا بحديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: سعد ابن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمر، وأبو بكرة راوي الحديث وعمران بن الحصين، وروي أن سعد بن أبي وقاص كان يقول إذا سئل القتال: " لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يقول: هذا مؤمن وهذا كافر ". " وبهذا أرجئوا الحكم في أيِّ الطائفتين أحق، وفوضوا أمورهم إلى اللَّه سبحانه وتعالى. وقد قال النووي في ذلك: " إن القضايا كانت بين الصحابة مشبهة، حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين، ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا

بدع المرجئة وضلالهم:

الصواب ". إن الحقيقة التي ينبغي التنويه بها والإشارة إليها في هذا المقام، أن فرقة المرجئة على الرغم من خروجها من رحم الأحداث السياسية، فإنها مذهب ديني فلسفي، موضوعه البحث عن حقيقة الإيمان وعلاقة العمل به، وكانت الغاية التي تهدف إليها -أصلًا- الامتناع عن التسرع في إصدار الأحكام على أعمال الصحابة والتابعين، ولا سيما تلك التي صدرت في خلال المنازعات التي وقعت بينهم، فنظرة هذا المذهب إذن كانت إلى الماضي، وكان حكمه على أعمال تاريخية. وقد صور ثابت قطنة -شاعر المرجئة- عقيدة الإرجاء خير تصوير في قصيدة له، نجتزئ منها بهذه الأبيات: يا هند فاستمعي لي إن لسيرتنا ... أن نعبد اللَّه لم نشرك به أحدا نرجي الأمور إذا كانت مشبهة ... ونصدق القول فيمن جار أو عندا المسلمون على الإسلام كلهم ... والمشركون استووا في دينهم قددا ولا أرى أن ذنبًا بالغ أحدًا ... م الناس شركًا إذا ما وحدوا الصمدا بدع المرجئة وضلالهم: إن تحرج المرجئة من الحكم على أعمال الصحابة، وتأثمهم من تكفير صاحب الكبيرة يحمد لهم من غير مماراة، وهم في ذلك لا يخالفون المسلمين من حيث تفويض أمر مرتكب الكبيرة إلى اللَّه، إن شاء عذبه، وإن شاء تغمده برحمته وأدخله الجنة. بيد أن المرجئة المتأخرين قد بالغوا في فصل الإيمان عن العمل، فأتوا بدعًا وضلالات تخرجهم من دائرة الإسلام أصلاً، فزعموا -كما أشرنا في صدر الحديث عنهم- أنه لا يضر مع الإيمان ذنب جلَّ أو صغر، كما لا يجدي مع الشرك والكفر طاعة، فالإيمان في القلب واللسان، وهو المعرفة باللَّه تعالى، والمحبة والخضوع له بالقلب.

وزعم أبو الحسين الصالحي أن الصلاة ليست بعبادة لله، وأنه لا عبادة إلا الإيمان به وهو معرفته، والإيمان لا يزيد ولا ينقص وهو خصلة واحدة. بل إن بعضهم زعم أن لو قال قائل: أعلم أن اللَّه قد حرم أكل الخنزير ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه هو هذه الشاة أو غيرها، كان مؤمنًا. ولو قال: أعلم أنه قد فرض الحج إلى الكعبة، غير أني لا أدري أين الكعبة ولعلها بالهند كان مؤمنًا، ومقصوده أن أمثال هذه الاعتقادات أمور وراء الإيمان لا أنه شاك في هذه الأمور، فإن عاقلًا لا يستجيز عقله أن يشك في أن الكعبة إلى أي جهة هي، وأن الفرق بين الشاة والخنزير ظاهر. على هذا النحو هوَّن المرجئة من شأن العمل، وجعلوا الإيمان مجرد التصديق القلبي، وإن دل عمل الجوارح على خلافه. فلا غرو أن أطمع هذا المذهب الفساق في عفو اللَّه، واتخذوا من أقوال المرجئة ذريعة يبررون بها آثامهم، حتى غدا الإرجاء دين المستهترين وعقيدة المذنبين، وقد أثر عن زيد ابن علي بن الحسن أنه قال: " أبرأ من المرجئة الذين أطمعوا الفساق في عفو اللَّه ". والخلاصة أن المرجئة ينقسمون إلى قسمين: قسم: توقف في الحكم على أعمال الصحابة، وتحرج من تصويب مواقفهم أو تخطئتها. والقسم الثاني: منكر لأن يكون العمل جزءًا من الإيمان، وأن عفو اللَّه يسع الصالحين والمذنبين جميعًا، وأنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الشرك طاعة. * * *

الفصل الثاني المذاهب الاعتقادية

الفصل الثاني المذاهب الاعتقادية توطئة: امتاز الإسلام بعقيدته الواضحة الصافية، التي تخاطب العقل والوجدان جميعًا، وتسلك في سبيل إقناع الناس بها طريقًا وسطًا بين المنطق والعاطفة لا تجد فيه أمتًا ولا عوجًا، ولسنا نقصد بالمنطق ذلك العلم الذي تقررت أصوله وتحددت قواعده لدى اليونان، واتسم بغير قليل من الغموض والتعقيد، وإنما نريد به لفت العقول المستقيمة إلى ما يغص به الكون الفسيح من أعلام واضحة وأدلة مقنعة على وجود اللَّه وقدرته ووحدانيته، والتي لا تملك هذه العقول أمامها إلا الإذعان والتسليم؛ قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقال كذلك: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) والحق أن الآيات التي تؤدي هذا المعنى وتلفت إليه في القرآن الكريم أكثر من أن تحصى. ولا ريب أن وجود رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين المسلمين يميط اللثام لصحابته عما التبس عليهم من مسائل العقيدة، ويجيب عما يضطرب في نفوسهم وضمائرهم من أمور مشكلة قد اشتبهت عليهم - قد عصم المسلمين من التردي في هوة الخلاف والجدل الذي ينفي من القلوب يقين الاعتقاد، ويبث فيها بذور الشك والارتياب. وتدلنا الآثار الصحيحة أن شيئًا من التفكير في أصول الدِّين والنظر في بعض مسائله قد مس عقول نفر من الصحابة مسًّا رفيقًا، وإن لم يمعنوا النظر أو يُوغلوا في الدرس، فقد روي أن أحد الصحابة حين أخبرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بأن كل إنسان قد كتب مقعده من النار أو الجنة قال: ففيم العمل إذن يا رسول اللَّه؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ". وروي أيضًا عن أبي ذر الغفاري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين أخبره بأن من مات من أمته لا يشرك باللَّه شيئًا دخل الجنة، سأله أبو ذر بقوله: وإن زنى وإن سرق؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وإن زنى وإن سرق ".

ومن الواضح أن السؤال الأول كان يتصل بالقدر ومشكلة التكليف، والثاني يتصل بحكم صاحب الكبيرة. ولم تكن هذه التساؤلات من جانب الصحابة للرسول الكريم عن رغبة في الجدال المذموم وإثارة للشبهات التي يأباها الإسلام، بل كانت صادرة -هي وغيرها- عن رغبة صادقة ونزعة مخلصة في فهم الدِّين وتدبر مراميه، حتى يكون حظ الاقتناع العقلي في الإيمان به أوفر من حظ الجهل والتقليد. فإذا كان هذا هو حال المؤمنين الصادقين في طرح الأسئلة على النبي فيما يتصل بالقدر وصلتها بالعقيدة بينة، فإن ثمة من المشركين من أثاروا هذه المسألة لا يريدون بها إلا الفتنة، فقال اللَّه فيهم: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7). وقد اتخذ أُولَئِكَ من القول بالقدر ذريعة تسوغ لهم الإشراك باللَّه؛ قال تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148). ومهما يكن من أمر هَؤُلَاءِ المشركين، فإن العقيدة الإسلامية على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اتسمت بما أشرنا إليه قبل قليل من القوة والوضوح والصفاء، وما كان لشبه المشركين أن تزعزع الإيمان بها أو اليقين فيها، لا سيما وقد التزم المسلمون المنهج السديد في النظر إلى العقائد وأصول الدِّين، وهو منهج يقوم على التسليم بما ورد في كتاب اللَّه دون المماراة فيه أو تأويله، وتفويض أمر المتشابه إلى اللَّه سبحانه وتعالى، وحسبك شاهدًا على صدق مقالتنا أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد أمر بوجوب الإيمان بالقدر ونهى عن الخوض فيه؛ " لأن الخوض فيه مضلة للأفهام ومزلة للأقدام، وحيرة للعقول في مضطرب من المذاهب والآراء، وذلك يدفع إلى الفرقة والانقسام، ولأن إثارة الجدل فيه إثارة في أمر ليس في سلطان المجادل الإقناع به، وليس بيد أحد من الأدلة العقلية ما يحسم به الخلاف، ويقطع

في الموضوع ". فلا غرو أن كان المسلمون على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعد وفاته بقليل على منهاج واحد في أصول الدِّين وفروعه، غير من أظهر وفاقًا وأضمر نفاقًا على حد تعبير البغدادي. ويسعنا أن نضيف إلى ما سلف أن المسلمين في عهد أبي بكر الصديق قد شُغِلوا بقمع المرتدين، وفتح الأمصار والأقاليم لنشر الدعوة الإسلامية وبثها في الآفاق، فصرفوا إلى الدعوة نفسها أكثر مما عنوا بالنظر فيها والجدال حولها. بيد أن الفتح نفسه وما ترتب عليه من اتساع رقعة الإسلام كان عاملًا من عوامل الاختلاف حول العقائد الإسلامية، وسببًا أصيلًا من أسباب الشقاق الفكري الذي صار معلمًا بارزًا من معالم الحياة الإسلامية حتى الآن، على نحو ما سوف نشير إليه بعد قليلٍ. نَعِمَ المسلمون بتلك الحالة التي أشرنا إليها من الاستقرار الدِّيني والهدوء الفكري مدة خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب وشطرًا من خلافة عثمان بن عفان - رضي اللَّه عنهم أجمعين - وعرف الاختلاف طريقه إلى المسلمين منذ عهد عثمان نفسه، وكان مقتله ذروة هذا الاختلاف الذي تجاوز المناقشات الفكرية والحوارات الهادئة إلى المناجزة العنيفة في ميادين القتال وساحات الوغى، ونشأ من هذه وتلك فرق سياسية اصطرعت حول " مبدأ الخلافة "، وأدلى كل منها بما يحسبه صوابًا في ميدان السياسة، وهي: الشيعة والخوارج ثم المرجئة ويمكن أن يضاف إليها الحزب الأموي " وهذه الأحزاب وإن كانت في الواقع سياسية، إلا أنها لم تتخذ الشكل السياسي البحت، بل اصطبغت بصبغة دينية قوية، وصار كل حزب سياسي فرقة دينية، وصار الذين يقتتلون سياسيًّا يقتتلون دينيًّا، ولكل حزب أدلته الدِّينية التي يؤيد بها رأيه، وأخذ كل حزب يؤول في القرآن حسبما يوافق نزعته ورأيه ". وأثارت هذه الفرق مسألة مرتكب الكبيرة، واحتدم النزاع فيما بينها حول نسبته إلى الكفر أو الإيمان، وهل هو كافر مخلد في النار أم مؤمن يدخله اللَّه برحمته الجنة، " ولقد ساقهم الخلاف في هذه المسألة إلى الخلاف في تعريف الكفر والإيمان والكبائر والصغائر ونحو ذلك، وتكون من كل منهم فرق لها آراؤها في الأصول والفروع مما كان أساسًا فيما بعد لعلم الكلام ".

الصدام الفكري بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى:

الصدام الفكري بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى: لم يكد القرن الأول الهجري ينتهي حتى كان المسلمون قد ضموا إلى دولتهم أقطارًا شاسعة متباينة في الدِّين والعقيدة تباينها في نمط الحياة وطريقة العيش، ففتحت بلاد العراق وفارس وما وراءهما، والشام ومصر وما يليهما، وأوغل المسلمون في الفتح فعبروا المحيط الأطلسي إلى أوربا ومدوا نفوذهم إلى الأندلس. والحق أن حركة الفتوحات هذه قد امتد تأثيرها ليشمل إلى الجوانب السياسية والاقتصادية الدِّين والعقائد وما يرتبط بهما من شئون الفكر وألوان الثقافة، وذاك أمر ما نعلم أن أحدًا من الدارسين أو الباحثين قد شكك فيه أو غض الطرف عنه، بل جلُّ الباحثين الذين ينظر إليهم بعين الاحترام والاعتبار قد أرجعوا نشأة علم الكلام والتفكير الفلسفي في الإسلام إلى هذا السبب، بالإضافة إلى أسباب أخرى أشرنا إلى بعضها وقد نشير فيما بعد إلى بعضها الآخر، ولا غرابة في ذلك إذا نحن علمنا أن هذه البلاد المفتوحة لها عقائدها ودياناتها وثقافاتها المختلفة فتجد النصرانية في مصر والشام والعراق وإفريقية، وتطل عليك اليهودية من العراق وشمال الحجاز، ولو قد مددت ببصرك إلى فارس وما وراء النهر لرأيت الزرادشتية والمانوية والمزدكية، وتستطيع أن تقف في غير ما صعوبة ومشقة على الفلسفة اليونانية منبثة في ثنايا هذه الأقطار. إذا علمت ذلك كله -وما نحسب ذلك أمرًا عسيرًا- فإنك لا محالة تتبين أثر هذه الثقافات المختلفة والديانات المتباينة في العقيدة الإسلامية، ومدى ما أسهمت به في تطورها عما كانت عليه في العهد الأول، وما أضافته إلى البحث الدِّيني والإسلامي من مسائل وأفكار لم يكن للمسلمين عهد بها ولا تفكير فيها، ودونك أيها القارئ الكريم بعض الأمثلة: تحدث اليهود في النسخ ولم يجيزوا القول به، فالشريعة عندهم ابتدأت بموسى وتمت به، واهتموا بمسائل الذات والصفات إذ وجدوا في توراتهم ما يدعو إلى ذلك من النزول عند طور سيناء انتقالًا، والاستواء على العرش استقرارًا، وجواز الرؤية وغير ذلك. كما ناقش اليهود فكرة القدر وانقسموا حولها إلى فريقين: فريق يرى الجبر والاستسلام، وفريق يرى القدرة والاختيار. وقال اليهود بالرجعة، فزعموا أن هارون مات وسيرجع، ومنهم من قال: غاب وسيرجع.

أما النصارى ففي ثقافتهم الدِّينية مسائل يدلنا النظر في علم الكلام أن المسلمين قد تأثروا بها مثل مسألة الحشر، وهل يكون للأبدان والأرواح أو للأرواح فقط، وهل صفات اللَّه زائدة عن ذات اللَّه أو هو هي، وهل ينزل المسيح قبل يوم القيامة أو لا ينزل، وحرية الإنسان في إرادته أو القدر إلى غير ذلك مما ظهر الخلاف فيه بين فرق المسلمين. وإلى المانوية والمزدكية والزرادشتية يرجع الأثر الأكبر في كثير من الأفكار المنحرفة التي عرفتها الثقافة الإسلامية: كالتناسخ والحلول والاتحاد. " وكان الفرس ينظرون إلى ملوكهم نظرة إلهية وكانوا يعتقدون أن اللَّه اصطفاهم للحكم بين الناس، وخصهم بالسيادة، وأنهم ظل اللَّه في أرضه. . . وهذه النظرة تأثر بها الشيعة في علي وأبنائه واعتقادهم أنهم أحق بالخلافة دون سواهم ". ولا أحسبني في حاجة إلى إقامة الأدلة والتماس البراهين على انتقال هذه الأفكار وغيرها إلى العقيدة الإسلامية، وأثرها في نشأة علم الكلام نفسه عند المسلمين، فنظرة سريعة في مصنفات هذا العلم تدلك على هذا في وضوح وجلاء، ولسنا حين نقرر ذلك بدعًا بين الباحثين الذين سبقوا إلى مثل رأينا حتى غدا محل إجماعهم ولقي من القبول والتأييد أكثر مما صادف من الإنكار والمعارضة. إن انتقال مسائل العقائد الدِّينية لدى الأمم التي أسلفت ذكرها أمر فرضه واقع حياة المجتمع الإسلامي نفسه الذي كان مسرحًا لديانات مختلفة، دعت تعاليم الإسلام إلى احترامها وعدم جدال أصحابها إلا بالتي هي أحسن، ونهى المسلمين عن فرض دينهم على مخالفيهم؛ قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) " وبتقرير الإسلام لهذا المبدأ أصبح للكثيرين من أهل هذه الديانات أن يقيموا بين المسلمين على عقائدهم القديمة، في نظير مبلغ من المال يدفعه القادر منهم لأجل حمايته والدفاع عنه، وتمتعه بما يتمتع به المسلمون من حقوق، بل لقد طمع بعضهم في أن يحولوا بعض المسلمين إلى دياناتهم بينما كان المسلمون؛ من جانبهم جاهدين في نشر الدعوة الإسلامية ورفع رايتها، وكان يقوم بهذه المهمة علماء مبرزون في العواصم الكبرى للأقطار التي فتحها المسلمون؛ فثار بذلك خلاف بين المسلمين وبين أهل هذه الديانات كان سببًا في تبادل الأفكار بين الفريقين ".

أولا: المعتزلة

ويسعنا أن نضيف إلى ذلك أن ثمة من أهل هذه الديانات من أسلم بلسانه ولم يطمئن قلبه للإسلام؛ رغبة في الكيد له والطعن فيه، بل إن من أسلم منهم صادقًا مزج -عن غير قصد الإساءة- بين العقيدة الإسلامية، وما درج عليه من عقائد دينه القديم، فأسهم بغير شك في تطوير العقيدة الإسلامية، وتغييرها. أمست العقيدة الإسلامية -لما أسلفنا من أسباب- مفتقرة إلى من ينافح عنها ضد خصومها من أهل الديانات الأخرى، الذين طمسوا معالمها أو كادوا، وشوهوا صفاءها ونقاءها، بما ألصقوه بها من آراء غريبة عنها وأفكار مناقصة لها، بل إن حاجة العقيدة الإسلامية إلى من يدافع عنها فاقت حاجتها لمن يدعو لها ويروج لمبادئها. ودعت الظروف الفكرية التي أحاطت بالمسلمين آنذاك إلى أن يتسلح من ندبوا أنفسهم للدفاع عن العقيدة الإسلامية بأسلحة الخصوم نفسها وهي المنطق والفلسفة وأدوات الحجاج العقلي والصراع الجدلي؛ إذ كان من أهل الديانات المناوئة للإسلام من حذق الفلسفة اليونانية واصطنع أدواتها في تقرير عقائده والدعوة لها، " وهكذا خاض المسلمون منذ عصر الأمويين في العقائد بمنهج جدلي عقلي غير ملتزمين بمنهج الصحابة رضوان الله عليهم، وقد أدى هذا الاتجاه إلى اختلاف المسلمين ووجود الفرق المختلفة التي حاولت كل منها أن تظهر رأيها على أنه الصورة الحقيقية للعقيدة الإسلامية الصحيحة عن طريق جذب النصوص الشرعية إلى رأيها الخاص، وقد وجدوا في المتشابه مجالًا لذلك، فأخذوا يؤولون ويخرجون النصوص تخريجًا يجعلها سندًا لهم ". وننناول الحديث عن أهم هذه الفرق فيما يلي: أولاً: المعتزلة أشرنا آنفًا إلى أن العقيدة الإسلامية قد مست حاجتها إلى من ينافح عنها، ويدحض شبه الطاعنين فيها من أهل الديانات الأخرى، وأن من يقوم بهذه المهمة ينبغي عليه أن يقف على أدوات الحجاج العقلي ووسائل الجدل التي أتقنها الخصوم، وهي المنطق والفلسفة، والحق أن المعتزلة قد قاموا بهذه المهمة خير قيام، وأسهموا في ميدان الدفاع عن الإسلام وتبيين عقائده والاستدلال لها استدلالًا عقليًّا ممتازًا - ما يحمد لهم، ويذكر في كفة حسناتهم بغير قليل من الإكبار والاحترام، " فالمعتزلة تعد من أوائل الفرق الكلامية التي نظرت في العقائد وأيدتها بالبراهين العقلية، وخاضت في الجدل والكلام، وبرعت في

أولا: النشأة وسبب التسمية:

مناظرة الخصوم وإفحامهم ". وينتظم حديثنا عن هذه الفرقة الكلامية عدة محاور: أولًا: النشأة وسبب التسمية. ثانيًا: مراكز الاعتزال وفرق المعتزلة. ثالثًا: منهج المعتزلة في درس العقائد. رابعًا: الأصول الخمسة التي قال بها المعتزلة. أولًا: النشأة وسبب التسمية: تنسب هذه الفرقة -كما هو مقرر معلوم- إلى واصل بن عطاء (80 - 131 هـ) الذي كان تلميذًا للحسن البصري أشهر علماء زمانه وأبرزهم. وثمة خلاف شجر بين الدارسين حول سبب تسمية هذه الفرقة للمعتزلة، أثمر -أي هذا الخلاف- ثلاثة آراء متباينة لا بأس من ذكرها، ثم نختار من بينها ما نراه صوابًا. أما الرأي الأول: فيذكره الشهرستاني صاحب الملل والنحل، حيث روى أن رجلًا دخل على الحسن البصري فقال له: يا إمام الدِّين: لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر وهم الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان؛ لأن العمل عندهم ليس ركنًا من الإيمان، فلا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادًا؟ ففكر الحسن في هذه المسألة وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء -الذي كان حاضرًا مجلس الحسن البصري-: أنا لا أقول: إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين، أي: لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل مجلس الحسن إلى مكان آخر من المسجد، فلما رآه الحسن وبعض أصحابه قال: اعتزل عنا واصل؛ فسمي هو وأصحابه معتزلة. والرأي الثاني حكاه المسعودي في مروج الذهب حيث قال: سموا بذلك؛ لأنهم قالوا باعتزال صاحب الكبيرة، فيكون الاعتزال وصفًا لمرتكب الكبيرة في الأصل، وسميت به الفرقة؛ لأنها جعلت مرتكب الكبيرة يعتزل المؤمنين والكافرين.

ثانيا: مراكز الاعتزال وفرق المعتزلة:

أما الرأي الثالث: فقد ذكره البغدادي حين قال: سموا بذلك؛ لأنهم اعتزلوا قول الأمة، فالخوارج كانوا يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر، والمرجئة يقولون: إنه مؤمن، والحسن البصري -وهو ممثل علماء التابعين آنذاك- يرى أنه فاسق وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام. والذي نميل إليه ونأخذ به هو الرأي الثالث؛ " لأن التسمية فيه تكون متعلقة بالجوهر وهو الآراء، لا بالعرض وهو انتقال واصل ومن معه من حلقة من المسجد إلى حلقة أخرى؛ إذ إن هذا الانتقال الحسي ليس بالأمر الهام ذي الخطر الذي من شأنه أن تسمى بسببه فرقة هامة كالمعتزلة ". ومهما يكن من أمر فقد نشأت المعتزلة على يد واصل بن عطاء وفي ذلك يقول طاش كبرى زاده: " وأول ما ظهر مذهب الاعتزال وشاع إنما ظهر من واصل بن عطاء، أخذ الاعتزال عن الإمام أبي هاشم عبد اللَّه بن مُحَمَّد ابن الحنفية الذي قيل: إنه كان أول من أحدث مذهب الاعتزال واخترعه هو وأخوه الإمام الحسن بن مُحَمَّد ابن الحنفية. . . ولكن ظهر واشتهر الاعتزال من واصل بن عطاء أبي حذيفة المعروف بالغزال ". وقُدِّرَ لهذه الفرقة أن تملأ العالم وتشغل الناس، يؤمن بعقائدها الخلفاء وأهل السياسة، فقد اعتقد آراءهم المأمون وحمل الناس عليها حملًا، وامتحنهم بها امتحانًا، وتبعه المعتصم والواثق، فلما جاء المتوكل ناهض المعتزلة وأمر الناس بترك النظر والمباحثة والجدال، وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة، بيد أن المتوكل لم يستطع أن يقضي على آراء المعتزلة ولم يتمكن من اقتلاع أفكارهم من المجتمع الإسلامي، بل ظلت هذه الآراء والأفكار باقية بعده، وبالرغم من العبث بتراثهم وإتلاف كتبهم، فإن آراءهم لا تزال باقية حتى اليوم. ثانيًا: مراكز الاعتزال وفرق المعتزلة: أشرنا فيما سبق إلى نشأة الاعتزال في البصرة على يد واصل بن عطاء، فعُدِّت البصرة لذلك المركز الأول للمعتزلة والمدرسة الرائدة لهم.

بيد أن ثمة مركزًا آخر ازدهر فيه الفكر الاعتزالي وغدا بمثابة المدرسة الثانية للمعتزلة، ألا وهو " بغداد ". والحق أننا لا نعرف على وجه اليقين تاريخ ظهور هذه المدرسة، وإن كان الراجح لدينا أن هذا التاريخ لا يرجع إلى قبل عهد الرشيد، حيث ازدهرت بغداد نفسها من الناحية العلمية منذ عهد الرشيد الذي أولى العلم عناية فائقة وأنزل العلماء في دولته مكانًا رفيعًا، وبلغت مدرسة المعتزلة في بغداد أوج ازدهارها وذروة نفوذها منذ عهد المأمون الذي تبنى الآراء الاعتزالية وحمل الناس على الإيمان بها، وكانت سنة 218 هـ سنة المحنة التي ابتلي فيها المسلمون في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية، وطلب المأمون منهم أن يقروا بخلق القرآن، وبحرية إرادة الإنسان وباستحالة رؤية الباري، ومن لم يفعل ذلك حكم بكفره، ولم تقبل شهادته. على هذا النحو كانت مدرسة البصرة الاعتزالية أسبق إلى الوجود الفكري الإسلامي من مدرسة بغداد، وكانت الأخيرة بمثابة فرع للأولى. وثمة فروق دقيقة نستطيع أن نتبينها بين المدرستين: - أولها: أن مدرسة البصرة كانت أكثر نزوعًا إلى الاستقلال الفكري من مدرسة بغداد. - ثانيها: أن شيوخ مدرسة بغداد كانوا أكثر اتصالًا بالحياة السياسية والعلمية من علماء مدرسة البصرة الذين كانوا منغمسين في بحوثهم العلمية مكتفين بتفكيرهم الهادئ في العقائد الإسلامية. ولا غرابة في ذلك، حيث إن بغداد هي حاضرة الخلافة العباسية ومركز الحكم، ولخلفائها اتصال بالمعتزلة وإعجاب بآرائهم وحدب على شيوخهم. - وثمة أمر ثالث يفرق بين المدرستين هو " أن مدرسة بغداد عرفت بالتعمق في البحث والانتفاع بالآراء الفلسفية إلى أقصى حد؛ لشدة حركة الترجمة في بغداد، فمثلًا نرى ثمامة ابن أشرس يذهب إلى أن العالم برز من اللَّه؛ لأن طبيعة اللَّه من شأنها الإيجاد بالطبع، ولا يمكن أن يتخلف ذلك، ولا شك أن هذا الرأي يؤدي إلى القول بقدم العالم؛ لأن طبيعة اللَّه لا تتغير، وثمامة في هذا الرأي متأثر بآراء أرسطو في قدم العالم ".

ثالثا: منهج المعتزلة في درس العقائد:

على هذا النحو كان تأثر معتزلي بغداد بالفلسفة اليونانية عظيمًا، ولقد مزجوا هذه الفلسفة بدرس العقائد الإسلامية، على نحو ما سنعرف عند حديثنا عن منهج المعتزلة. وقد افترقت المعتزلة إلى اثنتين وعشرين فرقة وهي: الواصلية، والعمروية، والهذلية، والنظامية، والأسوارية، والمعمرية، والإسكافية، والجعفرية، والبشرية، والمرداوية، والهاشمية، والثمامية، والجاحظية، والخابطية، والحمارية، والخياطية، وأصحاب صالح قبة، والمريسية، والشحامية، والكعبية، والجبائية، والبهشمية المنسوبة إلى أبي هاشم الجبائي. فهذه -كما يذكر البغدادي- ثنتان وعشرون فرقة، فرقتان منها من جملة فرق الغلاة في الكفر، وهما: الخابطية والحمارية، وعشرون منها قدرية محضة. على أن ثمة أصولًا مشتركة تؤلف بين هذه الفرق المختلفة، درج الباحثون على نعتها بالأصول الخمسة، ونرجئ الحديث عنها بعد أن نلم بمنهج المعتزلة في درس العقائد. ثالثًا: منهج المعتزلة في درس العقائد: أشرنا فيما سبق إلى أن للسلف - رضوان اللَّه عليهم - طريقة في فهم العقيدة تنهض على ساق من النصوص -القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة- وساق من المعرفة العميقة باللغة العربية والفقه الواسع بأسرارها، ولم يكونوا ينحرفون قليلًا أو كثيرًا عن هذا المنهج الذي أرسى دعائمه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإذا ما اشتبه عليهم أمر من أمور العقيدة توقفوا فيه وفوضوا أمره إلى الحق تبارك وتعالى. ولسنا في حاجة إلى أن نقرر أن السلف الصالح قدموا النقل على العقل، وكانت مهمة العقل لديهم مقصورة على فهم النصوص دون تأويل، فلا غرو أن كان العقل تابعًا للنقل أو النص أو الوحي، سمه ما شئت.

أما المعتزلة فقد خالفوا هذا المنهج، حيث اعتدوا بالعقل اعتدادًا كبيرًا، فارتادوا بالمسلمين في فهم العقائد ودرسها طريقًا جديدة لم يألفها المسلمون ولا كان لهم عهد بها من قبل. بيد أن ذلك لا يعني أنهم أهملوا النقل أو أنكروا حجيته، بل كان منهجهم يعتمد على المنقول والمعقول جميعًا، وقد أشار إلى ذلك الإسفراييني وذكر أنهم أول فرقة أسسوا قواعد الخلاف وجمعوا بين المعقول والمنقول، وأقاموا سياجًا قويًّا من البراهين والحجج المنطقية للدفاع عن العقيدة في مواجهة المخالفين لها والمعترضين عليها. ولقد عزا الشهرستاني هذه النزعة العقلية التي امتاز بها المعتزلة إلى تأثرهم بالفلسفة اليونانية، وإدمانهم النظر في المترجم منها إلى العربية. ويقول أحد الباحثين معلقًا على ذلك: " وقد ظهر أثر هذا التأثر بوضوح في آرائهم وأدلتهم ومقدمات براهينهم وقد دفعهم إلى ذلك أمران: الأول: أنهم وجدوا فيها -أي في الفلسفة اليونانية- ما يرضي منهجهم العقلي وشغفهم الفكري، وجعلوا فيها مرانًا عقليًا جعلهم يلحمون الحجة بالحجة. الثاني: أن الفلاسفة وغيرهم لما هاجموا بعض المبادئ الإسلامية تصدى هَؤُلَاءِ للرد عليهم، واستخدموا بعض طرقهم في النظر والجدل، وتعلموا الكثير منها ليستطيعوا أن ينالوا الفوز عليهم ". وإذا كان المعتزلة يجمعون في درسهم للعقائد الدِّينية بين العقل والنقل، فإنهم يقدمون العقل ويتخذونه أساس المعرفة الأول، ويرونه قادرًا على معرفة كل شيء ما خلا الذات الإلهية، فلا غرو أن عولوا عليه في النظر في العقائد وأمور السياسة والعلوم المختلفة كالحديث والفقه والأصول. وهم بذلك يختلفون عن الأشاعرة والماتريدية اختلافًا كبيرًا حيث يقدم هَؤُلَاءِ الدليل النقلي على الدليل العقلي، ويرون العقل مجرد أداة لفهم النصوص واستنباط الأحكام

منها. ولقد حمل هذا المنهج الاعتزالي أحد المشتغلين بالفكر الفلسفي في الإسلام إلى التصريح بأن المعتزلي لم يكن يأبه أن تكون النصوص الدِّينية متوافقة مع أصوله الفلسفية أو غير متوافقة، وأن كل ما يرمي إليه هو دعم الأصل العقلي الذي وصل إليه. كان المعتزلة يرون أن العقل أصل والسمع -أي النقل- فرع، ولا يجوز تقديم الفرع على الأصل، ومن هنا كان تقديمهم العقل على النقل. ويتمثل النقل لدى المعتزلة في ثلاثة أدلة: الكتاب، والخبر المجمع عليه، والإجماع، " وقد عولوا جميعًا في بحوثهم على القرآن، أما الحديث فقد اختلفوا في موقفهم منه، فواصل لم يقبل منه إلا المتواتر أو المشهور، وعمرو بن عبيد شكك في الرواية والرواة، وأبو الهذيل العلاف يرفض المتواتر، وبلغت هذه النزعة أوجها عند النظام الذي أنكر بعض الأحاديث، ورفض الإجماع، ولكن هذه النزعة قد خفت ومالت إلى الاعتدال عند المتأخرين من المعتزلة، وخاصة القاضي عبد الجبار وتلاميذه الذين اعتدوا بالحديث ". وللدليل النقلي عند المعتزلة ضوابط وشروط، لا يأخذون به إلا عند تحققها فيه، وهي: أولًا: ألا يتعارض مع العقل؛ لأن العقل حجة اللَّه والشرع حجة اللَّه، وحجج الله تتعاضد ولا تتعارض. ثانيًا: أن يكون قطعي الثبوت؛ ولذلك فهم لا يأخذون بأحاديث الآحاد ولا يعولون عليها في مسائل الاعتقاد. ثالثًا: أن يكون قطعي الدلالة بحيث لا يحتمل تأويلًا. رابعًا: الأصول الخمسة التي قال بها المعتزلة: ثمة أصول خمسة أجمع المعتزلة -مع تعدد فرقهم وتباينها- على القول بها، ولم ينتحل نحلة المعتزلة متكلم إلا وقد آمن بها؛ قال أبو الحسن الخياط في كتابه الانتصار: " وليس أحد يستحق اسم الاعتزال، حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

1 - التوحيد:

فإذا جمع هذه الأصول فهو معتزلي ". 1 - التوحيد: لا مراء في أن التوحيد جوهر الإسلام وحجر الزاوية في عقيدته، وما من نبي أو رسول إلا دعا قومه إليه ودلهم على شواهده وبراهينه في الكون. ويقوم التوحيد على تنزيه اللَّه في ذاته وصفاته وأفعاله، وقد سلك السلف فيه طريقًا وسطًا بين النفي والإثبات دون تأويل أو تعطيل أو تشبيه أو تجسيم. أما المعتزلة فلهم طريقة مخصوصة في فهم التوحيد، يدلنا عليها أبو الحسن الأشعري بقوله: " أجمعت المعتزلة على أن اللَّه واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص ولا جوهر ولا عرض، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة، ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق، ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء، وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان. ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن. ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم. ولا يوصف بأنه متناه. ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الحواس، ولا يقاس بالناس، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه. ولا تجري عليه الآفات، ولا تحل به العاهات، وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له، لم يزل أولًا سابقًا للمحدثات، موجودًا قبل المخلوقات، ولم يزل عالمًا قادرًا حيا، ولا يزال كذلك، لا تراه العيون، ولا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأوهام، ولا يسمع بالأسماع، شيء لا كالأشياء، عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء، وأنه القديم وحده ولا قديم غيره، ولا إله سواه، ولا شريك له في ملكه، ولا وزير له في سلطانه، ولا معين على إنشاء، أنشأ وخلق ما خلق، لم يخلق الخلق على مثال سبق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء. آخر ولا بأصعب عليه منه، ولا يجوز عليه احتزار المنافع ولا تلحقه المضار، ولا يناله السرور واللذات، ولا يصل إليه الأذى والآلام، ليس بذي غاية

رأي المعتزلة في الصفات:

فيتناهى، ولا يجوز عليه الفناء، ولا يلحقه العجز والنقص، تقدس عن ملامسة النساء وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء ". ونستطيع أن نزعم أن طريقة المعتزلة في فهم التوحيد تتكئ عندهم على بعض آيات القرآن الكريم التي اصطبغت بصبغة التنزيه؛ كقوله تعالى: (ليَس كَمِثلِهِ شَيءٌ)، وقوله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4). ومهما يكن الدافع الذي سلك بالمعتزلة هذا الطريق في النظر إلى التوحيد، فإن هذا الأصل عندهم ترتب عليه نتائج أخرى تكشف عن رأيهم في بعض مسائل الاعتقاد. رأي المعتزلة في الصفات: الصفات عند المعتزلة قسمان: صفات سلبية تسلب عن اللَّه ما لا يليق به، وصفات ثبوتية أو إيجابية. ولم يجد المعتزلة في إثبات الصفات السلبية لله سبحانه ما يتعارض مع مفهومهم عن التوحيد، أو يمس فكرة التنزيه كما يفهمونها من القرآن الكريم. من هذه الصفات: القدم، وتنفي هذه الصفة عن اللَّه الحدوث، والوحدانية وتنفي عن اللَّه التعدد، ومخالفة الحوادث. " أما الصفات الثبوتية أو الإيجابية التي تتعلق بإثبات معنى زائدٍ على الذات -ومن هذه الصفات: العلم والقدرة والإرادة والحياة- فقد نفى المعتزلة اتصاف اللَّه بها أو أكثرها؛ لأن إثباتها يتعارض مع فهمهم للتوحيد ". فقد رأى المعتزلة أن إثبات هذه الصفات لله يجعلها مشاركة له في القدم، ويعني هذا تعدد القدماء مع ما فيه من معارضة لفكرة التوحيد، كما يؤدي إثباتها إلى الوقوع في التعدد الذي وقع فيه النصارى الذين قالوا بوجود ثلاثة أقانيم في الذات الإلهية، الآب والابن والروح القدس. ولا يخفى أن منهج المعتزلة في النظر إلى صفات اللَّه يتعارض مع القرآن الكريم الذي أثبت هذه الصفات لله، وكذا فهمها الصحابة ولم يجادلوا فيها. وثمة صفات أخرى تصف اللَّه بما يوهم مشابهته للإنسان: كوصف اللَّه بأن له وجهًا أو عينًا أو يدًا، ووصفه بالاستواء على العرش والنزول إلى السماء وغير ذلك. وقد وجد المعتزلة أن الإيمان بهذه الصفات دون تأويل يقود إلى التجسيم الذي

القول بخلق القرآن:

يتعارض مع التوحيد، فلا غرو أن أولوا هذه الصفات، فاليد لديهم تعني القدرة، والعين تدل على الرحمة، والوجه يعني الذات. والحق أن السلف آمنوا بهذه الصفات دون تأويل، وما أدق عبارة الإمام مالك بن أنس في الإنباء عن منهج السلف في فهم الصفات حين سئل عن الاستواء فقال: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ". القول بخلق القرآن: ذهب المعتزلة إلى نفي صفة القدم عن القرآن الكريم، وزعموا أن القرآن مخلوق؛ لأن القول بقدمه يقود إلى تعدد القدماء، وهو ما يتنافى مع مفهومهم للتوحيد. وقد حاول المعتزلة إجبار غيرهم من المسلمين على الأخذ برأيهم، غير أن بعض العلماء من أصحاب الاتجاه السلفي رفضوا هذا الرأي، وكان على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل الذي ذهب إلى أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، وأن البحث في هذه المسألة مبتدع لم يثبت عن السلف، ومن ثم لا ينبغي الخوض في هذه الأمور بل ينبغي الوقوف عند رأي السلف. إنكار رؤية اللَّه: يقول أبو الحسن الأشعري: " أجمعت المعتزلة على أن اللَّه سبحانه وتعالى لا يرى بالأبصار، واختلفت: هل يرى بالقلوب؛ فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة: نرى اللَّه بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بقلوبنا، وأنكر هشام الفوطي وعباد بن سليمان هذا وذلك ". إن القول برؤية اللَّه عند المعتزلة ينطوي على إلحاق الجسمية به سبحانه؛ إذ يجري عليه عند ذلك ما يجري على المرئيات الجسمية، والجسمية تتنافى مع التوحيد. وقد لجأ المعتزلة لإنكار رؤية اللَّه إلى تأويل الآيات التي تثبت هذه الرؤية، كقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23). كما طعنوا في صحة الأحاديث التي تثبت هذه الرؤية؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته " رواه البخاري ومسلم. 2 - العدل: هذا هو الأصل الثاني من الأصول الخمسة التي اتسم بها المعتزلة، ويتخذ أهمية عظيمة

الإنسان مريد لأفعاله:

لديهم، ويمثل مع التوحيد الأصلين اللذين بهما عرف المعتزلة ونسبوا إليهما حتى قيل: " أهل العدل والتوحيد ". والعدل صفة من صفات الحق تبارك وتعالى واسم من أسمائه الحسنى، غير أن المعتزلة نظروا إلى " العدل " نظرة مغايرة لما عليه جمهور المسلمين، وفلسفوه فلسفة خاصة أثمرت عددًا من المسائل العقدية نوجزها فيما يلي: وجوب الصلاح والأصلح على اللَّه تعالى: ويعني ذلك أنه إذا كان ثمة أمران أحدهما صلاح والآخر فساد، وجب على اللَّه تعالى فعل الصلاح منهما، وإذا كان أمران أحدهما صلاح والآخر أصلح وجب على اللَّه تعالى فعل الأصلح. " وقد وجه إلى رأي المعتزلة كثير من الاعتراضات وهي في جملتها وتفصيلها قائمة على أساس أن في إيجاب الصلاح والأصلح تقييدًا لإرادة اللَّه؛ ولذلك أخطأ المعتزلة في القول بإيجاب الصلاح والأصلح على اللَّه، وتطاولوا على مقام الألوهية، وأساءوا الأدب مع اللَّه كما وصفهم الماتريدي بذلك ". الإنسان مريد لأفعاله: إن مسألة الجبر والاختيار مسألة هامة من مسائل علم الكلام الإسلامي، وركن أصيل من أركان الفكر الاعتزالي؛ وتدور هذه المسألة حول العلاقة بين قدرة اللَّه تعالى وأعمال العباد، من حيث إن هذه الأعمال مخلوقة لله تعالى أو مخلوقة للعبد. فقد فرق المعتزلة بين نوعين من أفعال العباد أحدهما ضروري اضطراري، والثاني: اختياري، وحكموا بأن أفعال النوع الأول ليس للإنسان فيها اختيار. أما أفعال النوع الثاني فالإنسان فيها فاعل مختار، " ومن ثم قالوا: إن الأفعال الاضطرارية مخلوقة لله تعالى، ولا دخل لقدرة العبد فيها، وأما الأفعال الاختيارية فقد ذهبوا فيها إلى أنها واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال، وهذه القدرة أوجدها اللَّه تعالى في العبد باختياره ". وقد رأى المعتزلة في قولهم بحرية الإنسان في أفعاله انسجامًا مع العدل الإلهي؛ إذ مما

3 - الوعد والوعيد:

يتعارض مع هذا العدل أن يحاسب اللَّه الإنسان على أفعال ليست من إرادته أو اختياره. كما يترتب على عدم القول بذلك بطلان التكليف والأوامر والنواهي؛ لأن الاختيار مناطها، كما يبطل الثواب والعقاب؛ لأنه لا معنى لأن يعاقب المرء أو يثاب على غير فعله، وتنتفي الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب. وثمة دليل آخر احتج به المعتزلة على حرية الإنسان وإرادته، خلاصته: أن اللَّه تعالى لو كان هو الفاعل المريد لأفعال العباد، لنسب إليه عَزَّ وَجَلَّ ما يقع على أيديهم من المعاصي والشرور والقبائح، وهو أمر لا يصح أن يوصف اللَّه به. واستدل المعتزلة لصحة ما ذهبوا إليه بآيات كثيرة من القرآن الكريم تثبت للإنسان إرادة حرة واختيارًا مقصودًا؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}، وكقوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا). على هذا النحو كان رأي المعتزلة في حرية الإنسان، ورأوا أن القول به يجعل التكليف مستساغًا والثواب مقبولًا والعقاب عادلًا وينزه اللَّه تعالى عن الشرور والآثام التي تجري على يد الإنسان. 3 - الوعد والوعيد: ربط المعتزلة بين العمل والجزاء ربطًا وثيقًا، فجاء قولهم بالوعد والوعيد ملائمًا لهذا الربط، فاللَّه تعالى وعد الطائعين ثوابًا عظيمًا وجنة خالدة وأوعد المذنبين عقابًا أليمًا ونارًا يصلونها، والواجب على اللَّه تعالى ألا يخلف وعده أو وعيده؛ لما ينطوي عليه ذلك من فعل القبيح واللَّه لا يفعل القبيح. يقول أحد الباحثين مصورًا رأي المعتزلة في وجوب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية: " أما وجوب الثواب على الطاعة فلأن التكاليف الشاقة التي كلفنا اللَّه بها ليست إلا لنفعنا وهو بالثواب عليها؛ إذ ليس بمعقول أن يكلفنا اللَّه بشيء لا لغرض لأن ذلك عبث، فيستحيل صدوره من اللَّه لقبحه؛ فوجب أن يكون التكليف لغرض وهذا الغرض ينبغي ألا يكون عائدًا إلى اللَّه لتنزهه وتعاليه عن الانتفاع والضرر، بل يجب أن يكون هذا الغرض عائدًا إلى العبد وحده، ثم يقال: لا يجوز أن يكون عائدًا عليه في الدنيا لأن الإتيان

بالتكاليف بمشقة ملاحظ دنيوي إذ إن العبادة عناء وتعب، وقطع للنفس عن شهواتها فوجب أن يكون الغرض عائدًا عليه في الآخرة، وحينئذ يقال: إما أن يكون هذا الغرض هو التعذيب على قيامه بالتكاليف وأن ذلك ظلم قبيح جدًّا، لا يليق أن يتصف به اللَّه؛ فوجب أن يكون الغرض هو النفع أو بعبارة أخرى هو الثواب وهو المطلوب. وأما العذاب فقالوا فيه: إن مرتكب الكبيرة إذا ما مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو اللَّه عنه، بل يجب عقابه؛ لأن اللَّه أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به، فلو لم يعاقب على الكبيرة وعفا لزم الخلف في وعيده، والكذب في خبره، وهو محال. وأيضا إذا علم مرتكب الكبيرة أنه لا يعاقب على ذنبه لم ينزجر عن الذنب، بل يكون ذلك تقريرًا له على ذنبه، وإغراء للغير عليه، وأن ذلك قبيح مناف لمقصود الدعوة إلى الطاعات وترك المنهيات. وإذن فالثواب على الطاعات، والعقاب على المعاصي واجب لا يمكن أن يتخلف، وعقاب مرتكب الكبيرة هو الخلود في النار ". والحق أن هذا الأصل من أصول المعتزلة يخالف ما عليه جمهور المسلمين من أن الله تعالى لا يجب عليه شيء من عقاب العاصي أو إثابة الطائع، وإن كان الحق لا يسوي بينهما فيثيب الطائع تفضلًا منه ورحمة مصداقًا لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه منه بفضل ورحمة ". أما العاصي فيعاقبه اللَّه بعدله، وإن شاء عفا عنه برحمته، ولا نوجب شيئًا على ربنا سبحانه له الأمر والمشيئة. إن تحقيق الوعيد يرجع إلى قدرة اللَّه على العاصين والمذنبين فهم في قبضته واقعون تحت قهر قدرته، والعفو عنهم لا يلحق باللَّه نقصًا أو قبحًا؛ لأنه يعفو -إذا عفا- عن قدرة، والعفو عند المقدرة هو أسمى درجات العفو. ثم إن قول المعتزلة بإيجاب الوعيد يعد حجرًا على إرادة اللَّه تعالى ومشيئته، وتقييدًا لرحمته.

4 - المنزلة بين المنزلتين:

4 - المنزلة بين المنزلتين: إن هذا الأصل قسمة مميزة من قسمات الفكر الاعتزالي، انفردوا به ولم يشاركهم فيه أحد، والقول به سبب نشأة المعتزلة كما أشرنا آنفًا. ويتعلق هذا الأصل بالحكم على مرتكب الكبيرة، حيث اشتجر الخلاف بين المسلمين حوله وافترقوا شيعًا وأحزابًا؛ يقول البغدادي: " وكان واصل من منتابي مجلس الحسن البصري في زمان فتنة الأزارقة وكان الناس يومئذ مختلفين في أصحاب الذنوب من أمة الإسلام على فرق: فرقة تزعم أن كل مرتكب لذنب صغير أو كبير مشرك باللَّه وكان هذا قول الأزارقة من الخوراج وزعم هَؤُلَاءِ أن أطفال المشركين مشركون ولذلك استحلوا قتل أطفال مخالفيهم وقتل نسائهم سواء كانوا من أمة الإسلام أو من غيرهم، وكانت الصفرية من الخوارج يقولون في مرتكبي الذنوب بأنهم كفرة مشركون كما قالته الأزارقة غير أنهم خالفوا الأزارقة في الأطفال، وزعمت النجدات من الخوارج أن صاحب الذنب الذي أجمعت الأمة على تحريمه كافر مشرك وصاحب الذنب الذي اختلفت الأمة فيه حكم على اجتهاد أهل الفقه فيه وعذروا مرتكب ما لا يعلم تحريمه بجهالة تحريمه إلى أن تقوم الحجة عليه فيه، وكانت الإباضية من الخوارج يقولون إن مرتكب ما فيه الوعيد مع معرفته بالله عَزَّ وَجَلَّ وبما جاء من عنده كافر كفران نعمة وليس بكافر كفر شرك، وزعم قوم من أهل ذلك العصر أن صاحب الكبيرة من هذه الأمة منافق والمنافق شر من الكافر المظهر لكفره. وكان علماء التابعين في ذلك العصر مع أكثر الأمة يقولون إن صاحب الكبيرة من أمة الإسلام مؤمن لما فيه من معرفته بالرسل والكتب المنزلة من اللَّه تعالى ولمعرفته بأن كل ما جاء من عند اللَّه حق ولكنه فاسق بكبيرته وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام وعلى هذا القول الخامس مضى سلف الأمة من الصحابة وأعلام التابعين فلما ظهرت فتنة الأزارقة بالبصرة والأهواز واختلف الناس عند ذلك في أصحاب الذنوب على الوجوه الخمسة التي ذكرناها ". أما واصل بن عطاء -رأس المذهب وزعيم نحلة الاعتزال- فقد خرج عن قول جميع الفرق المتقدمة، وزعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، وجعل مرتكب الكبيرة في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان. ويعلل واصل بن عطاء لرأيه فيقول: إن الإيمان عبارة عن خصال خير، إذا اجتمعت

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

سمي المرء مؤمنًا، وهو اسم مدح، والفاسق لم يستكمل خصال الخير، ولا استحق اسم المدح، فلا يسمى مؤمنًا، وليس هو بكافر أيضًا؛ لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه، لا وجه لإنكارها، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالد فيها؛ إذ ليس في الآخرة إلا الفريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير، ولكنه تخفف النار عليه ". ويتضح من كلام واصل بن عطاء أن المعتزلة يرون أن مرتكب الكبيرة خالد في النار وقد ترتب على هذا المبدأ " أن مرتكب الكبيرة لا حظَّ له من شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فالشفاعة -عند المعتزلة- ليست لأصحاب الكبائر؛ لأن العدل يقتضي أن يعذب العاصي على معصيته، والشفاعة تتنافى مع هذا العدل، فالشفاعة عندهم ليست لهَؤُلَاءِ وإنما هي للصالحين، والمعتزلة بهذا الرأي ينكرون أو يؤولون كثيرًا من الأحاديث التي تثبت الشفاعة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولغيره من العلماء والشهداء والصالحين، وهذه الشفاعة تنال أصحاب المعاصي فيخرجون بفضلها من النار، فلا يبقى في النار بعد الشفاعة إلا من حبسهم القرآن المجيد وهم الكفار؛ لأن هَؤُلَاءِ لا يغفر اللَّه لهم ولا تنالهم رحمته ". 5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هذا هو الأصل الخامس من أصول المعتزلة المتفق عليها، فقد قرروا ذلك على المؤمنين أجمعين، نشرًا لدعوة الإسلام وهداية للضالين، ودفعًا لهجوم الذين يحاولون تلبيس الحق بالباطل؛ ليفسدوا على المسلمين أمر دينهم، ولذلك تصدوا للذود عن الحقائق أمام سيل الزندقة التي اندفعت في أول العصر العباسي، تهدم الحقائق الإسلامية، وتفكك عرا الإسلام عروة عروة، كما تصدوا أيضًا لمناقشة أهل الحديث والفقه، وحاولوا حملهم على اعتناق آرائهم بالحجة والبرهان أو بالشدة وقوة السلطان. تلك هي الأصول الخمسة التي أجمع عليها المعتزلة، ولا يستحق متكلم أن ينسب إلى اعتزال دون أن يؤمن بها. * * *

ثانيا: الأشاعرة

ثانيًا: الأشاعرة اشتدت خصومة الفقهاء والمحدثين للمعتزلة، واحتدم النزاع بين الفريقين في النظر إلى مسائل الاعتقاد، ومرد ذلك إلى تباين المنهج الذي يصطنعه كل منهما، فالفقهاء والمحدثون ينزعون منزعًا سلفيًّا يقدم النقل على العقل، والمعتزلة يعتدون بالعقل اعتدادًا جعلهم يؤولون ما يتعارض مع أدلته من آيات القرآن، أو ينكرون ما يناقضها من أحاديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فخالفوا جمهور المسلمين في أمور كثيرة؛ كالقول بخلق القرآن وإنكار الشفاعة ورؤية اللَّه يوم القيامة وغير ذلك مما يصدم المشاعر الدِّينية للمسلمين. ولم تَخْلُ الساحة الفكرية للمعتزلة فحسب، بل كان هناك الحشوية من الحنابلة، وكانوا على الطرف المقابل للمعتزلة حيث أجازوا على اللَّه الملامسة والمصافحة والرؤية، كما أثبتوا له ما وصف به نفسه في القرآن الكريم -كأن له عينًا أو يدًا أو وجهًا- إثباتًا ماديًّا يوهم التجسيم والمشابهة للحوادث، واعتمدوا في ذلك على أحاديث فهموها فهمًا حرفيًّا وقاسوها على ما يتعارف من صفات الأجسام؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خلق آدم على صورة الرحمن "، وقوله: " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن "، و " وضع يده على كتفي حتى وجدت برد أنامله ". على هذا النحو مست حاجة المسلمين إلى منهج جديد تتحقق فيه الوسطية التي دعا إليها الإسلام، فيسلك بالمسلمين السبيل الذي سلكه الصحابة قبلهم في شئون الاعتقاد، منهج ينزل العقل مكانه الصحيح فيعرف له حدوده وطاقته، ولا يسرف في الاعتداد به،

منهج يعيد للنقل مكانته التي ضاعت على يد المعتزلة حين جعلوا الدليل النقلي فرعًا يتبع الدليل العقلي. " فظهر في آخر القرن الثالث رجلان امتازا بصدق البلاء: أحدهما: أبو الحسن الأشعري، ظهر بالبصرة، والثاني: أبو منصور الماتريدي ظهر بسمرقند، وقد جمعهما مقاومة المعتزلة ". وينسب مذهب الأشاعرة إلى أبي الحسن الأشعري " 260 - 330 هـ ". ولد أبو الحسن بالبصرة وتخرج في أصول الاعتقاد على المعتزلة، حيث تتلمذ على شيخ من شيوخهم المبرزين هو أبو علي الجبائي ولازمه ملازمة أتاحت له شيئًا غير قليل من النبوغ حتى عُدَّ من كبار رجال المعتزلة، فلا غرو أن كان الجبائي ينيبه عنه في حضور كثير من المجادلات والمناظرات التي كان المعتزلة يخوضونها مع خصومهم ومخالفيهم. الأشعري مؤسس مذهب الأشاعرة: ولم يكد أبو الحسن الأشعري يبلغ الأربعين من عمره حتى تحول عن مذهب المعتزلة وأنكر طريقتهم في درس العقائد، وكفر بآرائهم وأصولهم. ويورد الدارسون أسبابًا تبرر هذا التحول، لعل من أهمها تلك المناظرة الشهيرة التي كانت بين الأشعري وشيخه الجبائي حول: وجوب فعل الصلاح والأصلح على اللَّه، حيث سأل الأشعري أستاذه الجبائي عن حال ثلاثة أخوة: الأكبر فيهم مؤمن تقي، والأوسط كافر شقي، والثالث مات صغيرًا قبل بلوغه سن التكليف، قال الجبائي: أما التقي ففي الجنة، وأما الكافر ففي النار، وأما الثالث فلا يثاب ولا يعاقب فهو من أهل السلامة؛ لأنه ليس مكلفًا. فعاد الأشعري وساله: فماذا يقول اللَّه للصغير إن هو أراد أن يكون مثل أخيه الأكبر في الجنة؛ محتجًّا بأنه لو طال عمره لأطاع واستحق الجنة؟! فرد الجبائي بأن اللَّه يقول له: كنت أعلم أنك لو كبرت لوقعت في المعاصي، ولدخلت النار؛ فكان الأصلح لك أن تموت صغيرًا. قال الأشعري: فما الرأي لو قال الأخ الأوسط المعذب في النار: لم لم تمتني يا رب صغيرًا حتى لا أعصيك ولا أعذب في النار؟! فلم يستطع الجبائي الإجابة على هذا السؤال

الذي يهدم أصلاً من أصول المعتزلة وهو مبدأ الصلاح والأصلح. ولا ريب أن هذه المناظرة -ولا نستبعد وقوع مناظرات أخرى غيرها- قد زعزعت إيمان الأشعري فيما يؤمن به من آراء اعتزالية، وحملته على إعادة النظر فيها، وامتحانها عله يهتدي إلى وجه الحق، فعكف في بيته مدة ينظر في كتب المعتزلة، ويزن أدلتهم، حتى اهتدى إلى فسادها وبطلانها، فرقى المنبر يوم الجمعة بالمسجد الجامع بالبصرة وقال: " أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن اللَّه تعالى لا يُرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع متصد للرد على المعتزلة، مخرج لفضائحهم، معاشر الناس، إنما تغيبت عنكم هذه المدة؛ لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجح عندي شيء على شيء، فاستهديت اللَّه تعالى، فهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقد، كما انخلعت من ثوبي هذا، ورمى ثوبًا كان عليه ". والحق أن إعلان الأشعري السابق بضلال المعتزلة عن المنهج القويم في أمور الاعتقاد قد تضمن إشارة إلى أبرز وجوه الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة، وهي: القول بخلق القرآن، ونفي الصفات، وإنكار رؤية اللَّه تعالى، وحرية الإرادة الإنسانية والزعم أن الإنسان خالق أفعاله. وذهب بعض الباحثين إلى أن العامل الحاسم في تحول أبي الحسن الأشعري عن مذهب الاعتزال إلى مذهب أهل السنة إنما هو مذهبه الفقهي الذي كان يتعبد به، وهو المذهب الشافعي، وأمر الخصومة بين الفقهاء -ومنهم الإمام الشافعي- والمتكلمين لا سيما المعتزلة أظهر من أن نحتاج إلى إقامة الأدلة عليه، فلقد ذم الشافعي علم الكلام وكان يعني بذلك المعتزلة، وهاجمهم في بعض كتبه ولم يقبل شهادتهم، وللشافعي نفسه آراء في الاعتقاد تخالف ما ذهب إليه المعتزلة، فهو يعتقد أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، وأن اللَّه يُرى بالأبصار يوم القيامة، ويقول بالشفاعة، ويؤمن بالقدر خيره وشره. فلا غرو أن أحس الأشعري بتناقض كبير بين أصول مذهبه الفقهي، وآراء مذهبه

الكلامي أو الاعتقادي الذي رضيه لنفسه. إذن فإن التكوين الفكري للأشعري نفسه كان يحمل بذور الشك في الفكر الاعتزالي وينطوي على أسباب الثورة والتمرد عليه، على نحو ينتفي معه العجب من تحوله عن مذهب المعتزلة. وثمة أمر آخر قد يحسن بنا أن نشير إليه في هذا المقام، هو أن الأشعري كان معجبًا بتوسط الإمام الشافعي في آرائه الفقهية بين أهل الرأي وأهل الحديث، فحاول هو أن يقوم بدور الشافعي في علم الكلام بأن يوازن بين العقل والنقل أو بين غلو المعتزلة في العقل ووقوف بعض الحنابلة عند النقل. ومن هذه النقطة نفسها ننطلق إلى بيان نقد الأشعري للمعتزلة والحشوية جميعًا: أولًا: نقد الأشعري للمعتزلة: لم يكتف الأشعري بالتحول عن الاعتزال حين انقدح له الرأي في مذهبهم بعد نظر وتأمل، بل طفق يهدم هذا المذهب، ويقوض أركانه ودعائمه، ويفند ما يستند عليه من أدلة وبراهين، ويكتسب نقد الأشعري للمعتزلة أهمية خاصة من كونه قد انتسب للمعتزلة فترة غير قصيرة، وانتحل نحلتهم انتحالًا أتاح له الوقوف على نقاط ضعفه وأسباب تهافته، فكان نقده لهم نقد العالم الخبير المستند إلى رصيد ضخم من المعرفة بما ينقد. والناظر في منهج الأشعري وموقفه من المعتزلة ومناظرته لهم يتبين له أن قوام نقده للمعتزلة إنما هو الإسراف في الاعتداد بالعقل وتقديمه على النص، والاستناد إليه في كل أمر من أمور الاعتقاد، فأقحموه بذلك في ميدان وعرٍ تضل فيه الأفهام إذا لم يكن رائدها الوحي، وتزل فيه الأقدام إذا تخلت عن النقل. وقد أداهم ذلك إلى آراء خاطئة تخالف ما اصطلح عليه جمهور الأمة، فنفوا عن الحق سبحانه وتعالى الصفات التي أثبتها القرآن الكريم والسنة المطهرة. والناس في نظر المعتزلة خالقون لأفعالهم سواء كانت شرًّا أم خيرًا، متمتعون بحرية الإرادة سواء خالفت مراد اللَّه من الخلق أم اتفقت معه. ويترتب على قول المعتزلة أن الناس مشاركون لله تعالى في أخص صفاته وهي الخلق، وهو ما تأباه العقيدة الصحيحة؛ إذ لا خالق في الكون إلا اللَّه، فلا غرو أن كان

نقد الأشعري للحشوية:

المعتزلة في رأي الأشعري شر من مذهب المجوس الذين جعلوا لله شريكًا واحدًا وهو الشيطان. وساق الغلو في استخدام المعتزلة للعقل إلى القول بوجوب الصلاح والأصلح على اللَّه، وهو المبدأ الذي هدمه الأشعري في مناظرته لأستاذه أبي علي الجبائي، وكان أحد الأسباب المباشرة في رفض الأشعري لمنهج المعتزلة وانصرافه عنه، فمن نحن حتى نوجب على اللَّه شيئًا؟! فالعقيدة الصحيحة أن اللَّه يثيب الطائع ويدخله الجنة لا بعمله، ولكن بتفضله ورحمته. ومن المسائل الكبرى التي أخذها الأشعري على المعتزلة القول بخلق القرآن، " فجعلوه مشابها في الخلق والحدوث لجميع الأشياء الحادثة التي تنقصها القداسة، ونفوا أن يكون صفة لله تعالى، فخالفهم الأشعري في ذلك وقرر في كتاب الإبانة: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو رأي السلف الذي تمسك به الإمام أحمد بن حنبل، غير أن الأشعري قدم بين يديه أدلة سمعية وأخرى عقلية، وبذل جهده لإبطال رأي المعتزلة ". والخلاصة أن الأشعري لم يرض عن طريقة المعتزلة في النظر إلى العقيدة، وهي طريقة سداها ولحمتها التعويل على العقل والاستقلال به في تأسيس الأحكام في أصول الدِّين، مما جعلهم يفسرون العقيدة والتوحيد تفسيرًا لم يدل عليه الكتاب ولا السنة ولا قاله أحد من الأئمة، وصدق فيهم قول جولد تسيهر: " إنهم رفعوا العقل إلى مرتبة القياس والدليل في أمور الدِّين والإيمان ". نقد الأشعري للحشوية: يطلق مصطلح الحشوية على طائفة من الحنابلة وجماعة من الشيعة، تمسكوا بحرفية النصوص، وحملوها على ظاهرها حملًا انتهى بهم إلى القول بالتشبيه والتجسيم؛ يقول الشهرستاني: " إن جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه، قالوا: إن معبودهم صورة ذات أعضاء وأبعاض إما روحانية أو جسمية يجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن ". واستدل هَؤُلَاءِ على رأيهم بنصوص من القرآن أثبتت لله سبحانه وتعالى بعض الصفات

من الاستواء واليد والعين والوجه، فأثبتوها إثباتًا ماديًّا، فأجازوا على اللَّه الملامسة والمصافحة، كما عولوا على بعض الأحاديث التي يؤدي معناها المادي الظاهري معنى التجسيم؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خلق اللَّه آدم على صورته "، وقوله: " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ". وقد انتقد الأشعري هذه الطائفة وشدد النكير عليها، ورماهم بضعف النظر العقلي الذي أداهم إلى آرائهم الشاذة في التجسيم الذي يتنافى مع الوحدانية الصحيحة، وألف رسالة سماها: " استحسان الخوض في علم الكلام "، أشار فيها إلى ضرورة النظر العقلي في مسائل الاعتقاد، وأننا لن نعدم من الأدلة القرآنية ما يؤيد أن المنهج السليم ينبغي أن يقوم على النقل والعقل جميعًا فقال: " إن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدِّين، وطعنوا على من فتش في أصول الدِّين، وزعموا أن الكلام في الحركة والسكون والجوهر والعرض والجزء والطفرة بدعة وضلالة، مستدلين بأن شيئًا من ذلك لم يؤثر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه وأصحابه ولو كان خيرًا لتكلموا فيه ". فأجابهم الأشعري بقوله: لم قلتم: إن البحث في ذلك بدعة مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يقل بأن من بحث عن ذلك وتكلم فيه فاجعلوه مبتدعًا ضالاًّ؟! فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضلالاً؛ لأنكم قلتم ما لم يقله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ثم إن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق موجود في قصة إبراهيم - عليه السلام - وأفول الكواكب والشمس والقمر. وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} دليل الوحدانية في القرآن الكريم، وكلام المتكلمين في التوحيد والتمانع والتغالب فإنما مرجعه هذه الآية. وطريقة إلزام الخصم نأخذها من القرآن الكريم، فحينما جاء الحبر السمين وقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} يريد بذلك إنكار نبوة مُحَمَّد، فرد القرآن عليه: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} وهذا إلزام أقر به الخصم. كما استدل الأشعري على إبطال حوادث لا أول لها من سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " فمن

أعدى الأول ". على هذا النحو أثبت الأشعري أن القرآن الكريم والسنة الشريفة لم يهملا النظر العقلي ولا حرما أدلته، بل حثَّا على الأخذ بهما في إلزام الخصوم ودحض شبههم، وحسبك دليلا أن القرآن نفسه قد تضمن شيئًا غير قليل من هذه الأدلة. ويقول أحد الباحثين: " وقد اضطر الأشعري للنظر العقلي للأسباب الآتية: 1 - أنه تخرج على المعتزلة وتربى على موائدهم الفكرية، فنال من مشربهم وأخذ من منهلهم، واختار طريقهم في إثبات العقائد، وإن خالفهم في النتائج. 2 - أنه تصدى للرد عليهم فلابد أن يتبع طريقتهم. 3 - أنه تصدى للرد على الفلاسفة والقرامطة والحشوية والروافض وغيرهم من أهل الأهواء الفاسدة والنحل الباطلة، وكثير من هَؤُلَاءِ لا يقنعه إلا أقيسة البرهان، ومنهم فلاسفة علماء لا يقطعهم إلا دليل العقل، ولا يرد كيدهم في نحورهم أثر أو نقل. ومن رد الأشعري على المعتزلة وعلى الحنابلة نرى أن الدفاع عن المنهج الأشعري هو نقطة البداية لعلم الكلام السني من غير أن يتطرف في التأويلات العقلية كالمعتزلة، أو

منهج الأشعري:

يستهجن البحث الكلامي كالحنابلة، ولكنه استطاع أن يوفق بين الجانبين -كما فعل الماتريدي- واعتمد على النظر العقلي فوضع للفتن الدِّينية حدًّا، فقضى على مذهب المعتزلة وحل مكانه ". منهج الأشعري: تبين لنا من نقد الأشعري للمعتزلة والحشوية أنه وقف على علة ضلالهما وفساد ما انتهوا إليه من آراء وتصورات في العقيدة، وهذه العلة إنما هي الاقتصار على النقل وإهمال العقل، أو تحكيم العقل وتقديمه على النقل، أما المعتزلة فاستقلوا بالعقل في تأسيس مذهبهم الاعتقادي وظنوا أنه مرقاة إلى العقيدة السليمة، فأداهم ذلك إلى آراء شاذة تنكرها النصوص الشرعية الثابتة، من نفي الصفات والقول بخلق القرآن وإنكار الرؤية والشفاعة، وفي سبيل ذلك أولوا آيات القرآن الكريم وطعنوا في السنة الصحيحة والضعيفة جميعًا. وأما الحشوية فالتزموا بالنقل التزامًا حرفيًّا، ولم يجعلوا للعقل حظًّا من فهمه والاستدلال عليه بأدلته، فزلت أقدامهم في القول بالتجسيم والتشبيه، ورأوا كذلك أن النظر العقلي في أصول الدِّين بدعة، حيث لم يؤثر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصحبه - رضوان الله عليهم - فصنف الأشعري للرد عليهم رسالة: " استحسان الخوض في علم الكلام " بين فيها أن القرآن والسنة يشتملان على أصول النظر العقلي والاستدلال المنطقي على صحة العقيدة الإسلامية، وذهب إلى أن تأييد الشرع بالعقل ليس بدعة وإنما هو واجب لابد من أن ينهض بأدائه علماء المسلمين. اجتهد الأشعري -مستهديًا بنقده للمعتزلة والحشوية- في تأسيس مذهب جديد يُؤَلِّفُ في منهجه بين النقل والعقل ويوائم بينهما " فكان يفهم النص في ضوء العقل أو يسير وراء العقل في حدود الشرع، ويجعل الشرع هاديًا للعقل؛ لأن العقل إذا ترك وشأنه اتبع هواه، لكنه بالشرع يتبع هداه ". وإذا كان الأشعري قد جمع في منهجه بين العقل والنقل، فإنه قدم النقل على العقل؛ لأن مبنى العقائد على الغيبيات وطريقها الوحي لا العقل، ونص الأشعري صراحة في مقدمة كتابه " الإبانة عن أصول الديانة " على أنه يتمسك بكتاب اللَّه وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، كما نص على أن الإمام الذي يتبعه هو

أحمد بن حنبل. ونستطيع أن نقرر أن هذا المنهج الذي سلكه أبو الحسن الأشعري امتاز بالوسطية التي دعا إليها الإسلام وأكدها القرآن الكريم في غير آية، حين حث على إعمال النظر والتفكر في الكون وتدبر إحكام صنعته، فلم يهمل العقل ولا حرم استخدامه، ولقد ألمحنا فيما سبق إلى أن القرآن نفسه اشتمل على أدلة عقلية وبراهين قوية ألزم بها خصومه، بالإضافة إلى ما احتواه من أدلة سمعية. " ولا ريب في أن الأشعري استطاع بذلك أن يمهد للاعتراف بعلم الكلام وأن يجعله من علوم الدِّين، وأن يحسن للعلماء الخوض فيه، واستطاع أيضًا بمنهجه أن يرسخ قواعد المذهب وأن يجذب إليه الكثيرين، وأن يحد من انتشار مذهب المعتزلة، وأن يضيق الدائرة الحشوية، وما ذلك إلا لوسطيته التي التزمها وحرص على تحقيقها في آرائه، والوسط غالبًا ما يكون أقرب إلى الصحة والاعتدال، فكلا طرفي الأمور ذميم، وإذا كان الناس قد تقبلوا مذهب الشافعي في الفروع لتوسطه بين أهل الحديث وأهل الرأي، فإنهم تقبلوا مذهب الأشعري في الأصول؛ لتوسطه بين الحنابلة والمعتزلة، أو بين أهل النقل وأهل العقل ". وثمة إشكال في " منهج الأشعري الكلامي " يثيره كتابه " اللمع " الذي اقترب فيه -في رأي عدد من المهتمين بعلم الكلام بصفة عامة وبفكر الأشعري بصفة خاصة- من المعتزلة من حيث الاعتداد الكبير بالأدلة العقلية ومن حيث تأويل النصوص الشرعية، الأمر الذي حمل بعض الدارسين على القول بأن الأشعري قد مر في آرائه الكلامية بمرحلتين متعاقبتين مختلفتين أشد الاختلاف: المرحلة الأولى: ويقترب فيها من العقيدة السلفية اقترابًا شديدًا، ويمثل هذه المرحلة خير تمثيل كتابه: " الإبانة عن أصول الديانة ". المرحلة الثانية: ويقترب فيها من المذهب الاعتزالي، ويمثلها كتابه " اللمع ". إذ الناظر في كتاب اللمع يجده خاليًا من الإشادة بالإمام أحمد ومن الانتساب إليه خلافًا لما ذكره في الإبانة؛ وكذلك فإن كتاب اللمع خلا من بعض المسائل التي أتى بها

في الإبانة مثل: إثبات الوجه واليدين والاستواء على العرش. وقد اتخذ البعض من هذين الكتابين ذريعة لاتهام الأشعري بالتناقض في منهجه الكلامي، أو على أقل تقدير اتخذوا من ذلك دليلًا على تطور عقيدة الأشعري، وتحولها في المرحلة النهائية إلى صورة أقرب للمعتزلة منها إلى أهل السنة. ويدافع أحد الباحثين عن وحدة المنهج الأشعري، مبينًا أن التباين في المنهج الذي احتذاه الأشعري في كتابيه الإبانة واللمع يرجع إلى اختلاف الفرقة التي يرد عليها وينقد آراءها، فيقول: إن الأشعري حين ألف الإبانة كان يريد أن يحسم موقفه مع المعتزلة ويبين العقيدة التي يعتنقها ويسير عليها ويدافع عنها، فجاء منهجه متحاملا على المعتزلة غير مهادن لهم؛ لأنه كما نعلم أخذ على نفسه عهدا أن يكشف أمرهم ويظهر فضائحهم، ومن ناحية أخرى فإنه أظهر أن الإمام الذي يسير على منهجه هو الإمام أحمد بن حنبل الذي وقف ضد المعتزلة وقفته المشهورة، فكتاب الإبانة من هذه الناحية يعتبر تقريرًا لعقيدة الأشعري بملامح منهجية جديدة. أما كتاب اللمع فقد ألفه ليرد على الدهرية ونفاة الصانع بجانب رده على المعتزلة بعد أن تم له النصر عليهم فجاءت آراؤه بعيدة عن التحامل؛ فالكتاب والأمر كذلك تعبير عن منهج قد نضج فعلاً، وقد دافع إمام الحرمين عن منهج الأشعري، ولم يشر إلى أي مراحل منهجية مع أن الجويني كان إذا تصدى لمسألة فإنه يذكر الأقوال فيها، ويبين طرقها المختلفة، ويفند الأمر من وجهة نظره تفنيدًا منهجيًّا، ولم يطلعنا وهو يرد على خصوم شيخه على أي اختلاف لمنهج الأشعري، فلما طعن المعتزلة على الأشعري في تصدير كتابه اللمع بالدلالة القرآنية وبمفهومها الشارح لها، بين الجويني في الشامل أن السبب الذي جعل الأشعري يسلك هذا المنهج هو أن اللَّه تعالى احتج على الكفرة والمنكرين بالحجج التي صدر بها الأشعري اللمع حتى تكون حجته موافقة للقرآن، فقال: " وما اعترضوا به من قولهم: إن الاستدلال بالقرآن على الدهرية ونفاة الصانع لا يتحقق باطل؛ لأن شيخنا ما استدل عليهم بنفس الآية وإنما استدل عليهم بمعناها، وهي تنطوي على وجه الحجاج، والذي يوضح ذلك أن الرب تعالى احتج بما ذكره على الكفرة والمنكرين، وذكره الأشعري ليقيم الاحتجاج به على حسب ما أراد اللَّه من الاحتجاج ".

ومهما يكن من أمر، فإن المذهب الأشعري نفسه قد تطور بعد وفاة رائده الأول أبي الحسن على يد الأشاعرة المتأخرين الذين كانوا في آرائهم ومنهجهم أدنى إلى المعتزلة، من حيث الاعتماد على العقل في الاستدلال والاستنباط، وإن كانوا لا يردون الشرع ولا يهملونه؛ لأنهم يرون أن الشرع حجة اللَّه والعقل حجة اللَّه، وحجج الله تتعاضد ولا تتعارض. ويبدو قرب منهج الأشاعرة المتأخرين من منهج المعتزلة في موقفهم من الدليل السمعي والشروط التي وضعوها له، والتي من أهمها ما يلي: أولًا: أن يكون غير مستحيل في العقل، وهذا يتفق مع قولهم: إن العقل والشرع حجتين لله تعالى، وحجج اللَّه تتعاضد ولا تتعارض؛ فلا يوجد في نظرهم دليل سمعي قطعي مستحيل في العقل. ثانيًا: أن يكون قطعي الثبوت؛ ولذلك فأخبار الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد؛ لأنها ليست قطعية الثبوت. ثالثًا: أن يكون قطعي الدلالة، فإذا كان السمعي قطعي الثبوت، ولكنه يحتمل التأويل، كان غير قطعي الدلالة. بعض آراء الأشعري: رأينا أن نختم حديثنا عن المذهب الأشعري، بأن نذكر طرفًا من آراء أبي الحسن وشيعته في بعض مسائل الاعتقاد، والتي كانت ثمرة من ثمار المنهج الذي اصطنعوه، من أجل أن يكون تصور القارئ عن هذا المذهب أدنى إلى الكمال وأقرب إلى الوضوح. 1 - اقترب الأشعري في بحثه لصفات اللَّه تعالى من أهل السنة إلى حد بعيد، حيث أثبت لله الصفات جميعًا بقسميها أي الصفات السلبية والصفات الثبوتية كالعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات، بيد أنه لم يقف عند هذا الحد، بل تابع البحث في الصفات بحثًا عقليًّا فانتهى إلى ما يلي: أولًا: أن الصفات زائدة على الذات، وليست عين الذات كما يرى المعتزلة، ويرى الأشعري أن هذا التصور لصفات اللَّه لا يترتب عليه تصور التعدد أو التركيب في ذات اللَّه، والدليل على صدق كلامه زيادة صفات الإنسان على ذاته دون أن تؤدي إلى تعدد في

ذات الإنسان. ثانيًا: هذه الصفات متغايرة فيما بينها، فالعلم صفة لله تختلف عن صفة القدرة وكلتاهما مختلفتان عن صفة الإرادة. ثالثًا: هذه الصفات الإلهية أزلية لابداية لها، فهي تشترك في القدم مع الذات، " ويدلل الأشعري على هذا الرأي بدليل يثبت به أن هذه الصفات لا يمكن أن تكون حادثة؛ لما يترتب على ذلك من نتائج باطلة، ويعلل ذلك بقوله: إننا إذا افترضنا جدلًا أن هذه الصفات حادثة، فسنكون أمام احتمالات أو فروض ثلاثة: الأول منها: أن يحدث اللَّه هذه الصفات في نفسه، وهذا باطل؛ لأنه يجعل اللَّه محلاًّ للحوادث ومقارنًا لها، وما يتصل بالحوادث حادث عند المتكلمين. والفرض الثاني: أن يحدثها اللَّه في غيره، وهذا باطل أيضًا؛ لأن ذلك يستلزم أن يكون هذا الغير موصوفًا بصفات اللَّه تعالى، فيكون مريدًا بإرادة اللَّه تعالى، وعالمًا بعلمه، وهذا باطل. والفرض الثالث: هو أن تكون الصفة الحادثة مستقلة بذاتها، وهذا باطل أيضًا؛ لأن الصفة لا تقوم بنفسها بل تحتاج إلى موصوف تقوم به. وإذا بطلت هذه الفروض الثلاثة لم يكن أمامنا إلا التسليم بقدم هذه الصفات وأزليتها ". 2 - ذهب الأشعري إلى أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، متابعًا في ذلك رأي السلف الذي دافع عنه وأوذي بسببه الإمام أحمد بن حنبل، بيد أن الأشعري قدم بين يدي رأيه أدلة سمعية وعقلية، خلاصتها أن القرآن كلام اللَّه فلا ينبغي أن يكون حادثًا؛ لما ينبني على ذلك من إلحاق صفة الحدوث باللَّه تعالى. 3 - خالف الأشعري المعتزلة في مسألة رؤية اللَّه في الآخرة، حيث ذهب إلى إثباتها، غير أنه نفى أن تكون هذه الرؤية رؤية إحاطة؛ لأن اللَّه تنزه عن أن تدركه الأبصار، ونفى أيضًا عن الرؤية معاني التجسيم والتشبيه، ورأى أن الرؤية المقصودة أقرب إلى الرؤية القلبية، فوقف بذلك موقفًا وسطًا بين المعتزلة المنكرين لها والمشبهة الذين أثبتوها وأثبتوا

ما تؤدي إليه من الجسمية والمكان. 4 - خالف الأشعري المعتزلة في مسألة حرية العباد في أفعالهم، ووقف موقفًا وسطًا بينهم وبين الجبرية حيث قال بنظرية الكسب، وتعني أن الفعل خلق وإبداع من اللَّه وكسب من العبد. 5 - هدم الأشعري مبادئ المعتزلة في وجوب الصلاح والأصلح على اللَّه وإنكار الشفاعة، والقول بخلود أصحاب الكبائر في النار، ومال في ذلك كله إلى رأي السلف. على هذا النحو اختلفت آراء المذهب الأشعري عن آراء المعتزلة والحشوية، وكانت وسطًا بينهما، ولعل هذه الوسطية التي تحققت في فكر الأشعري ومدرسته هي السبب في ذيوع مذهبه وانتشاره في أكثر البلاد الإسلامية. * * *

ثالثا: الماتريدية

ثالثًا: الماتريدية أسس هذا المذهب العلامة مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محمود أبو منصور الماتريدي مصنف هذا الكتاب الذي نحن بصدد تحقيقه، وقد سبقت ترجمتنا له. وقد كان الماتريدي مشهورًا بالاعتدال والتوسط حتى اتفق الناس على علو قدره وتميز منزلته، حتى قيل: لو لم يكن في الحنفية إلا هذا الإمام لكفاهم. وكنا قد أشرنا إلى أن الماتريدي كان أحد اثنين قاما بالذود عن عقيدة أهل السنة، وتفنيد آراء المعتزلة المخالفة لها. ومن الحق أن نقرر أن الماتريدي اتخذ منهجًا امتاز بالوسطية والاعتدال، على نحو ما صنع معاصره أبو الحسن الأشعري، فاحتلت شخصيته مكانة تليق به كواحد من أفاضل علماء أهل السنة والجماعة في بلاد المشرق الإسلامي. وسوف نفصل القول في بيان مذهب الماتريدية، والمسائل التي خالف فيها الماتريدي أبا الحسن الأشعري. فنقول: يعد الماتريدي -بحق- واحدًا من أبرز المؤسسين لعلم الكلام الإسلامي؛ إذ ينسب إليه المذهب الماتريدي، وهو مذهب يهدف إلى فهم أصول الشريعة وقواعد الإسلام في ضوء الأسس العقلية السليمة، فهو مذهب يجمع بين العقل والنقل، وإن كان العقل تابعًا، مهمته فهم أصول التوحيد التي نقلت إلينا من طريق الوحي. وقد أشرنا في غير موضع إلى تشابه المذهب الأشعري مع المذهب الماتريدي، وأن كلا المذهبين قد نشأ في سياق فكري واحد. وقامت الماتريدية بالرد على المخالفين والمغالين وبخاصة المعتزلة والروافض والمشبهة، وكان المنهج الذي اعتمده علماء هذا المذهب في الرد على المخالفين ومناقشة المسائل الكلامية منهجًا معتدلاً يوازن بين العقل والنقل، وهو المنهج نفسه الذي عول عليه الأشعري. أثمر اتفاق -أو قل تطابق- المنهجين اللذين اصطنعهما الأشاعرة والماتريدية، اتفاقًا بينهما في أمهات المسائل الكلامية؛ مثل: وجود اللَّه وصفاته، وجواز رؤيته في الدنيا، وتحقق الرؤية للمؤمنين في الآخرة. . . إلى آخر هذه المسائل المثبتة في كتب التوحيد

وعلم الكلام. ونذكر هنا على سبيل الإجمال المسائل التي اختلف فيها السادة الأشعرية مع السادة الماتريدية وقد تقدم بيان أن مدار جميع عقائد الملة الإسلامية على قطبين من أقطاب العلوم الشرعية: أحدهما الإمام أبو الحسن الأشعري، والآخر الإمام أبو منصور الماتريدي. وقبل ذكر هذه المسائل يجدر بي أن أبين أن الأشاعرة والماتريدية متفقون على الأصول العامة لعقيدة أهل السنة والجماعة، والخلاف الظاهر بينهما في بعض المسائل الجزئية، وهو أمر لا يقدح في نسبتهما جميعًا إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يوجب القول بأن أحد الفريقين مبتدع، مخالف للعقيدة السليمة. قال الخيالي في حاشيته على شرح العقائد: " الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة، هذا هو المشهور في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار، وفي ديار ما وراء النهر يطلق ذلك على الماتريدية أصحاب الإمام أبي منصور، وبين الطائفتين اختلاف في بعض المسائل؛ كمسألة التكوين وغيرها ". اهـ. وقال السكستلي في حاشيته عليه: " المشهور من أهل السنة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري أول من خالف أبا علي الجبائي ورجع عن مذهبه إلى السنة - أي. طريق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والجماعة - أي: طريقة الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي تلميذ أبي بكر الجوزجاني صاحب أبي سليمان الجوزجاني صاحب مُحَمَّد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة، وبين الطائفتين اختلاف في بعض الأصول؛ كمسألة التكوين ومسألة الاستثناء في الإيمان، ومسألة إيمان المقلد. والمحققون من الفريقين لا ينسب أحدهما الآخر إلى البدعة والضلالة ". اهـ. وقال ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: " اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد واحد فيما يجب ويجوز ويستحيل، وإن اختلفوا في الطرق والمبادئ الموصلة لذلك. . . وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف: الأولى: أهل الحديث، ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية، أعني الكتاب والسنة

والإجماع. الثانية: أهل النظر العقلي والصناعة الفكرية، وهم الأشعرية والحنفية، وشيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري، وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي، وهم متفقون في المبادئ العقلية في كل مطلب يتوقف السمع عليه، وفي المبادئ السمعية فيما يدرك العقل جوازه فقط، والعقلية والسمعية في غيرها، واتفقوا في جميع المطالب الاعتقادية إلا في مسألة التكوين ومسألة التقليد. الثالثة: أهل الوجدان والكشف وهم الصوفية، ومبادئهم مبادئ أهل النظر والحديث في البداية، والكشف والإلهام في النهاية " اهـ. وليعلم أن كلا من الإمامين أبي الحسن وأبي منصور -رضي اللَّه عنهما وجزاهما عن الإسلام خيرًا- لم يبتدعا من عندهما رأيًا ولم يشتقا مذهبًا، إنما هما مقرران لمذاهب السلف مناضلان عما كان عليه أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فأحدهما: قام بنصرة نصوص مذهب الشافعي وما دلت عليه، والثاني: قام بنصرة نصوص مذهب أبي حنيفة وما دلت عليه، وناظر كل منهما ذوي البدع والضلالات حتى انقطعوا وولوا منهزمين، وهذا في الحقيقة هو أصل الجهاد الحقيقي، فالانتساب إليهما إنما هو باعتبار أن كلًّا منهما عقد على طريق السلف نطاقًا وتمسك به وأقام الحجج والبراهين عليه، فصار المقتدي به في تلك المسالك والدلائل يسمى أشعريًّا وماتريديًّا. ويقول الدكتور مُحَمَّد حسن أحمد حسانين: فالماتريدية والأشاعرة متفقون في المذهب، أما الناحية المنهجية: فإن بينهم بعض الاختلاف الذي لا يضر في العقيدة ولا يبدع أحدًا منهم؛ فالأمور المختلف فيها جزئية فرعية، معظمها مبني على شبه الألفاظ وتعيين المعنى المراد منها. وهي عند النظر السليم لا تخرج عن كونها اختلافات مثل ما بين أصحاب الأشعري وأصحاب أبي حنيفة. وقال العلامة السبكي في الطبقات: ولي قصيدة نونية جمعت فيها هذه المسائل وضممت إليها مسائل اختلف الأشاعرة فيها. . . وقال في شرح عقيدة ابن الحاجب: ثم تصفحت كتب الحنفية، فوجدت جميع المسائل التي بيننا وبين الحنفية خلاف فيها ثلاث

المسائل التي كانت محل خلاف بين الأشاعرة والماتريدية

عشرة مسألة، منها معنوي ست مسائل والباقي لفظي، وتلك الستة المعنوية لا تقتضي مخالفتهم لنا ولا مخالفتنا لهم. قلت: ومطلع القصيدة التي ذكرها السبكي هي: الوَرْدُ خَدُّك صِيغَ من إنسانِ ... أم في الخُدودِ شَقائقُ النعْمانِ والسيفُ لحظُك سُلَّ من أجفانهِ ... فسطا كمثل مُهَندٍ وسِنَانِ تاللَّه ما خُلقتْ لِحَاظُكَ باطلًا ... وسُدًى تعالى اللَّه عن بُطْلَانِ ثم ذكر في البيت التاسع والستين وما بعده: هذا اعتقادُ مشايخِ الإسلامِ وَهـ ... وَالدِّينُ فلْتَسْمعْ له الأذنانِ الأشعري عليه ينصره ولا ... يألو جزاه اللهُ بالإحسانِ وكذاك حالته مع النعْمان لم ... ينقض عليه عقائد الإيمان يا صاح إن عقيدة النعمان والـ ... أشعري حقيقة الإتقان فكلاهما واللَّه صاحب سنَّةٍ ... بهدى نبي اللَّه مقتديانِ لا ذا يُبَدِّع ذا ولا هذا وإن ... تَحْسَبْ سِواه وَهِمْتَ في الحُسْبانِ من قال إن أبا حنيفة مبدعٌ ... رأيًا فذلك قائلُ الهَذيَانِ أوْ ظَنَ أن الأشعري مُبدِّعٌ ... فلقد أساء وباء بالخُسرانِ كل إمام مقتد ذو سنَّةٍ ... كالسيف مسلولًا على الشيطانِ والخلفُ بينهما قليلٌ أَمْرُه ... سهل بلا بِدْع ولا كفران فيما يقل من المسائل عَدُّهُ ... ويهون عند تطاعُن الأقرانِ ولقد يئول خِلافُها إما إلى ... لفظٍ كالاستثناء في الإيمانِ ويدلنا النظر في كتب العقائد وتأمل مصنفات الأصول أن ما بينهما من خلاف إنما هو خلاف فرعي لا يمس شيئًا من الأصول. وفيما يلي نجمل المسائل التي كانت محل خلاف بين الأشاعرة والماتريدية، ثم نذكر نبذة يسيرة عن كل مسألة: مع بيان المسائل المختلف فيها لفظًا والمختلف فيها معنى. فأما المسائل المختلف فيها لفظًا فهي: 1 - السعادة والشقاء.

المسألة الأولى: السعادة والشقاوة

2 - بقاء الرسالة. 3 - الإرادة والرضا. 4 - الاستثناء في الإيمان. 5 - إيمان المقلد. 6 - الكسب. 7 - الكافر منعم عليه أم لا. والمسائل المختلف فيها معنويًّا: 1 - تكليف ما لا يطاق. 2 - الثواب والعقاب. 3 - التكوين. 4 - كلام اللَّه. 5 - معرفة اللَّه تعالى بالعقل أم بالشرع؟ 6 - عصمة الأنبياء عليهم السلام. أولاً: المسائل المختلف فيها لفظًا: المسألة الأولى: السعادة والشقاوة السعادة والشقاوة في اللغة والاصطلاح: أ - في اللغة: السعادة: خلاف الشقاوة، والسعيد: نقيضه الشقي، والسعد: هو اليمن ونقيضه النحس. ب - في الاصطلاح: السعادة: هي ما يجده القلب من الطمأنينة عند تنزل الغيب، وهي نور في القلب يسكن إلى شاهده ويطمئن صاحبه في الدنيا بالإيمان، وفي الآخرة بالنظر إلى وجه الرحمن سبحانه وتعالى، ودخول الجنة.

والاختلاف في هذه المسألة اختلاف حول الإجابة عن سؤال مهم، ألا وهو: هل يسعد الشقي أم لا، وهل يشقى السعيد أم لا؟ حيث اختلف الماتريدية مع الأشاعرة في الإجابة عن هذا السؤال. فعند الماتريدية: يرى الماتريدية أن السعادة والشقاوة تكونان في الحال، وليستا أزليتين، وبذلك يكون السعيد عندهم هو المؤمن في الحال، ولو مات على الكفر فقد انقلب شقيًّا بعد أن كان سعيدًا، والشقي هو الكافر في الحال، ولو مات على الإيمان فقد انقلب سعيدًا. أما عند الأشاعرة: فمفهوم السعادة عندهم هو الموت على الإيمان، وذلك - باعتبار تعلق علم اللَّه - تعالى - أزلًا بذلك. وكذلك فالشقاوة عندهم هي الموت على الكفر. وبذلك يكون السعيد عندهم سعيدًا في الأزل، والشقي شقيًّا في الأزل، ولا يتبدل السعيد شقيًّا، أو الشقي سعيدًا. والحق أن الخلاف بين الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة خلاف لفظي، ومحصور في مسألة بعينها ألا وهي: حال من أسلم بعد الكفر: هل هو شقي أم سعيد؟ والفريقان متفقان على أنه سعيد بإسلامه، لكنهم قد اختلفوا فيما إذا كان قد تبدل بإسلامه من الشقاوة إلى السعادة أم أنه سعيد أزلًا في علم اللَّه تعالى، وليس هناك تبدل، والكفر عرض له. فقد ذهب الماتريدية إلى أنه قد تحول بإسلامه من الشقاوة إلى السعادة، وذلك غير مخالف لما في علم اللَّه أزلًا. أما الأشاعرة: فقد ذهبوا إلى أنه سعيد، ولم يتبدل حاله من حيث السعادة والشقاوة، فهو في حالة الكفر كان سعيدًا أيضًا تبعًا للخاتمة.

المسألة الثانية حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل

المسألة الثانية حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل قبل عرض المسألة والخلاف فيها ينبغي أولًا أن نعرف بالرسول في اللغة والاصطلاح، والفرق بينه وبين النبي. ففي اللغة: الرسول: يقال: أرسلت رسولاً، أي: بعثته برسالة يؤديها، فهو فعول بمعني مفعول. وفي الاصطلاح: الرسول: هو من اختصه اللَّه بسماع وحي بحكم شرعي تكليفي، وأمر بتبليغه. الفرق بين الرسول والنبي: النبي مأخوذ من النبأ وهو الخبر؛ لإنبائه عن اللَّه -تعالى- إذ هو المتلقي لوحي السماء، وهو -اصطلاحًا-: من اختصه اللَّه -سبحانه وتعالى- بسماع وحي بحكم شرعي تكليفي سواء أمر بتبليغه أم لا. وبذلك يكون الفرق بين الرسول والنبي أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولًا. ولقد اختلف الماتريدية والأشاعرة في حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل على ما يلي: الماتريدية: وعندهم أن الرسل والأنبياء يظلون كذلك حتى بعد موتهم. وأما الأشاعرة: فيرون أن الأنبياء والرسل بعد موتهم في حكم الرسالة، وحكم الشيء يقوم مقام أصله. وبذلك يتضح أن الفريقين يتفقان في أصل المسألة وهي أن الرسالة باقية إلى الآن، لكن الخلاف فيما إذا كانت الرسالة باقية حقيقة أم في حكم الرسالة.

المسألة الثالثة الإرادة وهل تستلزم الرضا والمحبة أم لا

المسألة الثالثة الإرادة وهل تستلزم الرضا والمحبة أم لا الإرادة: في اللغة والاصطلاح: في اللغة: الإرادة: هي القصد، والمشيئة، يقال: أراد كذا، أو شاء كذا، أي: قصده. وفي الاصطلاح: هي صفة ثبوتية قديمة قائمة بذاته تعالى وزائدة عليها، تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه من الأمور المتقابلة. وقد اختلف السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة بعد اتفاقهم على أن اللَّه تعالى مريد، وأن ما يقع في الكون من خير وشر فهو مراد له تعالى - في أنه: هل هناك تلازم بين الإرادة والرضا بالمراد أم لا؟ فالماتريدية: يثبتون إرادة اللَّه تعالى الشاملة لأفعال العباد؛ لأن أفعال العباد من خلقه تعالى، والقول بعدم إرادة اللَّه الشاملة معناه عدم قدرة اللَّه على أفعالهم، فالقول بالقدرة المطلقة والإرادة المطلقة والعلم المطلق لازم لتمام صفات الألوهية. غير أن الماتريدية يقولون: إنه لا محبة في صفة الإرادة، وأن هذه الإرادة لا تستلزم الرضا والمحبة؛ إذ الكفر غير مرض، وهو مراد لله تعالى، وأن الإرادة والمشيئة لفظان مترادفان، كما أن إرادة اللَّه صفة أزلية ليست حادثة، وهي متعلقة بجميع الممكنات تعلق تخصيص، ويترتب على ذلك نفي التلازم بين الإرادة والرضا والمحبة؛ لأن الماتريدية يرون أن معنى الرضا ترك الاعتراض على الشيء لا إرادة وقوعه، ومعنى المحبة استحماده تعالى له، والإرادة عامة. وبذلك يكون بين الإرادة والرضا والمحبة عموم وخصوص وجهي.

المسألة الرابعة الاستثناء في الإيمان

أما الأشاعرة: فيرون أن الإرادة هي الرضا والمحبة؛ إذ المحبة هي الإرادة والرضا كذلك معناه الإرادة، والإرادة تستلزم الرضا والمحبة، وبهذا تكون الإرادة والمحبة والمشيئة والرضا والاختيار كلها بمعنى واحد، مثلما يكون المعرفة والعلم بمعنى واحد. وفي هذا يقول الإمام البغدادي في المسألة السادسة: أجمع أصحابنا أن إرادة اللَّه تعالى مشيئته واختياره، وعلى أن إرادته للشيء كراهيته لعدم ذلك الشيء كما قالوا: إن أمره بالشيء نهي عن ضده، وقالوا أيضًا: إن إرادته صفة أزلية قائمة بذاته، وهي إرادة واحدة محيطة بجميع مراداته على وفق علمه بها فما علم منها كونه أراد كونه، خيرًا كان أو شرًّا وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون. ولا يحدث في العالم شيء لا يريده اللَّه ولا ينتفي ما يريده اللَّه؛ وهذا معنى قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. والحق أن الفريقين يتفقان في أصل الإرادة ويختلفان في المراد، ويرجع هذا الخلاف إلى الجهة التي نظر منها كل منهما إلى مفهوم الإرادة، فالماتريدية نظروا إلى جهة العلم، وبذلك فقد ذهبوا إلى أن الإرادة لا تستلزم الرضا؛ إذ ليس هناك تلازم بين الإرادة والرضا، بينما نظر الأشعرية إلى أنها عامة وشاملة للكائنات كلها، وبذلك ذهبوا إلى أن كل مراد مرض، وهناك تلازم بين الإرادة والرضا. المسألة الرابعة الاستثناء في الإيمان التعريف بالإيمان في اللغة والاصطلاح: الإيمان في اللغة: الإيمان: التصديق، وهو ضد الكفر، والتصديق ضد التكذيب، من: آمن بالشيء، يؤمن به، إيمانًا، فهو مؤمن قال اللَّه تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ).

الإيمان في الاصطلاح: لقد اختلف الماتريدية والأشاعرة في التعريف بالإيمان ومفهومه في الشرع على ما يلي: مفهوم الإيمان عند الماتريدية: يعرف الماتريدية الإيمان بأنه " تصديق بالقلب وإقرار باللسان ". مفهوم الإيمان عند الأشاعرة: ويعرفه الأشعرية بأنه " التصديق باللَّه تعالى "، وهذا هو ما ذكره الإمام أبو الحسن الأشعري، وقد حدد المقصود بالتصديق بأنه التصديق القلبي، وهذا التصديق القلبي عند الأشاعرة هو: " الإيمان باللَّه سبحانه وتعالى، وإثبات ما أثبته لنفسه من صفات وأنه ليس كمثله شيء ". الاستثناء عند الماتريدية: ذهب الماتريدية إلى منع دخول الاستثناء في الإيمان، فالمؤمن عندهم يكون مؤمنًا حقًّا، وليس مؤمنًا بالمشيئة؛ وذلك لأن الماتريدية يرون أن الاستثناء شك في إيمان المؤمن وشرائطه التي لا تقبل الشك. يقول الإمام الماتريدي: الأصل عندنا قطع القول بالإيمان والتسمي به بالإطلاق وترك الاستثناء فيه؛ لأن كل معنى في اجتماع وجوده تمام الإيمان عندهم إذا استثنى فيه لم يصح ذلك المعنى؛ نحو أن يقول: أشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إن شاء اللَّه، أو: محمدًا رسول الله إن شاء اللَّه، وكذلك الشهادة بالبعث والملائكة والرسل والكتب. . . فالعرف الظاهر في الخلق أنهم لا يستعملونه -أي: الاستثناء- في موضع الإحاطة والعلم، ومن سمع ذلك استعظم القول، كمن أشار إلى محسوس ويستثني. الاستثناء عند الأشاعرة: يذهب الأشاعرة إلى جواز الاستثناء في الإيمان، فيمكن للمؤمن أن يقول: أنا مؤمن إن شاء اللَّه. يقول الإمام البغدادي: كل من قال من أهل الحديث بأن جملة الطاعات من الإيمان

المسألة الخامسة: إيمان المقلد

قال بالموافاة، وكل من وافى ربه على الإيمان فهو المؤمن، ومن وافى بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا علم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمنًا، والواحد من هَؤُلَاءِ يقول: أعلم أن إيماني حق وضده باطل، وإن وافيت ربي عليه كنت مؤمنًا حقًّا، فيستثني في صحة إيمانه. وبذلك يظهر أن محل الخلاف هو أن الماتريدية لا يجيزون الاستثناء في الإيمان، بينما الأشعرية يجيزون ذلك. المسألة الخامسة: إيمان المقلد وقع اختلاف بين السادة الماتريدية والسادة الأشاعرة في صحة إيمان المقلد، وكذلك صحة تسميته مؤمنًا، وهل يكتفي بالتقليد في العقائد الدِّينية أم لا؟ فالماتريدية: يذهبون إلى القول بصحة إيمان المقلد؛ لأن مع هذا الإيمان تصديقا، والتصديق هو أصل الإيمان، وعند الماتريدية يصح الاكتفاء بالتقليد في العقائد الدِّينية، إلا أن المقلد يعد عاصيًا بتركه للنظر إذا كان قادرًا على ذلك؛ ولذلك قيل: إن النظر واجب وجوب الفروع، وليس وجوب الأصول، وإلا كان هذا المقلد كافرًا. يقول أبو منصور الماتريدي: " ليس الشرط أن يعرف كل المسائل بالدليل العقلي، ولكن إذا بني اعتقاده على قول الرسول، بعد معرفته بدلالة المعجزة أنه صادق فهذا القدر كافٍ لصحة إيمانه ". أما الأشاعرة: فإنهم يقولون بأنه لا يكتفى بالتقليد في العقائد الدِّينية، ولكن لابد من الاعتقاد الجازم الناشئ عن دليل؛ لأن الإيمان من المسائل الأصولية، وهذه قليلة يمكن الإحاطة بها، وتكفي فيها المعرفة على الإجمال، ولا يشترط عندهم القدرة على التعبير عن ذلك؛ لأننا مأمورون بأن نتبع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والرسول - عليه السلام - مأمور بتحصيل العلم بتلك الأصول، والتصديق لا يوجد بدون العلم والمعرفة، والمقلد لا علم له حتى يحصل عنده التصديق، فإن لم يحصل هذا التصديق عنده فلا يحصل الإيمان.

المسألة السادسة: الكسب

ويذهب الأشاعرة إلى أن المقلد عاص بتركه النظر والاستدلال، ولكنه ليس مشركًا أو كافرًا، ويجوز أن اللَّه تعالى يغفر له، فإذا عوقب على المعصية دخل الجنة. يقول البغدادي: إن معتقد الحق قد خرج باعتقاده عن الكفر؛ لأن الكفر واعتقاد الحق في التوحيد والنبوات ضدان لا يجتمعان، غير أنه لا يستحق اسم المؤمن إلا إذا عرف الحق في حدوث العالم وتوحيد صانعه، وفي صحة النبوة ببعض أدلته سواء أحسن صاحبها العبارة عن الدلالة أو لم يحسنها ". والمتأمل للمسألة يرى أن الماتريدية والأشعرية يتفقان على أن المقلد قد خرج بتقليده عن الكفر والشرك، لكنهما يختلفان في تسمية المقلد مؤمنًا أو لا، فالماتريدية يسمونه مؤمنًا، بينما يمنع الأشعرية ذلك. المسألة السادسة: الكسب الكسب: هو ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفعٍ وتحصيل حظ، وقد يستعمل فيما يظن أنه يجلب منفعة ثم جلب مضرة. وقال ابن الكمال: هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر. وينبغي ذكر أن السادة الماتريدية قد اتفقوا مع الأشاعرة في القول بأن أفعال العباد واقعة بقدرة اللَّه تعالى، وللعباد فيها الكسب، لكن الماتريدية يختلفون مع الأشاعرة في معنى الكسب. فالماتريدية: يثبتون للعبد قدرة وإرادة لها أثر في الفعل، ولا أثر لها في الإيجاب والإحداث، وإنما أثرها ينصب على وصف الفعل بكونه طاعة أو معصية، وتتمثل هذه القدرة في القصد والاختيار للفعل، واللَّه سبحانه وتعالى يخلق للعبد القدرة على الفعل، وتكون نتيجة الفعل عليه. وبذلك يثبت الماتريدية أن للعبد اختيارًا في أفعاله، وهذه الأفعال هي التي يترتب عليها

المسألة السابعة الكافر منعم عليه أم لا؟

المدح والذم في الدنيا، كما يترتب عليها الثواب والعقاب في الآخرة، ولم يمنع الماتريدية إضافة الأفعال إلى اللَّه تعالى؛ إذ إنه هو الذي وصف نفسه بهذه الصفة على الحقيقة وما عداه مخلوق. أما الأشاعرة: فيذهبون إلى أن قدرة العباد التي وقع بها الفعل غير مخلوقة، وأن أمرها بأيديهم، وعليها مدار تكليفهم. والإرادة عند الأشاعرة هي الإرادة الجزئية، أما الإرادة الكلية عندهم فهي مخلوقة لله تعالى. المسألة السابعة الكافر منعم عليه أم لا؟ التعريف بالنعمة والكفر في اللغة والاصطلاح: أ - اللغة: النعمة: هي اليد والصنيعة والمنة، وكذلك: النعمى، وهي النعماء والنعيم، والجمع: أنعم. أما الكفر: فهو نقيض الإيمان، يقال: كفر يكفر كفرًا وكفورًا وكفرانًا. ب - في الاصطلاح: النعمة: ما قصد به الإحسان والنفع لا لغرض ولا لعوض. أما الكفر: فهو ستر نعمة المنعم بالجحود أو بعمل هو كالجحود في مخالفة المنعم. وقد اختلف الماتريدية مع الأشاعرة فيما إذا كان الكافر منعمًا عليه أم لا، وكذلك في هذه النعمة وهل هي نعمة دين أم دنيا أم هما معًا، وهل هي نعمة على الحقيقة أم لا؟ وذلك على ما يلي: رأي الماتريدية: يرى الماتريدية أن الكافر مُنْعَمٌ عليه، لكن هذا الإنعام إنما وقع في الدنيا فقط.

ثانيا: المسائل المختلف فيها معنويا:

يقول الإمام أبو حنيفة: إن الكافر منعم عليه في الدنيا، حيث خوله اللَّه تبارك وتعالى قوى ظاهرة وباطنة، وجعل له أموالًا ممتدة، فالنعمة دنيوية والنقمة أخروية. رأي الأشاعرة: ويرى الأشاعرة أن الكافر لم ينعم عليه لا في الدِّين ولا في الدنيا ولا في الآخرة. يقول الأشعري: إن اللَّه تعالى لم ينعم على الكافر دنيا ولا أخرى، وإن كان قد أنعم عليه نعمة الدنيا بأن خلقه ورزقه، فإن الحياة في حد ذاتها نعمة بشرط أن يكون الإنسان موفقًا في طاعة اللَّه تعالى، فإذا وجدت تلك النعمة مع فقد التوفيق في المكلف فليست الحياة نعمة إطلاقًا. ونرى أن الخلاف بين الفريقين في هذه المسألة ليس خلافًا كبيرًا ذلك أن الماتريدية القائلين بأن الكافر منعم عليه إنما يعنون النعم التي يعطاها الكافر في الدنيا حتى ولو لم تكن عقباه محمودة. أما الأشاعرة الذين يقولون بأن الكافر غير منعم عليه فقد حصروا النعمة في مجال خاص، إذ قصدوا بالنعمة ما ينعم به على الإنسان ويكون محمود العاقبة، والمتأمل للمسألة يجد أن الفريق الأول -وهم الماتريدية- قد نظر إلى النعم نظرة خاصة لمفهوم النعم ذاته، وبينما نظر الفريق الثاني -وهم الأشاعرة- إلى هذا المفهوم -وهو مفهوم النعم- نظرة أخرى. ثانيًا: المسائل المختلف فيها معنويًّا: المسألة الأولى التكليف بما لا يطاق التكليف: في اللغة والاصطلاح: التكليف في اللغة: التكليف من الكلفة، وهي التعب والمشقة، يقال: تكلف الأمر إذا فعله على كلفة ومشقة.

التكليف في الاصطلاح: التكليف هو: إلزام الكلفة على المخاطب. وقبل أن نبين رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة فإن ثمة أقسامًا وأركانًا للتكليف يجب أن نعرضها وهي: أقسام التكليف: ينقسم التكليف باعتبار اللفظ الوارد به، أو باعتبار الحكم: فباعتبار اللفظ الوارد به يكون ثلاثة أقسام: الأول: التكليف بالأمر، مثل قول اللَّه تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}. الثاني: التكليف بالنهي، مثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}. الثالث: التكليف بالخبر، وهو إما خبر في معنى الأمر؛ مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} أو خبر في معنى النهي؛ مثل قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}. أما باعتبار الحكم فيكون خمسة أقسام: الأول: تكليف موجب؛ مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}. الثاني: تكليف محرم؛ مثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}. الثالث: تكليف يدل على أن ما ورد به سنة؛ مثل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}. الرابع: تكليف يدل على أن ما ورد به مكروه؛ مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن أبغض الحلال عند اللَّه الطلاق ".

الخامس: تكليف يدل على إباحة ما ورد به من غير وجوب ولا حظر ولا كراهة ولا استحباب؛ مثل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}. أركان التكليف: وللتكليف ثلاثة أركان: الأول: المكلِّف. الثاني: المكلَّف. الثالث: المكلَّف به. مراتب التكليف: وهما مرتبتان: الأولى: التكليف بما يطاق. الثانية: التكليف بما لا يطاق. أما رأي الماتريدية والأشاعرة في المسألة فهو كما يلي: الماتريدية: يذهبون إلى عدم جواز أن يكلف اللَّه تعالى عباده بما لا يطيق العباد، فالماتريدية يرون أن التكليف يكون فيما يُقدر على إتيانه، أما غير المقدور على إتيانه فلا تكليف فيه. يقول الماتريدي: " تكليف ما لا يطاق لوقت الفعل قبيح في العقل ". الأشعرية: ويذهب الأشاعرة إلى أن قدرة اللَّه تبارك وتعالى قدرة مطلقة، ويجوز لله أن يكلف عباده بما لا يطيقون. يقول أبو بكر الباقلاني: " يجوز لله أن يكلف عباده ما لا يطيقون، إلا أن التكليف بما لا يطاق على نوعين: أحدهما: العجز أصلًا عن الفعل، وذلك ينتفي التكليف به لوجود مانع، وهو العجز. الثاني: إذا كان المراد عدم القدرة على الفعل لتركه والاشتغال بضده، فذلك جائز

المسألة الثانية: الثواب والعقاب

التكليف به لارتفاع العجز المانع أصلًا ". وبعد عرض رأي كل من الماتريدية والأشعرية يظهر لنا أن الماتريدية والأشعرية متفقون في حكم أقسام التكليف ما عدا التكليف بالمحال لغيره، وهو أدنى مراتب التكليف بما لا يطاق، فقد ذهب الماتريدية إلى منعه إلا في المقدور على إتيانه، أما ما لا يمكن إتيانه فلا تكليف فيه، لكن الأشعرية قد ذهبوا إلى جوازه؛ لأن قدرة اللَّه تعالى قدرة مطلقة. المسألة الثانية: الثواب والعقاب من الواضح أن كلًّا من السادة الماتريدية والأشاعرة يتفقان في القول بعدم جواز تعذيب المطيع وإثابة العاصي. أما محل الخلاف بينهما فهو في المدرك، حيث ذهب الماتريدية إلى أن المدرك لذلك هو العقل والشرع. وأما الأشاعرة فذهبوا إلى أن المدرك لذلك هو الشرع. وقد ترتب على ذلك أن الماتريدية منعوا جواز تعذيب المطيع وإثابة العاصي، بينما أجاز ذلك الأشعرية، وفي ذلك خلاف سنفصل القول فيه على ما يلي: الماتريدية: لقد ذهب الماتريدية إلى القول بمنع تعذيب المطيع عقلاً أو شرعًا. يقول الإمام أبو حنيفة: " لا يجوز مطلقًا لا عقلًا ولا شرعًا أن يعذب اللَّه تبارك وتعالى العبد الطائع؛ إذ لا يجوز في بداهة العقل أن يعذب اللَّه تبارك وتعالى المطيع ". وجاء في المسايرة لابن الهمام: " القول في تجويز تعذيب المحسن عقلًا عدمه، فوقوع ذلك منه تعالى مقطوع بعدمه وفاقًا بالشرع ". الأشعرية: أما الأشعرية فيذهبون إلى جواز تعذيب اللَّه تعالى للعبد الطائع وإدخاله النار عقلاً، وإدخال الكافر الجنة، كما أن لله تعالى إيلام البهائم والأطفال والمجانين؛ لأنه عدل في حكمه متصرف في ملكه.

المسألة الثالثة: التكوين

يقول أبو عذبة: إنه لو وقع منه -سبحانه وتعالى- تعذيب العبد الطائع لم يكن ذلك منه ظلمًا ولا عدوانًا؛ لأنه متصرف في ملكه بالتعذيب وتركه، فله ما يختار منهما، لكنه سبحانه وتعالى جاد في حق العباد بالإحسان إليهم بترك العقاب. وبذلك يظهر أن تعذيب الطائع لا يقع من اللَّه سبحانه وتعالى شرعًا عند كل من الماتريدية والأشاعرة، لكن الأشاعرة يجيزون وقوع ذلك عقلًا؛ لأن اللَّه تعالى متصرف في ملكه. المسألة الثالثة: التكوين لقد اختلف الماتريدية مع الأشاعرة في مسألة التكوين، فقد أثبتها الماتريدية، ونفاها الأشاعرة، كما سيظهر فيما يلي: الماتريدية: يقول السادة الماتريدية بأن التكوين صفة حقيقية زائدة غير القدرة والإرادة؛ إذ هو صفة أزلية، وغير المكون الحادث، وقدم التكوين لا يستلزم قدم المكوَّن، وأما كون التكوين غير المكوَّن؛ لأنه لو كان التكوين عين المكوَّن لم يكن من اللَّه تعالى شيء يوجب كونه خالقًا للعالم سوى أن ذات الباري أقدم من العالم، وكون ذاته أقدم من غيره لا يوجب كونه خالقًا. والقول بأن التكوين عين المكوَّن يؤدي إلى قدم العالم، وكونه بنفسه لا بغيره، وما لا يحتاج في حصوله إلى غيره كان قديمًا، فدل ذلك على أن التكوين غير المكوَّن. يقول الماتريدي: " إن صفته التي هي الفعل هي صفة ذاته، فيقال: اللَّه خالق ورحمن ورحيم وقد سمى به ذاته ". الأشاعرة: أما الأشاعرة فيقولون بأن التكوين ليس صفة حقيقية له، لكنه أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة المؤثر إلى الأثر، وإضافته إليه، فهو من صفات الأفعال، وهي عند الأشعرية حادثة، لا من الصفات الذاتية، والتكوين عين المكوَّن، والتخليق هو القدرة

المسألة الرابعة: كلام الله تعالى

باعتبار تعلقها بالمخلوق، كما أن الترزيق هو القدرة باعتبار تعلقها بإيصال الرزق. والمتأمل للمسألة يرى أن الخلاف بين الفريقين راجع إلى المعنى لا إلى اللفظ، فعند الماتريدية مبدأ الإيجاد عندهم هو صفة التكوين، وعند الأشاعرة التكوين لا يعد صفة حقيقية لله تعالى زائدة على القدرة والإرادة، بل هو معنى يعقل من إضافة المؤثر إلى الأثر. المسألة الرابعة: كلام اللَّه تعالى إن هذه المسألة من المسائل المهمة في علم الكلام بصفة عامة، ولقد اشتدت أهميتها بعد الجدل الذي دار حول مسألة قدم القرآن وحدوثه، والمحن التي تعرض لها علماء كثيرون بسبب ذلك، وقبل عرض رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة نبين أن ثمة قياسين يعارض كل منهما الآخر: فالأول: هو أن كلام اللَّه -تعالى- صفة له، وكل ما هو صفة له فهو قديم، وبذلك يكون كلامه تعالى قديما. وأما الثاني: فهو أن كلام اللَّه تعالى مؤلف من أجزاء مترتبة متعاقبة في الوجود، وكل ما من شأنه ذلك فهو حادث، ويكون بذلك كلام اللَّه تعالى حادثا. ولقد اختلف المسلمون وافترقوا بين من قال بصحة القياس الأول، وبين من قال بصحة القياس الثاني، حيث نجد أن أهل السنة والحنابلة يقولون بصحة القياس الأول، بينما يقول المعتزلة ومعهم الكرامية بصحة القياس الثاني. أما فيما يخص السادة الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة فعلى النحو التالي: الماتريدية لقد ذهب الماتريدية إلى أن الكلام صفة لله تعالى؛ لأنه -سبحانه وتعالى- متكلم بكلام واحد، وهو صفته الأزلية القائمة بذاته، وهي صفة منافية للسكوت والآفة، واللَّه سبحانه وتعالى بهذه الصفة آمر، ناه، مخبر. ويرى السادة الماتريدية كذلك أن حقيقة الكلام لا تسمع في الشاهد، وإنما تكون على الموافقة والمجاز، كما يقول المرء: سمعت كلام فلان وقول فلان، ويكون ذلك على

المجاز وليس على الحقيقة، وذلك لأنه لم يسمع قول فلان حقيقة؛ ولم يسمع كلامه وإنما سمع صوتًا يفهمه به. وبناء على ذلك فإن الماتريدية يقولون بأن موسى -عليه السلام- لم يسمع كلام اللَّه، وإنما سمع صوتًا دالاًّ عليه، ولقد خلق اللَّه تعالى هذا الصوت، وليس ذلك لأحد من خلقه. فالماتريدي يرى أن كلام اللَّه القديم لا يسمع، وأن ما نسمعه من الحروف والأصوات ليست هي كلام اللَّه بذاتها! وذلك لأنها عرض، والعرض لا يبقى زمانين. الأشاعرة: يقول الأشاعرة بأن الكلام إنما يراد به الصفة القديمة. يقول البيجوري في شرح الجوهرة عن الكلام: " إنه صفة أزلية قائمة بذاته، ليست بصوت ولا حرف منزهة عن التقديم والتأخير، ومنافية للسكوت والآفة ". ويقول أبو الحسن الأشعري: " إن كلامه واحد، هو أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد، وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه لا إلى عدد في نفس الكلام ". ويجب أن يعرف أن الإمام أبا الحسن الأشعري لا ينكر الكلام اللفظي، وإنما يثبت الكلام النفسي واللفظي، ويتضح ذلك من قوله: " وأجمعوا على إثبات حياة لله عَزَّ وَجَلَّ لم يزل بها حيًّا، وعلمًا لم يزل به عالمًا، وقدرة لم يزل بها قادرًا، وكلامًا لم يزل به متكلمًا، وإرادة لم يزل بها مريدًا، وسمعًا وبصرًا لم يزل بهما سميعًا بصيرًا ". ويتضح من عرض رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة أن الماتريدية يتفقون مع الأشاعرة في إثبات صفة الكلام لله تعالى، وأن الماتريدية يرون أن حقيقة الكلام لا تسمع في الشاهد، وإنما تسمع على سبيل الموافقة والمجاز. ويظهر الخلاف بين الماتريدية والأشاعرة فيما سمعه موسى - عليه السلام - أن الماتريدية يذهبون إلى أن موسى - عليه السلام - لم يسمع كلام اللَّه القديم وإنما سمع أصواتًا دلت عليه، وخص موسى بذلك؛ لأنه بغير واسطة الكتاب والملك.

المسألة الخامسة: معرفة الله تعالى

أما الأشاعرة فيذهبون إلى أن موسى - عليه السلام - سمع كلام اللَّه القديم بلا حرف ولا صوت. المسألة الخامسة: معرفة اللَّه تعالى لقد اتفق علماء الكلام على أن النظر هو طريق المعرفة، لكن الاختلاف بينهم في طريق ثبوت هذه المعرفة، وهل هو واجب بالشرع أم بالعقل. فالماتريدية: يذهبون إلى أن معرفة اللَّه -تعالى- واجبة بالشرع، لكنهم يرون أن العقل آلة لوجوب المعرفة، واللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- هو الموجب. ويرى الماتريدية -أيضًا- أن العقل ليس مُوجِبًا بذاته ولكنه سبب لوجوب. يقول الماتريدي: " يجب على الصبي العاقل معرفة اللَّه تعالى، فالحق -سبحانه وتعالى- قد فطر الناس على فطرة يعرفون وحدانيته وربوبيته بعقول مركبة فيهم ". وبذلك يذهب الماتريدي إلى أن العقل هو أساس المعرفة ويعاونه السمع في ذلك، وقد يسر اللَّه سبحانه السبيل إلى الوصول إلى الدِّين، ومعرفة اللَّه تعالى إنما هي عن طريق العقل والسمع، والعقل هو المختص بمعرفة اللَّه تعالى، والسمع مختص بمعرفة الشرائع والعبادات. ويقول أبو منصور الماتريدي في موضع آخر: " إن حقيقة الحجة إنما هي في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها الرسل، أما معرفة اللَّه -تعالى- فإن سبيل لزومها العقل، فلا يكون لهم في ذلك على اللَّه حجة؛ لأن الله خلق في كل واحد من الدلائل ما لو تأمل وتفكر فيها لدلته على وجود اللَّه ووحدانيته وربوبيته، واللَّه قد بعث الرسل ليقطع عليهم الاحتجاج ". ولا عذر عند الماتريدية في معرفة اللَّه تعالى عند من له عقل؛ لأن من يملك العقل يستطيع معرفة اللَّه عن طريق التفكر في خلق الكون وما فيه. أما الأشاعرة: فيرون أن معرفة اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- واجبة على الإنسان المكلف، والشرع هو طريق وجوب هذه المعرفة، وهو كتاب اللَّه تعالى وسنة نبيه الكريم.

المسألة السادسة: عصمة الأنبياء

ويذهبون إلى أن الواجبات ثابتة بالسمع، فالحسن عندهم هو ما حسنه الشرع، والقبيح عندهم هو ما قبحه الشرع، والعقل لا يحسن ولا يقبح ولا يقتضي ولا يوجب. يقول الإمام الغزالي: " إنه لو لم يرد الشرع لما كان يجب على العباد معرفة اللَّه تعالى وشكر نعمته خلافًا للمعتزلة ". المسألة السادسة: عصمة الأنبياء العصمة في اللغة والاصطلاح: العصمة في اللغة: العصمة: المنع، يقال: عصمه الطعام من الجوع، أي: منعه. وهي -كذلك-: الحفظ، يقول اللَّه تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أي: يحفظك. العصمة في الاصطلاح: هي: عدم خلق اللَّه تعالى ذنبًا في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى هذا تكون أمرًا إعداميًّا. وهذا بصفة عامة، وقد اختلف تعريف الماتريدية للعصمة عن تعريف الأشاعرة لها وذلك على ما يلي: الماتريدية يعرف السادة الماتريدية العصمة بأنها عدم القدرة على المعصية، أو خلق مانع فيها. الأشعرية: ويعرفها الأشعرية بأنها: " ألا يخلق اللَّه فيهم ذنبًا "، وذلك بناء على أصلهم من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار. أما عن رأي كل من السادة الماتريدية والأشعرية في مسألة العصمة، فذلك على ما يلي: الماتريدية: يقول السادة الماتريدية بعصمة الأنبياء من الكبائر والقبائح وخصوصًا فيما يتعلق بأمر الشرع وتبيلغ الأحكام وإرشاد الأمة.

ويذهب الماتريدية إلى أن الأنبياء معصومون من الصغائر، وأوجبوا تأويل كل ما أوهم في حقهم عليهم السلام من الكتاب والسنة مما اغتر به بعض من أجاز عليهم الصغائر، فالأنبياء منزهون عن الصغائر والكبائر ومن جميع المعاصي. يقول شارح الفقه الأكبر: " إن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكذب، خصوصًا فيما يتعلق بأمر الشرع وتبليغ الأحكام وإرشاد الأمة إما عمدًا وإما سهوًا: عمدًا فبالإجماع، وسهوًا عند الأكثرين، وفي عصمتهم عن سائر الذنوب تفصيل، وهو أنهم معصومون عن الكفر قبل الوحي، وبعده بالإجماع، وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور، وأما سهوًا فجوزه الأكثرون ". الأشاعرة: يتفق الأشاعرة مع الماتريدية -وغيرهم من سائر الفرق- على أن الأنبياء معصومون من الكبائر مطلقًا، قبل البعثة وبعدها. وفيما يخص الصغائر، فهي عندهم نوعان: أحدهما: صغائر قبل النبوة. ثانيهما: صغائر بعد النبوة. ويذهب الأشاعرة إلى أن الأنبياء تصدر عنهم هذه الصغائر قبل النبوة إذا لم تكن خسيسة وليس هناك دليل على منع ذلك، سواء أكان ذلك عمدًا أم سهوًا، أما بعد النبوة فإن الأنبياء معصومون عن تعمد كل ما يخل بصدقهم حتى إذا كان من الصغائر. يقول الآمدي في الأحكام: " وأما بعد النبوة فالاتفاق من أهل الشرائع قاطبة على عصمتهم عن تعمد كل ما يخل بصدقهم فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه من دعوى الرسالة والتبليغ عن اللَّه تعالى ". وبهذا يتضح أن محل الخلاف بين الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة أن الماتريدية يرون وجوب العصمة أيضًا من الصغائر، لكن بعض الأشاعرة يجيز وقوع الصغائر من الأنبياء قبل البعثة وبعدها كذلك سهوًا.

الباب الرابع حول تفسير القرآن الكريم

الباب الرابع حول تفسير القرآن الكريم ويشتمل على الفصول الآتية: الفصل الأول: نشأة التفسير وتطوره. الفصل الثاني: مدارس التفسير. الفصل الثالث: المناهج التفسيرية بين القديم والحديث.

الفصل الأول نشأة التفسير وتطوره

الفصل الأول نشأة التفسير وتطوره تمهيد: يجدر بنا قبل الخوض في بيان نشأة التفسير وتطوره بيان معناه، والفرق بينه وبين اصطلاحات قريبة المعنى منه؛ ذلك أن فكرة التفسير والتأويل وما في معناهما كلفظ " المعنى " شغلت كثيرًا من العلماء القدامى والمحدثين على السواء، فمثلاً يقول ابن فارس: " معاني العبارات التي يعبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة: المعنى والتفسير والتأويل، وهي وإن اختلفت فالمقاصد متقاربة ". ونقل صاحب اللسان عن ابن الأعرابي وأحمد بن يحيى أن " المعنى والتفسير والتأويل واحد ". وسنتناول هذه الاصطلاحات الثلاثة في عجالة في الصفحات الآتية: أولا: التفسير: التفسير لغة: مصدر فَسَّرَ -بتشديد السين- مأخوذ من الفسر، والمحور الذي تدور عليه هذه المادة هو الكشف مطلقا، سواء أكان هذا الكشف لغموض لفظ أم لغير ذلك؟ يقال: فَسَّرتُ اللفظ فَسْرًا من باب ضرب ونصر. ويستعمل التفسير لغة في الكشف الحسي، وفي الكشف عن المعاني المعقولة، واستعماله في الثاني أكثر من استعماله في الأول. ومن المعنى اللغوي يمكن القول: إن التفسير بوصفه علمًا يقصد منه كشف المغلق من المراد باللفظ، فالمفسر يكشف عن شأن الآية وقصصها ومعناها والسبب الذي أنزلت فيه.

وقد استعمل القرآن الكريم المادة بهذا المعنى من الكشف والإبانة في قوله تعالى: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)، قال ابن عَبَّاسٍ: يعني بيانًا وتفصيلاً. التفسير اصطلاحا: قدم كثير من العلماء تعريفات عدة للتفسير، وعلى ما بينها من أوجه اختلاف فإنها تنص على أن التفسير: علم يبحث عن مراد اللَّه، سواء جاء ذلك تلميحًا أو تصريحًا. وهذا التعريف شامل لكل ما يتوقف عليه المعنى وفهمه وبيان المراد منه. ثانيًا: التأويل التأويل لغة: يدور حول معنيين لا ثالث لهما: الأول: بمعنى الرجوع والعود والعاقبة. والثاني: بمعنى تفسير الكلام وتبيين معناه. وقد أشارت كتب اللغة إلى المعنيين، ففي اللسان أن التأويل من " الأول: الرجوع، آل الشيء يئول أولا ومآلا: رجع. . . وفي الحديث " من صام الدهر فلا صام ولا آل "، أي: لا رجع إلى خير، وأول الكلام وتأوله: دبره وقدره، وأوله وتأوله: فسره ".

وقد كثر استعمال لفظ " التأويل " في القرآن الكريم بمعنييه، فمن الأول قول اللَّه تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) يعني ما يئول إليه في وقت بعثهم ونشورهم. ومن الثاني قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}، فالتأويل هنا يعني التفسير والتعيين والتوضيح. التأويل اصطلاحًا: التأويل عند السلف في تعريفه غيره عند الخلف؛ فالتأويل عند السلف يأتي على معنيين: الأول: تفسير الكلام وبيان معناه، وبذلك يكون التأويل والتفسير مترادفين. والثاني: هو نفس المراد بالكلام، فإن كان الكلام طلبًا كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبرًا كان تأويله نفس الشيء المخبر به. وبين هذا المعنى والذي قبله فرق ظاهر، فالذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام: كالتفسير والشرح والإيضاح، ويكون وجود التأويل فيه القلب واللسان، وله الوجود الذهني واللفظي والرسمي. وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء أكانت ماضية أم مستقبلية، فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا هو نفس طلوعها، وهذا في نظر ابن تيمية هو لغة القرآن التي نزل بها؛ ولهذا يمكن إرجاع كل ما جاء في القرآن الكريم من لفظ التأويل إلى هذا المعنى الثاني. أما الخلف من المتفقهة والمتكلمين والمتصوفين وغيرهم فقد رأوا أن التأويل يعني: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به. والمتأول عندهم يحتاج إلى أمرين: الأول: أن يبين احتمال اللفظ للمعنى الذي حمله عليه وادعى أنه المراد. الثاني: أن يبين الدليل الذي أوجب صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح، وإلا كان تأويلاً فاسدًا وتلاعبًا بالنصوص. ومن ثم قال الزركشي: " التأويل: التمييز بين المنقول والمستنبط؛ ليحمل على

الاعتماد في المنقول، وعلى النظر في المستنبط؛ تجويزًا له وازديادًا ". وأوضح من هذا ما قاله صاحب جمع الجوامع وشرحه: " التأويل: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل عليه لدليل فصحيح، أو لما يظن دليلاً في الواقع ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل ". ثالثا: المعنى: المعنى لغة واصطلاحًا: يراد بالمعنى لغة: القصد والمراد، جاء في اللسان: " عنيت بالقول كذا: أردت، ومعنى كل كلام ومعناته ومعنيته: مقصده، ويقال: عرفت ذلك في معنى كلامه ومعناة كلامه وفي معنى كلامه ". وله علاقة بالإظهار والوضوح، كما تقول: عنت القربة: إذا لم تحفظ ماءها بل أظهرته، ومنه عنوان الكتاب، أي: الجزء الظاهر منه والمنبئ عما بداخله. وتجدر الإشارة إلى أن هناك لفظًا رابعًا له اتصال ما بألفاظ التفسير والتأويل والمعنى، وهو لفظ البيان، ويعني: إظهار المتكلم المراد للسامع، وهو أعم من الألفاظ الثلاثة جميعًا؛ لشموله كلاًّ من بيان التغيير وبيان التقرير، وبيان الضرورة، وبيان التبديل. الفرق بين التفسير والتأويل: يمكن القول: إن حاصل ما تضمنته عبارات العلماء العديدة في هذا المقام لا يخرج عن اتجاهين: الاتجاه الأول: أن التفسير والتأويل ترجمة عن معنى واحد، بحيث إذا قلنا أحدهما على شيء قلنا الآخر عليه بلا أدنى فرق، وإلى هذا ذهب أبو عبيد والطبري وطائفة. والاتجاه الثاني: أن التفسير والتأويل يختلف مدلول أحدهما عن الآخر اصطلاحًا كما اختلفا لغة، وقد حمل لواء هذا الاتجاه النيسابوري والزركشي والراغب الأصفهاني وغيرهم. . . وقد تشددوا في التفريق بين اللفظين أيما تشدد، حتى قال النيسابوري

مُعَرِّضًا: " قد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه ". وقد فرق العلماء بين اللفظين بفروق شتى، نورد أبرزها -خشية الإطالة- فمثلاً الراغب الأصفهاني يقول: " التفسير أعم من التأويل، وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل في المعاني ". وأبو طالب الثعلبي يفرق فيقول: " التفسير: بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازًا، كتفسير " الصراط " بالطريق، و " الصيب " بالمطر. والتأويل: تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الأمر، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد ". والماتريدي صاحبنا يقول: " التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على اللَّه أنه عنى باللفظ هذا، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي، وهو المنهي عنه، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون قطع، والشهادة على اللَّه ". والأقوال كثيرة في التفريق بين التفسير والتأويل، بعضها يصل بمفهوم المصطلحين إلى حد التباين، ولعل أولاها بالقبول ما ذكره جملة من العلماء من أن التفسير يرجع إلى الرواية، والتأويل يرجع إلى الدراية والاستنباط؛ لأن التفسير كشف وبيان عن مراد اللَّه، والكشف عن مراد اللَّه لا نجزم به إلا إذا ورد عن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، أو عن بعض أصحابه الذين شهدوا نزول الوحي، وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع، وخالطوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم. أما التأويل فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل، وهذا الترجيح يعتمد على الاجتهاد. ومن ثم قال الزركشي -فيما أشرنا إليه من قبل-: " وكأن السبب في اصطلاح بعضهم على التفرقة بين التفسير والتأويل، التمييز بين المنقول والمستنبط؛ ليحمل على الاعتماد

نشأة التفسير وتطوره

في المنقول، وعلى النظر في المستنيط ". وخلاصة القول: أنه برغم الاختلاف بين المصطلحين، فإنهما يشتركان في معنى واحد، وهو محاولة الكشف عن حقيقة شيء، وأنه حين يستخدم كل منهما في شرح ألفاظ القرآن وبيان معانيه فإنه يجمعهما هذا المعنى العام. نشأة التفسير وتطوره من البدهيات أن كل شيء في الوجود لا يكتمل إلا إذا مر بمراحل معينة وأطوار متتالية، وتلك سنة من سنن اللَّه في الأشياء جميعًا، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}. ويصدق على العلوم ما يصدق على الأشياء، فلم يعرف أن هناك علمًا من العلوم وجد كاملاً هكذا فجأة، وإنما كل علم مر بمراحل وتطورات حتى صار علمًا له أصوله وأركانه التي يقوم عليها. ومن العلوم علم التفسير، هذا العلم الذي شهد تطورات منذ نزول الآيات الأولى من كتاب اللَّه الكريم وحتى يوم الناس هذا، فبدأ بمرحلة المهد ثم الطفولة، وتطورت به المراحل حتى استوى على سوقه، وصارت له أصوله وأركانه. وجدير بمن يتناول علم التفسير أن يقف عند هذه المراحل والتطورات؛ لأنها تطورات متلاحقة ومتعانقة في آن واحد، فلا يمكن فصل مرحلة عن مرحلة، أو اعتماد مرحلة دون أخرى، وإلا فقد هذا العلم ركنًا من أركانه، وأصلاً من أصوله، ولوقع المفسر في أخطاء جسيمة، وأدخل في تفسيره للآيات غير مراد اللَّه ومقصوده، ومن ثم فعلى المفسر أن يراعي كل المراحل، ولا يعتمد مرحلة دون مرحلة، ويراعي في المقام الأول مرحلة التفسير في عهد النبوة؛ لأنها الأساس الذي يُبْنَى عليه ما بعده، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو أعلم الناس بالقرآن. هذا: وقد أشرنا إلى نشأة علم التفسير في عجالة سريعة عند حديثنا عن الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي في الفصل السادس من الباب الأول من هذه المقدمة، إلا أنه لأهمية الوقوف على نشأة التفسير وتطوره، خصصنا الصفحات الآتية لدراسة أبرز مراحل هذه النشأة وذلك التطور:

المرحلة الأولى: التفسير في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -:

المرحلة الأولى: التفسير في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، وعلى أساليب بلاغة العرب وبيانهم، فكانوا يفهمونه، ويدركون أغراضه ومراميه، وإن تفاوتوا في الفهم، والإدراك؛ تبعًا لاختلاف درجاتهم العلمية، ومواهبهم العقلية، فقد قال ابن قتيبة: " إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض ". ومعنى هذا أن هناك آيات تشكل معانيها على الصحابة، وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - يسألون الرسول ليوضح لهم موضع الإشكال، فمن هنا بذرت البذور الأولى لعلم التفسير. والحق أن التفسير في هذه المرحلة يتميز بسمات لم تتوافر لأي مرحلة تالية، ومن أبرز هذه السمات: أن لجميع الأقوال التفسيرية التي شهدتها هذه المرحلة قوة النص المفسَّر، أو هي الوجه الآخر له، إذا صح هذا التعبير. إن تفسير القرآن في هذا المرحلة كان من عند اللَّه تبارك وتعالى، فهو سبحانه أول مبين ومفسر لكتابه؛ لأنه الأعلم به وبمراد نفسه من غيره، ولأن أصدق الحديث كتاب الله تعالى؛ ولذلك يقول اللَّه تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، ويقول سبحانه: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}، ويقول جل وعلا: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19). وتفسير القرآن في هذه المرحلة -أيضًا- كان موكولاً إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكان طبيعيًّا أن يفهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القرآن جملة وتفصيلاً، فهم ظاهره وباطنه، ومجمله ومفصله، ومقيده ومطلقه، ومحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، وأمره ونهيه، وغريبه ومشكله، وسائر ما يتعلق بالأحكام والاعتقاد والتكاليف. . . إلخ. وقد أعطى القرآن الكريم للرسول الحق في عملية التفسير، فقد قال اللَّه جل وعلا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، وقال سبحانه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151).

وقد بدأ التفسير في هذه المرحلة حينما كان الصحابة يسألون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن فهم القرآن الكريم كاملاً ليس ميسورًا لهم، " بل لابد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يشكل عليهم فهمه؛ وذلك لأن القرآن فيه المجمل، والمشكل، والمتشابه، وغير ذلك مما لابد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها ". والأمثلة كثيرة وثابتة تدل على أن الصحابة كانوا يسألون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عما يشكل عليهم من معان قرآنية، فمن ذلك ما أخرجه الترمذي عن عليٍّ بن أبي طالب قال: سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن " يوم الحج " فقال: " يوم النحر ". وقد فسر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الحساب اليسير بالعرض حيث قال: " من نوقش الحساب عذب " فقالت له السيدة عائشة - رضي اللَّه عنها -: أو ليس قد قال اللَّه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ذلك العرض " بيانا للحساب

اليسير. وكذلك فسر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القوة بالرمي في قوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}. وأحيانًا كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يفسر بنفسه المعنى دون أن يوجه إليه سؤال من أحد الصحابة، من ذلك ما أخرجه الترمذي عن أبي بن كعب أنه سمع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تفسير قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}، يقول: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". وهناك لون من التفسير وجد في العهد النبوي، وهو ما يمكن تسميته: التفسير بالوقائع، وفيه تفسير الآية قبل نزولها؛ حيث تقع واقعة، ويسأل الصحابة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وينزل الوحي بحكم هذه الواقعة المسئول عنها، فيفهم الصحابة عن الله مراده في الآيات.

والآيات التي نزلت مرتبطة بوقائع كثيرة في القرآن الكريم، وقلما تجد سورة تخلو من آيات مرتبطة بوقائع، فمن ذلك ما جاء في سورة البقرة: ففي قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، أخرج الواحدي والثعلبي من طريق مُحَمَّد بن مروان والسدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عَبَّاسٍ، قال: نزلت هذه الآية في عبد اللَّه بن أُبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال عبد اللَّه بن أُبي: انظروا كيف أرد عنكم هَؤُلَاءِ السفهاء، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحبًا بالصديق سيد بني تميم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول اللَّه، ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بني عدي بن كعب، الفاروق القوي في دين اللَّه، الباذل نفسه وماله لرسول اللَّه، ثم أخذ بيد عليٍّ، فقال: مرحبًا بابن عم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول اللَّه، ثم افترقوا فقال عبد اللَّه لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيرًا، فرجع المسلمون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأخبروه بذلك، فنزلت هذه الآية. وفي قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، أخرج الأئمة الستة عن عبد اللَّه بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلًا من الأنصار في شراج الحرة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك ". فقال الأنصاري: يا رسول اللَّه، أن كان ابن عمتك، فتلون وجهه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: " اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدار، ثم أرسل الماء إلى جارك "، واستوعب للزبير حقه، وكان أشار عليهما بأمرٍ لهما فيه سعة، قال الزبير. فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك.

وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عَبَّاسٍ قال: جاء العاصي بن وائل إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعظم حائل ففته، فقال: يا مُحَمَّد أيبعث هذا بعدما أرم؟ قال: " نعم، يبعث اللَّه هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم "، فنزلت الآيات {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ}، إلى آخر السورة. والأمثلة في هذا الشان كثيرة جدًّا، وهي مبثوثة في كتب أسباب النزول، وكتب السنة الصحيحة كذلك يراجعها من أراد. إذن نستطيع القول: إن هناك طريقين، أو بالأحرى مصدرين للتفسير في المرحلة النبوية، هذان الطريقان هما: الأول: القرآن الكريم؛ حيث يجد الناظر في كتاب اللَّه تعالى أن هناك آيات تفسر بها آيات أخرى، فالقرآن الكريم " قد اشتمل على الإيجاز والإطناب، وعلى الإجمال والتبيين، وعلى الإطلاق والتقييد، وعلى العموم والخصوص، وما أوجز في مكان قد يبسط في مكان آخر، وما أجمل في موضع قد يبين في موضع آخر، وما جاء مطلقًا في ناحية قد يلحقه التقييد في ناحية أخرى، وما كان عامًّا في آية قد يدخله التخصيص في آية أخرى؛ لهذا كان لابد لمن يتعرض لتفسير كتاب اللَّه تعالى أن ينظر في القرآن أولاً: فيجمع ما تكرر منه في موضوع واحد، ويقابل الآيات بعضها ببعض "، وقد فعل ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقد فسر القرآن الكريم بالقرآن الكريم حيث سئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)}. فقال الصحابة لما نزلت: وأينا لا يلبس إيمانه بظلم؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ألم تقرءوا قول الله

تعالى: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ". ففسر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الظلم في الآية الأولى بالشرك في الآية الثانية. ومن تفسير القرآن بالقرآن ما جاء بحمل المجمل على المفصل، مثال ما جاء في تفسير قول اللَّه تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)، فقد جاء تفسير قوله سبحانه: (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) في آية كريمة أخرى هي قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3). ومن تفسير القرآن بالقرآن -أيضا- ما جاء بحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص: فمن الأول: ما نقله الغزالي عن أكثر الشافعية من حمل المطلق على المقيد في صورة اختلاف الحكمين عند اتحاد السبب، ومثل له بآية الوضوء والتيمم، فإن الأيدي مقيدة في الوضوء بالغاية في قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ). . . ومطلقة في التيمم في قوله تعالى في الآية نفسها: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)، فقيدت في التيمم بالمرافق أيضا. ومن النوع الثاني: نفي الخلة والشفاعة على جهة العموم في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، فخصص العموم في قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)، فقد استثنى ما أذن فيه من الشفاعة، وفي قوله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فقد استثنى اللَّه المتقين من نفي الخلة.

ومن تفسير القرآن بالقرآن: حمل المبهم على المبين، كما في قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) فقد فسر قوله: (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) بقوله: (الْفَجْرِ). ومنه - أيضًا - قول اللَّه تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ)، فقد بُيِّنت كلمة الطارق بما تلاها من قول اللَّه تعالى: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ). " ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يتوهم أنه مختلف، كخلق آدم من تراب في بعض الآيات، ومن طين في غيرها، ومن حمأ مسنون، ومن صلصال، فإن هذا ذكر للأطوار التي مر بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح ". وتجدر الإشارة إلى أن تفسير القرآن بالقرآن كان النواة الأولى لعلم التفسير، وهو ما قاله المستشرق جولد تسيهر، ووافقه الذهبي حين قال: " نعم نستطيع أن نوافقه - يقصد جولد تسيهر " أن المرحلة الأولى للتفسير تتركز في القرآن نفسه، على معنى رد متشابهه إلى محكمه، وحمل مجمله على مبينه، وعامه على خاصه، ومطلقه على مقيده. . . كما تتركز في بعض قراءاته المتواترة ". الطريق الثاني في تفسير القرآن الكريم في المرحلة النبوية: تفسيره بالسنة الشريفة، وذلك حين لا نجد في القرآن ما نفسره به، " فالسبيل المثالية التي لا ينبغي لعاقل أن يعدل عنها، أن يطلب التفسير ثاني ما يطلبه -أي بعد القرآن مباشرة- من السنة، وعلى هذا أطبق أهل السنة والجماعة؛ انطلاقًا منهم -رحمهم اللَّه- من مسلمات أربع: أولاها: أن خير من يمكن أن يفسر القرآن، ومن ينبغي أن يطلب منه تفسيره بعد الله تعالى في محكم كتابه هو رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذي حدثنا ربه فيما حدث من وصفه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4). فهو إذن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمقتضى كونه رسولاً أولاً، ثم بمقتضى شهادة هذا النص وأشباهه ثانيًا - لا يمكن أن يقر على خطأ أبدًا، دع عنك أن يكون الخطأ في مثل هذا الأمر الجلل، أعني تفسير القرآن الكريم الذي هو أعظم معجزاته، وأكبر آيات فضله وسمو منزلته، فإن جاز عليه الخطأ بمقتضى بشريته في يسير الأمر، فليس يجوز عليه في أهم المهمات بالنسبة له

ولشريعته وأمته أصلاً، بل إن جاز عليه الخطأ ولو في يسير من الأمر بمقتضى تلك البشرية، فليس يجوز في عقل عاقل أن يقر عليه، بمقتضى ما له من الرسالة، بل لا محالة يهديه ربه إلى صواب القول والعمل. الثانية: أن خير من يمكن أن يفسر الشيء من تكون أهم وظائفه تبيان ذلك الشيء، فعند ذلك نقول: قد صرح اللَّه في محكم ذكره بأن أولى غايتي إنزاله، وبالتالي أهم وظيفة لنبيه هي تبيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك الذكر للناس، على ما قال جل من قائل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). الثالثة: أن من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن السنة هي الأصل الثاني لهذا الدِّين، والمصدر التالي للقرآن مباشرة في جميع كليات هذا الدِّين وجزئياته، فالمجاوز للسنة إذن مع وجدان طلبته فيها راكب لعظيم، مخالف لمقتضى ضروريات هذا الدِّين. الرابعة: أن طلب البيان من السنة ما تيسر فيها هو من جملة مقتضى الأوامر الإلهية الموجبة لطاعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في كل ما نأتي ونذر؛ من أمثال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59). وقد رسخت هذه المسلمات وتقررت في أذهان أصحاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكانوا يسألونه -كما سبقت الإشارة- عن جميع ما يشكل عليهم من القرآن الكريم وغيره، وقد ذكرنا فيما مضى بعض الأمثلة التي تبين ذلك، ونزيد الأمر وضوحًا بعرض مجموعة القضايا الآتية: القضية الأولى: كيف بينت السنة القرآن؟ جاء بيان السنة للقرآن على وجوه متعددة، أبرزها ما يأتي: الوجه الأول: بيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض مجملات القرآن، كما في بعض الفروض التي جاءت في القرآن مجملة: كالصلاة والزكاة والصوم والحج، فقد قام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتفصيل أمرها بأقواله أو أفعاله، أو كليهما، تفصيلاً ما كنا نستطيع بدونه أن نفهم المقصود منها، فقد بين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مواقيت الصلوات الخمس، وعدد ركعات كل صلاة وكيفيتها، وبين مقادير الزكاة،

وأوقاتها، وأنواعها، وبين مناسك الحج وأركانه وسننه؛ ولذلك كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، وكان عليه الصلاة والسلام يقول -أيضًا-: " خذوا عني مناسككم ". وروى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: " إنك رجل أحمق، أتجد الظهر في كتاب اللَّه أربعًا لا يجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدد عليه الصلاة والزكاة، ونحو ذلك، ثم قال: أتجد هذا في كتاب اللَّه تعالى مفسرًا؛ إن كتاب اللَّه تعالى أبهم هذا، وإن السنة تفسر هذا ". الوجه الثاني: تخصيص العام في القرآن، ومن أمثلته تخصيص آية الزانية والزاني بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وفعله بغير المحصن. وتخصيص الظلم في قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)، بالشرك. الوجه الثالث: تقييده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مطلقات القرآن، ومن ذلك تقييده اليد في قوله تعالى: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) باليمين.

الوجه الرابع: إيضاحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض مبهمات القرآن: كتفسيره للعبد الصالح صاحب موسى عليه السلام بالخضر. الوجه الخامس: بيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لفظًا أو متعلقه: كبيان المغضوب عليهم في قوله تعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). الوجه السادس: بيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أحكامًا زائدة على ما جاء في القرآن الكريم، كتحريم زواج المرأة على عمتها وخالتها وصدقة الفطر، ورجم الزاني المحصن، وميراث

الجدة، والحكم بشاهد ويمين. . . وغير ذلك.

الوجه السابع: بيانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - النسخ، كأن يبين لنا - عليه الصلاة والسلام - أن آية كذا نسخت كذا، أو أن حكم كذا نسخ بكذا. . . وهكذا، ومن ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية

لوارث " يبين أن آية الوصية للوالدين والأقربين منسوخ حكمها وإن بقيت تلاوتها. الوجه الثامن: دفعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض إشكالات وردت على القرآن: كدفعه ما استشكل به نصارى نجران على أخوة مريم لهارون، يعنون أخا موسى - عليه السلام - مع أن بينها - عليها السلام - وبينه كذا وكذا، فقد دفع ذلك - عليه الصلاة والسلام - بأن ليس المقصود في الآية (يا أخُتَ هَارُونَ)، هارون النبي، بل هو آخر في عهدها سمي باسمه. الوجه التاسع: بيان التأكيد منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك أنه يؤكد الحكم الذي جاء به القرآن ويقويه، وذلك كقوله - عليه الصلاة والسلام -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " فإنه يوافق قوله سبحانه: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ).

والغرض من هذا البيان التأكيدي هو ترسيخ مفهوم النص القرآني وحكمه في قلب السامع. ومن ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما، واللفظ للبخاري عن عائشة قالت: " تلا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7). قالت: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأُولَئِكَ الذين سمى اللَّه فاحذروهم ".

الوجه العاشر: ويعتبر من أروع الوجوه وأعظمها، وهو تطبيق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للقرآن، تطبيقًا عمليًّا في حياته، مما يعد تفسيرًا عمليًّا وتطبيقيَّا جليًّا غاية الجلاء، مما جعل حاجة الصحابة إلى التفسير القولي غير كبيرة، فقد عايشوا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معاني القرآن، وتسابقوا إلى الاقتداء به في العمل بآياته المنزلة. روي عن السيدة عائشة أنها قالت حين سئلت عن خُلُق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كان خلقه القرآن ". ولست أبغي من وراء عرض كيفية بيان السنة للقرآن وتفسيره والأوجه المعتبرة في ذلك إلا تقرير الدور العظيم الذي اضطلع به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تفسير القرآن الكريم في تلك المرحلة المتقدمة مرحلة نزول هذا الكتاب الكريم، مما يعد أساسًا من الأسس التي بني عليها المفسرون فيما بعد عصر النبوة تفسيراتهم للقرآن والتي أسهمت بشكل كبير في استواء التفسير -بوصفه علمًا- على سوقه. القضية الثانية: هل فسر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القرآن كله؟ وما المقدار الذي بينه عليه الصلاة والسلام من القرآن لأصحابه؟ وهذه القضية خلافية بين العلماء عرضها الدكتور الذهبي في كتابه " التفسير والمفسرون "، وذكر أن هناك فريقين يتنازعان القضية: الفريق الأول: ذهب إلى القول بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين لأصحابه كل معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه، وعلى رأس هَؤُلَاءِ ابن تيمية.

الفريق الثاني: ذهب إلى القول بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يبين لأصحابه من معاني القرآن إلا القليل، وعلى رأس هَؤُلَاءِ السيوطي. ثم شرع الدكتور الذهبي في عرض أدلة كل فريق: فأدلة الفريق الأول من الكتاب والسنة والمعقول: فمن الكتاب: قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). والبيان في الآية يتناول بيان معاني القرآن، كما يتناول بيان ألفاظه، وقد بَيّنَ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألفاظه كلها، فلا بد أن يكون بَيَّنَ كل معانيه -أيضًا- وإلا كان مقصرًا في البيان الذي كلف به من اللَّه. ومن السنة ما روي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن. . كعثمان بن عفان وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا ". فهذا الأثر يدل على أن الصحابة تعلموا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معاني القرآن كلها، كما تعلموا ألفاظه. ومن المعقول قالوا: إن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في علم من العلوم كالطب أو الحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكتاب اللَّه الذي فيه عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم

في الدنيا والآخرة؟ ومما يدل على هذا الدليل العقلي ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن عمر - رضي اللَّه عنه - أنه قال: " من آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبض قبل أن يفسرها ". وهذا يدل بالفحوى على أنه كان يفسر لهم كل ما نزل، وأنه إنما لم يفسر هذه الآية لسرعة موته بعد نزولها، وإلا لم يكن للتخصيص بها وجه. وأما أدلة الفريق الثاني: فقد استدلوا -أيضًا- من السنة والمعقول: فمن السنة: ما أخرجه البزار عن عائشة قالت: " ما كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يفسر شيئًا من القرآن إلا آيات بعدد، علمه إياهن جبريل ". ومن المعقول قالوا: إن بيان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكل معاني القرآن متعذر، ولا يمكن ذلك إلا في آي قلائل، والعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل، ولم يأمر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتنصيص على المراد في جميع آياته؛ لأجل أن يتفكر عباده في كتابه. وقالوا -أيضًا-؛ لو كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لأصحابه معاني القرآن، لما كان لتخصيصه ابن عَبَّاسٍ بالدعاء له بقوله: " اللهم فقهه في الدِّين وعلمه التأويل " فائدة؛ لأنه يلزم من بيان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه كل معاني القرآن، استواؤهم في معرفة تأويله، فكيف يخصص ابن عَبَّاسٍ بهذا الدعاء؟.

ومن خلال عرض رأي الفريقين يتضح الآتي: أولا: مغالاة الفريقين فيما ذهبا إليه، وأن المقبول هو أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قام بدور عظيم في تفسير كتاب اللَّه، لكنه لم يفسره كله بطبيعة الحال؛ إذ لو قلنا بتفسير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - القرآن كله لما كان هناك داع لدعوة القرآن إلى تدبر آيات اللَّه فيه (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، ولما كان للتحذير الشديد والوعيد القاصم للذين لا يتدبرونه في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، من قيمة. ثم إنه إذا كان الأمر كذلك فلا قيمة للتفسيرات التي وضعها العلماء من لدن الصحابة وحتى يوم الناس هذا، وهي تفسيرات فيها من الجديد المعجب ما لا يمكن إنكاره، أو الزعم بأنه غير صحيح. هذا بالإضافة إلى أننا لو قلنا بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فسر القرآن لفظه ومعناه لكذبناه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما قال عن القرآن من أنه: " لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد "، ولكان اختلاف الصحابة حول القرآن بعد رسول اللَّه اجتراء منهم على اللَّه وحيفًا عن هديه صلى اللَّه عليه وسلم، وحاشا أن يفعل الصحابة ذالك أو يقع منهم. كما أننا لو قلنا: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر من معاني القرآن إلا القليل، لهضمنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حقه في شخصه ودعوته ورسالته؛ إذ إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين أصول الدِّين وأحكامه وشرائعه وأركانه المبثوثة في القرآن الكريم بصورة إجمالية أو كلية، ففصل المجمل، وأبان عن جزئيات الكلي، فعرف الناس دينهم: أصوله وأركانه وشرائعه وجزئياته، فلو قلنا: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر إلا القليل، فمن الذي بين لنا الدِّين " الإسلام " الذي جاء به القرآن؟! كذلك لو قلنا بهذا لكذبنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوله: " ألا وإني أوتيت القرآن ومثله

معه "، ولأنكرنا سنته التي جاءت -كما سبق بيانه- لتبين مبهم القرآن، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتؤكد ما جاء فيه. يتبين لنا أن التوسط والاعتدال بين المذهبين هو الخليق بالقبول، ولذلك أقول: إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين الكثير من معاني القرآن لأصحابه، تشهد بذلك كتب الصحاح المليئة بتفسيرات الرسول لكثير من الآيات ببيان معانيها وأحكامها، وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الوقت نفسه - لم يبين كل معاني القرآن؛ لأن من القرآن ما استأثر اللَّه تعالى بعلمه، فقال: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7). وبدهي أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب؛ لأن القرآن نزل بلغتهم، ولم يفسر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته، ولم يفسر لهم ما استأثر اللَّه بعلمه كقيام الساعة وحقيقة الروح، وإنما فسر لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعض المغيبات التي أخفاها اللَّه عنهم، وأطلعه عنيها وأمره ببيانها لهم، وفسر لهم -أيضًا- كثيرًا مما يندرج تحت التفسير الذي تعرفه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم. ثانيًا: أدلة الفريقين محجوجة ومفندة: فأدلة الفريق الأول محجوجة بما يأتي: استدلالهم بالآية (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) مردود عليه من وجهين: الأول: أن القول بعموم الآية الشامل لجميع ألفاظ القرآن ومعانيه ليس صحيحًا؛ لقرينتين تفيدان التخصيص: الأولى: قرينة مقالية تتمثل في قوله عز شأنه: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ

الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ). فالآية صريحة في أن بيان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للكتاب مقصور على الذي اختلفوا فيه دون ما لم يختلفوا فيه. والقرينة الثانية: قرينة حالية تتمثل في واقع القرآن الكريم وأمر من نزل بلسانهم العربي المبين، فإن واقع أمر القرآن وأمر من أنزل بلسانهم أن فيه كثيرًا من البينات، بل قل بدهية البيان نفسها بالنسبة لكل ذي حظ من معرفة هذا اللسان فضلاً عن أهله الخلص، فلا يسيغ لذي منطق مع هذا أن يقوم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ببيان أمثال هذه الجليات. الوجه الثاني: أننا إذا سلمنا ببقاء ما في القرآن الكريم على العموم الصالح؛ لأن يندرج تحته جميع اللفظ والمعنى، فإننا لابد أن ننظر إلى سياق القول الكريم الذي نزل فيه وحديثه عنه، وذلك أن قوله سبحانه وتعالى: (نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وصلة (مَا)، فيفيد قطعًا أن حديث هذا العموم هو عن المنزل فحسب، لا عما لم ينزل أيضًا. وأقول: عرفنا أن جميع الألفاظ منزل، وأن بعض المعاني منزل عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعضها غير منزل بطبيعة الحال؛ لأن (مَا) لا تدل على العموم هنا. وأما استدلالهم بما روي عن عثمان وابن مسعود وغيرهما من أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عشر آيات من القرآن لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها، فهو استدلال لا ينتج المدعى؛ لأن غاية ما يفيده، أنهم كانوا لا يجاوزون ما تعلموه من القرآن حتى يفهموا المراد منه، وهو أعم من أن يفهموه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو من غيره من إخوانهم، أو من تلقاء أنفسهم حسبما يفتح اللَّه به عليهم من النظر والاجتهاد. وأما استدلالهم بأن الصحابة كانوا يفهمون القرآن ويعرفون معانيه فمردود بأن العادة إنما جرت باستشراح -أي: طلب شرح- ما يشكل فهمه فحسب، فأما الواضح الذي لا يشكل فهمه ولا يشتبه أمره، فإن طلب شرح مثله ضرب من العبث واستنفاد الوقت والجهد في غير طائل، وهذا ما لا يمكن أن يفعله صحابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. أما الأثر الوارد فلا يدل أيضًا لأن وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبين لهم آية الربا لا تدل على

أنه كان يبين لهم كل معاني القرآن، فلعل هذه الآية كانت مما أشكل على الصحابة، فكان لابد من الرجوع فيها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شأن غيرها من مشكلات القرآن. وأما أدلة الفريق الثاني: فاستدلالهم بحديث عائشة استدلال باطل؛ لأن الحديث منكر غريب؛ لأنه من رواية مُحَمَّد بن جعفر الزبيري، وهو مطعون فيه، قال البخاري: لا يتابع في حديثه، وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي: " منكر الحديث "، وقال فيه ابن جرير الطبري: " إنه ممن لا يعرف من أهل الآثار ". وعلى فرض صحة الحديث، فهو محمول -كما قال أبو حيان- على مغيبات القرآن وتفسيره لمجمله، ونحو ذلك مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من اللَّه. وأما استدلالهم بأن بيان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكل معاني القرآن متعذر، فإنه لا يدل على ندرة ما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في التفسير؛ إذ إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مأمور بالبيان، وقد يشكل الكثير على أصحابه فيلزمه البيان، بمقتضى أمر اللَّه له (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). وأما استدلالهم بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لابن عَبَّاسٍ فمردود بأنه لو سلمنا أنه يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر كل معاني القرآن، فلا نسلم أنه يدل على أنه فسر النادر منه كما هو المدعى. وإذا علمنا ضعف استدلالات الفريقين، فإنه من الأحرى الرجوع إلى الصواب الذي استراحت إليه النفس من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يفسر كل القرآن ولكنه في الوقت نفسه ضرب بنصيب وافر فيه مما لا تستغني عنه الأمة في فهم دينها، فقد أجاب على تساؤلات الصحابة فيما أشكل عليهم فهمه من آيات الكتاب الكريم. وخلاصة القول أن المرحلة النبوية كان لها أثرها البارز في نشأة علم التفسير -بالرغم من أنها مرحلة النشأة- وذلك لأن كلا هذين القسمين -تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة- لا شك في أنهما أعلى أنواع التفسير، ولاشك في قبولهما، أما الأول فلأن الله تعالى أعلم بمراد نفسه من غيره، وكتاب اللَّه تعالى أصدق الحديث؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

المرحلة الثانية: التفسير في عهد الصحابة رضوان الله عليهم:

وأما الثاني فلأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانت مهمته التوضيح والبيان (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم. . .)، الآية، فما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من شرح أو بيان بسند صحيح ثابت فإنه مما لا شك فيه أنه حق يجب اعتماده ". المرحلة الثانية: التفسير في عهد الصحابة رضوان اللَّه عليهم: جاء عهد الصحابة، وما من شك في أنهم كانوا يفهمون القرآن جملة، أي: بالنسبة لظاهره وأحكامه، أما فهمه تفصيلاً، ومعرفة دقائق باطنه، بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن، بل لابد لهم من البحث والنظر؛ وذلك لأن القرآن -كما سبقت الإشارة- فيه المجمل، والمشكل، والمتشابه، وغير ذلك مما لابد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها. ولذلك فإن قليلاً من الصحابة من استشرف لمعرفة تفصيلات القرآن ودقائقه من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأقل منهم من رزق الفهم الصحيح بعد البحث والنظر، وليس هذا التفاوت بقادحٍ في أذهان الصحابة وصحة فهمهم للقرآن الكريم عامة؛ إذ إنه راجع إلى اللغة نفسها، وهي من أوسع الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا، ولا يحيط بها غير النبي المعصوم، ولا بأس بغروب ألفاظها على بعض الصحابة ما دام ذلك لا يغرب على عامتهم. وبطبيعة الحال لم يكن الصحابة في درجة وإحدة في فهم اللغة وإدراك أسرارها، وليس بمقدور قوم أن يفهموا كل ما يكتب بلغتهم من العلوم على حد سواء، ومن هنا لم يكن الصحابة في درجة واحدة لفهم معاني القرآن، بل تفاوتت مراتبهم، تبعًا لتفاوتهم في فهم اللغة وإدراك أسرارها، وهذا يرجع إلى تفاوتهم في القوة العقلية، وما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات، وأكثر من هذا أنهم كانوا لا يتساوون في معرفة المعاني التي وضعت لها المفردات، فمن مفردات القرآن ما خفي معناه على بعض الصحابة، ولا ضير في هذا، فإن اللغة لا يحيط بها إلا معصوم، ولم يدع أحد أن كل فرد من أمة يعرف جميع ألفاظ لغتها.

والمواقف الدالة على ذلك كثيرة، منها ما أخرج أبو عبيدة من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: " كنت لا أدري ما فاطر السماوات؟ حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها ". وروى عكرمة عن ابن عَبَّاسٍ قال: " ما كنت أدري ما قوله تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ)، حتى سمعت ابنة ذي يزن الحميري وهي تقول: أفاتحك، تعني أقاضيك ". وأظهر ما يدل على تفاوت فهم الصحابة للنصوص ما روي أن الصحابة فرحوا عند نزول قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)؛ حيث ظنوا أنها إخبار وبشرى بكمال الدِّين، ولكن عمر بكى وقال: ما بعد الكمال إلا النقص؛ مستشعرًا نعي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وروى البخاري عن ابن عَبَّاسٍ قال: " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، وقال: لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)؛ فقَالَ بَعْضُهُمْ: أمرنا أن نحمد اللَّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عَبَّاسٍ؟ فقلت: لا، فقال: وما تقول؟ قلت: هو أجل رسول اللَّه أعلمه اللَّه له، قال: (إِذَا جَاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، فذلك علامة أجلك، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)، فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول ".

كل هذه المواقف وغيرها تدل على تفاوت الصحابة في فهم معاني القرآن الكريم؛ ولذلك قال ابن قتيبة: " إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض ". هذا، وقد بدأ الصحابة شارعين في تفسير القرآن الكريم -على تخوف وتحرج- بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معتمدين في تفسيرهم على القرآن الكريم نفسه، أو على تفسير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض الآيات وتشريعاته الأخرى، أو الاجتهاد والاستنباط، أو أهل الكتاب من اليهود والنصارى أحيانًا، فالصحابة - رضوان اللَّه عليهم - مقتدين برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اعتمدوا القرآن في تفسير القرآن الكريم حتى قال الدكتور الذهبي: " هذا هو تفسير القرآن بالقرآن، وهو ما كان يرجع إليه الصحابة في تعرف بعض معاني القرآن، وليس هذا عملاً آليًّا لا يقوم على شيء من النظر، وإنما هو عمل يقوم على كثير من التدبر والتعقل؛ إذ ليس حمل المجمل على المبين، أو المطلق على المقيد، أو العام على الخاص، أو إحدى القراءتين على الأخرى بالأمر الهين الذي يدخل تحت مقدور كل إنسان، وإنما يعرفه أهل العلم والنظر خاصة ". ثم إنهم لجئوا لتفسير الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لبعض آيات القرآن، فقد " تناقلوا فيما بينهم، تفسير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما فهموه من القرآن وأقرهم عليه، كما هو الشأن في تناقلهم للأحاديث والآثار التي رووها عنه، على ما وردت به وصايا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ". غير أن الصحابة لم يتوقف جهدهم التفسيري عند حد النقل والرواية عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بل لجئوا مع ذلك إلى طريقين جديدين: الأول: الاجتهاد والاستنباط: كان الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - إذا لم يجدوا التفسير في كتاب اللَّه تعالى، ولم يتيسر لهم أخذه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رجعوا إلى اجتهادهم، فأعملوا رأيهم، وكانت أدواتهم في الاجتهاد هي: معرفة أوضاع اللغة وأسرارها، ومعرفة عادات العرب، ومعرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن وقوة الفهم، وسعة الإدراك، ومن ثم

يقول أحد الباحثين: " ولقد أعان بعض الصحابة على فهم القرآن عدة عوامل منها: معرفتهم بعادات العرب وتقاليدهم، ومعرفة طرائق اللغة العربية وأسرارها في التعبير، ثم معرفة أسباب النزول، وما أحاط بالآيات من ظروف وملابسات تعين على فهمها؛ ولهذا قالوا: معرفة سبب نزول الآية يعين على فهمها، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ثم ما يعطاه أحدهم من فهم وسعة إدراك يمكنه من الوصول إلى مراد الآيات ". وقد روى البخاري ما يؤكد ذلك عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب اللَّه؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه اللَّه رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر ". وفي هذا الأثر دليل على إعمال الصحابة رأيهم، واجتهادهم في تفسير القرآن الكريم، والكشف عن غوامضه، لكن ينبغي التأكيد على أن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - كانوا متفاوتين في معرفتهم بالأدوات المشار إليها، وقد ترتب عليه تفاوتهم في فهم معاني القرآن. الثاني: أهل الكتاب من اليهود والنصارى. بدأ الأخذ عن أهل الكتاب منذ عهد الصحابة مع شيء من التقييد والتحديد، ولعل

الذي دفع الصحابة إلى هذا الأخذ، هو ما جاء في القرآن الكريم من قصص مبثوثة في ثناياه عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وبعض هذه القصص جاء مجملاً، فكانت " نفوس الصحابة تتوق إلى معرفة تفاصيل بعض القصص في القرآن والذي لم يسأل النبي فيه، فكانوا لا يتحرجون في سؤال أهل الكتاب، من جيرانهم فيما يتعلق بهذه التفاصيل التي لا تتعلق بحكم أو تشريع، وإنَّمَا هي تشبع حالة الفضول الإنساني إلى المزيد من المعرفة "؛ مستندين في ذلك إلى حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذي يقول فيه: " بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ". ولقد حدد ابن كثير المراد من هذا الحديث، فقال: " هو محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا يكذبها، فيجوز روايتها للاعتبار، فأما ما شهد له شرعنا بالصدق فلا حاجة بنا إليه؛ استغناء بما عندنا، وما شهد له شرعنا

بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته إلا على سبيل الإنكار والإبطال ". وهذا الذي قاله ابن كثير اتبعه الصحابة، فدققوا في الأخذ عن أهل الكتاب، وكان أخذهم في أضيق الحدود، وما أشيع عنهم من توسعهم في الأخذ عن أهل الكتاب قد يكون مرجعه إلى أنه قد وضع عليهم الكثير، ودس عليهم من أقوال أهل الكتاب الكثير من الروايات التي لم يعتمدوها، فأوهم ذلك المتأخرين توسع الصحابة في الأخذ عنهم. وتأكيدًا لهذا يقول الدكتور الذهبي: " رجوع بعض الصحابة إلى أهل الكتاب، لم يكن له من الأهمية في التفسير ما للمصادر الثلاثة السابقة، وإنما كان مصدرًا ضيقًا محدودًا؛ وذلك أن التوراة والإنجيل وقع فيهما كثير من التحريف والتبديل، وكان طبيعيًّا أن يحافظ الصحابة على عقيدتهم، ويصونوا القرآن عن أن يخضع في فهم معانيه لشيء مما جاء ذكره في هذه الكتب التي لعبت فيها أيدي المحرفين، فكانوا لا يأخذون عن أهل الكتاب إلا ما يتفق وعقيدتهم ولا يتعارض مع القرآن ". إن ورع الصحابة وصدق إيمانهم جعلهم يسلكون في الأخذ عن أهل الكتاب مسلكًا آمنًا، متمثلين وصية رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا باللَّه وما أنزل إلينا "، هذا فيما يتعلق بالغيبيات أو الأخبار التاريخية المفصلة في الكتب السابقة. أما فيما يتعلق بالعقيدة أو الأحكام الشرعية، أو ما لا يكون لمعرفة تفاصيله والوقوف على حقيقته فائدة تذكر، فقد كانوا يعدون ذلك قبيحًا من قبيل تضييع الأوقات. كما كانوا يردون على أهل الكتاب مقالاتهم المخالفة للشريعة، ونختار للاستشهاد على ذلك موقف الصحابي الجليل أبي هريرة في مراجعته ومحاورته لهذين الكتابيين -كعب الأحبار وعبد اللَّه بن سلام- حول ساعة يوم الجمعة التي عناها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوله: " فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل اللَّه تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه وأشار

بيده يقللها "، فقد اختلف السلف في تعيين هذه الساعة، وهل هي باقية أو رفعت؟ وإذا كانت باقية، فهل هي في جمعة واحدة من السنة أو في كل جمعة منها؟ فنجد أن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسأل كعب الأحبار عن ذلك، فيجيبه كعب بأنها في جمعة واحدة من السنة، فيرد عليه أبو هريرة قوله هذا، ويبين له أنها في كل جمعة، فيرجع كعب إلى التوراة فيرى الصواب مع أبي هريرة، فيرجع إليه. ثم يتوجه أبو هريرة إلى عبد اللَّه بن سلام يسأله تحديد هذه الساعة، ويقول له: أخبرني ولا تضن علي، فيجيبه ابن سلام بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة، فيرد عليه أبو هريرة بقوله: كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة، وقد قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي "، وتلك الساعة لا يصلي فيها؟ ولذا كان تعليق كعب الأحبار على مثل هذه الأسئلة والمحاورات: " ما رأيت رجلاً لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة ". ويدل هذا الموقف من أبي هريرة على تيقظ الصحابة لهذه الأفكار الدخيلة التي بدأت تتسرب إلى دينهم، ومقاومتهم لها في هذا الوقت المبكر. المفسرون من الصحابة: اشتهر عدد غير قليل من الصحابة المفسرين، عد السيوطي - رحمه اللَّه - منهم: الخلفاء الراشدين، وابن مسعود، وابن عَبَّاسٍ، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبا موسى الأشعري، وعبد اللَّه بن الزبير، رضي اللَّه عنهم أجمعين. وهناك من تكلم في التفسير غير هَؤُلَاءِ: كأنس بن مالك، وأبي هريرة، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعائشة، غير أن ما نقل عنهم في التفسير قليل جدَّا، فلم يكن لهم

شهرة ما كان للعشرة المذكورين أولًا، وحتى هَؤُلَاءِ العشرة تفاوتوا فيما بينهم قلة وكثرة، فأبو بكر وعمر وعثمان لم يرد عنهم في التفسير إلا النزر اليسير؛ نظرًا لاشتغالهم بمهام الخلافة وتقدم وفاتهم. وعلى هذا يمكن القول: إن أبرز مفسري الصحابة هم: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب؛ نظرًا لكثرة الرواية عنهم في التفسير كثرة غذت مدارس التفسير في الأمصار المختلفة فيما بعد على اختلافها وكثرتها. * * *

أشهر المفسرين من الصحابة ودورهم في التفسير

أشهر المفسرين من الصحابة ودورهم في التفسير 1 - عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي أبو حفص المدني، أحد فقهاء الصحابة، وثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأول من سمي أمير المؤمنين، شهد بدرًا، والمشاهد إلا تبوك، وولي أمر الأمة بعد أبي بكر - رضي الله عنهما - وفتح في أيامه عدة أمصار، أسلم بعد أربعين رجلاً، وعن ابن عمر مرفوعًا: " إن اللَّه جعل الحق على لسان عمر وقلبه "، ولما دفن قال ابن مسعود: " ذهب اليوم تسعة أعشار العلم "، استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين، ودفن في أول سنة أربع وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه صهيب، ودفن في الحجرة النبوية، ومناقبه جمة. ب - دوره في التفسير: لقد تهيب عمر بن الخطاب -كما تهيب أبو بكر قبله- القول في كتاب اللَّه، والأمثلة على ذلك كثيرة، من ذلك ما يرويه الشعبي قال: " سئل أبو بكر عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأي، فإن كان صوابًا فمن اللَّه، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد ". يقول الشعبي: " فلما استخلف عمر، قال: إني لأستحيي من اللَّه أن أرد شيئًا قاله أبو بكر، ثم يتردد عمر فيرجع آخر عهده عن هذا القول، ويذهب إلى أن الكلالة من لا ولد له، ويقول: وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي فيها من يقرأ القرآن ومن لا يقرؤه، ثم يقول: ثلاث لأن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بينهن لنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها: الكلالة، وأبواب الربا، والخلافة ".

فهذا الموقف يكشف -أولاً- عن تهيب عمر بن الخطاب مقتديًا بأبي بكر من القول في كتاب اللَّه، ويكشف -ثانيا- عن أنه برغم التهيب فإن عمر أدلى بدلوه في التفسير، وذلك حين تكون هناك مصالح عملية وواقعية تتوقف على مدلول العبارة. ولكي يصل إلى جواب قاطع للمسألة، كان أحيانًا يلجأ إلى طرح المسألة على الناس، مثلما فعل في مسألة تحديد ليلة القدر، فقد روى أبو نعيم عن مُحَمَّد بن كعب القرظي عن ابن عَبَّاسٍ أن عمر ابن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلس في رهط من الصحابة فذكروا ليلة القدر، فتكلم كل بما عنده، فقال عمر: مالك يا ابن عَبَّاسٍ لا تتكلم؟ تكلم ولا تمنعك الحداثة، قال ابن عَبَّاسٍ: فقلت: يا أمير المؤمنين إن اللَّه وتر يحب الوتر، فجعل الدنيا تدور على سبع، وخلق أرزاقنا من سبع، وخلق فوقنا وتحتنا سبعًا، فأراها في السبع الأواخر من رمضان، فتعجب عمر، وقال: ما وافقني فيها أحد إلا هذا الغلام الذي لم تستو شئون رأسه. والحق أن عمر بن الخطاب في تفسيره للقرآن كان يسلك مسلكًا واقعيًّا عمليًّا، بمعنى أنه إذا كانت هناك مصلحة عملية تتوقف على تحديد مدلول اللفظ، فإن التفسير في هذه الحالة يصبح بحثًا ملحًّا وأمرًا ضروريًّا، وأما إن لم تكن هناك مصلحة عملية فلا بأس عنده ألا يدري مدلول اللفظ؛ ولذلك نجده فيما يروي عنه حين كان يقرأ قوله تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)، فقال: الفاكهة والقضب، وهذه الأشياء عرفناها، فما الأبُّ؟ فوضع يده على رأسه ثم قال: " إن هذا لهو التكلف يا ابن الخطاب، وما عليك ألا تدري ما الأبُّ؟ ". ومن كل ما سبق يتكشف لنا أن دور عمر بن الخطاب في التفسير كان دورًا محدودًا، لكنه لبنة في تطور التفسير لا يمكن إهمالها وتركها دون الإفادة منها. 2 - علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي أبو الحسن ابن عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وختنه على ابنته، أمير المؤمنين، يكنى: أبا تراب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أول هاشمية ولدت هاشميًّا، له خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثًا، اتفق البخاري

ومسلم على عشرين منها وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، شهد بدرًا والمشاهد كلها، روى عنه أولاده الحسن والحسين ومُحَمَّد، وفاطمة، وعمر، وابن عباس، والأحنف، وأمم. قال أبو جعفر: كان شديد الأدمة ربعة إلى القصر، وهو أول من أسلم من الصبيان جمعًا بين الأقوال، قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى "، وفضائله كثيرة، استشهد ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت أو خلت من رمضان سنة أربعين، وهو حينئذ أفضل من على وجه الأرض. ب - دوره في التفسير: الرواية عن علي بن أبي طالب كثيرة، وذلك راجع إلى أمور، أبرزها: الأول: تأخرت وفاته عن الخلفاء السابقين، فقد كانت وفاته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عام 40 من هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. الثاني: وجد في زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى التفسير؛ وذلك لاتساع رقعة الإسلام، ودخول الأعاجم فيه حتى كادت تذوب بهم خصائص العروبة، ونشأ جيل من أبناء الصحابة كان في حاجة إلى علم الصحابة. الثالث: فهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - العميق للقرآن، وخصوبة فكره، وغزارة علمه، فكان أهلاً لأن يحمل عنه، ويدل على هذا ما روى معمر عن وهب بن عبد اللَّه عن أبي الطفيل قال: شهدت عليًّا يخطب وهو يقول: " سلوني، فواللَّه لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم. وسلوني عن كتاب اللَّه، فواللَّه ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار؟ أفي سهل أم في جبل؟ ".

وما روي عن ابن مسعود قال: " إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده من الظاهر والباطن ". والآثار الكثيرة المروية عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تدل دلالة واضحة على فضله ومنرلته في التفسير، ومدى الدور الذي اضطلع به في هذا الشأن. كما أنه يعتبر أول من وضع بفكره الثاقب، ونظره الصادق في القرآن الكريم - اللبنة الأولى في منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم الذي ما زال -حتى عصرنا هذا- يتحسس طريقه، ويخطو خطواته الأولى عليه، فقد كان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجمع الآيات في الموضوع الواحد ليستخلص منها جميعًا حكمًا صادقًا يفسر فيه القرآن بعضه بعضًا. يدل على هذا ما رواه ابن حزم من أن عليًّا ذكر عثمان حين أراد إقامة حد الزنى على من وضعت بعد زواجها بستة أشهر بقول اللَّه تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) مع قوله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)، فرجع عثمان عن إقامة الحد عليها ". " أي أن عثمان حكم العادة الجارية من أنه لا تلد المرأة لأقل من سبعة أشهر، فاعتبر ولادتها قبل ذلك قرينة لإقامة الحد عليها، لكن عليًّا يستدرك عليه ويتدارك الأمر، حيث حكم القاعدة التي تدرأ الحدود بالشبهات، وفهم من الآيتين السابقتين مجتمعتين أن مدة الحمل يمكن أن تكون ستة أشهر، واعتبر ذلك شبهة تحول دون القطع بوقوع الزنى، ومن ثم فلا يقع الحد ". يتبين من خلال ما سبق البصمة الواضحة للإمام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في التفسير، وإسهامه الواضح في تطوره.

3 - عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ (ترجمان القرآن) حبر الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير، أبو العباس عبد اللَّه، ابن عم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - العباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي الهاشمي المكي الأمير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. مولده بشعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين. صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نحوًا من ثلاثين شهرًا، وحدث عنه بجملة صالحة. وحدث عن عمر، وعلي، ومعاذ، ووالده، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سفيان صخر بن حرب، وأبي ذر، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت وخلق. وقرأ على أبي، وزيد. قرأ عليه مجاهد، وسعيد بن جبير، وطائفة. روى عنه: ابنه علي، وابن أخيه عبد اللَّه بن معبد، ومواليه: عكرمة، ومقسم، وكريب، وأبو معبد، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل، وخلق كثير. وله جماعة أولاد، أكبرهم العباس، وبه كان يكنى، وعلى أبو الخلفاء، وهو أصغرهم، والفضل ومُحَمَّد، وعبيد اللَّه، ولبابة، وأسماء. وكان وسيمًا، جميلاً، مديد القامة، مهيبًا، كامل العقل، ذكي النفس، من رجال الكمال. وأولاده: الفضل، ومُحَمَّد، وعبيد اللَّه، ماتوا ولا عقب لهم، ولبابة لها أولاد وعقب من زوجها علي بن عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب، وبنته الأخرى أسماء كانت عند ابن عمها عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن العباس، فولدت له حسنًا، وحسينًا. انتقل ابن عَبَّاسٍ مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، فإنه صح عنه أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين: أنا من الولدان، وأمي من النساء. وعن طاوس قال: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عَبَّاسٍ. وقال مجاهد: ما رأيت أحدًا قط مثل ابن عَبَّاسٍ، لقد مات يوم مات وإنه لحبر هذه الأمة. وروى الأعمش، عن مجاهد، قال: كان ابن عَبَّاسٍ يسمى البحر؛ لكثرة علمه. وعن مجاهد قال: ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عَبَّاسٍ إلا أن يقول قائل: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وعن طاوس، قال: أدركت نحوًا من خمسمائة من الصحابة، إذا ذاكروا ابن عَبَّاسٍ، فخالفوه، فلم يزل يقررهم حتى ينتهوا إلى قوله.

قال يزيد بن الأصم: خرج معاوية حاجًّا معه ابن عَبَّاسٍ، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس موكب ممن يطلب العلم. الأعمش: حدثنا أبو وائل قال: خطبنا ابن عَبَّاسٍ، وهو أمير على الموسم، فافتتح سُورَةَ النور، فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا، لو سمعته فارس، والروم، والترك لأسلمت. قال علي بن المديني: توفي ابن عَبَّاسٍ سنة ثمان أو سبع وستين. وقال الواقدي، والهيثم، وأبو نعيم: سنة ثمان، وقيل: عاش إحدى وسبعين سنة. ب - دوره في التفسير: فاز عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - بدعوة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم فقهه في الدِّين وعلمه التأويل "، فكان له القدح المعلى بين صحابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تفسير القرآن، حتى أنه يوجد له تفسير يتداوله الناس يسمى تفسير ابن عَبَّاسٍ. وقد كان ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أكثر جرأة في الاجتهاد، فيروي عن ابن عمر أن رجلا أتاه يسأله عن (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)، فقال: اذهب إلى ابن عَبَّاسٍ فاسأله، ثم تعال فأخبرني، فذهب فسأله، فقال: " كانت السماوات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات " فرجع إلى ابن عمر فأخبره فقال: " قد كنت أقول: ما يعجبني جراءة ابن عَبَّاسٍ على تفسير القرآن، فالآن علمت أنه أوتي علمًا ". وابن عَبَّاسٍ يقف على رأس من يرون أن كلام العرب يوضح ما غمض من ألفاظ القرآن الكريم، وأن الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن رجعنا إلى ديوانها، ومساءلات نافع بن الأزرق التي أربت على المائتين تدل على ذلك. ومن ثم يمكن القول -وللأمانة العلمية-: إن المنهج اللغوي في تفسير القرآن من صنع ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - فهو الذي أرسى دعائمه، معتمدًا في ذلك على البذور التي بذرها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وخلفاؤه الراشدون، وبخاصة عمر.

وكان ابن عَبَّاسٍ يبين في تفسيره الكلمات المعربة عن لغات أخرى غير العربية، مما يؤكد رئاسته للمنهج اللغوي، حتى قيل عنه: " إنه هو الذي أبدع الطريقة اللغوية لتفسير القرآن الكريم ". وإذا كان ابن عَبَّاسٍ قد اهتم بالتفسير اللغوي. فإنه -أيضا- ركز على عنصر الأخبار في تفسيره، وبخاصة الأخبار التي لم ترد في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكان يرجع إلى التاريخ العام، وأخبار الأمم، وبخاصة أهل الكتاب، فكان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرجع إليهم ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أجملت في

القرآن وفصلت فيهما. إن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - بما أوتي من علم بكتاب اللَّه أسهم إسهامًا كبيرًا في نشأة علم التفسير وتطوره، بل إنه ليعد من أكبر مفسري القرآن الكريم في عصور الإسلام المختلفة، فقد كانت له مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عنه، استقرت في مكة، ثم غذت بعلمها الأمصار المختلفة، وما زال تفسير ابن عَبَّاسٍ يَلْقَى من المسلمين إعجابًا وتقديرًا، إلى درجة أنه إذا صح النقل عنه لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر، وقد صرح الزركشي بأن قول ابن عَبَّاسٍ مقدم على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء في التفسير. 4 - عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عبد اللَّه بن مسعود بن غافل -بمعجمة ثم فاء مكسورة بعد الألف- ابن حبيب بن شمخ -بفتح المعجمة الأولى وسكون الميم- ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل الهذلي، أبو عبد الرحمن الكوفي، أحد السابقين الأولين، شهد بدرا والمشاهد، وروى ثمانمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا، اتفق البخاري ومسلم على أربعة وستين منها وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين، وروى عنه خلق من الصحابة، ومن التابعين: كمسروق والأسود وقيس بن أبي حازم والكبار، تلقن من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سبعين سورة. قال علقمة: كان يشبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في هديه ودله وسمته. وقال أبو نعيم: مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة. ب - دوره في التفسير: كان عبد اللَّه بن مسعود خادم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكان له من هذه الصلة النبوية خير مثقف

ومؤدب؛ لذلك عدوه من أعلم الصحابة بكتاب اللَّه، ومعرفة محكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه، حتى قيل عنه: إنه في التفسير أكثر رواية من علي كرم اللَّه وجهه. وقد أخرج ابن جرير وغيره عنه أنه قال: " واللَّه الذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب اللَّه إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب اللَّه مني تناله المطايا لأتيته ". وهذا يدل على إحاطة ابن مسعود بمعاني كتاب اللَّه، وأسباب نزول الآيات، وحرصه على تعرف ما عند غيره من العلم بكتاب اللَّه تعالى. وقد قام تفسير ابن مسعود على الرأي والاجتهاد والاستنباط؛ لمواءمة البيئة العراقية المتأثرة بثقافة الفرس، فوضع بذلك الأساس لهذه الطريقة في الاستدلال والثي توارثها أهل العراق في التفسير والفقه. ويتميز ابن مسعود عن غيره في مجال تفسير القرآن بأنه اعتمد بعض القراءات التي تختلف عن القراءات المتواترة في المصاحف العثمانية، وقد تكون هذه القراءات من الروايات التفسيرية التي وردت على لسانه، وظنها تلامذته من القراءات، كما يمكن أن يقال -أيضًا-: إنها بهذا الاعتبار كانت بداية لنشوء علم تفسير القرآن. 5 - أبي بن كعب أبي بن كعب بن قيس بن عبيدة بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو المنذر المدني، سيد القراء، كتب الوحي وشهد بدرا وما بعدها، له مائة وأربعة وستون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بسبعة، ورُويَ عنه: ابن عَبَّاسٍ وأنس وسهل بن سعد وسويد بن علقمة ومسروق وخلق كثير، وكان ربعة نحيفًا أبيض الرأس واللحية، وقد أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرأ عليه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان ممن جمع القرآن وله مناقب جمة رحمه اللَّه تعالى، وتوفي سنة عشرين أو اثنتين وعشرين أو ثلاثين أو ثلاث وثلاثين، وقَالَ بَعْضُهُمْ: صلى عليه عثمان، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ب - دوره في نشأة التفسير: أبي بن كعب هو ثالث ثلاثة بعد ابن عَبَّاسٍ وابن مسعود كثرت عنهم الرواية، وكان مقدمًا في القراءة؛ لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيه: " وأقرؤكم أبي بن كعب ". وقد عد أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من العلماء المكثرين في التفسير، وربما مكنه من ذلك معرفته بمعاني كتب اللَّه القديمة؛ إذ كان من العارفين بأسرار هذه الكتب وكونه من كتاب الوحي لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهذا بالضرورة يجعله على مبلغ عظيم من العلم بأسباب النزول ومواضعه، ومقدم القرآن ومؤخره، وناسخه ومنسوخه، ثم لا يعقل بعد ذلك أن تمر عليه آية من القرآن الكريم يشكل معناها دون أن يسأل عنها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ولقد اتبع أبي في تفسيره منهجًا يتحرى الحيطة والحذر؛ إذ كان يتوقف عند ما ورد في الآيات عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مستعينًا بمعرفته مواضع النزول، وأوقاته وأسبابه، وأحوال من نزل فيهم، بالإضافة إلى خبرته بالكتب القديمة ومعرفة أسرارها، ووقوفه على ما ورد فيها من جهة، وقراءته القرآن على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وإقراء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - له بعضًا منه تعليمًا وإرشادًا من جهة أخرى، فإذا لم يجد فيما ورد عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شيئًا، أو لم تعنه وسائله التفسيرية السابقة، فإن صنيعه يتوجه إلى بيان الدلالات اللغوية للألفاظ القرآنية؛ إذ كانت الثقافة اللغوية هي زاد القوم الذي يستمدون منه ما يعينهم على ذلك. لقد استطاع أُبي بما أوتي من علم وموهبة تفسيرية أن يجتذب تلاميذ كثيرين، أثر فيهم بمنهجه الشامل، مما أدى إلى نشأة المدرسة المدنية في التفسير والفقه. ملاحظات حول تفسير الصحابة: نستطيع الآن أن نورد مجموعة من الملاحظات على تفسير الصحابة تبرز لنا بشكل أكثر

وضوحًا الدور الذي قاموا به، وهي كالآتي: أولاً: اتخذت تفسيرات الصحابة جميعهم شكل الحديث من حيث الرواية والتلقي. ثانيًا: الصحابة لم يفسروا القرآن الكريم كله، وإنما تناولوا بالتفسير ما كانوا يسألون عنه، أو ما يبدو غريبًا في أذهان بعضهم. ثالثًا: تفسيراتهم لم تكن تخرج عن تفسير اللفظ بما يوضحه، والاستشهاد له من اللغة، وما يمكن أن يروى حوله من تفسير للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو مناسبة النزول. رابعًا: لم يكن بين تفسيراتهم اختلافات كبيرة؛ نظرًا لقربهم من عهد النبوة، كما أنهم لم تتوزعهم الأهواء، وما كان بينهم من اختلافات فهي للتنوع وليس للتضاد. ومع كل هذا، فقد كان الصحابة الأجلاء، وبخاصة ابن عَبَّاسٍ وابن مسعود وأُبي بن كعب - رضوان اللَّه عليهم - هم أول من أسس علم التفسير بعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما قدموه من إسهامات فتحت الطريق أمام التابعين من بعدهم ومن تلاهم إلى يوم الناس هذا. * * *

المرحلة الثالثة: التفسير في عصر التابعين

المرحلة الثالثة: التفسير في عصر التابعين جاء عصر التابعين، فوجدوا بين أيديهم ميراثًا ضخمًا من التفسير، لكنه ليس شاملاً لكتاب اللَّه تعالى كله، بل هو تفسير لبعض الآيات، كما أنه لم تكن هناك مصنفات كاملة فيه، حيث إنه لم يدون في عهد الصحابة، لقرب العهد برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولقلة الاختلاف، وللتمكن من الرجوع إلى الثقات. ثم لما انقضى عصر الصحابة أو كاد، وصار الأمر إلى تابعيهم، انتشر الإسلام، واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار، وحدثت الفتن، واختلفت الآراء، وكثرت الفتاوى والرجوع إلى الكبراء، فأخذوا في تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن. ومعنى هذا أن حركة واسعة لتدوين علوم الإسلام قد بدأت مع عصر التابعين، في أواخر القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني، وقد نال التفسير قسطًا وافرًا من اهتمام التابعين، سواء فيما يتعلق بتدوينه أو تطويره والبلوغ به درجات لم يبلغها من قبل. ونريد في عجالة أن نستجلي أهم ما قام به التابعون في مجال تفسير القرآن الكريم، ولتحقيق ذلك نقف أمام النقاط الآتية: أولًا: مصادر التابعين في تفسير القرآن الكريم: اتبع علماء التابعين سنن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصحابته الكرام، فصدروا عن طريقتهم في التفسير، فجاءت مصادرهم في التفسير هي المصادر الثلاثة السابقة: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بما عند أهل الكتاب مما جاء في كتبهم، ولكنهم زادوا مصادر أخرى: ففسروا القرآن بما رووه عن صحابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم توسعوا في الاجتهاد وتفسير القرآن بالرأي عما كان عليه في عهد الصحابة. يقول الدكتور الذهبي: اعتمد هَؤُلَاءِ المفسرون في فهمهم لكتاب اللَّه تعالى على ما جاء في الكتاب نفسه، وعلى ما رووه عن الصحابة من تفسيرهم أنفسهم، وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء في كتبهم، وعلى ما يفتح اللَّه به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب اللَّه تعالى. وقد روت لنا كتب التفسير كثيرًا من أقوال هَؤُلَاءِ التابعين في التفسير، قالوها بطريق

الرأي والاجتهاد، ولم يصل إلى علمهم شيء فيها عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أحد من الصحابة. ثانيًا: دور التابعين في تفسير القرآن الكريم: بعدت الشقة بين عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعصر التابعين، وتزايد الغموض في فهم القرآن الكريم، واحتاج الناس إلى التفسير وقد اضطلع التابعون في هذه المرحلة بدور بارز. يقول الدكتور الذهبي: تزايد هذا الغموض -على تدرج- كلما بعد الناس عن عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والصحابة، فاحتاج المشتغلون بالتفسير من التابعين إلى أن يكملوا بعض هذا النقص، فزادوا في التفسير بمقدار ما زاد من غموض، ثم جاء من بعدهم فأتموا تفسير القرآن تباعًا، معتمدين على ما عرفوه من لغة العرب ومناحيهم في القول، وعلى ما صح لديهم من الأحداث التي حدثت في عصر نزول القرآن، وغير هذا من أدوات الفهم ووسائل البحث. وبرز في عصر التابعين علماء كثيرون، كانوا قد تتلمذوا على أيدي صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سوف نتعرض لأبرزهم في الفصل الثاني من هذه الدراسة عند الحديث عن المدارس التفسيرية. ثالثا: يمتاز التفسير في عصر التابعين بما يلي: أولًا: غالب أقوالهم في التفسير تلقوها عن الصحابة، وبعض منها رجعوا فيه إلى أهل الكتاب، وما وراء ذلك فمحض اجتهاد لهم. ثالثًا: دخل في التفسير كثير من الإسرائيليات والنصرانيات؛ وذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام، وكان لا يزال عالقًا بأذهانهم من الأخبار ما لا يتصل بالأحكام الشرعية: كأخبار بدء الخليقة، وأسرار الوجود، وبدء الكائنات وكثير من القصص، وكانت النفوس ميالة لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فتساهل التابعون فزجوا في التفسير بكثير من الإسرائيليات والنصرانيات بدون تحر ونقد، وأكثر من روي عنه في ذلك من مسلمي أهل الكتاب: عبد اللَّه بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ولا شك أن الرجوع إلى هذه الإسرائيليات في التفسير أمر مأخوذ على التابعين كما هو مأخوذ على من جاء

بعدهم. وترتب على دخول الإسرائيليات والنصرانيات أن غص التفسير بكثير من الأباطيل، والخرافات، وممن ساعد على رواج هذه الأباطيل القصاص والوعاظ بالمساجد، ولم يسلم من نسبتها إليهم أئمة ورعون كالحسن البصري بالكوفة، ومُحَمَّد بن كعب القرظي بالمدينة. ثالثًا: تعتبر هذه المرحلة من أخطر مراحل التفسير؛ إذ وضعت فيها بذور المذاهب الإسلامية، من نزوع العقل إلى فهم الآيات وتفسيرها، إلى تصرف في اللغة وإيغال في التأويل، وقد وجدنا هذا في مدرستي مكة والمدينة، بالقدر الذي وجد في مدارس الكوفة والعراق ومصر بعامة، وإن اختلف الأساس الذي بُني عليه هذا الفهم في كل مدرسة على حدة. رابعًا: يعتبر التابعون هم المؤسسون الرئيسون للمدارس التفسيرية التي وجدت بذور نشأتها في عهد الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - فقد تبلورت المدارس التفسيرية وبرزت وتحددت في عصر التابعين والعصور التالية. خامسًا: ظهرت في هذا العصر نواة الخلاف المذهبي، فظهرت بعض تفسيرات تحمل في طياتها هذه المذاهب، فنجد مثلا قتادة بن دعامة السدوسي ينسب إلى الخوض في القضاء والقدر ويتهم بأنه قدري، ولا شك أن هذا أثر على تفسيره، ولهذا كان يتحرج بعض الناس من الرواية عنه، ونجد الحسن البصري يفسر القرآن على إثبات القدر، ويكفر من يكذب به. سادسًا: شهدت هذه المرحلة محاولات فردية في تدوين التفسير، وإن ظل محتفظًا بطابعه في عهد الصحابة من الرواية والتلقي الشفهي مثل الحديث، إلا أنه لم يكن تلقيا ورواية بالمعنى الشامل كما هو الشأن في عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، بل كان تلقيا ورواية يغلب عليهما طابع الاختصاص، فأهل كل مصر يعنون -بوجه خاص- بالتلقي والرواية عن إمام مصرهم، فالمكيون عن ابن عَبَّاسٍ، والمدنيون عن أبي، والعراقيون عن ابن

مسعود. . . وهكذا. وعمومًا، فإن التفسير في عهد التابعين تطور عما كان عليه في عصر الصحابة، مما أسهم في بلورته في المرحلة التالية. المرحلة الرابعة: التفسير في عصور التدوين: وهذه المرحلة تبدأ مع ظهور تدوين العلوم في أواخر عصر بني أمية وبداية عصر العباسيين، وفي هذه المرحلة خطا التفسيير خطوات أخرى، نستطيع بلورتها فيما يلي: الخطوة الأولى: أنه مع ابتداء التدوين لحديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانت أبوابه متنوعة، وكان التفسير بابًا من هذه الأبواب التي اشتمل عليها الحديث، فلم يفرد له تأليف خاص يفسر القرآن سورة سورة، وآية آية، من مبدئه إلى منتهاه، بل وجد من العلماء من طوف في الأمصار المختلفة ليجمع الحديث، فجمع بجوار دلك ما روي في الأمصار من تفسير منسوب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو إلى أصحابه أو التابعين، ومن هَؤُلَاءِ: يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة 117 هجرية، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هجرية، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197 هجرية، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 هجرية، وروح بن عبادة البصري المتوفى سنة 255 هجرية، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة 211 هجرية، وآدم بن إياس المتوفى سنة 225 هجرية، وعبد بن حميد المتوفى سنة 249 هجرية، وغيرهم. . . وهَؤُلَاءِ جميعًا كانوا من أئمة الحديث، فكان جمعهم للتفسير جمعًا لباب من أبواب الحديث، ولم يكن جمعًا للتفسير على استقلال وانفراد، وجميع ما نقله هَؤُلَاءِ الأعلام عن أسلافهم من أئمة التفسير نقلوه مُسْنَدًا إليهم، غير أن هذه التفاسير لم يصل إلينا شيء منها؛ ولذا لا نستطيع أن نحكم عليها. الخطوة الثانية: انفصل بها التفسير عن الحديث، فأصبح علمًا قائمًا بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورتب ذلك على حسب ترتيب المصحف، وتم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجه المتوفى سنة 273 هـ، وابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ، وأبو بكر بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة 318 هـ، وابن أبي حاتم المتوفى سنة 327 هـ، وأبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة 369 هـ، والحاكم المتوفى سنة 405 هـ، وأبو بكر بن مردويه المتوفى سنة 410 هـ، وغيرهم من أئمة هذا الشأن.

وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وإلى الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، وليس فيها شيء من التفسير أكثر من التفسير المأثور، اللهم إلا ابن جرير الطبري فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها، ورجح بعضها على بعض؛ وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة، واستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية. وتجدر الإشارة إلى أن التفسير إذا كان قد انفصل عن الحديث، فإنه ليس معنى ذلك أن هذه الخطوة محت ما قبلها وألغت العمل به، بل معناه أن التفسير تدرج في خطواته، فبعد أن كانت الخطوة الأولى للتفسير هي النقل عن طريق التلقي والرواية، كانت الخطوة الثانية له هي تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث، ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة، وهي تدوينه على استقلال وانفراد، فكل هذه الخطوات، تم إسلام بعضها إلى بعض، بل وظل المحدثون بعد هذه الخطوة الثالئة، يسيرون على نمط الخطوة الثانية، من رواية المنقول من التفسير في باب خاص من أبواب الحديث، مقتصرين في ذلك على ما ورد عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو عن الصحابة أو عن التابعين. الخطوة الثالثة: تجاوز التفسير حدود التفسير بالمأثور، بعد ما كان مقصورًا على ذلك، فصنف في التفسير خلق كثير، اختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسرين من أسلافهم دون أن ينسبوها لقائليها، فدخل الوضع في التفسير والتبس الصحيح بالعليل، وأصبح الناظر في هذه الكتب يظن أن كل ما فيها صحيح، فنقله كثير من المتأخرين في تفاسيرهم، ونقلوا ما جاء في هذه الكتب من إسرائيليات على أنها حقائق ثابتة، وكان ذلك هو مبدأ ظهور خطر الوضع والإسرائيليات في التفسير. الخطوة الرابعة: وهي خطوة أوسع من سابقتها، امتدت من العصر العباسي إلى يومنا هذا، فبعد أن كان تدوين التفسير مقصورًا على رواية ما نقل عن سلف الأمة تجاوز بهذه الخطوة الواسعة إلى تدوين تفسير اختلط فيه الفهم العقلي بالتفسير النقلي، وتدرج ذلك تدرجًا واضحًا، فبدأ أولاً التفسير العقلي على هيئة محاولات فهم شخصي، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، وكان هذا أمرًا مقبولاً ما دام يرجع الجانب العقلي منه إلى حدود اللغة ودلالة الكلمات القرآنية، ثم ظلت محاولات هذا الفهم الشخصي تزداد وتتضخم، متأثرة بالمعارف المختلفة والعلوم المتنوعة والآراء المتشعبة والعقائد المتباينة،

حتى وجد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة، لا تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بعد عظيم. ثم إن ما ظهر من مذاهب واتجاهات، وما دون من علوم، وما ترجم منها، أدى إلى اختلاط التفسير بغيره من العلوم، وتلونه بالمذاهب المختلفة، فكل فسر القرآن الكريم حسب ما يتمشى مع فكره ومذهبه، ويساير اتجاهه. غير أنه يجب التنبيه إلى أن التفسير العقلي لم يطغ على التفسير بالمأثور الطغيان الذي يجعله في عداد ما درس وذهب، فقد وجدد من العلماء من استطاع في كل العصور مقاومة طغيان التفسير العقلي، ففسر القرآن الكريم تفسيرًا نقليًا بحتًا، أو فسره تفسيرًا نقليًا مختلطًا بالتفسير العقلي. وتجدر الإشارة إلى أن هناك من العلماء من اهتم بموضوعات معينة في القرآن الكريم، فابن القيم مثلاً أفرد كتابًا سماه " التبيان في أقسام القرآن "، وأبو عبيدة أفرد كتابا سماه " مجاز الفرآن "، وألف بعضهم في الناسخ والمنسوخ، وبعضهم في أسباب النزول، وبعضهم في أحكام القرآن، وبعضهم في إعراب القرآن. * * *

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم في زماننا بدأ يظهر ما يعرف بالتفسير الموضوعي، وهو يعني أمرين: الأول: أنه يعني الوحدة الموضوعية، أي: أن بناء السورة الكريمة من سور القرآن الكريم يتناول في معظمه موضوعًا واحدًا، تقوم السورة الكريمة على بيانه والإلحاح عليه من أولها إلى آخرها، وقد يتخلل ذلك موضوعات أخرى أو إشارات إلى موضوعات أخرى، ولكن يبقى الخيط العام في السورة وموضوعها واضحًا، ونادرا ما تقتصر سورة من سور القرآن على موضوع واحد، وذلك من مميزات أسلوبه الفريد وإعجازه الواضح، ومع هذا يبقى الموضوع الكبير وتفاصيله واضحًا في بناء السورة الكريمة، صغيرة كانت أو كبيرة. يمثل ذلك سورة يوسف فإن موضوعها قصة يوسف - عليه السلام - منذ ولادته والرؤيا التي رآها إلى وفاته (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101). ومع أن قصة يوسف هي موضوع السورة الأكبر، وأن وحدة الموضوع وعناصره بادية في السورة من أولها إلى آخرها إلا أن الأسلوب القرآني المعجز يدخل في ثنايا ذلك موضوعات أخرى لا تخل بوحدة موضوع السورة، ولكنها تضيف إليه التقدير والتعظيم. فالموضوع الأكبر هو قصة يوسف، وقد تم سردها بدقة وإحكام، والموضوع الآخر إثبات صدق مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما أخبر به من القرآن الكريم، فهو وحي من عند اللَّه ومعجز لأمته، وبين هذين الموضوعين تعرضت آيات القصة لكثير من القيم والتوجيهات الدِّينية، وقد أفاد كل ذلك في بناء الموضوع ووحدته. الأمر الثاني: وهو سابق على الأمر الأول المتمثل في الوحدة الموضوعية في السورة، فهناك محاولات سابقة للعلماء للربط بين الآيات وبيان المناسبة بين كل آية وآية مما يعد لبنة في تلك الدراسة، فخصص السيوطي لذلك فصلاً في كتابه " الإتقان في علوم القرآن " سماه: " مناسبة الآيات " قال فيه كلامًا طيبًا لا يبعد كثيرًا عما يسمى بالوحدة الموضوعية، بل وهناك محاولات لبيان مناسبة السورة مع التي قبلها. وقد تطور هذا الأمر، فأصبح التفسير الموضوعي يعني " جمع الآيات المتفرقة في سور القرآن الكريم المتعلقة بالموضوع الواحد لفظًا أو حكمًا، وتفسيرها حسب المقاصد

القرآنية ". وأطلق التفسير الموضوعي على جميع الأشباه والنظائر في القرآن الكريم حسب مادة الكلمة، ثم ترتيبها ترتيبًا معجميًا، وذلك كما صنع الفقيه الدامغاني في كتابه: " إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم ". ونستطيع القول: إن التفسير الموضوعي للقرآن الكريم هو معرفة مراد اللَّه تعالى من كلامه الكريم في آيات عديدة يجمعها موضوع واحد، وذلك بقدر الطاقة البشرية والعلوم المعنية. ولكن مما ينبغي إبرازه أن التفسير الموضوعي وجد منذ عصر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وليس وليد العصر الحاضر، وذلك لسببين: الأول: أن القرآن الكريم يفسر بعضهه بعضًا، فما أجمل في موضع فصل في موضع آخر، وما أبهم في موضع بين في موضع آخر، وهكذا، وفي ذلك يقول السيوطي عند حديثه عن شروط المفسر وآدابه: " قال العلماء: من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولاً من القرآن، فما أجمل منه في مكان فقد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر منه، وقد ألف ابن الجوزي كتابًا فيما أجمل في القرآن في موضع وفسر في موضع آخر منه ". والسبب الثاني: أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد استخدم هذا الأسلوب في بيان وتفسير ما أشكل على الصحابة من القرآن الكريم، حيث ضم الآيات إلى بعضها؛ ليتضح المعنى ويتبين المراد، فمن ذلك أن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - لما سمعوا قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، خافوا وظنوا أنهم قد حرموا الأمن والأمان؛ لأن الظلم واقع من كل إنسان لا محالة، حتى ظلمه لنفسه، فذهبوا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في فزع وخوف، فطمأنهم، وبين لهم أنهم في أمن وأمان؛ لأن الظلم المراد في الآية هو الشرك، وتلا عليهم قوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، فاطمأنت نفوسهم بذلك. وقد سار الصحابة على سنن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فكانوا يجمعون آيات القرآن

الكريم؛ ليستنبطوا الحكم الصحيح وقد سبق أن ذكرنا عند حديثنا عن دور علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في التفسير أنه يعد -بحق- واضع اللبنة الأولى للتفسير الموضوعي للقرآن الكريم، ومن أمثلة ذلك -أيضًا- ما سبق أن ذكرناه عن ابن عَبَّاسٍ وعمر بن الخطاب في توقع موعد ليلة القدر، فقد أخرج أبو نعيم عن مُحَمَّد بن كعب القرظي عن ابن عَبَّاسٍ أن عمر بن الخطاب جلس في رهط من المهاجرين من الصحابة، فذكروا ليلة القدر، فتكلم كل بما عنده، فقال عمر: ما لك يا ابن عَبَّاسٍ صامت لا تتكلم؟ تكلم ولا تمنعك الحداثة، قال ابن عَبَّاسٍ: فقلت: يا أمير المؤمنين، إن اللَّه وتر يحب الوتر، فجعل أيام الدنيا تدور على سبع، وخلق أرزاقنا من سبع، وخلق الإنسان من سبع، وخلق فوقنا سماوات سبعًا، وخلق تحتنا أرضين سبعا، وأعطى من المثاني سبعًا، ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع، وقسم الميراث في كتابه على سبع، ونقع في السجود من أجسادنا على سبع، وطاف الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالكعبة سبعًا، وسعى بين الصفا والمروة سبعا، ورمى الجمار سبعا، فأراها في السبع الأواخر من شهر رمضان، فتعجب عمر، وقال: ما وافقني فيها أحد إلا هذا الغلام الذي لم تستو شئون رأسه. وقد توالت الجهود وتتابعت في التفسير الموضوعي حتى أصبح مصطلحًا معروفًا واتجاهًا واضحًا في التفسير في العصر الحديث، حيث وجدنا من العلماء من يتناول بالتفسير سورة واحدة، كما فعل الدكتور مُحَمَّد البهي في تفسير سورة يوسف وإبراهيم وغيرهما، ومنهم من تناول بالتفسير موضوعًا من موضوعات القرآن، فجمع آياته المتفرقة وقام بتفسيرها في كتاب واحد، كما فعل الدكتور مُحَمَّد عبد اللَّه دراز في كتابه " الأخلاق في القرآن الكريم "، والدكتور يوسف القرضاوي في كتابه " الصبر في القرآن الكريم "، ومن قيل: الشيخ مُحَمَّد رشيد رضا في " الوحي المحمدي " وتوالت الكتب المختصة بهذا الشأن، حتى وجدنا بعض العلماء كالشيخ الغزالي يؤلف مباشرة تحت عنوان " التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ". وقد بلغ من شهرة هذا الاتجاه أن أصبح شعبة دائمة في منظمة المؤتمر الإسلامي، وصدرت عنها عدة بحوث كان لها الأثر الكبير في التعريف بالقرآن والإسلام لدى غير المسلمين، مما أسفر عن إعجاب الكثير بالإسلام وإعلان إسلامهم. إذن فإن التفسير " تفسير القرآن الكريم " مر بمراحل متعددة حتى صار إلى ما نراه الآن،

ومع هذا يبقى هذا السؤال الذي يتطلب منا جوابا، وهو: هل صار التفسير علمًا بالمعنى الدقيق لكلمة علم؟ عرض الدكتور الذهبي - رحمه اللَّه - لهذه المسألة، فقال: يرى بعض العلماء: أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد؛ لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية، ويكتفي في إيضاح التفسير بأنه بيان كلام اللَّه، أو أنه المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها. ويرى بعض آخر منهم: أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد الكلية، أو الملكات الناشئة من مزاولة القواعد؛ فيتكلف له التعريف، فيذكر في ذلك علومًا أخرى يحتاج إليها في فهم القرآن، كاللغة: والصرف، والنحو، والقراءات. . . وغير ذلك. والحق الذي يصدق الواقع، وتشهد به التفاسير الكثيرة، أن فن تفسير القرآن الكريم من قبيل العلوم ذات الموضوع والمسائل المستنبطة بوحدة موضوعها وغايتها وغير ذلك، فإن له كتبه المدونة المختصة به كما لسائر العلوم، وأيضًا: فإن فيه كثيرًا من القواعد الكلية التي يندرج تحت كل واحدة منها من المسائل الجزئية ما لا يخفى على من طالع كتبه، والتي تحصل لمن تمرس بها وأحسن رعايتها ملكة تعينه على خوض لجة هذا العلم والسباحة في بحره آمنا مطمئنا إن شاء اللَّه، وتمنع بالتالي من لم يمارسها ويتقن فقهها والتلقي لها عن أهلها الثقات من الكلام في هذا الفن. وكونه مفتقرًا إلى الاستعانة بكثير من العلوم لا يمنع أصلاً من كونه علمًا متكاملًا قد استوى على سوقه كما تستوي أدق العلوم وأدخلها في استحقاق اسم العلم، فإن من الأمور التي قد أصبحت شبيهة بالبدهيات إن لم تكن منها بالفعل أنه لا يمنع من كون العلم علمًا قائمًا برأسه أن يستعين على مسائله بكثير من المسلمات في علوم أخرى وأن الواقع الذي لا تصلح المماراة فيه أن بعض العلوم يأخذ من بعض. كما أن كونه بيانًا لألفاظ القرآن ومعانيه لا يمنع بحال من عده علمًا قائمًا بذاته، كما أن علم اللغة وفقهها لا يخرج عن كونه بيانًا لمعاني ألفاظها واشتقاقاتها وما إلى هذا، ثم لم يمنع ذلك من عده علمًا، فالحق الذي ترتاح إليه النفس ويطمئن إليه القلب إذن أن التفسير علم بأكمل وأدق وأجل ما تنطوي عليه مثل هذه الكلمة الشريفة من معنى، وأنه كذلك من أشرف العلوم وأعظمها على الإطلاق.

الفصل الثاني مدارس تفسير القرآن الكريم

الفصل الثاني مدارس تفسير القرآن الكريم قلنا: إن المدارس التفسيرية تبلورت في عصر التابعين، فظهرت عدة مدارس، لكل مدرسة منها أسلوبها وطريقتها ومنهجها في تفسير القرآن الكريم، اضطلع بالتفسير فيها أئمة كبار من أهل العلم. يقول الدكتور الذهبي: فتح اللَّه على المسلمين كثيرًا من بلاد العالم في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفي عهود الخلفاء من بعده، ولم يستقروا جميعًا في بلد واحد من بلاد المسلمين، بل نأى الكثير منهم عن المدينة مشرق النور الإسلامي ثم استقر بهم النوى، موزعين على جميع البلاد التي دخلها الإسلام، وكان منهم الولاة، ومنهم الوزراء، ومنهم القضاة، ومنهم المعلمون، ومنهم غير ذلك. وقد حمل هَؤُلَاءِ معهم إلى هذه البلاد التي رحلوا إليها، ما وعوه من العلم، وما حفظوه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فجلس إليهم كثير من التابعين يأخذون العلم عنهم، وينقلونه لمن بعدهم، فقامت في هذه الأمصار المختلفة مدارس علمية، أساتذتها الصحابة، وتلاميذها التابعون. واشتهر بعض هذه المدارس بالتفسير، وتتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسرين من الصحابة، فقامت مدرسة للتفسير بمكة، وأخرى بالمدينة، وثالثة بالعراق، وهذه المدارس الثلاث، هي أشهر مدارس التفسير في الأمصار في هذا العهد. ويمكننا القول: إن أصل هذه المدارس، وأعلمها بالتفسير هي مدرسة مكة؛ لأن شيخها وأستاذها عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ حبر الأمة وترجمان القرآن، كان نسيج وحده في التفسير، فكان أعلم الناس به، وكان تلاميذه أعلم التابعين به أيضًا؛ ولذلك يقول ابن تيمية: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عَبَّاسٍ وسعيد بن جبير وطاوس وغيرهم. ونحاول في الصفحات الآتية الوقوف أمام أبرز مدارس التفسير؛ لبيان خصائصها

وسماتها والمفسرين الذين يمثلونها وينتمون إليها. أولا: المدرسة المكية: واضع بذور هذه المدرسة ومؤسسها الأول الصحابي الجليل عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - ترجمان القرآن وحبر الأمة، فقد جلس لتلاميذه يفسر لهم ما غمض من القرآن ويوضح لهم ما أشكل عليهم من معانيه، وكان جلوسه لهم بمكة، وقد اجتمع حوله كثير من التلاميذ الذين وعوا ما يقوله ورووه لمن جاء بعدهم، وقد اشتهر من هَؤُلَاءِ التلاميذ: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وطاوس بن كيسان اليماني، وعطاء بن أبي رباح. ولكي نعرف بالمدرسة المكية لابد لنا من دراسة خصائصها وسماتها في التفسير، ثم بيان دور تلاميذها وما قاموا به في التفسير مع ترجمة موجزة لكل واحد منهم، فنقول: تتسم المدرسة المكية في التفسير بعده: سمات، أبرزها ما يأتي: أ - الرواية: قامت هذه المدرسة على الرواية عن ابن عَبَّاسٍ، فروى عنه سعيد بن جبير وسمع منه التفسير وأكثر من روايته عنه. وروى مجاهد والفضل بن ميمون وعكرمة وطاوس وعطاء بن أبي رباح، وكانت رواية هَؤُلَاءِ الأعلام أكثرها عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - ومن ثم تأثروا به وبمنهجه في التفسير. ومما يدل على رواية هَؤُلَاءِ الأعلام عن ابن عَبَّاسٍ ما رواه الفضل بن ميمون أنه سمع مجاهدًا يقول: عرضت القرآن على ابن عَبَّاسٍ ثلاثين مرة. وروي عنه -أيضًا- أنه قال: عرضت القرآن على ابن عَبَّاسٍ ثلاث عرضات، أقف عند كل آية، أسأله فيم نزلت، وكيف كانت؟ ولا تعارض بين هاتين الروايتين؛ لأن الإخبار بالقليل لا ينافي الإخبار بالكثير، فلعله

عرض القرآن على ابن عَبَّاسٍ ثلاثين مرة؛ لتمام الضبط، ودقة التجويد وحسن الأداء، وعرضه بعد ذلك ثلاث مرات؛ طلبًا لتفسيره ومعرفة ما دق من أسراره، وخفي من معانيه، كما تشعر بذلك ألفاظ الرواية. ومما يدل على ذلك -أيضًا- ما قاله حبيب بن أبي ثابت: " اجتمع عندي خمسة: طاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما، جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا ". ومما يدل على ذلك -أيضًا- ما قاله ابن عَبَّاسٍ نفسه عن عطاء بن أبي رباح: " تجتمعون إليَّ يا أهل مكة وعندكم عطاء؟! ". وهذا إن دل على رواية عطاء، فإنه يدل كذلك على علو قدمه ورسوخها في تفسير القرآن الكريم، حتى إن ابن عَبَّاسٍ -وهو حبر الأمة وترجمان القرآن- يستنكر على أهل مكة اجتماعهم عليه وبين أظهرهم عطاء بن أبي رباح. وخلاصة القول: إن المدرسة المكية كانت تعتمد على الرواية في التفسير، فمثلما روى الصحابة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - التفسير، فقد روى أصحاب المدرسة المكية عن صحابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالأخص عن ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما. هذا، ولم تقتصر روايتهم عن ابن عَبَّاسٍ والصحابة وحسب، بل إنهم رووا عن أهل الكتاب مثلما فعل سلفهم، لكنهم توسعوا حتى روى الذهبي في ميزانه أن أبا بكر بن عياش قال: قلت للأعمش: ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟ كما في رواية ابن سعد قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب. لكن ينبغي ألا يتوهم من هذه الرواية أن أصحاب هذه المدرسة لم تكن لهم ضوابط في النقل عن أهل الكتاب، كلا، فلقد كانوا لا يروون إلا ما يعتقدون صدقه، ولم يخالف بيَّنًا مما جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكيف لا يتحرون الدقة في الأخذ عن أهل الكتاب، ورأس مدرستهم ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - شدد النكير على من يأخذ عنهم أو يصدقهم فيما

يقولون، مما هو داخل تحت حدود النهي من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ب - جمع القراءات جمع أصحاب هذه المدرسة القراءات الثابتة، وكان أكثر تلاميذ ابن عَبَّاسٍ حرصًا على ذلك، هو سعيد بن جبير، فقد كان سعيد بن جبير يؤم الناس في شهر رمضان، فروي عنه أنه كان " يقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره، وهكذا أبدًا ". وما من شك في أن جمع القراءات يمنح القدرة على التوسع في معرفة معاني القرآن وأسراره. ج - التفسير بالرأي: قلنا: إن هذه المدرسة قامت على الرواية؛ وذلك لأن أصحابها تحرجوا من التفسير بالرأي، فقد روى ابن خلكان عن سعيد بن جبير أنه كان يتورع من القول في التفسير برأيه، فقد جاء رجل وسأل سعيدًا أن يكتب لله تفسير القرآن، فقال: لأن يسقط شقي أحب إلى من ذلك. لكن لم يكن كل أصحاب المدرسة على درجة واحدة في هذا التحرج، فمنهم من زاد تحرجه كسعيد بن جبير -كما رأينا- ومنهم من خف تحرجه كمجاهد بن جبر، فكان من أكثر تلاميذ المدرسة المكية تحررا، لكنه التحرر المنضبط؛ لذلك نجده يقول: " ولا يحل لأحد يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يتكلم في شيء من كتاب اللَّه، إذا لم يكن عالمًا بلغات القرآن، ولا يكتفي باليسير منها؛ إذ اللفظ ربما كان مشتركًا فيغفل عن أحد المعنيين ". ويقف في درجة وسطى بين شدة التحرج وخفته عكرمة، فمن يتتبع تفسيره في بطون كتب التفسير يجد فيه خصائص تفسير أستاذه ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - الذي تعلوه المسحة اللغوية والرجوع إلى الشعر، وهو يمثل لونًا من التفسير بالرأي. ومن ثم يمكن القول دونما وجل: إن المدرسة المكية في التفسير تقوم على الرواية " أي التفسير بالمأثور " لكنها في الوقت نفسه لم تهمل التفسير بالرأي، يدل على ذلك ما رواه الطبري في تفسيره عن مجاهد في تفسير قول اللَّه تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا

أعلام المدرسة المكية.

مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، فقد فسر المسخ بأنه مسخ للقلوب ولم يقع على الأجسام، وإنما هو مثل ضربه اللَّه لهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا. أعلام المدرسة المكية. 1 - سعيد بن جبير. سعيد بن جبير الوالبي مولاهم الكوفي الفقيه أحد الأعلام، روى عن ابن عَبَّاسٍ وابن عمر وعبد اللَّه بن مغفل وعدي بن حاتم وخلق، وروى عنه الحكم وسلمة بن كهيل وسليم الأحول، وسليمان الأعمش وأيوب وعمرو بن دينار، وخلائق، وقال اللالكائي: ثقة إمام حجة، قال عبد الملك بن أبي سليمان: كان يختم في كل ليلتين، قال ميمون ابن مهران: مات سعيد وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه، قتل سنة خمس وتسعين كهلاً، قتله الحجاج فما أمهل بعده، قال خلف بن خليفة عن أبيه: شهدت مقتل ابن جبير، فلما بَانَ الرأس قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فلما قالها الثالثة لم يتمها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. مكانته في التفسير: شهد التابعون لسعيد بن جبير بتفوقه في العلم ولاسيما التفسير، فقد قال عنه الإمام أحمد: " قتل الحجاج سعيد بن جبير، وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه فرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ". وقال عنه سفيان الثوري: " خذوا التفسير عن أربعة: سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، والضحاك ". وقال قتادة: " كان أعلم الناس أربعة: كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسير، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام ". ولعلم سعيد وفضله كان يثق فيه أستاذه ابن عَبَّاسٍ، ويحيل عليه من يستفتيه، وكان يقول لأهل الكوفة إذا أتوه ليسألوه عن شيء: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير ويروي عمرو بن ميمون عن أبيه أنه قال: لقد مات سعيد بن جبير، وما على ظهر

2 - مجاهد بن جبر:

الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. ويرى بعض العلماء أنه مقدم على مجاهد وطاوس في العلم، وكان قتادة يرى أنه أعلم التابعين بالتفسير. هذا وقد وثق علماء الجرح والتعديل سعيد بن جبير، فقال أبو القاسم الطبري: هو ثقة، حجة، إمام على المسلمين، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان عبدًا فاضلاً ورعًا، وهو مجمع عليه من أصحاب الكتب الستة. 2 - مجاهد بن جبر: مجاهد بن جبر -بإسكان الموحدة- مولى السائب بن أبي السائب أبو الحجاج المكي المقرئ الإمام المفسر، روى عن ابن عَبَّاسٍ وقرأ عليه، وعن أم سلمة وأبي هريرة وجابر، ورَوَى عنه عكرمة وعطاء وقتادة والحكم بن عتيبة وأيوب وخلق. وثقه ابن معين وأبو زرعة. قال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، ومولده سنة إحدى وعشرين. مكانته في التفسير: مجاهد أحد المبرزين في التفسير؛ قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهدًا يقول: عرضت القرآن على ابن عَبَّاسٍ ثلاثين عرضة، وعنه -أيضًا- قال: عرضت المصحف على ابن عَبَّاسٍ ثلاث عرضات أقف عند كل آية منه، وأسأله عنها فيم نزلت؟ وكيف كانت؟ وروى ابن جرير بسنده عن ابن أبي مليكة، قال: " رأيت مجاهدًا سأل ابن عَبَّاسٍ عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول ابن عَبَّاسٍ: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله ". ولذا قال الإمام سفيان الثوري: " إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك "، وقال ابن تيمية: " ولذا يعتمد على تفسيره الشافعي، والبخاري وغيرهما من أهل العلم ". وقال السيوطي في الإتقان: " وغالب ما أورده الفريابي في تفسيره عنه، وما أورده فيه عن ابن عَبَّاسٍ أو غيره قليل جدَّا ". فكل هذه الأقوال تشهد لمجاهد بعلو المكانة في التفسير والعلم، ومع هذا فقد تحرج بعض العلماء من الأخذ عنه في التفسير، ولعل الذي دفعهم إلى ذلك أمران:

3 - عكرمة

الأول: أنه كان يسأل أهل الكتاب، كما سبقت الإشارة إلى أن ابن سعد عزا عدم سؤالهم له في التفسير إلى ذلك، فقال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب. والثاني: مسلك التحرر الذي سلكه وتفسيره القرآن بالرأي، فلعل مثل هذا المسلك من مجاهد، هو الذي جعل بعض المتورعين الذين كانوا يتحرجون من القول في القرآن برأيهم يتقون تفسيره، ويلومونه على قوله في القرآن بمثل هذه الحرية الواسعة في الرأي، فقد روي عن ابن مجاهد أنه قال: قال رجل لأبي: أنت الذي تفسر القرآن برأيك؟ فبكى أبي ثم قال: إني إذن لجريء، لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلاً من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورضي عنهم. وليس معنى هذا أن في مجاهد مطعنًا، كلا، فهو ثقة بلا مدافعة، وإن صح أنه كان يسأل أهل الكتاب فما أظن أنه تخطى حدود ما يجوز له من ذلك، لاسيما وهو تلميذ حبر الأمة ابن عَبَّاسٍ، الذي شدد النكير على من يأخذ عن أهل الكتاب ويصدقهم فيما يقولونه مما يدخل تحت حدود النهي الوارد عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وعليه، فتبقى لمجاهد إمامته في التفسير التي لا يمكن أن يدفعها عنه دافع، فليس أخذه عن أهل الكتاب أو حريته في تفسير آيات القرآن يغضان من قيمته ومكانته أو يقللان من تفوقه في العلم والتفسير. 3 - عكرمة عكرمة البربري مولى ابن عَبَّاسٍ أبو عبد اللَّه أحد الأئمة الأعلام، روى عن مولاه، وعائشة وأبي هريرة، وأبي قتادة ومعاوية وخلق، وروى عنه الشعبي وإبراهيم النخعي، وأبو الشعثاء من أقرانه وعمرو بن دينار وقتادة وأيوب وخلق. قال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة رموه بغير نوع من البدعة، قال العجلي: ثقة بريء مما يرميه الناس به، ووثقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي، ومن القدماء أيوب السختياني. قال مصعب: مات سنة خمس ومائة. مكانته في التفسير: قال المروزي: قلت لأحمد: يحتج بحديث عكرمة؟ فقال: نعم يحتج به.

وقال ابن معين: إذا رألت إنسانًا يقع في عكرمة، وفي حماد بن سلمة، فاتهمه على الإسلام. وقال العجلي فيه: مكي تابعي ثقة، بريء مما يرميه به الناس من الحرورية. وقال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة. وقد وثقه النسائي وأخرج له في كتابه السنن، كما أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، وغيرهم، وكان مسلم بن الحجاج من أسوئهم رأيًا فيه، ثم عدله بعد ما جرحه. وقال المروزي: أجمع عامة أهل العلم بالحديث على الاحتجاج بحديث عكرمة، واتفق على ذلك رؤساء أهل الحديث من أهل عصرنا، منهم أحمد بن حنبل، وابن راهويه، ويحيى بن معين، وأبو ثور، ولقد سألت إسحاق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه فقال: عكرمة عندنا إمام الدنيا!!! تعجب من سؤالي إياه. فإن عكرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان على مبلغ عظيم من العلم، وعلى مكانة عالية من التفسير خاصة، وقد شهد له العلماء بذلك، فقال ابن حبان: كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن، وقال عمرو بن دينار: دفع إليَّ جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة وجعل يقول: هذا عكرمة مولى ابن عَبَّاسٍ، هذا البحر فسلوه. وكان الشعبي يقول: ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة. وقال حبيب بن أبي ثابت: اجتمع عندي خمسة: طاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير؛ فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا. وقال يَحْيَى بن أيوب المصري: سألني ابن جريج: هل كتبتم عن عكرمة؟ فقلت: لا، قال: فاتكم ثلثا العلم. وروى البخاري في صحيحه عن عكرمة أن ابن عَبَّاسٍ قال له: " حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني

عهدت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لا يفعلون ذلك ". إن عكرمة حاز منزلة عظيمة في العلم، فهو من أعلم الناس بالسير والمغازي؛ قال سفيان الثوري عن عمرو قال: كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصفون ويقتتلون. وهو من علماء زمانه بالفقه والقرآن، وشهد له الأئمة بذلك، يقول الشعبي: " ما بقي أحد أعلم بكتاب اللَّه من عكرمة ". ومع كل هذا، فإن هناك بعض العلماء وجهوا مطاعن إلى عكرمة، فكانوا يصفونه بالجرأة على العلم ويقولون: إنه كان يدعي معرفة كل شيء في القرآن، ويزيدون على ذلك فيتهمونه بالكذب على مولاه ابن عَبَّاسٍ، وبعد هذا كله، يتهمونه بأنه كان يرى رأي الخوارج، ويزعم أن مولاه كان كذلك، وقد نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب كل هذه التهم ونسبها لقائليها، فمن ذلك: ما رواه شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل ابن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء يعني عكرمة وحكى إبراهيم بن ميسرة أن طاوسا قال: لو أن مولى ابن عَبَّاسٍ اتقى اللَّه وكف من حديثه لشدت إليه المطايا. وروى أبو خلف الجزار عن يحيى البكاء قال: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتق اللَّه، ويحك يا نافع، ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عَبَّاسٍ. وروي أن سعيد بن المسيب قال مثل ذلك لمولاه. وروى ابن سعد: أن على بن عبد اللَّه كان يوثقه على باب الكنيف ويقول: إن هذا يكذب على أبي. ثم بعد ذلك كله يصورون للناس مبلغ كراهة معاصريه له فيقولون: إنه مات هو وكثير عزة في يوم واحد، فلم يشهد جنازته أحد، أما كثير فقد شيعه خلق كثير. وهذه التهم فيها كثير من المبالغة، حتى إن عكرمة نفسه كانت تصله فيتألم، فقد روى حماد بن زيد عن أيوب أنه قال: قال عكرمة: رأيت هَؤُلَاءِ الذين يكذبونني، يكذبونني من خلفي، أفلا يكذبونني في وجهي؟ فإذا كذبوني في وجهي فقد واللَّه كذبوني. ثم نراه

4 - طاوس بن كيسان اليماني

يستشهد ببعض أصحابه على صدقه فيما يروي عن مولاه، فعن عثمان بن حكيم قال: كنت جالسًا مع أبي أمامة سهل بن حنيف، إذ جاء عكرمة فقال: يا أبا أمامة، أذكرك اللَّه، هل سمعت ابن عَبَّاسٍ يقول: ما حدثكم عكرمة عني فصدقوه فإنه لم يكذب علي؟ فقال أبو أمامة: نعم. هذا هو رد عكرمة على متهميه بالكذب، وتفنيده لما نسب إليه من الافتراء على مولاه. ثم إن كثيرًا من التهم ردها علماء موثوق بهم كابن حجر، وشهد له بعضهم وأنصفوه. 4 - طاوس بن كيسان اليماني طاوس بن كيسان اليماني الجندي -بفتح الجيم والنون- الإمام العلم، قيل: اسمه ذكوان؛ قاله ابن الجوزي، روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عَبَّاسٍ وزيد بن ثابت، وزيد ابن أرقم، وجابر، وابن عمرو، وأرسل عن معاذ. قال طاوس: أدركت خمسين من الصحابة. وروى عنه مجاهد، وعمرو بن شعيب، وحبيب بن أبي ثابت، والزهري، وأبو الزبير، وعمرو بن دينار، وسليمان الأحول وخلق. قال ابن عَبَّاسٍ: إني لأظن طاوسًا من أهل الجنة. وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مثله. وقال ابن حبان: حج أربعين حجة، وكان مستجاب الدعوة. قال ابن القطان: مات سنة ست ومائة، وقَالَ بَعْضُهُمْ: يوم التروية، وصلى عليه هشام ابن عبد الملك ووثقه ابن معين وغيره. مكانته في التفسير: بلغ طاوس من العلم مبلغًا عظيمًا، وكان واثقًا من علمه هذا، وكان من الورع والأمانة حتى شهد له بذلك أستاذه ابن عَبَّاسٍ فقال فيه ما أشرنا إليه منذ قليل: إني لأظن طاوسا من أهل الجنة، وقال فيه عمرو بن دينار: ما رأيت أحدًا مثل طاوس، وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقال ابن معين: إنه ثقة. وقد أدرك طاوس جماعة من الصحابة وروى عنهم، وروايته عن ابن عَبَّاسٍ أكثر وأخذ

5 - عطاء بن أبي رباح:

عنه التفسير أكثر من غيره؛ ولهذا عد من تلاميذه، وجاء ذكره في مدرسة مكة. والتفسير المأثور عنه قليل جدَّا، ومعظمه يرويه عن ابن عَبَّاسٍ، ولقلة التفسير المأثور عنه وطول باعه في الفقه، قالوا عنه: إنه فقيه لا مفسر، وعده علماء الفقه فقيهًا. 5 - عطاء بن أبي رباح: عطاء بن أبي رباح القرشي، مولاهم أبو مُحَمَّد الجندي اليماني، نزيل مكة وأحد الفقهاء والأئمة، روى عن عثمان وعتاب بن أسيد مرسلاً، وعن أسامة بن زيد، وعائشة، وأبي هريرة، وأم سلمة، وعروة بن الزبير، وطائفة، ورُوى عنه أيوب وحبيب بن أبي ثابت، وجعفر بن مُحَمَّد، وجرير بن حازم، وابن جريج، وخلق. قال ابن سعد: كان ثقة عالمًا كثير الحديث، انتهت إليه الفتوى بمكة. وقال أبو حنيفة: ما لقيت أفضل من عطاء. وقال ابن عَبَّاسٍ -وقد سئل عن شيء-: يا أهل مكة تجتمعون علي وعندكم عطاء. وقيل: إنه حج أكثر من سبعين حجة. قال حماد بن سلمة: حججت سنة مات عطاء سنة أربع عشرة ومائة. مكانته في التفسير: لم يكن عطاء مكثرًا من رواية التفسير عن ابن عَبَّاسٍ، كما كان مقلاًّ في التفسير بالرأي، ويرجع ذلك إلى تحرجه من القول بالرأي. يقول الدكتور الذهبي: وإذا نحن تتبعنا الرواة عن ابن عَبَّاسٍ نجد أن عطاء بن أبي رباح لم يكثر من الرواية عنه كما أكثر غيره، ونجد مجاهدًا وسعيد بن جبير يسبقانه من ناحية العلم بتفسير كتاب اللَّه، ولكن هذا لا يقلل من قيمته بين علماء التفسير، ولعل إقلاله في التفسير يرجع إلى تحرجه من القول بالرأي، فقد قال عبد العزيز بن رفيع: سئل عطاء عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ قال: إني أستحي من اللَّه أن يدان في الأرض برأيي. وبعد: فهذه هي مدرسة التفسير في مكة التي كان لها الأثر الكبير في نشأة علم التفسير

وتطوره ونشره في داخل مكة وخارجها، فقد كان لسعيد بن جبير رحلة إلى الري، نشر فيها الكثير من العلم، وكذلك كان لمجاهد رحلات خارج مكة، واستقر طاوس باليمن ينشر هناك علم ابن عَبَّاسٍ وتفسيره، وأما عكرمة فقد طاف البلاد الإسلامية شرقًا وغربًا، حيث رحل إلى خراسان واليمن والعراق والشام ومصر والحرمين. ثانيًا: المدرسة المدنية: هذه المدرسة لم يكن لها إسهام وافر في مجال تفسير القرآن الكريم بالرأي؛ إذ التزم أصحابها السماع والرواية في تفسيرهم، ومن هنا لم تضف هذه المدرسة لونًا عقليًّا تتميز به كما أضافت مدرسة مكة التي تحدثنا عنها قبل قليل، أو مدرسة العراق التي سنتحدث عنها فيما بعد، بل بقيت ثقافتها معتمدة على الوحي: الكتاب والسنة، والإلمام بمواضع نزول الوحي وأوقاته، والإحاطة بأسباب النزول، وأحوال الذين نزل القرآن فيهم. ولكن هذا لا ينفي ما قام به زيد بن أسلم في مجال التفسير بالرأي حتى قال عنه عبيد اللَّه بن عمر: " لا أعلم به بأسًا إلا أنه يفسر القرآن يرأيه ويكثر منه ". وهذا الحكم لا يعد مغمزًا في زيد وثقته وعدالته، أو طعنًا في دينه وعلمه؛ فلم يوجد من العلماء من نسبه إلى أحد المذاهب المبتدعة، ويدل على توثيقه وعدالته أنه جلس إليه علماء كثيرون منهم علي بن الحسين زين العابدين، ولما سئل عن هذا قال: " إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه ". وأستاذ هذه المدرسة ومؤسسها الأول أبي بن كعب، وعنه أخذ أعلام المدرسة المدنية من التابعين، لكن لم يكن أخذهم عنه وحده، بل أخذوا كذلك عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب كذلك، ولكن ليس بدرجة أخذهم عن أبي بن كعب. وقد اشتهر من أعلام هذه المدرسة في التفسير ثلاثة أو أربعة، وهم: زيد بن أسلم، وأبو العالية، وسعيد بن المسيب، ومُحَمَّد بن كعب القرظي، وسنقوم بترجمة كل واحد منهم.

أعلام المدرسة المدنية:

أعلام المدرسة المدنية: 1 - زيد بن أسلم: زيد بن أسلم العدوي مولاهم المدني أحد الأعلام، روى عن أبيه، وابن عمر، وجابر، وعائشة في " أبو داود " وأبي هريرة في الترمذي، وقال ابن معين: لم يسمع منه ولا من جابر، وروى عنه بنوه، وداود بن قيس، ومعمر، وروح بن القاسم. قال مالك: كان زيد يحدث من تلقاء نفسه، فإذا قام فلا يجترئ عليه أحد، وثقه أحمد ويعقوب بن شيبة، مات سنة ست وثلاثين ومائة في ذي الحجة. 2 - أبو العالية: رفيع -بضم أوله مصغرًا- ابن مهران الرياحي -بكسر المهملة- مولاهم أبو العالية البصري مخضرم إمام من الأئمة، صلى خلف عمر، ودخل علي أبي بكر، روى عن أبي، وعلي، وحذيفة، وخلق، وروى عنه قتادة، وثابت، وداود بن أبي هند بصريون، وخلق. قال عاصم الأحول: كان إذا اجتمع عليه أكثر من أربعة قام وتركهم. قال مغيرة: أول من أذن بما وراء النهر أبو العالية. قال أبو خلدة: مات سنة تسعين، وهو الصحيح. 3 - سعيد بن المسيب: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن مخزوم المخزومي أبو مُحَمَّد المدني الأعور، رأس علماء التابعين وفردهم وفاضلهم وفقيههم، ولد سنة خمس عشرة، روى عن عمر في الأربعة، وأبي، وأبي ذر، وأبي بكرة في ابن ماجه، وعلي، وعثمان، وسعد في البخاري ومسلم، وطائفة، وروى عنه الزهري وعمرو ابن دينار وقتادة وبكير بن الأشج وَيَحْيَى بن سعيد الأنصاري وخلق. قال قتادة: ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه. وقال أحمد: مرسلات سعيد صحاح. سمع من عمر، وقال مالك: لم يسمع منه، ولكنه أكب على المسألة في شأنه وأمره حتى كأنه رآه. وقال أبو حاتم: هو أثبت التابعين في أبي هريرة. قال أبو نعيم: مات سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي: سنة أربع.

4 - محمد بن كعب القرظي:

4 - مُحَمَّد بن كعب القرظي: مُحَمَّد بن كعب القرظي المدني ثم الكوفي أحد العلماء، روى عن أبي الدرداء مرسلاً، وعن فضالة بن عبيد، وعائشة، وأبي هريرة، وروى عنه ابن المنكدر، ويزيد بن الهاد، والحكم بن عتيبة. قال ابن عون: ما رأيت أحدًا أعلم بتأويل القرآن من القرظي. وقال ابن سعد: كان ثقة ورعًا كثير الحديث. قيل: مات سنة تسع عشرة ومائة، وقيل: سنة عشرين. ثالثًا: المدرسة العراقية: من المدارس التي أصبحت لها قيمتها العلمية مدرسة العراق، وكان تلاميذ هذه المدرسة منهم من كان ببغداد، ومنهم من كان بالكوفة، ومنهم من كان بالبصرة، وأستاذ هذه المدرسة الأكبر هو: عبد اللَّه بن مسعود، حيث ولى سيدنا عمر عمار بن ياسر على الكوفة وسير معه عبد اللَّه بن مسعود معلمًا، ووزيرًا، وقد شرب من علمه أهل العراق عللاً بعد نهل، وأصبحوا متأثرين بطريقته في الاجتهاد في الفقه، والأحكام، والتفسير، وهي حرية الرأي في الاجتهاد، وحسن التصرف في النصوص، وعدم الجمود عليها. وقد روي عن مسروق أنه قال: وجدت علم أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - انتهى إلى ستة: عمر، وعلي، وأُبي، وزيد، وأبي الدرداء، وعبد اللَّه بن مسعود، ثم انتهى علم هَؤُلَاءِ الستة إلى اثنين: علي، وعبد اللَّه؛ يعني ابن مسعود. وفي رواية أخرى: ذكر أبا موسى بدل أبي الدرداء. وأهم سمة تميز مدرسة العراق شيوع طريقة الاستدلال فيها؛ لأن أهل العراق عرفوا بأنهم أهل رأي، وقد وضع حجر الأساس لهذه الطريقة عبد اللَّه بن مسعود. فالحسن البصري مثلاً يعمل فكره ورأيه في فهم القرآن، فيقول في تفسير قوله تعالى: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) " إن اللَّه لم يجعل لأهل النار مدة، بل قال: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا)، فواللَّه ما هو إلا أنه: إن انقضى حقب دخل آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدة

أعلام المدرسة العراقية:

إلا الخلود، وهو في هذا التفسير يهتدي بابن مسعود؛ إذ يُروى عنه أنه قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصا الدنيا لفرحوا، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصا الدنيا لحزنوا ". وليس معنى هذا أن تلاميذ هذه المدرسة أهملوا الرواية، فقتادة نفسه روى عن السلف إلى جانب تفسيره بالرأي، فهو يفسر الحكمة في قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) بأنها علم القرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه وأمثاله. أعلام المدرسة العراقية: 1 - علقمة بن قيس: علقمة بن قيس بن عبد اللَّه بن علقمة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن عوف بن النخع النخعي أبو شبل الكوفي، أحد الأعلام مخضرم، روى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وطائفة، وروى عنه إبراهيم النخعي، والشعبي، وسلمة ابن كهيل، وخلق. وقال ابن المديني: أعلم الناس بابن مسعود علقمة والأسود. قال ابن سعد: مات سنة اثنتين وستين، وقال أبو نعيم: سنة إحدى وستين، قيل: عن تسعين سنة. 2 - مسروق مسروق بن الأجدع الهمداني أبو عائشة الكوفي الإمام القدوة، روى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، ومعاذ، وطائفة. وروى عنه زوجته قمير، وأبو وائل، والشعبي، وخلق، وأرسل عنه مكحول. قال أبو إسحاق: حج مسروق فما نام إلا ساجدًا على وجهه. وقال ابن المديني: صلى خلف أبي بكر. وقال ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله. وقال ابن سعد: توفي سنة ثلاث وستين.

3 - عامر الشعبي

3 - عامر الشعبي عامر بن شراحبيل الحميري الشعبي أبو عمرو الكوفي، الإمام العلم، ولد لست سنين خلت من خلافة عمر، روى عنه وعن علي، وابن مسعود، ولم يسمع منهم، وعن أبي هريرة، وعائشة، وجرير، وابن عَبَّاسٍ وخلق. قال: أدركت خمسمائة من الصحابة. وروى عنه ابن سيرين، والأعمش، وشعبة، وجابر الجعفي، وخلق. قال أبو مجلز: ما رأيت فيهم أفقه من الشعبي. وقال العجلي: مرسل الشعبي صحيح. وقال ابن عيينة: كانت الناس تقول: ابن عَبَّاسٍ في زمانه، والشعبي في زمانه. وقال يحيى بن بكير: توفي سنة ثلاث ومائة. 4 - الحسن البصري الحسن بن أبي الحسن البصري مولى أم سلمة والربيع بنت النضر أو زيد بن ثابت، أبو سعيد الإمام، أحد أئمة الهدى والسنة، رمي بالقدر، ولا يصح، روى عن جندب ابن عبد اللَّه، وأنس، وعبد الرحمن بن سمرة، ومعقل بن يسار، وأبي بكرة، وسمرة. قال سعيد: لم يسمع منه وأرسل عن خلق من الصحابة، وروى عنه أيوب، وحميد، ويونس، وقتادة، ومطر الوراق، وخلائق. قال ابن سعد: كان عالمًا جامعًا رفيعًا ثقة مأمونًا عابدًا ناسكًا كثير العلم فصيحًا جميلاً وسيمًا، ما أرسله فليس بحجة، وكان الحسن شجاعًا من أشجع أهل زمانه، وكان عرض زنده شبر. قال ابن علية: مات سنة عشر ومائة، قيل: ولد سنة إحدى وعشرين لسنتين بقيتا من خلافة عمر. قال أبو زرعة: كل شيء قال الحسن: " قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " وجدت له أصلا مليًّا خلاف أربعة أحاديث. 5 - قتادة قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري الأكمه، أحد الأئمة الأعلام، حافظ مدلس، روى عن أنس، وابن المسيب، وابن سيرين، وخلق، وروى عنه أيوب،

6 - الأسود بن يزيد

وحميد، وحسين المعلم، والأوزاعي، وشعبة، وعلقمة، قال ابن المسيب: ما أتانا عراقي أحفظ من قتادة. وقال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس. وقال ابن مهدي: قتادة أحفظ من خمسين مثل حميد. قال حماد بن زيد: توفي سنة سبع عشر ومائة، وقد احتج به أرباب الصحاح. 6 - الأسود بن يزيد الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، أبو عمرو أو أبو عبد الرحمن الكوفي، مخضرم فقيه، روى عن ابن مسعود، وعائشة، وأبي موسى، وطائفة. وروى عنه إبراهيم النخعي، وابنه عبد الرحمن، وأبو إسحاق، وعمارة بن عمير، وطائفة. وثقه ابن معين والناس، قال إبراهيم: كان يختم في كل ليلتين، وروي أنه حج ثمانين حجة. توفي سنة أربع أو خمس وسبعين. 7 - مرة الهمداني مرة بن شراحيل الهمداني، أبو إسماعيل الكوفي العابد، مرة الطيب، ومرة الخير، روى عن أبي بكر وعمر وجماعة. وروى عنه الشعبي، وطلحة بن مصرف، وطائفة. وثقه ابن معين، وقال الحارث الغنوي: سجد حتى أكل التراب جبهته. قال ابن سعد: توفي بعد الجماجم. وقيل: سنة ست وسبعين. ومن خلال دراسة المدارس الثلاثة الرئيسية يمكننا القول بأنها تقوم في مجملها على الرواية، وأن التفسير بالرأي لم يكن سائدًا في هذه المرحلة المبكرة، غير أن الذين جاءوا من بعد توسعوا في التفسير بالرأي؛ بناء على البذور التي بذرها أعلام هذه المدارس من التفسير بالرأي، وبخاصة مدرسة العراق التي كانت أوسع المدارس التفسيرية اتجاهًا إلى الرأي واستخدام العقل في التفسير. ولقد كان لهذه المدارس دور مؤثر في نشأة التفسير وتطويره ونشره، مما كان له أبعد الأثر على هذا العلم في العصور التالية، وما زلنا حتى اليوم نغترف من فيض أعلام هذه المدارس.

الفصل الثالث المناهج التفسيرية بين القديم والحديث

الفصل الثالث المناهج التفسيرية بين القديم والحديث لقد أجمع علماء التفسير منذ القديم -فيما نقله الزركشي- على شروط كثيرة لابد من مراعاتها عند تفسير القرآن الكريم أجملوها في أربعة شروط هي: أولًا: الأخذ بما صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أحاديث في التفسير. ثانيًا: الأخذ بقول الصحابي، وخاصة فيما لا مجال للاجتهاد فيه: كالأمور الغيبية، والناسخ والمنسوخ. ثالثًا: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى غير معناها الحقيقي، أو إلى غير مرادها. رابعًا: الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع. واستمر العمل بهذا المنهج كحد يعرف به الرأي الممدوح من الرأي المذموم إلى أواخر القرن التاسع عشر، حيث سادت العالم مناهج جديدة، ومع مرور الزمن وتغلغل هذه المناهج وتمكنها من عقول بعض المفكرين داخل العالم الإسلامي - ظهرت مدرسة فكرية حديثة تدعو إلى تجديد فهم القرآن فهمًا عصريًّا، متبنية في ذلك ما توصل إليه العقل البشري من مناهج وعلوم -وخاصة الغربية- على رأسها علم الألسنية الحديثة وغيره. وكان من أهم آراء المدرسة الفكرية الحديثة الدعوة صراحة إلى تجاوز كل الأدوات المنهجية التراثية؛ لأنها -حسب رأيها- تمثل فترة زمنية معينة، ثم تبنيها الأدوات المنهجية المعاصرة، مثل المنهج التاريخي، والمنهج البنيوي، والمنهج الجدلي وغيرها. وفي هذا الفصل محاولة لدراسة أهم مناهج التفسير في القديم والحديث، وبيان أهم ما يميز هذه المناهج وما يعتورها من قصور، وذلك على النحو التالي: أولا: مناهج التفسير في القديم بعد التابعين، وقيام المدارس التفسيرية، ظهرت مؤلفات في التفسير مستقلة؛ حيث

1 - منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور

كان التفسير من قبل جزءًا من الحديث، وكان التفسير يقوم على الأسانيد، فجاء مفسرون كثيرون في حوالي القرن الخامس الهجري فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال من غير أن يعزوها إلى قائليها، ومن ثم كثر الدخيل في التفسير، ثم إن التفسير غلب عليه التأويل والتفسير الاجتهادي لعلماء برعوا في بعض العلوم، وبرزوا فيها، ومنهم من هم من أهل السنة والجماعة، ومنهم من هم من أهل الزيغ والابتداع، فصار كل واحد منهم يميل بالتفسير إلى إبراز ما برع فيه، فالنحوي ليس له هم إلا الإعراب وذكر الأوجه المحتملة في الآية، والإخباري ليس له هم إلا ذكر القصص واستيفاؤها عمن مضى من الأنبياء والأمم والملوك، وذكر ما يتعلق بالنقد والملاحم وأحوال الآخرة، والفقيه يكاد يسرد فيه مسائل الفقه جميعها، وكثيرًا ما يستطرد إلى إقامة الأدلة، وبيان منشأ الخلاف إلى غير ذلك مما لا تعلق له بالآية، وصاحب العلوم العقلية قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبههم والرد عليها، ويخرج من شيء إلى شيء، ويستطرد ثم يستطرد حتى ينسى الإنسان أنه في كتاب تفسير، ويخيل إليه أنه يقرأ كتابًا من كتب الكلام، وأصحاب المذاهب المبتدعة قد نحوا بالتفسير ناحية مذاهبهم كالشيعة والمعتزلة والباطنية والروافض وغيرهم. ورغم هذا التعدد في الاتجاهات حول تفسير القرآن الكريم فإنه يمكننا أن نقول: إن مناهج التفسير القديمة تذهب في اتجاهات ثلاثة: الاتجاه الأول: منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور. والاتجاه الثاني: منهج تفسير القرآن الكريم بالرأي. والاتجاه الثالث: التفسير الإرشادي وغرائب التفسير. وفي الصفحات التالية نلقي الضوء على هذه المناهج، ببيان أهم ما يميز كل منهج ومميزاته، وأوجه القصور فيه. 1 - منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور التفسير بالمأثور هو ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة بيانًا لمراد اللَّه تعالى من كتابه، فالتفسير بالمأثور إما أن يكون تفسير القرآن بالقرآن أو تفسير القرآن بالسنة النبوية، أو تفسير القرآن بالمأثور عن الصحابة، وبعضهم أدرج في التفسير بالمأثور

المصدر الأول: القرآن الكريم:

أقوال التابعين. يقول الدكتور الذهبي: وإنَّمَا أدرجنا في التفسير بالمأثور ما روي عن التابعين -وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي- لأنا وجدنا كتب التفسير بالمأثور: كتفسير ابن جرير وغيره، لم تقتصر على ذكر ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما روي عن أصحابه، بل ضمت إلى ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير. وعلى هذا، فمصادر التفسير بالمأثور أربعة: القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين. المصدر الأول: القرآن الكريم: يطلب تفسير القرآن العظيم أول ما يطلب من القرآن نفسه فحيثما ظفرنا بطلبنا في ذلك من القرآن لم يجز أن نعدل عنه إلى غيره بوجه من الوجوه؛ وذلك لأمور أربعة كلها من البدهيات المسلمة من كافة من يعتبرون من أهل الإيمان، بل من العقلاء. أحدها: أن صاحب البيت أدرى بالذي فيه، وأن خير من يفسر القول بالتالي هو قائله بنفسه. ثانيها: أن من المعلوم من الدِّين بالضرورة أن القرآن هو المصدر الأول والدعامة الرئيسية التي يقوم عليها بنيان شريعة الإسلام، بحيث لا يمكن أن يتم الإيمان بهذه الشريعة إلا بعد الأخذ بمحتوى هذا المصدر والإذعان لجميعه جملة وتفصيلاً. وثالثها: أن ذلك ولا ريب هو من جملة مقتضى الأوامر الإلهية الموجبة لطاعته تعالى فيما تنازعنا فيه فضلا عما اتفقنا عليه من أمثال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59). رابعها: كون القرآن كلام رب العالمين أفضل كل قول وأحسن كل حديث؛ فلا يعدل عن الأفضل ما أمكن إلى المفضول، وأنه معجزة بجملته وتفصيله بلفظه ومعناه، بهدفه وغايته إلى غير ذلك من عظيم خصائصه وكريم فضائله، فكيف يدعه العاقل إلى ما دونه في جميع ذلك؟! لجميع هذه الأسباب وغيرها رأينا أهل الحق لا يطلبون تفسير القرآن من غيره ما

المصدر الثاني: السنة المطهرة:

أتيحت لهم سبيل إلى نيل بغيتهم منه، ومما لا ريب فيه أن الناظر في كتاب اللَّه تعالى يجد فيه ألوانًا شتى من تفسير بعضه لبعض، فقد نرى ما أوجز منه في مكان قد بسط في مكان آخر كما ترى منه العام الذي جاء فيه تخصيصه، والمطلق الذي وقع فيه تقييده، والمجمل الذي حصل فيه بيانه، والمبهم الذي ذكر فيه تفسيره. هذا، وقد ذكرنا في الفصل الأول من هذه الدراسة نماذج لتفسير القرآن بالقرآن، وغيرها كثير يعلم بالتدبر في كتاب اللَّه. المصدر الثاني: السنة المطهرة: سبقت الإشارة إلى أنه إن لم يتهيأ ننا الظفر بالبغية في القرآن اتجهنا مباشرة -كما فعل السلف- إلى السنة الصالحة للحجية، أي: الثابتة بطريق صحيح أو حسن، لا يقدم في ذلك غيرها عليها بحال من الأحوال، انطلاقًا من المسلمات الأربع التي سبق أن ذكرناها. المصدر الثالث: أقوال الصحابة: إن أعيانا البيان من القرآن الكريم وثابت السنة المطهرة تطلبناه في أقوال الصحابة عليهم الرضوان، وقد أطلق الحاكم في المستدرك: أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي، له حكم المرفوع، فكأنه رواه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعزا هذا القول للشيخين حيث يقول في المستدرك: " ليعلم طالب الحديث أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل -عند الشيخين- حديث مسند ". ولكن قيد ابن الصلاح والنووي وغيرهما هذا الإطلاق بما يرجع إلى أسباب النزول، وما لا مجال للرأي فيه، قال ابن الصلاح في مقدمته: " ما قيل من أن تفسير الصحابي حديث مسند فإنما ذلك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية يخبر به الصحابي، أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا مدخل للرأي فيه؛ كقول جابر - رضي الله عنه -: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ. . .)، الآية، فأما سائر تفاسير الصحابة التي

لا تشتمل على إضافة شيء إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فمعدودة في الموقوفات ". والحق أن قول الصحابي يكون في حكم المرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا كان قوله فيما لا مجال للرأي فيه، ولم يكن قائله معروفًا بالأخذ عن بني إسرائيل، أو كان ولكن مرويه مما لا صلة له بما لدى بني إسرائيل، فالواجب أن نأخذ بهذا القول أخذنا بالمرفوع بلا أدنى فرق؛ انطلاقًا في ذلك من عين المسلمات الأربع التي ينطلق أهل الحق في أخذهم بالمرفوع منها. فإن لم يتوفر الثابت من مأثور الصحابة بأن اختل فيه الشرطان الآنفان أحدهما أو كلاهما، لم يخل أمر ذلك المأثور عندهم من إحدى أحوال أربع: أولاها: أن يعرف كونه محلاًّ لإجماع الصحابة وأنه لم يشذ عن القول به أحد منهم. الثانية: أن يعرف كونه مجالاً لاختلافهم اختلافًا تضل معه الفكرة، ولا يُهتدى فيه إلى الصواب في غالب الظن. الثالثة: أن يكون كسابقه ولكن مع تبين وجه الصواب منه وترجحه في غالب الظن. الرابعة: ألا يعرف فيه إجماع منهم ولا اختلاف، وإنما غاية الأمر فيه أنه أثر عن الواحد أو الاثنين مثلا دون أن يبلغنا عن أحد من الصحابة ما يخالفه أو ما يوافقه. فإن كانت الحال الأولى فيما ثبت من مأثور الصحابة، وجب عند القوم الأخذ بمقتضاه كسوابقه من الكتاب والسنة المرفوعة وما له حكم المرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أقوالهم في تفسير القرآن المجيد؛ لأجل الإجماع؛ انطلاقًا في ذلك من مسألتين اثنتين: أولاهما: ما اشتهر واستفيض عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من عصمة أمته -أي: في كل عصر من عصورها- من أن تجتمع على خطأ أو ضلالة. الثانية: أن الإجماع كما هو معلوم لابد أن يكون له مستند من الكتاب أو السنة الصالحة للحجية، فالأخذ بالمجمع عليه إذن هو أخذ في ذات الوقت بمستند الإجماع، وانطلاقًا من عين المسلمات المناسبة له، أعني: أنه إن كان مستند إجماع الصحابة هو الكتاب، فالأخذ بمقتضى إجماعهم حينئذ فوق كونه انطلاقًا من المسلمة السابقة هو في ذات الوقت

أخذ كذلك بمقتضى الكتاب وانطلاق من عين المسلمات الني أسلفنا لك عند القول فيه، وهكذا فقل في السنة على ما هو في غاية الظهور، فهذه هي الحال الأولى لما ليس له حكم المرفوع من مأثور الصحابة، عليهم الرضوان. وأما الحال الثانية لذلك وهي: أن يقع منهم الاختلاف فيه على وجه لا يتبين معه الصواب في قوله هذا أو ذاك، فإن أهل السنة لا يلتفتون إلى مأثور الصحابة في مثل هذه الحال؛ لعدم الجدوى بالكلية فيما لا يتبين وجه الصواب فيه كما هو جلي. وأما الحالان الباقيان لذلك بألا يصل اختلافهم فيه إلى خفاء وجه الصواب منه، أو يثبت عن أحدهم الأثر دون أن يعرف إجماع منهم عليه ولا اختلاف فيه - فإنه يترجح عند أهل السنة في هاتين الحالين الأخذ بمقتضى مأثور الصحابة في تفسيرهم؛ انطلاقًا منهم في ذلك -أيضًا- من مسلمات ثلاث: إحداها: أن هَؤُلَاءِ الصحابة ينبغي أن يكونوا خير الناس معرفة بهذا التنزيل المجيد من جهة أن أكثرهم عرب خلص؛ فينبغي التحاكم إليهم فيما هو بلسانهم عربي مبين غير ذي عوج. الثانية: أن أكثرهم كذلك حضروا الوحي، وشهدوا وقائع التنزيل فينبغي أن ينتهي الأمر إليهم فيما يمكن أن يكونوا قد حضروه، وشهدوا وقائعه. الثالثة: أن لهم فوق هذا كله من الفهم التام والعلم الصحيح ما ليس لسواهم، فهم أحق إذن أن يؤخذ بفهمهم وعلمهم. ومن هذا يتبين: أولاً: تفسير الصحابي له حكم المرفوع، إذا كان مما يرجع إلى أسباب النزول، وكل ما ليس للرأي فيه مجال، أما ما يكون للرأي فيه مجال، فهو موقوف عليه ما دام لم يسنده إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ثانيًا: ما حكم عليه بأنه من قبيل المرفوع لا يجوز رده اتفاقًا، بل يأخذه المفسر ولا يعدل عنه إلى غيره بأية حال. ثالثًا: ما حكم عليه بالوقف، تختلف فيه أنظار العلماء: فذهب فريق: إلى أن الموقوف على الصحابي من التفسير لا يجب الأخذ به؛ لأنه لما

لم يرفعه، علم أنه اجتهد فيه، والمجتهد يخطئ ويصيب، والصحابة في اجتهادهم كسائر المجتهدين. وذهب فريق آخر إلى أنه يجب الأخذ به والرجوع إليه؛ لظن سماعهم له من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولأنهم إن فسروا برأيهم فرأيهم أصوب؛ لأنهم أدرى الناس بكتاب اللَّه؛ إذ هم أهل اللسان، ولبركة الصحبة والتخلق بأخلاق النبوة، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة، وعبد اللَّه بن مسعود، وابن عَبَّاسٍ، وغيرهم. قال الزركشي في البرهان: " اعلم أن القرآن قسمان: قسم ورد تفسيره بالنقل، وقسم لم يرد، والأول: إما أن يرد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو الصحابة، أو رءوس التابعين، فالأول يبحث فيه عن صحة السند، والثاني ينظر في تفسير الصحابي: فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتماده، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه .... . وقال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره: " إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بذلك؛ لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، ولاسيما علماؤهم وكبراؤهم: كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين، وعبد اللَّه بن مسعود، رضي اللَّه عنهم ". المصدر الرابع: قول التابعي: اختلف العلماء في تفسير التابعي: فذهب بعض العلماء إلى أنه من المأثور؛ لأنه تلقاه من الصحابة غالبًا. ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي، أي: له حكم بقية المفسرين الذين فسروا حسب قواعد اللغة العربية دون التزام بالمأثور. والخلاصة في هذا الخلاف: أنه إن ثبت عن التابعين فيه -أي التفسير- شيء: فإن

أجمعوا عليه أخذوا به؛ لأجل الإجماع: انطلاقًا في ذلك من عين المسلمتين اللتين ذكرناهما بالنسبة لإجماع الصحابة بل قل ذلك بالنسبة لكل إجماع أيضًا. فإن لم يكن إجماع فإنه ينظر: فإن توفر في قول أحدهم شرطان: أحدهما: أن يكون له حكم المرفوع المرسل بأن كان فيما ليس للرأي فيه مجال، ولم يكن قائله كذلك معروفًا بالأخذ عن الإسرائيليات. وثانيهما: أن يكون إمامًا من أئمة التفسير الآخذين لتفسيرهم عن الصحابة: كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، أو يتأيد قوله بمرسل آخر مثلهم أو نحو ذلك. نقول: إن توفر في قول التابعي هذان الشرطان يترجح عند القوم الأخذ به. وقد ذهب أكثر المفسرين: إلى أنه يؤخذ بقول التابعي في التفسير؛ لأن التابعين تلقوا غالب تفسيراتهم عن الصحابة، فمجاهد مثلا يقول: عرضت المصحف على ابن عَبَّاسٍ ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. وقتادة يقول: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئًا. ولذا حكى أكثر المفسرين أقوال التابعين في كتبهم ونقلوها عنهم مع اعتمادهم لها. والذي تميل إليه النفس: هو أن قول التابعي في التفسير لا يجب الأخذ به إلا إذا كان مما لا مجال للرأي فيه، فإنه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة، فإن ارتبنا فيه؛ بأن كان يأخذ من أهل الكتاب، فلنا أن نترك قوله ولا نعتمد عليه، أما إذا أجمع التابعون على رأي فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره. قال ابن تيمية: قال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني: أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك. هذا هو الأصل في التفسير بالمأثور، وما تحرر منه سبعة أمور: أولها: ما كان تفسيرًا للقرآن بالقرآن.

ثانيها: ما كان تفسيرًا للقرآن بالسنة الصالحة للحجية. ثالثها: ما كان تفسيرًا بما له حكم المرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أقوال الصحابة، عليهم الرضوان. رابعًا: ما كان تفسيرًا للقرآن بما أجمع عليه الصحابة أو التابعون. وهذه الألوان الأربعة من التفسير يجب عند أهل الحق أخذها والتعويل عليها على هذا الترتيب، الذي وقفناك عليه، لكن بشرط ألا يتعارض أي منها تعارضًا حقيقيًّا يتعذر فيه الجمع مع المعقول القطعي، فإن وقع مثل ذلك التعارض وجب تأويل المنقول وطرح ظاهره لأجل المعقول في جميع هذه الألوان. خامسها: ما اختلف فيه الصحابة اختلافًا لا يخفى معه وجه الصواب. سادسها: ما لم يعرف فيه من مأثور الصحابة كذلك إجماع ولا اختلاف. سابعها: ما كان له حكم المرفوع المرسل من مأثور التابعين، واعتضد مع ذلك بمرسل آخر أو نحوه من شاهد أو تابع، أو تحقق في قائله شرط الإمامة والأخذ لأغلب تفسيره عن الصحابة. وهذه الثلاثة الأخيرة يترجح عند القوم الأخذ بها في التفسير ترجحًا فحسب، لكن يشترط ألا تتعارض مع معقول ولو ظنيًّا، وإلا طرحت بالكلية، أو طرحت ظواهرها على أقل تقدير لأجل المعقول أيضًا. هذا: وقد تدرج التفسير بالمأثور في دورين: دور الرواية، ودور التدوين. أما في دور الرواية، فإن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين لأصحابه ما أشكل عليهم من معاني القرآن، فكان هذا القدر من التفسير يتناوله الصحابة بالرواية بعضهم لبعض، ولمن جاء بعدهم من التابعين. ثم وجد من الصحابة من تكلم في تفسير القرآن بما ثبت لديه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو بمحض رأيه واجتهاده، وكان ذلك على قلة يرجع السبب فيها إلى الروعة الدِّينية التي كانت لهذا العهد، والمستوى العقلي الرفيع لأهله، وتحدد حاجات حياتهم العملية، ثم شعورهم مع هذا بأن التفسير شهادة على اللَّه بأنه عنى باللفظ كذا. ثم وجد من التابعين من تصدى للتفسير، فروى ما تجمع لديه من ذلك عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

وعن الصحابة، وزاد على ذلك من القول بالرأي والاجتهاد، بمقدار ما زاد من الغموض الذي كان يتزايد كلما بعد الناس عن عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والصحابة. ثم جاءت الطبقة التي تلي التابعين وروت عنهم ما قالوا، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من غموض. . . وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة، وتروي الطبقة التالية ما كان عند الطبقات التي سبقتها، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق. ثم ابتدأ دور التدوين -وهو ما يعنينا في هذا البحث- فكان أول ما دون في التفسير، هو التفسير بالمأثور، على تدرج في التدوين كذلك، فكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن الأول في هذا، وقد رأينا أصحاب مبادئ العلوم حين ينسبون -على عادتهم- وضع كل علم لشخص بعينه، يعدون واضع التفسير -بمعنى جامعه لا مدونه- الإمام مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة. وكان التفسير إلى هذا الوقت لم يتخذ له شكلاً منظمًا، ولم يفرد بالتدوين، بل كان يكتب على أنه باب من أبواب الحديث المختلفة، يجمعون فيه ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن الصحابة والتابعين. ثم بعد ذلك انفصل التفسير عن الحديث، وأفرد بتآليف خاصة؛ فكان أول ما عرف لنا من ذلك تلك الصحيفة التي رواها علي بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ، ثم وجد بعد ذلك جزء أو أجزاء دونت في التفسير خاصة، مثل ذلك الجزء المنسوب لأبي روق، وتلك الأجزاء الثلاثة التي يرويها مُحَمَّد بن ثور عن ابن جريج. ثم وجدت بعد ذلك موسوعات من الكتب المؤلفة في التفسير، جمعت كل ما وقع لأصحابها من التفسير المروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وتابعيهم: كتفسير ابن جرير الطبري، ويلاحظ أن ابن جرير ومن على شاكلته -وإن نقلوا تفاسيرهم بالإسناد- توسعوا في النقل وأكثروا منه، حتى استفاض وشمل ما ليس موثوقًا به. كما يلاحظ أنه كان لا يزال موجودًا إلى ما بعد عصر ابن جرير ومن على شاكلته -ممن أفردوا التفسير بالتأليف- رجال من المحدثين بوبوا للتفسير بابًا ضمن أبواب ما جمعوا من الأحاديث. ثم وجد بعد هذا أقوام دونوا التفسير بالمأثور بدون أن يذكروا أسانيدهم في ذلك، وأكثروا من نقل الأقوال في تفاسيرهم بدون تفرقة بين الصحيح والعليل؛ مما جعل الناظر في هذه الكتب لا يركن لما جاء فيها؛ لجواز أن يكون من قبيل الموضوع المختلق، وهو

أسباب ضعف الرواية بالمأثور:

كثير في التفسير. ومن المعلوم أن الشخص الذي يفسر نصًّا من النصوص، يتلون هذا النص بتفسيره إياه، وينطبع بطابعه الخاص، وفق قدرته الفكرية، وسعة اطلاعه وأفقه العقلي غير أن هذا الطابع الشخصي الذي يطبع به التفسير، إن ظهر جليًّا واضحًا في كتب التفسير بالرأي، فإنا لا نكاد نجده لأول وهلة على هذا النحو من الوضوح والجلاء بالنسبة لكتب التفسير بالمأثور. أسباب ضعف الرواية بالمأثور: ذكرنا فيما تقدم أن تفسير بعض القرآن ببعض، وتفسير القرآن بالسنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لاشك في قبوله، ولا خلاف في أنه من أعلى مراتب التفسير. وأما تفسير القرآن بالمأثور عن الصحابة والتابعين فإنه يتطرق إليه الضعف من وجوه: أولها: ما دسَّه أعداء الإسلام مثل زنادقة اليهود والفرس، فقد أرادوا هدم هذا الدِّين المتين عن طريق الدس والوضع، حينما أعيتهم الحيل في النيل منه عن طريق الحرب والقوة، وعن طريق الدليل والحجة. ثانيها: ما لفقه أصحاب المذاهب المتطرفة ترويجًا لتطرفهم: كشيعة علي المتطرفين الذين نسبوا إليه ما هو منه بريء، ومثل أُولَئِكَ المتزلفين للعباسيين فنسبوا إلى ابن عَبَّاسٍ ما لم تصح نسبته إليه، تملقا واستدرارا لدنياهم. ثالثها: اختلاط الصحيح بغير الصحيح، ونقل كثير من الأقوال المعزوة إلى الصحابة أو التابعين من غير إسناد ولا تحر؛ مما أدى إلى التباس الحق بالباطل. زد على ذلك أن هناك من يرى رأيًا يعتمده دون أن يذكر له سندًا، ثم يجيء من بعده فينقله على اعتبار أن له أصلاً، ولا يكلف نفسه البحث عن أصل الرواية، ولا من يرجع إليه القول. رابعها: أن تلك الروايات مليئة بالإسرائيليات، ومنها كثير من الخرافات التي تصادم العقيدة الإسلامية، والتي قام الدليل على بطلانها، وهي مما دخل على المسلمين من أهل الكتاب.

وكلمة الإنصاف في التفسير بالمأثور أنه نوعان: أحدهما: ما توافرت الأدلة على صحته وقبوله، وهذا لا يليق بأحد رده، ولا يجوز إهماله وإغفاله، ولا يجمل أن نعتبره من الصوارف عن هدْي القرآن، بل هو على العكس عامل من أقوى العوامل على الاهتداء بالقرآن. ثانيهما: ما لم يصح لسبب من الأسباب الآنفة أو غيرها، وهذا يجب رده، ولا يجوز قبوله ولا الاشتغال به، اللهم إلا لتمحيصه والتنبيه على ضلاله وخطئه، حتى لا يغتر به أحد. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى أهم كتب التفسير بالمأثور، فقد دونت مؤلفات كثيرة تفسر القرآن بالمأثور، منها: تفسير الطبري، وتفسير أبي الليث السمرقندي، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، وتفسير ابن كثير، وتفسير البغوي، وغيرها. * * *

2 - منهج التفسير بالرأي

2 - منهج التفسير بالرأي بعد أن تحدثنا عن منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور وضوابطه، ننتقل إلى منهج تفسير القرآن الكريم بالرأي (الاجتهاد) أو التفسير بالمعقول. وقد عرف الدكتور الذهبي التفسير بالرأي فقال: يطلق الرأي على الاعتقاد، وعلى الاجتهاد، وعلى القياس، ومنه أصحاب الرأي، أي: أصحاب القياس. والمراد بالرأي هنا الاجتهاد، وعليه فالتفسير بالرأي: عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ووقوفه على أسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسر. والناظر في هذا التعريف يجده -على حد قول المناطقة- غير جامع، وغير مانع؛ ذلك أن التفسير بالرأي أوسع دائرة مما ذكر الدكتور الذهبي؛ إذ هو قسمان: محمود ومذموم، وهو ذكر المحمود دون المذموم. ومن ثم فإن تعريف التفسير بالرأي هو تفسير القرآن الكريم بمطلق الاجتهاد، سواء توافر لهذا الاجتهاد شرطه أم لا، أو أن يكون مصحوبا بحسن قصد أم لا، إلى آخر ما هنالك من الاحتمالات التي تعتور الاجتهاد. موقف العلماء من التفسير بالرأي: اتفق العلماء المخلصون على أن تفسير القرآن بالرأي المذموم ممتنع وحرام، بل كفر صريح إن تعمد فاعله سوء القصد؛ لأنه كذب متعمد على اللَّه تعالى وحكم عليه بما يعلم صاحبه أنه خلاف مراده تعالى، ولا نحسب أن أحدًا من أهل الإسلام يمكن أن يمتري في هذه القضية. وإنما وقع الخلاف بين العلماء في أنه: هل كل تفسير للقرآن بالرأي يعتبر مذمومًا، وإن بلغ صاحبه من حسن القصد ورسوخ القدم في الاجتهاد وعلو المرتبة في العلم ما بلغ، أو أن بعض ذلك محمود وبعضه مذموم؟ ذكر الدكتور الذهبي الخلاف فقال: اختلف العلماء من قديم الزمان في جواز تفسير

القرآن بالرأي، ووقف المفسرون بإزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين: فقوم تشددوا في ذلك فلم يجرءوا على تفسير شيء من القرآن، ولم يبيحوه لغيرهم، وقالوا: لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن وإن كان عالمًا أديبًا متسعًا في معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار، وإنما له أن ينتهي إلى ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة - رضي اللَّه عنهم -، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين. وقوم كان موقفهم على العكس من ذلك، فلم يروا بأسًا من أن يفسروا القرآن باجتهادهم، ورأوا أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسر القرآن برأيه واجتهاده. ثم يقول: " ولو رجعنا إلى هَؤُلَاءِ المتشددين في التفسير، وعرفنا سر تشددهم فيه، ثم رجعنا إلى هَؤُلَاءِ المجوزين للتفسير بالرأي، ووقفنا على ما شرطوه من شروط لابد منها لمن يتكلم في التفسير برأيه وحللنا أدلة الفريقين تحليلاً دقيقا - يظهر لنا أن الخلاف لفظي لا حقيقي. ولبيان ذلك ينقل عن القاسمي قوله: الرأي ضربان: أحدهما: جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما؛ لأمور: أحدها: أن الكتاب لابد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم، فأما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها، فذلك غير ممكن؛ فلابد من القول فيه بما يليق. والثاني: أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مبينا ذلك كله بالتوقيف. فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول، والمعلوم أنه - عليه السلام - لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه، بل بين منه ما لا يتوصل إلى علمه إلا به، وترك كثيرًا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف. والثالث؛ أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه، والتوقيف ينافي هذا فإطلاق القول

بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح. والرابع: أن هذا الفرض لا يمكن؛ لأن النظر في القرآن من جهتين: من جهة الأمور الشرعية، فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلاً. ومن جهة المآخذ العربية، وهذا لا يمكن فيه التوقيف، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين، وهو باطل فاللازم عنه مثله. وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة الشرعية، فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال، كما كان مذموما في القياس -أيضًا- لأنه تقول على الله بغير برهان؛ فيرجع إلى الكذب على اللَّه تعالى، وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء؛ كما روي عن ابن مسعود: ستجدون أقوامًا يدعونكم إلى كتاب اللَّه وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم التبدع، وإياكم التنطع وعليكم بالعتيق. وعن عمر بن الخطاب: إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول القرآن على غيره تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه. وعن عمر -أيضًا-: ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله. وليس الأمر على ما ذهب إليه الدكتور الذهبي ومن وافقه، فالخلاف على حقيقته؛ ذلك أن ما ذكره القاسمي يتجه إلى قسمين متضادين من الرأي: قسم محمود، وهو الجاري على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة، وقسم مذموم وهو غير الجاري على موافقة كلام العربية وغير الجاري على الأدلة الشرعية. فهذا الرأي المذموم من غير إشكال ممنوع ومحرم. وإنما وقع الخلاف بين أهل العلم في النوع الأول المحمود. ويعضد هذا ما ساقه أحد الباحثين من أمور أربعة: أحدها: أن مسألة الرأي الفاسد المبني على الهوى والتشهي والفاقد لتحقق شرط الاجتهاد وتوفر ملكاته مما يعلم لكل أحد بالضرورة -ولو كان من أصاغر عوام المسلمين

فضلاً عن أكابر خواصهم وعلمائهم- ضرورة امتناعه فيبعد جدَّا بل لا يكاد يتصور أن ينفرد المانعون فيما نحن بصدده هنا بإقامة الأدلة على امتناع هذا الرأي المذموم. وكذلك يبعد أن يخفى أمر ذلك على المجيزين حتى يشتغلوا بنقض أدلة هَؤُلَاءِ ثم معارضتها بما يثبت نقيضها على ما سترى إن شاء اللَّه تعالى، كيف والكل يشتركون ويتفقون على امتناع الرأي المذموم كما قلنا. ثانيها: أنا لا ندري كيف ظهر للدكتور الذهبي ما خفي على كافة فحول العلماء من قبله حتى عدوا الخلاف بين الفريقين حقيقيًّا وأوردوه جميعا في كتبهم على هذا النحو واشتغلوا ببيان وجه الحق فيه. ثالثها: أن عبارة المانعين للتفسير بالرأي صريحة أبين صراحة في قصد كل تفسير بالرأي، ناصة في جلاء لا يعتوره أدنى شائبة من غموض أو التواء على أنه حتى لو بلغ صاحب الرأي ما بلغ من علم واجتهاد وسعة أدب إلى آخر ذلك، فليس له أن يفسر القرآن برأيه وإنما عليه أن يقتصر على المأثور فحسب. رابعها: أن كلًّا من أدلة المانعين وردود المجيزين على هذه الأدلة ظاهرة أتم ظهور في أن قصد المانعين إنما هو التعميم لكل رأي، وأن قصد المجيزين هو إبطال ذلك التعميم بإثبات التخصص على حد ما هو معلوم لدى المناطقة وأهل آداب البحث والمناظرة عن كون مناقصة السلب الكلي هي بالإيجاب الجزئي كذلك فكيف كان يصلح من هَؤُلَاءِ المانعين هذا التعميم لو أن قصدهم بالفعل هو إرادة التخصيص بالرأي الفاسد. ويهمنا في هذا المقام دون خوض في عرض الخلاف بين المانعين والمجوزين أن نؤكد على ضعف القول بمنع تفسير القرآن بالرأي على الإطلاق، وأن ما ساقه أصحاب هذا القول لتعضيد قولهم ما هو إلا شبهات أشبه بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الحق عنده يدحض هذه الشبهات، ويكشف وجه الحق في المسألة، وهو أن تفسير القرآن بالرأي جائز بشروطه الضابطة. فهناك أمور -ذكرها الزركشي- يجب استناد المفسر بالرأي إليها، فقال: " للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة: الأولى: النقل عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع التحرز عن الضعيف والموضوع.

الثانية: الأخذ بقول الصحابي، فقد قيل: إنه في حكم المرفوع مطلقًا، وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه. الثالثة: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب. الرابعة: الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع. وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لابن عَبَّاسٍ في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم فقهه في الدِّين وعلمه التأويل ". فمن فسر القرآن برأيه، أي: باجتهاده، ملتزمًا الوقوف عند هذه المآخذ معتمدًا عليها فيما يرى من معاني كتاب اللَّه، كان تفسيره سائغًا جائزًا خليقًا بأن يسمى التفسير الجائز أو التفسير المحمود، ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها، كان تفسيره ساقطًا مرذولاً خليقًا بأن يسمى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم ". ثم إن هناك أمورًا أخرى فصل فيها القول الإمام السيوطي يجب أن يفعلها المفسر بالرأي، وأمورًا أخرى عليه أن يدعها، فقد قال السيوطي: قال العلماء: يجب على المفسر أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر وأن يتحرز في ذلك من نقص عما يحتاج إليه في إيضاح المعنى أو زيادة لا تليق بالغرض، ومن كون المفسر فيه زيغ عن المعنى وعدول عن طريقه. وعليه مراعاة المعنى الحقيقي والمجازي ومراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام وأن يؤاخي بين المفردات. ويجب عليه البداءة بالعلوم اللفظية، وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة فيتكلم عليها من جهة اللغة ثم التصريف ثم الاشتقاق، ثم يتكلم عليها بحسب التركيب فيبدأ بالإعراب ثم بما يليق بالمعاني ثم البيان ثم البديع ثم يبين المعنى المراد ثم الاستنباط ثم الإشارات. وقال الزركشي في أوائل البرهان: قد جرت عادة المفسرين أن يبدءوا بذكر أسباب النزول ووقع البحث في أنه أيهما أولى بالبداءة به بتقدم السبب على المسبب أو المناسبة؛ لأنها المصححة لنظم الكلام وهي سابقة على النزول.

قال: والتحقيق التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفًا على سبب النزول كآية (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا). فهذا ينبغي فيه تقديم ذكر السبب؛ لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد، وإن لم يتوقف على ذلك فالأولى تقديم المناسبة. وقال في موضع آخر: جرت عادة المفسرين ممن ذكر فضائل القرآن أن يذكرها في أول كل سورة؛ لما فيها من الترغيب والحث على حفظها، إلا الزمخشري فإنه يذكرها في أواخرها. قال مجد الأئمة عبد الرحيم بن عمر الكرماني: سألت الزمخشري عن العلة في ذلك فقال: لأنها صفات لها والصفة تستدعي تقديم الموصوف، وكثيرا ما يقع في كتب التفسير " حكى اللَّه كذا " فينبغي تجنبه. قال الإمام أبو نصر القشيري في المرشد: قال معظم أئمتنا: لا يقال: " كلام الله محكي " ولا يقال: " حكى اللَّه "؛ لأن الحكاية الإتيان بمثل الشيء وليس لكلامه مثل. وتساهل قوم فأطلقوا لفظ الحكاية بمعنى الإخبار، وكثيرًا ما يقع في كلامهم إطلاق الزائد على بعض الحروف، وعلى المفسر أن يتجنب ادعاء التكرار ما أمكنه. قَالَ بَعْضُهُمْ: مما يدفع توهم التكرار في عطف المترادفين؛ نحو: (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ) (صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)، وأشباه ذلك - أن يعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا يوجد عند انفراد أحدهما فإن التركيب يحدث معنى زائدًا، وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك. انتهى. وقال الزركشي في البرهان: ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز. وقال في موضع آخر: على المفسر مراعاة مجازي الاستعمالات في الألفاظ التي يظن بها الترادف والقطع بعدم الترادف ما أمكن؛ فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد؛ ولهذا منع كثير من الأصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد. انتهى. وقال أبو حيان: كثيرًا ما يشحن المفسرون تفاسيرهم عند ذكر الإعراب بعلل النحو ودلائل مسائل أصول الفقه ودلائل مسائل الفقه ودلائل أصول الدِّين وكل ذلك مقرر في تآليف هذه العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مسلما في علم التفسير دون استدلال عليه.

وكذلك -أيضًا- ذكروا ما لا يصح من أسباب نزول وأحاديث في الفضائل وحكايات لا تناسب بينها وتواريخ إسرائيلية، ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير. " وقال السيوطي في موضع آخر: وقال ابن النقيب: جملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي خمسة أقوال: أحدها: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير. الثاني: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا اللَّه. الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تابعًا فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفًا. الرابع: التفسير بأن مراد اللَّه كذا على القطع من غير دليل. الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى. ثم قال: واعلم أن علوم القرآن ثلاثة أقسام: الأول: علم لم يطلع اللَّه عليه أحدًا من خلقه، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه بوجه من الوجوه إجماعًا. الثاني: ما أطلع اللَّه عليه نبيه من أسرار الكتاب واختصه به، وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو لمن أذن له، قال: وأوائل السور من هذا القسم، وقيل: من القسم الأول. الثالث: علوم علمها اللَّه نبيه مما أودع كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها، وهذا ينقسم إلى قسمين: منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع، وهو أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات واللغات وقصص الأمم الماضية وأخبار ما هو كائن من الحوادث وأمور الحشر والميعاد. ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال والاستنباط والاستخراج من الألفاظ وهو قسمان: قسم اختلفوا في جوازه، وهو تأويل الآيات المتشابهات في الصفات. وقسم اتفقوا عليه، وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية؛ لأن مبناها على الأقيسة. وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ والحكم والإشارات لا يمتنع استنباطها منه

واستخراجها لمن له أهلية. ويمكن أن نستخلص من هذين النصين عدة أمور هي: أولًا: مطابقة التفسير للمفسر مطابقة تامة، بحيث لا يقع له نقص من معناه ومقاصده، ولا زيادة عليه بما ليس له به تعلق وثيق. ثانيًا: حمل الكلام على ما يتعين أو يترجح على أقل تقدير أنه المعنى المراد منه حقيقيًّا كان ذلك المشي أو مجازيًّا، في التركيب كان المجاز أو في المفردات. ثالثًا: مراعاة سياق الكلام -سوابقه ولواحقه- بحيث تتآخى وتترابط كافة أجزائه، ويأخذ أوله بحجزه، وفي ذلك لابد من تجلية المناسبات بين الآيات، بل بين السور كذلك. رابعًا: تجلية سبب النزول، وعقد الصلة الوثيقة بينه وبين المنزل. خامسًا: تحقيق القول أولاً في بيان كل ما يتعلق بمفردات النظم الكريم، ثم الإتيان بعد ذلك على كل ما تحتاج إليه التراكيب من العلوم المختلفة ذات العلاقة بالنص. سادسًا: يجب على المفسر اجتناب الهجوم على التفسير من غير أخذ الأهبة له بكافة ما يلزمه من الصفات والعلوم. سابعًا: اجتناب الخوض في بيان ما استأثر اللَّه بعلمه. ثامنًا: اجتناب الهوى والقول في القرآن بمجرد الاستحسان من غير برهان. تاسعًا: عدم القطع بأن مراد اللَّه من النص كذا من غير دليل يستوجب مثل هذا القطع. هذا، ويحتاج المفسر بالرأي إلى خمسة عشر علمًا عددها السيوطي في مجموعات هي: المجموعة الأولى: علوم اللغة وما يتعلق بالنحو والصرف والاشتقاق، وهو ضروري للمفسر؛ إذ كيف يمكن فهم الآية بدون معرفة المفردات والتراكيب، وهل باستطاعة أحد أن يفسر قوله تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بدون أن يعرف المعنى اللغوي للإيلاء والتربص والفيء؟ ولهذا قال الإمام مالك: " لا أوتي برجل غير عالم بلغة العرب، يفسر كتاب اللَّه إلا

جعلته نكالاً ". فعلم النحو ضروري للمفسر؛ لأن المعنى يتغير بتغير الحركات تغيرًا كبيرًا. وعلم الصرف والاشتقاق ضروريان -أيضًا- للمفسر؛ حتى لا يخبط الإنسان خبط عشواء. المجموعة الثانية: علوم البلاغة " المعاني -البيان- البديع " وهي ضرورية لمن أراد تفسير الكتاب العزيز؛ لأنه لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وذلك لا يدرك إلا بهذه العلوم. المجموعة الثالثة: أصول الفقه، وأسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة علم القراءات، وهي كلها مما يحتاج إليه المفسر بالرأي؛ حتى لا يخطئ الفهم، ولا تزل قدمه بسبب الجهل بهذه الأمور الضرورية. وأخيرًا: علم الموهبة، ويقصد به العلم اللدني الرباني (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) الذي يورثه اللَّه تعالى لمن عمل بما علم، ويفتح قلبه لفهم أسراره، قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)، فهو ثمرة التقوى والإخلاص، ولا ينال هذا العلم من كان في قلبه بدعة أو كبر أو حب للدنيا أو ميل إلى المعاصي، قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ). وما أجمل قول الشافعي رحمه اللَّه: شكوت إلي وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ... ونور اللَّه لا يهدي لعاصي قال السيوطي: " ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول: هذا شيء ليس من قدرة الإنسان، وليس كما ظننت من الإشكال، والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد. ثم قال: " علوم القرآن وما يستنبط منه بحر ولا ساحل له، فهذه العلوم التي ذكرناها هي كالآلة للمفسر، ولا يكون مفسرًا إلا بتحصيلها، فمن فسر بدونها كان مفسرًا بالرأي المنهي عنه ".

منهج المفسرين بالرأي: قسم الشيخ مُحَمَّد عبده التفسير إلى مرتبتين: مرتبة عليا، ومرتبة دنيا. ومن حاول المرتبة العليا من مراتب التفسير بالرأي، فعليه أن يأخذ حذره، وأن يتذرع بكل العلوم التي أشرنا إليها؛ ليكون قد أصاب المراد أو كاد، ووجب عليه أن ينهج الصواب والسداد باتباع ما يأتي: أولا: أن يطلب المعنى من القرآن، فإن لم يجده طلبه من السنة؛ لأنها شارحة للقرآن، فإن أعياه الطلب رجع إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بالتنزيل وظروفه وأسباب نزوله، فوق ما امتازوا به من الفهم التام والعلم الصحيح، والعمل الصالح، فإن عجز عن هذا كله ولم يظفر بشيء من تلك المراجع الأولى للتفسير، فيتبع طريق الاجتهاد والرأي. ثانيًا: اتباع طريق الاجتهاد والعقل باتباع الخطوات الآتية: الأولى: فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعت في القرآن عن طريق استعمالات أهل اللغة من نحو وصرف واشتقاق، مع ملاحظة المعاني التي كانت مستعملة زمن نزول القرآن. الثانية: إرداف ذلك بالكلام عن التراكيب من جهة الإعراب والبلاغة، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته مع التفطن لنكته ومحاسنه. الثالثة: تقديم المعنى الحقيقي على المعنى المجازي؛ بحيث لا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة. الرابعة: مراعاة التناسب بين الآيات، فيبين وجه المناسبة، ويربط بين السابق واللاحق من آيات القرآن، حتى يوضح أن القرآن لا تفكك فيه، وإنما هو آيات يأخذ بعضها برقاب بعض. الخامسة: ملاحظة أسباب النزول، فإن لسبب النزول دورًا كبيرًا في بيان المعنى المراد. السادسة: مراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام. السابعة: مراعاة مطابقة التفسير للمفسر من غير نقص ولا زيادة. الثامنة: مطابقة التفسير لما هو معروف من علوم الكون، وعلم أحوال البشر، واختلاف أحوالهم: من ضعف وقوة، وعز وذل، وإيمان وكفر.

التاسعة: مطابقة التفسير لما كان عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في هديه وسيرته؛ لأنه هو الشارح المعصوم للقرآن بسنته الجامعة لأقواله وأفعاله وشمائله وتقريراته. العاشرة: رعاية قانون الترجيح والاحتمال، وذلك أن اللفظ قد يحتمل معنيين فصاعدا، فماذا يكون العمل؟ نقل السيوطي عن الزركشي في هذه المسألة قولا من أجمع الأقوال، فقال: " قال الزركشي - رحمه اللَّه -: كل لفظ احتمل معنيين فصاعدا هو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي، فإن كان أحد المعنيين أظهر، وجب الحمل عليه، إلا أن يقوم الدليل على أن المراد هو الخفي. وإن استويا، والاستعمال فيهما حقيقة، لكن في أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية، وفي الآخر شرعية، فالحمل على الشرعية أولى، إلا أن يدل دليل على إرادة اللغوية، كما في: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). ولو كانت في أحدهما عرفية، والآخر لغوية، فالحمل على العرفية أولى. وإن اتفقا في ذلك -أيضًا-: فإن تنافى اجتماعهما ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد: كالقرء للحيض والطهر، اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فما ظنه فهو مراد اللَّه تعالى في حقه، وإن لم يظهر له شيء فهل يتخير في الحمل على أيهما شاء؟ أو يأخذ بالأغلظ حكمًا؟ أو بالأخف؟ أقوال. وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة، إلا إن دل دليل على إرادة أحدهما ". ونستجلي الأمر بوضوح أكثر عند الرجوع إلى نص الزركشي الأصلي، ففي بيانه - رحمه اللَّه - لأقسام التفسير، وأنها أربعة أقسام، قال في القسم الرابع: والرابع: ما يرجع إلى اجتهاد العلماء وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل، وهو صرف اللفظ إلى ما يئول إليه، فالمفسر ناقل والمؤول، مستنبط وذلك استنباط الأحكام

وبيان المجمل وتخصيص العموم. وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدًا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه، وعلى ما تقدم بيانه فكل لفظ احتمل معنيين، فهو قسمان: أحدهما: أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، فيجب الحمل على الظاهر، إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه. الثاني: أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة، وهذا على ضربين: أحدهما: أن تختلف أصل الحقيقة فيهما فيدور اللفظ بين معنيين، هو في أحدهما حقيقة لغوية وفي الآخر حقيقة شرعية، فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينة علم إرادة اللغوية؛ نحو قوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية، فالعرفية أولى لطريانها على اللغة، ولو دار بين الشرعية والعرفية، فالشرعية أولى؛ لأن الشرع ألزم. الضرب الثاني: لا تختلف أصل الحقيقة، بل كلا المعنيين استعملا فيهما في اللغة أو في الشرع أو العرف على حد سواء، وهذا -أيضًا- على ضربين: أحدهما: أن يتنافيا اجتماعًا، ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء، حقيقة في الحيض والطهر، فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فإذا وصل إليه كان هو مراد اللَّه في حقه، وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد اللَّه تعالى في حقه؛ لأنه نتيجة اجتهاده، وما كلف به فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم، فمنهم من قال: يخير في الحمل على أيهما شاء ومنهم من قال: يأخذ بأعظمهما حكمًا ولا يبعد اطراد وجه ثالث، وهو أن يأخذ بالأخف كاختلاف جواب المفتين. الضرب الثاني: ألا يتنافيا اجتماعًا، فيجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة وأحفظ في حق المكلف إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما، وهذا -أيضًا- ضربان: أحدهما: أن تكون دلالته مقتضية لبطلان المعنى الآخر؛ فيتعين المدلول عليه للإرادة. الثاني: ألا تقتضي بطلانه، وهذا اختلف العلماء فيه.

فمنهم من قال: يثبت حكم المدلول عليه ويكون مرادًا ولا يحكم بسقوط المعنى الآخر، بل يجوز أن يكون مرادًا -أيضًا- وإن لم يدل عليه دليل من خارج؛ لأن موجب اللفظ عليهما فاستويا في حكمه، وإن ترجح أحدهها بدليل من خارج. ومنهم من قال: ما ترجح بدليل من خارج أثبت حكمًا من الآخر لقوته بمظاهرة الدليل الآخر. فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ. المحتمل، واللَّه أعلم. إذا تقرر ذلك فينزل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار " على قسمين من هذه الأربعة: أحدهما: تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب. الثاني: حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم: علم العربية واللغة والتبحر فيها، ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء، وصيغ الأمر والنهي والخبر والمجمل والمبين والمؤول والحقيقة والمجاز والصريح والكناية والمطلق والمقيد، ومن علوم الفروع ما يدرك به استنباطًا، والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه، ومع ذلك فهو على خطر فعليه أن يقول: يحتمل كذا، ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به فأدى اجتهاده إليه، فيحرم خلافه مع تجويز خلافه عند اللَّه. وهذا القانون له نظائر أخرى غير ما ذكر الزركشي، منها: أولًا: يجب حمل اللفظ إذا دار بين كونه حقيقة أو مجازًا مع الاحتمال على حقيقته. ثانيًا: إذا دار الأمر في اللفظ بين جريانه على عمومه أو تخصيصه، فإنه يحمل على عمومه؛ لأن الأصل بقاء العموم. ثالثًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون مشتركًا أو مفردًا فإنه يحمل على إفراده؛ كالنكاح فإنه مشترك بين الوطء وسببه الذي هو العقد فيحمل على الوطء دون العقد أو على العقد دون الوطء لا على الاشتراك.

رابعًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون مضمرًا أو مستقلاً فإنه يحمل على استقلاله وهو عدم التقدير. خامسًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون مقيدًا أو مطلقًا فإنه يحمل على إطلاقه. سادسًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون زائدًا أو متأصلاً فإنه يحمل على تأصيله. سابعًا: إذا دار الأمر بين أن يكون اللفظ مؤخرًا أو مقدمًا فإنه يحمل على تقديمه. ثامنًا: إذا دار اللفظ بين أن يكون مؤكدًا أو مؤسسًا فإنه يحمل على تأسيسه. . . وهكذا. وبالجملة فإن على من فسر القرآن برأيه لكي يكون تفسيره محمودًا أن يتقن هذا القانون أيما إتقان، وبقدر ما يقع له من الانحراف عنه بقدر ما يكون تفسيره دخيلاً، والمعصوم من عصم اللَّه. ويبقى أن نشير إلى بعض كتب التفسير بالرأي، وهي: تفسير الجلالين، وتفسير البيضاوي، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير أبي السعود، وتفسير النيسابوري، وتفسير الآلوسي، وتفسير الخطيب، وتفسير الخازن. * * *

3 - منهج التفسير الإشاري

3 - منهج التفسير الإشاري يقصد بالتفسير الإشاري: تأويل القرآن على خلاف ظاهره؛ لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم، أو تظهر للعارفين باللَّه من أرباب، السلوك والمجاهدة للنفس، ممن نور اللَّه بصائرهم فأدركوا أسرار القرآن العظيم، وانقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة بواسطة الإلهام الإلهي أو الفتح الرباني، مع إمكان الجمع بينها وبين الظاهر المراد من الآيات الكريمة. وقد وقع خلاف بين العلماء حول التفسير الإشاري: فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، ومنهم من عده من كمال الإيمان، ومحض العرفان، ومنهم من اعتبره زيغًا وضلالاً وانحرافًا عن دين اللَّه تبارك وتعالى. والواقع أن الموضوع دقيق، يحتاج إلى بصيرة وروية وغوص في أعماق الحقيقة؛ ليظهر ما إذا كان الغرض من هذا النوع من التفسير هو اتباع الهوى والتلاعب في آيات الله كما فعل الباطنية؛ فيكون ذلك زندقة وإلحادًا، أو الغرض منه الإشارة إلى أن كلام الله تعالى لا يحيط به بشر؛ لأنه كلام خالق القوى، وأن لكلامه تعالى مفاهيم وأسرارًا، ونكتًا ودقائق، وعجائب لا تنقضي، فيكون ذلك من محض العرفان وكمال الإيمان، كما قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: " إن القرآن ذو شجون وفنون، وظهور وبطون، لا تنقضي عجائبه، ولا تبلغ غايته، فمن أوغل فيه برفق نجا، ومن أوغل فيه بعنف هوى، أخبار وأمثال، وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل، فجالسوا به العلماء، وجانبوا به السفهاء ". وإذا أردنا معرفة الحق في هذا الموضوع، فعلينا أن ننقل شيئًا من أقوال العلماء؛ فقد قال الزركشي: " كلام الصوفية في تفسير القرآن قيل: إنه ليس بتفسير، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة، كقول بعضهم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)، إن المراد النفس، يريدون أن علة الأمر بقتال من يلينا هي القرب، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه ". وقال ابن الصلاح في فتاويه: " وجدت عند الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه

قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق في التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر ". وقال النسفي في عقائده: " النصوص على ظواهرها، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطل إلحاد ". وقال التفتازاني: " سميت الملاحدة باطنية؛ لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها، بل لها معان لا يعرفها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية ". قال: " وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك فنهيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان " محض العرفان ". ونص التفتازاني هذا واضح الدلالة في بيان الفرق بين التفسير الإشاري الذي لا ينكر متعاطيه ظواهر النصوص التي هي أدعى إلى فهم أسرار القرآن، وبين تفسير الباطنية الملاحدة الذين يريدون هدم الشريعة. وينقل السيوطي عن ابن عطاء اللَّه تحديدًا للتفسير الإشاري، فقال: " اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام اللَّه وكلام رسوله بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان، ولهم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح اللَّه قلبه، وقد جاء في الحديث " لكل آية ظهر وبطن ". فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة: هذه إحالة لكلام اللَّه وكلام رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فليس ذلك بإحالة، وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا، وهم لم يقولوا ذلك بل يقررون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها، ويفهمون عن اللَّه ما ألهمهم ". وأقول: هذا كلام الإنصاف، فقد وضع الحق في موضعه، وجمع بين النصوص الظاهرة والمعاني الخفية الواردة التي تشرق على قلب المؤمن العارف باللَّه، كما كان الحال مع الصديق وعمر، ولا عجب فاللَّه تعالى يعطي الحكمة من يشاء، ويضع الفهم

فيمن أراد، وهذا هو القرآن الكريم يخبرنا عن داود وسليمان في أمر عرض عليهما، فحكم كل واحد منهما بحكم يخالف الآخر، فيقول: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا). ونستطيع القول: إن التفسير الإشاري لا يحكمه منهج معين، لكن له شروطًا لابد من توافرها حتى يكون تفسيرًا مقبولاً، وهي خمسة شروط كالآتي: أولاً: عدم التنافي مع المعنى الظاهر في النظم الكريم. ثانيًا: ألا يدعى أنه المراد وحده دون الظاهر. ثالثًا: ألا يكون تأويلاً بعيدًا سخيفًا؛ كتفسير بعضهم قول اللَّه تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بجعل كلمة (لَمَعَ) ماضيًا، وكلمة (الْمُحْسِنِينَ) مفعوله، ومثل ذلك تفسير الباطنية لقوله تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) أي: أن الإمام عليًّا ووث النبي في علمه. رابعًا: ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي، بل يكون له شاهد شرعي يؤيده. خامسًا: ألا يكون فيه تشويه على أفهام الناس. وبدون هذه الشروط لا يقبل التفسير الإشاري، ويكون عند ذلك من قبيل التفسير بالهوى والرأي المنهي عنه. وقبل أن نغادر إلى الحديث عن المنهج الحديث في التفسير، نشير إلى أبرز التفاسير الإشارية، وهي: تفسير النيسابوري، وتفسير روح المعاني للآلوسي، وتفسير التستري، وتفسير ابن عربي الفيلسوف، وليس ابن العربي الفقيه القرطبي. وأخيرا أنوه بأمر مهم، وهو تحذير المسلمين من التفاسير الإشارية وعدم الاعتماد عليها دون التفاسير الأخرى، وهذا ما حذر منه الشيخ الزرقاني حين قال: " لعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر، فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة، بل الإسلام كله، ما هو إلا سوانح وواردات، على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات، وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح؛ فلم يتقيدوا بتكاليف

ثانيا: منهج المدرسة الحديثة في التفسير:

الشريعة، ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية: كتاب اللَّه وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والأدهى من ذلك أنهم يتخيلون ويخيلون إلى الناس، أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية، واتصلوا باللَّه اتصالاً أسقط عنهم التكليف، وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب، ما داموا في زعمهم مع رب الأرباب، وهذا -لعمر اللَّه- هو المصاب العظيم الذي عمل له الباطنية وأضرابهم من أعداء الإسلام، كيما يهدموا التشريع من أصوله، ويأتوا بنيانه من قواعده: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ". إذن يجب عدم الانسياق وراء الشطحات والتخييلات التي تخرج بالنص القرآني عن مراده ومعناه المتوخى، واللَّه أعلم. هذه هي المناهج التفسيرية العامة التي اعتمدها القدماء واستخدموها في تفسيراتهم بدرجات متفاوتة، فقد اعتمد بعض المفسرين منهج التفسير بالمأثور، وبعضهم اعتمد منهج التفسير بالرأي، وبعضهم فسر القرآن تفسيرًا إشاريًّا، وبعضهم جمع بين منهجين أو أكثر، وكل مفسر -في النهاية- له منهجه الخاص الذي يستند إلى المنهج العام الذي ينتمي إليه، سواء كان منهج التفسير بالمأثور أو بالرأي أو الإشاري. ثانيًا: منهج المدرسة الحديثة في التفسير: تبين لنا من خلال ما سبق أن التفسير في القديم اعتمد عدة مناهج، فنشأ التفسير شرحًا للفظ غامض أو توضيحًا لمعنى بعيد، ثم تطور إلى تفسير بالمأثور، وتفسير بالرأي. وفي عهد التقليد والجمود تأثر التفسير بثقافة المفسر، وليس ذلك عيبًا بذاته، ولكن العيب أن يتحول التفسير إلى كتاب في القواعد والإعراب، أو البلاغة والبيان، أو آراء الفرق والرد عليها. قال السيد مُحَمَّد رشيد رضا في مقدمة تفسير المنار: " كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب في التفسير يشغل قارئه عن مقاصد القرآن العالية وهدايته السامية، فمنها ما شغله عن القرآن بمباحث الإعراب، وقواعد النحو، ونكت المعاني، ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين وتعصب

الفرق والمذاهب بعضها على بعض، ومنها ما يلفته عنه بكثرة الروايات وما مزجت به من خرافات الإسرائيليات، وقد زاد الفخر الرازي صارفًا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها ". ولما جاء عهد النهضة ظهر أعلام جددوا في علوم الأمة، فكانوا أساس نهضة الأمة ونهضة علومها، ومنها التفسير، فوجدنا: السيد جمال الدِّين الأفغاني، وتلميذه الإمام مُحَمَّد عبده، ومن بعدهما السيد مُحَمَّد رشيد رضا وسيد قطب وكان للأخيرين إسهام في مجال التفسير، أفاد منه المفسرون من بعدهما؛ حيث أعادا للتفسير نضارته وقوته وروحه، ولكنهما سارا في إطار المناهج المأثورة عن السلف في التفسير، وتجديدهما ليس في المنهج بقدر ما هو تجديد أملته روح العصر وتطورات الحياة إبان النهضة، ثم ثقافتهما وشخصيتهما الناقدة الممحصة. وإذا كان جمال الدِّين الأفغاني وتلاميذه ومن على شاكلتهم حاولوا النهضة من خلال العودة بالأمة إلى منابعها الصافية مع مراعاة ظروف الحياة ومقتضيات واقعهم المعيش، سواء في علم التفسير أو غيره، فإن هناك مدرسة فكرية حديثة دعت إلى تبني منهجية جديدة تخالف نهج القدماء في تفسير القرآن الكريم، هذه المنهجية تدعو إلى أمرين: الأول: تجاوز التفسير التراثي للقرآن من مناهج وأدوات تحليلية، بحجة أنها تمثل فترة زمنية معينة أطلق عليها اسم العالمية الأولى. الثاني: الأخذ بمناهج جديدة تلائم الفترة الزمنية الحالية، العالمية الإسلامية الثانية. وقد حمل لواء هذه الدعوة مجموعة من الباحثين، أبرزهم: 1 - الدكتور مُحَمَّد شحرور في كتابه: " الكتاب والقرآن قراءة معاصرة " الذي حاول فيه تناول القرآن الكريم بمناهج وأدوات معاصرة، مثل: المنهج البنيوي، والمنهج الجدلي. 2 - الدكتور مصطفى محمود في كتابه: " القرآن محاولة لفهم عصري "، وهو مجموعة مقالات تحمل آراء غريبة، وهي لا تتسم بالشمولية، حاول من خلالها تطبيق بعض النظريات العلمية على النص القرآني.

3 - الأستاذ جمال البنا في كتابه: " نحو فقه جديد " الذي قسمه إلى بابين: أ - منطلقات ومفاهيم. ب - فهم الخطاب القرآني، قدم فيه الكاتب ما يراه فهما جديدًا للقرآن على أنه معجزة خالدة، ويتمثل إعجازه في نظمه الموسيقي، وتصويره الفني، ومعالجته السيكولوجية للإنسان ثم قيمه ومبادئه السامية. 4 - الأستاذ ماهر المنجد في كتابه: " الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن: دراسة نقدية "، وهو دراسة نقدية تحليلية لكتاب: الكتاب والقرآن لمُحَمَّد شحرور، حاول فيه صاحبه ضبط القواعد المنهجية التي سار عليها مُحَمَّد شحرور، وإظهار قصوره، والخلفية الفكرية التي استند إليها. 5 - الشيخ خالد عبد الرحمن العك في كتابه: " الفرقان والقرآن " الذي حاول فيه تقديم قراءة إسلامية معاصرة ضمن الثوابت العلمية والضوابط المنهجية، وتعرض فيه لمعظم الكتابات الحديثة في هذا الشأن بدءا من جمال الدِّين الأفغاني، وانتهاء بمُحَمَّد شحرور. 6 - أبو القاسم حاج حمد في كتابيه: " العالمية الإسلامية الثانية ومنهجية القرآن المعرفية "، فلقد حاول فيهما الباحث تقديم منهجية جديدة ويمثلان -وبخاصة الكتاب الأول- أهم الخطوط الرئيسة للمنهج الجديد المقترح في تفسير القرآن الكريم. وإذا أردنا التعرف على المدرسة الحديثة ومنهجها في التفسير فلابد من عرض المسائل الآتية: المناهج الحديثة وأدوات المدرسة الحديثة في التفسير: اعتمد أصحاب المدرسة الحديثة في تفسيرهم للقرآن الكريم على بعض المناهج الحديثة، أهمها ما يلي: 1 - المنهج التحليلي: يزعم بعض أقطاب المدرسة الحديثة في التفسير أنهم يتميزون بالمنهج التحليلي عن القدماء، يقول أبو القاسم حاج في كتابه العالمية الإسلامية الثانية: " لماذا خصنا اللَّه في هذا العصر بالرؤية المنهجية للقرآن؟ ولماذا يختلف أسلوبنا التحليلي في التعامل مع القرآن عن الأسلوب التفسيري التقليدي؟ وبمعنى آخر: لماذا نلجأ إلى الوحدة الناظمة في وقت لجئوا فيه هم إلى التعامل مع الكثرة؟ الفارق هنا يكمن في اختلاف أسلوب المعرفة، فالفكر التحليلي قد يبنى حضاريًّا في عصرنا الراهن على معالجة الكثرة ارتدادًا بها إلى

الوحدة، وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي ". ومن خلال هذا النص يتبين أن التحليل هو: معالجة الكثرة ارتدادًا بها إلى الوحدة، وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي. والتحليل على هذا النحو مضر بفهم النص وتفسيره سواء كان نصًّا قرآنيَّا أو غيره، أشار إلى ذلك بعض النقاد الغربيين في حديثهم عن تطبيق منهج التحليل " ويسمونه التفكيك " في الشعر حيث إن النقاد الجدد في أمريكا أقاموا مماراساتهم النقدية على أساس الشكل العضوي، وهي الفكرة القائلة: إن للقصيدة وحدة شكلية تماثل وحدة الشكل الطبيعي، ولكن بدلًا من أن يكشف هَؤُلَاءِ النقاد في الشعر وحدة العالم الطبيعي وتلاحمها، فإنهم اكتشفوا معاني متعددة الأوجه، وفي نهاية المطاف تحول النقد الذي يبحث عن نقد للالتباس والتعدد في المعنى. . . إلى لغة ملتبسة مناقصة لفكرتهم الأصلية الكلية لوحدة الموضوع. ومن خلال هذا الكلام نتبين أن فكرة معالجة الكثرة ارتدادًا إلى الوحدة، وربط الظواهر ضمن علاقاتها بإطارها الموضوعي، فكرة مستقاة من النقد الغربي، وهي فكرة منتقصة من قبل الغربيين أنفسهم، ذلك أنه كما يقول الدكتور عبد العزيز حمودة: " إن التفكيكية، كممارسة نقدية أدبية، تفكك النص لتكشف أن ما يبدو عملاً متناسقًا وبلا تناقضات، وهو بناء من الاستراتيجيات والمناورات البلاغية، إن فضح ذلك البناء ينسف الافتراض بوجود معنى متماسك، غير متناقض ومفهوم يمكن تفسيره بشكل واضح ". 2 - المنهج البنيوي " الألسنية المعاصرة ": والمنهج البنيوي: رؤية نقدية حديثة، تعد النص الأدبي تشكيلًا لغويًّا فنيًّا يتميز عن

اللغة العادية بكون المعاني المباشرة للغة تتحول فيه إلى رموز متعددة الدلالات. وقد تبنت المدرسة الحديثة في التفسير هذا المنهج " فأخذت بتطبيق المنهج على نماذج من هذه الإشكاليات، ومن بينها -على سبيل المثال- ضوابط الاستخدام اللغوي في القرآن، وتحديد العائد المعرفي بطريقة ألسنية معاصرة تختلف عن الاستخدام الكلامي الشائع في اللسان العربي القديم "، وذلك انطلاقًا من " أن معالجة النص القرآني عبر ضوابط الاستخدام الإلهي للمفردة هو استخدام مميز يرقى بالمفردة إلى مستوى المصطلح ". ولكن " إذا سلمنا بكفاءة المنهج البنيوي في تقديم تحليل منهجي علمي للغة، فمن الصعب التسليم بكفاءته في تحليل النصوص الأدبية وإنارتها وتحقيق المعنى. إن البنيوية الأدبية، شأنها في ذلك شأن البنيوية اللغوية، تتبع منهجا معكوسًا عند مقاربتها للنص الأدبي، فالمنهج لا يبدأ بالجزئيات وتحليلها بغية الوصول إلى كليات أو أنظمة، ولكن يبدأ بالنظام الذي يحكم الإبداع في النوع؛ لينتقل إلى الدرجة الأدنى على سلم التحليل وهو نسق النص، ثم الوحدات التي تليها العناصر، وهي أصغر مكونات النص، وقد يسترجع الناقد البنيوي بعد ذلك خطواته متحركًا من أصغر العناصر تجاه النسق أو النظام العام ليقارن بين الخاص (النص) والعام (النظام). . . والتحليل البنيوي على هذا الأساس، كما يقول بعض الرافضين للمنهج البنيوي، يشبه تسليط الأشعة السينية (أشعة) على الجسم لتصل إلى العظام متخطية بل متجاهلة لطبقات كثيرة قبل أن تصل إلى العظام. وهناك شبه إجماع بين الرافضين للمنهج البنيوي، بل بعض البنيويين أنفسهم، على أن تطبيق النموذج اللغوي على النص الأدبي لا يحقق المعنى " فإذا كان هذا حال النص الأدبي عمومًا مع البنيوية، فما بالنا بالنص القرآني؟!. 3 - المنهج التاريخي: تبنى أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة منهجًا ثالثًا هو المنهج التاريخي.

ويعنون به فهم التاريخ فهمًا إسلاميًّا، منطلقًا من علاقة الغيب المدروسة والمحققة بحركة الواقع البشري، وذلك من خلال منطق التدافع والدورات من لدن آدم - عليه السلام - وإلى عصرنا الحاضر. وأصحاب هذه المدرسة يأخذون في تفسيرهم القرآن الكريم بالغائية، ولكن يخالفون في الوقت نفسه منطق الفلاسفة الغائيين، فالغائية -عند أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة- وسيلة تحكم مسار الحركة العامة وتتجه إليها جبريًّا، فهم لا يقولون بالغاية المسبقة. وقد نبه أبو القاسم حاج إلى أن " مفهوم الحركة في التاريخ البشري من خلال القرآن لا يقوم عبر الصراع الطبقي، كما هو الحال في النظرة الغربية، وإنما يقوم عبر أشكال دائرية، بدءًا بالشكل الفردي، ثم الشكل القومي، وانتهاء بالشكل العالمي، وبعبارة أوضح فإن هناك جدلاً بين الإنسان والكون، يتم عبر أطوار تاريخية ثلاثية، فالانفصال المادي للإنسان من الكون عبر مراحل ثلاث: مواد مختلطة من النسيج الكوني تتحول إلى كائن عضوي ويتحول إلى إنسان، يقابله اندماج الإنسان بالوعي في رحم الكون عبر مراحل ثلاث: الطور العائلي، الطور القومي، الطور العالمي، وهي تماثل ثلاثية الخلق في الرحم ". وبناء على تبني المدرسة الفكرية المعاصرة لهذه المناهج، يمكننا أن نبرز الآتي: 1 - ترى المدرسة الفكرية المعاصرة أنها تفترق عن المدرسة التفسيرية التقليدية في المنهج المتبع من حيث إن أسلوب الأولى يعتمد على " التحليل " عوضًا عن " التفسير "، وعلى " التبيين المنهجي " في إطار الوحدة القرآنية بطرح " الجزء " في إطار " الكل " عوضًا عن التفسير التقليدي للكتاب في أجزائه. ونقول: إن اعتماد هذه المدرسة " التحليل " دون " التفسير " لا يمكن أن يطبق تطبيقًا كاملاً في فهم القرآن الكريم؛ وذلك لأمور منها: أولًا: المعنى اللغوي والاصطلاحي يؤكد ذلك؛ فالتحليل -في اللغة- من حل العقدة

يحلها حلاًّ، فتحها ونقضها فانحلت، والحل: حل العقدة. والتحليل اصطلاحًا عكس التركيب، وهو إرجاع الكل إلى أجزائه، فإذا تعلق بشيء مادي سمي تحليلاً ماديًّا، وإذا تعلق بشيء ذهني سمي تحليلاً خياليًّا. وينقسم من جهة أخرى إلى: تحليل تجريبي، ويمر بثلاث مراحل: ملاحظة، تجربة، استقراء. وتحليل عقلي أو رياضي، وهو يتألف من مجموعة قضايا، أولها القضية المراد إثباتها، وآخرها القضية المعلومة؛ بحيث إذا ذهبت من الأولى " أي القضية المراد إثباتها " إلى الأخيرة " أي القضية المعلومة " كانت كل قضية نتيجة ضرورية للتي بعدها، وكانت القضية الأولى نتيجة للقضية الأخيرة صادقة مثلها. فالمفهوم الأول يتعلق بالأمور المادية الخاضعة للتجربة، والقرآن ليس خاضعًا للتجربة. والمفهوم الثاني يحتاج إلى قضية معلومة ينطلق منها في إثبات أخرى مجهولة؛ فإذا قلنا بهذا في حق القرآن، أصبحنا في أحسن الحالات نوظف القرآن في إثبات تصوراتنا المسبقة، ونستغله في نشر " أيديولوجياتنا " وهذا مما لا يرتضيه أحد من المسلمين. وإذا اعتبرنا المنهج التحليلي الذي تنادي به المدرسة الحديثة هو جمع الآيات المتعلقة بموضوع ما ودراستها دراسة وافية، فإن المدرسة التقليدية أولى بأن تنسب إلى هذا المنهج، فقد استخدمت ما سبق أن أشرنا إليه في الفصل الأول مما يسمى بالتفسير الموضوعي. ثانيًا: تدعي المدرسة الفكرية المعاصرة أنها تأخذ القرآن في وحدته الكلية، وأنها تتفوق بذلك على المدرسة التقليدية، وهو ادعاء يعوزه الدليل؛ لأن المدرسة التقليدية سعت في كل مراحلها إلى البحث عن الوحدة الكلية للقرآن الكريم، وأكبر دليل على ذلك تبنيها -كما سبق بيانه- مبدأ تفسير القرآن بالقرآن، فتفسير القرآن بالقرآن بحث عن الوحدة الموضوعية في القرآن، وقد ألف العلماء الأقدمون مؤلفات بهذا الشأن، مثل:

" الأشباه والنظائر " لمقاتل بن سليمان البلخي، المتوفى سنة: 150 هـ، و " نزهة الأعين النواظر في علم الأشباه والنظائر " لابن الجوزي، المتوفى سنة: 597 هـ، و " أحكام القرآن " لأبي بكر الجصاص المتوفى سنة: 370 هـ، و " أحكام القرآن " لابن العربي المالكي، المتوفى سنة: 543 هـ. . . وهكذا. ثالثًا: زعم أصحاب المدرسة الحديثة أن ألفاظ القرآن ترقى إلى درجة المصطلح؛ بحيث لا يتغير معناها بتغير موقعها، فأطلقوا القول بمخالفة ألفاظ القرآن لألفاظ اللغة العربية المعهودة؛ ومن ثم تقاعسوا في فهم اللغة وتحصيلها، وهم بذلك يبعدون عن منهج القدماء في تركيزهم على اللغة وضرورتها في التفسير، بل جعلوا إتقانها شرطًا لفهم كتاب اللَّه. بل إنهم يبعدون -أيضًا- عن المنهج البنيوي الذي يزعمون تبنيه، متجاهلين ما توصلت إليه المدارس اللسانية الحديثة من أن هناك فرقًا بين اللسان، والكلام فاللسان -كما عرفه دوسوسير- " هو نتاج اجتماعي للملكة اللغوية، والكلام هو فعل فردي صادر عن الإرادة الفطنة ". وعليه، فليس هناك فرق بين لسان القرآن " المفردات التي صيغ بها القرآن وقواعد تركيبها "، واللسان العربي العادي " المفردات التي يستعملها العرب وقواعد تركيبها " قال اللَّه تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). وقال سبحانه: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، فليس هناك فرق بين لسان القرآن ولسان العرب، وإلا لكان حجة للعرب في أن اللَّه خاطبهم بغير لسانهم. فالفرق ليس في اللسان -الألفاظ وقواعد تركيبها- المستعمل، وإنما الفرق في الكلام الذي " هو استعمال هذا البناء -اللسان- ووضعه موضع التنفيذ من قبل المتكلمين "، ومن ثم نجد الحق تبارك وتعالى ينسب لنفسه الكلام، وينسب اللسان للعرب، فقال: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) " فالذي يحرف هو الكلام ذاك التركيب الصادر من المبلغ ليغير معناه، ويبطل أثره المقصود به، أما تحريف اللسان فهو مسبة للمحرف وسلب عليه؛ لأنه حرف الرموز المتواضع عليها بين أُولَئِكَ المخاطبين وقطع طريق التواصل معهم، فلم يعد يفهمه أحد

منهم ". وأقول: إن الاستخفاف باللغة العربية وقواعدها وزعم الاستغناء عنها باللسانيات الحديثة خرق لأصول العلم ومناهجه وتشكيك فيما أصبح من عداد المسلمات. رابعًا: اخترقت المدرسة المعاصرة في التفسير الثوابت، فذهبت -مثلاً- إلى أن السنة تجربة تاريخية خاصة بعصرها الذي ظهرت فيه ولا تلزم ما بعده من العصور، وهذا الاختراق مرفوض؛ لأنه يعرض الدِّين للتحلل من عقده، ويفتح الأبواب على مصارعها للأفكار الهدامة تفعل فعلها في كيان الأمة. وأقول: إن على المتطلعين إلى التجديد وبناء المناهج أن يعرفوا أن الثوابت هي العاصم والحافظ لكيان الأمة وعليها مدارها، فالمساس بها والنيل منها هو مساس بروح الأمة وطعن لها في عمودها الفقري، وتعريض لها لمزيد من الخطر والضياع؛ ذلك أنه - كما يقول سيد قطب رحمه اللَّه- " لكل نجم ولكل كوكب فلكه ومداره، وله كذلك محوره الذي يدور عليه المدار، وكذلك الحياة البشرية لابد لها من محور ثابت، وإلا انتهت إلى الفوضى والدمار ". ولسنا بكل ما ذكرناه ننفي تبني المناهج التي تبنتها المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم جملة وتفصيلاً، فهذا إن فعلناه أصابنا الجمود والوقوف عند حد التقليد دون التجديد والإبداع، وهذا مخالف لما دعا إليه القرآن الكريم في كل المجالات، بل وفي مجال التعامل معه -أي مع القرآن- فقد قال اللَّه تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، والتدبر يعني الفهم المتجدد؛ إذ لو كان التدبر يعني الوقوف عند فهم القدماء للقرآن، لما أمرنا اللَّه عز وعلا بتدبره، ولكان أمرنا باتباع أسلافنا وحسب؛ وهذا ينافيه طبيعة القرآن المتجددة. إذن فإن هناك دعوة إلى التجديد في تفسير القرآن الكريم، وتجريب المناهج الحديثة، ولكن ذلك مضبوط بضوابطه التي منها: أولًا: احترام الثوابت، وعدم هدمها.

ثانيًا: معرفة التراث واستيعابه استيعابًا يسمح بمعرفة مواطن القوة، فيؤخذ بها، ومواطن النقص لتفاديها. ثالثًا: الاطلاع على العلوم والمناهج المعاصرة، شريطة ألا يكتفى من هذه العلوم بالمعرفة السطحية العابرة، بل استيعابها استيعابًا كاملاً، وشريطة إتقان الدربة في استخدام هذه الآليات وتوظيفها التوظيف السليم، ولا يقع المجدد فيما وقعت فيه تلك الفئة التي عناها الدكتور طه عبد الرحمن بقوله: " إنها لم تبرهن على تحصيل الدربة في استخدام الآليات العقلانية المنقولة من مفاهيم مصطنعة وقواعد مقررة ومناهج متبعة ونظريات مسطرة، فضلاً عن أن تبرهن على الإحاطة بتمام تقنياتها وبكمال وجوه إجرائياتها ". وأخيرا أود القول: إننا لا ندعو إلى نبذ مناهج بعينها في تفسير القرآن الكريم، بل ندعو إلى تكامل المناهج، فنأخذ وندع من كل المناهج سواء أكانت قديمة أو حديثة، بشرط ألا ندع المسلمات جانبًا، وألا يؤثر ما نأخذه من منهج في توجيه المعنى القرآني وجهة تناقض مراد اللَّه المقصود. نماذج من تفسير المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم: لعلنا نورد بعض النماذج من تفسير أعلام المدرسة الفكرية المعاصرة لبعض آيات القرآن الكريم تبرز مدى تجاوز هَؤُلَاءِ القوم في تفسيراتهم، وأنها لا تقوم على أساس متين أو منهج قويم. ومن تلك النماذج ما جاء في تفريق أبي القاسم حاج حمد بين اللمس والمس، وبين الرؤية والنظر والشهود. فبالنسبة للتفريق بين اللمس والمس: يرى أبو القاسم حاج حمد أن " لمس " تعني قرآنيًّا التناول باليد أو الاحتكاك العضوي والحسي، و " مسَّ " تعني التفاعل العقلي والوجداني؛ لذلك لم يمنع اللَّه لمس المصحف فهو للبشر أجمعين وكيفما كانت حالاتهم، فلهم أن يتناولوه. أما مس القرآن بما يعني التفاعل مع مكوناته وأعماقه فيتطلب حالة من الاستعداد (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79). وهذا الفهم بعيد عن الصواب كل البعد؛ إذ إن استقراء آيات القرآن الكريم تؤكد أن

المس معناه الاحتكاك المادي، وليس الإحساس والوعي -كما زعم أبو القاسم حاج- ومن الآيات المعضدة لما ذهبنا إليه قول اللَّه تعالى: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ)، فأي تفاعل عقلي مع النار في هذه الآية وأمثالها؛ وأي تفاعل عقلي في قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)، وفي قوله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)، فهل المس هنا يعني التفاعل العقلي؟ الحقيقة: أن المس هنا واضح بأنه احتكاك مادي، فمس النار للجسم حركة مادية، والولادة العادية تكون بعد مس الرجل زوجته عضويًّا، أي: بعد جماعها؛ لذلك اعترضت السيدة مريم على الأمر، ورأت أنه خلاف العادة. وبالنسبة للتفريق بين الرؤية والنظر والشهود: يرى أبو القاسم حاج أن الرؤية تتعلق بالأمور الحسية، وآلتها العين المجردة، أما النظر فيتعلق بالأمور المعنوية التي تعتمد على التأمل والإدراك، وآلتها العقل، واستدل على ذلك بقوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، فقال: " وقد طلب موسى رؤية اللَّه عبر النظر، بمعنى أن يرفع عوائق الرؤية الحسية أو حجابها ليمكن النظر، والنظر يرتبط بالخيال والتأمل، وقوي الإدراك خلاف الرؤية الحسية بالعين المجردة (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي) فالنظر عقلي والرؤية حسية؛ ولهذا قال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23). فهنا يتعلق النظر إلى اللَّه بالوجوه، وليس العين المجردة التي ترى، في حين أن العقل هو الذي يدرك قيمة الأمر وينفعل به (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)، (إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)؛ ولهذا خاطب إبراهيم ابنه إسماعيل بالنظر في أمر الرؤيا، أي: تقليب الرأي فيها، ثم اتخاذ قرار قاطع، كمن يرى الأمر عياناً في حقيقته (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102). وكذلك ميز القرآن الكريم بين البصر والرؤية العينية، فالبصر إدراك (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58).

والسمع استيعاب (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179). وكذلك ميز القرآن بين شهود الأمر بمعنى حضوره وبين رؤيته بالعين، وهكذا قال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، فهناك حضور للشهر في الزمان والمكان؛ حيث يكون الإنسان مقيمًا، ثم استثنيت حالتان، مقيم مريض، وغير مقيم مسافر، ولم يطلب اللَّه في هذه الآية رؤية الشهر؛ وذلك لأن الشهر لا يرى بالعين وإنما الأهلة، ورؤية الأهلة كرؤية إبراهيم لها (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا)، والشهور حساب (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ)، فأن يشهد الإنسان الشهر يعني أن يكون حالًّا حين توقيته، ولا علاقة لذلك برؤية الهلال كما يعتقد الكثيرون ". هذا ما قاله أبو القاسم حاج عن التفريق بين الرؤية والنظر والشهود، وقد جانبه الصواب -أيضًا- كما جانبه الصواب في التفريق بين اللمس والمس؛ لأنه بنظرة سريعة في آيات القرآن الكريم نجد أن النظر يعني الرؤية الحسية -أيضًا- وليس مقصورًا على الإدراك العقلي كما زعم المؤلف، والدليل على ذلك قول اللَّه تعالى: (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)، وقد اعترف أبو القاسم حاج نفسه بأن الرسول رأى بعينه المجردة عقول المنافقين كيف تفكر حتى صارت أعينهم تدور كالذي يلفظ آخر أنفاسه. وأما قصر الرؤية على الحس، وأن آلتها العين المجردة فقد وردت آيات كثيرة فيها " رأى " بمعنى علم، منها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)، ترى هل كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حاضرًا في واقعة الفيل مشاهدًا لها بأم عينه، أم أنها أمر غيبي أوحاه اللَّه إليه وعلمه إياه؟ إنه من غير شك أمر غيبي، والرؤية هنا ليست رؤية حسية، بل رؤية عقلية وجدانية. وتحديد الكاتب الشهود بمعنى الحضور حصرًا أمر في غاية الغرابة، ووجه الغرابة أن هناك آيات أتت ليس فيها الشهود بمعنى الحضور، فماذا يقول في قول اللَّه تعالى: (شَهدَ

اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)، فهل شهد هنا بمعنى حضر؟ لا، بل شهد هنا بمعنى أقام الأدلة وبينها، وماذا يقول -أيضًا- في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)؛ فهل الشهود هنا يعني الحضور والمعاينة؟ ثم إن الآيات التي استشهد بها أبو القاسم حاج ليدلل بها على ما ذهب إليه تدل على خلاف ما أراد، فقول اللَّه تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي). فمادة (نظر) التي تكررت مرتين، في كل مرة منهما لا يمكن أن تدل إلا على الرؤية الحسية، وإلا كيف يستقيم المعنى إذا كان النظر إلى الجبل بمعنى النظر العقلي، وما فائدة الشرط وجوابه في الآية؛ ومما يزيد الأمر غرابة أن المؤلف أورد آية أخرى هي من الوضوح على نقيض ما ذهب إليه؛ مما لا يخفى على المبتدئ فضلًا عن العالم (إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)، فالنظر هنا بالعين، وليس بالعقل، وإلا لبطل معنى الآية ". وقول اللَّه تعالى الذي استدل به على أن الشهود بمعنى الحضور (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) هو معنى قال به المفسرون قبله، فقد قال القرطبي: " وشهد بمعنى حضر، وفيه إضمار، أي: قال: من شهد منكم المصر في الشهر عاقلاً بالغًا صحيحًا مقيمًا فليصمه ". ومعنى هذا أنه لم يأت بجديد، ولكن الجديد عنده والغريب في الوقت نفسه، حصر الشهود في معنى الحضور، وهو ما فندته قبل قليل. ومُحَمَّد شحرور الذي تناول في كتابه " الكتاب والقرآن قراءة معاصرة " القرآن الكريم بأدوات معاصرة مثل: المنهج البنيوي والمنهج الجدلي، له تفسيرات تقترب من التفسيرات السابقة، فمثلاً تجده ينكر الترادف، وهو اتجاه عام لدى أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن، فيقول عند التفريق بين الحرام والاجتناب: " تبين لنا

أن من قال: إن الاجتناب هو أقل من التحريم فقد صدق؛ لأن التحريم هو لحدود اللَّه، كقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ). وهذا القول يؤدي -كما يقول الجيلاني بن التوهامي مفتاح- إلى التحلل من بعض الأحكام الشرعية، فالقول بأن الاجتناب أقل درجة من التحريم يقود حتمًا إلى القول بعدم حرمة الخمر والزنى، وهو ما صرح به شحرور نفسه حين قال: " وإني أقول لهَؤُلَاءِ الناس، أيهما أكبر، أمن يشرب كأسًا من الخمر أم من ينكح إحدى محارمه؟ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ). ويقال لشحرور: أليس الشرك من أكبر الكبائر، وأعلى المنهيات حرمة، فلماذا عبر عنه الحق -تبارك وتعالى- بالاجتناب ولم يعبر عنه بالحرمة؟ قال اللَّه تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، وقال سبحانه أيضًا: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). فعلى مذهب الدكتور شحرور يصبح الشرك باللَّه والكفر به من الأمور العادية التي تخضع لثقافة الناس وأعرافهم، مثل: الخمر التي يرى أنها ليست بحرام ولكن تعافها الفطرة، وهو مخالف لما درج عليه أهل الفسق من استطابتها واعتبارها من أفضل مشروباتهم. يتبين لنا أن تفسير مُحَمَّد شحرور للحرام والاجتناب مجانب للصواب، مخالف للأصول الثابتة، مزلزل لقواعد القرآن وأصوله. ومن تفسيراته -أيضًا- ما جاء في مسألة الخلق الآدمي، فقد انطلق -كما فعل كثير غيره من أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة في التفسير- من نظرية دارون في التطور، فهو يرى أن آدم انتخب من المملكة الحيوانية البشرية انتخابًا، ولم يخلق ابتداء كما يرى التراثيون، ويرى شحرور أن خير من أول آيات خلق البشر هو (دارون)، ويعتمد نظريته في التطور ويوظفها في تفسير قول اللَّه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ). وينقل ماهر المنجد في كتابه (الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن) عن شحرور قوله:

" أما قبل آدم فكان ثمة صنف من المملكة الحيوانية يدعى البشر، وأن اللَّه نفخ الروح في البشر فتحول إلى إنسان وتطور وتقدم، ولم ينفخ الروح في القرود فبقيت كما هي ". ويدلل الدكتور شحرور على تفسيره بدليل يراه دامغًا، وهو " أن كلية الطب تسمى كلية الطب البشري؛ لأنها تدرس الإنسان من حيث كونه بشرًا، له شعر وجلد وعيون وجهاز هضمي وعصبي وقلب ودورة دم ". ولا شك أن هذا لا يمثل براهين علمية، ولا أدلة عقلية، ولا علاقة له أصلاً بأي منهج علمي، إلا إذا اعتبرنا أن التصورات والافتراضات المتخيلة هي من الحقائق العلمية. ثم إن تفسيره للآية أوهى من نسج العنكبوت؛ لأنه: أولًا: بتر الآية، فالآية تقول: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، وهي واضحة في أنها تدل على غير مراد الدكتور شحرور، وأن تفسيره لها غريب وبعيد كل البعد عن المراد منها؛ حيث إن اللَّه عطف نوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على آدم، فهل كان هَؤُلَاءِ مصطفون من المملكة الحيوانية المسماة بالبشر مثل آدم كما زعم؟ فهذا لا يصدق على نوح وآل إبراهيم وآل عمران، ومن ثم فهو لا يصدق على آدم -أيضًا- فترجح ما ذكرناه وهو مخالف لما ادعاه الدكتور شحرور. ثانيًا: تناسى المؤلف آيات كثيرة تدل على أن اللَّه - سبحانه - ابتدأ خلق آدم من العدم، وهو بقوله هذا يكذب صريح هذه الآيات، فاللَّه جل وعلا يقول: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ)، فالخلق يدل على الابتداء وأنه من العدم، فكيف يقال: إن آدم اصطفاه اللَّه من البشر. ثالثًا: هل الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي نفخ اللَّه فيه الروح؟ وهل القرود التي مثل بها ليس فيها روح؟ وكيف يعيش أي كائن حي بدون روح وبخاصة العائلة الحيوانية؟ والخلاصة أن أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة -على الرغم من زعمهم التذرع بالمنهج التحليلي الموضوعي- قد تناقضت مقدماتهم مع نتائجهم، واتسم تفسيرهم لبعض آيات القرآن بالتسرع وعدم الدقة والاستقصاء، ولعل ذلك راجع إلى رغبتهم الجامحة في تسويق مشروعهم الفكري حتى ولو كان على حساب ثوابت القرآن الكريم ومعطياته الدلالية والمضمونية والسياقية، أو على حساب المعنى الصحيح للآية المفسرة.

الباب الخامس الماتريدي مفسرا

الباب الخامس الماتريدي مفسِّرًا ويشتمل على عدة فصول: الفصل الأول: انتماء الماتريدي في التفسير. الفصل الثاني: منهج الماتريدي في التفسير. الفصل الثالث: بذور التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة. الفصل الرابع: تأثر الماتريدي بمن سبقوه. الفصل الخامس: تأثير الماتريدي في لاحقيه.

الفصل الأول انتماء الماتريدي التفسيري

الفصل الأول انتماء الماتريدي التفسيري ظهر لنا فيما سبق أن هناك مدارس كثيرة في تفسير القرآن الكريم، فهناك: مدرسة التفسير بالمأثور، ومدرسة التفسير بالرأي، ويقف بين هاتين المدرستين بعض المفسرين لا إلى هَؤُلَاءِ ولا إلى هَؤُلَاءِ، فيتخذون من النقل والعقل طريقًا للتفسير. والنقل -كما سبقت الإشارة-: هو تفسير القرآن بالقرآن أو السنة أو المأثور عن الصحابة والتابعين، وأما العقل -كما سبق أيضًا-: فيعمل المفسر عقله في الآيات، لكن هذا الإعمال مشروط بشروط تتلخص في: عدم عدول المفسر عن حقيقة اللفظ إلى مجازه إلا إذا قامت القرائن الواضحة القاطعة التي تمنع من حقيقة اللفظ وتحمل على مجازه، ومخالفة هذه القاعدة الأساسية اليسيرة قد أدى -عند بعض المفسرين- إلى كثير من الخطأ في تفسير بعض الآيات القرآنية المتعرضة للأنفس والآفاق. ومن أهم الأسس التي يقوم عليها استخلاص المفسر لمضمونات اللفظ القرآني بطريق العقل، وتكسب عمله سنده ومشروعيته، هي مراعاة اللفظ القرآني في خطابه حال العرب ومشاهداتهم ومعارفهم، ونزوله في التعبير على مستوى ما يعرفون؛ ضمانًا لهدايتهم، ثم احتواؤه مع ذلك الحقيقة الأبدية التي يتجدد بها إيمان الناس كلما تكشفت لهم عصرًا بعد عصر، وهو أمر لا يعرف ولا يوجد في غير القرآن الكريم يمنحه الجدة الدائمة والثراء الذي لا ينفد، ويعطي المتأملين فيه، والباحثين في أسراره مشروعية مستمرة، وضمانًا وسندًا دائمين، وتأتي أساليب القرآن الكريم فوق ذلك مستجمعة درجات الفهم، وفيها الغاية -كل الغاية- لكل عقل صحيح، يقرؤها العالم فيستشف من خلالها علل الأشياء، ويقرؤها الحكيم فيلتمس منها أسرار الوجود، ويقرؤها غيرهما من الناس فتنقاد لها قلوبهم وعقولهم، وترى الآي القرآني في علوه يداور المعاني، ويخاطب الأرواح، ويتألف الناس بهذه الخصوصية فيه حتى ينتهي بهم مما يفهمون إلى ما ينبغي أن يفهموا، وحتى يقف بهم على نص اليقين ومقطع الحق. والماتريدي من هَؤُلَاءِ العلماء الذين اشتهر عنهم أنه تابع لمدرسة أبي حنيفة، ومدرسة

أبي حنيفة تمثل -كما هو معروف- مدرسة الرأي، ومعنى هذا القول أن الماتريدي ينتمي إلى مدرسة الرأي. وأقول: إن كان هذا يصدق على الماتريدي متكلمًا أو فقيهًا فلا يمكن أن يصدق عليه مفسرًا؛ إذ إنه في تفسيره لا يمكن أن ينتمي إلى مدرسة الرأي أو مدرسة النقل جميعًا، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين. وبيان ذلك: أن الماتريدي في تفسيره قد استجمع شرائط مدرسة النقل والعقل؛ حيث إنه استند في تفسيره على المأثور كما استند على المعقول وهذه سمة بارزة عنده، ليس في هذا التفسير فقط، بل في جميع مؤلفاته، فقد رأى خطأ الوقوف عند حد النقل أو المغالاة في الجانب العقلي، فالموقف العدل -عنده- هو التوسط بينهما، وذكر أن من دواعي استحسان هذا الموقف الوسط هو قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، ووسطية الماتريدي قائمة على رد كل ما لا يتفق مع أهل السنة من المعتزلة والمجسمة والمشبهة والحشوية وغيرهم، وتقرير عقائد أهل السنة في أثناء تفسيره بالأدلة العقلية والنقلية. وليس موقف الوسط -كما يظن- توفيقًا بين الآراء، وأنه يخلو من الابتكار، بل هو قمة الابتكار؛ لأنه يتطلب معرفة كاملة بأحكام النقل والعقل؛ فلابد من معرفة كاملة بالكتاب والسنة، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والأخبار وشروطها، وهذه هي أحكام النقل، ولابد -أيضًا- من معرفة أحكام العقل والنظر والتأويل والاجتهاد وإقامة الأدلة والبراهين. وإذا تقرر هذا فيجب أن نثبت للماتريدي المفسر بعض الخصائص والسمات التي تجعله مفسرًا متميزًا، هذه الخصائص والسمات تتلخص في: أولًا: استقلال الفكر: كان الماتريدي لا يتعصب لمذهب معين أو رأي معين، بل يبحث عن الحقيقة، فلم يكن تابعًا لفكر معين، أو متعصبًا أو انفعاليًّا؛ لأنه كان يعلم أن هذه الأمور تصد عن الوصول إلى الحقيقة، ومن ثم ضمن له ذلك الاستقلالية والحرية والموضوعية في تناول القضايا في تفسيره. والناظر في تفسيره -نظرة إجمالية- سوف تظهر له هذه الحقيقة، فهو في تفسيره لا يعرض أحيانًا للمذاهب أو الآراء بل إنه يعرض القضايا، فيشعر القارئ كأنه يعرضها كما

يراها هو، ولعلنا ندلل على ذلك بنموذج من تفسيره، فعند قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)، يقول: " سفههم - عَزَّ وَجَلَّ - بما جعلوا له من الشركاء والأضداد على إقرار منهم أنه خلق السماوات والأرض، ولم يجعلوا له شركاء في خلقهما، وعلى علم منهم أنه تعلق منافع الأرض بمنافع السماء، مع بعد ما بينهما، كيف جعلوا شركاء يشركونهم في العبادة والربوبية ". فهنا يفسر الآية من عند نفسه، لكنه لا يهمل عرض الآراء حولها، وما دامت هذه الآراء مقبولة فإنه يعرضها على إطلاقها، فعند الآية نفسها يقول: " وقوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) قال الحسن: الظلمات والنور: الكفر والإيمان، وقال غيره من أهل التأويل: الليل والنهار في الحقيقة ما يكشف عما استتر من الأبصار، أبصار الوجوه وأبصار القلوب، والظلم ما يستر ويغطي على الأبصار: أبصار الوجوه، وأبصار القلوب، فالظلمة تجعل كل شيء مستورًا عليه، والنور يجعل كل شيء كان مستورًا ظاهرًا باديًا عليه، هذا هو تفسير الظلمة والنور حقيقة " ولأن كلا المعنيين لا ترفضه الآية فنجد الماتريدي لا يتعرض لأي منهما بالنقد أو التحليل، بل يكتفي بعرضهما، وهو ما يدل على عدم تعصبه. لكن الأمر إذا احتاج منه إلى إضاءة فنجده بعد عرض الآراء حول الآية يحلل ويعقب ويوجه وينقد، ففي الآية التي معنا، في عجزها والتي بعدها، يقول الماتريدي: " وقوله عز وجل: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، قيل: يشركون مع ما بيِّن لهم ما يدل على وحدانية الرب وربوبيته، أي: جعلوا كل ما يعبدونه دون اللَّه عديلاً لله، وأثبتوا المعادلة بينه وبين اللَّه تعالى، وليس لله تعالى عديل، ولا نديد، ولا شريك، ولا ولد، ولا صاحبة، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. وقال الحسن: (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي: يكذبون. وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي: خلق آدم أبا البشر من طين، فأما خلق بني آدم من ماء، كقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) وأخبر اللَّه تعالى أنه خلق آدم من الطين، وخلق بني آدم سوى عيسى - عليه السلام - من النطفة، وخلق عيسى - عليه السلام - لا من الطين ولا من الماء؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الخلق لا من شيء، وأنه لا اختصاص للخلق بشيء، ولا ينكرون -أيضًا- إنشاء الخلق وإحياءهم وموتهم؛ وذلك لأنه لا يخلو إما أن صاروا ترابًا أو ماء، أو لا ذا ولا ذا،

فإذا رأوا أنه خلق آدم من الطين، وخلق سائر الحيوان من الماء، وخلق عيسى - عليه السلام - لا من هذين، كيف أنكروا إنشاء الخلق بعد الموت، وهو لا يخلو من هذه الوجوه التي ذكرنا، فيكون دليلاً على منكري البعث بعد الموت، وعلى الدهرية في إنشاء الخلق لا من شيء، فإنهم ينكرون ذلك ويحيلونه؛ ولهذا وقعوا في القول بقدم العالم، واللَّه الهادي. ويحتمل قوله تعالى. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أن يراد به في حق جميع بني آدم، وأضاف خلقنا إلى الطين، وكان الخلق من الماء لما أبقى في خلقنا من قوة ذلك الطين الذي في آدم وأثره، وإن لم يره تلك القوة وذلك الأثر، وهذا كما أن الإنسان يرى أنه يأكل ويشرب ويتغذي، ويحصل به زيادة قوة في سمعه وبصره، وفي جميع جوارحه، وقد يحيى بها جميع الجوارح، وإن لم ير تلك القوة، فكذلك هذا. ويحتمل -أيضًا- على ما روي في القصة أنه يمازج مع النطفة شيئًا من التراب، فيؤمر الملك بأن يأخذ شيئًا من التراب من المكان الذي حكم بأن يدفن فيه، فيخلط بالنطفة، فيصير علقة ومضغة، فإنما نسبهم إلى التراب لهذا. ويحتمل النسب إلى التراب، وإن لم يكونوا من التراب؛ لما أن أصلهم من التراب، وهو آدم ". فنلمح في هذا النموذج كيف يقلب الماتريدي الآية على وجوهها؛ ليعطي القارئ تصورًا عامًّا حول القضية التي تطرحها الآية، فحول قضية الخلق، نجده -أولاً- يعرض لمراحل الخلق جميعًا، وإمكانياته الواقعة في خلق اللَّه من لدن آدم. ونجده -ثانيًا- يبين الغرض من هذه المراحل، وهو غرض مزدوج؛ حيث ترد هذه المراحل والإمكانيات على منكري البعث من جهة، وترد على الدهريين من جهة ثانية. وهو في عرضه يعمل عقله حتى يكون الرد مقنعًا، بل إنه يعمل عقله ويستخدم القياس ليخرج الآية، وليبين لماذا كان التوجه إلينا بها مع أنها تنص على الخلق بالطين. ثم إنه يعرض -ثالثًا- لاحتمال يدل على حس علمي شفيف، وهو أن كل حيوان مخلوق من ماء يخلط بنوع من التراب، وهذه لفتة علمية دقيقة، يؤكدها العلم في العصر الحاضر. ثانيًا: النظرة الكلية للأشياء: تؤكد النماذج السالفة تميز الماتريدي بنظرته الشمولية، وقدرته على ربط الجزئيات

بالكليات، ورد الفروع إلى الأصول، وهي سمة ليست مقصورة على تفسيره فقط، بل تؤكدها تآليفه في الفقه وأصوله والتوحيد، وبخاصة أصول الفقه ذلك العلم الذي يقوم على ربط المسائل الفرعية بأصول الأحكام. ثالثًا: اهتمامه بالمضمون: ينزع الماتريدي في تفسيره إلى بيان المضمون الذي تنطوي عليه الآيات دون النظر إلى الألفاظ، وما يعتورها من نكات لغوية وبلاغية، وإذا عرج على ذلك فلخدمة المضمون وإبرازه، والنماذج السابقة دالة على ذلك. وهذا يجعلنا نقرر سمة من سمات الماتريدي، وهي اهتمامه بربط عملية الفكر بعملية التطبيق والعمل، فالأفكار الذهنية لا قيمة لها بعيدة عن العمل والتطبيق؛ ولذلك في كثير من الأحيان كان يرفض تفصيلات لا طائل تحتها، ويذكر ذلك في صراحة أنه ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة. وهذا يفسر لنا اهتمامه في تفسيره لآيات القرآن الكريم بمعناها أكثر من اهتمامه بالشكل أو اللفظ، فالمهم عنده كشف المضمون ومرامي الآيات. هذا، ولكي يبرز لنا انتماء الماتريدي التفسيري بوضوح أشد، نقف وقفة مع موقفه من طرائق التفسير المختلفة: أولًا: موقف الماتريدي من التفسير بالمأثور: نعني بتفسير القرآن الكريم بالمأثور -كما سبقت الإشارة-: تفسير القرآن الكريم بالقرآن الكريم، أو تفسيره بالسنة، أو تفسيره بالقراءات، أو تفسيره بأقوال الصحابة وأقوال التابعين. ونتناول كل لون تفسيري من الألوان السابقة وموقف الماتريدي منه، كل واحد على حدة: أ - تفسير القرآن بالقرآن: يقوم الماتريدي بتفسير بعض آيات القرآن الكريم بآيات أخرى منه، ففي قوله تعالى من سُورَةُِ الأنعام: (يَعْلَمُ سِرَّكُم وَجَهْرَكُم) يقول: " اختلف فيه؛ قيل: (يَعْلَمُ سِرَّكُم): ما تضمرون في القلوب، (وَجَهْرَكُم): ما تنطقون، (وَيَعْلَمُ مَا تكْسِبُونَ): من الأفعال التي عملت الجوارح؛ أخبر أنه يعلم ذلك كله؛ ليعلموا أن ذلك كله يحصيه؛ ليحاسبهم على ذلك؛ كقوله: (وَإن تُبْدُوا مَا في أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخفُوهُ

يُحَاسِبكمُ بِهِ اللَّهُ)، أخبر أنه يحاسبهم بما أبدوه وما أخفوه، فعلى ذلك الأول فيه إخبار أن ذلك كله يحصيه عليهم، ويحاسبهم في ذلك؛ ليكونوا على حذر من ذلك وخوف ". ومن ذلك ما قاله عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) " قيل: قبيله: جنوده وأعوانه، حذرنا إبليس وأعوانه، بما يروننا ولا نراهم. فَإِنْ قِيلَ: كيف كلفنا محاربته، وهو بحيث لا نراه، وهو يرانا، ومثله في غيره من الأعداء لا يكلفنا محاربة من لا نراه أو من لا نقدر القيام على محاربته، وليس في وسعنا القيام بمحاربة من لا نراه. قيل: إنه لم يكلفنا محاربة أنفسهم؛ إذ لم يجعل له السلطان على أنفسنا وإفساد مطاعمنا ومشاربنا وملابسنا، ولو جعل لهم لأهلكوا أنفسنا وأفسدوا غذاءنا، إنما جعل له السلطان في الوساوس فيما يوسوس في صدورنا، وقد جعل لنا السبيل إلى معرفة وساوسه بالنظر والتفكير، نحو قوله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)، وقوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) علمنا ما به ندفع وساوسه وهمزاته، وجعل لنا الوصول إلى دفع وساوسه بحجج وأسباب ". لكن هناك ملاحظة يجب إثباتها هنا، وهي بارزة في النموذجين السابقين، وهي أن الماتريدي حين يفسر القرآن بالقرآن يسلك مسلكًا خاصًّا يخالف ما درج عليه سابقوه وحتى لاحقوه؛ ذلك أنه قبل أن يأتي بالآية المفسِّرة يقوم بتحليل الآية المفسَّرة، ثم يقول بعد التحليل: نحو قوله تعالى كذا. ثم إن الآية أو الآيات المفسِّرة قد تكون غير صريحة في الدلالة على الآية المفسَّرة، بقدر ما يقصد تحليله هو. وإذا أردنا أن نتبين هذا الفارق بين الماتريدي وغيره من المفسرين يكفينا أن نفتح تفسيرًا واحدًا هو تفسير ابن كثير الذي يقول عند تفسير قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، " قيل: إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ".

ونموذج آخر: ففي قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، يقول الإمام ابن كثير: " لما ذكرهم تعالى بنعمه أولاً، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة فقال: (وَاتَّقُوا يَوْمًا) يعني يوم القيامة (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أي: لا يغني أحد عن أحد، كما قال: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، وقال: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، فهذا أبلغ المقامات أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئًا ". فإذا قارنا بين هذه النماذج سنجد أن الماتريدي يأتي بالآيات المفسِّرة ليعضد تحليله، صحيح أن هذه الآيات تدور في فلك الآية المفسرة، لكنها لا تتوجه إلى تفسير الآية المفسَّرة مباشرة، وتكون في معناها، أو تفصل إجمالها كما عند ابن كثير. وهذا يدعونا إلى القول بأن الماتريدي كان من المجددين في الطريقة حتى مع اعتماده على تفسير القرآن بالقرآن. وهنا ملاحظة يجدر إثباتها، وهو أنه بالرغم من أسبقية الماتريدي عن ابن كثير نجد طريقته في التفسير تتسم بالجدة بخلاف الأخير، فإن طريقته تكاد تدور في فلك طريقة أوائل المفسرين، ولسنا بذلك نعيب على ابن كثير طريقته، لكن نريد إثبات الفارق بينه وبين الماتريدي الذي يعتبر سابقًا إلى التجديد في التفسير حتى لكثير ممن جاء بعده. ب - تفسير القرآن بالسنة: لا يترك الماتريدي الاعتماد على السنة، لكن اعتماده عليها قليل إلى حد ما، وهو يأتي بالأحاديث المتوافقة والمفسرة للآية موضع الحديث، ولكن الجدير بالملاحظة أنه يذكر بعض الأحاديث النبوية بالمعنى، وكأنه يعتمد على حفظه ولا يرجع إلى نصوص الأحاديث أثناء تأويله. ومن نماذج تفسيره بالحديث في السور محل التحقيق ما جاء عند تفسير قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)، فبعدما فسر المقصود من سؤال موسى ربه الرؤية، وأخذ يعدد الأوجه المحتملة في الآية، قال: " لكنه لولا أن القول بالرؤية كان أمرًا

ظاهرًا، لم يحتمل صرف ظاهر لم يجئ فيها إليها ويدفع به الخبر "، واللَّه أعلم. وأيضًا ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غير خبر أنه قال: " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون "، وسئل: هل رأيت ربك؟ فقال: " بقلبي قلبي "، فلم ينكر على السائل السؤال، وقد علم السائل أن رؤية القلب، إذ هي علم قد علمه، وأنه لم يسأل عن ذلك، وقد حذر المؤمنين عن السؤال عن أشياء قد كفوا عنها بقوله: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ)، فكيف يحتمل أن يكون السؤال عن مثله يجيء -وذلك كفر في الحقيقة عند قوم- ثم لا ينهاهم عن ذلك، ولا يوبخهم في ذلك، بل يليق القول في ذلك، ويرى أن ذلك ليس ببديع، واللَّه الموفق ". ونلاحظ أن الماتريدي لا يكتفي بإيراد الحديث، بل يحلله ويوجهه، ويبين مراده، وفي هذا إثراء لمعنى الآية وبيان المقصود منها. ونلاحظ -أيضًا- أن الماتريدي يكتفي بجزء من الحديث الدال على ما يريده؛ فمثلاً عند تفسيره قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)، يستشهد بحديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كل مولود يولد على الفطرة " فلا يذكر إلا هذا الجزء من الحديث؛ وهو الجزء الدال على مراده. وهو لا يكتفي بإيراد السنة القولية عند تفسيره القرآن الكريم، بل يأتي بالسنة الفعلية -أيضًا- فعند تفسير قول اللَّه تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ذكر أحاديث تمثل السنة القولية، وأحاديث تمثل السنة الفعلية، وأحاديث تمثلهما معًا، فقال: " الثاني: يجوز أن يكون أمر بالاستماع إليه في الصلاة، على ما قال بعض أهل التأويل أنه في الصلاة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: في حال الخطبة. . . وذكر. . . أن الآية نزلت في الصلاة؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا قرأ في صلاته كانوا يقولون مثل ما قال، فنزلت الآية بالنهي عن ذلك، والأمر بالاستماع إليه والإنصات له. روي عن أبي العالية قال: كان نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى قرأ أصحابه أجمعون خلفه، حتى نزلت: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) " فسكتوا ". وعن علباء بن أحمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قرأ في صلاة الفجر " الواقعة، وقرأها رجل خلفه، فلما فرغ من الصلاة قال: " من الذي ينازعني في هذه السورة؟ " فقال رجل: أنا يا رسول اللَّه، فأنزل اللَّه: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا). وزعم بعضهم أن القارئ خفية يسمى ناصتًا ومنصتًا، واستدل بما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا كبر سكت بين التكبير والقراءة، قلت: بأبي أنت، أرأيت سكاتك بين التكبير والقراءة، أخبرني ما تقول؟ قال: " أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المغرب والمشرق. . . " وغير ذلك من الدعوات، وغير ذلك من الروايات الدالة على اعتماد الماتريدي على السنة في تفسيره، وأنه لا يقتصر على نوع واحد من أنواع السنة، بل يستعين بكل أنواع السنة؛ القولية والفعلية. ج - تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين: يعتمد الماتريدي في تفسيره على أقوال الصحابة والتابعين، ففي تفسير قول اللَّه تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، ينقل عن الصحابة والتابعين معًا، فيقول: " وقال أبو أمامة الباهلي: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، قال: فينا نزلت معشر أصحاب بدر، حين اختلفنا وساءت فيه أخلاقنا، إذ انتزعه اللَّه من أيدينا، فجعله إلى رسوله، فقسمه على السواء. ومجاهد وعكرمة قالا: كانت الأنفال لله والرسول، فنسخها (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الأنفال: المغانم كانت لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خالصة، ليس لأحد فيها شيء، ما أصابت

سرايا المسلمين من شيء أتوه به، فمن حبس منه إبرة أو سلكًا فهو غلول، فسألوا رسول اللَّه أن يعطيهم منها، فقال: (قُلِ الأَنفَالُ لِلََّهِ وَالرَّسُولِ) ليس لكم فيها شيء ". ففي النص السابق ينقل عن الصحابة وينقل عن التابعين، ولكنه لا يقف عند حدود النقل بل يذكر الاحتمالات والوجوه التي يراها في الآية، وهي وجوه عقلية في جملتها، سوف نعرض لها بعد قليل. وإنما الذي يعنينا هنا -بعد العرض السابق- أن نؤكد على أن التفسير بالمأثور يمثل جزءًا من تفسير الماتريدي في تأويلاته، وأن الماتريدي يقف موقف الذي يقبل الاعتماد على المأثور في التفسير. ثانيًا: موقف الماتريدي من التفسير بالمعقول: يعتمد الماتريدي على العقل كثيرًا في تفسيره، ولعل مرجع ذلك إلى أن الماتريدي -في مجمله- تابع للمدرسة العراقية، أو مدرسة الرأي التي أسسها الصحابي الجليل عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقاد لواءها من بعده أعلام أفذاذ، من أبرزهم أبو حنيفة النعمان وتلميذاه أبو يوسف ومُحَمَّد الذين أثروا الحياة الفكرية والعلمية في الحضارة الإسلامية. ولأن الماتريدي تلميذ لتلك المدرسة، بل رائد من روادها فقد اصطبغ بصبغة هذه المدرسة، لكنه لم يكن مجرد تابع أو مقلد، بل كان ذا سمات خاصة، مجددًا مبتدعًا، وسنعرف ذلك في فصل تالٍ إن شاء اللَّه تعالى. والذي يدل على عقلانية الماتريدي أمور: أ - ذكر الاحتمالات المتعددة في تأويل الآيات: يذكر الماتريدي في كل آية يتناولها الأوجه الممكنة والمحتملة في تفسيرها، والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا الشأن، نذكر منها نموذجًا واحدًا. فعند تفسيره لقول اللَّه تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)، يقف عند قوله تعالى: (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) يقلب العبارة القرآنية على وجوهها المحتملة، فيقول: (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) دلالة على أنه لم يقبل ما سمع وعرض عليه؛ إذ لو قبل، لكان يكون مأمنه هذه الدار، لا تلك الدار، ولكان يحق عليه الخروج

منها، لا العود إليها. ثم معلوم أن كلام اللَّه هو حجته، وأن الحجة قد لزمته لوجهين: أحدهما: ما ظهر عجز الخلق عن مثله، وانتشر الخبر في الآفاق على قطع طمع المقابلين لرسول اللَّه بالرد، الباذلين مهجهم وما حوته أيديهم في إطفاء نوره؛ فكان ذلك حجة بينة لزمتهم. والثاني: أن جميع ما يتلى منه لا يؤتي عن آيات إلا وفيها مما تشهد العقول على قصور أفهام الخلق عن بلوغ مثله من الحكمة وعجيب ما فيه من الحجة؛ مما لو قوبل بما فيه المعنى، وما يحدث به من الفائدة؛ ليعلم أن ذلك من كلام من يعلم الغيب، ولا يخفى عليه شيء، وإذا كان كذلك صار هو بالرد مكابرًا، وحق مثله الزجر والتأديب أنه لم يفعل لما لم يكن يضمن أمانة القبول، ولا أن يعارضه بالرد، وذلك أعظم مما فيه الحدود، فالحد أحق ألَّا يقام عليه، واللَّه أعلم ". ثم قال حول العبارة -أيضًا-: " ثم قوله: (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يدعه ولا يمنعه عن العود إلى مأمنه؛ ليعلم أن حكم تلك الدار لم يزل عنه، وأنه لا تلزم الجزية إلا عن طوع أو دلالة عليه. والثاني: أن يكون عليه حفظه إلى أن يبلغه مأمنه بدفع المسلمين عنه، وفي ذلك لزوم حق الأمان للجميع بإجارة بعض، وعلى ذلك كل مسلم. ثم سماع كلام اللَّه يخرج عن القرآن، وفيه ما ذكرت من الدلالة، وعلى سماع أوامر اللَّه ونواهيه في حق القرض عليه، وعلى سماع حجج النبوة وآيات الرسالة والتوحيد من القرآن. واللَّه أعلم ". فهنا الماتريدي يقول في القرآن برأيه، ويعرض الأوجه ويدلل تدليلاً عقليًّا دون أن يذكر ولو في إشارة دليلاً نقليًّا. ب - اهتمامه بالأمور الفلسفية والعقدية: يغص تفسير الماتريدي بالأمور الفلسفية والعقدية، فما من آية تتعرض لأمر عقدي أو فكري إلا ويقف أمامها لإبراز جوانبها المتعددة بإعمال عقله. ومن المسائل الاعتقادية التي ناقشها الماتريدي مسألة: سؤال أهل النار ربهم العودة إلى الدنيا كي يعملوا صالحًا، وذلك من خلال تفسيره قول اللَّه تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، مستخلصًا بعض

الأمور العقيدية في إطار تفسيره للآية. يقول الماتريدي: قوله عَزَّ وَجَلَّ: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ) قيل: إلى الدنيا، وقيل: إلى المحنة من حيث لا يحتمل كون الدنيا بعد كون الآخرة، لكن هذا تكلف لتحقيق مراد قوم ظهر سفههم، ولعله ليس عندهم التمييز، أو يقولون سفهًا كما قالوا كذبًا بقوله: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (بِآيَاتِ رَبِّنَا) قال الحسن: بدين ربنا. وقال قوم: بحجج ربنا، فيكون في الآية اعتراف أنهم على التعنت كذبوا في الأول لا على الجهل، وإن كان ثم آيات عاندوها، وهم قوم قد سبق من اللَّه الخبر عنهم مما فيه العناد منهم. . . ثم دل قوله: (وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أنهم قد عرفوا أن الإيمان هو التصديق لوجهين: أحدهما: أنهم جعلوا الإيمان مقابل التكذيب؛ ليعلم أنه التصديق. والثاني: أنهم ذكروا الآيات، والآيات يكذب بها ويصدق لا أن يعمل بها. وبعد: فإن الذي في حد إمكان الإتيان مما فات هو التصديق؛ إذ الغير لو توهم الأمر ليوجد ما سبق من الترك والتصديق لو أمر، فهو لما سبق من التكذيب على أنه أجمع ألا يؤمر من آمن بقضاء شيء مما فات، فثبت أنهم أرادوا به التصديق، وفيه أنه اسم لذلك حتى عرفه أهله وغير أهله معرفة واحدة ". ويمضي الماتريدي في عرض هذه القضية العقدية، ولا يقتصر على عرضه هو لها، بل يستأنس بأقوال الآخرين ويعرض آراءهم، فيقول: " وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ رُدُّوا) أي: إلى ما تمنوا أن يردوا إليه (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا) أخبر اللَّه عن علمه بما قد أسروه في ذلك الوقت إنما كان في علمه أن يكون، وإن كان من حكمه ألا يردوا في ذلك أن الآية تضطر صاحبها، ولا قوة إلا باللَّه. وقال قوم: إن الخلود يلزم في النار بما هم في علم اللَّه أنهم يلزمون ما هم عليه لو مكثوا للأبد. وقال قوم: إذ لم يجز لزوم العذاب بما يعلم اللَّه من العناد من أحد لو امتحن بلا محنة ولا خلاف، فعلى ذلك أمر الخلاف، لكن الآية في خاص منهم، وهم الذين اعتدوا وعاندوا الحق بعد الوضوح، على ما ذكر في كثير من الكفرة أنهم لا يؤمنون أبدًا، ثم

أمهلهم على ذلك، وهذا يبين أن ليس يمنع الإعادة لما يعودون له لو كان يحتمل في الحكمة الإعادة، إذ قد أمهل وأبقى على العلم بذلك، فعلى ذلك الإعادة، لكنه أخبر عن تعنتهم، ثم ظنت المعتزلة أن اللَّه لو علم أنهم لا يؤمنون لردهم إلى ذلك؛ إذ بين أنهم لا يؤمنون فيستدلون بهذا؛ إذ ليس لله قبض روح يعلم أنه لو لم يقبضه يؤمن يومًا من الدهر، وقد بينا نحن أن ذلك لا يوجب، وإن كان أُولَئِكَ في علم اللَّه أن يعودوا إلى ذلك. . . إلخ. ونلاحظ الأسلوب الفلسفي في عرض القضية، وبنائها على مقدمات تسلم إلى نتائج كما يفعل المناطقة، متأثرًا في ذلك بالمدارس العقلية، أو سالكًا سبيلها. ج - اهتمامه بالآيات الداعية إلى إعمال العقل: يقف الماتريدي طويلاً أمام الآيات التي تخاطب العقل الإنساني والحواس الإنسانية، ففي قوله تعالى: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) قال: " يحتمل الأمر بالنظر وجوهًا، أي: يحتمل: انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أن كيف يقلبها ويحولها من حال إلى حال، ومن لون إلى لون، وأنه يخرج في ساعة لطيفة ما لو اجتمع الخلائق على تقديره ومعرفته، أي كم خرج، وأي كم مقدار خرج - لم يقدروا عليه؛ ليعلموا أنه قادر على إحياء الخلق بمرة واحدة، وفي إنزال المطر من السماء مع بعدها آية عجيبة وحكمة بالغة ". وهكذا يلح الماتريدي على إعمال العقل في تفسير القرآن الكريم، لكنه العقل المنضبط غير المنفلت. ومن خلال ما سبق نتبين بوضوح انتماء الماتريدي التفسيري، فهو ينتمي من غير مرية إلى اتجاه معتدل يوازن بين النقل والعقل، وإن كنا نلمس ميلاً إلى العقل أحيانًا عند تفسيره لبعض الآيات، وبخاصة الآيات التي تناقش قضايا عقدية وتقيم البرهان على صحتها، أو الآيات التي تخاطب العقل والفكر كحجج وبراهين على وجود اللَّه ووحدانيته. * * *

الفصل الثاني منهج الماتريدي في تفسيره

الفصل الثاني منهج الماتريدي في تفسيره في هذا الفصل تحاول الدراسة تلمس منهج الماتريدي في تفسيره في ضوء السور موضوع التحقيق في القسم الثاني من هذا البحث. ويجدر بنا قبل الخوض في بيان منهج الماتريدي في التفسير أن نخص المنهج بنبذة نعرف به فيها لغة واصطلاحاً. المنهج لغة: المنهج من نهج الطريق ينهج نهجًا، ونهوجًا: وضح واستبان، ويقال: نهج أمره، ونهج الدابة أو الإنسان نهجًا ونهيجًا: تتابع نفسه من الإعياء، ونهج الثوب: بلى وأخلق. ويقال: نهج الطريق: بينه، ونهج الطريق: سلكه. وانتهج الطريق: استبانه وسلكه، واستنهج الطريق: صار نهجًا، ونهج سبيل فلان. سلك مسلكه. والمنهاج: الطريق الواضح، وفي التنزيل العزيز: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) والمنهاج: الخطة المرسومة، ومنه: منهاج الدراسة، ومنهاج التعلم ونحوهما، والجمع: مناهج. والمنهج: المنهاج، والجمع: مناهج. ومن كل هذه المعاني، نرى أن أقرب معنى لغوي يعبر عنه (المنهج) ويخص ما نحن فيه هو المنهج بمعنى الطريق الواضح، أو بمعنى الخطة المرسومة. وبهذا يكون المنهج لغة: هو ما يرسمه مؤلف ما من طريقة يسير عليها وهو يؤلف كتابه. وأكبر الظن أن المنهج بالمعنى اللغوي المذكور كان بعيدًا عن تفكير الماتريدي وأقرانه، فما أظن أنهم كانوا يصنعون لأنفسهم خطة دقيقة يسيرون عليها، أو منهجًا واضحًا ينتهجونه عند تأليفهم، ولكن هذا لا يعني أن تآليفهم كانت عشوائية بدون ضابط، وظني أن الضابط في تلك الآونة هو الانتماء المذهبي أو التفكير العقلي المعين الذي يقود صاحبه إلى التزام أسس معينة في التأليف، لكن أن نقول بأن القدماء -ومنهم الماتريدي طبعًا- كانوا يعرفون المنهج وخصائصه وسماته وضوابطه كما هو في واقعنا الحاضر

منهج الماتريدي في تفسير القرآن الكريم:

فذلك بعيد التصور. المنهج في الاصطلاح: يمكن تلمس تعريف المنهج في الاصطلاح في العلوم التطبيقية وما إليها: كالطبيعة والإحياء والتاريخ، وهو أنه يعني: " الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة ". وعلى هذا، فمنهج الماتريدي في التفسير هو الطريق الذي سلكه للكشف عن معاني القرآن بواسطة مجموعة من السبل يسلكها اختطها لنفسه واختارها دون غيرها، للوصول إلى مراده من تفسيره للقرآن الكريم. منهج الماتريدي في تفسير القرآن الكريم: سبق أن أشرت منذ قليل إلى أن الذي يحدد طريقة القدماء أو منهجهم في مؤلفاتهم، إنما كانت تتحدد تبعًا لمجموعة من العوامل المكونة لشخصياتهم سواء كانت هذه العوامل مذهبية أو ثقافية أو فكرية أو غير ذلك، وخاصة أن علماءنا القدماء لم يكونوا يعرفون عن المنهج بالمفهوم الحديث شيئًا. ولذلك إذا أردنا الوقوف على طبيعة المنهج الذي سلكه الماتريدي في تفسيره يجدر بنا أن نقف على القضيتين الآتيتين: القضية الأولى: مصادر الماتريدي في التفسير وطريقته في التعامل معها. القضية الثانية: طريقة الماتريدي العامة في التفسير. القضية الأولى: مصادر الماتريدي وطريقته في التعامل معها: ما من شك في أن العالم -أي عالم- يتأثر بمن سبقوه ويستفيد من علمهم، بل ومن طريقتهم. وفي علم التفسير يستفيد المفسر -فضلاً عن إفادته من العلماء السابقين- من مصدرين عظيمين لا يستغني عنهما، ولو استغنى عنهما لأصاب تفسيره خلل عظيم وعطب خطير، ألا وهما الكتاب والسنة.

أولا: تفسير القرآن بالقرآن:

وقد سبق أن بينا عند الحديث عن انتماء الماتريدي التفسيري اعتماده عليهما، وبينا في إجمال سريع كيفية تعامله مع هذين المصدرين حينما يعتمد عليهما في تفسيره للقرآن الكريم، وفي هذا الفصل سنفصل القول في هذين المصدرين وفي المصادر الأخرى التي أَثْرَتْ تفسيره، وأَثَّرَتْ فيه، وهي: أولًا: تفسير القرآن بالقرآن: لا ريب أن أعظم ما يفسر به القرآن الكريم هو القرآن نفسه، فقد أجمع العلماء على اعتباره المصدر الأول للتفسير، وهو أجل أنواع التفسير وأشرفها؛ إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام اللَّه جل جلاله من اللَّه، فصاحب البيت أدرى بما فيه، فما أجمل في مكان فقد فسر في مكان آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في مكان آخر، فالأخذ بذلك هو مقتضى البدهية المقررة، وفوق ذلك هو مقتضى المعلوم من الدِّين بالضرورة؛ إذ القرآن الكريم هو الأصل الأول، والعماد المتين لهذا الدِّين، ولا يمكن تحقق الإيمان دون الأخذ بما فيه جملة وتفصيلًا. والحق أن الماتريدي اعتمد على القرآن الكريم في تفسيره -وقد أشرنا إلى طرف من ذلك عند حديثنا عن موقفه من التفسير بالمأثور- لكنه لم يكثر منه، ولعل ذلك راجع إلى ميله إلى التفسير بالرأي. والطريقة الشائعة في استعانة الماتريدي بالقرآن أنه يحلل الآية، ثم بعد ذلك نجده يأتي بآية أخرى دالة على ما يقول، وهذا يؤكد ميله إلى القول في القرآن بالرأي، لكنه الرأي المقيد بالنص. ومن النماذج الدالة على هذا ما جاء عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فقد قال: " وقوله: (وَكَذَلِكَ) لا يتكلم به إلا على أمر سبق، فهو -والله أعلم- يحتمل أن يقول: لما قالوا: يا مُحَمَّد، أرضيت بهَؤُلَاءِ الأعبد من قومك، أفنحن نكون تبعًا لهَؤُلَاءِ، ونحن سادة القوم وأشرافهم؟! فقال عند ذلك: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)، أي: كما فضلتكم على هَؤُلَاءِ في أمر الدنيا، فكذلك فضلتهم عليكم في أمر الدِّين، ويكونون هم المقربين إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمدنين مجلسهم إليه، وأنتم أتباعهم في أمر الدِّين، وإن كانوا أتباعكم في أمر الدنيا، وكذلك امتحان بعضهم ببعض.

ثانيا: أسباب النزول:

ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن يقال: كما كان له امتحان كل في نفسه ابتداء محنة، كقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وكقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وكقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) الآية ". فالماتريدي بعدما حلل الآية موضع التفسير دفع بالآيات ليدلل على ما ذهب إليه، وهي كلها تدل على معنى الآية المفسرة، أو شبيهة بها. ومنه -أيضًا- ما جاء عند تفسير قول اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) حيث قال: " ويحتمل أن تكون الآية في جملة المؤمنين، أي: استجيبوا لله في أوامره ونواهيه، وللرسول فيما يدعوكم إليه، وإنما كان يدعو إليه إلى دار الآخرة، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)، ودار الآخرة هي دار الحياة؛ كقوله: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وكأنه قال -واللَّه أعلم- أجيبوا لله وللرسول؛ فإنه إنما دعاكم إلى ما تحيون فيها، ليس كالكافر الذي لا يموت فيها، ولا يحيا بتركه الإجابة ". ونلاحظ هنا أنه بدأ بالتحليل، ثم ذكر الآيات الدالة، ثم عاد للتحليل والتوجيه مرة أخرى. وإذا كانت النماذج السابقة تتجه فيها الآيات المفسرة إلى بيان معنى الآية المفسَّرة، فإن الآية المفسرة قد تفسر كلمة واحدة في الآية، كما جاء في تفسيره لقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، فقد أراد الماتريدي تفسير كلمة (وَاتَّقُوا) فقال: " أي اتقوا فتنة التي تصيب الظلمة منكم خاصة بظلمهم، وهو العذاب؛ كقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) ". ثانيا: أسباب النزول: استعان الماتريدي في تفسيره ببيان أسباب النزول، وأحيانًا يحشر المرويات التي وردت في سبب النزول ولا يكتفي برواية واحدة، وأحيانًا أخرى يكتفي برواية واحدة. ومما ذكره في أسباب النزول ما جاء في سبب نزول قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. . .) الآية. حيث قال: " فالسؤال يحتمل وجهين: يحتمل أنهم سألوا عن حلها وحرمتها؛ لأن الغنائم كانت لا تحل في الابتداء، قيل: إنهم كانوا يغنمونها ويجمعونها في موضع، فجاءت نار فحرقتها، وسألوا عن حلها

ثالثا: السنة المطهرة:

وحرمتها، فقال: (الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، أي: الحكم فيها لله والرسول يجعلها لمن يشاء. ويحتمل السؤال عنها عن قسمتها، وهو ما روي في بعض القصة أن الناس كانوا يوم بدر ثلاثة أثلاث: ثلث في نحر العدو، وثلث خلفهم ردءًا لهم، وثلث مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يحرسونه، فلما فتح اللَّه عليهم اختلفوا في الغنائم، فقال الذين كانوا في نحر العدو: نحن أحق بالغنائم، نحن ولينا القتال، وقال الذين كانوا ردءًا لهم: لستم بأولى بها منا، وكنا لكم ردءًا، وقال الذين أقاموا مع رسول اللَّه: لستم بأحق بها منا، كنا نحن حرسًا لرسول اللَّه فتنازعوا فيها إلى رسول اللَّه، فنزل (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) وقال أبو أمامة الباهلي: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، قال: فينا نزلت معشر أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا؛ إذ انتزعه اللَّه من أيدينا فجلعه إلى رسوله، فقسمه على السواء ". ثالثًا: السنة المطهرة: استعان الماتريدي في تفسيره لكتاب اللَّه بالسنة المطهرة، وقد ذكرنا أمثلة لهذا من قبل عن تناولنا لموقفه من التفسير بالمأثور، وهو يكثر من ذكر الأحاديث في تفسيره، من نحو ما جاء عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)، فقد قال: " وقوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ). . . قَالَ بَعْضُهُمْ: الدعاء ها هنا هو الدعاء، وقد جاء " الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ "؛ لأن العبادة قد تكون بالتقليد، والدعاء لا يحتمل التقليد، ولكن إنما يكون عند الحاجة لما رأى العبد من نفسه الحاجة والعجز عن القيام بذلك، فعند ذلك يفزع إلى ربه، فهو مخ العبادة من هذا الوجه. . . وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قيل: المجاوزين الحد بالإشراك باللَّه. وقيل: لا يحب الاعتداء في الدعاء؛ نحو أن يقول: اللهم اجعلني نبيًّا أو ملكًا، أو أنزلني في الجنة منزل كذا، وموضع كذا. وروي عن عبد اللَّه بن مغفل أنه سمع ابنه يقول: " اللهم إني أسألك الفردوس، وأسألك كذا، فقال له عبد اللَّه: سل اللَّه الجنة وتعوذ من النار؛ فإني سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

رابعا: أقوال المفسرين السابقين:

يقول: " سيكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور " ويحتمل الاعتداء في الدعاء هو أن يسأل ربه ما ليس هو بأهل له ". وهناك بعض الأمور يجدر التنبيه عليها في تفسير القرآن بالحديث عند الماتريدي، أبرزها: أ - أنه لا يذكر سند الحديث إلا قليلاً جدًّا. ب - أنه -أحيانًا- يذكر الحديث بالمعني. ج - أنه -أحيانًا- يورد شرحًا وتحليلاً على الحديث المستشهد به. د - أنه يذكر أكثر من حديث في الموضع الواحد. هـ - نشعر أن الماتريدي لا يهتم بمدى صحة الحديث. رابعًا: أقوال المفسرين السابقين: استعان الماتريدي بأقوال المفسرين قبله من لدن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، فهو يدلل على صحة ما يذهب إليه أحيانًا بذكر أقوال هَؤُلَاءِ المفسرين حول الآية. وطريقته في التعامل مع أقوال المفسرين قبله، تكاد تتطابق مع طريقة تعامله مع القرآن والسنة حين يعتمد عليهما في التفسير؛ حيث يقوم بتحليل الآية محل التأويل، ثم يعرض بعد ذلك أقوال العلماء حولها، وقد يعرضها على إطلاقها، وقد يختار من بينها، وقد يبدي اعتراضًا على بعضها. ففي قوله تعالى: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) يبدأ الماتريدي بشرح معنى الآية فيقول: كيف تعطون لهم العهد، وكيف يستحقون العهد، ولو ظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلاًّ ولا ذمة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وكيف لا تقاتلونهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً). ثم أدار حوارًا طويلاً، نقل فيه كثيرًا من أقوال المفسرين قبله حول معنى كلمة (الإل)، قال: " الإل: اللَّه، والذمة: العهد. وقيل: الإل: القرابة، وقيل: الإل: العهد والذمة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الإل: العهد. قال: ويقال: القرابة.

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإل: القرابة. وقال أبو عبيدة: الإل: العهد، والذمة: التذمم. وقال ابن عَبَّاسٍ: الإل: اللَّه، بمنزلة جبريل، تفسيره عبد اللَّه؛ لما قيل: جبر هو عبد اللَّه. وقيل: الإل: الحرم، يقول: كيف تعطونهم العهد، وهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) القرابة ولا العهد، ولا يرقبون الحرم فيكم، وقد كانوا يحفظون فيما بينهم القرابة والرحمة حتى يعاون بعضهم بعضًا، ويناصره، إذا وقع بين قرابتهم ورحمهم وبين قوم آخرين مباغضة وعداوة، وكانوا يرقبون حرم اللَّه حتى لا يقاتلوا في الأشهر الحرم وعند المسجد الحرام، وكانوا يحفظون العهود فيما بينهم من قبل، ولا يرقبونها فيكم ولا يحفظونها ". ويلفت النظر هنا أن الماتريدي تارة ينص على اسم العالم الذي ينقل عنه، وتارة يعبر بـ " قَالَ بَعْضُهُمْ " أو " قيل ". ويلفت النظر -أيضًا- أنه قدم تفسيرًا للآية أولاً دون أن يصرح بمعنى الإل، ثم لما أورد قول بعضهم من أن الإل بمعنى الحرم، قدم تفسيرًا للآية أوضح وأبين من الأول، ولا ندري إن كان هذا التفسير كلامه أم هو ناقل له عن غيره. ونلاحظ أن نقوله السابقة اتجهت إلى معنى اللفظ في مجملها، ولم تتجه إلى المعنى العام للآية، وهو بذلك لا يكون ناقلاً عن علماء التفسير وحسب، بل قد يقع نقله في دائرة النقل عن علماء اللغة والأدب، يدل على ذلك النموذج الآتي. فعند قول اللَّه تعالى: (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) اختار أن يكون معنى (وَلِيجَةً): ملجأ يلجئون إليه، وهذا المعنى مستفاد من تفسيره العام للآية، ثم قال: " وقوله: (وَلِيجَةً) قال بعض أهل الأدب: الوليجة: البطانة من غير المسلمين، وأصلها: الولوج، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطًا ودودًا، وجمعه: الولائج ". ثم أخذ يعدد معاني الوليجة ناقلًا إياها عن بعض العلماء دون ذكر لأسمائهم. وقد ينقل أقوال العلماء، ثم يعرض عنها، ويختار ما يستريح إليه، وبعبارة أدق يتبنى رأيًا خاصَّا له، فمثلاً عند تفسير قول اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا).

يقول: " اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: النهي عن دخول المسجد الحرام نفسه. وعندنا أن النهي عن دخول المسجد الحرام نهي عن دخول مكة نفسها للحج وإقامة العبادات؛ دليله وجوه: أحدها: قوله: (بَعْدَ عَامِهم) ولو كان لدخول المسجد لكان ذلك العام أحق عن المنع في دخوله من غيره. والثاني: في قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، وخوف العيلة إنما يكون عن دخول مكة؛ لأنه لو كان النهي عن دخول المسجد نفسه، لكان لا خوف عليهم في ذلك؛ لأنهم يحضرون ويدخلون مكة للتجارة؛ فلا خوف عليهم في ذلك. والثالث: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا لَا يَحُجَّنَ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ " وفي آخر الآية دلالة ذلك؛ لأنه قال: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). ونلاحظ -هنا- أنه يعترض على أسلافه، ويذهب بعيدًا عنهم في اختياره، ويعضد اختياره بأدلة أرى أن الصواب يحالفه فيها. وأحيانًا نجد الماتريدي يطرح أقوالاً للمفسرين السابقين، ويذكر المعنى الذي يرتضيه، ثم يعود إلى أقوال المفسرين السابقين مرة أخرى، ويردها، ويدلل على صحة تفسيره وخطأ تفسيرهم، فمثلاً عند قول اللَّه تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) يقول: " ذكر بعض أهل التأويل أن الأنصار مشت إليهم، يعني إلى المنافقين، فقالوا: قد عيرنا وما نزل فيكم حتى متى، فكانوا يحلفون للأنصار: واللَّه ما كان شيء من ذلك، فأكذبهم الله فقال: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ) وما كان الذي بلغكم (لِيُرْضُوكُمْ) بما حلفوا (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ) منكم يا معشر الأنصار (أَنْ يُرْضُوهُ) حيث اطلع على ما حلفوا وهم كذبة ". ثم لا يرتضي هذا التأويل فيقول: " والأشبه أن تكون الآية نزلت في معاتبة جرت بين المؤمنين والمنافقين باستهزاء كل منهم برسول اللَّه، أو طعن فيه، أو استهزاء بدين اللَّه، فاعتذروا إليهم، وحلفوا على ذلك؛ ليرضوهم، فقال: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) حقيقة، ولكن ليسوا بمؤمنين ".

ثم شرع يعدد أقوال أهل التأويل الأخرى، مفندًا إياها، فقال: " وأما ما قاله بعض أهل التأويل: إن رجلاً من المنافقين قال: واللَّه، لئن كان مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ [الْحَمِيرِ]، فسمعها رجل من المسلمين، فأخبر بذلك رسول اللَّه، فدعاه، فقال: " مَا حَمَلَكَ عَلَى الذِي قُلْتَ " فحلف والتعن ما قاله، فنزل قوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) هذا لو كان ما ذكر لكانوا يحلفون لرسول اللَّه، لا يحلفون لهم؛ دل أن الآية في غير ما ذكر. ويذكر ابن عَبَّاسٍ أن الآية نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فجعلوا يحلفون لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين رجع أنهم لا يتخلفون عنه أبدًا. وكذلك قال غيره من أهل التأويل، ولكن لو كان ما قالوا لكانوا يحلفون لرسول اللَّه ويرضونه، لا للمؤمنين؛ دل على أن الأشبه ما ذكرنا من وجوه: أحدها: أن فيه دلالة تحقيق رسالته ليعلموا أنه حق؛ حيث اطلع عليه بما أسروه في أنفسهم، وكتموا من المكر وأنواع السفه. والثاني: ليحذروا ويمتنعوا عن مثله والمعاودة إليه؛ لما علموا أنه يطلع على جميع ما يسرون عنه ويكتمون. والثالث: تنبيهًا للمؤمنين وتعليمًا لهم منه بأنه إذا وقع لهم مثل ذلك لا يشتغلون بالحلف؛ طلبًا لإرضاء بعضهم بعضًا، ولكن يتوبون إلى اللَّه، ويطلبون به مرضاته ". والنقول التي جاء بها الماتريدي في هذا النص تدخل في إطار ما يعرف بأسباب النزول، ولكنه عزاها هو إلى أهل التأويل تارة وإلى ابن عَبَّاسٍ تارة أخرى، ثم ردها دون أن يتحقق من مدى صحتها، ولعل هذا من المآخذ التي يمكن أن يؤاخذ بها في تفسيره، لكن مع ذلك فإن ما ساقه من حجج عقلية يقوي موقفه، خاصة وأنه ساق رواية تكاد تكون رواية فرضية، يفهم هذا من كلامه؛ هذا من جهة. ومن جهة أخرى: يدل هذا النص على أن الماتريدي لا يهمل أسباب النزول في تفسيره، وإن كانت طريقته ذات سمات خاصة في عرضه لهذه الأسباب تخالف ما درج عليه المفسرون، فالمفسرون حين يتعرضون لذكر هذه الأسباب يصرحون بذلك، فيقولون: ورد في سبب النزول كذا، أو سبب نزول هذه الآية أو الآيات ما روي كذا. . . وهكذا. وقد يعرض الماتريدي أقوال أهل التأويل دون أن يتعرض لها بالنقد، ولكن يضيف إليها، كما جاء في تفسير قوله تعالى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)

خامسا: علم الكلام:

حيث قال: " اختلف فيه: قال الحسن وأبو بكر الأصم: إنه خاطب بقوله: (وَمَا يشُعِركُمْ) وأهل القسم الذين أقسموا باللَّه جهد أيمانهم (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)، فقال: (وَمَا يشُعِركُمْ) أي: ما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءتكم آية، ثم استأنف، فقال: (إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ). . . وهكذا كان يقرؤه الحسن بالخفض: (إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) على الاستئناف والابتداء. وقال غيرهم من أهل التأويل: الخطاب لأصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك أنهم لما قالوا: (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) ظنوا أنهم لما أقسموا باللَّه جهد أيمانهم أنهم يؤمنون إذا جاءتهم آية: يفعلون ذلك ويؤمنون على ما يقولون؛ فقال لهم: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) على طرح " لا "، أي: ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون. وهكذا كأنه أقرب. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن أهل الإسلام قالوا: إنهم وإن جاءتهم آية لا يؤمنون، فقال عند ذلك: (وَمَا يشعِركُمْ) وخاطبا به هَؤُلَاءِ (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ). والثاني: أنهم وإن آمنوا بها إذا جاءت، فنقلب أفئدتهم من بعد ". وعلى كل حال فما نقله الماتريدي عن أهل التأويل أو أهل التفسير، فإنه لم يقف -في الجملة- حياله عاجزًا، بل حاور سابقيه، ورد أقوالهم ونقدها وفندها أحيانًا، وزاد عليها أحيانًا أخرى. خامسًا: علم الكلام: سبق أن بينا أن للماتريدي مذهبًا اعتقاديًا ينصر فيه اعتقاد أهل السنة والجماعة، وبينا بشيء من التفصيل الفارق بين مذهبه والمذاهب الأخرى، وبخاصة الأشعرية. وتفسير الماتريدي لا يخلو من آراء كلامية، سواء صرح بذكر قائليها أو لم يصرح، ولعلنا نعرض لبعض النماذج التي تؤيد ما نقول. يقول الماتريدي عند تفسير قول اللَّه تعالى: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ) " الحياة حياتان: مكتسبة: وهي الحياة التي تكتسب بالهدى والطاعات، وحياة منشأة: وهي حياة الأجسام، فالكافر له حياة الجسد وليس له حياة مكتسبة، وأما المؤمن فله الحياتان جميعاً؛ المكتسبة والمنشأة، فيسمي كلًّا بالأسماء التي اكتسبها، فالمؤمن اكتسب أفعالاً طيبة فسماه بذلك، والكافر اكتسب أفعالاً قبيحة، فسماه بذلك ".

ومسألة الكسب مسألة كلامية، وهي مسألة خلافية بين الأشعرية والماتريدية كما سبق بيانها. وقد اهتم الماتريدي في تفسيره هذا بدحض آراء المعتزلة وتفنيدها - اهتمامًا كبيرًا، والأمثلة على هذا كثيرة ومنتشرة على مدار التفسير، فمن ذلك ما ذكره في تفسير قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) حيث قال: " إن الآية دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه ذكر مجيء الموت وتوفي الرسل، وقال: خلق الموت والحياة، ومجيء الموت هو توفي الرسل ثم أخبر أنه خلق الموت دل على أنه خلق توفيهم؛ فاحتال بعض المعتزلة في هذا، وقال: إن الملك هو الذي ينزع الروح ويجمعه في موضع، ثم إن اللَّه يتلفه ويهلكه فلأن كان ما قال، فإذن لا يموت بتوفي الرسل؛ لأنهم إذا نزعوا وجمعوا في موضع تزداد حياة الموضع الذي جمعوا فيه؛ لأنه اجتمع كل روح النفس في ذلك، فإن لم يكن دل أن ذلك خيال، والوجه فيه ما ذكرنا من الدلالة، وهو ظاهر بحمد اللَّه، يعرفه كل عاقل يتأمل فيه ولم يعاند، وباللَّه التوفيق ". ويمكنني القول: إنه في مرآة تفسير الماتريدي انعكس اتجاهه العقدي والمذهبي، فبرز واحدًا من حماة المذهب السني الماتريدي ذائدًا عن حصنه، غيورًا على شرف كلمته، متصديًا لأهل الأهواء والبدع، منازلاً المعتزلة والجهمية والخوارج والمرجئة والجبرية وغيرهم، داحضًا آراءهم في ضوء التنزيل الكريم، ومن ثم كان رائدًا لمن جاء بعده من العلماء الذين نقلوا عنه، ويكفي أن نلقي نظرة على تفسير مثل تفسير النسفي ليتأكد لنا ذلك، حتى لقد ذكر بعض الباحثين أن النسفي لم يصرح بمصدره الكلامي إلا فيما أخذه عن أبي منصور الماتريدي. وليتأكد لنا ذلك نعرض لمسألة الجبر والاختيار التي ناقشها الماتريدي عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)، فقال: " قال الحسن: المشيئة -ها هنا- مشيئة القدرة، وقال: لو شاء اللَّه قهرهم وأعجزهم حتى لم يقدروا على معصية قط، على ما جعل الملائكة -جبلهم- على الطاعة حتى لا يقدروا على معصية قط، ثم يفضل الملائكة على الرسل والأنبياء والبشر جميعًا، ويقول: هم مجبورون على الطاعة؛ فذلك تناقض في القول لا يجوز من كان مقهورًا مجبورًا على

الطاعة يفضل على من يعمل بالاختيار مع تمكن الشهوات فيه، والحاجات التي تغلب صاحبها وتمنعه عن العمل بالطاعة. أو يقول: فضلهم بالجوهر والأصل، فلا يجوز أن يكون لأحد بالجوهر نفسه فضل على غير ذلك الجوهر؛ لأن اللَّه - تعالى - لم يذكر فضل شيء بالجوهر إلا مقرونًا بالأعمال الصالحة الطيبة؛ كقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً) وغيره، وقوله: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ)، وقوله: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ونحوه، لم يفضل أحدًا بالجوهر على أحد، ولكن إنما فضله بالأعمال الصالحة؛ لذلك قلنا: إن قوله يخرج على التناقض. وتأويل قوله: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) عندنا ظاهر، ولو شاء لهداهم جميعًا ووفقهم للطاعة وأرشدهم لذلك، وهو كقوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ. . .) الآية، فإذا كان الميل إلى الكفر لمكان ما جعل لهم من الفضة والزينة، فإذا كان ذلك للمؤمنين آمنوا، ثم لم يجعل كذلك؛ دل هذا على أن قولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) هو الأمر والرضا، أو ذكروا على الاستهزاء؛ حيث قال: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ). والمعتزلة يقولون: المشيئة -هاهنا- مشيئة قسر وقهر، وقد ذكرنا أنه لا يكون في حال القهر إيمان، إنما يكون في حال الاختيار، والمشيئة مشيئة الاختيار، ولا يحتمل مشيئة الخلقة؛ لأن كل واحد بشهادة الخلقة مؤمن؛ فدل أن التأويل ما ذكر ". فالنص يدل دلالة واضحة على تبني الماتريدي الدفاع عن عقيدة أهل السنة، التي تقول بأن أفعال العباد اختيارية ليس فيها إجبار، يقول الإسفراييني: أفعالنا مخلوقة لله ... لكنها كسب لنا يا لاهي وكل ما يفعله العباد ... من طاعة أو ضدها مراد لربنا من غير ما اضطرار ... منه لنا فافهم ولا تماري فأهل السنة والجماعة أثبتوا أن العباد فاعلون حقيقة، وأن أفعالهم تنسب إليهم على وجه الحقيقة لا على جهة المجاز، وأن اللَّه خالقهم وخالق أفعالهم. هذا، وقد يصرح الماتريدي بنسبة الآراء الاعتقادية إلى أصحابها، دون تعليق منه،

سادسا: علم الفقه:

ومن ذلك ما ذكره عند تفسير قول اللَّه تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) حيث قال: " تعلق بظاهر هذه الآية: الخوارج والمعتزلة. أما المعتزلة فإنهم قالوا: إنهم لما طلبوا الرد ولم يردهم لما علم أنه لو ردهم لعادوا إلى التكذيب ثانيًا، ولو علم منهم أنهم لا يعودون لكان يردهم؛ فدل أنه إنما لم يردهم؛ لما علمه منهم أنهم يعودون إلى ما كانوا من قبل؛ فيستدلون بظاهر هذه الآية على أن الله لا يفعل بالعبيد إلا الأصلح لهم في الدِّين، وقالوا: لو علم منهم الإيمان لكان لا يجوز له ألا يردهم، ومن قولهم: إنه إذا علم من كافر أنه يؤمن في آخر عمره لم يجز له أن يميته، وغير ذلك من المخاييل والأباطيل. وقالت الخوارج: أخبر أنه لو ردهم لعادوا لما نهوا عنه، وسماهم بالقول كاذبين، بما في علمه أنهم لا يفعلون بما يقولون، فعلى ذلك كل صاحب كبيرة إذا كان في اعتقاده الذي أظهره أنه لا يأتي بها، فإذا أتى بها يصير فيما اعتقده ألا يأتي بها كاذباً؛ ولذلك يجعلون أصحاب الكبائر كذبة في القول الأول أنهم لا يأتون بها، وعلى ذلك كانت المبايعة بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ)، الآية، فإذا سرقن، صرن كاذبات في البيعة، كما جعل من ذكر كاذبًا في الوعد إذا أخلف، وعلى ذلك يجعلونه كافرًا ". سادسًا: علم الفقه: علمنا من ترجمة الماتريدي أنه تتلمذ بأبي حنيفة النعمان، وإن لم يلقه، فهو قد تتلمذ عليه من خلال مذهبه الفقهي المعروف، فقد قرأ ما كتب أبو حنيفة وما كتب تلاميذه ونقلوه عنه. ولم يكن الماتريدي ناقلاً تابعًا للمذهب الحنفي وحسب، بل كان مجددًا، فهو قد أخذ من المذهب الحنفي أسلوبه في التفكير العقلي، واعتماده الرأي في التفسير والفقه والعقيدة، لكن دون إهمال للنص أو افتئات عليه، بل -كما سبق- وازن الماتريدي بين النقل والعقل موازنة جعلته من العلماء أصحاب الآراء الصائبة في كثير من الأحوال. ونكاد عند مطالعة تفسير الماتريدي لا نجد من أعلام الفقه من يذكر باسمه سوى أبي حنيفة النعمان، ولعل هذا يؤكد الصلة الوثيقة التي أشرنا إليها منذ برهة بين الماتريدي وأبي حنيفة، وتلمذة الأول على الثاني. والماتريدي حين تعرض له آية من آيات الأحكام لا ينسى أن يقف أمامها يستجلي

سابعا: علوم اللغة:

بعض أحكامها ومسائلها، مما يدلنا على اعتماده علم الفقه مصدرًا من مصادر تفسيره. وتتمثل طريقته في اعتماد علم الفقه مصدرًا لتفسير القرآن الكريم في أنه يقوم بتحليل الآية التي تتضمن الحكم الفقهي، ثم يورد بعض أقوال العلماء، ثم يفصل القول حول المسألة الفقهية المعروفة بما أفاض اللَّه عليه. ففي تفسيره لقول اللَّه تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). عرض الماتريدي لعلاقة هذه الآية بما قبلها، وشرح الآية، ثم ذكر بعض الروايات عن الصحابة عامة، وعن بعضهم خاصة: كحذيفة وابن عَبَّاسٍ وعمر وعلي - رضي اللَّه عنهم - في تفسير الآية وبيان ما فيها من أحكام فقهية، ثم شرع يدلي بدلوه في تفسير الآية، وبيان الأحكام الفقهية التي تنطوي عليها، ونراه ينقل عن الأئمة دون أن يذكر أسماءهم، ويعرض لاختلافات المذاهب دون أن يحددها ويعينها، وتناول -أيضًا-: الأصناف الثمانية المخصوصة بالزكاة بشيء من التفصيل، ويستعين في ذلك ببعض الأحاديث والمرويات وأقوال العلماء. لكن ليس معنى هذا أن الماتريدي يهمل نسبة الآراء الفقهية إلى أصحابها في كل الأحوال، بل إنه في مواضع ذكر الآراء منسوبة إلى أصحابها. ومن ذلك ما جاء عند تفسيره لقول اللَّه تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. . .) الآية، فقد ذكر الماتريدي الأحكام التي تتعلق بالآية، وذكر كثيرًا من الأخبار والمرويات بشأنها، وأخذ يحلل ويدلل، ومما قال: " وكان أبو حنيفة - رحمه اللَّه - يسهم للفارس بسهمين، وأبو يوسف - رحمه اللَّه - يرى أن يسهم للفرس بسهمين، ولصاحبه بسهم، والحجة في ذلك قوله: قال اللَّه تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) ". فهنا ينسب الماتريدي الآراء إلى أصحابها، ونلاحظ أن المذهب الحنفي هو المذهب الغالب -أو الأكثر ورودًا- في تفسير تأويلات القرآن، وليس هذا غريبًا؛ لأن الماتريدي -كما قلنا- يتبع المذهب الحنفي. سابعًا: علوم اللغة: لا يعول الماتريدي كثيرًا على علوم اللغة في تفسيره؛ لذلك نراه مقلًّا جدَّا من توظيفها إلا مما كان من ذكر أقوال العلماء حول بيان بعض الألفاظ، كما سبق في بيان معنى كلمة

(الإل)، وهذا اللون من أكثر الألوان شيوعًا في تفسير الماتريدي فيما يخص توظيفه علوم اللغة، ولكن مع هذا لا نعدم توجيهًا نحويًا أو نكتة بلاغية هنا أو هناك. فمن قبيل التوجيهات النحوية ما جاء عند تفسيره قول اللَّه تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41). فقد قال الماتريدي: " وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ). . . قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)، ثم قال: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ) أي: وإن تولوا هم وقد آمنتم أنتم فاعلموا أن اللَّه مولاكم، ليس بمولى لهم. وقالت طائفة: قوله: (إِن كُنْتُمْ آمَنتُم) ليس على الشرط على ألا تكون غنيمة إذا لم يكونوا مؤمنين، ولا يجب العدل في القسمة إذا كانوا غير مؤمنين، ولكن على التنبيه والإيقاظ ". والماتريدي -كما هو بيِّن من النص- يعرج على اللغة بهدف الكشف عن مراد اللَّه من الآية، فهو لا يفعل كبعض المفسرين الذين ينصب اهتمامهم على اللغة، حتى تكاد تفسيراتهم تكون لغوية خالصة ككتب معاني القرآن، من مثل: معاني القرآن وإعرابه للزجاج، ومعاني القرآن للأخفش، ومعاني القرآن للفراء. . . وغيرها، أو تكون التفسيرات ذات صبغة لغوية بارزة بجوار الاهتمام بمعاني الآيات، كتفسير النسفي. ومن قبيل النكات البلاغية التي أشار إليها الماتريدي في تفسيره، ما جاء في قوله تعالى: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا)، حين قال: " يشبه أن يكون الضحك كناية عن الفرح والسرور، والبكاء كناية عن الحزن، يقول: افرحوا وسروا قليلاً، وتحزنون في الآخرة طويلًا ". ولم يشر -أيضًا- الماتريدي إلى النكتة البلاغية بغرض إثباتها وحسب، بل لأنها تخدم المعنى وترشد إليه؛ ولذلك كان الماتريدي مقلاًّ من الاتكاء على مباحث البلاغة، ولم يكن تفسيره تفسيرًا بلاغيًّا صرفًا ككتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة، أو كتب إعجاز القرآن ككتاب إعجاز القرآن للباقلاني، ولم يكن متشبعًا بالمباحث البلاغية كتفسير الزمخشري مثلاً، بل إن النكتة البلاغية تأتي لبيان غرض معين. ولعل عدم اهتمام الماتريدي بعلوم اللغة راجع إلى أمرين:

ثامنا: إعمال العقل والتفسير بالرأي:

الأول: اهتمامه بالمضمون دون الشكل، والمعنى دون اللفظ. والثاني: اهتمامه في تفسيره بالمسائل العقدية والفقهية، وهو أمر مترتب على الأول. ثامنًا: إعمال العقل والتفسير بالرأي: إن الماتريدي فضلاً عن اعتماده على المصادر المذكورة سابقًا، أعمل عقله في الآيات وقال فيها برأيه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو حين يعمل عقله يقلب الآية على وجوهها المختلفة تارة، ويذكر فيها وجهًا واحدًا تارة أخرى. فمن الأول -وهو كثير-: ما جاء في تفسيره قول اللَّه تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ)، حيث قال الماتريدي: قوله عَزَّ وَجَلَّ: (الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يجعلهم دركات بعضها أسفل بعض؛ كقوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ). والثاني: يحتمل أن يجعل بعضهم على بعض مقرنين في الأصفاد. (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا) قيل: يجمعه جميعًا بعضهم على بعض ". ومن الثاني ما جاء في تفسيره لصدر الآية المذكورة (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) حيث قال: " جعل اللَّه تعالى الخبيث مختلطًا بالطيب في الدنيا في سمعهم وبصرهم ونطقهم وجميع جوارحهم ولباسهم وطعامهم وشرابهم وجميع منافعهم من الغنى والفقر وأنواع المنافع، جعل بعضهم ببعض مختلطين في الدنيا. . . لكنه ميز بين الطيب والخبيث في الآخرة بأعلام، يعرف بتلك العلامات الخبيث من الطيب، من نحو ما ذكر في الطيب قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23). ويلفت النظر في تفسير الماتريدي بالرأي أنه يتوخى المعاني القريبة من ظاهر الآية، فهو لا يوغل في التأويل كما يفعل المتصوفة في تفسيراتهم ولا يقف عند حدود ظاهر النص كما يفعل الظاهرية، بل إن الماتريدي ينظر في الآيات نظرة فاحصة معتدلة، ويتجه إلى المعاني التي تحتملها الآيات ولا تخرج بها عن المراد منها. القضية الثانية: طريقة الماتريدي في التفسير: نستطيع من خلال ما عرضناه من مصادر الماتريدي في التفسير ومن خلال تأمل التفسير الذي بين أيدينا أن نتلمس بعض الخطوط العامة لمنهج الماتريدي في التفسير.

إن منهج الماتريدي منهج متميز متفرد، فقد اختط لنفسه طريقة خاصة، وأسلوبًا متميزًا، وهي طريقة تتميز بالشمولية، وأسلوب يتسم بالوضوح، فهو يقوم باستقصاء الآية من كافة وجوهها، ويعرض المعنى الذي يريد إبرازه في وضوح ويسر، يفهمه القارئ العادي فضلاً عن المتخصص وكأننا أمام تفسير حديث، وليس تفسيرًا كتب في القرن الرابع الهجري. وهذه الطريقة تتميز عن طريقة المفسرين السابقين، من وجوه يمكن استخلاصها مما سبق: الأول: أن التفاسير السابقة كانت تقوم -في مجملها- على الرواية، بمعنى أن هذه التفسيرات تندرج تحت ما يعرف بـ " التفسير بالمأثور "، لكن الماتريدي يجمع بين الأمرين جميعًا. الثاني: أن التفاسير السابقة كانت تعتمد على السنة عند إيراد المرويات، سواء كانت هذه المرويات أحاديث عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أم أقوالاً للصحابة، أو حتى أقوالاً لمفسري التابعين، فالمفسر كان يأتي بالسند كاملاً حتى يرفع الخبر أو الأثر المروي إلى قائله، وخير مثال على ذلك تفسير ابن جرير الطبري. ولم يقتصر الأمر على التفاسير المتقدمة وحسب، بل إن تفسيرًا كتفسير القرآن العظيم لابن كثير المكتوب في القرن الثامن الهجري، يقوم على هذه الطريقة، فنجد السند والعنعنات. وهذا بخلاف تفسير تأويلات القرآن الكريم للماتريدي الذي تخلى عن ذكر السند في نقله للمرويات، سواء كانت من السنة أو من غيرها، حتى أننا نجده أحيانًا يهمل حتى القائل المباشر للرواية، فيقول: " قَالَ بَعْضُهُمْ " أو: " قيل "، وهكذا. وهذه الطريقة هي التي نجدها في تفسيرات المحدثين، وهي تناسب عصر الناس هذا، وكان الماتريدي سابقًا إليها قبل المحدثين بقرون متطاولة. الثالث: أن تفسير الماتريدي -كما قلنا- شامل وعام، فنجد فيه: المسائل الاعتقادية، والمسائل الققهية، ومضمون الآية، بخلاف التفسيرات السابقة، بل وأحيانًا اللاحقة التي يكون من همها التركيز على جانب واحد من جوانب هدايات القرآن المتعددة، فنجد مفسرًا ينصب اهتمامه على مسائل اللغة، ومفسرًا آخر ينصب اهتمامه على مسائل الفقه، وبعضهم على مسائل الاعتقاد، وهكذا.

أولا: يقوم الماتريدي -أحيانا- بعرض الآراء

وطريقة الماتريدي أو منهجه يقوم على عدة خطوط عامة، هي: أولًا: يقوم الماتريدي -أحيانًا- بعرض الآراء التي قيلت حول الآية، أو الأوجه المحتملة فيها، فيستخدم: " قَالَ بَعْضُهُمْ "، " قال آخرون "، أو: " قيل "، أو: " قيل فيه بوجوه "، أو: " قال فلان ". . . وهكذا. وهذا حينما يفسر بالنقل لا بالعقل، وإزاء هذه النقول لا يقف الماتريدي عاجزًا، بل ينقد ويحلل ويوجه ويختار من بين الأقوال المذكورة ما يراه أولى بمعنى الآية والمراد منها. ثانيًا: يقوم الماتريدي -أحيانًا- بذكر الأوجه المحتملة في تفسير الآية وذلك حين يفسر بالرأي، فيقول: " يحتمل "، أو: " يحتمل وجوه ". . . وهكذا. ثالثًا: يقوم الماتريدي باستخلاص المسائل الاعتقادية والمسائل الفقهية، ويدير حولها حوارًا طويلاً يستقصي جوانبها، حتى لو لم يكن بعض هذه الجوانب داخلاً تحت إطار الآية المفسرة. رابعًا: يبدأ الماتريدي أحيانًا تفسيره للآية بذكر القراءات الواردة فيها، فحين يفسر قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الآية يقول: " اختلف في قراءتها: قرأ بعضهم بالياء، وبعضهم بالتاء " ويعلل للقراءات بقوله: " فمن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. . . ومن قرأ بالياء صرف الخطاب إلى الكفرة ". خامسًا: يبين الماتريدي -أحيانًا- أسباب نزول الآية، ولكنه لا يسلم ببعضها؛ لما يراه أنه مخالف للمعنى المقصود، وقد سبقت الإشارة إلى شيء من هذا القبيل. سادسًا: يبين الماتريدي -أحيانًا- المعنى اللغوي لبعض الألفاظ، ولا يهتم في تأويله بالشعر فلا يأتي إلا نادرًا، ولا يهتم بأقوال العرب؛ اكتفاء منه بالقرآن الكريم وسنة المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأقوال الصحابة والتابعين وأقوال العلماء. سابعًا: أن الماتريدي حين يستعين بالسنة لا يهتم بذكر السند، كما أنه يذكر الحديث بالمعنى، وكأنه يعتمد على حفظه دون كتب السنة المثبت فيها الأحاديث، ثم إنه يجتزئ من الحديث بما يدل على الغرض، ولا يهتم بإيراده كاملًا. ثامنًا: يهمل الماتريدي الحديث عن المكي والمدني، وإبراز فضائل السور، والناسخ والمنسوخ. تاسعًا: أنه حين يشرع في تفسير أي سورة لا يقدم لها، بل يدخل إلى عالمها مباشرة،

ويعيش في رحاب آياتها دون أن يعرفنا شيئًا عن طبيعة هذه السورة، وعدد آياتها، وهل هي مكية أو مدنية، والظروف العامة لنزولها. . . إلخ. ويمكن القول: إنه من خلال عرض منهج الماتريدي وطريقته في التفسير، يتبين القارئ أنه أمام تفسير غاية في الأهمية، يجمع كثيرًا من أطراف العلوم، وأنه يقوم على منهج نقدي تحليلي يقف ضد العقليين والنصيين المتطرفين. يقول الكوثري: " كانت بلاد ما وراء النهر سليمة من أهل الأهواء والبدع؛ لسلطان السنة على النفوس هناك من غير منازع، تتناقل تلك الآثار بينهم جيلاً بعد جيل، إلى أن جاء إمام السنة فيما وراء النهر أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد الماتريدي المعروف بإمام الهدى؛ فتفرغ لتحقيق مسائلها وتدقيق دلائلها؛ فأرضى بمؤلفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد ". * * *

الفصل الثالث بذور التجديد في تفسير الماتريدي

الفصل الثالث بذور التجديد في تفسير الماتريدي يمكن رصد التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة في ناحيتين: الأولى: الإطار العام. والثانية: الجزئيات. فأما الناحية الأولى فتتمثل في: أولًا: التجديد في المنهج: سبق أن بينا أن طريقة الماتريدي في تفسيره طريقة متميزة، ومنهجه متطور إلى حد كبير، سواء من جهة الإطار العام، أو من جهة جزئيات المنهج. فقد قام المنهج الماتريدي في تفسيره على التحليل والنقد، ولم يكن هذا معهودًا في التفسير قبل الماتريدي؛ حيث كان التفسير -كما قلنا- يعتمد على الرواية دون كبير تدخل من المفسر ودون نقد أو تمحيص أو تحليل، وفتح الماتريدي بهذا الباب واسعًا أمام من جاء بعده للتوسع في التحليل والشرح والتأويلات للآيات بإعمال العقل والنقل جميعاً. وقد توسع الماتريدي في تفسيره في إعمال العقل، لكن مقيدًا بالنص، وهو لون من ألوان التجديد؛ حيث استطاع الماتريدي الموازنة بين العقل والنقل، وقد كان السابقون عليه يعتمدون في تفسيراتهم على النقل فقط. صحيح أن هناك من سبق الماتريدي في إعمال العقل، لكنه لم يكن في تفسير القرآن الكريم، بل كان في المسائل الاعتقادية، والمسائل الفقهية. ويعد من التجديد في الإطار العام للمنهج عند الماتريدي في تفسيره الاستغناء عن ذكر السند عند التفسير بالمرويات. ثانيًا: الاهتمام بالمسائل الاعتقادية: اهتم الماتريدي كثيرًا في تفسيره بالمسائل الاعتقادية، ولعله غير مسبوق في الاهتمام بالمسائل الاعتقادية في التفسير؛ حيث كانت التفاسير السابقة تقوم على بيان معنى لفظ، أو شرح آية بشروح موجزة، مع ذكر الروايات حول الآية موضع التفسير، أما الاهتمام بالمسائل الاعتقادية التي تتضمنها فلا نكاد نجدها في التفاسير السابقة على تفسير تأويلات

أهل السنة، فقد توسع هذا التفسير في بيان هذه المسائل وناقشها، وذكر مذاهب العلماء فيها، بما يزيد -أحيانًا- عما تتضمنه الآيات من معان. ثالثًا: الاهتمام بالمسائل الفقهية: يعتبر الماتريدي في تأويلاته رائد المفسرين الذين ركزوا على المسائل الفقهية وعرض الآراء حولها في تفسيراتهم: كالإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن الكريم، فقد قام الماتريدي بعرض المسائل الفقهية المتضمنة في بعض الآيات، وعرض الآراء حولها، وزاد عن الحد المطلوب من الآية أحيانًا، وقد ذكرنا نماذج من هذا القبيل. رابعًا: بروز شخصية الماتريدي في التفسير: كانت التفاسير السابقة على الماتريدي تعتمد -كما قلنا مرارًا- على المرويات، أما تفسير تأويلات أهل السنة فقد اعتمد فيه الماتريدي على التحليل، وعرض الآراء ومناقشتها، والقول في القرآن بالرأي، وإبداء الآراء الشخصية حول الآيات، فنحن نحس بشخصية الماتريدي بارزة في تفسيره، فلم يكن مجرد ناقل أو جامع للروايات كما كان شأن أسلافه، والنماذج السابقة تكشف عن ذلك بوضوح. هذه هي أبرز بذور التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة، الذي أحسبه يسلك فيه منهجًا ويتبع فيه طريقة لم يسلكها المفسرون المتأخرون. * * *

الفصل الرابع تأثر الماتريدي بمن سبقوه

الفصل الرابع تأثر الماتريدي بمن سبقوه إن الماتريدي تأثر بمن سبقه، عامة، وتأثر بالإمام أبي حنيفة النعمان خاصة، حيث أخذ عنه الإطار العام لمذهبه في الكلام. لقد تأثر الماتريدي بالمنهج المتوازن بين العقل والنقل الذي سلكه أبو حنيفة، فقد سلك ذلك المسلك الوسط الذي لم يسلكه -كما يقول الشيخ أبو زهرة- سوى أبي حنيفة، وبلغ فيه الشأو والغاية. وهذا المنهج الذي سار عليه الإمام أبو حنيفة، وتبناه الماتريدي، لا يقدح في سلفية كل منهما، ولا يخرجهما عن دائرة أهل السنة؛ لأن أبا حنيفة يعد أول من كون مدرسة كلامية لأهل السنة وحاربت المبتدعة، وأظهرت الحق جليَّا. يقول أبو اليسر البزدوي: " أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تعلم هذا العلم، وكان يناظر المعتزلة وأهل البدع، وكان يعلمه أصحابه في الابتداء، وقد صنف فيه كتبًا، وقع بعضها إلينا، وعامتها محاها وغسلها أهل البدع، ومما وقع إلينا كتاب العالم والمتعلم، وكتاب الفقه الأكبر، وقد نص كتاب العالم والمتعلم أنه لا بأس بتعلم العلم ". وهذا النص يكشف عن دور أبي حنيفة البارز، كما يدل في الوقت نفسه على مجموعة من مؤلفاته التي أثرت في الماتريدي كما سنعرف فيما بعد. وهذه الكتب رد فيها على المعتزلة، وبخاصة كتابه: الفقه الأكبر، ونصر فيه قول أهل السنة في خلق الأفعال، وفي الاستطاعة مع الفعل. ولقد استفاد الماتريدي من هذه الكتب، فقد تناول هذه الكتب والرسائل، وتأثر بها تأثرًا فكريًّا واضحًا؛ حتى إنه ليمكن القول: إن منهج الماتريدي لا يخرج عن المنهج العام الذي وضعه أبو حنيفة في مؤلفاته، هذا المنهج الذي يستخدم العقل، لكنه العقل المقيد بالنص، بحيث لا يخرج عنه، ولا يتقدم عليه بحال؛ لأن اللَّه تعالى ركب العقول ووفقها للاستدلال. ومعلوم أن أبا حنيفة - رحمه اللَّه - كون مدرسة فكرية ضمت أعظم العلماء وجهابذة

الفكر في أصول الدِّين وفروعه، ويرى الزبيدي أن علم أبي حنيفة المذكور في كتبه هو من الأمالي التي أملاها على أصحابه كحماد وأبي يوسف وأبي مطيع بن عبد اللَّه البلخي وأبي مقاتل حفص ابن مسلم السمرقندي، فهم الذين قاموا بجمعها، وتلقاها عنهم جماعة من الأئمة كإسماعيل بن حماد ومُحَمَّد بن مقاتل الرازي ونصر بن يَحْيَى البلخي وغيرهم، إلى أن وصلت إلى أبي منصور الماتريدي. ولكن كيف وصل علم أبي حنيفة ومؤلفاته إلى الماتريدي؟ معلوم أن الإسلام تغلب على بلاد ما وراء النهر منذ الفتح الإسلامي -كما أشرنا إلى ذلك في أول هذه الدراسة- وأن أهل هذه البلاد دخلوا في الإسلام أفواجًا، وأنهم فتحوا المدارس لتعليم الناس أمور الدِّين الإسلامي. ولما ظهرت المذاهب الفقهية اعتنق أكثرهم المذهب الحنفي، فانتشرت آراء أبي حنيفة وكتبه في هذه البلاد، ومن هنا يقول أبو معين النسفي: " إن أئمة أصحاب أبي حنيفة السالكين طريقه في الأصول والفروع الناكبين عن الاعتزال في جميع ديار ما وراء النهر وخراسان من مرو، وبلخ وغيرهما - كلهم من قديم الزمان كانوا على هذا المذهب ". ومن أبرز هَؤُلَاءِ الأئمة: أبو مطيع البلخي الذي تفقه على أبي حنيفة، وأبو سليمان الجوزجاني صاحب مُحَمَّد بن الحسن الذي أخذ عنه الفقه وروى كتبه، وعلى أبي سليمان الجوزجاني تتلمذ أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني وأبو نصر العياضي اللذان أخذ عنهما أبو منصور الماتريدي كما ذكرناه عند حديثنا عن ترجمته وشيوخه. ولم يكن تأثير المذهب الحنفي في الماتريدي في المذهب الكلامي فقط، بل إنه تأثر به في مجال الفقه، وتأثر به في المنهج والطريقة. ولم يكن -أيضًا- المذهب الحنفي هو المؤثر الوحيد في الماتريدي، بل إنه -وكما بان لنا- تأثر بالصحابة فيما نقل عنهم، وتأثر بالتابعين، وتأثر بجملة من العلماء لا يمكن حصرهم، وقد ذكرنا نماذج دالة على ذلك فيما سبق. لكن ما يجب التنبيه إليه هو أن الماتريدي عندما نقل وتأثر بسابقيه لم يكن بالمقلد التابع الذي يحتذي دونما بصر أو وعي، بل كان ينقض وينقد ويحلل ويدقق؛ ولذلك يمكن أن يقال: استطاع أبو منصور أن يؤسس المنهج الماتريدي؛ إذ كان أول متكلم من أهل السنة يعرض نظرية المعرفة بطريقة منهجية تحدد سيره في الاستدلال والوصول إلى

العلم، حتى كان رائدًا لأهل السنة في اتباع هذه الطريقة. هذا، ولقد تأثر الماتريدي بأبي حنيفة في آرائه الكلامية، حيث إن المدرسة السنية فيما وراء النهر، ظلت تدافع عن العقيدة الصحيحة، بدفع البدع، وصد الانحرافات، ومقاومة الضلالات الناتجة عن التعصب للفرق المخالفة لأهل السنة، بعيدًا عن التوغل في الدقائق الكلامية، مهتدية في مسلكها بمنهج الإمام أبي حنيفة دون أن تدخل عليه جديدًا، الأمر الذي جعلنا لم نصل إلى آراء خاصة لهم خارجة عن آراء شيخهم، وهَؤُلَاءِ مهدوا الطريق لأبي منصور للقيام بمنهجه ولإرساء دعائم مذهبه الكلامي المتأثر بمنهج أبي حنيفة والمجدد في الوقت ذاته. * * *

الفصل الخامس تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده

الفصل الخامس تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده لقد كان الماتريدي من أفاضل علماء أهل السنة في بلاد الشرق الإسلامي، ففي الطبقات السنية: اتفق الناس على علو قدره وعظم محله وطيب نشره، فإنه كان من كبار علماء الإسلام الذين بعلمهم يقتدى، وبنور فضلهم يهتدي، وكان إمام المتكلمين ومصحح عقائد المسلمين، نصره اللَّه بالصراط المستقيم، فصار في نصرة الدِّين القويم، صنف التصانيف الجليلة، ورد أقوال أصحاب العقائد الباطلة. ولذلك كان أثر الماتريدي في لاحقيه أثرًا كبيرًا، ولعلنا نتلمس هذا التأثير في عدة اتجاهات هي: أولًا: تأثيره في التفسير: تأثر الذين جاءوا من بعد الماتريدي به كثيرًا في التفسير، فأخذ عنه كثير من المفسرين، منهم صاحب روح المعاني، حيث تجد تأثره بالماتريدي في تفسير قوله تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ويقول: " فهو الحامد والمحمود، والجميع شئونه، ولهم كلام غير هذا، والكل يُسقى بماء واحد، وعن إمامنا الماتريدي -روح اللَّه روحه- أنه جعل هذا حمدًا من اللَّه تعالى لنفسه، قال: وإنما حمد نفسه ليعلم الخلق، ولا ضير في ذلك؛ لأنه سبحانه هو المستحق لذاته والحقيق بما هنالك؛ إذ لا عيب يمسه، ولا آفة تحل به ". وينقل عنه الآلوسي -أيضًا- تفريقه بين التفسير والتأويل، فيقول: " وقال الماتريدي: التفسير: القطع بأن مراد اللَّه تعالى كذا، والتأويل ترجيح أحد الاحتمالات بدون قطع، وقيل: التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية ". ونقول الآلوسي عن الإمام الماتريدي في تفسيره لا تحصى عددًا. ونقل عنه -أيضًا- القرطبي، فعند تفسيره قول اللَّه تعالى: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ) قال: " حكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي - رحمه اللَّه - أنه قال:

يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية، أما من لم يجاوز الحد وفعل كما كان يفعل في عهد رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - فهو حسن ". وأفاد من الماتريدي -أيضًا- المفسر الكبير، واللغوي البحر، الجامع بين الرواية والدراية، العالم أبو حيان في كتابه البحر المحيط، فمثلاً عند قوله تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ)، ينقل عن الماتريدي تأويله: " ويحتمل أن يراد بالشح الحرص، وهو أن يحرص كل على حقه، يقال: هو شحيح بمودتك، أي: حريص على بقائها، ولا يقال في هذا: بخيل، فكأن الشح والحرص واحد في المعنى، وإن كان في أصل الوضع: الشح للمنع، والحرص للطلب، فأطلق على الحرص الشح؛ لأن كل واحد منهما سبب لكون الآخر، ولأن البخل يحمل على الحرص، والحرص يحمل على البخل ". هذا ولم يقتصر تأثير الماتريدي على مفسري المتقدمين، بل لقد أفاد منه مفسرو المتأخرين حتى عصرنا الحاضر، فقد أفاد منه السيوطي في الإتقان، وأفاد منه الزرقاني في مناهل العرفان، وأفاد منه الزركشي في برهانه، وأفاد منه ابن تيمية في فتاويه، وغيرهم كثير وكثير، وما يزال اسم الماتريدي وتفسيره تأويلات أهل السنة يتردد في تفاسير المحدثين وبحوثهم في التفسير. ثانيًا: تأثير الماتريدي في العقيدة: لقد كان لمذهب الماتريدي الكلامي أثره في اللاحقين، فقد أفادوا منه أيما إفادة، وأفادوا من مسائله الاعتقادية التي عرضها في تفسيره تأويلات أهل السنة. وتدليلاً على ذلك نسوق بعض النماذج، فقد جاء في أنواء البروق ما نصه: " وأما الحلف بصفات الأفعال، ففي المجموع وشرحه وحاشيته ما حاصله: أن اليمين لا ينعقد بنحو الإماتة والإحياء، اللهم إلا أن يلاحظ المذهب الماتريدي، وهو أن صفات الأفعال

قديمة ترجع إلى صفة التكوين، أو يريد مصدرها ومنشأها وهو القدرة والاقتدار الراجع للصفة المعنوية، أي: كونه قادراً؛ إذ المعنوية ينعقد بها جزمًا ". ونقل عنه وعن غيره ابن تيمية، ما نصه: " وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام من الرادين على المعتزلة والمرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيطردون ما ذكر من الأدلة، ويقولون: لا يكون فاعلاً إلا بفعل يقوم بذاته وتكوين يقوم بذاته، والخلق الذي يقوم بذاته غير الخلق الذي هو المخلوق، وهذا هو ما ذكره الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك في كتبهم، كما ذكره فقهاء الحنفية كالطحاوي وأبي منصور الماتريدي ". وفي فتاوى الرملي: " أن الكلام القديم هو صفة اللَّه تعالى يجوز أن يسمع بلا صوت ولا حرف؛ كما يرى في الآخرة بلا كم ولا كيف، وهذا هو المرجح في كلام الشيخ جلال الدِّين، ومنع الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ذلك، وهو اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي ". وتأثر اللاحقين بالماتريدي في الآراء الكلامية أكثر من أن تقوم به هذه الصفحات القليلة، بل إنه يحتاج إلى دراسات مستفيضة، وكيف لا وهو صاحب ذلك المذهب المعروف بمذهب الماتريدية في علم الكلام كما أوضحنا من قبل. ثالثًا: تأثير الماتريدي في علم الفقه: امتد تأثير الماتريدي في لاحقيه إلى الفقه، فقد أفاد منه العلماء في هذا المجال إفادة جمة، وفي سبيل إثبات ذلك نذكر بعض النماذج الدالة، منها ما ذكر صاحب بدائع الصنائع من " أنه إذا استيقظ فوجد على فخذه أو على فراشه بللًا على صورة المذي، ولم يتذكر الاحتلام - فعليه الغسل في قول أبي حنيفة ومُحَمَّد، وعند أبي يوسف لا يجب، وأجمعوا أنه لو كان منيًّا أن عليه الغسل؛ لأن الظاهر أنه عن احتلام، وأجمعوا أنه إن كان وديًا لا غسل عليه؛ لأنه بول غليظ، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه إذا وجد على

فراشه منيًّا فهو على الاختلاف، وكان يقيسه على ما ذكرنا من المسألتين. وجه قول أبي يوسف أن المذي يوجب الوضوء دون الاغتسال، ولهما ما روى إمام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي بإسناده عن عائشة - رضي اللَّه عنها - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إذا رأى الرجل بعدما ينتبه من نومه بلة، ولم يذكر احتلامًا اغتسل، وإن رأى احتلامًا، ولم ير بلة فلا غسل عليه "، وهذا نص في الباب ". وفي تفسير قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الآية، نقل أبو حيان عن الماتريدي قوله: " في الآية دليل على أن المال كله للذكر، إذا لم يكن معه أنثى؛ لأنه جعل للذكر مثل ما للأنثيين، وقد جعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر، بقوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فدل على أن للذكر حالة الانفراد مثلي ذلك، ومثلًا النصف هو الكل. انتهى ". رابعًا: تأثير الماتريدي في علوم اللغة: لم يكن تأثير الماتريدي كبيرًا في علوم اللغة؛ نظرًا؛ لأنه كان لا يعتمد عليها في تفسيره كثيرًا، ومع هذا لا نعدم نقلاً عنه هنا أو هناك في هذا المجال؛ ومن ذلك ما جاء في التلويح عند الكلام عن قول اللَّه تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40). " ذهب الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي - رحمه اللَّه - إلى أن هذا مجاز عن سرعة الإيجاد، والمراد التمثيل لا حقيقة القول ". وخلاصة ما سبق أن الماتريدي كان له فضل على لاحقيه لا ينكر، وأن أثره ممتد ومتشعب في مجالات شتى من العلوم: علم الكلام، والفقه، واللغة، والتفسير، وغيرها؛ مما يدل على موسوعية هذا العالم الجليل وفضله الذي لا ينكر في خدمة الإسلام وعلومه. * * *

وصف نسخ الكتاب الخطية

وصف نسخ الكتاب الخطية اعتمدنا في تحقيق " تأويلات أهل السنة للماتريدي " على ثلاث نسخ خطية: نسختين بدار الكتب المصرية، ونسخة بتركيا. النسخة الأولى: نسخة مصورة منقولة عن المخطوطة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم " 6 " قوله، ومحفوظة أيضًا تحت رقم 27306 ب وتقع في ثلاثة مجلدات، ينتهي الأول بورقة 219، والثاني بورقة 440، والثالث بورقة 656. والنسخة مكتوبة بخط مصطفى بن مُحَمَّد بن أحمد في سنة 1165 هـ، وتشتمل على 656 ورقة، وهي نسخة جيدة كاملة، ليس فيها تآكل سوى الورقة الأولى، وكل صفحة منها تتكون من سبعة وأربعين سطرًا، يشتمل كل سطر على نحو خمس وعشرين كلمة. والمخطوطة الأصلية المصور عنها تقع في مجلد واحد، مذهبة الصفحات تبدأ فيها كل آية بمداد أحمر تكتب به كلمة: قوله، والخط فيها واضح تمامًا، وبها من هذه النسخة بعض تعليقات، إما تكميل آية وردت بالأصل، أو تعليق على رأى بمزيد توضيح، أو تبيين لمعنى لغوى. النسخة الثانية: نسخة مصورة منقولة عن النسخة الخطية المحفوظة بمكتبة كوبريلِّي بالآستانة تحت رقم 48، ومحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 873 تفسير، وهي مكتوبة بخط أحمد بن مُحَمَّد يوسف الخالدي الصفدي الحنفي 818 هـ، ولوجد من هذه النسخة بدار الكتب المصرية أجزاء تنتهى بتفسير سورة الإسراء، وتقع في 1639 ورقة، وفي كل صفحة 35 سطرًا تقريبًا، ويشتمل كل سطر على نحو 16 كلمة، وخطها واضح في الأغلب منها، ويوجد بعض أجزاء من هذه المصورة في مكتبة معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية بالقاهرة، وقد تم الاعتماد عليها في التحقيق. النسخة الثالثة: يوجد منها جزء واحد موجود في دار الكتب المصرية في ضمن أجزاء نسخة كوبريلِّي، ولكنه يختلف عن هذه النسخة من جهات: - الجزء أصل مخطوط، بينما أجزاء نسخة كوبريلِّي مصورة. - ثم إنه بخط يختلف عن خط النسخة. - وتتكون صفحاته كل صفحة من نحو 28 سطرًا، يشتمل كل سطر على 15 كلمة تقريبًا. وهذا يؤكد أن هذا الجزء يختلف عن هذه النسخة، وأنه من نسخة أخرى.

وهذا الجزء يبدأ بتفسير سورة " المنافقون " من قوله: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) إلى آخر القرآن الكريم، وعدد صفحاته 256 صفحة، وفيه خرم ورقة أو ورقتين من سورة المزمل. * * *

صور المخطوط

صور المخطوط صورة من نسخة دار الكتب المصرية فيها تفسير سورة الفاتحة

صور المخطوط صورة من نسخة دار الكتب المصرية

صورة الصفحة الأخيرة من نسخة دار الكتب المصرية

صورة أول فاتحة الكتاب من نسخة مكتبة كوبريلي

صورة من نسخة مكتبة كوبريلِّي

مقدمة المصنف

مقدمة المصنف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي، رضي اللَّه تعالى عنه: الفرق بين التأويل والتفسير هو ما قيل: التفسير للصحابة، رضي اللَّه عنهم، والتأويل للفقهاء، ومعنى ذلك: أن الصحابة شهدوا المشاهد، وعلموا الأمر الذي نزل فيه القرآن. فتفسير الآية أهم لما عاينوا وشهدوا، إذ هو حقيقة المراد، وهو كالمشاهدة، لا تسمح إلا لمن علم، ومنه قيل: من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار؛ لأنه فيما يفسر يشهد على اللَّه به. وأما التأويل: فهو بيان منتهى الأمر، مأخوذ من: آل يؤول، أي يرجع، ومعناه - كما قال أبو زيد: لو كان هذا كلام غيره يوجه إلي كذا وكذا من الوجوه، فهو توجيه الكلام إلى ما يتوجه إليه، ولا يقع التشديد في هذا مثل ما يقع في التفسير، إذ ليس فيه الشهادة على اللَّه؛ لأنه لا يخبر عن المراد، ولا يقول: أراد اللَّه به كذا، أو عنى، ولكن يقول: يتوجه هذا إلى كذا وكذا من الوجوه، هذا مما تكلم به البشر. واللَّه أعلم ما صحته من الحكمة. ومثاله: أن أهل التفسير اختلفوا في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: إن اللَّه تعالى حمد نفسه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمر أن يُحمد. فمن قال: عنى هذا، دون هذا، فهو المفسر له. وأما التأويل - فهو أن يقول: يتوجه الحمد إلى الثناء والمدح له، وإلى الأمر بالشكر لله عَزَّ وَجَلَّ، واللَّه أعلم بما أراد. فالتفسير -ذو وجه واحد، والتأويل- ذو وجوه. * * *

سورة فاتحة الكتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) التَّسمِيةُ هِيَ آيةٌ مِنَ الْقُرْآن، وَلَيسَتْ مِنْ فاتِحةِ الكِتاب. دليل جعلها آية: ما رُويَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأبي بن كعب: " لأُعلمنَّكَ آيةً لَم

تَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبلي إِلَّا عَلَى سُلَيمَانَ بنِ دَاودَ فأَخْرَجَ إِحْدَى قَدَمَيهِ، ثمَّ قَالَ له: بأَي آيةٍ تفتتح بها القرآن؟ قال: بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). فَقَالَ: هِيَ هِيَ ". ففى هذا أنها آية من القرآن، وأنها لو كانت من السور لكان يعلمه نَيِّفًا ومائةَ آيةٍ لا آيةً واحدةً. ولو كانت منها أيضًا؛ لكان لا يجعلها مفتاح القرآن، بل يجعلها من السور. ثم الظاهر أن من لم يتكلف تفسيرها عند ابتداء السورة ثبت أَنها ليست منها. وكذلك تركُ الأُمةِ الجهرَ بها، على العلم بأنه لا يجوز أن يكون رسولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يجهر بها ثم يخفى ذلك على من معه، وأن يكونوا غفلوا ثم يضيعون سُنَّةً بلا نفع يحصل لهم، حتى توارثت الأمة تركَها فيما يحتمل أن يكون الجهر سنة ثم يخفى، فيكون في فعل الناس دليل واضح أنها ليست من السور. ودليل آخر على ذلك ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن اللَّه أنه قال: " قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبَينَ عَبدِي نِصْفَينِ، فإِذَا قَالَ العَبدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). فقال: هذا لي ". وهي ثلاث آيات. وقال بعد قوله: (اهدِنَا) إلى آخرها: " هَذَا لِعَبدِي "، ثبت أنها ثلاثُ آيات؛ لتستويَ القسمة. ثم قال في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ): " هذا بيني وبين عبدي نصفين ".

فثبت أنها آية واحدة؛ فصارت بغير التسمية سبعًا. وذلك قول الجميع: إنها سبع آيات مع ما لم يذكر في خبر القسمة؛ فثبت أنها دونها سبع آيات. وقد رُويَ عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " صلَّيْتُ خلفَ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وخلف أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمان - رضي اللَّه عنهم - فَلمْ

يكونوا يَجْهرُونَ بـ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ".

وروى ذلك عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعبد اللَّه بن عمر وجماعة، وهو الأَمر المعروف في الأُمة، مع ما جاءَ في قصة السحر: أن العُقَد كانت إحدى عشرة، وقرأَ عليها المعوذتين دون التسمية؛ فكذا غيرها من السور مع ما إذا جعلت مفتاحًا كانت كالتعوذ، واللَّه الموفق. والأصل عندنا أن المعنى الذي تَضَمنُه فاتحةُ القرآن فرض على جميع البشر؛ إذ فيه الحمد لله والوصف له بالمجد، والتوحيد له، والاستعانة به، وطلب الهداية، وذلك كله يَلزَم كافةَ العقلاء من البشر، إذ فيه معرفة الصانع على ما هو معروف، والحمدُ له على ما يستحقه، إذ هو المبتدئ بنعمه على جميع خلقه، وإليه فقر كلِّ عبدٍ، وحاجةُ كلِّ محتاج، فصارت لنفسها -بما جمعت الخصال التي بَيَّنَّا- فريضةً على عباد اللَّه.

ثم ليست هي في حق الصلاة فريضة، وذلك نحو التسبيحات بما فيها من تنزيه اللَّه. والكبيرات بما فيها من تعظيمه فريضة لنفسها؛ إذ ليس لأَحد ألا ينزه ربه، ولا يعظمه من غير أَن يوجب ذلك فرضيتها في حق الصلاة، وفي حق كل مجعولة هي فيه، لا من طريق توضيح الفرضية من غير طريق الذي ذكرت. ثم ليست هي بفريضة في حق القراءَة في الصلاة؛ لوجوه: أحدها: أَن فرضية القراءَة عرفنا بقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وفيها الدلالة من وجهين: أحدهما: أنه قد يكون غيرها أَيسرَ. والثاني: أن فرضيَّة القراءَة في هذه الآية من حيث الامتنان بالتخفيف علينا والتيسير، ولو لم يكن فريضة لم يكن علينا في التخفيف منَّةٌ إذًا بالترك. ثم لا نخير في فاتحة القرآن، والآية التي بها عرفنا الفرضية فيما تخير ما يختار من الأيسر، ثبت أنها رجعت إلى غيرها، وباللَّه التوفيق. والثاني: أن نبي اللَّه أخبر عن اللَّه: أنه جعل بها في حق الثناء، وهو ما ذكر في خبر القسمة فصارت تقرأ بذلك الحق، فلم يخلص لها حق القراءَة، بل أَلحق بها حق الدعاء والثناءِ، وليس ذلك من فرائض الصلاة، وباللَّه التوفيق. والثالث: ما رُويَ عنِ عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَحْيَا ليلة بقوله: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) الآية. وبه كان يقوم، وبه كان يركع، وبه يسجد، وبه يقعد ". فثبت أنه لا يتعين قراءَتها في الصلاة مع ما أَيَّده الخبر الذي فيه

" أَنِ ارْجِعْ فَصَل فَإِنَّكَ لَم تُصل "؛ إذ قال له وقت التعليم: " اقْرَأْ مَا تيسَّرَ عَلَيكَ " فثبت أَن المفروض ذلك. وأيضا رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَنه قال: " لا صَلاةَ إِلا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ ".

ثم رُويَ عنه بيان محلها: " إِنَّ كُلَّ صَلاةٍ لَم يُقْرَأْ فيها بِفَاتِحَةِ الكتابِ فهِيَ خِدَاجٌ، نُقْصَان، غَيرُ تَمَام ". والفاسدُ لا يوصف بالنقصان، وإنما الموصوف بمثله ما جاز مع النقصان. وبالله التوفيق. ثم خص فاتحة القرآن بالتأمين بما سُمِّي بالذي ذكَره خبرُ القسمة. وغير الفاتحة وإن كان فيه الدعاءُ، فإنه لم يخص بهذا الاسم؛ لذلك لم يجهر به، فالسبيل فيه ما ذكرنا في القسمة، مع ما كان هو أخلص بمعنى الدعاء منها. ثم السُّنَّة في جميع الدعوات المخافَتةُ. والأصل: أنَ كل ذِكِر يشترك فيه الإمام والقوم فَسُنتُه المخافتة إلا لحاجة الإعلام، وهذا يعلم من قوله: (وَلَا الضَّالِّينَ) فيزول معناه. وسبيل مثله المخافتة مع ما جاءَ به مرفوعًا ومتوارثًا. وخبرُ الجهر يحتمل: السبق، كما كان يُسمِعُهُم في صلاة النهار أحيانًا. ويحتمل: الإعلام، أنه كان يقرأُ به. وباللَّه التوفيق. ثم جمعت هذه خصالًا من الخير، ثم كل خصلة منِها تجمع جميع خصال الخير. منها: أَن في الحرف الأول من قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) شكرًا لجميع النعم، وتوجيهًا لها إلى اللَّه لا شريك له، ومَدْحًا له بأَعلى ما يحتمل المدح، وهو ما ذكرنا من عموم نعمه وآلائه جميعَ بريَّته.

(2)

ثم فيه الإقرار بوحدانيته في إنشاءِ البرِية كلها، وتحقيق الربوبية له عليها بقوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) وكل واحد منها يجمع خصال خير الدارين، ويوجب القائل به -عن صدق القلب- درك الدارين. ثم الوصف لله -عَزَّ وَجَلَّ- بالاسمين يتعالى عن أن يكون لأَحد من معناهما حقيقة، أو يجوز أن يكون منه الاستحقاق نحو " اللَّه " و " الرحمن ". ثم الوصف بالرحمة التي بها نجاة كل ناج، وسعادة كل سعيد، وبها يتقي المهالكَ كلها مع ما من رحمته خلق الرحمة التي بها تعاطف بينهم وتراحمهم. ثم الإيمان بالقيامة بقوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) مع الوصف له بالمجد، وحسن الثناء عليه. ثم التوحيد، وما يلزم العباد من إخلاص العبادة له، والصدق فيها، مع جعل كل رفعة وشرف منالًا به عَزَّ وَجَلَّ. ثم رفع جميع الحوائج إليه، والاستعانة به على قضائها، والظفر بها على طمأْنينة القلب وسكونه، إذ لا خيبة عند معونته، ولا زيغ عند عصمته. ثم الاستهداء إلى ما يرضيه، والعصمة عما يغويه في حادث الوقت، على العلم بأنه لا ضلال لأَحد مع هدايته في التحقيق. والرجاء والخوف من اللَّه لا من غيره. وعلى ذلك جميع معاملات العباد، ومكاسبهم على الرجاء من اللَّه تعالى أَن يكون جعل ذلك سببًا به يصل إلى مقصوده، ويظفر بمراده. ولا قوة إلا باللَّه. قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) قولهُ عَزَّ وَجَلََّّ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ (2) احتمل: أن يكون جلَّ ثناؤُه حمدَ نفسه؛ ليُعلِم الخلقَ استحقاقَه الحمد بذاته؛ فيَحمَدوه. فَإِنْ قِيلَ: كيف يجوز أن يحمدَ نفسه، ومثلهُ في الخلق غير محمود؟! قيل له: لوجهين: أحدهما: أنه استحق الحمدَ بذاته، لا بأَحدٍ؛ ليكون في ذلك تعريفُ الخلقِ لما يُزلفُهم لديه بما أَثْنَى على نفسه؛ ليُثْنُوا عليه. وغيرُه إنما يكون ذلك له به -جل وعز- فعليه: توجيه الحمد إليه لا إلى نفسه؛ إذ نفسُه لا تستوجبه بها، بل باللَّه تعالى.

والثاني: أَن اللَّه تعالى حقيق بذلك؛ إذ لا عيب يمسُّهُ، ولا آفة تحل به فيدخل نقصان في ذلك. ولا هو خاصّ بشيء. والعبدُ لا يخلو عن عيوب تمسُّه، وآفات تحل به، ويُمدح بالائتمار، ويذم بتركه. وفي ذلك تمكن النقصان، وحق لمثله الفزع إلى اللَّه، والتضرع إليه؛ ليتغمدهُ برحمته، ويتجاوز عن صنيعه. وعلى ذلك معنى التكبير، نحمد به ربنا ولا نحمد غيره؛ إذ ليس للعبد معنى يستقيم معه تكبُّره، إذ هُم جميعًا أَكفاء من طريق المحبة، والخلق، وما أَدرك أَحدٌ منهم من فضيلة أو رفعة فباللَّه أدركه، لا بنفسه؛ فعليه تنزيه الرب، والفزعُ إليه بالشكر، لا بالتكبر على أمثاله. واللَّه عن هذا الوصفِ مُتَعَالٍ. ويحتمل أن يكون قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إضمار الأَمر، أي: قولوا: الحمد لله؛ لأن الحمد يضاف إلى اللَّه، فلا بد من أن يكون له علينا؛ فأَمرَ بالحمد لذلك. ثم يخرج ذلك على وجهين: أحدهما: ما رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " الحمد لله: أي الشكر لله بما صنع إلى خلقه ". فيخرج تأويل الآية على هذا؛ لأنه -على هذا الترتيب- على الأَمر بتوجيه الشكر إليه، وذلك يتضمن الأَمر أيضًا بكل الممكن من الطاعة على ما رُويَ عن النبي - عليه السلام - " أَنَّه صَلَّى حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فقِيلَ لَهُ: أليسَ قَدْ غَفَرَ اللهُ لكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفلا أكونُ عَبْدًا شَكُورًا "!.

فصيَّر أَنواع الطاعات شكرًا له، فمن أَطاع اللَّه - تعالى - فقد شكر له، فيخرج تأْويل الآية على هذا. والوجه الثاني: أنه يخرج مخرج الثناء على اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - والمدح له، والوصفِ بما يستحقه، والتنزيه عما لا يليق به، من توجيه النعم إليه، وقطع الشركة عنه في الإنعام والإفضال على عباده. وعلى ذلك ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لله رَب الْعَالَمين، قال اللَّه تعالى: حَمِدَني عَبدي "؛ فجعل الحمدَ هذا الحرف، وصيَّر منه ثناءً؛ لوجهين: أحدهما: أنه نسب الربوبية إليه في جميع العالم، وقطعها عن غيره. والثاني: أَنه سَمَّى ذلك صلاةً، والصلاةُ اسْم للثناءِ والدعاءِ، وذلك خلاف الذم ونقيضه. وفي الوصف بالبراءَة من الذم مدحٌ، وثناء بغاية المدح والثناءِ؛ ولذلك يفرق القول بين الحمد والشكر؛ إذ أُمِرنا بالشكر للناس بما جاءَ عن رسول اللَّه - عليه السلام -: " إنَّ من لم يَشكُرِ النَّاس لم يشكرِ اللَّه " صيره بمعنى المجازاة، والحمدُ بمعنى الوصف بما هو أَهله؛ فلم يُستَحَب الحمد إلا لله. وباللَّه التوفيق. وقوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ). رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " سيد العالَمين ". والعالم: كل من دَبَّ على وجه إلأرض. وقد يتوجه: " الربُّ " إلى الربُوبية لا إلى السؤدد؛ إذ يستقيم القول برب كل شيء من بني آدم وغيره، نحو رب السماوات والأرضين، ورب العرش ونحوه، وغير مستقيم القول بسيد السماوات ونحوه.

(3)

وقد يتوجه اسم الرب إلى المالك؛ إذ كل من يُنْسب إليه الملك يُسمَّى أنه مالكه، ولا يُسمَّى أنه سيد إلا في بني آدم خاصةً. واسم الرب يجمع ذلك كلَّه؛ لذلك كان التوجيه إلى المالك أقرب، وإن احتمل المروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذ هو في الحقيقة سيدُ من ذُكِر ورَبُّهم. والله الموفق. ثم اختلَف أهلُ التفسير في العَالَمِين: فمنهم من رد إلى كل ذي روح دب على وجه الأرض. ومنهم من رد إلى كل ذي روح في الأَرض وغيرها. ومنهم من قال: لله كذا، كذا عالم. والتأويل عندنا ما أجمع عليه أهل الكلام: أن العالَمين: اسم لجميع الأَنام والخلق جميعًا. وقول أَهلِ التفسير يرجع إلى مثله، إلا أَنهم ذكروا أَسماءَ الأَعلام، وأَهل الكلام ما يجمع ذلك وغيرَهم. ثم العالَم اسم للجميع، وكذلك الخلق، ثم تعريف ذلك بالعالَمين والخلائق يتوجه إلى جمع الجمع، من غير أن يكون في التحقيق تفاوتٌ، وقد يتوجه إلى عالم كل زمان وكذا خلقِ كل زمان على حكم تجدد العالم. وباللَّه التوفيق. وفي ذلك أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ادعى لنفسه: رب العالمين كلهم، من تقدم وتأَخر، ومن كان ويكون، ولم يَقْدر أَحد أَن ينطق بالتكذيب، يدّعي شيئًا من ذلك لنفسه؛ فدل ذلك على أن لا رب غيره، ولا خالق لشيء من ذلك سواه؛ إذ لا يجوز أَن يكون حكيم أَو إله ينشئ ويبدع ولا يدعيه، ولا يفصل ما كان منه ما كان لغيره، وبنفسه قام ذلك لا بغيره؛ وعلى ذلك معنى قوله تعالى: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خلق) فهذا - مع ما في اتساق التدبير، واجتماع التضاد، وتعلق حوائج بعضٍ ببعض، وقيام منافع بعضٍ ببعض، على تباعد بعضٍ من بعض وتضادها - دليلٌ واضح على أن مدبر ذلك كله واحد، وأَنه لا يجوز كون مثل ذلك من غير مُدبِّر عليم. والله المستعان. * * * وقوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) اسمان مأْخوذان من الرحمة، لكنه رُوِى فيهما: رقيقان أَحدُهما أَرقُّ من الآخر، وكأن الذي رُوِي عنه هذا أَراد به لطيفان أحدُهما أَلطف من الآخر، دليل ذلك وجهان: أَحدهما: مجيء الأَثر في ذلك -اللطيف- في أسماء اللَّه تعالى مع ما نطق به

الكتاب، ولم يذكر في شيء من ذلك رقيق. ومعنى اللطيف: استخراج الأُمور الخفية وظهورها له؛ كقوله: (إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) إلى قوله: (لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، وباللَّه التوفيق. والثاني: أن اللطيفَ حرف يدل على البر والعطفِ. والرقة على رقة الشيء التي هي نقيض الغلظ والكثافة، كما يقال: فلان رقيق القلب. وإذا قيل: فلان لطيف، فإنما يراد به بارٌّ: عاطف؛ فلذلك يجوز: لطيف، ولا يجوز: رقيق، وكذلك فسر من فسر " الرحمن " بالعاطف على خلْقه بالرزق. وذهب بعضهم -وهو الأول- إلى اللطافة وذلك بعيد، وإنَّمَا هو من اللُّطف. وقوله: أَحدُهما أَرق من الآخر، بمعنى اللطف - يحتمل وجهين: أحدهما: التحقيق بأَن اللطف بأَحد الحرفين أَخص وأَليق، وأَوفر وأكمل، فذلك رحمته بالمؤمنين أنه يقال: رحيم بالمؤمنين على تخصيصهم بالهداية لدينه؛ ولذا ذكر أُمته وإن أشركهُم في الرزقِ فيما يراهم غيرهم؛ ألا ترى أنه لا يقال: رحمن بالمؤمنين، وجائز القول: رحيم بهم، وكذلك لا يقال: رحيم بالكافرين، مطلقًا؟! وباللَّه التوفيق. ووجه آخر: أَن أحدهما أَلطف من الآخر؛ كأنه وصف الغاية في اللطف حتى يتعذر وجه إدراك ما في كل واحد منهما من اللطف، أو يوصف بقطع الغاية عما يتضمنه كل حرف. وباللَّه التوفيق. ثم في هذا أن اسم " الرحمن " هو المخصوص به اللَّه لا يسمى به غيره، و " الرحيم " يجوز تسمية غيره به؛ فلذلك يوصف أن " الرحمن " اسم ذاتي، و " الرحيم " فِعْلي، وإن احتمل أن يكونا مشتقين من الرحمة؛ ودليل ذلك: إنكار العرب " الرحمن "، ولا أحد منهم أنكر " الرحيم "، حيث قالوا: (قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا)، وذلك قوله: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا)، يَدُل على أنه ذاتي لا فعلي، وإن كان الفعل صفة الذات؛ إذ محالٌ صفته بغيره؛ لما يوجب ذلك الحاجة إلى غيره ليحدث له الثناءَ والمدح. وفي ذلك خَلَق الخلق لنفع الامتداح، وهو عن ذلك متعالٍ، بل بنفسه مستحق لكل حمدٍ ومدح، ولا قوة إلا باللَّه. ورُوي في خبر القسمة: " أن العبد إذا قال: الرحمن الرَّحيم، قال اللَّه تعالى: أَثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدِّين، قال: مجدني عبدي ". وذكر أنه قال في الأول: بالتمجيد، وفي الثاني: بالثناء، وذلك واحد؛ لأن معنى الثناء الوصف بالمجد والكرم

(4)

والجود، والتمجيد هو الوصف بذلك، وباللَّه التوفيق. ثم أُجمع على أن قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) أنه يوم الحسابِ والجزاءِ. وعلى ذلك القول: (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)، وقوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) وهو الجزاء. ومن ذلك قول الناس: " كما تدين تدان ". وجائز أن يكون (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) على جعل ذلك اليوم لما يدان اليوم؛ إذ به يظهر حقيقتُه، وعِظمُ مرتبته، وجليلُ موقعه عند ربه. وفي الآية دلالة وصف الرب بملكِ ما ليس بموجود لوقت الوصفِ بملكه، وهو يوم القيامة. ثبت أن اللَّه بجميع ما يستحق الوصف به يستحقه بنفسه لا بغيره. ولذلك قلنا نحن: هو خالق لم يزل، ورحيم لم يزل، وجواد لم يزل، وسميع لم يزل -وإن كان ما عليه وقع ذلك لم يكن- وكذلك نقول: هو رب كل شيء، وإله كل شيء في الأزل -وإن كانت الأَشياء حادثة- كما قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وإن كان اليومُ بعدُ غير حادثٍ. وباللَّه التوفيق. * * * قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) وقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). فهو -واللَّه أعلم- على إضمار الأَمر، أي: قل: ذا. ثم لم يجعل له أن يَستثني في القول به، بل ألزمه القول بالقول فيه. ثم هو يتوجه وجهين: أحدهما: يحال القول به على الخبر عن حاله؛ فيجب ألا يستثنى في التوحيد، وأن من يَستَثْني فيه عن شَكٍّ يُستَثْنَى. واللَّه - تعالى - وصف المؤمنين بقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا. . .) الآية. وكذلك سئل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن أفضل الأعمال فقال: " إيمان لا شكَّ فيه ".

والثاني: عن الأحوال التي ترد في ذلك. لكنه إذا كان ذلك على اعتقاد المذهب لم يجز الشك فيه؛ إذ المذاهب لا تعتقد لأوقات، إنما تعتقد للأبد؛ لذلك لم يجز الثناء فيه في الأبد. وباللَّه التوفيق. ثم قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يتوجه وجهين: أحدهما: إلى التوحيد، وكذا رُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: " كُلُّ عبادةٍ في القرآنِ فهو توحيد ". والوجه الآخر: أن يكون على كل طاعة أن يعبد اللَّه بها، وأصلها يرجع إلى واحد؛ لما على العبد أن يوحد اللَّه - تعالى - في كل عبادة لا يُشرك فيها أحدًا، بل يخلصها فيكون موحدًا لله تعالى بالعبادة والدِّين جميعًا. وعلى ذلك قطعُ الطمع، والخوف، والحوائج كلها عن الخلقِ. وتوجيهُ ذلك إلى اللَّه تعالى بقوله: (أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وعلى ذلك المؤمن لا يطمعُ في الحقيقة بأحدٍ غير اللَّه، ولا يرفع إليه الحوائج، ولَا يخاف إلا من الوجه الذي يخشى أن اللَّه جعله سببًا لوصول بلاءٍ من بلاياه إليه على يديه؛ فعلى ذلك يخافُه، أو يرجو أن يكون اللَّه تعالى جعلَ سببَ ما دفعه إليه على يديه، فبذلك يرجو ويطمع، فيكون ذلك من الضالين، فيكون في ذلك التعوُّذُ من جميع أنواع الذنوب، والاستهداءُ إلى كل أنواع البر. وقوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). فذلك طلب المعونة من اللَّه تعالى على قضاء جميع حوائجه دينًا ودنيا. ويحتمل أن يكون هو على أثر الفزع إلى اللَّه بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على طلب التوفيقِ لما أَمر به، والعصمة عما حذره عنه، وكذلك الأَمر البين في الخلق من طلب التوفيق، والمعونة من اللَّه، والعصمةِ عن المنهي عنه جرت به سنة الأَخيار. واللَّه الموفق.

ثم لا يصلح هذا على قول المعتزلة؛ لأن تلك المعونةَ على أَداءِ ما كلف قد أعطى؛

إذ هو على قولهم لا يجوز أن يكون مكلفًا قد بقي شيء -مما به أَداءُ ما كلف- عند اللَّه، وطلبُ ما أُعْطِي كتمانُ العطيةِ، وكتمانُ العطيةِ كفرانٌ؛ فيصير كأن اللَّه أَمر أن يَكْفُر نعمَهُ ويكتمها ويطلبها منه تعنتًا. وظنُ مثله باللَّه كفر. ثم لا يخلو من أَن يكون عند اللَّه ما يُطْلب فلم يُعطه التمام إذًا، أوْ ليس عندهُ فيكون طلبه استهزاءً به، إذ مَنْ طَلَب إلى آخَرَ مَا يَعْلم أنه ليس عنده فهو هازئ به في العرف، مع ما كان الذي يُطلب إما أن يكون لله ألا يعطيه مع التكليف فيبطل قولهم؛ إذ لا يجوز أَن يكلف وعنده ما به الصلاح في الدِّين فلا يعطى، أوْ ليس له أَلا يعطى فكأَنه قال: اللهم لا تَجُر. وَمَنْ هذا عِلْمهُ بربه فالإسلام أَولى به، وهذا مع ما كان لا يدعو اللَّه أَحد بالمعونة إلا ويطمئن قلبهُ أَنه لا يذل عند المعونة، ولا يزيغ عند العصمة، وليس مثلهُ يملك اللَّه عند المعتزلة. ولا قوة إلا باللَّه. وقد رُويَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في خبر القسمة: " اللَّه يقول: هذا بَيني وبينَ عبدي نِصْفين ". وذلك يحتمل: أن يكون كل حرف من ذلك بما فيها جميعًا الفزعُ إلى اللَّه بالعبادة، والاستعانة ورفع الحاجة إليه، وإظهار غناه -جل وعلا- عنه؛ فيتضمن ذلك الثناء عليه، وطلب الحاجة إليه. ويحتمل: أن يكون الحرفُ الأَول لله بما فيه عبادتُه وتوحيدهُ، والثاني للعبد بما فيه

(6)

طلبُ معونته وقضاءُ حاجته. ويؤيد ذلك بقية السورة أنه أُخرج على الدعاء فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: " هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل ". وقوله: (اهدِنَا (6) قال ابنُ عباس - رضي اللَّه عنهما -: أرْشِدْنا. والإرشاد، والهداية واحد، بل الهدايةُ في حق التوفيق أقربُ إلى فهم الخلق من الإرشاد بما هي أعم في تعارفهم. ثم القول بالهداية يُخرَّج على وجوهٍ ثلاثة: أحدها: البيانُ. ومعلومٌ أن البيانَ قد تقدم من اللَّه لا أحد يريد به ذلك لمضي ما به البيان من كتابٍ وسنةٍ، وإلى هذا تذهب المعتزلة. والثاني: التوفيقُ له، والعصمةُ عن زيغه. وذلك معنى قولهم: " اللهمَّ اهْدِنَا فيمَنْ هَدَيْتَ "، وقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ)، ووصَفَهم إلى آخر السورة، ولو كان على البيان على ما قالت المعتزلة فهو والمغضوب عليهم في ذلك سواء، فثبت أَنه على ما قلنا دون ما ذهبوا إليه. والثالث: أَن يكون على طلب خلق الهداية لنا؛ إذ نسب إليه من جهة الفعل، وكل ما يفعله خلق؛ كأَنه قال: اخلُق لنا هدايتنا، وهو الاهتداءُ منا. وباللَّه التوفيق. ثم تأْويل طلب الهداية، ممن قد هداه اللَّه يتوجه وجهين: أحدهما: طلب الثبات على ما هداه اللَّه، وعلى هذا معنى زيادات الإيمان، أنها بمعنى الثبات عليه، وذلك كرجلين ينظران إلى شيء فيرفع أَحدهما بصره عنه، جائز القول بازدياد نظر الآخر. ووجه آخر: على أن في كل حال يخاف على المرءِ ضد الهدى، فيهديه مكانه أبدًا فيكون له حكم الاهتداءِ؛ إذْ في كل وقت إيمان منه دفع به ضده. وعلى ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ. . .) الآية، ونحو ذلك من الآيات. وقد يحتمل أيضًا معنى الزيادةِ هذا النوعُ. وباللَّه التوفيق. وأما (الصِّرَاطَ) فهو الطريق والسبيل في جميع التأويل وهو قوله: (وَأَن هَذَا صِرَاطِي .. )

) هو الآية، وقوله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي). ثم اختلفوا فيما يراد به: فقَالَ بَعْضُهُمْ: هو القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الإيمان. وأيهما كان فهو القائم الذي لا عوج له، والقيم الذي لا اختلاف فيه، مَنْ لزِمهُ وصَلَ إلى ما ذكر. وباللَّه التوفيق. وقوله: (الْمُسْتَقِيمَ). قيل: هو القائم بمعنى الثابت بالبراهين والأَدلة، لا يُزيله شيء، ولا ينقضُ حُجَجه كيدُ الكائدين، ولا حيلُ المريبين. وقيل: (الْمُسْتَقِيمَ) والذي يستقيم بمن تمسك به حتى يُنجيه، ويدخله الجنة. وقيل: (الْمُسْتَقِيمَ) بمعنَى: يُستقامُ به؛ كقوله: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)، أي: يُبصَرُ به. يدل عليه قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا. . .) الآية. فالمستقيم هو المتبع له. وباللَّه التوفيق. ثم ذكر من ذكر من الْمُنعَم عليهم؛ ولله على كل مؤمن نعَمٌ بالهداية. وما ذكر دليل على أن " الصراط " هو الدِّين؛ لأَنه أنعم به على جميع المؤمنين. لكن تأْويل من يردُّ إلى الخصُوص يتوجه وجهين: أحدهما: أنه أَنعم عليهم بمعرفة الكتب والبراهين، فيكون على التأْويل الثاني من القرآن والأدلة. والثاني: أن يكون لهم خصوص في الدِّين قُدِّموا به على جميع المؤمنين؛ كقول داود، وسليمان: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)، وعلى هذا الوجه يكون (اهدِنَا).

(7)

ووجه آخر: وهو المخصوص الذي خص به كثيرًا من المؤمنين من بين غيرهم، لكن الثنْيَا يدل على صرف الإرادة إلى جملة المؤمنين؛ إذ انصرف إلى غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وقولَهُ: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (7) على قول المعتزلة: ليس لله على أحد من المؤمنين نعمة ليست على المغضوب عليهم ولا الضالين؛ إذ لا نعمة من اللَّه على أحد إلا الأَصلح في الدِّين والبيان للسبيل المرضي، وتلك قد كانت على جميع الكفرة فيبطل على قولهم الثنْيَا. واللَّه الموفق. ثم اختلف في (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). منهم من قال: هو واحد؛ إذ كل ضال قد استحق الغضب عليه، وكل مغضوب عليه استحق الوصف بالضلال. ومنهم من قال: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) هم اليهود، وإنَّمَا خصوا بهذا: بما كان منهم من فضل تمرد وعُتُو لم يكن ذلك من النصارى نحو إنكارهم بعيسى، وقصدهم قتله مما لم يكن ذلك من النصارى. ثم قولهم في اللَّه: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. . .) الآية. وقولهم: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ. . .) الآية. وقول اللَّه تعالى فيهم: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ. . .) الآية. وكفرِهم برسول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بعد استفتاحهم، وشدة تعنتهم، وظهور النفاق؛ فاستحقوا بذلك اسم الغضب عليهمِ، وإن كانوا شركاء غيرهم في اسم الضلال. وباللَّه التوفيق. وفي هذا وجه آخر: أن يُحْمل الذنوب على وجهين: منها ما يوجب الغضب -وهو الكفر- ومنها ما يوجب اسم الضلال -وهو ما دونه- كقول موسى: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنا مِنَ الضَّالِّينَ). ورؤية الهداية لأهلها والتعوذ به من كل ضلال، ومن جميع ما يوجب مقته وغضبه -وباللَّه النجاة والخلاص- مع ما في خبر القسمة، وعد جليل من رب العالمين في إجابة العبد مما يرفع إليه من الحوائج، إذْ قال: " قسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين " ثم صَير آخر السورة لعبده، وليس في صلاته سوى إظهار الفقر، ودفع الحاجة، وطلب المعونة، والاستهداء إلى ما ذكر مع التعوذ عما وصف، وليس ذلك مما يوصف به العبد أنه له؛ فثبت أن له في ذلك إجابة ربه فيما أمره به، ووعد ذلك، وهو لا يخلف وعده. فأنَّى يحتمل ذلك بعد أمره العبدَ بالذي تضمنه أول السورة، فقام به العبد مع لُؤمه

وجفائه، واللَّه بكرمه وجوده لا ينجز له ما وعد؟! لا يكون هذا أَلبتة، وقد قال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، وغير ذلك مما فيه الإنجاز، وأنه لا يخلف الميعاد. ثم قد جعلت -بما جاء من الحديث في تلاوتها- أنْ قدمها على التوراة، والإنجيل، وعدلها بثلثي القرآن، وجعلها شفاءً من أَنواع الأَدواء للدِّين، والنفس، والدنيا، وجعلها معاذًا من كل ضلال، وملجأ إلى كل نعمة. وباللَّه نستعين. مع ما أَوضح -في الأَسماء التي لقب فيها فاتحة القرآنَ- عظيمَ موقعه، وجليلَ قدره، وهو أن سمَّاه فاتحة القرآن بما به يفتح القرآن، وكذلك رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يفتتح القراءَة به وسمى فاتحة الكتاب بما به يفتتح كتابة المصاحف والقرآن. وسمى أُم القرآن لما يؤم غيره في القراءَة. وقيل: الأُم بمعنى الأَصل، وهو ألا يحتمل شيء مما فيه النسخَ ولا الرفعَ فصار أصلا. وسمى المثاني؛ لما يثنى في الركعات، ولا قوة إلا باللَّه. وفي قوله: (اهدِنَا) إلى آخره وجهان سوى ما ذكرنا؛ إذ قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) دعاء كاف عما تضمن إلى آخر السورة؛ إذ ليس فيها غير تفسير هذه الجملة. أحدهما: تذكير نعم اللَّه على الذين يقبلون دينه في قلوبهم، والتوفيق لهم بذلك، وأفضاله عليهم بما ليس لهم عليه. والثاني: تعوذهم عن كل زيغ ومقت، وضلال، وذنب، والتجاؤهم إليه في ذلك بقوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). * * *

سورة البقرة

تَفْسِيرُ سُورَة الْبَقَرَةِ بسم اللَّه الرحمن الرحيم (وبه نستعين على القوم الكافرين) قوله تعالى: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وقيل: فيه وجوه: رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: قوله: (والم) أنا اللَّه أعلم. وقيل: إنه قسم أقسم بها. وقيل: إن هذه الحروف المعجمة مفتاح السورة. وقيل: إن كل حرف من هذه الحروف كناية اسم من أسماءِ اللَّه: الأَلف اللَّه، واللام لطفه، والميم ملكه. وقيل: إن اللام آلاؤه، والميم مجدهُ. وقيل: إن الأَلف هو اللَّه، واللام جبريل، والميم مُحَمَّد. وقيل: إنها من التشبيب؛ ليفصل بين المنظوم من الكلام، والمنثور من نحو الشعر ونحوه. وقيل: إن تفسير هذه الحروف المقطعة ما أَلحق ذكرها بها على أَثرها نحو قوله:

(الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ) أول سورة البقرة، (ذَلِكَ الْكِتَابُ) هو تفسير (الم)، و (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أول سورة آل عمران، و (المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أول سورة الأعراف، و (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ) أول سورة هود، وإبراهيم، و (الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) أول سورة لقمان، كلُّ ملحق بها فهو تفسيرُها. وقيل: إن فيها بيان غاية ملك هذه الأُمة من حساب الجُمَّل، ولكنهم عدوا بعضها وتركوا البعض. وقيل: إنه من المتشابه الذي لم يطلع اللَّه خلقه علم ذلك، ولله أن يمتحن عباده بما شاءَ من المحن. وقيل: إنهم كانوا لا يستمعون لهذا القرآن؛ كقولهم: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)، وكقوله: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هذه الحروف المعجمة ليستمعوا إليها فيلزمهم الحجة. والأصل في الحروف المقطعة: أنه يجوز أن تكون على القَسَم بها على ما ذكرنا. وأريد بالقدْر الذي ذكر كليةُ الحروف بما كان من شأْن العرب القسمُ بالذي جلَّ قدْرُه، وعظم خطره. وهي مما بها قوام الدارين، وبها يتصل إلى المنافع أَجمع. مع ما دّلت على نعمتين عظيمتين - اللسان والسمع - وهما مجرى كل أنواع الحكمة، فأَقسم بها على معنى إضمار ربّها، أَو على ما أَجل قدرها في أعين الخلق، فيقسم بها، ولله ذلك، ولا قوة إلا باللَّه. ويحتمل: أَن يكون بمعنى الرمز والتضمين في كل حرف منها أمرًا جليلًا يعظم خطره على ما عند الناس في أَمر حساب الجُمَّل. ثم يُخرَّج على الرمز بِها عن أَسماءِ اللَّه وصفاته ونعمه على خلقه، أَو على بيانِ منتهى هذه الأُمة، أَو عددِ أَئمتها، وملوكها، والبقاع التي ينتهى أمرها، وذلك هو في نهاية الإيجاز، بل بالاكتفاءِ بالرمز عن الكلام، وبما هو بمعنى من الإشارة في الاكتفاءِ بها عن البسط، ولا قوة إلا باللَّه؛ ليُعلم الخلائقَ قدرة اللَّه، وأَن له أَنْ يضمن ما شاء فيما شاءَ على ما عليه أَمرُ الخلائق من لطيف الأَشياءِ التي كادت العقولُ وأَسباب الإدراك تقصر عنها، وكنهِها التي يدركها كل أَحد، وبين الأَمرين، فعلى ذلك أَمر تركيب الكلام، ولا قوة إلا باللَّه.

(2)

ويجوز أن يكون بمعنى اسم السور، ولله تسميتها بما شاءَ كما سمى كتبه، وعلى ذلك منتهى أَسماءِ الأَجناس خمسة أحرف، وكذلك أمر السور، دليل ذلك وصْلُ كل سورة فتحت بها إليها، كأَنه بنى بها. ولا قوة إلا باللَّه. ويجوز أن يكون على التشبيب، على ما ذكرنا للتفصيل بين المنظوم من الكلام والمنثور في المتعارف أن المنظوم في الشاهد يشبب فيخرج عن المقصود بذلك الكلام، فعلى ذلك أمر الكلام المنزل. أَلا ترى أَنه خرج على ما عليه فنون الكلام في الشاهد إلا أنه على وجه ينقطع له المثال من كلامهم، فمثله أَمر التشبيب. ولا قوة إلا باللَّه. وجائِز: أن يكون اللَّه أَنزلها على ما أَراد؛ ليمتحن عبادَه بالوقف فيها، وتسليم المراد في حقيقة معناه والذي له يزول ذلك، ويعترف أَنه من المتشابه، وفيها جاءَ تعلق الملحدة، ولا قوة إلا باللَّه. ويحتمل: أَن يكون إذ علم اللَّه من تعنت قوم وإعراضهم عنه وقولهم: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)، أنزل على وجه يبعثهم على التأمل في ذلك بما جاءَ بالعجيب الذي لم يكونوا يعرفون ذلك: إما لما عندهم أَنه كأحدهم، أو لسبيل الطعن؛ إذ خرج عن المعهود عندهم، فتلا عليهم ما يضطرهم إلى العلم بالنزول من عند من يملك تدبير الأشياءِ؛ ولذلك اعترضوا لهذه الأَحرف بالتأمل فيها من بين الجميع. ولا قوة إلا باللَّه. وقيل: إنه دعا خلقه إلى ذلك، واللَّه أَعلم بما أَراد. وقوله: (ذَلِكَ الْكِتَابُ (2) أي: هذا الكتاب، إشارة إلى ما عنده، وذلك شائع في اللغة، جائز بمعنى هذا. وقيل: ذلك بمعنى ذلك، إشارة إلى ما في أَيدي السفرة والبررة. وقوله: (لَا رَيْبَ فِيهِ). قيل: فيه وجوه؛ لكن الحاصل يرجع إلى وجهين: أي: لا ترتابوا فيه أنه من عند اللَّه. وقيل: لا ريب فيه أنه منزل على أَيدي الأُمناءِ والثقات. وقوله: (هُدًى). قيل فيه بوجهين:

(3)

(هُدًى): أَي: بيانًا ووضوحًا، فلو كان المراد هذا، فالتقيُّ وغير التقِيِّ سواء. والثاني: هُدًى أي: رشدًا، وحجة، ودليلًا. ثم اختلفوا في الدليل: فقال الراوندي: الدليل إنما يكون دليلًا بالاستدلال؛ لأَنه فعل المستدل. مشتق من الاستدلال؛ كالضرب من الضارب وغيره. وقال غير هَؤُلَاءِِ: الدليل بنفسه دليل، وإن لم يستدل به؛ لأَنه حجة، والحجة حجة وإن لم يحتج بها. غير أَن الدليل يكون دليلًا بالاستدلال، ومن لم يستدل به فلا يكون له دليلًا، وإن كان بنفسه دليلًا، بل يكون عليه عمى وحيرة كقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا). وقوله: (لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3) قيل: فيه بوجهين: يؤمنون باللَّه غيبًا، ولم يطلبوا منه ما طلبه الأُمم السالفة، من أنبيائهم؛ كقول بني إسرائيل لموسى: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً). والثاني: يؤمنون بغيب القرآن، وبما يخبرهم القرآن من الوعدِ والوعيدِ، والأمر والنهي، والبعث، والجنة، والنار. والإيمانُ إنما يكون بالغيب؛ لأَنه تصديق، والتصديقُ والتكذيب إنما يكونان عن الخبر، والخبرُ يكون عن غيب لا عن مشاهدة. والآية تنقض قول من يقول: بأن جميع الطاعات إيمان؛ لأَنه أَثبت لهم اسم الإيمان دون إقامة الصلاة والزكاة بقوله: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). وقوله: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ). يحتمل وجهين:

(4)

يحتمل: الصلاة المعروفةَ، يقيمونها بتمام ركوعها وسجودها، والخشوع، والخضوع له فيها، وإخلاص القلب في النية؛ على ما جَاءَ في الخبر " انْظُر مَنْ تُنَاجِي ". ويحتمل: الحمد له والثناء عليه. فإن كان المراد هذا فهو لا يحتمل النسخ، ولا الرفع في الدنيا والآخرة. وقوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ). من الأَموال يحتملِ فِرضًا ونفلًا. ويحتمل: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) من القوى في الأنفس وسلامة الجوارح، (يُنْفِقُونَ): يعينون. واللَّه أعلمِ. وقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ (4) يحتمل وجهينِ: أي: ما أنزل إليك من القرآن. ويحتمل: ما أنزل إليك من الأَحكام، والشرائع التي ليس ذكرها في القرآن. (وقوله: (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ). يحتمل وجهين أيضًا: يعني الكتب التي أنزلت على سائِر الأَنبياءِ عليهم السلام. ويحتمل: الشرائعِ، والأَخبار سوى الكتب، واللَّه أعلم. وقوله: (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). بمعنى يؤمنون. والإيقان بالشيء هو العلم به. والإيمان هو التصديق، لكنه إذا أَيقن آمن به وصدق به لعلمه به؛ لأَن طائفة من الكفار كانوا على ظن من البعث؛ كقوله: (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)، فأخبر عَزَّ وَجَلَّ عن حال هَؤُلَاءِِ أَنهم على يقين، ليسوا على الظن والشك كأُولئك. وقوله: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (5)

(6)

قيل: على صواب، ورشد من ربهم. وقيل: إنهم على بيان من ربهم، لكن البيان ليس المؤمنُ أحق به من الكافر؛ لأَنه يبين للكافر جميع ما يحتاج إليه، إما من جهة العقل، وإما من جهة السمع. فظهر بهذا أَن الأول أَقرب إلى الاحتمال من الثاني. وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). قيل فيه بوجوه: قيل: الباقون في نعم اللَّه والخير. وقيل: الظافرون بحاجاتهم، يقال: أَفلح، أَي: ظفر بحاجته. وقيل: (الْمُفْلِحُونَ) هم السعداءُ، يقال: أَفلح، أي: سعد. وقيل: (الْمُفْلِحُونَ) الناجون؛ يقال: أَفلح، أي: نجا. وكله يرجع إلى واحد؛؛ كقوله: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) وكل واحد ممن زحزح عن النار فقد فاز ومن أُدخل الجنة فقد فاز فكذلك الأَول. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) هذا - واللَّه أعلم - في قوم خاص، عَلِمَ اللَّه أَنهم لا يؤمنون، فأَخبر عَزَّ وَجَلَّ رسولَه بذلك، فكان كما قال. وفيه آية النّبوَّة. ويحتمل أَيضًا: أَنهم لا يؤمنون ما داموا في كفرهم؛ كقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). والكافرون ما داموا كافرين ظالمون. وقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

رُويَ عن الحسن: " إن للكافر حدا إذا بلغ ذلك الحد، وعلم اللَّه منه أنه لا يؤمن، طبعَ على قلبه حتى لا يؤمن ". وهذا فاسد على مذهب المعتزلة لوجهين: أحدهما: أَن مذهبهم أَن الكافر مكلف، وإن كان قلبه مطبوعًا عليه. والثاني: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عالم بكل من يؤمن في آخر عمره، وبكل من لا يؤمن أَبدًا، بلغ ذلك الحد أَو لم يبلغ. فعلى ما يقوله الحسن إيهام أَنه لا يعلم ما لم يبلغ ذلك. والمعتزلةُ يقولون: إن قوله: (خَتَمَ)، و (طَبع) يُعلم عَلَامة في قلبه أَنه لا يؤمن كإعلام الكتب والرسائل. ولكن عندنا: خلق ظلمة الكفر في قلبه. والثاني: خلق الختم والطبع على قلبه إذا فَعَل فِعْل الكفر؛ لأَن فِعْل الكفر من الكافر مخلوق عندنا، فخلق ذلك الختم عليه؛ وهو كقوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي: خلق الأكنة. وغيرهِ من الآيات.

(8)

والأَصل في ذلك: أَنه ختم على قلوبهم لما تركوا التأَمل، والتفكر في قلوبهم فلم يقع، وعلى سمعهم لما لم يسمعوا قول الحق والعدل، خلق الثقل عليه، وخلق على أَبصارهم الغطاءَ لما لم ينظروا في أَنفسهم، ولا في خلق اللَّه ليعرفوا زوالها وفناءَها وتغير الأحوال؛ ليعلموا أن الذي خلق هذا دائِم لا يزول أَبدًا. وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) إخبار منهم أنهم قالوا ذلك بألسنتهم قولا، وأَظهروا خلاف ما في قلوبهم؛ فأخبر عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام: أَنهم ليسوا بمؤمنين، أي: بمصدقين بقلوبهم. وكذلك قوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ). وكذلك قوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآية. هذه الآيات كلها تنقض على الكراميَّةِ؛ لأَنهم يقولون: الإيمان قول باللسان دون التصديق. فأَخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن جملة المنافقين أَنهم ليسوا بمؤمنين لما لم يأْتوا بالتصديق، وهذا يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب.

(9)

والكراميَّة يقولون: بل هم مؤمنون. وقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا (9) لا يقصد أحد مخادعة اللَّه، لكنهم كانوا يقصدون مخادعة المؤمنين، وأَولياءِ اللَّه، فأَضاف اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ذلك إلى نفسه؛ لعِظم قدرهم، وارتفاع منزلتهم عند اللَّه؛ وهو كقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، واللَّه لا يحتاج أَن ينصر، ولكن كأَنه قال: إن تنصروا أولياء اللَّه ينصركم؛ وهو كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) واللَّه لا يُبايَع، ولكن إضافة ذلك إلى نفسه؛ لعظم قدر نبيه، وعلو منزلته عند اللَّه تعالى، فكذلك الأول أَضاف مخادعتهم أَولياءَه إلى نفسه لعلو منزلتهم عند الله وقدرهم لديه. والمخادعة هو فعل اثنين؛ لخداع هَؤُلَاءِِ بحضور المؤمنين؛ لذلك المعنى ذكر المفاعلة. واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ). الأول: أي حاصل خداعهم، ووباله يرجع إليهم. والثاني: أنهم يُظهرون لهم الموافقة ليأْمنوا، فلحقهم خوف دائم بذلك الخداع في الدنيا. وقوله: (وَمَا يشعُرُونَ). الأَول: أي: ما يشعرون أَن حاصل الخداع يرجع إليهم في الآخرة. والثاني: ما يشعرون أَن اللَّه يظهر، ويطلع نبيه على ما أَضمروا هم في قلوبهم، والله أعلم. وقوله: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (10) يقال: شكٌ ونفاق؛ سَمَّى عَزَّ وَجَلَّ المنافقين مرضى؛ لاضطرابهم في الدِّين؛ لأَنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين بالقول، ويضمرون الخلاف لهم بالقلب؛ فكان حالهم كحال المريض الذي هو مضطرب بين الموت والحياة؛ إذ المريض يشرف - ربما - على الموت، ويرجو الإقبال عليه منه ثانيًا؛ فهو مضطرب بين ذلك، فكذلك هم، لما كانوا مضطربين في دينهم سماهم مرضى.

(11)

وأما سائِر الكفرة فإنهم لم يضطربوا في الدِّين، بل أظهروا بالقول على ما أَضمروا بالقلب؛ فسماهم موتى، لما لم ينتفعوا بحياتهم، ولم يكتسبوا الحياة الدائمة. وسمى المؤمنين أَحياء؛ لما انتفعوا بحياتهم، واكتسبوا الحياة الدائمة، لموافقتهم باللسان والقلب جميعًا لدين اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - واللَّه أعلم. وقوله: (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا). اختلف في تأويله: قالت المعتزلة: هو التخلية بينهم وبين ما اختاروا. وأما عندنا: فهُو على خلق أَفعال زيادة الكفر والنفاق في قلوبهم، لما زادوا هم في كل وقت من إظهار الموافقة للمؤمنين بالقول، وإضمار الخلاف لهم بالقلب، خلق اللَّه عز وجل تلك الزيادة من المرض في قلوبهم باختيارهم. وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم في قوله: (اهدِنَا). وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ). لأَن عذاب الدنيا قد يكون ولا أَلم فيه؛ فأخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن عذاب الآخرة عذاب شديد عظيم، ليس كعذاب الدنيا. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ). بالمخادعة للمؤمنين، وإظهار الموافقة لهم بالقول، وإضمار الخلاف لهم بالقلب، والاستهزاء بهم عند الخلوة، والقول فيهم بما لا يليق بهم، وعبادة غير اللَّه. وأَيُّ فساد أَكبر من هذا؟!. وقوله: (قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ). بإظهار الموافقة بالقول. وقوله: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ (12) أخبر تعالى أنهم هم المفسدون؛ لما أَضمروا من الخلاف لهم، والمخادعة، والاستهزاءِ بهم.

(13)

وقوله: (وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ). الأول: أي: لا يشعرون أَن حاصل ذلك لا يرجع إليهم. والثاني: لا يشعرون أن ما كانوا يفعلون الفسادُ. فإن كان هذا فهو ينقض قول من يقول: بأن الحجة لا تلزم إلا بالمعرفة، وهو قول الناس؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ أَخبر بفساد صنيعهم، وإن لم يشعروا به. وهو كقوله أَيضًا: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) أخبر بحبط الأعمال وإن كانوا لا يعلمون. وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ (13) تحتمل الآية: أَن تكون في المنافقين، وتحتمل: في أَهل الكتاب. فإن كانت في المنافقين فكأَن قوله: آمنوا يا أَهل النفاق في السر والعلانية، كما اّمن أَصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في السر والعلانية جميعًا، وهو كقوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا). وإن كان في أَهل الكتاب ففيه الأَمر بالإيمان الذي هو إيمان، وهو التصديق. والإيمان عندنا هو التصديق بالقلب؛ دليله قول جميع أَهل التأْويل والأَدب أنهم فسروا (آمَنُوا): صدقوا في جميع القرآن. وقوله: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) الآية. السفه: هو ضد الحكمة، وهو العمل بالجهل على العلم أَنه يبطل، والجهلُ هو ضد العلم. والسفهُ هو الشتم؛ يقول الرجل لآخر: يا سفيه. وقوله: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ). يقول بعض المتكلمين: إن هذا شتم من اللَّه لهم، جوابًا على المؤمنين، ويستجيزون ذلك على الجواب، وإن لم يجز على الابتداءِ، كالمكر، والكيد، والاستهزاءِ، والخداع ونحوه، فعلى ذلك هذا. وأما عندنا فهو غير جائِز؛ لأَن من يشتم آخر يذم عليه، وهو عمل السفهاء. فأَخبر عز وجل: أَنهم هم الذين يعملون بالجهل على علمهم أَن دينهم الذي يدينون به باطل، وأَن الدِّين الذي يدين به المؤمنون حق. وقوله: (وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ). قيل فيه بوجهين: أحدهما: لا يعلمون أنهم هم السفهاء.

(14)

والثاني: لا يعلمون ما يحل بهم من العذاب لذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا (14) يعني: أصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (قَالُوا آمَنَّا). أظهروا لهم الموافقة في العلانية، ويضمرون لهم الخلاف في السر. وقوله: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ). قيل فيه بأَوجه: قيل: إن شياطينهم؛ يعني الكهنة؛ سموا بذلك لبعدهم عن الحق. يقال: شَطَن، أَي: بَعُدَ. وقيل: إن كل عاتٍ ومتمرد يسمى شيطانًا لعتوه وتمرده؛ كقوله: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) سموا بذلك لعتوهم وتمردهم؛ إذ من قولهم: إن الشياطين أَصْلهم من الجن. وقيل: سموا شياطين؛ لأَنه كان مع كل كاهن شيطان يعمل بأَمره، فسموا بأَسمائِهم؛ وذلك جائِز في اللغة جالي، واللَّه أَعلم. وقوله: (قَالُوَا إِنَّا مَعَكُم). قيل: فيه وجهان: الأَول: أَي: معكم في القصد والمعونة. والثاني: إنا معكم، أي: على دينكم لا على دين أُولَئِكَ، واللَّه أَعلم. قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ). بإظهار الموافقة لهم في العلانية، وإظهار الخلاف لهم في السر. وقوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (15) قيل فيه بوجوه: قيل: يجزيهم جزاء الاستهزاءِ. وكذلك قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) أي: يجزيهم جزاء المخادعة، وكذلك قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) أي: يجزيهم جزاء

المكر، يحمل على الجزاء؛ لما لا يجوز إضافة المكر والخداع والاستهزاءِ مبتدأ إلى اللَّه؛ لأَنه مذموم من الخلق إلا على المجازاة، فكيف من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: يجوز إضافة الاستهزاء إلى اللَّه، وإن كان لا يجوز من الخلق أَن يستهزئ بعضهم من بعض، كالتكبر، يجوز لله ولا يجوز للخلق؛ لأَن الخلق أَشكال بعضهم لبعض وأَمثال، واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا شكل له ولا مثل. وكذلك الاستهزاء يجوز له، ولا يجوز لغيره؛ لأَن الاستهزاء هو الاستخفاف، فلا يجوز أَن يستخف ممن هو مثله في الخلقة، وما خلق له من الأَحداث والغِيَر، واللَّه تعالى يتعالى عن ذلك. والأَول أَقرب، واللَّه أعلم. أَو أَضاف استهزاء المؤمنين بهم إلى نفسه كما ذكرنا في المخادعة. ثم اختلف في كيفية الاستهزاءِ: فقال الكلبي: هو أن يُفتح لهم باب من الجنة فيدنون منه، ثم يغلق دونهم. فإن ثبت ذا فهو كما قال. وقيل: إنه يرفع لأَهل الجنة نور يمضون به، قيقصد أُولَئِكَ المضي معهم بذلك النور، ثم يطفأ ذلك النور؛ فيتحيرون وهو قولهم: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا). وقيل: أَن يعطي لهم في الدنيا ما ينتفعون به من أنواع النعم ظاهرًا على ما أَظهروا لهم الموافقة في العلانية، ويحرم لهم ذلك في الآخرة بإضمارهم الخلاف لهم في السر. وقوله: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ). الآية في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون؛ كقوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)

(16)

غير أن هذه في المنافقين والأُولى في الكفرة. وهى تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنهم يقولون: إن اللَّه لا يقدر أَن يستنقذهم في حال الاختيار، وإنما يقدر الاستنقاذ منهم في حال الاضطرار، فأخبر عَزَّ وَجَلَّ: أَنه يستنقذهم على فعل الطغيان. وقوله: (وَيَمُدُّهُمْ) أي: يخلق فعل الطغيان فيهم. ويحتمل: أن يخذلهم ويتركهم لما اختاروا من الطغيان إلى آخر عمرهم. ويحتمل: أنه لم يهدهم ولم يوفقهم. وفي هذا إضافة المد إلى اللَّه. وإضافة المد على الطغيان لا يضاف إليه إلا لمدح، والمدح يكون بالأَوجه الثلاثة التي بينا، وفي هذا أَنه إذا كان هو الذي يمُدهم في الطغيان قدر على ضده من فعل الإيمان؛ فدل أَن اللَّه خالق فعل العباد؛ إذ من قولهم: إن القدرة التامة هي التي إذا قدر على شيء قدر على ضده. والعَمَهُ: الحيرة في اللغة. قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى (16) أي: اختاروا الضلالة على المدعو إليه -وهو الهدى- من غير أَن كان عندهم الهدى، فتركوه بالضلالة. وهو كقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) من غير أن كانوا فيه، فكذلك الأَول، تركوا الهدى بالضلالة ابتداء. وقيل: الضلالة: الهلاك؛ أي: اختاروا ما به يهلكون على ما به نجاتهم، وإن كانوا لا يقصدون شراء الهلاك بما به النجاة؛ كقولهم: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) لا يقدر أحد أن يصبر على النار، ولكن فما أصبرهم على عمل يستوجبون به النار. وكذلك قوله: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ)، أي: بئسما اختاروا ما به هلاك أَنفسهم على ما به نجاتهم. وفي هذه الآية دلالة جواز البيع بغير لفظة البيع؛ لأَنهم ما كانوا يتلفظون باسم البيع، ولكن كانوا يتركون الهدى بالضلالة. وكل من ترك لآخر شيئًا له ببذل يأخذه منه فهو بيع وإن لم يتكلموا بكلام البيع. وكذلك قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ. . .) الآية. وهو على بذل الأَموال والأَنفس له بالموعود الذي وعد لهم، وهو الجنة.

(17)

وقوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ). أي: ما ربحوا في تجارتهم؛ لأَن التجارة لا تربح ولكن بالتجارة يربح، وقد يسمى الشيء باسم سببه. وهو كقوله: (جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) والنهار لا يبصر، ولكن بالنهار يبصر. وذلك سائغ في اللغة، جائز تسمية الشيء باسم سببه. ثم في قوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) نفى الربح دون نفى الأَصل في الظاهر، غير أَن النفي على وجهين: نفي شيء يوجب إثبات ضده، وهو نفي الصفة؛ كقولك: فلان عالم: نفيت الجهل عنه، وفلان جاهل: نفيت العلم عنه. ونفي شيء لا يوجب إثبات ضده، وهو نفي الأَعراض؛ لأَنك إذا نفيت لونًا لم يوجب ضد ذلك اللون. وقوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) نفى الأَصل؛ كأَنه قال: بل خسرت تجارتهم، أَوجبت إثبات ضده. دليله قوله: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) و (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). * * * قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) وقوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) اختلف فيه: قيل: إنها نزلت في المنافقين؛ لأَنها على أَثر ذكر المنافقين، وهو قوله: (وَإِذَا لَقُوا

الَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية. وقيل: إنها نزلت في اليهود؛ لأنه سبق ذكر اليهود، وهو قوله:). . . أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. . .) الآية. ويحتمل: نزولها في الفريقين جميعًا. ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: " إن هذا من المكتوم " فلا يحتمل ما قال؛ لأنه مَثَل ضربه اللَّه، والأَمثال إنما تضرب لتُفْهم وتقرب إلى الفهم ما بعُد منه؛ فلو حمل على ما قال لم يفهم مراده وما قرب إلى الفهم شيئًا، إلا أن يريد من المكتوم: أنه لم يعلم فيمن نزل، فهو محتمل، واللَّه أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (مَثَلُهُم كمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا. . .) الآية. يحتمل: أن يكون الإضافة إلى من ذكر من المنافقين بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ. . .) الآية، وقوله: (وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوَا آمَنَّا. . .) الآية. وذلك يخرج على وجوه: أَحدها: أَنهم قصدوا قصد المخادعة بأَولياءِ اللَّه والاستهزاءِ بهم؛ ففضحهم اللَّه بذلك في الدنيا والآخرة. فأَما في الدنيا فبما هتك سترهم، وأطْلَعَ على ذلك أَولياءَه؛ فعادت إليهم المخادعة، وعوقبوا بما أطلع على ضميرهم، وبما أَرادوا ذلك الأَمن، فأَعقبهم اللَّه خوفًا دائمًا كما وصفهم اللَّه (ويَخشَوْنَ النَّاسَ. . .) الآية. وقال: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ). وقال: (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)، وقال: (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ. . .) الآية، وقال: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ. . .) الآية. أو أن يكونوا طلبوا -بإظهار الموافقة في الدِّين- الشرف فيهم والعز، وكذلك عند الكفرة مما أظهروا أَنهم يخادعون بذلك المؤمنين، ويستهزئون بهم؛ فعلموا أَنهم كذلك يظهرون للمؤمنين حالهم معهم، فَطُرِدوا من بينهم فقال اللَّه: (مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ)، وقال. (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ. . .) الآية، فزال عنهم ما التمسوا من الشرف والعز، وأَبدل لهم به الهوان والذل. فمثلهم في ذلك مثلُ مستوقِد نارٍ ليستضيء بضوئها، وينتفع بِحرها، فأَذهب اللَّه ضوءه

حتى ذهب ما كان يأْمل من الاستنارة بها والانتفاع، وأعقبه اللَّه تعالى خوف الاحتراق لو دنا منها، وذهب عنه ما طلب بذلكَ -من شرف الوقود في الأَيام الشاتية، أو ما يصلح بها- من الأَغذية بذهاب البصر. فيكون ذلك معنى قوله: (وَهُوَ خَادِعُهُمْ)، و (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وإذ عوقبوا بالخوف بما قصدوا به الأمنَ، والذل بما طلبوا به العز، وكذلك مستوقد النار الذاهب نوره، واللَّه أعلم. وعلى ذلك قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) أي: اختاروا الضلالة لما رجعوا إلى شياطينهم بالهدى الذي قد أَظهروه عند المؤمنين. فيكون تحقيق استهزاءِ اللَّه بهم، ومخادعته إياهم فعل أَوليائه بهم بما أخبروا من سرائِرهم، وبما حطوا أَقدارهم، وذلوا في أَعينهم، فأُضيف ذلك إلى اللَّه؛ إذ به فعلوا، كما أضيفت مخادعتُهم المؤمنين إليه؛ إذ عن دينه خادعوهم. واللَّه أعلم. وعلى هذا التأْويل أَمكن أَن يخرج قول من زعم: أَن الآية نزلت في الكافرين، أَنهم كانوا يعرفون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما وجدوا نعته في التوراة والإنجيل، أنه (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ. . .)، وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) إلى آخر السورة، وقال عز وجل: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) وقوله: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ). كانوا كمستوقد النار، أي: طالب الوقود ليستضيء به، فلما ظفر به أَذهب اللَّه نوره بعد معرفتهم بمنفعة نور النار، فلم ينتفع به. فكذلك لما كفروا عند بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حسدًا من أَنفسهم وبغيًا؛ إذ كان من غيرهم؛ أو خشية منهم على ملكهم ومأْكلتهم بعد العلم منهم بعظم المنفعة فيه، ولا قوة إلا باللَّه. وأَما في الآخرة أنهم قصدوا مخادعة المؤمنين، وموالاتهم في الظاهر، ومشاركتهم إياهم في المنافع نحو المغانم والتوارث والتناكح، وخالفوهم في الباطن. فكذلك اللَّه أَشركهم في المنافع الظاهرة الحاضرة في الدنيا، وخالفهم بمنافع دينه في الباطن الغائب وهي الآخرة؛ أراهم المشاركة مع المؤمنين في الدنيا، وصرفها عنهم في الآخرة. فكما أروهم الموافقةَ في الظاهر مع المخالفة في الباطن، فكذلك مستوقد النار أظهر من نفسه الرغبة في ضوئها بالإيقاد، وقد أَذهب اللَّه ضوء بصره؛ فذهب عنه مَنفعته عند ظنه أَنه يصل إليها، كالمنافقين في الآخرة، إذ ظنوا في الدنيا أنهم شركاؤهم في الآخرة لو

كانت؛ ولذلك قالوا: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)، وقوله: (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ. . .) الآية، فذلك وجه الاستهزاءِ بهم، والمخادعة أَنه أَشركهم في أَحكام الدنيا وخالفهم في أَحكام الآخرة. وعلى ذلك اشتراء الضلالة بالهدى، على معنى اختيارهم ما فيه الهلاك على ما فيه نجاتهم. وعلى ذلك يخرج تأويل من صرف إلى أَهل الكتاب؛ لأنهم آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ آمنوا بكتبهم وقد كان فيها نعته الشريف، فلما وصلوا إلى منافع الإيمان بالبعث إليهم، وشاهدوا كفروا به؛ فعوقبوا بحرمان منافع كتبهم، وإيمانهم عند معاينة الجزاء كما ردوا إيمانهم به عند المشاهدة، واللَّه أعلم. ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه ضم تأويل هذه الآية والتي تتلوها من قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) إلى قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) وذلك - واللَّه أعلم - أنهم قوم لا يعرفون اللَّه حق المعرفة؛ فيعبدونه بحق الربوبية له قبلهم، ولا يؤمنون بالآخرة؛ فيكون عملهم للعواقب، ولا يعرفون غير الدنيا ومنافعها، فجعلوا دينهم وعبادتهم ثمنًا لها. فإذا رأوا في دين الإسلام الغنائم والسلوة، رأَوا تجارتهم مربحة فاطمأنوا بها، واجتهدوا بالسعي فيها. وإذا أَصابتهم الشدة والبلايا رأَوا تجارتهم مخسرة فصرفوا إلى غير ذلك الدِّين؛ فمثلهم مثل المستوقد نارا؛ إنه يجتهد في الإيقاد ما دام يطمع في نور النار، ومنافع حرها لمصالح الأَطعمة، فإذا ذهب نور بصره أبغض النار بما يخشى من الاحتراق بالدنو منها، وبما يذهب من منافع خفية إن لم يكن كاستوقد، كالمنافق فيما استقبله المكروه في الإسلام تمنى أن لم يكن أسلم قط. وذلك قوله: (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ). وقوله: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا). وقوله: (قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ). وقوله: (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا). وكذلك البرق الذي يضيء يمشي المرء في ضوئه، وكذلك المنافق، إذا رأَي خيرًا في الإسلام مشى إليه، وإذا أظلم عليه قام متحيزا حزينًا؛ أَلا يكون اختار السلوك، والله الموفق.

وقال أَبو بكر الأصم: مَثَلُ من يظهر الإيمان فيما يتزين بنوره في الناس، مثل مستوقد النار فيما يستضيء حول النار بنورها، ثم يذهب اللَّه نوره في الآخرة كما أَذهب هو في السر، وكذلك أَذهب اللَّه نور المستوقد؛ فيذهب به التزين بالنور حول النار. قال: وقيل: ذا لعن. كما يقال: أَذهب اللَّه نوره، أي: الذي كان يظهره؛ فيبقى المنافق في ظلمات الآخرة، والمستوقد في ظلمات العمى والليل. ثم قال: جعل الدعاء إلى الإسلام كالصيب، وما فيه من الجهاد كظلمة الليل، وما فيه من الغنيمة كالبرق، وجعل أَصابعهم في الآذان من سماع ما في الإسلام من الشدائد نحو جعل ذلك من الصواعق (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ). أي: ما في الإسلام من الغنيمة يدعوهم إليه. وإذا أَظلم عليهم بالشدائد قاموا وصدوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولو شاءَ اللَّه لذهب بما ذكر، أي: أَصمهم وأعماهم. ورُويَ عن الضحاك عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: " أن ضوء البرق والنار ليسا بدائمين "؛ فشبه به إيمان المنافق أَنه عن سريع يزول. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: كان المنافق في ظلمة الكفر فاهتدى بما أعطي من النور، كمستوقد

النار بنوره في ظلمة الليل. وكذلك السالك في ظلمة الليل، فلما ذهب نوره -أَو سكن لمعان البرق- رجع إلى ما فيه من الظلمة. والأَصل في هذا الباب: أَن اللَّه تعالى خلق هذه الدار لمحنة أَهلها، وجعل لهم دارًا يجزيهم فيها، مما لولا هي لكان يكون خلق هذه الدار بما فيها عبثًا؛ إذ يكون خلق الخلق للفناءِ بلا عواقب لهم، وذلك عبث في العقول؛ لأن كل شارع -فيما لا عاقبة له- عابث، وفيما لا يُريد معنى يكون في العقل هازلٌ؛ ولذلك قال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ). فإذا كان كذلك صارت هذه الدار دليل الأخرى؛ فعلى ذلك ضرب للأخرى مثلًا بالمعروف من هذه؛ إذ بهذه عرفت تلك؛ ولهذا خلق اللَّه الممتَحنين بحيث يأْلمون ويتلذذون؛ ليعرفوا قدر الآلام التي بها أوعدوا، واللذات التي فيها رغبوا. فعلى ذلك ضرب اللَّه مثل من عمى عن الآخرة، وصم عن سماع ما يرغب فيها، أو عمى عن أَمر اللَّه ونَهْيه، أو أُلحق بالأَعمى، والأَصم، والميت ونحو ذلك؛ لذهاب منافع البصر والسمع والحياة؛ إذ هي مخلوقة ليعرف بها ما غاب عنها بالتأَمل والتدبر. فإذا غفل عن ذلك سمى بالذي ذكرنا. وبينا أَنه لولا الآخرة ودار الجزاءِ، لم يكن لخلق شيء من ذلك حكمة نعقلها نحن. فعلى ذلك ضرب المثل لذهاب نور القلب -الذي به يبصر العواقب وينتفع بها- بذهاب نور البصر، في زوال منافع الدنيا مما يتصل بنوره، وكذلك أَمر السمع وغيره. فكان على ذلك أَمكن إخراج المثلين جميعًا على الكفرة والمنافقين. أَما المنافق فإذا ذهب نور حقيقته عنه -وهو نور البصر- لم ينتفع بنور النار على قيام النار بنورها لكل ذي بصر، وكذلك سائر منافع النار؛ فمثله إذا ذهب عنه نور بصر القلب

(18)

وحياته لم ينتفع بنور الآخرة وجزائِها. وكذلك الذي ذهب عنه ضوء البرق يبقى متحيرا؛ إذ به يبصر الطريق كمن يذهب عته بصر القلب؛ إذ به يبصر عواقب الأَشياءِ. بل الذي قصد السلوك بالبروق، والاستضاءَة بنور النار، إذا ذهب كان أَعظمَ حسرة وأَشد خوفًا من النارِ، وشدةِ المطرِ، وخبثِ الطريق من الذي لم يعرف -في الابتداءِ- نفع النار أَو البرق، ويكره المطر على شدة رغبته فيه، والنار بما ذهب منه. وكذلك المنافق في الآخرة إن لم يكن منه ما أظهر إذ به يُرد إلى درك الأَسفل، ولا قوة إلا باللَّه. وكذلك الكافر لم يبصر -بما أَعطاه من البصر- عواقب البصر الظاهر، ولا يسمع -بما أَنعم عليه من السمع- عواقب السمع؛ إذ حق ذلك أن يؤدي ذلك ما أَدركه إلى العقل ليعتبر به أَنه لم يخلق شيء من ذلك بالاستحقاق، ولا يحتمل عقله الإحاطة بكنه ما فيه من الحكمة، فيعلم عظم نعمة اللَّه وخروج مثله عن العبث، فيقوم بأداءِ شكره؛ وبذلك يصير به إلى الجزاءِ في العواقب، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) يحتمل وجهين: أَحدهما: صم؛ لأَنه ختم على آذانهم، وعلى سمعهم، وعلى قلوبهم؛ فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يعقلون. ويحتمل: أَنهم صم بكم عمى؛ لما لم ينتفعوا بأسماعهم، وأَبصارهم، وقلوبهم. ثم اختلف في جواز إضافة لفظ " الاستهزاءِ " إلى اللَّه تعالى " فأجازه قوم، وإن كان ذلك قبيحًا من الخلق؛ لما قبح منهم بما لا أحد يستهزئ بأَحدٍ -إما لجهله، أَو لقبح في الخلقة، أَو لزيادة في الخلق- إلا والمستهزئ نحو هذه قد يحتمل ذلك لولا إنعام اللَّه عليه الذي قد أغفل عنه، أَو لدناءة في الخلق باشتغاله بما ذكر، مع ما لعل الإغفال من هذا أوحش، وأَقبح من حال المستهزأ به. ولذلك قال عَزَّ وَجَلَّ: (لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ. . .) الآية. وذلك نحو التكبر: أنه قبيح من الخلق، بما لهم أَشكال في الحدث، وآثار الصنعة، واحتمال كل منهم بما احتمل غيره. وجائِز إضافته إلى اللَّه تعالى، لتعاليه عن الأَشباه والأَشكال، وإحالة احتمال ما احتمل

(19)

غيره، وبه يقول حسين النجار. وأبَى قوم ذلك إلا على أثر أَحوال تصرف فهم السامع إلى معنى الاستهزاءِ، نحو أن يذكر على أثر فعل له جزاء؛ فيفهم منه جزاءُ الاستهزاءِ كذكر السيئة في الجزاء، والمكر ونحو ذلك. ثم يخرج ما نحن فيه على أوجه: أَحدها: ما بينا. والثاني: ما ينسب إليه فعل المأمور، نحو قول المؤمنين للمنافقين في الآخرة: (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ) وقول أَهل الجنة، ودعائهم أهل النار بالخروج، لو ثبت ما ذكره الكلبي، وقول الملائِكة: (فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) وغير ذلك. وقوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20). ثم ما ذكر من " الظلمات " يخرج على وجوه ثلاثة: أَحدها: ظلمات كفرهم بقلوبهم؛ إذ أظهروا الإيمان أولًا. والثاني: المتشابه في القرآن، وهو الذي تعلق به كثير من المشركين حتى نزول قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ. . .) الآية. والثالث: ما في الإسلام من الشدائد، والإفزاع من الجهاد، والحدود وغير ذلك. وأَمكن صرف الأَول، والآخر إلى الفريقين: الكافر، والمنافق، وصرف تأْويل المتشابه إلى الكافر. على أنا بينا أَن لكل من ذلك حَظًّا، ويدل آخر الآية -وهو قوله: (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) - على أن المثل لهم، إلا أن المنافق شريكهم في الكفر، واللَّه الموفق. وجائِز أن يكون المثل المضروب بالآية إنما هو للقوم الذين شهدوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم كانوا قبل بعثه صنفين:

صنف ينتحل الكتاب الذي هو عندهم مما جاءَ به الرسل، لكن أَئمتهم قد غيروا ما في كتبهم من دين اللَّه وأَحكامه حتى عطلوا ذلك، وأَبدعوا غير الذي جاءَت به الرسل من الدِّين والأَحكام. بَين ذلك قولُه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا. . .) الآية. وقوله: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ). وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ. . .) الآية. ومنهم من أبدع الكتاب ونسب إليهم؛ كقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ. . .) الآية. تبين ما ظهر من التفرق فيهم، ومن القول في أَنبيائهم، وفي اللَّه سبحانه. ومعلوم أن دين الرسل واحد غير مختلف، وبما كان من الفترة اندرست الكتب، وذهبت الرسوم؛ فصاروا في ظلمة الضلالة، وحَيرة الزيغ، وتاهوا في سبيل الشيطان، وانقطع من بين أظهرهم الأَئمة الذين يوثق بهم في الدِّين، بما ليس لأَحد برهان يشهد له بالتمسك بسبيل الأنبياءِ، والاعتصام بكتبهم؛ إِذْ كلهم يدعي ذلك - وقد ظهر فيهم القول المختلف والمتناقض الذي لا تحتمله الحكمة، وَلا يصبر عليه العقل. وصنف: لا ينتحل الكتاب، ولا يؤمن بنبي من الأَنبياءِ، بل يعبدون الأَوثان والنيران والأحجار، وما يهوون مما لا يملك الضرر ولا النفع، ليس لهم شرع، بل هم حيارى، لا يعرفون معبودًا، ولا يبصرون طريقا، وليس فيهم مَنْ إذا فزعوا إليه دلهم على المحجة، وأطلعهم على الحق، بل هم في الضلال تائهون، وفي الظلمات متحيرون. فأحوج الفريقين جميعًا ما حل بهم من الحيرة والتيه، إلى من يشفيهم من داءِ الضلالة بنور الهدى، ومن ظلمة الاختلاف بضياءِ الائتِلاف، ويخرجهم من سبيل الشيطان إلى سبيل اللَّه، ويَدُلهم على معرفة المعبود الحق لئلا يتخذوا من دونه أَربابًا. فبعث إليهم - عند شدة حاجتهم - رسولا، وأكرمهم بما أَراهم من الآيات التي يعلمهم بها أَنه أنعم بها عليهم؛ ليستنقذهم من الضلالة إن هم أَطاعوه، وشكروا نعمة اللَّه. فكانوا كقوم بُلُوا بظلماتِ الليل والسحاب، فتحيروا فيها بما حالت الظلمة بينهم وبين حاجاتهم، وتعذر عليهم الوجه في وضع أَقدامهم، فتاهوا، فدفعهم التيهُ إلى استيقاد النار؛ ليبلغوا حوائجهم، ويأمنوا العَطَبَ في وضع الأَقدام.

(21)

وكقوم بُلُوا في شدة الجوع والعطش لضيق الزمان وجَدْبِهِ، فاستغاثوا بمن يملك كشف ذلك عنهم فأَغاثهم بالمطر. ثم منهم من عرف نعمة من أَنعم عليهم بالوقود وأَغاثهم بالمطر، فتلقوا نعمته بالشكر فنجوا بذلك فما خشوا من الهلاك، ووصلوا إلى حوائِجهم بالنار والمطر. وذلك مثل من اتبع محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعرف نعم اللَّه فشكره. ومنهم من تلقى نور النار بالكفران والجهل بالمنعم به عليه، ونسي ما كان عليه، وهو قوله: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ) آيات فيها ذكر ما بَينت، وقوله: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ. . .) الآية، فأَذهب اللَّه نورَهُ فلا ينتفع بنور النار، ولا وَصل إلى حاجته التي بها يقضي. وذلك مثل الذين كفروا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنهم لم ينتفعوا به، ولا قضوا حاجاتهم، بل زادهم ذلك ظلمةً وحيرة، كمستوقد النار إذا ذهب بصرهُ. وكذلك قوم بُلوا بالسلوك في الطريق عند شدة الظلمة، ولم يتلقوا النعمة بالشكر من الوجه الذي جُعل لهم لوضع أَقدامهم بنور البرق فأَذهب اللَّه نوره، وسَكَنَ لمعانُ البرق؛ فعاد الغياث له هلاكا، والمطر -الذي وجهه- عليه بلاء. فمثله من كابر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واعترض على الاستماع إليه، ولا قوة إلا باللَّه. * * * قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25). وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ). فالخطاب يحتمل الخصوص والعموم. وقوله: (اعْبُدُوا): وحدوا ربَّكم.

(22)

جعل العبادة عبارةً عن التوحيد؛ لأَن العبادة التي هي لله لا تكون ولا تخلص له إلا بالتوحيد. ويقال: (اعْبُدُوا)؛ أي: أَطيعوا له؛ أي: اجعلوا عبادتكم لله، لا تعبدوا غيره، في كلا التأْويلين يرجع إلى الكفرة. ويقال: (اعْبُدُوا)؛ أَي: أَطيعوا له. والعبادة جعل العبد كُليته لله قولًا، وعملًا، وعقدًا، وكذلك التوحيد، والإسلام. والطاعة ترجع إلى الائتمار؛ لأَنه يجوز أن يطاع غير اللَّه، ولا يجوز أَن يعبد غير اللَّه؛ لأن كل من عمل بأَمرِ آخر فقد أطاعه؛ كقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)، ولا كل من عمل بأمر آخر فهو عابدٌ له، وباللَّه نستعين. ثم بين الذي أَمر بالتوحيد إياه وبالعبادة له خالصًا، فقال: (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). والذين تعبدونهم لم يخلقوكم، ولا خلقوا الذين من قبلكم، فكيف تعبدونهم دون الذي خلقكم؟! وباللَّه التوفيق. وقوله: (لَعَلَّكُم تَتقونَ). يحتمل وجهين: يحتمل: تتقون المعاصي، والمناهي، والمحارم التي حرم اللَّه عليكم. فإذا كان هذا هو المراد فذلك راجع إلى المؤمنين. ويحتمل قوله: (تَتَّقُونَ) والشرك وعبادة غير اللَّه، فذلك راجع إلى الكفرة. قال الشيخ: الأَحسن في الأمر بالتقوى والتوحيد أَن يجعل عامّا، وفي الخبر عن التقوى خاصًّا. (لَعَلَّكُم) أي: كي تتقوا. وقوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ (22) بَيَّنَ اتقاء الذي أَمر بالتوحيد له، وتوجيه العبادة إليه، وإخلاص النية له؛ فقال: الذي فرش لكم الأَرض لتنتفعوا بها، وتقضوا حوائِجكم فيها، من أنواع المنافع عليها، واتخاذ المستقر والمسكن فيها. (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) أي: رفع السماء بناء. والسماء: كل ما علا وارتفع، كما يقال لسقف البيت: سماء؛ لارتفاعه.

وسمى السماء بناء -وإن كان لا يشبه بناء الخلق- حتى يعلم أَن البناء ليس اسم ما يبني الناس خاصة. ثم بين بقوله: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ). أي: وجهوا العبادة إلى الذي ينزل لكم من السماء ماء عند حوائِجكم، ولا تعبدوا من تعلمون أنه لم يخلقكم، ولا أَنزل لكم من السماء ماء، ولا أخرج لكم من ذلك الماءِ ثمرات تكون رزقًا لكم. بل هو اللَّه الواحد الذي لا شريك له؛ ولأَنه يخلقكم، ويرزقكم، ويخرج لكم من ذلك الماء المنزل من السماء رزقا تأْكلونه، وماء عذبًا تشربونه. وفي الآية دلالة أن المقصود في خلق السماءِ والأَرض، وإنزال الماءِ منها، وإخراج هذه الثمرات وأَنواع المنافع - بنو آدم، وهم الممتحنون فيها؛ بدلالة قوله: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) وما ذكر من المخرج والمنزل منها، وما ذكر في آية أخرى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)، ومنه (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ)، مما يكثر من الآيات. أضاف ذلك كله إلينا، ثم جعل - عَزَّ وَجَلَّ - بلطفه مَنافع السماءِ متصلة بمنافع الأرض على بُعْدِ ما بينهما من المسافة، حتى لا تخرج الأَرض شيئًا إلا بما ينزل من السماء من الماء؛ ليعلم أَن منشئ السماءِ هو منشئ الأَرض؛ لأَنه لو كان منشئ هذا غير منشئ الآخر لكان لا معنى لاتصال منافع هذا بمنافع الآخر على بُعْدِ ما بينهما، ولتوهم كون الاختلاف من أَحدهما للآخر. فإذا كان كذلك دل على أَن منشئهما واحد، لا شريك له ولا ند. ثم زعم قوم: أَن الأَشياء كلها حِل لنا، طلق، غير محظور علينا، حتى يجيء ما يخظر، فاستدلوا بظاهر هذه الآية بقوله: (رِزقا لَكُم)، وبقوله: (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا). وقال آخرون: لا يدل ذلك على الإباحة؛ وذلك أَن الأَشياء لم تَصِر لنا من كل الوجوه، فهو على الحظْر حتى تجيء الإباحة، ولأَن الأَشياء لا تحل إلا بأسباب تتقدم؛ فظهر الحظْر قبل وجود الأَسباب، فهو على ذلك حتى يجيء ما يُحل وُيبيح. أَو أَن يقال: خلق هذه الأَشياء لنا محنة امتحنا بها، أَو فتنة فتنا بها؛ كقوله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)، فُتِنَّا بها؛ وكقوله: (وَلنبلُوَنَّكُم

(23)

بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ. . .) الآية، ولأَن في العقل ما يدفع حمل الأشياء كلها على الإباحة، لما في ذلك فساد الخلق، وتفانيهم. فيين لِكل منهم ملْكًا على حدة بسبب يكتسب به؛ لئلا يحملهم على التفاني والفساد، وباللَّه نستعين. وقوله: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا). أي: أَعدالًا، وأَشكالًا في العبادة، وكله واحد. ند الشيء: هو عِدْلهُ. وشكلُه: هو مثلُه " وقوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). الأَول: أَن لا نِدَّ، ولا عِدْل، ولا شكل؛ لما أَراكم من إِنشاءِ هذه الأَشياء ولم تروا من ذلك ممن تعبدونه شيئًا. والثاني: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ولما أَنشأ فيكم من الأَشياءِ ما لو تدبرتم وتفكرتم وتأَملتم، علمتم أنه لا نِد له ولا شكل له؛ كقوله: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا (23) من القرآن أنه مُخْتَلَق مفترى، وأنه ليس منه؛ كقولهم: (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ) وقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، و (مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ). وقوله: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). أي: ائْتوا أَنتم بمثل ما أَتى هو؛ إذ أنتم وهو سواء في الجوهر والخلقة واللسان، ليس هو أَولى بذلك منكم؛ أَعني: في الاختلاق. وقوله: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). أي: استعينوا بآلهتكم الذين تعبدون من دون اللَّه، حتى تعين لكم على إتيان مثله إن كنتم صادقين في مقالتكم أنه مختلق مفترى. ويقال: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ). يعني شعراءَكم وخطباءَكم ليعينوكم على إتيان مثله. ويقال: ادعوا شهداءَكم من التوراة، والإنجيل، والزبور، وسائِر الكتب المنزلة على الرسل السالفة أنه مختلق مفترى. وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (24) يحتمل وجوهًا: يحتمل أنهم اقروا على أثر ذلك بالعجز عن إتيان مثله من غير تكلف ولا اشتغال كان منهم لما دفع عَزَّ وَجَلَّ عن أطماعهم إتيان مثله نظمًا، ولا اجتهدوا كل جهدهم، وتكلفوا

كل طاقتهم على إطفاءِ النور ليخرج قولهم على الصدق بأَنه مُختلقٌ مفترى، ويظهر كذب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أَنه كلام رب العالمين. فدل إقرارهم بالعجز عن إتيان مثله، وترك اشتغالهم بذلك: أَنه كلام رب العالمين، مُنَزل على نبيه ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ). الوَقود بالنصب هو الحَطب، وبالرفع هو النار. أَخبر عَزَّ وَجَلَّ أن حَطبها الناس كلما احترقوا أُعيدوا وبُدّلوا؛ كقوله: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا). والحجارة فيه وجهان: قيل: هي الكبريت. وقيل: الحجارة بعينها لصلابتها، وشدتها أشد احتراقًا، وأكثر إحماء. و (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ). في الآية دلالة أنها لم تعد لغير الكافرين. وهى تنقض على المعتزلة قولهم حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار، ولم يطلقوا له اسم الكفر، وفي زعمهم أَنها أُعدت للكافرين أيضًا، وإن كان تعذيب المؤمن بمعاصي يرتكبها، وأَوزار حملها، وفواحش تعاطاها؛ وذلك أَن اللَّه يعذب من يشاء بما شاءَ، وليس إلى الخلق الحكم في ذلك؛ لقوله: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا). فإن قالوا: إن أَطفال المشركين في الجنة، والجنة لم تُعدَّ لهم، وإنما أُعدت للمؤمنين، ثم جاز دخول غيرهم فيها وتخليدهم. وكذلك النَّار وإن كانت معدة للكافرين، جاز لغير الكافر التعذيب والتخليد فيها، كقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ. . .) الآية، شرط الكفر بعد الإيمان. ثم من ينشأ على الكفر، والذي كفر بعد الإيمان سواء في التخليد، فكذلك مرتكب الكبيرة، والكافر، سواء في التخليد. فيقال لهم: إن كل كافر تشهد خلقته على وحدانية ربه؛ فإذا ترك النظر في نفسه، واختار الاعتناد فصار كَكُفْرٍ بعد الإيمان؛ لأَنه لم يكن مؤمنًا ثم كفر. وأَما قولهم في الأطفال؛ فإنهم إنما خُلِّدوا الجنة جزاء لهم من ربهم، ولله أَن يعطي

(25)

الجزاءَ من شاءَ بلا فعل، ولا صنع كان منه؛ فضلًا وكرامة، وذلك في العقل جائِز إعطاء الثواب بلا عمل على الإفضال والإكرام. وأَما التعذيب فإنه غير جائِز في العقل بلا ذنب يرتكبه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (25) الآية تنقض قول من جعل جميع الطاعات إيمانًا؛ لما أثبت لهم اسم الإيمان، دون الأَعمال الصالحات، غير أَن البشارة لهم، وذهاب الخوف عنهم إنما أُثبت بالأَعمال الصالحات. ويحتمل: الأَعمال الصالحات: عمل القلب، وهو أن يأْتي بإيمان خالص لله، لا كإيمان المنافق بالقول دون القلب. وقوله: (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). يعني بساتين. وقوله: (ومِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) قيل فيه بوجوه: قيل: إن البساتين ليست هي اسم الأَرض والبقعة خاصة، ولكن ما يجمع من الأشجار، وما ينبت فيها من أَلوان الغروس المثمرة فعند ذلك يسمى بستانًا. وقوله: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أي: من تحت أشجارها، وأغراسها الأَنهار. وقيل: من تحتها: مما يقع البصر عليها، وذلك أَنزه عند الناس، وأَجلى، وأَنبل. وقيل أَيضًا: من تحتها أَي: من تحت ما علا منها من القصور والغرف، لا تحت الأَرض مما يكون في الدنيا في بعض المواضع يكون الماء تحت الأَرض. دليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " تحت كل شعرة جنابة "؛ أي تحت ما علا، لا تحت الجلد؛

فكذلك الأَول من تحت ما علا منها من القصور، والغرف، واللَّه أعلم. وقوله: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ). قيل فيه بوجوه: (رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا.

وقيل: (رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) أَي: هذا الذي وعدنا في الدنيا أن في الجنة هذا. وقيل: (رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ)، في الجنة قبل هذا. وقوله: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا). قيل فيه بوجوه: قيل: (مُتَشَابِهًا) في المنظر، مختلفًا في الطعم. وقيل: (مُتَشَابِهًا) في الطعم مختلفًا في رأي العين والأَلوان؛ لأَن من الفواكه ما يستلذ بالنظر إليها دون التناول منها. وقيل: (مُتَشَابِهًا) في الحسن والبهاءِ. وقوله: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ). قيل فيه بوجوه: (مُطَهَّرَةٌ) من سوءِ الخلق والدناءَة، ليس كنساءِ الدنيا لا يسلمن عن ذلك. وقيل: (مُطَهَّرَةٌ) من الأمراض، والأَسقام، وأَنواع ما يبلى به في الدنيا من الدرن، والوسخ والحيض. وقيل: (مُطَهَّرَةٌ) لصفاءِ جوهرها؛ كما يقال: يرى مخ ساقيها من كذا وكذا. وقيل: (مُطَهَّرَةٌ) مختارة مهذبة. وقوله: (وَهُم فِيهَا خَالِدُونَ). أي: يقيمون أَبدا. فالآية ترد على الجهمية قولهم؛ لأَنهم يقولون بفناءِ الجنة، وفناءِ ما فيها؛ يذهبون إلى أَن اللَّه تعالى هو الأَول، والآخر، والباقي، ولو كانت الجنة باقية غير فانية لكان ذلك

(26)

تشبيهًا. لكن ذلك وهمٌ عندنا؛ لأَن اللَّه تعالى هو الأَول بذاته، والآخر بذاته، والباقي بذاته، والجنةُ وما فيها باقية بغيرها. ولو كان فيما ذكر تشبيه لكان في العالم، والسميع، والبصير تشبيه، ولكان في الخلق أيضًا في حال البقاءِ تشبيه، فإذا لم يكن فيما ذكرنا تشبيه لم يكن فيما تقدم تشبيه. وأيضًا: فإن اللَّه تعالى جعل الجنة دارًا مطهرة من المعايب كلها؛ لما سماها دار قدس، ودار سلام. ولو كان آخرها للفناءِ كان فيها أَعظم المعايب؛ إذ المرء لا يهنأُ بعيش إذا نغص عليه بزواله؛ فلو كان آخره بالزوال كان نعمة منغصة على أَهلها؛ فلما نزه عن العيوب كلها -وهذا أَعظم العيوب- لذلك كان التخليد لأَهلها أولى بها. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا). كأن هذا - واللَّه أعلم - يخرج جوابًا على أثر قول قاله الكفرةُ لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ما ذكره بعض أَهل التأْويل - فقالوا: ما يستحيي ربك أَن يذكر البعوض والذباب ونحوها مما يصغر في نفسه، وملوكُ الأَرض لا يذكرون ذلك، ويستحيون؟ فقال عَزَّ وَجَلَّ جوابًا لقولهم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا. . .) الآية. لأَن ملوك الأَرض إنما ينظرون إلى هذه الأَشياءِ بالاستحقار لها، والاستذلال؛ فيستحيون ذكرها على الإنكاف، والأنَفَة. واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يستحيي عن ذلك؛ لأَن الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته في خلق الصغير من الجثة والجسم، أَكبر من الكبارِ منها والعظام؛ لأَن

الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب، وتركيب ما يحتاج إليه من الفم والأَنف والرجل واليد والمدخل والمخرج - ما قَدروا، ولعلهم يقدرون على ذلك في العظام من الأَجسام والكبار منها. فأُولئك لم ينظروا إليها لما فيه من الأعجوبة واللطافة، ولكن نظروا للحقارة، والخساسة أنفًا منهم وإِنكافًا. ثم اختلف أَهل الكلام في إضافة الحياءِ إِلى اللَّه تعالى: فقال قوم: يجوز ذلك بما رُويَ في الخبر: " إن اللَّه يستحيي أَن يعذب من شاب في الإسلام " ولأنه يجوز كالتكبر، والاستهزاءِ، والمخادعة، وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم. وقال آخرون: لا يجوز إضافته إلى اللَّه تعالى؛ لأَن تحته الإنكاف والأَنفة، وذلك عن اللَّه تعالى مَنْفِيٌّ، ولكن الحياء هو الرضاء هاهنا، والحياء الترك؛ أَي: لا يترك ولا يدع. وقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). أي: علموا أن ضرب المثل بما ذكر من صغار الأَجسام والجثة حق؛ لما نظروا إلى ما فيها من الأُعجوبة والحكمة واللطافة. وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا). لم ينظروا فيها لما فيها من الأُعجوبة والحكمة، ولكن نظروا للخساسة والحقارة. وقوله: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا). الآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنه جواب قولهم: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) فقال: أَرَاد أَن يضل بهذا المثل كثيرًا، وأَراد أن يهدي به كثيرا، أَضل به من علم منه أَنه يختار الضلالة، ويهدي به من علم أَنه يختار الهدى، أراد من كل ما علم منه أَنه يختار ويُؤثر، واللَّه أَعلم. وهم يقولون: بل أَراد أن يهدي به الكل، ولكنهم لم يهتدوا. والثاني: يُضلُّ به كثيرًا؛ أَي: خَلَقَ فِعْلَ الضلالة من الضال، وخلقَ فعل الاهتداءِ من المُهتدِي. وقد ذكرنا فيما تقدم. وقوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ).

(27)

أي: ما يُضِل بهذا المثَل إلا الفاسق الذي لا ينظر إلى ما فيها من الأُعجوبة واللطافة في الدلالة. وقوله: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ (27) عهد اللَّه يكون على وجهين: عهدُ خِلْقه؛ لما يشهد خَلْقه كُل أحدٍ على وحدانية الرب؛ كقوله: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). وكقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ. . .) الآية. إنه إن نظر في نفسه وتأَمل عرف أن له صانعًا وأنه واحد لا شريك له. وعَهْدُ رسالةٍ على أَلْسِنة الأَنبياءِ والرسل عليهم السلام؛ كقوله: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي. . .) والآية. وكقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ. . .) الآية. فنقضوا العهدين جميعًا؛ عهدَ الخلقة، وعهد الرسالة. وقوله: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ). يَحْتَمِل وجهين: يقطعون الإيمان ببعض الرسل وقد أُمروا بالوصل؛ كقوله: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ). وقيل: يقطعون ما أمر اللَّه أن يوصل من صلة الأرحام. وقوله: (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ). قيل فيه بوجهين: يفسدون بما يأمرون في الأرض بالفساد؛ كقوله: (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ). وقيل: يفسدون، أي: يتعاطَوْن بِأنفسهم في الأَرض بالفساد؛ كقوله: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا). وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). يحتمل أَيضًا وجهين: خسروا لما فات عنهمِ، وذهب من المنى والأَماني في الدنيا. ورُويَ عن الحسن أنه قال في قوله: (هُمُ الْخَاسِرُونَ): أي: قذفوا أَنفسهم -

(28)

باختيارهم الكفر- بين أَطباق النار؛ فذلك هو الخسران المبين. وقوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (28) يحتمل وجوهًا: " كيف ": من أَين ظهرت لكم الحجةُ أَن تعبدوا من دون اللَّه من الأَصنام وغيرها أَنه حق، ولم يظهر لكم منها الإنشاء بعد الموت، ولا الإماتةُ بعد الإحياءِ؟ وقيل: كيف تكفرون بالبعث بعد الموت (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا) يعني نُطَفًا (فَأَحْيَاكُمْ)، وأَنتم لا تنكرون إنشاء الأَول فكيف تنكرون البعث والإحياء بعد الموت؛ وقيل: كيف تكفرون بالإحياءِ والبعث بعد الموت، وفي العقل أن خَلْقَ الخلْق للإفناءِ والإماتة من غير قصد العاقبةِ عبث ولعب؛ لأَن كل بانٍ بنى للنقض فهو عابث، وكذلك كل ساع فيما لا عاقبة له فهو عابث هازل، فكيف تجعلون فعله عَزَّ وَجَلَّ؛ إذ لو لم يجعل للخلق دارًا للجزاءِ، والعقاب كان في خلقه إياهم عابثًا هازلًا خارجا من الحكمة؟! تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرًا. وقوله: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). أَي: تعلمون أَنكم تُرجَعون إليه، وكذلك المصير والمآب. والثاني: ترجعون إلى ما أعَد لَكُم من العذاب. احتج عليهم بما أَخبرهم اللَّه أَنه أَنشأهم بعد الموتة الأُولى، وأنه يبعثهم بعد الموتة الأُخرى (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كأنه يقول: ثم اعلموا أَنكم إليه ترجعون. قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا (29) قيل: إنه صلة قوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا) أي: كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأرض ما يدلكم على وحدانيته؛ لأَنه ليس شيء من الأرض إلا وفيه دلالة وحدانيته. ويحتمل: كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأَرض نعيمًا من غير أَن كان وجب لكم عليه حق من ذلك لتشكروا لَهُ عليها، فكيف وجهتم أَنتم الشكر فيها إلى غيره؟ ويحتمل (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ): محنة يمتحنكم بها في الدنيا؛ كقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، ثم لتجزون في دار أخرى فكيف أنكرتم البعث؟!

وفى بيان حكمةِ خلق الخلق في الدنيا للفناءِ، والإحياء للآخرة - حكمة، وفي إنكارها ذهاب الحكمة. وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ). قيل فيه بوجوه: قيل: استوى إلى الدخان؛ كقوله: (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ). وقيل: استوى: تَمَّ؛ كقوله: (بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) أي: تَمَّ. وقيل: استوى: أَي: استولى. والأَصل عندنا في قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) و (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وغيرها من الآيات من قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ. . .) الآية. وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ. . .) الآية، من الآيات التي ظنت المشبِّهةُ أَن فيها تحقيق وصف اللَّه تعالى بما يستحق كثير من الخلق الوصفَ به على

التشابه. في الحقيقة إنها تحتمل وجوهًا: أحدها: أَنْ نَصِفَهُ بالذي جاء به التنزيل على ما جاء، ونعلم أَنه لا يشبه على ما ذُكر من الفعل فيه بغيره؛ لأنك بالجملة تعتقد أن اللَّه ليس كمثله شيء، وأنه لا يجوز أَن يكون له مثل في شيء؛ إذ لا يوجد حدثه فيه، أَو قدم ذلك الشيء من الوجه الذي أشبه اللَّه. وذلك مدفوع بالعقل والسمع جميعًا، مع ما لم يجز أَن يقدر الصانع عند الوصف بالفعل كغيره، وأنه حي، قدير، سميع، بصير، نفى ما عليه أمر الخلق لما يصير بذلك أَحد الخلائق. وإذا بطل هذا بطل التشابه وانتفى، ولزم أَمر السمع والتنزيل على ما أَراد اللَّه. وبالله التوفيق. والثاني: أَن يمكن فيه معان تُخرِج الكلام مَخْرج الاختصار والاكتفاءِ بمواضع إفهام في تلك المواضع على إِتمام البيان، وذلك نحو قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) أَي: بالملك. وذلك كقوله: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ. . .) أَي: بربك (فَقَاتِلَا)؛ إذ معلوم أَنه يقاتل بربه؛ ففهم منه ذلك. وكذلك معلوم أَن الملائكة يأتُون، فكأنه بين ذلك. يدل عليه قوله: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، وكذلك (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ. . .) الآية. ومما يوضح أَنه لم يكن أَحدٌ اعتقد أَو تصوَّر في وهْمِه النظرُ لإتيان الربِّ ومجيئه، ولا كان بنزوله وعد بنظر. وكان بِنزولِ الملائِكة؛ كقوله: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى. . .)، وقوله: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ) فيما ذكرنا عظيمُ أَمرهم، وجليلُ شأْنهم، ومثله في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرشِ اسْتَوَى)، مع ما له وجهان: أَحدهما: أَن يكون معنى العرش الْملك والاستواءُ التام الذي لا يوصف بنقصان في ملك، أَو الاستيلاءُ عليه، وألَّا سلطان لغيره، ولا تدبير لأَحد فيه. والثاني: أَن يكون العرش أَعلى الخلق وأَرفعه.

(30)

وكذلك تقدرُه الأوهام؛ فيكون موصوفا بعلوه على التعالي عن الأمكنة، وأَنه على ما كان قبل كون الأَمكنة، وهو فوق كل شيء؛ أي بالغلبة، والقدرة، والجلال عن الأَمكنة، ولا قوة إلا باللَّه. وأَصله ما ذكرنا: ألا نُقَدرَ فعلَه بفعل الخلق، ولا وصفه بوصف الخلق؛ لأنه أخبر أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وقوله: (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). مرة قال: (فَسَوَّاهُنَّ)، ومرة قال: (خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)، ومرة قال: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ. . .) الآية، ومرة قال: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). وكله يرجع إلى واحد. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39). وقوله: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ). قال الشيخ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: القول فيما يتوجه إليه مما تضمن قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة، والكشفُ عما قال فيها أهل التفسير من غير شهادة لأحد منا لإصابة جميع ما فيه من الحكمة أَو القطع على تحقيق شيء، ووجهوا إليه بالإحاطة. ولكن الغالب مما يحتمله تدبير البشر، ويبلغه مبلغ علمنا مما يجوز أَن يوصَف به أَهلُ المحنة، وإن كان تنزيه الملائِكة عن كل معنى فيه وحشة أَوْلى بما وصفهم اللَّه من الطاعة

بقوله: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). وقوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) إلى قوله: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ. . .) الآية. وقوله: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. . .) الآية. وقوله: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ). وما جاءَت به الآثار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من وصف طاعتهم لله، ومواظبتهم على العبادة. وما لا يذكر عن أحد من الرسل وصف ملك بالمعصية، بل إنما ذلك يذكر عن بعض السلف مما لا لوم في مخالفته في فروع الدِّين، فضلا من أَن يبسط اللسان في ملائِكة الله سبحانه، وباللَّه المعونةُ والعصمة. قال اللَّه تعالى لملائِكته: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ. . .) الآية. زعم قوم أن هذا زلة منهم، لم يكن ينبغي لهم أن يقابلوا قوله: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) بهذا؛ لما يخرج مخرج الاستعتاب بقولهم: أَتفعل ونحن نفعل كذا؟! كالمنكرين لفعله. وأَيدوا ذلك بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أنه لولا كان في ذلك طرف من الجهل يحذر عن مثله قائِلُه، لم يتبع قولهم هذا، ومعلوم عندهم أن يكون هو يعلم ما لا يعلمون. وأَيد ذلك بما امتحنهم بالإنباءِ عن أَسْماءِ الأَشياءِ، مقرونًا بقوله: (إِن كُنتُم صَادِقِينَ) ولولا أنه سبق منهم ما استحقوا عليه التوعد لم يكن لذلك الشرط عند القول: (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ) وفائِدة مع ما يوضع موضع التوبيخ والتهدد. ومنهم من قال: إن قوله: (أَتَجْعلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا) قولُ إبليس، هو الذي تعرض بهذا القول، وإن كان الكلام مذكورًا باسم الجماعة؛ لأَنه جائِز خطاب الواحد على إرادة الجماعة، وذكر الجماعةِ على إرادة الواحد، وإن كان خطاب اللَّه تعالى لجملة ملائِكته حيث قال: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ. . .) الآية. قوله: (أَنْبِئُونِي) بكذا، وهو يعلم أنهم لا يعلمون ذلك، ولا يحتمل أَن يأْمرهم بذلك وهم لا يعلمون. ولو تكلفوا الإخبار لَلَحِقَهم الكذبُ في ذلك. ثبت أن ذلك على التوبيخ والتهدد لما فرط منهم.

ويكشف عن ذلك أَيضًا عند اعترافهم بأن لا علم لهم إلا ما علمهم اللَّه (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية، ولو لم يكن منهم ما استحقوا به التأْديب والتنبيه عنْ غفلة سبقت منهم، لم يكن لذلك كثيرُ معنى؛ إذ لا يخفى على اللَّه عز وجل عِلْمُ ما ذكر من الكفرة الأشقياءِ، فضلًا عن الكرام البررة. ولكن قد يعاتب الأخيار عند الهفوة، والزلة بما يحل من خوف التنبيه والتوبيخ: نحو قولِهِ: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ). وقوله لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ. . .) الآية. ولملائِكته: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِ). واستجازوا إمكان العصيان عند المحنة. ودليلُ المحنة ما بينا من الفعل بالأمن والخوف المذكورين، وما مدحوا بعبادتهم لله تعالى، وما أوعدوا لو ادعَوا الألوهية؛ ولما لم يحتمل أن يُحمدوا على العبادة والطاعة فيما كان فعلهم على الخير والشر، ولا تعظم المحنة فيما لا يمكن المعصية، ولا تحتملها البنْية؛ إذ الطاعة هي في اتقاءِ المعصية. وقال أَيضًا: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ)، ولا يقال مثله لمن لا يحتمل فعل المعصية. فثبت أن المعاصي منهم ممكنة؛ ولذلك خَطَرُ طاعاتهم، وعِظمُ قَدرِ عباداتهم، والممتَحَن مَخُوف منه الزلة والهفوة، بل المعصية، وكل بلاء إلا أَن يعصمه اللَّه تعالى ويحفظه، وذلك من اللَّه إفضال وإحسان لا يُستَحق قبلَه، ولا يُلْزمه أحد من خلقه. فجائِز الابتلاء به مع ما في زلة أمثالهم من ترك الرجاء بالخلق، وقطع الإياس، والحث على الفراغ إلى اللَّه تعالى بالعصمة والمعونة؛ إذ لم يقم لطاعته أحد وإِن جَل قَدرُهُ عند ما وُكِل إلى نفسه مما يعلم اللَّه أَنه يَختار في شيء الخلاف، لا أَنه يفزع إليه وينزع إليه. وعلى ذلك معنى زَلات الرسل عليهم الصلاة والسلام. وزعم قوم أَن ذلك ليس منهم بالزلة، بل اللَّه تعالى عصمهم عنها، ولكن قوله: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) يخرج على وجهين: أَحدهما: على السؤال بعد أَن أعلمهم اللَّه أَنهم يفعلون؛ فقالوا: كيف يَفْعلون ذلك، وقد خلقتهم ورزقتهم وأَكرمتهم بأَنواع النعم، ونحن إذ خلقتنا نُسبحك بذلك، ونقدس

لك؟! أو كيف تحتمل عقولهم عصيانًا -مع عظم نعمتك عليهم- ونحن معاشر الملائِكة تأْبى علينا العقول ذلك؟! فقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). . أَي: أَمْتحنهُم مع ما ركب فيهم من الشهوات التي -لغلبتها على أَنفسهم- تعتريهم أَنواع الغفلة، ويصعب عليهم التيقظ؛ لكثرة الأَعداءِ لهم، وغلبة الشهوات؛ فلما عظمت المحنة عليهم يكون منهم ذلك. وهذا الوجه يخرج على سؤال الحكمة في خلق من يعصيه. فأخبر أَنه يعلم ما لا تعلمون؛ إذ بذلك بيان الأَولياءِ والأعداءِ، وبيان أن اللَّه لا يخلق من يخلق لحاجته له، أو لمنفعة له؛ إذ لو كان كذلك لم يخلق من يخالفه في الفعل الذي أُمِر به. وإنما خلق الخلق بعضهم لبعض عِبرًا وعِظةً؛ فيكون في عقوبة العُصاة ووعيدهم مَزْجَز لغيرهم وموعظة، ولغير ذلك من الوجوه. والوجه الآخر: أَن يكون المعنى من قوله: (أَتَجْعلُ فِيهَا) على الإيجاب، أَي: أَنت تفعل ذلك؛ إذ ليس عليك في خلق من يعصيك ضرر، ولا لك في خلق من يطيعك نفع، جل ثناؤك، من أَن يكون فعلك لأحد هذين. وذلك كقوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ. . .) الآية. على إيجاب ذلك، لا على الاستفهام. مع ما يحتمل أن الأَلف زائِدة؛ كقوله: (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ) وقوله: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) بمعنى: إنكم تريدون، وذلك يرجع إلى الأول. وقال:؛ معنى قوله: (إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ): أن اللَّه قد كان أخبرهم عن الذين يفسدون، ولم يكن أَعلمهم ما فيهم من الرسل والأَخيار، فهو يعلم ما لا تعلمون من الأَخيار فيهم؛ ولذلك ذكَّرهم عند سؤال الإنباءِ بما أَعلمهم من عظيم امتنانه على آدم أَن جعله بمعنى نبيء إلى الملائكة بما علمهم الأسماء. ولم يكن بلغ توهمهم أَن في البشر ما يحتاج المخلوقون من النور -الذي هو سبب

رفع الأستار عن الأَشياءِ، وجلاء الأَشياءِ به- ثم يحتاجون في اقتباس العلم إلى من هو من جوهر التراب والماءِ الذي هو أصل الستر والظلمة. فأَراهم اللَّه بذلك ليعلموا أن ليس طريق المعرفة، والعلم بالأَشياءِ الخلقة، ولكن لطفُ اللَّه وامتنانُه، ولا قوة إلا باللَّه. وقال قوم: كان منهم من استحق العتاب من طريقِ الخطر بالقلوب، لا من طريق الزلة -التي هي العصيان- ولكنهم يعاتبون على أمثال ذلك -وإن لم تبلغ بهم المعصية- لعلو شأْنهم، ولعظمِ قدرهم. كما قد عاتب اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أشياءَ وإن لم يكن ذلك منه معصية؛ كقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنك. . .) الآية. وقوله: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ). وقوله: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ. . .) الآية. ولم يكن إثم في ذلك، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. . .) الآية؛ لأنه، من غير أَن كان منه عصيان؛ فمثل ذلك أمر الملائِكة. ثم تكلموا في معنى ذلك: فمنهم من يقول: ظنوا أنهم أكرم الخلق على اللَّه، وأَنه لا يُفَضِّل أَحدًا عليهم. ومنهم من يقول: ظنوا أَنهم أعلم من جميع من يخلق من جوهر النار أَو التراب؛ من حيث ذكرت من جوهرهم، أَو لعظم عبادتهم لله، وعلمهم بأن في الجن والإنس عصاة؛ فلهذا امتحنهم بالعلم، ثم بالسجود؛ لإظهار علو البشر وشرفه، وعظم ما أكرموا به من العلم. ومنهم من أيقول: ظنوا أنهم فضلم ابفعلهم:، (دنتحُ مجَتدِكَ وَنُقَذِسٌ لَك). وقوله: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). قال قوم: يريد به آدم عليه السلام، يخلف الملائكة في الأرض ومن تقدمه من الجان. وذلك بعيد؛ كأنهم قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) ولم يكن آدم - عليه السلام - بالذي كان يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، بل كان يسبح بحمده ويقدس له.

(31)

ولكن يحتمل: أَن يريد آدم وولده -إلى يوم القيامة- أَن يجعل بعضهم خلفاء لبعض؛ كقوله: (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ)، أو يجعلهم خلفاء من ذكروا، إن صح الذي قالوا. وجائز أَن يكونوا على وجه الأَرض، إذ هي مخلوقة لهم قرارا ومِهادًا ومعادًا، وهم جُعِلوا سكانهَا وعُمَّارها - أَن يكونوا خلفاء، في إظهار أَحكام اللَّه تعالى ودينه، كقوله لداود عليه السلام: (إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)، فجعله كذلك ليحكم بين أهلها بحكم اللَّه ولا يتبع الهوى، وبذلك أُمر بنو آدم. وقولُه: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). قيل: بأمرك. وقيل: بمعرفتك. وقيل: بالثناءِ عليك؛ إذ كانوا أَضافوا ذلك إلى أنفسهم دون أن يذكروا عظيم مِنَّة الله عليهمِ بذلك، واختصاصَه إياهم بالتوفيق له؛ إذ كيف ذكروا من نُعُوت البشر شرَّ ما فيهم، دون أن يحمَدوا اللَّه -بما وفقوا له- أَو يدعوا للبشر بالعصمة والمغفرة مما ابتلوا. ولذلك - واللَّه أعلم - صَرفوا شغلهم من بعد إلى الاستغفار لمن في الأَرض، ونصر أولياءِ اللَّه، ولا قوة إلا باللَّه. ومن الناس من أَخبر في ذلك: أَن إبليس سأَلهم: لو فُضل آدمُ عليهم، وأُمِروا بالطاعة له ما يصنعون؟ فأَظهر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنه علم ما كتم إِبليس من العصيان، وما أَظهروا هم من الطاعة. وهذا شيء لا يعلم حقيقته؛ لأَن المعاتبة كانت في جملة الملائكة، والمخاطبة بالإنباءِ، وما أُلحق به وأَمر بالسجود وكان في غيره. ولم يحتمل أَن يكونوا يؤاخذون بسؤال إبليس اللعين. ولكن يحتمل وجوه العتاب الإخبار فيما لم يبلغوا العصيان، واللَّه الموفق. وقوله: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ (31) يحتمل: أن يكون علم لهم. ويحتمل: أن يكون علَّم بإِرسال ملك من غير الذين امتحنوا به. وفي ذلك تثبيت أحد وجهين:

إما أَن يكون العلم بالأَشياءِ حقيقة ضرورة، يقع عند النظر في الأسباب التي هي أَدلة وقوعه عند التأَمل فيها؛ نحو وقوع الدرك بالبصر عند النظر وفتح العين. وإما أن يكون اللَّه تعالى خلق فعل التعلم الذي يعلم المرء فيما يضاف فيه إلى الله تعالى أَنه علم. وكذا قوله: (علَّمَهُ البَيَانَ). وكذا قوله: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ)، ولا يحتمل هذه الأَسباب لما كانت له كلها، ولم يكن تعلَّم حقيقة ليؤذنه. وكذلك قول الملائكة: (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)، واللَّه الموفق. وقوله: (فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ). ظاهره أَمر، ولكنه يحتمل التوعد والمعاتبة على ما بينا، وذلك في القرآن كثير. وإن كان في الحقيقة أَمرًا، ففيه دلالة جواز الأَمر فيما لا يعلمه المأمور إذا كان بحيث يحتمل العلم به إلى ذي العلم تبين له إذا طلب واستوجب رتبة التعلم والبحث. ويحتمل: أَن يكونوا نُبِّهوا حتى لا يسبق إليهم -عند إعلام آدم- أَن ذلك من حيث يدركونه لو تكلفوا. أَو أَراد أن يريَهم آية عجيبة تدل على نبوته، ذكرهم عجزهم عن ذلك، وألزمهم الخضوع لآدم عليه السلام في إفادة ذلك العلم له، كما قال عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى)، ذكره أَولًا حالَه وحالَ عَصاه، ليعلم ما أَراه ما في يده من آية نبوته على نبينا وعليه السلام. وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34). قوله: (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في المعاني التي ذكروا؛ إذ كنتم مذ خُلِقتم موصوفين بالصدق. أو على تحذير القول بلا علم وكأَنه قال: واصدقوا، واحذروا القول بالجهل. وفي ذلك أَنهم لم يتكلفوا بالقول في شيء لم يعلمهم اللَّه تعالى. قال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان: هذا يبطل قول المنجمة والعَافة بدعواهم على

الغيب بلا تعليم ادَّعوه من اللَّه تعالى. وفي قصة آدم عليه السلام دلالة نبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذْ أَخبر نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما علم بما في غير القرآن من الكتب السماوية من غير أَن عُرِف بالاختلاف إليهم، أَو معرفة الأَلسن التي بها ذكرت في كتبهم. ذكرَها على ما لم يَدع أَحد -له العلمُ بها- النكيرَ عليه؛ ليُعلم أَنه باللَّه علم ذلك. وفيها دلالة فضل آدم عليه السلام أَبِي البشر؛ إذ أَحوجَ ملائكتَه إليه لاقتباس أَصل الأَشياءِ، وهو العلم الذي كل خير له كالتابع، وبه يصلح وينفع، ولا قوة إلا باللَّه. وفيها دلالة محنة الملائكة بوجهين: أَحدهما: تعلُّمُهم العلم الذي هو أحق شيء يحتمل الخير؛ إذ قد يُلْهَم المرءُ ربما من غير تكلف، وهم قد أمروا به مع ما قدم ما يخرج مخرج التهدد في القول من قوله: (أَنبئوني) وذلك -فيما لا محنة- فاسد مع ما سبق من دليل المحنة. والثاني: فيما أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام حتى صير مَنْ أَبَى كافرًا إبليسًا. وفي ذلك أيضًا دليل فضل آدم عليه السلام؛ إذ جُعِل موضعَ عبادةِ خيار خلقِ اللَّه معه، وباللَّه التوفيق. وفي ذلك أن السجود ليس بنفسه عبادة؛ إذ قد يجوز السجود لأَحد من الخلق كما أمر به لآدم عليه السلام: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)، ولم يجز الأمر بالعبادة لآدم، ولله اسم المعبود، ولو جاز لأحد ذلك لكان غيرُ اللَّه إله. دليل ذلك تسمية العرب كل شيء يعبدونه إلهًا، ولا قوة إلا باللَّه. ثم السجود يحتمل وجهين: الوجه الأول: الخضوع كما قال اللَّه تعالى: (يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية. وقوله: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ)، فإن كان المراد منه الخضوع له والتعظيم، فكذلك يحتمل وجهين: أحدهما: أن اللَّه تعالى إذ فضله عليهم بما أطلعه على علوم خصه بها أمره بالخضوع والتعظيم، فذلك الحق على كل محتاج إلى آخر ما به رجاءُ النجاة، أو دَرْك العلو والكرامة أَن يعظمهُ ويبجلهُ، ويخضعَ له. والثاني: امتحنهم بوجه يُظهر قدرَ الطاعةِ؛ لأَن الخضوعَ لمن يعلو أَمره ويجِلُّ قدره،

أَمر سهل، عليه طُبع الخلق، فإذا كان في تقدير المأمور بالخضوع أَنه دونه في الرتبة، أو شكله، أَو لم يكن بينهم كثير تفاوت اشتدت المحنة في مثله بالطاعة له والخضوع. فامتحنهم اللَّه به حتى ظهر الخاضع لله، والمستسلم لحقه، والمتكبر في نفسه، وهو إبليس. وعلى ذلك الغالبُ من أَتباع الأَنبياء عليهم السلام والذين يأْبون ذلك، أن الذي يحملهم على الإباءِ عظمُهم في أنفسهم، وظنُهم أنهم أَحق بأن يكونوا متبوعين، والله أَعلم. والوجه الثاني: أَن يكون المراد من ذكر السجود حقيقة السجود فهو يُخَرَّج على وجهين: أَحدهما: أن يُجعل السجود تحية؛ أَلزم الملائِكة تحيةَ آدم به، وهو ابتداء ما أَكرم به أَصل الإنس، وإليه مرجع جملة المؤمنين في الجنة أن يأتيهم الملائكةُ بالتحياتِ والتحف، وإن اختلفت أَنفس التحيات. وفي ذلك دليل بيِّن: أن السجودَ ليس بعبادة في نفسه؛ إذ قد يؤمر به للبشر، ولا يجوز الأَمر بعبادةِ غيرِ اللَّه؛ فيكون السجود لغيره من حيث الفعل، والعبادةُ به لله كغيره من المعروف، يصنع إلى الخلق. ومثله أَمرِ سجودِ يعقوب وأَولاده ليوسف عليه السلام، واللَّه أعلم. والثاني: أن يكون السجود له بمعنى التوجه إليه، وهي الحقيقة لله تعالى، نحو السجود إلى الكعبة لله تعالى تعظيمًا له، وتبجيلا لكعبته، وتخصيصًا من بين البقاع. كذلك أَمْرُ السجودِ لآدمَ عليه السلام، تعظيمًا له وتبجيلًا من بين سَائِر البشر، كلاهما سِيَّان. ثم قد ثبت نسخ السجود للخلق بما رُويَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَنه قال: " لو كان يحل لأَحد أَن يَسجد لأَحد لأَمرت المرأَة أَن تسجد لزوجها ". ولما جُعِل السجودُ في العبادة عبادةً للمسجود له، واعترافا بعرف الأشرار بعبادة عظمائهم، ومن يعبدونه من دون اللَّه؛ فيصير ذلك المعنى هو السابق في القلوب، وذلك

مما لا يُحتَمل لأَحدٍ دون اللَّه؛ فنهي عنه لذلك -وإن لم يكن بنفسه عبادة للمسجود له في الحقيقة- كما نُهي عن أَشياء بما يتصل بها من الوحشة، وإن لم يكن ذلك في الحقيقة مُحْتَملًا له، فكذلك الأَمر الأَول، كما نُهي عن سبِّ من يُعْبَد من دون اللَّه خَوْفًا لسبِّ اللَّه، ويؤمر بأُمور ليست -بنفسها- بقُربةٍ ليتوصل بها إلى القُربة، كالسعي إلى الحج والجمعة، ونحو ذلك. وفيه أَن السُّنَّة تنسخ الكتابَ؛ لأَن السجود لآدم عليه السلام في الكتاب، ومثله السجود ليوسف، ثم نهى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فحرم؛ فدل أن السنة تنسخ الكتاب. وقولُ الملائِكة: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). يُشْبه أَن يكون السابقُ إلى وهمهم مُنًى، أَو خَطَرَ فِعلِ ما كان باللَّه خرج من أَن يعقلوا حكمته؛ إفَا بما لم يبلغهم العلم بها، أَو يخطر ببالهم أَنه تعالى كيف يأْمرهم، وهو يعلم أنهم لا يعلمون بها، أو خطرَ ببالهم من غير تحقيق ذلك، ولكن على ما يُبْلَى به الأَخيارُ؛ كقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى. . .) الآية. أو كما لا يخلو به الممتَحَنُ عن الخواطر التي تبلغ المحنةُ بهم المجاهدةَ بها في دفعها، وإن لم يكن لهم بما يخطر ببالهم صُنْع. فقالوا: (سُبْحَانَكَ)؛ نزهوا عَما خطر ببالهم، وسبق إلى وهمهم. ووصفوا بأَنه (عَليِم): لا يخفى عليه شيء. (حَكِيم): لا يخطئ في شيء، ولا يخرجُ فعلهُ عن الحكمة، وباللَّه التوفيق والعصمة. وفي الآية منعُ التكلم في الشيء إلا بعد العلم به، والفزع به إلى اللَّه عن القول به إلا بعلم، وهذا هو الحق الذي يلزم كل من عرف اللَّه. وبه أَمر اللَّه تعالى نبيهُ عليه الصلاة والسلام فقال: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. . .). وسُئل أبو حَنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الإرجاءِ ما بدؤُه؟ فقال: فعل الملائكة إذا

سئلوا عن أَمرٍ لم يعلموا فوضوا ذلك إلى اللَّه تعالى. ومَعنى الإرجاءِ نوعان: أحدهما: محمود؛ وهو إِرجَاء صاحب الكبائر، ليحكم اللَّه تعالى فيهم بما يشاء، ولا يُنزلهم نارًا ولا جنة؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). والإرجاء المذموم هو الجبر، أَن تُرجَأ الأفعالُ إلى اللَّه تعالى، لا يجعلُ للعبد فيه فعلًا، ولا تدبيرَ شيء من ذلك. وعلى ذلك المروِيُّ، حيث قال: " صنفان من أُمتي لا ينالهم شفاعتي؛ القدريةُ والمرجئةُ ". والقدرية: هي التي لم تر لله -في فعل الخلق- تدبيرًا، ولا له عليه قدرةَ التقدير. والمرجئة: هي التي لم تر للعبد فيما ينسب إليه من الطاعة والمعصية فعلًا ألبتَّة؛ فأبطلت الشفاعة لهما، وجُعِلت للمذهب الأوسط بينهما، وهو الذي يُحَققُ للعبد فعلًا، ولله تقديرًا، ومن العبد تحركًا بخير أَوْ شر، ومن اللَّه خلقه. وذلك على المعقول مما عليه طريقُ العدل والحق بين التفريط والتقصير.

وكذلك قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خير الأُمور أَوساطها ". وكذلك قال اللَّه تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. . .) الآية، ولا قوة إلا باللَّه. وعن ابن جريج قال: سجودُ الملائِكة لآدم إيماء، ولم يكن يحل وضع الوجه بالأَرض لأَحد. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: كان سجودُ الملائِكة سجودَ تحيةٍ، ولم يكن سجود عبادة. وعن قتادة قال: كانت الطاعة لله، والسجدة لآدم عليه السلام إكرامًا له، والله أعلم. ثم اختلف في إِبليس: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الملائِكة. وقال آخرون: لم يكن من الملائِكة، وهو قول الحسن؛ والأَصم: ذهبوا في ذلك إلى وجوه: أَحدها: ما ذكر عَزَّ وَجَلَّ عن طاعة الملائِكة له بقوله: (لَا يَعصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُم. . .)

وقال: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ. . .) الآية. وقال: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ. . .) الآية. وصف اللَّه تعالى طاعتهم له، وائْتِمارَهم إياه؛ فلو كان اللعين الرجيم منهم لأطاعَه كما أَطاعوه. والثاني: قوله: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) والملائِكة إنما خلقوا من النور. والثالث: قوله تعالى: (كانَ مِنَ الجِنِّ)، ولم يقل من الملائِكة فَدَلَّت هذه الآياتُ أنه لم يكن من الملائكة. ثم قال في قوله: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ): إنه قد يجوز الاستثناء من غير نوع المستثنى منه؛ نحو ما يقال: دخل أَهل الكوفة هذه الدارَ إلا رجلًا من أَهل المدينة. وذلك جائِز في اللغة. ويستدل بالاستثناء أن الأَمر كان عليهم جميعًا في الأَصل، وكان الأَمرُ بالسجود له وللملائِكة جميعًا؛ كقوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، دل أَن كان هنالك أَمر للناس بالإفاضة، فكذلك الأَول، واللَّه أعلم. وذهب من قال: إنه من الملائِكة، أنه لما لم يذكر في قصةٍ من القصص -مع كثرة التكرار لها في القرآن، وغيره من الكتب السالفة- أَنه ليس منهم، وليس فيما ذكر من الآيات ما يدل على أَنه لم يكن منهم؛ لأَن قوله: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، لو لمْ يُتَوهم منهم العصيانُ والخلافُ لله تعالى لم يكن للمدح بالطاعة والخضوع له معنى. ألا ترى إلى قوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ. . .) الآية مع ما ذكرنا: أنهم يُمتحنون بأنواع المحن، وكل مُمْتَحَن في شيء يجوز كون المعصية منه والخلاف لديه. وأَما قوله: (كانَ مِنَ الجِنِّ)، أي صار من الجن. وقيل: الجنُ أَراد به الملائِكة؛ سُمُّوا جنَّا لاستتارهم عن الأَبصار؛ كقوله: (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ). وأما قوله خلق الملائِكة من النُور، وإبليسَ من النار - فهو واحد؛ لأَنه أخبر - عز

(35)

وجل - أنه خلقه من مارج من نار. وقيل: المارجُ هو لهبُها مع ما ليس في القرآن، ولا في الخبر أَنهم إنما خلقوا من النور، ولم يخلقوا من غيره. ثم اختلف في إِبليس: إنه لم كفر باللَّه؟ قيل: إنَه كفر لما لم ير الأَمرَ بسجود من فوقه لمن هو دونه حكمة. وقيل: كفر لما رأَي أن اللَّه تعالى وضع الأَمر في غير موضع الأَمر، ورآه جورًا؛ فكفر وقيل: كفر لما أَبى الائتمار بالسجود واستكبر فكفر. وقيل: كفر لما أضمر إضلال الخلق. وقيل: أَبى الطاعة فيما أُمر به، واستكبر على آدم؛ لما رأَي لنفسه فضلًا عليه بقوله: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). وقوله: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ). أي صار كقوله: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً). وكقوله: (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) أي: صار. وقيل: كان في علم اللَّه تعالى أنه سيكفر. وقوله: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (35) قد ذكرنا فيما تقدم أَن الجَنة هي اسم البقعة التي حُفت بالأَشجار والغُروس وأنواع النبات. دليله: قوله: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ). وذلك أيضًا ظاهرٌ معروفٌ عند الناس؛ ألا تُسمى كل بقعة من الأرض بستانا، ولا جنة حتى يجتمع فيها ما ذكرنا. ثم لا يُدْرَى ما تلك الجنة التي أمر آدمُ وحواء بالكَون، والمُقام فيها: أهي التي وُعد المتقون، أَو جنة من جنات الدنيا؛ إذ ليس في الآية بيان ذلك. وفي الآية دلالة أن الشرط في الذكر قد يُضْمر، ويكون شرطًا بلا ذكر؛ لأنه قال: (أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى) ثم قد جاع وعَرِيَ حين عصى، فدل أَن ترك المعصية كان

شرطًا فيه. ثم مضى الأَمر من اللَّه تعالى لآدم وزوجته بالسُّكنى في الجنة، والمُقام فيها، وأَمْرهما بالتناول من جميع ما فيها إلا شجرة نُهِيا عن التناول منها، وأُمِرَا بالاجتناب عنها بقوله: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) وذي صورةُ الممتحن أَن يُؤمر بشيء ويُنْهَى عن شيء. وقوله: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ). قوله: (رَغَدًا) أَي: سعَةً؛ يقال: أَرْغَد فلانٌ إذَا وشع عليه، وكثر مالهُ. وقوله: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ). أَي: لا تأْكلا. دليله قوله: (وَكُلَا مِنْهَا)؛ ولأَنه بالقُربان ما يوصل إلى التناول. واللغةُ لا تَأْبى تسمية الشيء باسم سببه. ثم اختُلف في تلك الشجرة: فقَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة العنب، ولذلك جعل للشيطان فيها حظًا لما عصيا ربهما بها. وقيل: إنها كانت شجرة الحنطة؛ ولذلك جعل غذاءُ آدم وحواءَ - عليهما السلام - وغذاءُ أَولادهما منها إلى يوم القيامة ليُقاسوا جزاءَ العصيان والخلاف له. وقيل: إنها شجرة العلم؛ لما علما من ظهور عورتهما، ولم يكونا يعلمان قبل ذلك، وهو قوله: (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)، واللَّه أعلم. والقولُ في ماهيتها لا يجوز إلا من طريق الوحي. ولا وحي في تلاوتها. ولا يجوز القطعُ على شيء من ذلك. ثم احتَمَل معنى النهي عن التناول منها وجوها: أَحدها: إيثار الآخر عليه. وقد يكون هذا أَن ينهى الرجل عن التناول من شيء إيثارًا لآخر عليه. - ويحتمل: النهي عن التناول من الشيء لداء يكون فيه لما يخاف الضرر به، لا على

(36)

جهة الإيثار، ولكن إشفاقًا عليه ورحمة. ويحتمل أيضًا النهي عن التناول من الشيء على جهة الحرمة، فإذا كان ممكنا هذا محتملا حمل آدم وحواء على التناول منها لما اشتبه عليهما، ولم يعرفا معنى النهي بأَنه نهيُ حرمةٍ، أَو نهي إيثار غيره عليهما، أَو نهي داء؛ لأَنهما لو كانا يعلمان أَن ذلك النهي نهي حرمة لكانا لا يأَتيان ولا يتناولان، وباللَّه التوفيق. ثم في الآية دلالة على أن الحال التي يكون فيه الإنسان في سعة ورغد يشتد على الشيطان اللعين؛ لأَنه إنما تعرض لآدم وحواءَ بالوسوسة التي وسوس إليهما ليزيل تلك الحال عنهما. وإنما يبلى بالسعة، والرخاء ثم لما لحقته من الشدائد والبلايا مما كسبت أيدينا؛ لقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ). ثم الآية ترد على بعض المتقشفة قولهم بتحريم الطيبات والزينة. وقوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). أي: الضارِّين؛ لأَن كل ظالم ضارٌّ نفسَه في الدارين جميعًا. وقوله: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا (36) أي: دعاهما، وزين لهما إلى سبب الزلة والإخراج عنها، لا أَن تولى إخراجهما وإزلا لهما، وقد ذكرنا أَن الأَشياءَ تسمى باسم أسبابها، أَو الأَسباب باسم الأشياء. وذلك ظاهر معروف في اللغة، غير ممتنع تسمية الشيء باسم سببه. ثم تكلموا فيما أصاب آدم من الشجرة، وفي جهة النهي عنها: فقال قوم: أكل منها وهو ناسٍ لعهد اللَّه نسيان ترك الذكر. وأَبى ذلك قوم واحتج الحسن بأَن نسيانه نسيان تضييع واتباع الهوى، لا نسيان الذكر بأَوجهٍ: أحدها: ما جرى في حكم اللَّه - تعالى - من العفو عن النسيان الذي هو ترك الذكر، وألا يلحق صاحبَه اسمُ العصيان، وقد عوقب هو به، ونسب إلى العصيان بقوله: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) مع ما تقدم القول فيه أن يكونا من الظالمين. والثاني: أَن عَدُوه قد ذكَره لو كان ناسيًا؛ حيث قال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. . .) الآية.

وقوله: (وَقَاسَمَهُمَا). وقوله: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ). ولو كان نسيان الذكر لم يكونا ليغترا بالقسم والإغواء عن ذلك، ولا وُصِفا بأن استزلهما الشيطان ونحو ذلك. فثبت أَنه كان نسيان تضييع، وذلك كقوله: (وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)، وقوله: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا)، وغير ذلك مما ذكر فيه النسيان ومعناه التضييع، سُمي به لما كان كل منسي متروكا، وترك اللازم تضييع، أو بما ينسى به ويغفل عما يحل به من نعمة اللَّه، فسمي به كما وصف ذنب المؤمن بجهالة الجهلة بما يحل به لا بجهله بحقيقة فعله. أو سمي به من حيث لا يُقصد بذلك عصيانُ الرب أَو طاعة الشيطان. وإلى ذلك يصرف بعض وجوه النسيان، لا حقيقته. ومن يقول: بأنه كان على النسيان فهو يُخرِّج النسيان على وجوه: أَحدها: أنه لكثرة ما كان بينه، وبين عدوه من التراجع اشتغل قلبه بوجوه الدفاع له، والفكر في الأَسباب التي بها نجاته، ويتخلص من مكائِده، حتى أَنساه ذلك ذكر العهد. والسبب الذي يدفع الأَشياءَ عن الأَوهام في الشاهد كثرة الاشتغال، وإنَّمَا كان النسيان عدوا في الأُمور وسببًا للعفو؛ لأَنه لا يَخْرج الآخذ به عن الحكمة، وذلك معلوم في الشاهد، أن من أَقبل على أَمر، وأَخذ في تحفظه وتذكره عمل عليه ذلك، وإذا أحب ذلك مع الاشتغال بغيره من الأُمور صعب عليه، بل الغالب في مثله الخفاء. وجائِز معاتبة آدم مع ذلك وتسميته عصيانا بأوجه: أَحدها: أنه لم يكن امتُحن بأنواع مختلفة يتعذر عليه وجه الحفظ في ذلك. وإِنَّمَا امتحن بالانتهاءِ عن شجرة واحدة بالإشارة إليها؛ فجائز ألا يُعذر في مثله. وكذلك النسيان فيما يُعذر في الشاهد، إنما يُعذر في النوع الذي يُبْلى به، وتكثر به النوازل. ألا ترى أنه يُعذر بالسلام في الصلاة، وترك التسمية في الذبيحة ونحو ذلك، ولا

يُعذر في الأَكل في الصلاة، وفي الجماع في الحج، ونحو ذلك، فمثله الأَمر الذي نحن فيه.

والثاني: أنه جائِز أخذ الأَخيار ومعاتبة الرسول بالأَمر الخفيف اليسير الذي لا يؤخذ بمثل ذلك غيره؛ لكثرة نعم اللَّه عليهم، وعظم مِنَّته عندهم، كما أُوعدوا التضاعف في العذاب على ما كان مِن غَيره. وعلى ما ذكر في أمر يونس - عليه السلام - من العقوبة بماء لعل ذلك من عظيم خيرات غيره؛ إذ فارق قومه عما عاين من المناكير فيهم، وفعل مثله من حد ما يوصف به غيره.

وكذلك ما عوتب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما خطر بباله تقريب أَجِلة الكفرة؛ إشفاقًا عليهم، وحرصًا على إسلامهم ومن يتبعهم على ذلك مما لعل من دونه لا يعدل شيء من خيرَاته بالذي عوتب به، وباللَّه التوفيق. والثالث: أَنه لما عوتب بالذي يجوز ابتداء المحنة به، ولمثله خلقه حيث قال لملائكته: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) لكنه بِكرمه، وبالذي عَوّد خلقه من تقديم إحسانه وإنعامه في الابتلاءِ على الشدائد والشرور، وإن كان له التقديم بالثاني، وذلك في جملة قوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، وباللَّه التوفيق. وعلى ما في ذلك من مبالغة غيره، والزجر عن المعاصي، وتعظيم خطره في القلوب؛ إذ جوزي أَبو البشر وأَول الرسل منهم -على ما فضله بما امتحن ملائكته بالتعلم منه، والسجود- بذلك القدر من الزلة؛ ليعلم الخلقُ أَنه ليس في أمره هوادةٌ، ولا في حكمه محاباة؛ فيكونون أَبدًا على حذرٍ من عقوبته، والفزع إليه بالعصمة عما يوجب مقته، وألَّا يكلهم إلى أَنفسهم؛ إذ علموا بابتلاءِ من الذي ذكرت محله في قلوبهم بذلك القدر من الزلة، ولا قوة إلا باللَّه. والثاني: أَن يكون حَفظ النهي عنه لكنه خطر ببَاله النهي عن وجه لا يلحقه فيه وصف العصيان، أو نسي قوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، وقد ذكرنا النهي في وقت الفعل، ولكن يسمى الوصف بالفعل من الظلم والنهي؛ لعله سبق إلى وهمه غير جهة التحريم، إذ يكون النهي على أَوجه: أَحدها: للحرمة. والثاني: نهي لما فيه من الداء وعليه في أكله ضرر، وهذا معروف في الشاهد بما عليه الطباع، نهى قوم عن أشياءَ محللة هي لهم ما يؤذي ويضر، فيحتمل أَن يسبق إلى وهمه ذلك، لما وعد له في ذلك من عظيم النفع. يحتمل ما خوف به ليصل إلى ما وعد على ما سبق وُجِّه النهي إلى ما وجه من حيث الضرر والمشقة، ونسي قوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) أَو ذكرا وعرفَا أَن الظلم قد يقع على الضَّرَر؛ كقوله: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) أي: لم ينقص منه، والنقصان في النفس ضرر. وعلى ذلك فسر عامة أهل التفسير الظلم في القرآن أَنه الضرر. واسم الضرر يأخذ ضررَ الداء، وضرر المأْثم وإن كانت حقيقته وضع الشيء في غير موضعه، ولا قوة إلا باللَّه.

وقد يحتمل النهي أن يخرج مخرج المنع؛ ليكون غيره هو الذي يبدأ به، ويُخص ذلك لغيره، لا على التحريم، نحو الآمر بالمعروف، فيما يمنع الرجل ولده عن التناول مما يريد به غيره، لا على التحريم. واذا احتمل ذا، ثم بُيِّن له عظيمُ ما في ذلك من البركة من غير أَنْ عاين عدُوه ليعلم أَن ذلك صنيعه. وجائز أَن يسبق إليه أَن ذلك إِشارةُ مَلَكٍ أَو إِلهام في النفس -على ما يكون لكثير من الأخيَار- إلا أَنه من وحي عدُوه، فدعته نفسه إلى الأكل، فيكون كالناسي والجاهل بحقيقة وجه النهي، وإن كان تعمد أَكله، ولا قوة إلا باللَّه. والأَصل في هذا أَن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إن كان على نسيان العهد، أو على المذكر له، فإن الذي أَصابه عقوبة. وإنِ كان بالذي يكون به المحنة، فلولا أَن اللَّه إِنْ يعاقبه على ما فعله لم يكن ليُغير عليه نعمة أنعم عليه بعذاب، وقد قال: إنه لا يُغَير نعمَة التي أنعمها على قوم حتى يغَيروا ما بأَنفسهم. وما لا يحتمل العقوبة بالتغيير لم يكن ليفعل بعد وعده ذلك، مع ما قد اعترفا بالظلم؛ إذ قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا. . .) الآية. وقد قال اللَّه تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى). وقد كان قال لهما: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). فكان فيما بُليَ به وجهان: أحدهما: أن ذلك لم يُزِل عنهما اسمَ الإيمان، ولا دعيا إليه بعدُ لفعلهما ذلك. ثبت أنه لا كل ذنب يزيل اسمَ الإيمان، وإن الذنُوب لا يُحقَّق فيها الكذب فيما اعتقد ألا يعصي اللَّه في شيء. وفي ذلك فساد أهل الخوارج والمعتزلة، وبيان أن قوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا)، ليس على كل عصيانٍ، ولا الوعيد بالظلم المطلق بوجه كل ظالم وكل عصيانٍ وغواية، بل يلزم به تقسيم هذه الحروف على ما يلحق به، ومن يريد بها الجمع في كل الأَنامِ خارج عن المعروف من أحكام اللَّه في أَهل المآثم. والثاني: قد عوقب بوجه لا يجب جزءٌ منها بما يسميه المعتزلة كبيرة، بل يُزيل به اسمَ الإيمان؛ من نحو شُرب قطرة من الخمر، أو قذف محصنة، أَو أَخذ عشرة دراهم من مال آخر. وكذلك فعل أولاد يعقوب. ثم لم يجترئ أَحد على دعوى خروج من ذكرت من دين اللَّه؛ لزم بطلان قولهم، مع ما كان من قولهم: إن الصغيرة لا يَجوزُ في الحكمة التعذيبُ عليها، ولا الكبيرة العفو عنها. وقد كان عذب آدم عليه السلام - بأنواع العذاب، لما لو لم يكن سوى ما أَظهر فعلَهما على رءوس الخلائق لكان عظيمًا. ثم اختلف في الوجه الذي بلى: منهم من يقول: لما كان من صلبه من الكفرة وهم ليسوا بأَهل الجنة. وقيل: رحمة للخلق لئلا ييأَسوا، ولا يزيل الولاية بكل ذنب. وقيل: بليا لتنبئة الخلق -بهما- ألا يقوم أحد بتعاهد نفسه عما يذم إليه إذا وكل نفسه إليه، فيكون ذلك سببًا لزجر الخلق عن النظر إلى أنفسهم في شيء من الخير، والفزع إليه، بالعصمة عن كل شيء. وقيل: بلى بحق المحنة؛ إذ هي ترد صاحبها بين اللذات والآلام، وبين أَحوال مختلفة لا يحتمل أن يصير بحيث يأمن الزلل، وإنما ذلك بحفظ اللَّه ومَنِّه، لا بتدبير أحد وجهده،

وإن كان اللَّه نعالى يوفق على قدر الجهد، ويعصم على قدر الرغبة إليه والاعتصام به، ولا قوة إلا باللَّه. وليس بنا حاجة إلى ذكر حكمة الزلة، إذا كانت نفسُه مجبولةً على حبه، باعثةً إلى مثله لولا نعمة الرب. كما قال يوسف - عليه السلام -: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي. . .) الآية. وقال: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا). ثم اختلف في ماهية الشجرة: قيل: بأَنها شجرة العنب، وجعل للشيطان فيها نصيبًا بما بلى به أبو البشر وأُمهم. وقيل: الحنطة فيها جعل غذاء ولده؛ ليبدل بالراحة الكد، وبالنعمة البؤس. وقيل: شجرة العلم، إذ بدث لهما سوآتهما فعلما بذلك ما لم يسبق لهما في ذلك، وفزعا إلى ما يُستران به من الورق. ْفالأَصل أَن هذا نوع ما يعلم بالخبر من عند عالم الغيب، وليس بنا إلى تعرف حقيقته حاجة، وإنَّمَا علينا معرفة قدر المعصية؛ فنعتصم باللَّه عنها، والطاعةِ؛ فنرغب فيها، وباللَّه العصمة. والأَصل فيه أَن اللَّه تعالى فرق بين دار المحنة ودار الجزاءِ؛ إذ الجمع بينهما يزيل البلوى، ويكشف الغطاءَ؛ فجعل اللذيذَ الذي لا راحة فيه، والمؤلمَ الذي لا تنغيص فيه - جزاءً، والتردد بينهما محنة، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله تعالى: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). أي: تصيران منهم. وكذلك القول في إبليس: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) أي: صار منهم. ويحتمل: ممن يكونون كذلك؛ إذ في علم اللَّه أَنهم يصيرون ممن في علم الله كذلك، مع جواز القول بلا تحقيق آخر؛ كقوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) لا أَنَّ ثَمَّ خالقًا غيره.

ثم اختلف في الوجه الذي أوصل إبليسُ إليه الوسوسة: فقال الحسن: كان آدم - عليه السلام - في السماء وإبليس في الأَرض، ولكنه أوصل إليه بالسبب الذي جعل اللَّه لذلك. وقال قوم: كان خاطبهُ في رأْس الحية. وقيل: تصور بغير الصورة التي كان عليها عند قوله: (إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لكَ وَلِزَوجِكَ. . .) فاغتر به، ولو عرفه لما اغتر به بعد أَن حذره اللَّه عنه، واللَّه أَعلم كيف كان ذلك. وعلى ذلك اختلف في الوجوه التي يوسوس إلى بني آدم: منهم من يقول: يجري بين الجلد واللحم كما يجري الدم، فيقابل وجه بصره بقلبه؛ فيقذف فيه. ومنهم من يقول: هو بحيث جُعلَتْ له قوة إيصال الخطر ببَاله، والقذف في قلبه من الوجه الذي جعل له، وذلك لا يعلمه البشر. ومنهم من يقول: إن النفس كأَنها سيالة في الجسد، دائرة في جميع الآفاق، لولا الجسد الذي يَحبسه لكان له الانتشار، على ما يظهر في حال النوم عند سكون جسده، ومن ذلك سلطان فكرة الرجل على مَنْ في أَقصى بقاع الأَرض حتى يصير له كالمعاين؛ ففي ذلك يكون قدحه وقذفه. ونحن نقول -وباللَّه التوفيق-: إنا لا نعلم حقيقة كيفية ذلك، لكن اللَّه تعالى جعل للحق أَعلامًا، وكذلك للباطل. وكل معنى يدعو إلى الباطل، ويحجب عن الحق، فهو عمل الشيطان، يجب التعوذ منه والفزع إليه وإن لم يعلم حقيقة كيفية ذلك؛ قال اللَّه تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ). وقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا). وقال الحسن في قوله: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) وقد علم - آدم أن الملائكة أفضل، وقد علم ألا خلود يكون معه، وقد أُخبر أَنه يموت، وقد علم أَنه لا يكون مَلَكًا، وقد خلق من طين والملائكة من

نور، ولكن يكون على فضل الملائكة. (وَقاسَمَهُمَا). حلف لهما في وسوسته أَنه يقول ذلك عن نصيحة، فتابعاه في الأكل لا على القبول عنه ما ذكر؛ إذ لو كان عن قبول كان أعظم من الأَكل، ولكن أَكلا على الشهوة، واتباع الهوى. ولو صدقاه في ذلك لكفرا، وكان هذا اعظم من الأَكل، ولم يقل لهما ذلك فيهما لأَجل ذلك الشيء. وذلك كما يقول الرجل لآخر -في شيء يقتل عليه أو يقطع له-: لو فعلتَ لا يُفعلُ بك ذلك، فيقدمُ عليه، أنه يقدم لشهوته، لا على التصديق له في ذلك. وكذا من يُذكر أَحدًا بمثل امرأَةٍ بحبها وإيثارها إياه؛ فيأتيها بشهوة لا بتصديق الآخر؛ فمثْلُه أمر آدم فيما وسوس إليه الشيطان. وهذا الذي يذكر الحسنُ يوجب أن يكون آدم كان يعلم أَن ذلك كان من الشيطان عدُوِّه. وذلك إقدام على أَثر ما ذكر على ما يصف أنه كان يعلم أَنه أَمر فظيع يوجب فِعله -على العلم بالنهي- أنه لا ينال به خيرًا، ولا يصل بذلك إلى فضل، بل اتبع الشيطان بما هوى واشتهى. وهذا لو كان شهده كان فظيعًا أن يدعيَه على أبي البشر، ومن قد فضَّله اللَّه بالذي سبق ذكره. بل لو قيل له: إنه لم يكن علم أَنه من عدوه، أَو إلهام -على ما يكون للأخْيار- أو كان أَسمع على غير الصورة التي أَدَّاها من قبل، كان أَقرب وأَحق أن ينطق به من أَن يذكر الذي ذكر. ومتى يكون الإقدام لجهة بخير لا على طمع في ذلك؟! بل لا يُنكَر أَن يكون له، ولكن على ما بينا. وليس من ذلك الوجه، الوحشة في الدِّين. ثم قد ذكر ملكين، والكلام في الفضلِ وغَير الفضل -على قوله- لا معنى له؛ لأَنَّه

يجعل فعلهم جبرًا - ومن فِعْله جبرٌ لا ترتفع درجته ولا يعلو قدره، ثم يجعل الفضل لهم بالخِلقة، فكيف كان يطمع في ذلك ولم يكن هو بخلقتهم. ولهذا أنكر أن يكون منهم عصيان؛ إذ خلقوا من نور، ومن لا يعصي بالخلقة، فإنه لا يحمد، ولو كان يجب الحمد به لوجب في كل موات، وكل حيوان لا يعصي بالخلقة، وذلك بعيد. وجائز أَن يكون آدم - عليه السلام - طمع أن يكونا ملكين؛ بأَن يُجعل على ما عليه صنيعهم من العصمة، أَو الاكتفاء بذكر اللَّه وطاعته عن جميع الشهوات. واللَّه قادر على أَن يجعل البشر على ذلك، وذلك على ما يوجَد فيهم من معصوم ومخذول، ليعلم أَن الخلقة لا توجب شيئًا مما ذكر، ولا قوة إلا باللَّه. ثم الأَصل أَن معرفة موت البشر وما عنه خلق كل شيء إنما هو سمعي، ليس هو حسي، ولا في الجوهر دليلُ الفناء، ولله أن يميت من شاءَ وُيبقيَ من شاءَ. فقولُ الحسنَ -إِنه علم ذلك ثبت بثبات الخبر عن اللَّه- ينتهي إليه أَنه كان بلغه في ذلك الوقت. وكذلك أَمرُ الملائكة، وحالُ الإغذاء، ومحبةُ الذكر، وظهورُ العصمة تعرف بالمحبة والمشاهدة بمنها، ولا قوة إلا باللَّه. ثم ذكر الحسن في خلال ذلك: أن آدم - عليه السلام - قد علم أَن الملائكة لا يموتون. لا أَدرى ما هذا؟ أَهو عقدٌ اعتقد، أوْ جَرَى على لسانه؟ لأَن مثلَه لا يُعلَم إلا بما لا يرتاب في ذلك أَنه جاءَ عن اللَّه، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا). أي: دعاهما وزيَّن لهما، أَي: سبب الزلة والإخراج منها، لا أن تولى هو إخراجهما وإزلالهما. وقد ذكرنا أنه قد تُسمى الأَشياءُ باسم أَسبابها، والأسباب باسم الأشياء. وذلك ظاهر معروف في اللغة، غير ممتنع تسمية الشيء باسم سببه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ).

من الخصب، والسَّعة، والنعم التي أَنزلهما اللَّه - تعالى - فيها، وأَباح لهما التناول مما فيه. ثم اختلف في وسوسة الشيطان لآدم وحواءَ - عليهما السلام - فيم كان؟ ومن أَين كان؟ ولماذا كان؟. قيل: إنه كان في السماء، فوسوس إليهما من رأْس الحيَّة؛ حسدًا منه لما رآهما يتقَلبان في نعم اللَّه، ويتنعمان فيه، فاشتد ذلك عليه. وقيل: إنه كان في الدنيا فوسوس لهما من بُعدٍ، واللَّه أعلم. ثم اختلف في الشيطان: أَله سلطان على القلوب؟ أَو يوسوس في صدورهم من بُعد؟ فقَالَ بَعْضُهُمْ: له سلطان على القلب؛ على ما جاءَ أَنه يجري في الإنسان بين الجلد واللحم مجرى الدم. وقيل: إنه لا سلطان له على القلوب، ولكنه يَقْذف فيهم من البعد، ويدعوهم إلى الشر بآثار ترى في الإنسان من الأحوال؛ من حال الخير والشر، وكأن تلك الأحوال ظاهرة من أَثر الخير والشر. فإذا رأَي ذلك فعند ذلك يوسوس، ويدعوه إلى الشر. وعلى ذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) أخبر أنه لا سلطان له علينا سوى الدعاء لنا وهو لا يشبه، واللَّه أَعلم. ثم قيل فيمن عصى ربه: أَليس قد أَطاع الشيطان؟ قيل: بلى. . فَإِنْ قِيلَ: فإذا أَطاع أَلَا يكفر؟ قيل: لا؛ لأَنه ليس يقصد قصد طاعة الشيطان، وإنما يكفر بقصد طاعة الشيطان، وإن كان في عصيان الرب طاعته. وكذلك رُويَ عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن ذلك فأَجاب بمثل هذا الجواب. والأَصل: أَن الفعل الذي يُبْلى له ليس هو لنفسه فعل الطاعة للشيطان ليصير به مطيعًا، إنما يجعله طاعة القصد بأَن يجعلَه طاعة له، وقد زال، وإن سُرَّ هو به وفرح كما سُرَّ بزوال السرور عنهما واللذة، وإن كان ذلك بفعل من لا يجوز وصف من فعل ذلك بطاعة الشيطان، ولا قوة إلا باللَّه.

(37)

وقوله: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا). قيل: الهبوط النزول في موضع، كقوله: (اهْبِطُوا مِصْرًا) أي: انزلوا فيه. ويحتمل الهبوط منها هو النزول من المكان المرتفع إلى المنحدر، والدون من المكان. وقوله: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ). قيل: يعني إبليسَ وأَوْلاده، وآدمَ وأَولادَه، بعضهم لبعض عدو. والعداوة فيما بيننا وبينهم ظاهرة. وقيل: بيننا وبين الحيَّة التي حملت إبليس حتى وسوس لهما من ذؤابتها. فهذا لا يعلم إلا بالسمع، إذْ ليس في الكتاب ذلك. غير أن العداوة بيننا وبين الحيَّات عداوة طبع، والعداوَة التي بيننا وبين إبليس عداوة اختبار وأَمر؛ إذ الطبعُ ينفر عن كل مؤذٍ ومضر، وباللَّه التوفيق. وقوله: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ). يقرون فيها، كقوله: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا). وقوله: (وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ). أي: متاعًا لكم إلى انقضاء آجالكم. ويحتمل: متاعًا لكم لانقضاء الدنيا وانقطاعها. وقوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ (37) أي: أخذ. وقوله: (كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ). قيل: إن فيه وجوهًا: قيل: فتاب عليه، أي: وفق له التوبة، وهداه إليها فتاب، كقوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)، أي: وفق لهم التوبة فتابوا. وقيل: خلق فعل التوبة منه، فتاب، كما قلنا في قوله: (وَهَدَاهُ)

أي: خلق فعل الاهتداء منه فاهتدى. وقيل: تاب عليه، أَي: تجاوز. وقيل: إن التوبة هي الرجوع. رجع آدم عن عصيانه؛ فرجع هو إلى الغفران

(38)

والتجاوز، وبعضه قريب من بعض. وفي الآية: أنه إنما تاب عليه لكلمات تلقاها من ربه. والآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنهم يقولون: إن من ارتكب صغيرة فهو مغفور له لا يحتاج إلى الدعاء، ولا إلى التوبة. فآدم - عليه السلام - دعا بكلمات، تلقاها منه؛ فتاب عليه. ولو كان مغفورًا له ما ارتكب لكان الدعاء فضلًا وتكلفًا، وباللَّه التوفيق. والكلمات هي ما ذكرت في سورة أُخرى: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا. . .) الآية. وقوله: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). أي: قابل التوبة. وقيل: أي موفق التوبة، وهادي لها؛ كقوله: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) وقد ذكرنا في قوله: (فَتَابَ عَلَيْهِ) ما احتمل فيه. (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين، ورحيم بالتائبين. وقوله: (لْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا (38) ذكر هبوطهم جميعًا؛ فإذا هبطوا فُرادى لم يخرجوا من الأمر، بل كانوا في الأمر، فدل أَن الجمع في الأَمر، والذكر، لا يُصَير الجمعَ في الفعل شرطًا. وقوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى). أي: ليأْتينكم. وهذا جائز في اللغة. وقوله: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). أي: من تبع هداي، ودام عليه حتى مات، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون وكذلك قوله: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ): في الدنيا، (وَلَا يَشْقَى) في الآخرة، إذا مات عليه. وهذه الآية والتي تليها وهو قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39). تنقض على الجهمية؛ لأَنهم يقولون بفناء الجنة والنار، وانقطاع ما فيهما.

(40)

فلو كانت الجنة تفنى وَينقطع ما فيها، لكان فيها خوف وحزن؛ لأَن من خاف في الدنيا زوال النعمة عنه وفوتها يحزن عليه، وينغصه ذلك، ولهذا وصف الدنيا بالخوف والحزن لما يزول نعيمها ولا تبقى، فأَخبر عَزَّ وَجَلَّ أَلا خوف عليهم فيها؛ أي: خوف النقمة، ولا حزن، أَي: حزن فوات النعمة. (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) دل أنها باقية، وأن نعيمها دائم، لا يزول. وكذلك أخبر عَزَّ وَجَلَّ أن الكفار في النار خالدون وأَن عذابها أليم شديد، فلو كان لهم رجاء النجاة منها لخف ذلك العذاب عليهم وهَان؛ لأَن من عوقب في الدنيا بعقوبة، وله رجاء النجاة منها وإن ذلك عليه وخف، وباللَّه التوفيق. * * * قوله تعالى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46). وقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ). يحتمل وجوهًا: يحتمل قوله: اذْكروا نعمتي التي خصصت لكم دون غيركم من نحو ما جعل منكم الأَنبياء، والملوك، كقوله: (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ). ويحتملُ (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) ويعني: النجاة من فرعون، حيث كان يستعبدكم ويستخدمكم ويستحيي نساءكم، كقوله تعالى: (يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ. . .) الآية. ويحتمل: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) ومن نحو ما أَعطاهم - عَزَّ وَجَلَّ - المن والسلْوَى، وتظليل الغمام وغير ذلك من النعم، ما لم يُؤت أَحدًا من العالمين، خصوا بذلك من دون غيرهم. وقيل: نعمتُه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث وقتَ اختلافهم في الدِّين، وتَفرقهم فيما كان عليه مَنْ مَضى من النبيين ليدُلهم على الحق من ذلك، ويؤلف بينهم بالبينات.

كما أحوجهم الاختلاف إلى من يقوم بذلك من وجه يُعلم صدقه في ذلك؛ فبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نعمة منه عليهم، إذ بطاعته نجاتهم، ولا قوة إلا باللَّه. ويحتمل: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) أي: وجهوا شكرَ نعمتي إليَّ، ولا توجهوها إلى غيري. فإن كان هذا المراد، فهم وغيرهم فيه سواء؛ إذ على كل مُنْعَم عليه أَن يوجه شكر نعمه إلى ربه. وكان الأمر بذكر النعمة - واللَّه اّعلم - أَمرًا بعرفانها في القلب أَنها مِنَّةٌ، لا الذكر باللسان؛ إذ لا سبيل إلى ذكر كل ما أنعم عليه سوى الاعتراف بالعجز عن أداء شكر واحدة منها طول عمره. وقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي). قد ذكرنا فيما تقدم أن عهد اللَّه على وجهين: عهد خلقة: لما جعل في خلقة كل أَحد دلائلَ تدل على معرفته وتوحيده، وأَنه لم يخلقه للعبث، ولا يتركه سدى. وعهد رسالة: على أَلسن الرسل؛ كقوله تعالى: (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي. . .) الآية. وكقوله: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. . .) الآية. وكقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ. . .) الآية. وقوله تعالى: (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ). الذي وعدتكم؛ وهو الجنة، كقوله: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ. . .) الآية. ويقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) أي: أدوا ما فرضْتُ عليكم من فرائض، ووجهوا إليَّ شكر نعمتي، ولا تشكروا غيري. ويكون أوفوا بعهدي الذي أَخذ على النبي ين بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ. . .) (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) فيكون عهدُه تبليغَ ما بَيّن في كتبهم؛ من بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والإقرار به، والنصر له إذا بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). أَي: اخشوا سلطاني وقُدْرتي.

(41)

وقيل: اخشَوْا عذابي ونِقْمتي. وقيل: اخشوا نقض عهدي وكتمان بعث مُحَمَّد نبيي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ (41) قوله: (وَآمِنُوا بِمَآ أَنزَلْتُ) على نبيي مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من القرآن. (مُصَدِّقا لِمَا مَعَكُم). أي: موافقًا لما معكم من الكتب؛ من التوراة، والإنجيل، وغيرهما. وهم قد عرفوا موافقتَه كتُبهم؛ إذ لم يتكلفوا جمع هذا إلى كتبهم، ومقابلة بعض ببعض. أو يحتمل قوله: (مُصَدِّقا) أي: موافقًا لما معكم من الكتب، وليس كما قال صنف من الكفرة -وهم الصابئون-: إن الإنجيل نَزلَ بالرُّخص، والتَّوراة نزلت بالشدائد. فقالوا باثنين؛ لما لم يرَوْا نزول الكتب -بعضُها على الرُّخَص وبعضُها على الشدائِد مِنْ واحدٍ- حكمةً. فقال عَزَّ وَجَلَّ: (مُصَدِّقًا) أي: موافقًا للكتب، وأنها إنما نزلت من واحد لا شريك له، وإن كان فيه شدائدُ ورخص؛ إذ لله أَن ينهى هذا عن شيء، ويأْمرَ آخرَ، وينهى في وقت، ويأمر به في وقت، وليس فيه خروج عن الحكمة أَن يأْمر أَحدًا وينهاهُ في وقتٍ واحد، وفي حالٍ واحدة، وفي شيء واحد. ثم في الآية دلالة أَن المنسوخ موافق للناسخ، غَير مُخالف له؛ لأَن من الأَحكام والشرائع ما كانت في كتبهم، ثم نسخت لنا، فلو كان فيها خلاف لظهر القول منهم إنه مخالف، وإنه غير موافق. وكذلك في القرآن ناسخ ومنسوخ، فلم يكن بعضه مخالفا لبعضه، كقوله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).

(42)

وقوله: (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ). قيل فيه بوجهين: قيل: لا تكونوا أَول قُدوة يقتدى بكم في الكفر. وقيل: أَي لا تكونوا أَول كافر بما آمنتم به؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أَن يُبعث، فلما بعث كفروا به. وقيل: هم أول من التقوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأَنه ظهر بين أَظهرهم؛ فلو كفروا لكانوا أَول من يكفر به فيلحقهم ما يلحق من سن الكفر لقومه مع ما يكونون هم بمعنى الحجة لغَيرهم؛ إذ كانوا أعرف به، وأبصر بما معه من الأدلة والبراهين؛ فيقتدى بهم من لم يشهد ولا عَلِمَ. فيكون عليهم -لو كفروا- ما على أول من كفر -ولا قوة إلا باللَّه- مع ما يلحقهم فيه وصفُ التعنُت والتمرد، واللَّه الموفق. وقوله: (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا). قيل: بحجتي. قال الحسن: الآيات في جميع القرآن هي الدِّين؛ كقوله: (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى). وأما عندنا فهي الحجج، وقد ذكرنا أن اسم الشراء قد يقع من اختيار شيء بشيء وإن لم يتلفظ بلفظ الشراء. وقوله: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ). أي: اتقوا عذابي ونقْمتي، ويحتمل: سلطاني وقدرتي. وقد ذكرناه. وقوله: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ (42) يحتمل وجوهًا: يحتمل: لا تشتروا بالحق الباطل. ويَحتمل: لا تلبسوا، أي: لا تلبِسوا؛ هو تلبيس الحق بالباطل. ويحتمل: لا تلبسوا، أي: لا تخلطوا. ويحتمل: لا تلبسوا، أي: لا تشبهوا الحق بالباطل. ويحتمل: لا تلبسوا، أي: تكتموا. ويحتمل: لا تلبسوا، أي: لا تمحوا نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا تثبتوا غيره. وكله يرجع إلى واحد.

(43)

ثم (الحَق) ويحتمل وجوها: يحتمل: محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونعته. ويحتمل الحق: القرآن. ويحتمل الحق: الإيمان. والباطلُ: هو الظلمُ والكفرُ، واللَّه أعلم. وقوله: (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). لما ذكر هو ونعتُه في كتابهم أَنه حق؛ إن كان محمدًا عليه أَفضل الصلواتِ وأَكمل التحيات، أو القرآن والإيمان، لكن تعاندون وتكابرون. وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (43) يحتمل وجوهًا: يحتمل: الأَمر بإقامة الصلاة، وإيتاءِ الزكاة أَمرًا بقبول الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة والمدعوة إليهما؛ كقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) ليس هو إخبارًا عن إقامة فعلهما، ولكن القبول لهما والإيمان بهما، والله أعلم. ويحتمل: أن يكون الأَمر بإقامة الصلاة والزكاة أَمرًا بكونهم على حال تكون صلاتهم صلاة، وزكاتهم زكاةً. قال: كونوا في حال تكون صلاتكم صلاة، وزكاتكم زكاة في الحقيقة؛ لأَن الآية نزلت في بني إسرائيل وهم كانوا أَهل كتاب، وكانوا يُصَلُّون ويصَّدقون، ولكن صلاتهم وزكاتهم لم تكن لله، لما لم يأْتوا بإيمانهم فأمروا أن يأْتوا بالإيمان؛ لتكون صلاتهم تلك صلاة في الحقيقة. ويحتمل: الأَمر بإقامة الصلاة والزكاة أَمرًا بإقامتها بأَسبابها وشرائطها من نحو

الطهارة واللباس، وإخلاص النية له، وذلك راجع إلى المؤمنين. ويحتمل: الأمر بالصلاة والزكاة أَمرًا لمعنى فيهما، وهو الخضوع والطاعة له، والثناء عليه، وذلك على كل أَحد أَن يخضع لربه ويطيعه ولا يعصيه، وكذلك الزكاة على كل أَحد أن يزكيَ نفسه عن جميع القاذورات، ويحفظها. ويصونها عن جميع ما يضر به وذلك فَرضٌ على كل واحد، وباللَّه التوفيق. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ). قيل فيه بوجوه:

(44)

قيل: إن اليهود كانوا يصلون ولا يركعون؛ فأُمروا أن يصلوا لله ويركعوا فيها على ما يفعله المسلمون. وقيل: إنَّهم كانوا يصلون وحدانا لغير اللَّه؛ فأُمروا بالصلاة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأَصحابه بالجماعة. وفيه أمر بحضور الجماعة. وقيل: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي: كونوا مع المصلينَ يعني المسلمين، ولا تخالفوهم في الدِّين والمذهب، أَي: اعتقادًا. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (44) قيل فيه بوجوه: قيل: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) يَعنى: الأَتباع والسفلة باتباعكم، وتعظيمكم لعلمكم، وتلاوتكم الكتاب، (وَتَنسَونَ أَنفُسَكُمْ) ولا تأْمرونها باتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتعظيمه، لعلمه، ولنبوته، ولفضل منزلته عند اللَّه؟! وقوله: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ). أي: تجدون في كتابكم أنه كذلك. وقوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ). أَن ذا لا يصحُّ؟!. وقيل: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) يعني: الفقراءَ والضعفةَ بالإيمان بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا تأمرون الأغنياء وأهلَ المروءَة بالإيمان به، لما تخافون فوت المأْكلة، والبر، وانقطاعه عنكم. ويحتمل أن ذا الخطاب لهم ولجميع المسلمين، ألا يأْمر أحدٌ أحدًا بمعروف إلا ويأمر نفسه بمثلهِ، بل الواجب أَن يبدأ بنفسه، ثم بغيره، فذلك أنفع وأَسرع إلى القبول. (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أَن ذلك في العقل لازم أن يجعل أول السعي في إصلاح نفسه، ثم الأمر لغيره. واللَّه أعلم. وقوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (45) يحتمل وجوهًا: يحتمل: أَن استعينوا بالصبر على ترك الرئاسة والمأكلة في الدنيا؛ لأَن الخطاب كان

للرؤساءِ منهم بقوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ) إلى قوله: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) والله أعلم. ويحتمل: أن اصبروا على ترك الرئاسة لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والانقياد والخضوع له، لما بمن لكم من الثواب الآخرة لمن آمن به وأَطاعه، وترَكَ الرئاسةَ له. ويحتمل: أَن اصبروا على المكاره وترك الشهوات؛ بأن الجنة لا تدرك إلا بذلك؛ لما جاءَ: " حفت الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات ". ويحتمل؛ أن استعينوا بالصوم والصلاة على أَدَائهما. لكن هذا يرجع إلى المؤمنين، والآية نزلت في رؤساء بني إسرائيل، دليله قولُه: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ). وإنما يصلح هذا التأويل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا. . .) الآية. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ). يُخرَّج -واللَّه أعلم- على ما ذكرنا من ترك الرئاسة، والمأْكلة في الدنيا، إنها لكبيرة عليهم إلا على الخاشعين، فإنها غير كبيرة، ولا عظيمة عليهم. ويحتمل: أنَ تركَ الرئاسة لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والانقياد له، والخضوع - لثقيل إلا على الخاشعين؛ فإنه لا يثقل ذلك عليهم، ولا يكبر. ويحتمل أَن يقال: إن الصبر على الطاعة، وأداء هذه الفرائض كبيرة على المنافقين إلا

(46)

على المؤمنين خاصة، فإنه لا يتعاظم ذلك عليهم. وقيل: إن تحويل القبلة إلى الكعبة لثقيل على اليهود، واللَّه أعلم. وقوله: (إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ). قيل فيه بوجوه: قيل: الخاشع؛ هو الخائف بالقلب. وقيل: الخاشع؛ المتواضع. وقيل: الخاشع -ها هنا- المؤمن. وقال الحسن: الخشوع هو الخوف اللازم بالقلب. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ (46) يعني: يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو ربهم بكسبهم وصنيعهم. وقوله: (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ). أي: سيعلمون يومئذ أَنهم راجعون إليه. قال صاحب المنطق: الظن هو الوقوف على أَحد طرفي اليقين، والشك هو الوقوف على أَحد طرفى الظن. والهمةُ بين هذين. * * *

(47)

قوله تعالى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53). وقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ). يحتمل وجوها: يحتمل: (أنعمت عليكم) بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن الناس كانوا على فترة من الرسل، وانقطاع من الوحي، واختلاف من الأديان والمذاهب؛ فبعث اللَّه - تعالى - محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليجمعهم ويدعوهم إلى دين اللَّه، ويؤلف بينهم، ويخرجهم من الحيرة والتيه، وذلك من أعظم نعمة أنعمها عليهم، وباللَّه التوفيق. وذلك أيضًا يُحْتمل فيما تقدم من الآيات. وقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي. . .) والآية. وقوله: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) يعني محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وعهدُه في الأرض رسولُه، كقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) إلى قوله: (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي)، أي: عهدى. وعلى ذلك قوله: (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ)، يعني: بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)، يعني: محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك قوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، أَمكن تخريج هذه الآيات كلها على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويحتمل أيضا قوله: (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) الوجوه التي ذكرنا. أحدها: أن جعل منكم الأنبياء والملوك؛ كقوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا). كما قيل: إن كل نبي من لدن يعقوب إلى زمن عيسى عليه السلام كان من بني إسرائيل. ويحتمل: ما آتاهم - عَزَّ وَجَلَّ - من أنواع النعم ما لم يؤت أَحدًا من العالمين؛

كقوله: (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)، من المن، والسلوى، وتظليل الغمام، وامتداد اللباس على قدر القامة والطول. كما قيل، إن ثيابهم كانت تزداد وتمتد عليهم على قدر ما تزداد قامتهم، وكانت لا تُبلَى عليهم ولا تتوسخ، وذلك مما لم يؤتِ أحدًا سواهم. ويحتمل أيضا قوله: (نِعْمَتِيَ) أي: النجاة من فرعون وآله؛ كقوله: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. .) الآية. وقوله: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ). قيل: فُضلوا على جميع من على وجه الأرض؛ على الدواب بالجوهر، وعلى الجن بالرسل، وعلى البشر بالإيمان. ويَحْتمل تفضيلُهم على العالمين وجوهًا أيضا: ما ذكرنا من بعث الأنبياء منهم. والنجاة من أيدي العدو. وإهلاك العدو وهم يرونه. وفَرق البحر بهم، والنجاة منه، وإهلاك العدو فيه. وذلك من أَعظم النعم: أَن ترى عدوَّك في الهلاك وأَنت بمعزل منه آمن. وقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) إلى قوله: (فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ). يحتمل: فضَّل أَوائلهم. وفي الآية وجهان على المعتزلة: أَحدهما: قهوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)، وعندهم: أَن جميع ما فعل مما عليه الفعل، ولو فعل غيره لكان يكون به جائزا، فإذا كان تركه بفعله جائزا ففعله حق عليه. ولا أَحد يكون بفعل ما لا يجوز له الترك منعمًا على أَحد؛ فثبت أن كان ثَمَّ منه معنى زائدٌ خصهم به، وأَن ليس التخصيص محاباة كما زعمت المعتزلة، ولا ترك الإنعام بخلٌ كما قالوا. والثاني: قوله: (فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، فلو لم يكن منه إليهم فضل معنى، لم يكن لهم ئفضيل على غيرهم؛ فثبت أن كان فيهم ذلك. ومن قول المعتزلة: أَن ليس لله أَن يخص أَحدًا بشيء إلا باستحقاق يفعله، وبذلك هم

(48)

فَضلوا أَنفسهم على العالمين، لا هو، فكيف يَمُنُ عليهم بذلك؟! ولا قوة إلا باللَّه. مع ما لا يخلو تفضيله إياهم على غيرهم من أَن يكون لهم الفضلُ في الدِّين أَولًا. فإن لم يكن فليس ذلك بتفضيل. وإن كان ثبث أَنْ ليس من الحق عليه التسويةُ بين الجميع في أسباب الدِّين. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا (48) الآيةُ - واللَّه أعلم - كأنها مؤخرة في المعنى وإن كانت في الذكر مقدمة؛ لأَنه قال: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، ثم ذكر الأَفضال والمنَنَ فقال: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. . .) الآية، وقوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ)، وقوله: (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). ذكَّرهم - عَزَّ وَجَلَّ - عظيم نعمه ومنَنِه عليهم؛ ليشكروا له، وليعرفوا أنها مِنَّةٌ، وأَنه فضلٌ مِنْهُ، ثم حذَرهم - جل وعز - فقال: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا. . .) الآية؛ ليكونوا على حذر؛ لئلا يصيبهم ما أَصاب الأُمم السالفة من الهلاك وأَنواع العذاب بعد الأَمن، والتوسع عليهم، كقوله: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا) إلى قوله: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ. . .) الآية. ثم في الآية دليل لقول أبي حنيفة وأصحابه: إن الولد يصير مشتومًا مقذوفًا بشتم والديه؛ لما عيرهم - جل وعز - بصنع آبائهم بقوله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ)، وهم لم يتخذوا العجل، وإنما اتخذ ذلك آباؤهم. وكذلك ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - صنعه ومننه عليهم، من نحو النجاة من الغرق، وإخراجهم من أَيدي العدو، وفَرق البحر بهم، وإهلاك العدو. وإنما كان ذلك لآبائهم دونهم، لكن ذكرهم - جل وعز - عظيم منته على آبائهم؛ ليشكروا له على ذلك، وكذلك عَيرهم بصنيع آبائهم من اتخاذ العجل، وإظهار الظلم؛ ليكونوا على حذر من ذلك، واللَّه أعلم. وفي قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي: بما كان إنعامي عليهم باتباعهم الرسول موسى - عليه السلام - وطاعتهم له، فاتبِعوا اسم الرسول مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأَطيعوا له، ولا تتركوا اتباعه. وقوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا). قيل: أي لا تُؤدي نفس عن نفس شيئا؛ كقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35).

(49)

وقوله: (وَلَا يُقبَلُ منهَا شَفَاعَة). قيل فيه بوجهين: قيل: لا يكون لهم شفعاء يشفعون؛ كقوله: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ)، وكقوله: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ). وقيل: لو كان لهم شفعاء لا تقبل شفاعتهم؛ كقوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي: لا يؤْذَنُ لهم بالشفاعة؛ كقوله: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى). وقوله: (وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ). والعدل: هو الفداءُ، إما من المال، وإما من النفس. وذلك أيضًا يحتمل وجهين: يحتمل: ألا يكون لهم الفداء، على ما ذكرنا في الشفيع. ويحتمل: أَن لو كان لا يقبل منهم؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ). ثم الوجوه التي تخلص المرء في الدنيا إذا أَصابته نكبة بثلاث: إما بفداءِ يفدى عنه -مالًا أو نفسًا- وإما بشفعاء يشفعون له، وإما بأَنصارٍ ينصرون له؛ فيتخلص من ذلك. فقطع - عَزَّ وَجَلَّ - عنهم جميع وجوه التخلص في الآخرة. والآية نزلت - واللَّه أعلم - في اليهود والنصارى، وهم كانوا يؤمنون بالبعث، والجنة، والنار، كقوله: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) وقوله: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً). ولذلك ذكر اسم الفداءِ والشفيع، وما ذكر، وأَما من لم يؤمن بالآخرة فلا معنى لذكر ذلك. وقوله: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (49) قيل: آل الرجل: شيعتُه؛ ولذلك قيل: آل رسول اللَّه: قرابتُه. وقيل: كل مؤمن فهو من آله، وعلى ذلك الأَمر بالصلاة عليه وعلى جميع من آمن به.

(50)

وقوله: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ). فيل فيه بوجهين: قيل: يقصدونكم أَشد العذاب. وذلك يرجع إلى الاستعباد، والاستخدام بأَنفسهم. وقيل: يسومونكم، يُذيقونكم أَشد العذاب، وذلك يرجع إلى ما يسوءُهم من تذبيح الأبْناء وتقتيلهم، كقوله: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ)، أي: يقتلون أَبناءَكم. وقوله: (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ). يحتمل أيضًا وجهين: يحتمل: يستحيون من الحياء، أَي: استحيوا قتْل النساء، لما لا يخافهن. ويحتمل من الإحياءِ، أي: تركوهن أَحياء فلم يقتلوهن. وقوله: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ). قيل: البلاء -ممدود- هو النعمة، كأَنه قال: فيما ينجيكم من فرعون وآله نعمة عظيمة. وقيل: البلا -مقصور- هو الابتلاء والامتحان؛ كأَنه قال: في استعباده إياكم واستخدامه امتحان عظيم. وقوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) قيل: فرقنا، أَي: جعلنا لكم البحر فِرَقًا، أي: طرقًا تمرون فيه. وقيل: فرقنا، أي: جاوزنا بكم البحر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (51) كان الوعد لهم - واللَّه أعلم - وعدين: أحدهما: من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بصرف موسى إليهم مع التوراة، كقوله: (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا) أَي: صدقًا. ووعد آخر، كان من موسى بانصرافه إليهم بالتوراة على رأْس أَربعين ليلة، كقوله:

(52)

(فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي). وقوله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ). يحتمل وجهين: (اتَّخَذْتُمُ): أي عبدتم؛ فاستوجبوا ذلك التعبير واللائمة بعبادة العجل لا باتخاذه نفسه. ويحتمل: اتخذتم العجل إلهًا؛ فاستوجبوا ذلك باتخاذهم إلهًا، كقوله: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ). وهذا كان أقرب. وقيل: اتخذتم، أي: صنعتم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ). فيل في الظلم بوجوه: قيل: إن كل فعل يستوجب به الفاعل عقوبة فهو ظلم. وقيل: إن كل عمل لم يؤذن له فهو ظلم. وهاهنا -حيث فعلوا ما لم يؤذن لهم- نسبهم إلى الظلم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم. وقيل: إن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه؛ فسموا بذلك لأنهم وضعوا الألوهية في غير موضعها، وهذا كأنه - واللَّه أعلم - أقرب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ (52) الآية. يَنْقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنهم يزعمون أن اللَّه إذا علم من أحدٍ أنه يؤمن به في آخر عمره -وإن طال- أَو يكون من نسله من يؤمن إلى آخر الأَبد، لم يكن له أن يُميته، ولا له أَن يقطع نسله. فإذا كان على اللَّه أَن يبقيهم، ولا يقطع نسلهم، لم يكن للامتنان عليهم، ولا للإفضال وطلب الشكر منهم - معنى؛ إذ فَعَلَ - جل وعز - ما عليه أَن يفعل. وكل من فعل ما عليه أن يفعل لم يكن فعلُه فعل امتنان، ولا فعل إِفضال؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - مَنَّ عليهم بالعفو عنهم، حيث لم يستأصلهم، وتركهم حتى تناسلوا وتوالدوا، ثم وجه الإفضال والامتنان على هَؤُلَاءِ - وإن كان ذلك العفو لآبائهم؛ لأَنه لو أَهلك آباءَهم وقطع تناسلهم انقرضوا وَتَفَانَوا، ولم يتوالدوا؛ فالمنة عليهم حصلت؛ لذلك طلبهم بالشكر له، واللَّه أَعلم.

فإذا كان هذا ما وصفنا دلَّ أَنْ ليس على اللَّه أن يفعل الأَصلح لهم في الدِّين وبالله التوفيق.

(53)

وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). أَي؛ لكنى تشكروا. وكذلك قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، أي: لكى يوحدوا. وذلك يحتمل وجوهًا: يحتمل: أَن يَشْهد خَلْقُه كل أَحد على وحدانيته، وكذلك يشكر خَلْقُه كل أَحد له. ويحتمل: عبادة الأخيار بوحدانيته، والشكر له بما أَنعم وأفضل عليه، وذلك يرجع إلى من يعبد ويوحد. ويحتمل: أَنه خلقهم؛ ليأمرهم بالعبادة، والشكر له، من احتمل منهم الأَمر بذلك. وقوله: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ (53) يعني: التوراة. والكتابُ: اسم لكل مكتوب. وفو له: (وَالْفُرْقَانَ). قيل: سميت فرقانا؛ لما فرق وبَيّن فيها الحلال والحرام، وكل كتاب فرق فيه بين

(54)

الحلال والحرام فهو فرقان. وقيل: يسمى فرقانًا؛ لما فرق فيه بين الحق والباطل. وهما واحد. وقيل: سميت التوراة فرقانًا؛ لما فيها المخرج من الشبهات. وقيل: الآية على الإضمار؛ كأَنه قال: وإذ آتينا موسى الكتاب -يعني التوراة- ومحمدًا الفرقان؛ كقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ). وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). فالكلام فيه كالكلام في قوله: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقد ذكرنا فيه ما أَمكن، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59). وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ). وقيل: ظلمتم أَنفسكم باتخاذكم العجل إلهًا. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ). قيل: ارجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة ربكم. وقيل: ارجعوا عن اتخاذ العجل إلهًا إلى اتخاذ خالقكم إلهًا. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). قال الفقيه أَبو منصور - رحمه اللَّه -: لولا اجتماع أَهل التأْويل والتفسير على صرف ما أَمر اللَّه - جل وعز - إياهم بقتل أنفسهم على حقيقته، وإلا لم نكن نصرف الأَمر بقتل أَنفسهم على حقيقة القتل؛ وذلك لأَن الأَمر بالقتل كان بعد التوبة، ورجوعهم إلى عبادة اللَّه، والطاعة له، والخضوع.

دليله قوله عَزَّ وَجَلَّ: - (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149). ظهر بهذا: أَنهم تابوا قبل أَن يؤمروا بالقتل. وقد شرع على أَلسن الرسل: قتال الكفرة حتى يسلموا؛ فلا يجوز ذلك إِنْ أَسلموا، فيحصل الإرسال للقتل خاصة، لا للدِّين، واللَّه أعلم. ولأَن القتل هو عقوبة الكفر، لا عقوبة الإسلام، وخاصة قتل استئصال، على ما روي في الخبر: أَنْ قُتل سبعون أَلفًا في يوم واحد. وذلك استئصال وإهلاك، ولم يهلك اللَّه قومًا إلا في حال الكفر والعناد؛ إذ الإسلام سبب درء القتل وإسقاطه؛ لأَن من يقتل لكفره إذا أَسلم سقط القتل عنه وزال، وكذلك إذا أَسلم وتاب ومات عليه، لم يعاقب في الآخرة لكفره في الدنيا. فعلى ذلك: يجب ألا يعاقب هَؤُلَاءِِ في الدنيا -بالقتل- بعد التوبة والرجوع إلى عبادة اللَّه وطاعته. ويصرف الأَمر بالقتل، إلى إجهاد أَنفسهم بالعبادة لله، والطاعة له، واحتمال الشدائد والمشقة؛ لتفريطهم في عصيان ربهم، باتخاذهم العجل. إلهًا، وبعبادتهم إياه دون اللَّه. وذلك جار في الناس، يقال: فلان يقتل نفسه في كذا، لا يعنون حقيقة القتل، ولكن: إجهاده نفسه في ذلك، وإتعابه إياها، واحتمال الشدائد والمشقة فيه. فعلى ذلك، يصرف الأَمر بقتل أَنفسهم إلى ما ذكر، بالمعنى الذي وصفنا، والله أعلم. ثم صرف ذلك إلى حقيقة القتل احتمل وجهين: أَحدهما: أَن يجعل ذلك ابتداءَ محنة من اللَّه - تعالى - لهم بالقتل، لا عقوبة لما سبق من العصيان. ولله أن يمتحنهم -ابتداء- بقتل أَنفسهم؛ كقوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ) الآية، على تأْويل كثير من المتأَولين في ذلك؛ إذْ لَه أَنْ يميتهم بجميع أَنواع الإماتة. فعلى ذلك: له أَن يأْمر بقتل أَنفسهم، وفيه إماتة، مع ما فيه الاستسلام لعظيم ما دعوا إليه، من بذل النفس لله، مما في مثله جعل وفاءِ إبراهيم الأَمر بالذبح، وبذل ولده النفس

له. فيكون في ذلك القدر وفاء وتوبة لا حقيقة القتل، واللَّه أعلم. والثاني: يجوز ذلك؛ لأَن عقوبات الدنيا وثوابها محنة، لجواز الامتحان بعد التوبة والرجوع إلى طاعة اللَّه؛ لأَنها دار محنة. وأَما عقوبات الآخرة وثوابها فليستا بمحنة؛ لأَنها ليست بدار امتحان؛ لذلك: جاز التعذيب في الدنيا بعد التوبة، ولم يجز في الآخرة إذا مات على التوبة، واللَّه أعلم. ثم قيل في قوله: (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، بوجوه: قيل: أُمروا ببذل الأَنفس للقتل، والتسليم له؛ فصاروا كأن قد قتلوا أنفسهم. ويجوز أن يكون الأَمر بقتل أَنفسهم أمرًا بمجاهدة الأَعداء، وإن كان فيها تلفهم على ما قال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ. . .) الآية، مذكور ذلك في التوراة. وكذا قوله: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ)، نهى عن القتل الذي فيه قتل أنفسهم. وقد قيل في قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، بمعنى: أي لا تقتلوا مَن تَقتلون، فكأنما قد قتلتم أنفسكم، وعلى هذا التأويل خَرج أَبو بكر قوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). واللَّه الموفق. وقيل: أمر بعضًا بقتل بعض، كقوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً)، أَي: يسلم بعضهم على بعض. وقيل: أَمر كل من عبد العجل بقتل نفسه، واللَّه أعلم. وقوله؛ (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ). قيل: إن التوبة خير لكم عند خالقكم. وقيل: قتلكم أنفسكم خير لكم من لزوم عبادة العجل. ويحتمل: عبادة الرب - عَزَّ وَجَلَّ - خير لكم من عبادة العجل، واللَّه أعلم. وقوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). وقد ذكرنا المعنى في ذلك فيما تقدم. وفي بذل أَنفسهم للقتل، والصبر عليه، وكف أَيديهم عن الدفع، والممارسةَ فيه وجهان:

(55)

أَحدهما: أَنه كأنهم طبعوا على أَخلاق البهائم والدواب. وذلك أَن موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من خدمة فرعون وآله، ونجاهم من الشدائد التي كانت عليهم، ولحوق الوعيد بهم، وأَراهم من الآيات العجيبة: من آية العصا، واليد البيضاءِ، وفَرق البحر، وإهلاك العدو فيه، وتفجير الأَنهار من حجر واحد، وغير ذلك من الآيات ما يكثر ذكرها، أَن لو كانت واحدة منها لكفتهم، ودلتهم على صدقه ونُبُوته. ثم -مع ما أَراهم من الآيات- إذا فارقهم، دعاهم السامرى إلى عبادة العجل، واتخاذه إلهًا، كقوله: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)، فأجابوه إلى ذلك، وأَطاعوه. وكان هارون - صلوات اللَّه على نبينا وعليه - فيهم، يقول: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)، فلم يجيبوه ولا صدقوه، ولا اكترثوا إليه، مع ما كان هارون من أَحب الناس إليهم. فلولا أَنهم كانوا مطبوعين على أَخلاق البهائم والدواب، وإلا ما تركوا إجابته، ولا عبدوا العجل، مع ما أُروا من الآيات التي ذكرنا. فإذا كان إلى هذا يرجع أَخلاقهم لم يبالوا ببذل أَنفسهم للقتل، واللَّه أَعلم، ونحو ذلك قوله: (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ). وعلى ذلك جعلت آيات موسى كلها حسية لا عقلية؛ إذ عقولهم كادت تقصر عن فهم المحسوس ودركه، فضلًا عن المستدل عليه، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل أَن أُروا ثواب صبرهم على القتل في الآخرة، وجزيل جزائهم، وكريم مآبهم؛ فهَانَ ذلك عليهم وخف. كلما روى أن امرأَة فرعون لما علم فرعون -لعنه اللَّه- بعبادتها ربها، وطاعتها له، أَمر أَن تُعاقب بأشد العقوبات، فَفُعِل بها فضحكت في تلك الحال، لما أُريت مقامها في الجنة، وكريم مآبها؛ فهَان ذلك عليها وسهل. فعلى ذلك يحتمل بذل هَؤُلَاءِ أَنفسهم للقتل، والصبر عليه لذلك، واللَّه أَعلم. وقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً (55) قَالَ بَعْضُهُمْ: قال الذين اختارهم موسى -وكانوا سبعين رجلًا- لن نُصدقك بالرسالة والتوراة حتى نرى اللَّه جهرة، يخبرنا أنه أَنزلها عليك.

ويحتمل: لن نؤمن لك أَنه إله، ولا نعبده حتى نراه جهرة عيانًا. فاحتج بعض من ينفي الرؤية في الآخرة بهذه الآية؛ حيث أَخذتهم الصاعقة لما سأَلوا الرؤية. قالوا: فلو كان يجوز أَن يُرى لكان لا تأْخذهم الصاعقة، ولا استوجبوا بذلك العذاب والعقوبة. وأَما عندنا، فإنه ليس في الآية دليل نفي الرؤية، بل فيها إثباتها. وذلك أَن موسى - عليه السلام - لما سُئل الرؤية لم ينههم عن ذلك، ولا قال لهم: لا تسأَلوا هذا. وكذلك سأَل هو ربه الرؤية، فلم ينهه عنها، بل قال: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، وإذا صرف الوعد لا يجوز ذلك، لو كان لا يحتمل؛ لأَنه كفرٌ، ومحال ترك النهي عنه. وكذلك ما روى في الأَخبار: من سؤال الرؤية لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قالوا: أَنرى ربنا؛ لم يأْت عنه النهي عن ذلك، ولا الرد عليهم؛ فلو كان لا يكون لنُهوا عن ذلك ومنعوا. وإنما أَخذ هَؤُلَاءِ الصاعقةُ بسؤالهم الرؤية؛ لأَنهم لم يسألوا سؤال استرشاد، وإنما سأَلوا سؤال تعنت. دليل التعنت، فيما جاءَ من الآيات، من وجه الكفاية لمن يُنْصف؛ لذلك أَخذتهم الصاعقة، واللَّه أعلم. أَو أَن يقال: أَخذتهم الصاعقة بقولهم: (لَن نُؤمِنَ لَكَ)، لا بقولهم: (حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً). وسنذكر هذه المسألة في موضعها، إن شاءَ اللَّه تعالى. وقوله: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ). قيل: الصاعقة كل عذاب فيه هلاك. لكن الهلاك على ضربين: هلاك الأَبدان والأَنفس.

(56)

وهلاك العقل والذهن، كقوله: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) قيل: مغشيًّا. وفيه هلاك الذهن والعقل؛ وكذلك قوله: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أَي غشي. واللَّه أعلم. وقيل: الصعقة: صياح شديد. وقوله: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). قيل فيه بوجهين: قيل: تعلمون أَن الصاعقة قد أَخذتهم وأَهلكتهم بقولهم الذي قالوا؛ فكونوا أَنتم على حذر من ذلك القول. وقيل: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) الخطابُ لأُولئك الذين أَخذتهم الصاعقة - أَي: تنظرون إلى الصاعقة وقت أَخذتها لكم، أَي: لم تأْخذكم فجأَة، ولا بغتة، ولكن عيانًا جهارًا، واللَّه أعلم. وقوله: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ... (57) يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - عظيم مِنَّته عليهم، وجزيل عطائه لهم؛ ببعثهم بعد الموت، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى من السماءِ لهم، وذلك مما خصوا به دون غيرهم. ثم ما كان لنا من الموعود في الجنة، فكان ذلك لهم في الدنيا معاينة، من نحو البعث بعد الموت ومن الظل الممدود، والطير المشوي، والثياب التي كانت لا تبلى عليهم ولا تتوسخ؛ فذلك كله مما وعد لنا في الجنة، وكان لهم في الدنيا معاينة يعاينون. مع ما كان لهم هذا لم يجيبوا إلى ما دعوا، ولا ثبتوا على ما عاهدوا، وذلك لقلة عقولهم، وغلظ أَفهامهم، ونشوئهم على أَخلاق البهائم والدواب، واللَّه أعلم. وقوله: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ). يحتمل وجهين: يحتمل: ما لم يكل لهم الفضل على حاجتهم، فأَباح لهم القدر الذي لهم إليه حاجة،

(58)

وسماه طيبات. ويحتمل أَنه سماه طيبات؛ لما لا يشوبه داء يؤذيهم، ولا أَذى يضرهم، ليس كطعام الدنيا مما لا يسلم عن ذلك، واللَّه أعلم. وفد قيل: الطيب هو المباح الذي يستطيبه الطبع، وتتلذذ به النفس. وقوله: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. . .) الآية. وقد ذكرنا معنى الظلم فيما تقدم. وقد يحتمل وجها آخر: وهو النقصان؛ كقوله: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا)، أي: لم تنقص منه. وحاصل ما ذكرنا: أَن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وكل ما ذكرنا يرجع إلى واحد. وقوله: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ (58) اختلف في تلك القرية: قيل: إنها بيت المقدس، كقوله: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ). أمروا بالدخول فيها، والمقام هنالك؛ لسعة عيشهم فيها ورزقهم؛ إذ هو الموصوف بالسعة والخصب. وقيل: إن تلك القرية التي أُمروا بالدخول، والمقام هنالك، هي قرية على انقضاء التيه، والخروج منها. غير أن ليس لنا إلى معرفة تلك القرية حاجة، وإنما الحاجة إلى تعرف الخلاف الذي كان منهم، وما يلحقهم بترك الطاعة لله والائتمار، واللَّه أعلم. وقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا). والرغد قد ذكرنا فيما تقدم: أَنه سعة العيش، وكثرة المال. وقوله: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا). يحتمل المراد من الباب: حقيقة الباب، وهو باب القرية التي أُمروا بالدخول فيها. ويحتمل المراد من الباب: القرية نفسها، لا حقيقة الباب؛ كقوله: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) ذكر القرية ولم يذكر الباب، وذلك في اللغة سائغ، جائز؛ يقال: فلان دخل

في باب كذا، لا يعنون حقيقة الباب، ولكن. كونه في أَمر هو فيه. وقوله: (سُجَّدًا). يحتمل المراد من السجود: حقيقة السجود؛ فيخرج على وجوه: يخرج على التحية لذلك المكان. ويخرج على الشكر له؛ لما أَهلك أَعداءَهم الذين كانوا فيها، لقولهم: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ). ويحتمل: حقيقة السجود؛ لما رُويَ عن أَبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن بني إسرائيل أُمروا بالدخول سُجَّدًا فدخلوا منحرفين " فما أَصابهم إنما أَصاب بخلافهم أَمر الله. ويحتمل: الكناية عن الصلاة؛ إذ العرب قد تسمى السجود صلاة؛ كأنهم أُمروا بالصلاة بها. ويحتمل الأمر بالسجود: لا حقيقة السجود والصلاة، ولكن: أَمر بالخضوع له والطاعة، والشكر على أَياديه التي أَسدى إليهم وأَنزل: من سعة التعيش، والتصرف فيها في كل حال، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ). قيل بوجهين: قيل: الحطةُ: هو قول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، سميت حطة؛ لأَنها تحط كل خطيئة كانت من الشرك وغيره؛ فكأنهم أمروا بالإيمان والإسلام. وقيل: (وَقُولُوا حِطَّةٌ): أَي اطلبوا المغفرة والتجاوز عما ارتكبوه من المآثم والخطايا، والندامة على ما كان منهم؛ فكأنهم أمروا أَن يأْتوا بالسبب الذي به يغفر الذنوب، وهو الاستغفار، والتوبة، والندامة على ذلك، واللَّه أعلم. وذلك يحتمل الشِّرك، والكبائر، وما دونهما.

(59)

ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - مرة خطايا، ومرة خطيئات، ومرة قال: ادخلوا، ومرة قال: اسكنوا، ومرة قال: فأَنزلنا، ومرة قال: فأرسلنا -والقصة واحدة- حتى يعلم: أَن ليس في اختلاف الأَلفاظ والألسن تغيير المعنى والمراد. وإن الأَحكام والشرائع التي وضعت لم توضع للأَسامي والألفاظ، ولكن للمعاني المدرجة والمودعة فيها، والله أعلم. وقوله: (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ). ْيحتمل المراد من المحسنين: المسلم الذي كان أَسلم قبل ذلك. ويحتمل: الذي أَسلم بعد قوله: (وَقُولُوا حِطَّةٌ)، وكان كافرًا إلى ذلك الوقت. والزيادةُ تَحتمل: التوفيق بالإحسان من بعد، كقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. . .) الآية. ويحتمل: الثواب على ما ذكر من قوله: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا. . .). وقوله: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ (59) قوله " بَدَّلَ " يحتمل: إحداث ظلم، بعد أَن لم يكن، والخلاف لما أَمرهم به عَزَّ وَجَلَّ. ويحتمل: نشوءَهم على غير الذي قيل لهم. ولم يبين: ما ذلك القول الذي بدلوا؟ وليس لنا -إلى معرفة ذلك القول- حاجة؛ إنما الحاجة إلى معرفة ما يلزمهم بالتبديل، وترك العمل بأَمره، وإظهار الخلاف له، فقد تولى اللَّه بيان ذلك بمضله، وباللَّه التوفيق. وقوله: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ). قيل: " الرجز ": هو العذاب المنزل من السماء على أَيدي الملائكة؛ لأن من العذاب ما ينزل على أَيدي الملائكة كعذاب قوم لوط وغيره. ومنه عذاب ينزل من السماء -لا على أَيدي أَحد- نحو: الصاعقة، والصيحة، ونحوهما. وقوله: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). مرة ذكر " يَفْسُقُونَ "، ومرة ذكر " يَظْلِمُونَ "، وهو واحد. وفي هذه الآيات التي ذكرناها، والأنباء التي وصفنا - دلالةُ رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإثباتُ

(60)

نبوته. وذلك أَن أَهل الكتاب كانوا عرفوا هذه الأَنباء بكتبهم، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يذكر ذلك بمشهدهم، كما في كتابهم، ولم يكن ظهر منه اختلاف إليهم، ولا درس كتابهم؛ فدل: أنه باللَّه عرف، وكان فيها تسكين قلب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والتصبر عليه؛ لظهور الخلاف له من قومه، وترك طاعتهم إياه، وأن ذلك ليس بأول خلاف كان له من قومه، ولا أَول تكذيب، بل كان من الأُمم السالفة لأَنبيائهم ذلك، فصبروا عليه؛ فاصبر أَنت كما صبروا؛ كقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ. . .) الآية. * * * قوله تعالى: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61). وقوله: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ). يعني: طلب الماء لقومه عند حاجتهم إليه؛ فأَوحى اللَّه - تعالى - إليه: أَن اضرب بعصاك الحجر. قد ذكرنا فيما تقدم: أَن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد أَراهم لمنْ عَصَاهُ آيات عجيبة، من نحو الثعبان الذي كان يتلقف ما يأْفكون؛ كقوله: (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) وقوله: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ). ومن ضربه البحر بها حتى انفلق؛ كقوله: (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ). ومن ضربه الحجر بها، وانفجار العيون منه، وغير ذلك من الآيات مما يكثر، ذكرها عَزَّ وَجَلَّ من آيات رسالته، وآيات نبُوته. وفيما أرى منها، من عجيب آياته: دلالةُ حدوث العالم وإبداعه، لا من شيء؛

لأَنه - عَزَّ وَجَلَّ - قد أَخرج بلطفه، من حجر يصغر في نفسه -مما يحمل من مكان إلى مكان- من الماءِ ما يكفي لخلق لا يحصى عددهم إلا اللَّه، وفجر منه أَنهارًا، لكل فريق نهر على حدة.

ثم لا يحتمل: كون ذلك الماءِ بكليته فيه، لصغره وخفته، ولا كان ينبغي ذلك من أَسفله. فإذا كان هذا كما ذكرنا ظهر أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كان ينشئ ذلك الماء فيه، ويحدث من لا شيء؛ لأَن ذلك الحجر لم يكن من جوهر الماءِ، ولا من أَصله. فإذا كان قادرًا على هذا فإنه قادر على إِنشاءِ العالم من لا شيء سبق، ولا أَصل تقدم. وكذلك ما أَراهم - عَزَّ وَجَلَّ - من العصا: الثعبان والحية، لم يكونا من جوهرها، ولا من أَصلها، ولا تولدها منها، بل أَنشأَ ذلك وأَبدع، بلطفه. واللَّه الموفق. وقوله: (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا). قيل: كانوا اثني عشر سبطًا؛ لقوله: (اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا)، وهم بنو يعقوب؛ فجعل لكل سبط نهرًا على حدة، فانضم كل فريق إلى أبيهم الذي كانوا منه، ولم ينضموا إلى أَعمامهم وبني أعمامهم. ففيه دلالة: أَن المواريث لا تصرف إلى غير الآباءِ إلا بعد انقطاع أَهل الاتصال بالآباءِ. وفيه دلالة: أَن القوم في الصحاري والبوادي ينزلون مجموعين غير متفرقين، ولا متباعدين بعضهم من بعض بحيث يكون بعضهم عونًا لبعض وظهيرًا؛ لأَنهم نزلوا جميعًا في موضع واحد، مجموعين -مع كثرتهم وازدحامهم- غير متفرقين ولا متباعدين، وإن

(61)

كان ذلك أَنفع لهم، وأَهون عليهم، من جهة الرعي والربع وسعة المنازل. وفي الأَول: سبق المعنى الذي وصفنا، واللَّه أعلم. وقوله: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ). أي: موردهم. وفيه دلالة قطع التنازع، ودفع الاختلاف من بينهم؛ لما بين لكل فريق منهم موردًا على حدة. ولو كان مشتركها لخيف وقوع التنازع والاختلاف بينهم، وفي وقوع ذلك بينهم قطع الأَنساب وألأَرحام، وباللَّه التوفيق. وقوله: (كُلُوا). يعني: المن والسلوى. وقوله: (وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ)، من الماءِ الذي أَخرج لهم من الحجر، وكلاهما رزق اللَّه، الذي ساقه إليهم، من غير تكلف ولا مشقة. وقوله: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). قيل: لا تسعوا في الأرض بالفساد. ويحتمل: لا تعثوا، أي: لا تفسدوا؛ لأن العُثُو هو الفساد نفسه، كأَنه قال: لا تفسدوا في الأرض؛ فتكونوا مفسدين. وقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ (61) قيل فيه بوجوه: قيل: أَول ما أنزل المن، فعند ذلك قالوا: لن نصبر على طعام واحد، ثم أَنزل السلوى. وقيل: كانوا يتخذون من المن القُرَص، فيأكلون مع السلوى، فهو طعام واحد؛ فقالوا: لن نصبر عليه. ويحتمل: أَن يكون طعامهم في اليوم مرة؛ فطلبوا الأَطعمة المختلفة. واللَّه أعلم. وقوله: (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَ).

قال: يبين لنا معنى إضافة خصوصية الأشياءِ إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يخرج مخرج التعظيم لذلك الشيء المخصوص، من ذلك: بيت اللَّه، ورسول اللَّه، وناقة اللَّه، هذا كله يخرج مخرج التعظيم لهذه الأَشياءِ. وإضافة كلية الأشياءِ إلى اللَّه تعالى يخرج مخرج تعظيم الرب وإجلاله، نحو ما قال: (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)، و (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، و (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، و (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) ونحوه. هذا كله وصف تعظيم الرب وإجلاله. وقد اختلف في " الفوم ": قيل: الفوم هو الثوم، وكذلك رُوِي في قراءة عبد اللَّه أَنه قرأَه: وثومها. وقيل: الفوم البر. وقوله: (قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ). قيل في " أدنى " بوجوه: قيل: أَدنى في القيمة. وقيل: أدنى في الخطر والرغبة. وقيل: أدنى في المنافع. وقيل: أَدنى؛ لما لا يصل هذا إليهم إلا بالمؤنة والمشقة، وذلك لهم بلا مؤنة ولا مشقة؛ فهو خير. وكل يرجع إلى واحد، واللَّه اعلم. ويحتمل: أَدنى، أَي: أَدْوَن وأَقل، ولا شك أن ما طلبوا، وسَأَلوا دون الذي كان لهم. ويحتمل: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ): قد أعطوا.

ولو كان ذلك أَصلح لهم في الدِّين، لم يكن موسى ليلومهم عليه. ثبت أنه لم يكن، ثم أعطوا ذلك. ثبت أَن اللَّه تعالى قد يجوز له -في الحكمة- فعل ما كان غيره أَصلح لهم في الدِّين، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (اهْبِطُوا مِصْرًا). قيل: المصر المعروف. وقيل: مصر من الأَمصار؛ لأن ما طلبوا لا يوجد إلا في الأَمصار، وباللَّه التوفيق. وقوله: (فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ). من الأَطعمة المختلفة إن كان المراد منه المراد، وإن كان الأَطعمة المختلفة فَهو كما قال. وقوله: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ). قيل فيه بوجوه: قيل: الذلة: ذلة احتمال المؤنة والشدائد؛ لما سأَلوا من الأَطعمة المختلفة. وقيل: الذلة: ذلة الجزية والصغار؛ بعصيانهم ربهم. وقيل: ذلة الكسب والعمل؛ لأَن الأَول كان يأْتيهم من غير كسب ولا مؤنة. وقوله: (وَالْمَسْكَنَةُ). قيل: هي الفقر والحاجة. وقيل: قطعُ رجائهم من الآخرة؛ لما عصوا ربهم. وقوله: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ). قيل فيه بوجوه: قيل: باءُوا: رجعوا. وقيل: استوجبوا. وقيل: أَقَروا، وكله يرجع إلى واحد.

وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ). قد ذكرنا فيما تقدم: أَن الآيات، هي الحجج التي أعطى الرسل، وأَجراها على أيديهم. وقال الحسن: هي دين اللَّه. وقوله: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ). يحتمل: أن يكون هذا في غيرهم؛ لأَنه لم يكن في زمن موسى نبي سوى هارون، وهم لم يقتلوه. إلا أَن يقال: إن ذلك كان من أولادهم بعد موسى. أو كان ذلك من غيرهم سوى هَؤُلَاءِ وأَولادهم. على أَن قتل الأَنبياء في بني إسرائيل كان ظاهرًا، حتى قيل: قتل في يوم كذا كذا نبيًّا. ولم يذكر قتل رسول من الرسل، وذلك - واللَّه أعلم - لقوله: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلنَا) ولقوله: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)، أَخبر أَنه ينصرهم، وأَنهم منصورون ومن كان اللَّه ناصره فهو المنصور أَبدا. ولأَن الرسل هم الذين أُوتوا الآيات المعجزة؛ فلم يكن لهم استقبال الرسل بذلك للآيات التي كانت معهم. وأما الأَنبياء، فلم يكن معهم تلك الآيات المعجزة، وإنما كانوا يدعون الخلق إلى دين اللَّه بالآيات التي كانت للرسل، والحجج التي كانت معهم؛ لذلك كان ما ذكر، والله أعلم. قال قوم: لم يقتل أَحد من الرسل، وإنما قتل الأَنبياء، أَو رسل الرسل. فإن كان كذلك فعلى ذلك يخرج ما ذكرنا من الآيات. وإن لم يكن فالنصر كان بالحجج والآيات؛ فكانت تلك للكل. وعلى ذلك: لا دلالة في كون الآيات مع الأَنبياء، وغير كونها، فإن لم يكن لهم ابتداء شرع، ولا نسخ، بل على الدعاء إلى ما سبق من الشرائع وكانت آياتهم كآيات الرسل، أَو دلالات العصمة، مع ما كان بهم حفظ الكتب السماوية بلا تبديل. واللَّه أَعلم بالحق في ذلك، ونعتصم باللَّه عن بسط اللسان في ذلك، بالتدبير، دون شيء ظهر على أَلسن الرسل، أَو القول فيهم بشيء إن كانت آية لكل، أَوْ لا. لكن الله تعالى قد أَقام حجته لكلٍّ على قدر الكفاية والتمام.

(62)

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62). قيل: إن اليهود والنصارى وهَؤُلَاءِ جائز أَن يكون لهم تعلق بظاهر هذه الآية؛ لأنهم كانوا يقولون: إنا آمنا باللَّه، وآمنا باليوم الآخر، فليس علينا خوف ولا حزن. لكن الجواب لهذا وجوه: أَحدها: أَنّه ذكر المؤمنين بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)، وإيمانهم ما ذكر في آية أخرى وهو قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ). وهم قد فرقوا بين الرسل، بقولهم: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ). وفرقوا بين الكتب أيضًا: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض. فهَؤُلَاءِ الذين ذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - في هذه الآية، هم الذين آمنوا بجميع الرسل، وآمنوا بجميع الكتب أيضًا. فإذا كان هذا إيمانهم لم يكن عليهم خوف ولا حزن. والثاني: ذَكَر الإيمان باللَّه. والإيمان باللَّه هو الإيمانُ بجميع الرسل، وبجميع الكتب. ولكنهم لا يؤمنون باللَّه، ولا يعرفونه في الحقيقة. أو أَن يقال: ذكَر عملَ الصالحات، والكفرُ ببعض الرسل ليس من عمل الصالحات؛ لذلك بطل تعلقهم بهذا، واللَّه أعلم. وقيل: ذلك على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: إن الذين هادوا والنصارى من آمن منهم باللَّه واليوم الآخر، والذين آمنوا. . . الآية. وللمعتزلة تعلق أيضًا بظاهر قوله: (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). وصاحب الكبيرة عليه خوف وحزن، فلو كان مؤمنا لكان لا خوف عليه ولا حزن؛ لأَنه أَخبر أَن المؤمن لا خوف عليه ولا حزن؛ فدل: أَنه يخرج من إيمانه إذا ارتكب كبيرة. فيقال لهم: لم ينف عنهم الخوف، والحزن في كل الوقت. فيحتمل: أَن يكون عليه خوف في وقت، ولا يكون عليه خوف في وقت آخر؛ لأن لكل مؤمن خوفَ البعث وفزعه حتى الرسل، بقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا

(63)

أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا)؛ لشدة فزعهم من هول ذلك اليوم. فإذا دخلوا الجنة، ونزلوا منازلهم، ذهب ذلك الخَوف والفزع عنهم، فعلى ذلك المؤمن: يكون له خوف في وقت، ولا يكون عليه خوف في وقت آخر، واللَّه أعلم. واختلف في الصابئين: قيل: الصابئون: قوم يعبدون الملائكة، ويقرءُون الزبور. وقيل: إنهم قوم يعبدون الكواكب، وقيل: هم قوم بين المجوس والنصارى. وقيل: هم قوم بين اليهود والمجوس. وقيل: هم قوم يذهبون مذهب الزنادقة؛ يقولون باثنين لا كتاب لهم، ولا علم لنا بهم. قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ). قد ذكرنا فيما تقدم: أَن ميثاق اللَّه، وعهده على وجهين: عهد خلقة وفطرة، وعهد رسالة ونبوة. وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) في التوراة أَن يعملوا بما فيها، فنقضوا ذلك العهد لما رأَوا فيها الحدود، والأَحكام، والشرائع كرهوا؛ فرفع اللَّه الجبل فوقهم، فقبلوا ذلك. ويحتمل ما ذكرنا من عهد خلقة وفطرة قنقضوا ذلك. وقوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ). قيل: خذوا التوراة بالجد والمواظبة.

(64)

وقيل: " بقوة " يعني: بالطاعة له والخضوع. ثم احتج بعض المعتزلة بهذه الآية على تقدم القدرة الفعلَ؛ لأَنه أمرهم - عَزَّ وَجَلَّ - بالقبول له، والأَخذ والعمل بما فيها. فلو لم يعطهم قوة الأَخذ والقبول له قبل الأخذ له والفعل، لكان لا يأمرهم بذلك؛ لأنهم يقولون: لا قوة لنا على ذلك؛ فدل أنه قد أعطاهم قبل ذلك، لكنه غلط عندنا؛ لأَنه لو كان أَعطاهم القوة قبل الفعل، ووقت الأَمر به، ثم تذهب عنهم تلك القوة وقت الفعل - لكان الفعل بلا قوة؛ إذ من قولهم: أن القوة لا تبقى وقتين؛ فدل: أَنها تحدث بحدوث الفعل، لا يتقدم ولا يتأخر، ولكن يَكونان معًا. ولأَنها سميت: قدرة الفعل، فلو كانت تتقدم الفعل، لم يكن لإضافة الفعل إليها معنى، واللَّه أعلم. والأَصل في ذلك: أَن اللَّه - تعالى - قال: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) ومعلوم أَن المرادَ من ذلك الأَخذُ بقوة الآخذ. ثم فيه وجهان: أَحدهما: أَن للأَخذ قوة غير التي للترك. والثاني: أَنه ذكر الأَخذ بقوة، فإذا لم تكن معه لم يكن بها أَن يرى أَن الوقت إذا تباعد لم يحتمل بما تقدم من القوة أَوقاتًا؛ فمثله وقت واحد. وقوله: (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). قيل فيه بوجوه: قيل: اذكروا، واحفظوا ما فيه من أَمره ونهيه، ولا تضيعوه؛ لعلكم تتقون المعاصي والمآثم. ويحتمل: اذكروا ما فيه من التوحيد والإيمان؛ لعلكم تتقون الشرك والكفر. ويحتمل: اذكروا ما فيه من الأَحكام والشرائع. ويحتمل: الثواب والعقاب، والوعد والوعيد. وكله واحد. وقوله: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ (64) يعني: من بعد القبول. دل هذا على: أَنهم كانوا قَبِلوا ذلك مرة، قبل أَن يأْتيهم موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بها؛ فلما أَتاهم -

(65)

ورأَوا التشديد، والمشقة- أَبوا قبولها، وتركوا العمل بما فيها من الأَحكام والشرائع؛ فخُوِّفُوا برفع الجبل فوقهم؛ فقبلوا ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ). يحتمل وجوهًا: قيل: فضل اللَّه عليكم الإسلام ورحمته: القرآن. وقيل: فضل اللَّه عليكم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، بعث إليكم رسولًا؛ ليجمعكم، ويؤلف بينكم، ويدعوكم إلى دين اللَّه الحق، بعد ما كنتم في فترة من الرسل، وانقطاع من الدِّين والعمل. ويحتمل: فضل اللَّه عليكم؛ لما أَنجا آباءَكم من العذاب، ولم يرسل عليهم الجبل، وإلا ما توالدتم أَنتم. وقيل: فضل اللَّه عليكم؛ لما أَعطاهم التوراة، ووفقهم على قبولها، وإلا كنتم من الخاسرين. وبعضه قريب من بعض. وقوله: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ (65) فيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. كأنه قال: ولقد علمتم أَن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يعلم الذين اعتدوا منكم في السبت، ولا كان علم ما فُعِل بهم، ثم علم ذلك؛ فإنما علم باللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأَنه لم يكن قرأَ كتابكم، ولا كان يختلف إلى أَحد ممن يعرف ذلك؛ فباللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عرف ذلك، وبه علم؛ فدل: أَنه رسول اللَّه إليكم. ويحتمل قوله: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ). أي: علمتم ما أَصاب أُولئك باعتدائهم يوم السبت بالاصطياد، وكنتم تقولون: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). يعني: أَبْناءُ رسل اللَّه وأَحباؤُه. فلو كان كما تقولون، لم يكن ليجعلهم قردةً -وهي أَقبحُ خلق اللَّه، وأَوحشُه- إذ مثل ذلك لا يُفعل بالأَحباء ولا بالأَبناءِ. أَو أَن يحمل على التحذير لهَؤُلَاءِ؛ لئلا يُكذبوا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا يعصوه في أَمره، فيصيبكم ما أَصاب أُولَئِكَ؛ بتكذِيبهم موسى، وعصيانهم أَمرَه، واللَّه أعلم. ثم سبب تحريم الاصطياد في السبت كان -واللَّه أعلم- لما قيل: إن موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أراد أَن يجعل يومًا لله، خالصًا للطاعة له، والعبادةِ فيه -وهو يوم الجمعة- فخالفوا هم أَمره

(66)

ونهيَه، وقالوا: نجعل ذلك اليوم السبت؛ لأَنه لم يُخلق لعمل. فحرم الاصطياد في ذلك اليوم لذلك وحولوا قردةً؛ عقوبة لهم لما نهوا عن الاصطياد في ذلك اليوم فاصطادوا. وعلى ذلك تأْويل قوله: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ)، يعني: يوم الجمعة. وقيل: (اخْتَلَفُوا فِيهِ)، يعني: في اللَّه. ثم اختلف في قوله: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ): قال قوم: قوله: (كُونُوا قِرَدَةً) من الأصل؛ على ذهاب الإنسانية منهم. وقيل: حَوَّل جَوْهَرهم إلى جوهر القردة، على إبقاءِ الإنسانية فيهم؛ من الفهم والعقل؛ لأَنه قيل: إن الذين كانوا يَنْهَوْنهم عن الاصطياد في ذلك اليوم دخلوا عليهم، فيقولون لهم: أَلم نَنْهكم عن ذلك، ونزجزكم؟! فَآومئوا: أَي نعم. ودموعهم تفيض على خدودهم. فلو كان التحويل على ذهاب جميع الإنسانية منهم لكانوا لا يفهمون ذلك، ولا حزنوا على ما أَصابهم؛ لأَن كل ذي جوهر راضٍ بجوهره الذي خلقه اللَّه سبحانه يُسَرُّ به. ولأَن تحويله إياهم قردةً عقوبةٌ لتمردهم في التكذيب، وجرأتهم على اللَّه؛ ليعلموا ذلك، ويروا أَنفسهم أَقبحَ خلقِ اللَّه وأَوحشَه. وفيه نقض قول المعتزلة؛ لأَنهم يقولون: ليس في خلق اللَّه قبيح. فلو لم يكن في خلق اللَّه قبيح لم يكن لتحويل صورتهم من صورة الإنسان، إلى أَقبح صورةٍ معنًى؛ ليروا قبح أنفسهم؛ عقوبةً لهم بما عَصَوْا أَمر اللَّه، ودخلوا في نهيه. وقوله: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا (66) قيل: الهاء راجعة إلى القرية التي كانوا فيها. وقوله: (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا). من أَهل القرية. وقوله: (وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ). حواليها. وقيل: أَراد بالهاءِ: القرية، (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) من القرى، (وَمَا خَلْفَهَا) من القرى.

(67)

وقيل: أَراد بالهاءِ: العقوبة والنكالَ، (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) يعني: لما مضى من الذنوب. (وَمَا خَلْفَهَا) يعني: ما بَقي، واللَّه أَعلم. وقوله: (خَاسِئِينَ). قيل: الخاسئ: الصاغرُ. وقيل: الخاسئ: الذليلُ. وقيل: البعيدُ. وكله يرجع إلى واحد، واللَّه أَعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74). وقوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً). قيل: قُتِل قتيلٌ في بني إِسرائيل، وأُلْقيَ على باب غيرِهم؛ فتنازعوا فيه واختلفوا؛ فأَمر اللَّه نبيه موسى أَن يذبحوا بقرةً، فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فاضربوا ببعضها ذلك الميت؛ فيحيى، فيقول: مَنْ قتلني. وقوله: (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا

هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: كفروا بهذا القول؛ لأَنهم سمَّوْه هازئًا، ومن سَمَّى رسولًا من الرسل هازئًا يكفر؛ أَلا ترى أَنهم قالوا في الاخِر: (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ)؟! دل أَن ما قال لهم أَولَ مرةٍ ليس بحق عندهم. وليس هذا بشيء. ولا يحتمل ما قالوا. ولكن يحمل على المجازاة، كأَنهم قالوا: أتجازينا بهذا لما مضى منا وسبق من العصيان بك، والخلاف لك؟! لما لم يعلموا أَنه من عند اللَّه يأْمر بذلك. وهذا وأَمثاله على المجازاة جائزٌ على ما ذكرنا من الاستهزاءِ، والمخادعة، والمكر، كله على المجازاة جائز. وكقول نوح لقومه: (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)، على المجازاة جائز على ما ذكرنا من الاستهزاء؛ فكذلك الأَول. وأما الاستهزاء فيما بين الخلق فهو جهل يسخر بعضهم ببعض؛ لجهلٍ بأَحوال أَنفسهم؛ إذ كلهم سواء مِن جهة الجوْهر والخِلْقة، وتركيب الجوارح، وتصوير الصُّور، وتمثيلها. أَلا ترى: أن موسى أجاب لهم عن الهزء بالجهْل، فقال: (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)؟! دل أَن الهزء في الخلق لجهلٍ فيهم، وباللَّه التوفيق. ثم استدل قوم بهذه الآية على: عموم الخطاب وقت قرْع السمع؛ لأَنه أَمرهم بذبح بقرة لم يبين لهم كيفيَّتها، ولا ماهيتها وقت الخطاب، إلا بعد البحث والسؤال عنها؛ فثبت أَنه على العموم. أَلا ترى ما روي في الخبر: " لو عمدوا إلى أَدنى بقرة لأَجزأتهم، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد اللَّه عليهم ". لكن هذا لا يصح؛ لأَنه دعوى على اللَّه، لحدوث شيء في أَمره، وبُدُوٍّ في حكمه، فذلك كفرٌ، لا يقوله مسلم، فضلًا عن أَن يقولَ به رسولٌ من الرسل.

تأْويل هذا أَنه قال: إنه يقول كذا، فلو كان الأَول على: غير ذلك لكان قد بدا له فيما عم وفسر بما لم يكن أَرادَ. وذلك معنى البداءِ، بل معنى الرجوع عن الأَول مما أَراد، والتفسير له بغَيره، ولا قوة إلا باللَّه. ثم في الآية دليل خصوص الخطاب من وجهين: أَحدهما: أَخذُ كل آيةٍ خرجت في الظاهر على العموم حتى الخصوص. والثاني: جواز تأْخير البيان على تقدم الأَمر به؛ لما ذكرنا: أنها لو حملت على العموم -وهو مرادها- ثم ظهر الخصوص، فهو بدو وحدوث في الأَحكام والشرائع، فذلك حال من جهل العواقب والنهايات، تعالى اللَّه عن ذلك. ومعنى سُؤالهم؛ بدعاءِ الرب لهم: البيان بما أريد جعل ذلك آية؛ فوقع عندهم: أَنْ لا كل بقرة تصلح للآيات، ولذلك لم يسأَلوا موسى عن تفسيرها؛ إذ اللَّه - تعالى - هو الذي يعلم الآيات. والحرف الثاني هو الأَول الذي قلنا: إليه انصرف المراد في الابتداءِ؛ لما يوجبه، وأَن الأَمر بالذبح في الابتداءِ كان على ما آل أَمرها إليه وظهر. لكنهم أمروا بالسؤال عنها، والبحث عن أَحوالها؛ ليصلوا إلى المراد فيه، لا أَنه أَحدث لهم ذلك بالسؤال. وعلى ذلك: ما روي في الخبر: " أَن صلة الرحم تزيد في العمر ". أَي: لما علم من عبده أَنه يصل رحمه، جعل مدة عمره أَكثر مما لو علم أَنه لا يصل، لا أَنه يجعل أَجله إلى وقت، فإذا وصل رحمه زادَ على ذلك. لا على ما يقوله المعتزلة: أَن اللَّه - تعالى - يجعل لكل أَحد أَجلين، فإذا وَصل رحمه أَماته في أَبْعد الأَجلين، وإذا لم يصل جعلَ أَجله الأولَ. فهذا أَمر من يجهل العواقب، فأَما من كان عالمًا بالعواقب فلا؛ لأَنه بدوٌّ ورجوعٌ عما تقدم من الأَمر. ثم من استدل بهذه الآية: بقبول قول أَولياءِ المقتول وَهِمَ؛ لأَوجهٍ: أَحدها: ما لا يقبل قول القتيل قبل خروج الروح منه: إنَّ فلانًا قتلني، في قطع حَق الميراث، وإغرام الدية.

والثاني: أَن ذلك كان آية عظيمة لهم، لم يكن ذلك لغيرهم. والثالث: أَن أَولياء المقتول قد كانوا -قبل أن يحيى- يدَّعون عليهم القتل، فلو كان لهم حق القبول، لم يحتج إلى تلك الآية. والرابع: أَن قبول قول الميت أَحق من قبول قول الولي؛ لأَن الوليَّ ينتفع بقوله، والميت لا ينتفع بقوله شيئًا، ثم القتيل لا يقبل قوله في شريعتنا فكذلك الولي، والله الموفق. ثم وَجْه جعْلِ البقرة آيةً دون غيرها من البهائم وجهان: أَحدهما: ما رُويَ أن رجلًا كان بارًّا بوالديْه، محسنًا إليهما عاطفًا عليهما، وكانت له بقرة على تلك الصفة والشبه، فأراد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أَن يوصل إليه في الدنيا جزاء ما كان منه بمكان والديْهِ. والثاني: أَنهم كانوا يعبدون البُقُور والعَجَاجيل، وحُببَ ذلك إليهم؛ كقوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)، ثم تابوا وعادوا إلى عبادة اللَّه وطاعته، فأَراد اللَّه أَن يمتحنهم بذبح ما حُبِّب إليهم؛ ليظهر منهم حقيقة التوبة، وانقلاع ما كان في قلُوبهم من حب البُقُور والعجاجيل، واللَّه أَعلم. وقوله: (لَا فَارِضٌ).

(69)

يقول: ليست بكبيرة. وقوله: (وَلَا بِكْرٌ). ولا شابة. وقوله: (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ). بين الشابة والكبيرة. وقل: (لَا فَارِضٌ): لا كبيرة، على ما ذكرنا (وَلَا بِكْرٌ)، أي: ولا ما لا تلد، (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) أي: قد ولدت بطنًا أَو بَطنَين. وقوله: (صَفْرَاءُ (69) قيل: الصفراءُ؛ التي تضرب إلى السواد، وذلك لشدته. وقيل: الصفراءُ؛ من الصفَر المعروف. وقوله: (فَاقِعٌ لَوْنُهَا). قيل؛ صَافٍ. وقوله: (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ). تُعْجِب الناظرين. وقيل: (فَاقِعٌ لَوْنُهَا). صَفْرَاءُ الظلف والقَرن، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) وقوم موسى مع غلظ أفهامهم، ورقة عقولهم - أَعرف لله، وأَمهلُ توحيدًا من المعتزلة؛ لأَنهم قالوا: إنْ شَاءَ اللَّه لكنا من المهتدين. والمعتزلة يقولون: قد شاءَ اللَّه أَن يهتدوا، وشاءُوا هُم ألا يهتدوا؛ فغلَبَتْ مشيئَتُهم

(71)

على مشيئة اللَّه على قولهم - فنعُوذ باللَّه من السَّرَفِ في القول، والجهل في الدِّين. وقوله: (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا (71) قيل: لم يذللها للعمل؛ أَي: لم يزرع عليها، ولا هي مما يُسقى عليها الحرث. وقيل: (لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ)؛ أي: بقرة وحسية صعبة، تثير الأَرض، ولكن إثارة الأَرض لم تذللها؛ لصعوبتها وشدتها. وقوله: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ). قيل فيه بوجوه: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)، خوفًا على أَنفسهم أَن يفتضحوا لظهور القاتل. وقيل: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) لغلاءِ ثمنها. والأولُ أَقرب، واللَّه أعلم. وقيل: إنهم استقصَوْا في صفة تلك البقرة، والسؤال عن أحوالها، والاستقصاءُ في الشيء ربما يكون للمدافعة، واللَّه الموفق. وفي قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) دليل لأَبي حنيفةَ - رَحمَهُ اللَّه وَأصحابِه - أَن من حَلَف لا يأْكل لحم بقرَةٍ، فأَكل لحْم ثَور حنث؛ لأَن اللَّه تعالى ذكر البقرةَ، ثم بين في آخره ما يدل أَنه أَراد به الثورَ؛ لقوله: (لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ). والثوْرُ هو الذي يثير الأَرض، ويسقي الحرث، دون الأُنثى منها؛ لذلك كان الجواب على ما ذكرنا. إلا أَن يكونوا همْ كانوا يحرثون بالأُنثى منها كما يَحرث أَهل الزمان بالذكَر، فحينئذ لا يكون فيه دليلٌ لما ذكرنا، واللَّه أَعلم. وقوله: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) في الآية: دليلُ مُرادِ الخصوص -وإن خرجت في الظاهر مخرج العموم- لأَنه قال عز وجل: (قَتَلْتُمْ)، وإنَّمَا قتله واحد، وقال: (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)، وإنما كان كتمه الذي قتله.

(73)

لذلك قلنا: ألا نصْرف مرادَ الآية إلى العموم بلفظ العموم، ولا إلى الخصوص بلفظ الخصوص إلا بعد قيام الدليل والبرهان على ذلك، واللَّه الموفق. وقوله: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا (73) قَالَ بَعْضُهُمْ: بفخذها الأَيمن. لكن هذا لا يعلم إلا بخبر عن اللَّه تعالى، ولكن يقال: (بِبَعْضِهَا) بقدر ما في الكتاب. وقوله: (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى). أَي: هكذا يُحي اللَّه الموتى، من الوجه الذي لا يتوهمون إحياءَه، بضرب بعض البقرة عليه. وكذلك قوله: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9). فكما أَحيا الأَرض بَعد موتها بالمطر المنزل من السماءِ، يقدر على إِحياءِ الموتى، وبعثهم على الوجه الذي لا يظنون ولا يتوهمون، واللَّه أعلم. ويحتمل: إِحياء ذلك القتيل لهم، لما لم يكونوا اطمَأنوا على إِحياءِ الموتى؛ فأَرَاهُم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك؛ ليطمئنوا، وليَستَقِروا على ذلك، ولا يضطَربوا فيه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ). يحتمل: يُريكم آيات وحدانيته. ويحتمل: يريكم آيات إِحياءِ الموتى، وآيات البعث. ويحتمل: آياته فيما تحتاجون إليه، كما أَرى من تقدمكم عند حاجاتهم. ويحتمل: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) آيات نبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ هو خَبَّر عن الغيب. وأَوضح آيات الرسالة؛ الخَبَرُ عن الغئبِ، وذكرُ القصة على الوجه الذي يعلم أَن الاختراع لا يبلغ ذلك؛ لتعلموا أَنه باللَّه علم؛ إذ لم يذكر له خط كتاب، ولا اختلافٌ إلى من عنده. على أَنه لو كان مسموعًا منهم، يجري على مثله القول في الزيادة والنقصان، ولكن منعهم اللَّه تعالى عن ذلك -إذ علموا صدقه- إِشفاقًا على أَنفسهم، أَن ينزل عليهم نِقْمة اللَّه. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). لكي تعْقلُوا آيات وحدانيته، وتعقلوا أَنه قادر على إِحياءِ الموتى بَعْدَ الموت. وقوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (74)

(75)

ضرب اللَّه لقلوبهم مثلًا بالحجارة، وشبهها بها؛ لتساويها، وشدة صلابتها، وأَنها أشدُّ قسوة من الحجارة، وذلك: أَن من الحجارة -مع صلابتها وشدتها، مع فقد أسباب الفهم والعقل عنها، وزوال الخطاب منها- ما تخضع له، وتتصدع؛ كقوله: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ). وقوله: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ. . .) الآية. وقلبُ الكافر -مع وجود أسباب الفهم والعقل، وسعة سببية القبول- لا يخضع له، ولا يلين. وكذلك أَخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عن الجبال أَنها تلينُ، وتخضع لهول ذلك اليوم بقوله: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ). وقلبُ الكافر لا يلين أَبدًا. أَو أَن يقال: إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جعل من الجبال مَنافِع للخلق مع صلابتها وشدتها حتى يتفجر منه الأَنهار والمياه. وقلبُ الكافر -مع احتمال ذلك وإمكانه- لا منفعة منه لأَحدٍ. وباللَّه الئوفيق. ثم وجه حكمة ضرب قلوبهم مثلًا بالحجارة، وتشبيهها بها، دونَ غيرها من الأَشياء الصلبة؛ من الحديد، والصُّفْر، وغيرهما، وذلك - واللَّه أعلم - أَن الحديد تُلينه النار، وكذلك الصُّفْر حتى تضرب منهما الأَواني. والحجرُ لا تُلينهُ النار ولا شيء؛ لذلك شبه قلب الكافر بها. وهذا - واللَّه أعلمَ - في قوم علم اللَّه أَنهم لا يؤمنون أَبدًا. وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). خرجت على الوعيد -أبلغ الوعيد- والوعظ؛ حين ذَكرهم علمه بما يعملون. * * * قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وقوله: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ). قيل: الآية -وإن خرجت على عموم الخطاب- فالمراد منها الخصوص، وهو

(76)

الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وإلى هذا يذهب أَكثر أَهل التفسير. وقيل: المراد منها -بعموم الخطاب- العموم؛ يعني: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأَصحابه؛ وكأَنها خرجت على النهي عن طمع الإيمان منهم، كأَنه قال: لا تطمعوا في إيمانهم. كقوله: (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ)؛ أي: لا تُنقذ. وكقوله: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ)؛ أَي: لا تسمع الصم. وقوله: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ. . .) الآية. لقائلٍ أن يقول: أَليس فيما كان فريقٌ منهم يسمعُون كلام اللَّه ثم يحرفونه ما يجب أَن يدفع الطمع عن إيمان هَؤُلَاءِ؟ فهو - واللَّه أعلم - لوجهين: أَحدهما: أَنهم كانوا أصحاب تقليد؛ كقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ). فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أَن هَؤُلَاءِ -وإن رأَوا الآيات العجيبة- فإنهم لا يؤمنون أَبدًا؛ لأَنهم أَصحاب تقليد، لا ينظرون إلى الحجج والآيات. والثاني: أَنهم - معَ كثرة ما عاينوا من الآيات، وشاهدوا من العجائب في عهد رسول اِلله موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يطمع في إيمانهم، فكيف طمعتم أَنتم في إيمان هَؤُلَاءِ، وهم أتباعهم؟ واللَّه الموفق. ولهذا وجهان آخران: أحدهما: كأنه قال: لا تطمع في إيمانهم؛ لأَنهم - في علم اللَّه على ما عليه من ذكر. والثاني: لأن أُولَئِكَ كانوا خيرًا من هَؤُلَاءِِ، وأَرغبَ في الحق منهم، ثم لم يؤمنوا مع سماع الحجج، وما يجب به الإيمان، فكيف تطمع في إيمان هَؤُلَاءِ؟ وقوله: (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). أنه من عند اللَّه، ويعلمون أَنه رسول اللَّه، وأَنه حق. وقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا (76) فقد ذكرنا فيما تقدم أَنها في المنافقين نزلت. وقوله: (وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ).

(77)

يحتمل وجهين: يحتمل: خلا بعض المنافقين إلى بعض، قالوا: أَتحدثونهم بكذا. ويحتمل: خلاء المنافقين إلى اليهود. وقوله: (قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ). قيل: فتح اللَّه؛ قصَّ اللَّه. وقيل: فتح اللَّه؛ بيَّن اللَّه. وقيل: فتح اللَّه؛ قضى اللَّه. وقيل: منَّ اللَّه عليكم في التوراة. وكله يرجع إلى واحد. وقوله: (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ). أي: باعترافكم عند هَؤُلَاءِِ. ويحتمل: على إضمار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كأَنه قال: ليحاجوكم بإقراركم عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويحتمل: على معنى ليحاجوكم به عند ربكم أي في ربكم؛ إذ العرب تستعمل حروف الخفض بعضها في موضع بعض. ويحتمل: عند ربكم، أَي: يوم القيامة. ويكون ليحاجوكم بما عند اللَّه؛ أَي: بالذي جاءكم من عند اللَّه. لكن لقائل أَن يقول: ما معنى ذكرِ المحاجَّةِ عند ربكم، والمحاجةُ يومئدٍ لا تكون إلا عنده، ولا تكون ليحاجوكم بها عند اللَّه؛ أَي: بالذي جاءَكم من عند اللَّه؟ قيل: لأَن ذلك أَشد إِظهارًا، واقل كتمانًا؛ لما لممبق منهم الإقرارُ بذلك؛ لذلك نهوا عن ذلك، لأَنهم كانوا يَنْهوْن أُولَئِكَ عن الإقرار بالإيمان عند المؤمنين، وإظهار ما في التوراة من بَعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وَصِفته. وقوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ). أَنَّ هذه حجةٌ لهم عليكم، حيث تعترفون به، وتظهرون نعته وصفته ثم لا تبايعونه. ويحتمل: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أَنه حق. وقوله: (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)

(78)

قيل: (مَا يُسِرُّونَ) في الخلوة؛ من الكفر به والتكذيب له (وَمَا يُعْلِنُونَ) لأصحابه؛ من التصديق له والإيمان به. وقيل: (مَا يُسِرُّونَ) من كتمان نعته وصفته. (وَمَا يُعْلِنُونَ) من إظهار نعته وصفته الذي في التوراة. ويحتمل: ما يُسِرُّ هَؤُلَاءِِ لهم من النهي عن إظهار ما في التوراة، وما يُعْلِنُ هَؤُلَاءِ للمؤمنين من إظهار نعته وصفته، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ (78) يقول: مِنَ اليهود من لا يقرأ التوراة ولا يعرفها، إلا أَن يحدثهم العلماء والرؤساء عنها. والأُمِّي: الذي لا يكتب، ولا يقرأ عن كتابة، لكنه يقرأ لا عن كتابة، كالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كان لا يكتب، ولا يقرأ عن كتابة؛ كقوله: (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ). ويقال أَيضا: الذي لا يقرأ ولا يكتب، لا عن كتابة، ولا غير كتابة. وقوله: (إِلَّا أَمَانِيَّ). قيل: أَحاديث باطلة يحدث لهم، وهو قول ابن عَبَّاسٍ. وقيل: إِلَّا أَمَانِيَّ، يعني إلا كذبًا. وقال الكسائى: إلا أَمانى: إلا تِلاوة؛ كقوله: (إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، يعني: في تلاوته. وقوله: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، يقول: ما هم إلا ظن يظنون في غير يقين. وأَصله: أَي لا يعلمونَ علم الكتاب، إنما عندهم أماني النفس وشهواتها؛ كقوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ).

(79)

وقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (79) قيل: الويلُ: الشدةُ. وقيل: الويلُ: وادٍ في جهنم. وقيل: الويل: هو قول كل مكروب وملهوف يقول: ويلٌ له بكذا. وقوله: (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) يحتمل وجهين: يحتمل: يكتبون: يمحون نعته، وصفته عن التوراة. ويحتمل: يكتبون: يُحْدثون كتابة، على خلاف نعته وصفته، ثم يقولون: هذا من عند اللَّه؛ فتكون الكتابة في هذا إثباتًا؛ كقوله: (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ)، والمثبت: هو ذلك الملحق ليظن أنه كذلك في الأَصل. وقوله: (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). قد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله: (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ). ذكر لهم ثلاث ويلات: ويل؛ بإِحداث كتابة ببعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومحوه وتغييره. والثاني: بقولهم: هذا من عند اللَّه. والثالث: وويل لهم مما يكسبون من المأكلة والهدايا. * * * قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وقوله: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً). أَجمع أَهل التفسير والكلام على صرف الأَيام المعدودة المذكورة في هذه الآية إلى أَيام عبادة العجل. وذلك لا معنى له؛ لوجهين:

(81)

أحدهما: أَن هَؤُلَاءِ لم يعبدوا العجل، وإنما عبد آباؤُهم؛ فلا معنى لصرف ذلك إلى هَؤُلَاءِ. والثاني: لو صرف ذلك إلى آبائهم الذين عبدوا العجل لم يحتمل أيضًا؛ لأَنهم قد تابوا ورجعوا عن ذلك؛ فلا معنى للتعذيب على عبادة العجل بعد التوبة والرجوع إلى عبادة اللَّه؛ كقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، واللَّه أعلم. وتصرف الأَيام المعدودة إلى العمر الذي عَصَوا فيه؛ لما لم يروا التعذيب إلا على قدر وقت العصيان والذنب، أَو لما لم يكونوا يروْن التخليد في النار أَبدًا، أو لما هم عند أنفسهم، كما أَخبر اللَّه عنهم، بقوله: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) وكقولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). يقولون: إنا لا نُعذَّب أَبدًا، إنما نعذَّب تعذيب الأَبِ ابنَه أو الحبيبِ حبيبَه؛ يعذِّب في وقت قليل، ثم يرضى، ويدخل الجنة. ولكن عقوبة الكفر أبدًا، والتخليد فيها لا لوقت، وكذلك ثوابُ الإيمان للأَبد لا لوقت؛ لأَن من اعتقد دينًا إنما يعتقده للأبد لا لوقت؛ فعلى ذلك جزاؤه للأَبد لا لوقت. وأما من ارتكب ذنبًا من المسلمين؛ بشهوة تغلبه في وقت، فيرتكبه، ثم يتركه - فإنما يعاقب إن عوقب على قدر ما ارتكب في وقتٍ؛ لأَنه لم يرتكبه للأَبد؛ لذلك افترقا، والله أعلم. وقوله: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ). والعهد يحتمل: هل عندكم خبر عن اللَّه تعالى بأنكم لا تعذبون أبدًا، ولكن أيامًا معدودة؛ فإن كان لكم هذا فهو لا يخلف عهده. والثاني: اتخذتم عند اللَّه عهدًا، أي لكم أعمال صالحة عند اللَّه فوعدكم بها الجنة، فهو لا يخلف وعده. أَي: ليس لكم واحد من هذين، لا خبرٌ عن اللَّه بأنه لا يعذبكم، ولا أَعمال صالحة وعد لكم بها الجنة. وقوله: (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) هذا إكذابٌ من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إِياهم بذلك القول، كأنه قال: بل تقولون على اللَّه ما لا تعلمون؛ أَلا ترى أنه قال: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)؟! يقول: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) يعني: شركًا (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)، أَي: مات عليها.

(82)

(فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). لا يموتون فيها ولا يخرجون منها. وقيل: (وَأَحَاطَتْ بِهِ): بقلبه. وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) قد ذكرنا هذا فيما تقدم. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ). قد ذكرنا عهد اللَّه وميثاقه أَنه يكون على وجهين: عهد خِلْقة وفطرة، وعهد رسالة ونبوة. وقوله: (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ). يحتمل وجهين: يحتمل: لا تجعلون الألوهيةَ إِلا لله. ويحتمل: نفس العبادة، أَي: لا تعبدون غير اللَّه، من الأَصنام والأَوثان وغيرهما. وقوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). بِرًّا بهما، وعَطفًا عليهما، وإلطافًا لهما، وخفْضَ الجناح، ولينَ القول لهما؛ كقوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ. . .) الآية، وكقوله: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا). فَإِنْ قِيلَ: إِن الأَمر بالإحسان فيما بين الخلق يخرج مخرج الإفضال والتبرع، لا على الوجوب، واللزوم.

غير أَن الإحسان يجوز أن يكون الفعلَ الحسن نفسَه؛ كقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، استوجبوا هذا بالفعل الحسن، لا بالإحسان إلى الله تعالى، وفعلُ الحسن فرضٌ واجبٌ على كل أَحد. والثاني: أَن الإحسان إِليهم يجوز أَن يكون من حق اللَّه عليهم، وحقُّ اللَّه عليهم لازم، وعلى ذلك صلةُ القرابةِ والمحارِم، والإنفاقُ عليهم من حق اللَّه عليهم، وهو لازم. فهذا ينقض على الشافعي قولَه: إنه لا يوجب النفقة إلا على الوالدين، ولا يتكلم في الآباء والأمهات بالقرابة، ولا سموا بهذا الاسم؛ فدل: أَنه أَراد به غير الوالدين، والله أَعلم. وقوله: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ). يحتمل: على النفْل من الصدقة والفرض جميعًا. وقوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا). يحتمل وجوهًا: يحتمل: لا تكتموا صفة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونعته ولكن أَظهروها. ويحتمل: الدعاء إلى شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ويحتمل: المراد به الكلُّ، كل شيء وكل قول؛ أَي: لا تقولوا إلا حسنًا. واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ). يحتمل: الإقرار بها، والقبول لها. ويحتمل: إِقامتها في مواقيتها، بتمام ركوعها وسجودها وخشوعها. ويحتمل: أن كونوا في حالٍ تكون لكم الصلاة والتزكية.

(84)

وقوله: (وَآتُوا الزَّكَاةَ). يحتمل الوجوه التي ذكرناها في الصلاة. وقوله: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ). الآية ظاهرة. وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ (84) قد ذكرنا الميثاق والعهد في غير موضع. وقوله: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ). يحتمل وجهين: أي: لا تسفكون دماءَ غيركم، فيسفك دماءَكم؛ فتصيرون كأنكم سفكتم دماءَكم. ويحتمل: لا يسفك بعضُكم دماءَ بعض؛ كقوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)، أي: يسلم بعضكم على بعض. وذكر نقض العهد في هَؤُلَاءِِ وإن كان في أَوائلهم؛ لوجهين: أَحدهما: لما رضي هَؤُلَاءِ بفعل آبائهم. والثاني: بقولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ. . .) الآية. وقوله: (وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ). يحتمل أيضا وجهين: يحتمل: ولا يُخرج بعضُكم بعضًا. ويحتمل: لا تخرجوا غيركم من ديارهم، فتخرجون من دياركم؛ على ما ذكرنا في قوله: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ)، واللَّه أعلم. وقوله: (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ). يحتمل: ثم أقررتم وأَنتم تشهدون بالعهد والميثاق، وتشهدون أَنه في التوراة. وقوله: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ (85) يعني: يا هَؤُلَاءِ. وقوله: (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ). يحتمل الوجهين اللذَين ذكرتهما في قوله: (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ). وقوله: (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ). أي: تَعَاوَنُون عليهم، يُعاون بعضكم بعضًا بالإخراج، وهو الظلم والعدوان. وقوله: (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ).

(86)

أي: ذلك الإخراج محرم عليكم. وقوله: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ. . .). الآيةُ -وإن كانت مؤخرة في الذكر- فهي مقدمة؛ كأَنه قال: لا تسفكون دماءَكم ولا تخرجون أَنفسكم، وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ. وقوله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ). آمنوا بالمفَاداة من الأسارى، وكفروا بالإخراج وسفك الدماءِ. ويحتمل: الإيمان ببعض ما في التوراة، وكفروا ببعضها، وهو نَعْت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته؛ إذ لم يكن على موافقة مُرادهم. ويحتمل: أَن فادوا أَسراهم من غيرهم، وسَبَوْا ذَرَاري غيرهم. وقوله: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ). قيل: الخزي في الدنيا إِجلاءُ بني النضير من ديارهم، وإخراجهم إلى الشام. وقيل: مقاتلةُ بني قريظةَ، وسبي ذراريهم، وذلك لحربٍ وقع بينهم، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). ولكن لا يعاقبون في الدنيا، بل يردون إلى أشد العذاب في الآخرة، وإن استوجبوا ذلك في الدنيا؛ كقوله: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ. . .) الآية. وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). وعيد. قد ذكرنا ذلك فيما تقدم. وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) يحتمل: أنهم كانوا آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل خروجه وبعثه، فلما بعث على خلاف مرادهم كفروا به، فذلك اشتراء الحياة الدنيا بالآخرة. ويحتمل: ابتداء اختيار الضلال على الهدى، والحياة الدنيا على الآخرة، من غير أن آمنوا به، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ

(87)

وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ). يعني: التوراة، وهو ظاهر. وقوله: (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ). وقيل: وقفينا: أَرْدَفْنَا، وهو من القفا، قفا يقفو. وقيل: أَتبعنا رسولًا على أَثر رسول؛ كقوله: (فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا)، واحدًا على أَثر واحدٍ. وقوله: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ). قيل: البينات: الحجج. وقِيل: العجائب التي كانت تجري على يديه، من خلق الطين، وإحياء الموتى، وإبراءِ الأكمه والأَبرص، وإِنباءِ ما يأْكلون وما يدخرون. وقيل: البينات: الحلال والحرام. ثم الرسل في أَنفسهم حفظوا حججًا؛ فلم يحتج كل قول يقولون إلى أن يكون مصحوبًا بدليل وبيانٍ على صدقهم؛ لأَنهم في أَنفسهم حجة. وأما سائر الناس فليسوا بحجج في أَنفسهم، فلا بد لكل قول يقولون أَن يأتوا بدليلٍ يدل على صدقهم، وبيانٍ يُظهر الحق من الباطل، والصوابَ من الخطأ، والصدقَ من الكذب. وباللَّه التوفيق. وقوله: (وَأَيَّدْنَاهُ): قويناه.

(بِرُوحِ الْقُدُسِ). اختلف فيه: قيل: روح القدس: جبريل. وفي الأَصل: القدوس، لكن طرحت الواو للتخفيف. وتأْييدُه: هو أَن عصمه على حفظه؛ حتى لم يدن منه شيطان، فضلًا أَن يدنو بشيء، واللَّه أعلم. وقيل: (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعني بالروح: روح اللَّه. ووجه إضافةِ روح عيسى إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: أَن تكون أضيفت تعظيمًا له وتفضيلًا، وذلك أن كل خاص أُضيف إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أُضيف؛ تعظيمًا لذلك الشيء، وتفضيلًا له، كما يقال لموسى: كليم اللَّه، ولعيسى: روحُ اللَّه، ولإبراهيم: خليلُ اللَّه، على التعظيم والتفضيل. وإذا أُضيف الجُمَل إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فإنما تضاف؛ تعظيمًا له - عَزَّ وَجَلَّ - وتنزيهًا؛ كقوله: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أُضيف ذلك إليه؛ تعظيمًا وتنزيهًا، واللَّه الموفق. والأَصل في ذلك: أَن خاصية الأَشياءِ إذا أُضيف ذلك إليه أضيف تعظيمًا لتلك الخاصية. وإذا أضيف جمل الأَشياء إلى اللَّه، فهو يخرج على تعظيم الرب والتبجيل له. وقوله. (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ). في ظاهر هذه الآية أَنهم كذبوا فريقًا من الرسل، وقَتلوا فريقًا منهم. ويقول بعض الناس: إنهم قتلوا الأَنبياءَ ولم يقتلوا الرسل؛ لقوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا)، ولقوله: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)، أَخبر أَنه ينصرهم، ومن كان اللَّه ناصره فهو لا يقتل. ومنهم من يقول: إنهم قتلوا الرسل والأنبياء. فنقول: يحتمل قوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا) في رسول دون رسول، فمن نصره اللَّه فهو

(88)

لم يقتل. أَو كان ما ذكر من النُصرة لهم كان بالحجِج والآيات. ثم في الآية دلالة رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته؛ لأَنه أخبرهم بتكذيب بعض الرسل، وقتل بعضهم، فسكتوا عن ذلك، فلولا أَنهم عرفوا أنه رسول -عرف ذلك باللَّه- وإلا لم يسكتوا عن ذلك. وقوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ (88) يعني: في أَكنة عليها الغطاء؛ فلا نفهم ما تقول، ولا نفقه ما تُحدِّث. يدَّعون زوال الخطاب عن أَنفسهم؛ كراهية لما سمعوا. وأَكذبَهُمُ اللَّه تعالى بقوله: (بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) أَي: طِردهم اللَّه؛ بكفرهم، وعتوهم، وتفريطهم في تكذيب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واعتنادهم إياه، لا أن قلوبهم بمحل لا يفهمون شيئًا مما يخاطبون به -على ما يزعمون- ولكن ذلك لترك التفكر والتدبر فيها. وقيل في قوله: (قُلُوبُنَا غُلْفٌ): يعني: أَوعية، تفهم وتعي ما يقال، ويخاطب، ولكن لا تفهم ما تقول، ولا تفقه ما تُحدث، فلو كان حقًّا وصدقًا لفهمت ولفقهت عليه. يَدَّعون إِبطال ما يقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لهم، وذلك نحو ما قالوا لشعيب: (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ). وقوله: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ). قيل فيه بوجهين: قيل: فقليلًا أي بقليل ما يؤمنون من التوراة؛ لأَنهم عرفوا نَعْته وصفته، وحرفوه، فلم يؤمنوا به. وقيل: فقليلًا، أي: قليل منهم يؤمنون بالرسل، صلى اللَّه عليهم وسلم. وقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (89) فلولا أنهم عرفوا أن هذا الكتاب هو موافق لما معهم من الكتاب، غير مخالف له، وإلا لأَظهروا الخلاف لو عرفوا ذلك، ولتكلفوا على إِطفاءِ هذا النُّور ودفعه؛ فدل سكوتهم عن ذلك، وترك اشتغالهم بذلك، أَنهم عرفوا موافقته لما معهم من التوراة؛ ففيه آية نُبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).

(90)

(يَسْتَفْتِحُونَ): يستنصرون (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) قبل أن يُبعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، يقولون: اللهم انصرنا بحق نبيك الذي تبعثه، فلما لم يجئهم على هواهم ومرادهم كفروا به، فلعنة اللَّه على الكافرين. وقوله: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ (90) يقول: اشتروا ما به هلاكهم بما به نجاتهم. وذلك أَنهم كانوا آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فكان إيمانُهم به نجاتَهم في الآخرة، فكفروا به، وذلك هلاكُهم، وباللَّه التوفيق. وقيل (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ): باعوا به أَنفسهم بعرض يسير من الدنيا، بعذاب في الآخرة أَبدًا. وقوله: (بَغْيًا). قيل: حسدًا منهم؛ وذلك أَنهم قد هَووا أن يُبعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أَولاد إسرائيل؛ لأَنهم كانوا أُمتَه، فلما بُعث من أَولاد إسماعيل - عليه السلام - والعربُ كانت من أَولاده كفروا به، وكتموا نعته حسدًا منهم. وقوله: (أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ). يعني: النبوة والكتاب على مُحَمَّد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: (بَغْيًا) أَي: ظلمًا، ظلموا أَنفسهم بكفرهم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتكذيبهم إياه. وقوله: (فَبَاءُوا). قد ذكرنا فيما تقدم. وقوله: (بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ). يحتمل وجهين: قيل: استوجبوا الغضب من اللَّه؛ بكفرهم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، على أَثر غضب؛ بكفرهم بعيسى، وبما جاء به. وقيل: إنما استحقوا اللعنةَ على أثر اللعنةِ؛ بعصيانٍ بعد عصيانٍ، وبذنب على أَثر الذنب. واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ (91) على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من القرآن.

مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وقوله: (قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا). يعني التوراة، وهم لم يكونوا آمنوا بالتوراة؛ لأنهم لو كانوا آمنوا بها لكان في الإيمان بها إيمان بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبما أُنزل عليه، وإيمان بجميع الأَنبياءِ - عليهم السلام - والرسل، وبجميع ما أُنزل عليهم؛ لأَن فيها الأَمرَ بالإيمان بجميع الرسل وبكتبهم؛ لأَنه قال: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ)، وموافقًا له. فالإيمان بواحد منهم إيمان بجميع الكتب، وبعضها موافق لبعض. وقوله: (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ). قيل: وراءَ التوراة كفروا بالإنجيل والفرقان؛ كأَنه قال: كفروا بالذي وراءَه وهو الحق؛ إذ هما موافقان لما معهم، غير مخالف له. ويحتمل: (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) يعني: وراء موسى بعيسى وبمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ كأَنه قال: من ورائه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). فإن قالوا: إنا لم نقتل الأَنبياءَ، ونحن مؤمنون. قيل لهم: إنكم -وإن لم تتولوا القتلَ- فقد رَضيتُم بصنيع أُولئك، واتبعتم لهم، مع ما قد هَمُّوا بقتل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مرارًا؛ ولذلك أُضيف إليهم. وقيل: أَخبر - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - غاية سفههم، وعتوهم، ومكابرتهم في تكذيبه. وذلك: أَن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعا اليهود إلى الإيمان به، وبما أُنزل عليه. فقالوا: ائتنا بالآيات والقربان، كما كانت الأَنبياء -من قبل- يأتون بها قومهم. يقول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ: قد كانت الأَنبياء من قبل تجيء -بما تقولون- إلى آبائكم؛ من الآيات والقربان، فكانوا يقتلُونهم. فيقول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أَنْ قل لهم: لم تقتلون؟ يقول: لم قتل آباؤكم أَنبياء اللَّه قَبلَ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد جاءُوا بالآيات والقربان إن كنتم صادقين بأَن اللَّه عهد إليكم في التوراة: ألا تؤمنوا لرسول حتى يأْتيكم بقربان تأكله النار، وقد جاءُوا به. فَلِم قتلوهم؟!

(92)

فهو -واللَّه أعلم- أَنهم أَخذوا هذه المحاجة من أَوائلهم، وإن علموا بما ظهرت نبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأَنه مبعوث، وأَنتم تقلدونهم، فتُقلدونهم -لو وأوتيتم- كما قلدتموهم، وإن علمتم بما عاينتم؛ إذ لا حجة لكم. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) وقوله: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ). والبينات: ما ذكرنا -فيما تقدم- من الآيات المعجزة، والحجج العجيبة، والبراهين الظاهرة على رسالته ونبوته، وصدق ما يدعوهم إليه، مما يدل كله أَنه من عند اللَّه. ثم -مع ما جاءَهم موسى بها- عبدوا العجل واتخذوه إلهًا، وكفروا باللَّه. يُعَزِّي نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لئلا يظن أَنه اول مُكذَّب من الرسل. ولا أَول من كُفِر به؛ حتى لا يضيق صدره بما يقولون، ويستقبلونه بما يكره، وباللَّه التوفيق. كقوله: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ). وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ (93) قد ذكرنا هذا فيما تقدم ما فيه مقْنع، إن شاءَ اللَّه تعالى. وقوله: (وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا). يحتمل وجهين: يحتمل: اسمعوا، أي: أَجيبوا. ويحتمل: اسمعوا: أَطيعوا، لكن هذا فيما بين الخلق جائز السمع والطاعة. وأَما إِضافة الطاعة إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فإِنه غير جائز؛ إذ لا يجوز أَن يقال: أَطاع اللَّه. وأَما السمع فإنه يجوز؛ لقوله: " سمع اللَّه لمن حمده ".

(94)

(قَالُوا سَمِعْنَا) قولك، (وَعَصَيْنَا) أمرك. لكن قولهم: (وَعَصَيْنَا) لم يكن على أثر قولهم: (سَمِعْنَا)، ولكن بعد ذلك بأوقات؛ لأَنه قيل: لما أَبوا قبول التوراة؛ لما فيها من الشدائد والأَحكام، رفع اللَّه الجبل فوقهم، فقبلوا؛ خوفًا من أن يرسل عليهم الجبلَ، وقالوا: أَطعنا، فلما زايل الجبل، وعاد إلى مكانه، فعند ذلك قالوا: (وَعَصَينَا)، وهو كقوله: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) فالتولي منهم كان بعد ذلك بأَوقات. وقوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ). قيل: أشربوا، أَي: جُعل في قلوبهم حب عبادة العجل بكفرهم باللَّه عَزَّ وَجَلَّ. وقيل: سُقُوا حُبَّ العجل. وقيل: إِن موسى لما أَحرق العجل، ونسفه في البحر جعلوا يشربون منه لحبهم العجل. وقيل: لما أَحرق ونسف في البحر جعلوا يلحسون الماء. حتى اصفرت وجوههم. وقيل: إنهم لما رأوا في التوراة ما فيها من الشدائد، قالوا عند ذلك: عبادةُ العجل علينا أَهون مما فيها من الشرائع. وكله يرجع إلى وأحد، وذلك كله آثار الحب. وقوله: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). قيل: قل يا مُحَمَّد: بئسما يأْمركم إيمانكم بالعجل الكفرَ باللَّه عَزَّ وَجَلَّ. وقيل: إن اليهود ادعوا أَنهم مؤمنون بالتوراة؛ فقال: (بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ) أي بالتوراة؛ إذ كفرتم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وقد وجدتم فيها نعته وصفته. وقوله: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وذلك أَن أعداءَ اللَّه - تعالى - كانوا يقولون: إن الجنة لنا في الآخرة، بقولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، وكقولهم: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، وكقولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)؛

(95)

فقال اللَّه تعالى لنبيه كجَتَ: قل لهم: إن كانت لكم الدار الأَخرة -كما تزعمون- وأَنكم أبناءُ اللَّه وأحباؤه -كما تقولون- (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). وذلك أَن المرء لا يكره الانتقال إلى داره، وإلى بستانه، بل يتمنى ذلك، وكذلك المرءُ لا يكره القدوم على أبيه، ولا على ابنه، ولا على حبيبه، ولا يخاف نقمته ولا عذابه، بل يجد عنده الكرامات والهدايا. فإن كان كما تقولون، فتمنوا الموت؛ حتى تنجوا من غم الدنيا، ومن تحمل الشدائد التي فيها إن كنتم صادقين في زعمكم: بأَن الآخرة لكم، وأَنكم أبناءُ اللَّه وأَحباؤه. فَإِنْ قِيلَ: إنكم تقولون: إن الآخرة للمؤمنين، ثم لا أَحد منهم يتمنى الموت إذا قيل له: تمنَّ الموت، فما معنى الاحتجاج عليهم بذلك، وذلك على المؤمنين كهو عليهم؟ قيل: لوجهين: أَحدهما: أَن المؤمنين لم يجعلوا لأَنفسهم من الفضل والمنزلة عند اللَّه ما جعلوا هم لأَنفسهم؛ فكان في تمنيهم صدقُ ما ادعَوْا لأَنفسهم، وفي الامتناع عن ذلك ظهورُ صدق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: ما ذكرنا أَنهم ادعوا: أَنهم أَبناءُ اللَّه وأحباؤه، وفي تمنيهم الموت ردهم، وصرفهم إلى الحبيب، والأَب الذي ادعوه، ولا أَحد يرغب وينفر عن حبيبه وأَبيه؛ فدل امتناعهم عن ذلك: على كذبهم في دعاويهم. وباللَّه نستعين. فإن سأَلونا عن قوله: (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أنهم إذا تمنوا ليس كان انقضاء عمرهم بدون الأَجَل الذي جعل لهم، وفي ذلك: تقديم الآجال عن الوقت الذي كان أَجَلا، وقال الله تعالى: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ). قيل: إن اللَّه علم منهم -في سابق علمه، وأَزليته- أَنهم لا يتمنون جعل أَجلهم ذلك. ولو علم منهم أَنهم يتمنون الموت لكان يجعل أَجلهم ذلك في الابتداءِ، وكذلك هذا الجواب؛ لما روى: " أَن صلة الرحم تزيد في العمر ". إنه كذلك يحتمل في الابتداءِ، لا أَن يجعل أَجله إلى وقت، ثم إذا وصل رحمه يزيد على ذلك الأَجل أَو ينقص، فيتمنى الموت عن الأَجل المجعول المضروب له، وبالله التوفيق. وقوله: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا (95) فيه دلالة إِثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أَنه أَخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أَنهم لا يتمنون أبدًا،

(96)

فكان كما قال؛ فدل أَنه من عند اللَّه علم ذلك. وقوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). من الذنوب، والعصيان، والتكذيب بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والحسد له. وهم - واللَّه أعلم - قد عرفوا عن صنيعهم، وما لهم من عند اللَّه من العذاب والجزاءِ، لكنهم قالوا ذلك؛ على التعنت، والمكابرة، والسفه؛ لذلك لم يتمنوا، والله الموفق. وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ). هو على الوعيد؛ كقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ). ويحتمل: عليم بالظالمين؛ بما يفضحهم بالحجج، ويُظهر كذبهم في الدنيا؛ لئلا يظن أحد أَنه عن غفلة بما يعملون، بل خلقهم على علم منه بما يعملون. خلقهم؛ ليعلم أنه لا لنفع له بخلقهم خلَقَهم، وأَن ذلك لا يضره. وقوله: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ (96) يعني اليهود. (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ). وعلى كراهية الموت. فدل حرصهم على حياة الدنيا أَنهم كذبة فيما يزعمون ويدعون. وقوله: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ). يعني: المجوس.

أي. هم أحرص الناس على حياة الدنيا من المجوس؛ لأَن المجوس لا يؤمنون بالبعث ولا بالقيامة، وهم يؤمنون بها؛ فهم -مع إيمانهم بالبعث، وتصديقهم بالقيامة- أَحرص على حياة الدنيا من المجوس الذين لا يؤمنون بالبعث ولا بالقيامة. وقيل: إِنَّه على الابتداءِ. ولا يتنافى بقول: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ويعني: المجوس (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ)؛ لأنهم يقولون فيما بينَهم: أَلف سنة تأْكل النيروز والمهرجان، ويقولون بالفارسية: هزار ساله بزه. فأَخبر اللَّه -تعالى- أَن طول العمر في الدنيا لا ينجيه من العذاب في الآخرة، ولا يباعده عنه. وهو قوله: (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ)، وهو كقوله: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ

(97)

مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207). وقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ). هو على الوعيد أيضًا. * * * قوله تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وقوله: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ). وذلك أَن اليهود قالوا: لو كان الذي يَنْزِل على مُحَمَّد بالوحي ميكائيل لاتبعناه، ونؤمن به؛ لأَن ميكائيل هو الذي ينزل بالغيث والرحمة، وجبريل هو المنزل بالعذاب والحرب والشدائد، فهو عدو لنا؛ لذلك لا نتَّبعه. وفي جهة العداوة بينهم وبين جبريل وجه آخر، وهو أَن قالوا: إن جبريل أُرسل بالوحي والرسالة في أَولاد إسرائيل، لكنه أَنزلها على أَولاد إسماعيل؛ عداوة لنا وبغضًا؛ لذلك نَصبوا العداوة بينه وبينهم -واللَّه أعلم بذلك- فَأَكذبهم اللَّه -تعالى- بزعمهم، فقال: (نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، لا كما تقول اليهود. وما ينزل من العذاب والشدائد، إنما ينزل بأَمره، لا من تلقاءِ نفسه وذَاته. ثم كان إظهارهم عداوة جبريل، لاعتقادهم عداوة اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لكنهم لم يجترئوا على عداوة اللَّه -على التصريح- فدل أنه على الكناية عن عداوة اللَّه تبارك وتعالى. ويدل هذا على أن الروافض طعنوا في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث طعنوا. وقوله: (نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ). تقول الباطنية: إن القرآن لم ينزل على رسول اللَّه - عليه السلام - بالأَحرف التي نقرؤها، ولكنه إلهام، نزل على قلبه، ثم هو يصوره ويرسمه ذا الحروف، ويعبر به، ويعربه بالمعربة التي نقرؤها. فلو كان على ما يقولون لزال موضع الاحتجاج عليهم بما أَتى به معجزًا؛ كقوله:

(98)

(إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إذ كان لهم أَن يقولوا: أنزل على لسان العجمي، لكنه غيّر ذلك بلسانه. وكذلك قوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)، مخافة النسيان والذهاب. وكذلك قوله: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ). فدلت هذه الآيات كلها على بطلان قولهم، وفساد مذهبهم، وبُعدهم عن دين الله المستقيم. وقوله: (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ). هدى من الضلالة، وبشرى للمؤمنين بالجنة. وقوله: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) يحتمل وجهين: يحتمل: من كان عدوًّا لله، أَو ملائكته، أَو رسله. ويحتمل: افتتاح العداوة به دون هَؤُلَاءِ على التعظيم لهم، وفضل المنزلة عند اللَّه، وحسن المآب لديه؛ كقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)، معنى إضافة ذلك إليه: على التعظيم له، والإفضال لله، لا على جعل ذلك لله مفردًا. فعلى ذلك: معنى افتتاح العداوة به -على ما ذكرنا- واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) وقوله: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ). بيَّن فيها الحلالَ والحرام، وما يُؤْتى وما يُتَّقى، وما يُنْهى وما يُؤْمر.

(100)

ويحتمل: الآيات التي أنزلها عليه ليُنْصر بها على المعاندين له، والمكابرين، والله أعلم. وقوله: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) يقول: كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم. يحتمل: العهودَ التي أُخذت عليهم -في التوراة- أَن يؤمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا يكفروا به بعد الإيمان. أَو أخذ عليهم: ألا يكتموا نعته، وصفته، الذي في التوراة لأَحد، فنبذوا ذلك، ونقضوا تلك المواثيق والعهود التي أخذت عليهم. ثم في الآية دلالة جعل القرآن حجة؛ لأنه قال: (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ)، ولو كان في كتبهم ما ادعوا من الحجة والاتباع لأَتوا به معارضًا؛ لدفع ما احتج به عليهم؛ فثبت أَنهم كانوا كذبة في دعاويهم؛ حيث امتنعوا عن معارضته. وقوله: (وَمَا يَكْفرُ بِهَا). أي: وما يكفر بتلك الآيات إلا الفاسقون. وقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (101) يعني محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ). أي: نَعتُه الذي كان في التوراة موافق لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: لما جاءَهم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عارضوه بالتوراة؛ فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة والقرآن، وأَخذوا بكتاب السحر الذي كتبه الشياطين. ويحتمل: أَن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما جاءَهم كان موافقًا لما مضى من الرسل، غير مخالف لهم؛ لأَن الرسل كلهم آمنوا به، وصدق بعضهم بعضًا. وقوله: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ). يحتمل: كتاب اللَّه: التوراة، على ما ذكرنا. ويحتمل: كتاب اللَّه، القرآن العظيم. واللَّه أعلم. وقوله: (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). أي: يعلمون، ولكن تركوا العمل به، والإيمان بما معهم؛ كأنهم لا يعلمون؛ لما لم ينتفعوا بعلمهم خرج فعلهم فعل من لا يعلم.

(102)

أَخبر: أَنهم نبذوا نبذ من لا يعلم، لا أَنهم لم يعلموا، ولكن نبذوه، سفهًا، وتعنتًا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (102) قيل: تتلو: ما كتبت الشياطين من السحر.

وقيل: تتلو؛ من التلاوة. وقيل: ما تتلو: ما يروى الشياطينُ من السحر. وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - وهو يرجع إلى واحد. والآية في موضع الاحتجاج على اليهود؛ لأَنهم ادعوا: أن الذي هم عليه أُخِذَ عن سليمان عليه السلام، فإن كان كفرًا فقد كفر سليمان. فأَخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أن سليمان ما كفر، ولكن الشياطين كفروا بما علَّموا الناس من السحر. ويحتمل: لكن أَتْباع الشياطين كفروا باعتقادهم السحر، وعملهم به بتعليم الشياطين، فنسب ذلك إلى الشياطين بما بهم كفروا، كما نسبت عبادة الأصنام إلى الشياطين بما بهم عبدوا، واللَّه أعلم.

ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: كان آصفُ كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأَمر سليمان، ويدفنه تحت كرسيه؛ فلما مات سليمان أَخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا، وكفرًا، وكذبًا؛ فقالوا: هذا الذي كان يعمل به سليمان؛ فأكفرَه جهالُ الناس وسبوه، ووقف علماؤهم، فلم يزل جهالُهم يسبونَه؛ حتى أَنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الشياطين ابتدعت كتابًا من السحر والأَمر العظيم، ثم أَفشته في الناس وعلمته إياهم؛ فلما سمع بذلك سليمان تتبع تلك الكتبَ، فدفنها تحت كرسيه كراهية أَن يتعلمها الناس. فلما قُبض نبيُّ اللَّه سليمان - عليه السلام - عمدت الشياطين إلى تلك الكتب فاستخرجتها من مكانها، وعلموها الناس، وأَخبروهم أَنه علم كان سليمان يكتمه، ويستأثره؛ فَعَذر اللَّه نبيه سليمان، وبرأَه من ذلك على لسان نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقوله تعالى: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. . .) الآية. وقيل أيضًا: لما مات سليمان - عليه السلام - وقع في الناس أوصابٌ وأَوجاعٌ؛ فقال الناس: لو كان سليمان - عليه السلام - حيًّا لكان عنده من هذا فرج، فظهرت الشياطينُ لهم فقالوا: نحن ندلكم على ما كان يعمل به سليمان - عليه السلام - فكتبوا

كتبًا، فجعلوها في البيوت، فاستخرجوا الكتب التي كتبت لهم الشياطينُ من السحر، فقالوا: هذا ما كان يعمل به سليمان. فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ. . .) والآية. فلا ندري كيف كانت القصة، غير أن اليهود تركت كتب الأَنبياءِ والرسل، واتبعوا كتب الشياطين وما دعوهم إليه من السحر والكفر، وباللَّه التوفيق. وفيه دلالةُ رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ بما أَخبرهم عن قصتهم -على ما كان- فدل أَنه كان عرف ذلك باللَّه عَزَّ وَجَلَّ. وفي ذلك أَن قد نسب إلى سليمان ما برأَه اللَّه عنه من غير أَن يُبين ماهيته. ذكره اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لوجهين: دلالة لرسوله، وتكذيبًا للذين نَحَلوه بما هو كفر. وقوله: (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ). أي: في ملكه؛ إذ كان ذلك الوقت هو وقت ظهورهم، ثم سخرهم اللَّه لسليمان، فأَمكن ذلك منهم. أَلقاهُ على أَلسن المعاندين لسليمان في الشر؛ فَروَوْه عنه بعد الوفاة؛ فكذبهم اللَّه - عز وجل - وبرأَ نبيَّه - عليه السلام - عن ذلك، وبين كيف كان بَدْؤُه. فإِنما بينها للخلق؛ لئلا يتبعوا في الرواية كل من لقي النبي؛ إذ قد يكون من أَمثالهم: اختراعُ الرواية، وإلزامُ السامعين الأُمورَ المعتادة من الرسل، ورد ما لا يوافق ذلك من الرواية؛ ولذلك أَبطل أَصحابُنا خبر الخاص فيما يُبلى به العام. وقوله: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ). قيل: (وَمَا أُنْزِلَ) على النفي، والجحد، معطوفًا على قوله: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ). وقيل: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ): والذي أُنزل على الملكين بِبَابل. وقيل: سميت بابل لما تبلبلت به الأَلسن، يعني: اختلفت؛ فلا يعلم ذلك إلا بالسمع. ثم اختُلِفَ في " هاروت " و " ماروت ": فقال الحسن: لم يكونا ملكين، ولكنهما كانا رجلين فاسقين متمردين؛ وذلك أَن

اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وصف ملائكته بالطاعة له والائتمار بأمره، بقوله (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ. . .) الآية، وكقوله: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ. . .) الآية. وكذلك يقول الحسن في إبليس: إنه لم يكن من الملائكة. وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم. ثم عارض نفسه بقولهما: (فَلَا تَكْفُرْ). فقال: إن الْمُخبِرَ بمثله إِذا عرف ولوع السامع به، وبما يعرض مثله -على العلم منه: أَنه يفعل، ولا يرتدع عن ذلك- يقول ذلك له؛ ترغيبًا منه، واللَّه أعلم. ومنهم من يقول: كانا ملكين، لكنهما علما الاسمَ الأَعظم، فيقضيان به الحوائج إلى أن حل بهما ما حل. وبهذا يحتج في بَلْعَم بقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ. . .) الآية. ثم اختلف بعد هذا على أَوجه: قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يكن ذلك منهما سحرًا، بل هو تعويذ الفرقة يقدر عليه. وقال قائلون: إن ما أنزل على الملكين أنزل كلامًا حسنًا صوابًا، لكنه خلط بالذي لقنهم الشيطان؛ فصار سحرًا. وقال آخرون: بلى. كان هو في نفسه سحرًا، يعلمان الناس ذلك، لكنه لا يُنهى عن تعليمه، ولا يكفر الذي تعلم. إنما ينهى عن الاعتقاد له، فكان كالكفر الذي يعلم، لا

يُنهى عن ذلك؛ لأَنه ما لم يعلم لم نعلم قبحهُ وفساده، ولكن إنما يُنهى عن الاعتقاد له؛ فكان كالكفر الذي في تعلمه، واللَّه أعلم. ثم نقول: إن قولهما: (فَلَا تَكْفُرْ) على الاختيار منهما، وكلمة السحر جار عليهما في اللسان، من غير صنع لهما فيه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ). قيل: إلا بعلم اللَّه وقضائه. وقيل: بخذلانه وتخليه. وقيل: بمشيئة اللَّه وإرادته. وأَما ظاهر الإذن فهو يخرج على الإباحة؛ فالعقل يدفعه. وقيل: إنه لا يصل إلى هاروت وماروت أَحد من بني آدم، وإنما يختلف بينهم شيطان في كل مسأَلة، واللَّه أعلم. ثم السحر يكون على وجهين: سحر يكفر به صاحبه؛ فإن كان ذلك منه بعد الإسلام، يُقْتل به صاحبُه؛ لأَنه ارتداد منه.

وسحرٌ لا يكفر به صاحبه؛ فلا يقتل به، إلا أَن يسعى في الأَرض بالفساد: من قتل الناس، وأَخذ الأَموال. فهو كقاطع الطريق، يُحكم بحكمهم من القتل وسائر العقوبات، وإذا تاب قُبِلت توبتُه. أَلَا ترى أَن سحرةَ فرعون لما رأوا الآيات آمنوا باللَّه -تعالى- وتابوا توبة لا يطمع في

مثل تلك التوبة من المسلم الذي نشأَ على الإسلام، حيث أَوعدهم فرعون بقطع الأَيدي والأَرجل، والصلب، وأنواع العذاب، فقالوا: (لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ). وذكر عن أبي حنيفة - رحمه اللَّه - في الساحرة: أَنها لا تقتل مرةً، وذكر عنه مرةً: أنها تقتل، وقال في الساحر بالقولين. فأَما ما رُويَ عنه فيه بالقتل بعمل السحر، فهو على ما ذكرنا من قتله الناس بالسحر؛ فهو كالساعي في الأَرض بالفساد، لا بِعَين السحر. أَو كفر بسحره بعد الإسلام؛ فيقتل كالمرتد عن الإسلام. وما ذكر عنه: أَنه لا يُقْتل؛ فهو إذا لم يكن سحره سحرَ كفرٍ، ولا يسعى بالقتل في الأَرض لم يقتل به. ثم قوله - في الساعي في الأَرض بالفساد: إنه إذا تاب قبل أن يُقدر عليه، سقط عنه القتل؛ فكذا الساحر. وأما الذي هو لأجل الكفر يلزم القتل قبل التوبة، بعد القدرة عليه. وعلى هذا يخرج قوله في الساحرة أَيضًا. ففيما قال: إنها لا تقتل؛ لما كان سحرها سحر كفر، والنساءُ لا يُقتلن للكفر. وفيما قال: يقتلن؛ فلأَنهن يقتلن للسعي في الأَرض بالفساد كالرجل، واللَّه أعلم. وقال بعض الناس: لا تقبل توبة الساحر. وهو غلط. وأَحقُّ من يقبل توبتُه الساحرُ؛ إذ هو أَبلغ في تمييز ما هو حجة مما لا حجة. وهذا هو الأَصل: أَن الْمُدَّعِيَ لشيء -على عهد الأنبياءِ- إذا استقبلهم بمثله الأَنبياء - عليهم السلام - فهو أَحق من يلزمهم الإيمان به؛ لعلمهم بالحق منه. والعوَامُّ منهم لا يعرفون إلا ظاهر ما يلزمهم، من تصديق الحجج، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ) -في الدنيا- (وَلَا يَنْفَعُهُمْ) في آخرتهم. وقوله: (وَلَقَدْ عَلِمُوا). يعني: اليهود في التوراة. وقوله: (لَمَنِ اشْتَرَاهُ). يعني: اختاره للسحر. وقيل: يتعلمون ما يضرهم في آخرتهم، ولا ينفعهم إن علموه.

(103)

(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ) يقول: لقد علمت اليهود أن في التوراة آية لمن اختار السحر. وقوله: (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ). يقول: نصيب في الثواب. وقيل: (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ) أَي: ما له عند اللَّه وجه. وقوله: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). أي: بئس ما باعوا به أنفسهم، يعني: اليهود الذين يعلمون الفرفة والسحر. وقيل: (مَا شَرَوْا بِهِ) يقول: ما باعوا به أَنفسهم من السحر والكفر. يعني: من لا يقرأَ التوراة. أَو يعني: أن لو كانوا يعلمون ما باعوا به أنفسهم، ولكنهم لا يعلمون. أي: لو علموا أنهم بمَ باعوا أَنفسهم من العذاب الدائم، لعلموا أنهم بئس ما باعوا به. وقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا (103) بتوحيد اللَّه. (وَاتَّقَوْا). الشركَ، والسحر. (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ). يقول: لكان ثوابهم عند اللَّه خيرًا من السحر والكفر. (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). ولكنهم لا يعلمون علم الانتفاع به، وهو كقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، ليسوا بصم ولا بكم ولا عمي في الحقيقة، ولكنهم صم من حيث لا ينتفعون به؛ إذ الحاجة من العلم، والبصر، والسمع الانتفاعُ به، فإذا ذهبت المنافع بهما فكان كمن لا علم معه ولا بصر له ولا سمع؛ حيث لا ينتفع، ولا يعمل به، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ

أَلِيمٌ). قيل: كانتِ الأَنصار في الجاهلية يقولون هذا لرسول اللَّه - عليه السلام - فنهاهم اللَّه - تعالى - أن يقولوها. وقيل: كانت اليهود تقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: راعنا من الرعونة؛ من قولك للرجل: يا أَرعن، وللمرأَة يا: رعناء. وكان الحسن يقرؤها: (راعنًا) بالتنوين. وقال الكلبي: كان في كلام اليهود (رَاعِنَا) سبًّا قبيحًا؛ يسب بعضهم بعضًا، وكانوا يأتون محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فيقولون: راعنا، ويضحكون، فنهى المؤمنين عن ذلك خلافًا لهم. وقوله: (وَقُولُوا انْظُرْنَا). قيل: فهمنا بقولٍ بينٍ لنا. وقال مقاتل: أي اقصدنا. وقيل: إن الأَمر بالإنظار يقع موقع التشفع في النظرة لوجهين: بالصحبة مرةً، وبالخطاب ثانيًا فقولهم: (انْظُرْنَا) لما لا يبلغ أفهامنا القدر الذي يعني ما يخاطبنا به. والثاني: على قصور عقولهم عما يستحقه من الصحبة والإيجاب له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. فأما الأَمر بـ " راعنا "، فهو استعمال في الظاهر بالمراعاة، وذلك يخرج على التكبر عليه، وترك التواضع له، والخضوع. وقوله: (وَاسْمَعُوا). أَي: اجيبوا له. وقيل: أطيعوا له. وقيل: (وَاسْمَعُوا) أَي: اسمعوا وَعُوا. وقوله: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ

مِنْ رَبِّكُمْ). (مَا يَوَدُّ) أي: ما يريد وما يتمنى (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) اليهود والنصارى (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ما يود هَؤُلَاءِ (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ). يحتمل وجهين: أحدهما: أَنهم كانوا يَهوون ويحبون أَن يبعث الرسول من أَولاد إِسرائيل وهم كانوا من نسله. فلما بعث من أَولاد إسماعيل - عليه السلام - على خلاف ما أَحبوا وهَووا، لم تطب أنفسُهم بذلك، بل كرهت، وأَبت أَشد الإباءِ والكراهية. والثاني: لم يُحبوا ذلك؛ لما كانت تذهب منَافعُهم التي كانت لهم، والرياسةُ بخروجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واللَّه أعلم. وقوله: (مِنْ خَيْرٍ). قيل: الخير؛ النبوة. وقيل: الخير؛ الإسلام. وقيل: الخير؛ الرسول هاهنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). تنقض على المعتزلة قولَهم؛ لأَنهم يقولون: إن على اللَّه أَن يعطيَ لكل الأَصلحَ في الدِّين، في كل وقتٍ، وكل زمانٍ. فلو كان عليه ذلك لم يكن للاختصاص معنى، ولا وجه. والثاني: قال: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) والمفضل عند الخلق هو الذي يُعطِي ويَبذُل ما ليس عليه، لا ما عليه؛ لأَن من عليه شيء فأعطاه، أَو قضى ما عليه من الدَّيْن، لا يوصف بالإفضال؛ فدل أَنه استوجب ذلك الاختصاص، وذلك الفضل، لما لم يكن عليه ذلك، ولو كان عليه لكان يقول: ذو العدل، لا ذو الفضل، وباللَّه التوفيق. * * * قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ

(106)

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وقوله: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا (106) قال بعض أهل الكلام: (مَا نَنْسَخْ) من اللوح المحفوظ (أَوْ نُنْسِهَا): نَدعُها في اللوح. وقيل: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) أي نرفع بآيةٍ أُخرى أو نتركها في الأخرى. وقيل: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) فنرفع حكمها، والعملَ بها، (أَوْ نُنْسِهَا) أَي: نترك قراءتها وتلاوتها. فيجوز رفع عينها، ويجوز رفع حكمها وِإبقاء عينها؛ لأَوجه: أَحدها: ظهور المنسوخ؛ فبطل قول من أَنْكر النسخ؛ إذ وجد. ومن أَنكر ذلك فإنما أَنكر لجهل بالمنسوخ؛ لأَن النسخ بيان الحكم إلى وقت، ليس على البداءِ، على ما قالت اليهود. والثاني: أَن للتلاوة فيها فضلًا -كما للعمل- فيجوز رفع فضل العمل، وبقاءُ فضل التلاوة. والثالث: على جعل الأَول في حالة الاضطرار، والثاني في وقت السعة، كقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ). ثم يجوز أَن يرفع عينها فيُنْسى ذكرُها، كما رُويَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " كنا نعدل سورة الأَحزاب بسورة البقرة، حتى رفع منها آيات، منها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتَّة ". وأَما قوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا). فاختلف فيه: قيل: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) أي: أخف وأَهونَ على الأبدان؛ كقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)، إن الأمر بالصوم كان لوقت دون وقت؛ إذ رجع الحكم عند الطاقة إلى غَيره. وكذا ما كان من الحكم في تحريم الأَكل عند النوم والجماع، وكذا

تحريم الميتة: لو لم يرد فيهما الإباحة والحل عند الضرورة لكُنَا نعرفه بالحرمة، وذلك أَخف وأَهون، واللَّه أعلم. وقيل: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) في الثواب في العاقبة. وقيل: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) في المنفعة (أَوْ مِثْلِهَا) في المنفعة. وقيل: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) وهو أَن يظهر لكم به الخير في حق الاتباع. والمثلُ: في حق الأَمر، فيشترك أَصحاب المنكرين للنسخ في حق الائتمار بالمثل، ويفضلونهم بظهور الأَخير. وهو كالصلاة إلى بيت المقدس؛ كان لهم مثلُ ما لليهود في حق الائتمار ما كان ظهر لهم الأَخير في وقت ظهور الأَمر، وأبهم الخير. وظهر عنده فيمن أَبى: أن اتباعه لم يكن لأَجل حق المتابعة، بل لما كان عنده الحجة. فأما من جعله خيرًا على البدل فاستدل بها الآخر رخصة وإباحة، والإباحة ورودها للتخفيف. ومن استدل على أَن النسخ -أَبدًا- يَرِدُ على ما هو أَغلظ، عورض بقوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ)، فأبدل بعقوبة أَشد من الأَول -وهو الرجم- بقوله: " خذوا عني. خذوا عني ". ويحتمل قوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) وجهًا آخر: وهو آية والآيات هي الحجج؛ فيكون معناه: ما نرفع من حجة فننفيها عن الأَبصار، إلا نأت بخير منها يعني أقوى منها في إلزام الحجة، أَو مثلها. ولا شك أن ما يعترض هو أقوى حالة الاعتراض في لزوم الحجة على ما غاب عن الأَبصار؛ فيكون قوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) على هذا الوزن، أي: نأت بحجة هي أقوى وأكثر من الأُولى، أَو مثلها في القوة. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في النسخ؟ وما وجهه؟ قيل: محنة يمتحن بها الخلق، ولله أَن يمتحن خلقه بما يشاءُ، في أي وقت شاء: يأمر بأَمرٍ في وقت، ثم ينهى عن ذلك، ويأمر بآخر. وليس في ذلك خروج عن الحكمة، ولا كان ذلك منه لبداءٍ يبدو له، بل لم يزل عالما بما كان ويكون، حكيمًا يحكم بالحق والعدل؛ فنعوذ باللَّه من السرف في القول.

(107)

وقوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). يحتمل: أن يكون الخطاب له - عليه السلام - والمرادُ بالخطابِ الذين سبق ذكْرُهم في قوله: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا). . .) والآية. إنه قادر على إنزال الخير على من يشاء، واختصاص بعضٍ على بعض، وتفضِيلِ بعضهم على بعض. ويحتمل: أَن يكون المراد في الخطاب له - عليه الصلاة والسلام - على حقيقة العلم على التذكير والتنبيه، أي: تعلم أنت أَن اللَّه على كل شيء قدير، وهو كقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ). على حقيقة العلم له. ويحتمل: على الإعلام والإخبار لقومه، وقد ذكرنا. وعلى ذلك يخرج قوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (107) أي: من كان يملك ملك السماوات وملك الأًرض، يملك تخصيص بعض على بعض، وتفضيلهم فيها، ويحكم فيها بما يشاء، ويُحْدِث من الأَمر ما أَراد، واللَّه أعلم. ويحتمل: نزوله على أَثر نوازلَ لم تذكر فيه، وذلك في القرآن كثير، وإنما يقال هذا الحرف عند ضيق القلب؛ تسكينا له. ومعنى تخصيص السماوات والأرض بالملك له؛ لمنتهى علم الخلق بهما، وإن كان له ملك الدنيا والآخرة، وباللَّه التوفيق. وقوله: (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ). يدل هذا على أَنه خرج على أَثر نوازل وإن لم تذكر. وقوله: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ (108) سؤالَ تعنت: لن نؤمن لك -تعنتًا- حتى نرى اللَّه جهرة، وقيل: إنهم سأَلوا ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما سأَل قوم موسى موسى. وقيل؛ سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَن يجعل الصفا -لهم- ذهبًا إن كان ما يقوله حقًّا. وقيل: سؤالهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، وكانوا

(109)

يسأَلون سؤال تعنت، لا سؤال استرشاد واهتداء. وقوله: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ). قيل: اختار الكفر بالإيمان. وقيل: ومن يختر شدة الآخرة على رخائها وسعتها. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ومن يشتر الكفر بالإيمان " وذلك كله واحد. وقوله: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ). قيل: عدل عن الطريق. وقيل: عدل عن قصد الطريق. وقيل: أَخطأَ قصد طريق الهدى، وكله واحد. وقوله: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا (109) إنهم كانوا يجهدون كل جهدهم حتى يصرفوا ويردوا أَصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن دين اللَّه - الإسلام - إلى ما هم عليه؛ كقوله تعالى: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)، وكقوله: (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)، وكقوله: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ. . .) الآية. وذلك -واللَّه أعلم- لخوفِ فوت رياستهم التي كانت لهم، وذهاب منافعهم التي ينالون من الأَتباع والسفلة، فودوا ردَّهم وصرفهم إلى دينهم. ثم احتجت المعتزلة علينا بظاهر قوله تعالى: (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)، قالوا: دلت الآية على أَن الحسد ليس من عند اللَّه بما نفاه - عَزَّ وَجَلَّ - عنه، وأَضافه إلى أَنفسهم

بقوله: (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ). قيل: صدقتم في زعمكم بأَن الحسد ليس من عند اللَّه، وكذلك نقول، ولا نجيز إضافة الحسد إليه بحال ولكن نقول: خلق فعل الحسد من الخلق، وكذلك يقال في الأَنجاس، والأقذار، والحيَّات والعقارب ونحوها: إِنه لا يجوز أن تضاف إلى اللَّه تعالى فيقال: يا خالق الأَنجاس والحيات والعقارب، وإن كان ذلك كله خلقه، وهو خالق كل شيء. فعلى ذلك، نقول بخلق فعل الحسد، وفعل الكفر من العبد، ولا نجوِّز أن يضاف إلى اللَّه تعالى. ثم يقولون في الطاعات والخيرات كلها: إنها من عند اللَّه، غير مخلوقة، فلئن كانت

(110)

العلة في الذي لا يكون مخلوقًا، أنه ليس هو من عنده لوجب القول بخلقه ما هو من عنده، ثم لم يقولوا به؛ فَبان أَن ما يقولون فاسد، باطل، ليس بشيء. ثم جهة الحسد ما ذكرنا أنهم أحبوا أن تكون الرسالةُ فيهم، أَو أن يكون من عنده سعَةْ؛ كقوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ)، وكقوله: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)؛ فبهذين الوجهين يخرج حسدهم. قوله: (مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم). أي: من قِبَلِها، لا أَن اللَّه - تعالى - أمرهم. وليس يضاف إلى اللَّه - تعالى - بأَنه من عنده بما يخلق، ولكن بما يأمر أو يلزم. أَلَا تَرى أَن الأنجاس كلها، والخبائث، والشياطين، كلهم مخلوقة وإن لم يجز نسبتها إلى اللَّه - تعالى - بمعنى أنه مِن عنده؟ كذلك ما ذكر من الحسد. على أَنه معلوم أَنهم لم يكونوا يدعون مِنْ دون اللَّه خَلْقًا فبذلك الوجه ينكر عليهم، بل كانوا يدعون الأَمر في كل ما نُسب إلى اللَّه تعالى؛ فعلى ذلك ورد العقاب، واللَّه أعلم. وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ). أي: بين لهم في التوراة أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نبي، وإن دينه الإسلام؛ كقوله: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ). وقوله: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ). يحتمل: النهي عن مكافأة ما يؤذونه في الدنيا، ثم لم ينسخ. وقيل: فيه نهي عن قتالهم، حتى يأْتى أَمر اللَّه في ذلك، ثم جاءَ بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .) الآية. وقيل: حتى يأتي اللَّه بأمره، أي: بعذابه، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من التعذيب والانتقام، وبكل شيء. ولم ينسخ هذا. وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (110) كرر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - الأَمر بإقامة الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، في القرآن تكرارًا كثيرًا، حتى كانت لا تخلو سورة إلا وذكرهما فيها -في غير موضع- وذلك لعظم شأنهما، وأمرهما، وعلو منزلتهما عند اللَّه، وفضل قدرهما.

وعلى ذلك جعلهما شريعة في الرسل السالفة، صلوات اللَّه عليهم. أَلا ترى إلى قول إبراهيم - عليه السلام -: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي). وقوله لموسى وهارون: (أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا) إلى قوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ). وقول عيسى: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)، وقوله: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ). وذلك - واللَّه أعلم - أَن الصلاة قُربة فيما بين العبد وبين ربه، تجمع جميع أفعال الخير، وفيها غاية منتهى الخضوع له، والطاعة: من القيام بين يديه، والمناجاة فيه، والركوع له، والسجود على الأَرض، وتعفير الوجه فيها حتى لو أَن أَحدًا ممن خلص دينه لله لو أعطى ما في الدنيا على أن يعفر وجهه في الأَرض لأَحد من الخلق ما فعل، وبالله التوفيق. والزكاةُ فيما بين العبد وبين الخلق؛ لتآلف القلوب واجتماعها، وفيها إظهار الشفقة لهم والرحمة.

لذلك عظم اللَّه شأْنهما، وشرف أَمرهما، وأَعلى منزلتهما؛ وعلى ذلك قرنهما بالإيمان في المواضع كلها، وأَثبت بين الخلق الأُخوة بهما بقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ). ثم هما تكرمان بالعقل؛ لأَن الصلاة تجمع جميع أَنواع خيرات الأَفعال، وفيها غايةُ الخضوع له، والخشوع -على ما ذكرنا- وذلك مما يوجبه العقل، وإن لم يرد فيه السمع. وكذلك الزكاة: فيها تزكية الأَنفس وتطهيرها، وذلك مما في العقل واجب. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في وجوبها؟ قيل: إظهار ما أَنعم اللَّه على العبد من الأَموال والسعة فيها، وما أعطاهم من سلامة الجوارح عن جميع الآفات، يخرج مخرج الأَمر بأَداءِ شكر ما أَنعم عليهم عز وجل. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في وجوبها فيما أُعْطي منهما، يعني من النفس، والمال دون غيره؟ قيل: لأن الوُجوب من غيره يخرج مخرج المعاوضة والمبادلة، لا مخرج أَداءِ الشكر، واللَّه أعلم. ثم الحكمة في: إيجاب الصلاة والزكاة، وغيرهما من العبادات أَن اللَّه - تعالى - إذ عمهم بنعمه فيما فضلهم بالجوهر، وسخر لهم جميعَ ما في الأرض، وبسط عليهم النعم، حتى صار كل منهم لا يُبصر غير نعمه، من غير استحقاق منهم شيئًا من ذلك - لزمهم الشكر عليها.

(111)

ثم كانت الصلاة تجمع استعمال جميع الجوارح فيما لله فيها القيام بها - شكرًا له، مع ما فيها توقف أَحوال نفسه بالاختيار بما هي عليه بالاضطراب والخلقة والقلب بالنية، والخوف والرجاء، وإحضار الذهن والعقل بالتعظيم والتبجيل؛ فيكون كل شيء منه في شكره؛ لما له فيه من سبوغ النعمة، واللَّه أعلم. وكذلك بالأموال فضلوا -في هذه الدنيا- واستمتعوا بلذيذ العيش؛ فأمروا بالإخراج لله، مع ما إذ سخرت هذه الأَرض -بما فيها- لجميع البشر، ألزم من ذلك صلةَ من لم يملك، ليستووا في الاستمتاع بالتسخير لهم، من الوجه الذي عَلِم اللَّه لهم في ذلك صلاح الدارين، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ). الآية تخرج على خلاف قول المعتزلة؛ لأَنهم يقولون: إن من ارتكب كبيرة ثم أَقام الصلاة وآتى الزكاة، وجاهد في سبيل اللَّه، وحج بيت اللَّه الحرام، فقدم خيرات كثيرةً - فإنه لا يجد مما قدم شيئًا، ولكن يجد ما قدم من شر. وذلك ليس من فعل الكريم والجواد، ولا كذلك وصف اللَّه نفسه، بل وصف نفسه على خلاف ما وَصفوا هم، فقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ). وهم يقولون: لا يتقبل عنهم ما قدموا من الخيرات، ولا يتجاوز عن سيئاتهم، وذلك سرف في القول؛ فنعوذ باللَّه من السرف في القول، والحكم على اللَّه، وباللَّه العصمة والتوفيق. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). بما قدمتم من الخير والشر؛ تنبيه منه عَزَّ وَجَلَّ ليكونوا على حَذرٍ من الشر، وترغيب منه لهم بالخيرات. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وقوله: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)

(112)

يحتمل هذا وجهين: يحتمل: أَن قالوا ذلك جميعًا؛ لما أَرادوا أَن يُروا الناس الموافقة فيما بينهم؛ ليرغبوا في دينهم، وينفروا عن دين الإسلام، وإن كانوا هم -في الباطن- على الخلاف والعداوة. ويحتمل: أن يكون ذلك القولُ من كل فريق في نفسه، لا عن كل الفريقين جميعًا على المو افقة. دليله: قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) دلت الآية أن ذلك القولَ لم يكن من الفريقين جميعًا على الموافقة، ولكن كان من كل في نفسه على غير موافقة منهم ولا مساعدة، واللَّه أعلم. ثم في الآية دليلٌ، لزم الدليل على النافي؛ لأَنهم نفوا دخول غيرهم الجنة بقولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) فطولبوا بالبرهان بقوله: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنه لا يدخل فيها سواكم. فَإِنْ قِيلَ: إنهم إذا نفوا دخول غيرهم فيها ادعوا لأنفسهم الدخول، فإنما طولبوا بالبرهان على ما ادعوا، ليس على ما نَفَوا. قيل: لا يحتمل ذا؛ لأَنهم لم يذكروا دخول أنفسهم تصريحًا، إنما نفوا دخول غيرهم وهو كمن يقول: لا يدخل هذه الدار إلا فلان وفلان، ليس فيه أن فلانًا وفلانًا يدخلان ولكن فيه نفي دخول غيرهما. أَو نقول: نَفَوْا دخول غيرهم تصريحًا، وادعوا لأَنفسهم الدخول مستدلا، وإنما يطلب الحجة على مُصَرح قولهم، لا على مستدلهم. أَلا ترى أَن الجواب من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالإكذاب والرد عليهم خرج على ما نفوا دخول غيرهم، وهو قوله: (بَلَى (112) - يدخل الجنة - (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ). ألا ترى إلى ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا نكاح إلا بشهود " ليس فيه

(113)

إثبات النكاح إذا كان ثم شهود؛ ولكن فيه نفى النكاح بغير شهود تصريحًا. ألا ترى أَن من قال: لا نكاح إلا بشهود، لا يسأل أن: لِم قلت: إن النكاح يجوز بالشهود؟ ولكن يسأَل أنْ: لِمَ قلت: إنه لا يجوز بغير شهود؟ فعلى ذلك قوله: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ليس فيه إثبات الدخول لهم تصريحًا، وفيه نفي دخول غيرهم تصريحًا، واللَّه أعلم. وقوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ). قد قلنا إنه خرج مخرج الرد عليهم، والإنكار لحكمهم على اللَّه؛ فقال: بل يدخلها من أسلم وجهه لله وهو محسن. ثم اختلف في قوله: (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ). قيل: أخلص دينه لله وعمله. وقيل: أَسلم نفسه لله. وقد يجوز أن يذكر الوجه على إرادة الذات، كقوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي: إلا هو. وقيل: أَسلم، أي: وجه أمره إلى دينه فأخلص. وبعضُه قريب من بعض. أَسلم نفسه لله أَي بالعبودية؛ كقوله: (وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ). وذلك معنى الإسلام: أن تُخْلص نفسك لله، لا تجعل لأحد شركًا من عبودة، ولا من عبادة. وقوله: (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). قد ذكرنا متضمنها فيما تقدم. وقوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ (113) فَإِنْ قِيلَ: كيف عاتبهم بهذا القول، وقد أَمر نبيه - عليه السلام - في آية أُخرى أَن يقول لهم ذلك: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ)؟. قيل: إنما أَمر نبيه: أَن يقول لهم: إنهم ليسوا على شيء إذا لم يقيموا التوراة، فأما إذا

أَقاموا التوراة - وفيها أَمر لهم بالإسلام، واتباع الرسول مُحَمَّد - فهُم على شيء. ومعنى هذا الكلام - واللَّه أعلم - أن قال لهم: كيف قلتم ذلك، وعندكم من الكتاب ما يبين لكم، ويميز الحق من الباطل، ويرفع من بينكم الاختلاف، لو تأَملتم فيه وتدبرتم؟! ويحتمل: أَن كل فريق منهم لما قال لفريق آخر ذلك: أنهم ليسو على شيء، أكذبهم اللَّه - تعالى - ورد عليهم: بلى من أَسلم منهم فهم على شيء؛ لأَنه كان أَسلم من أَوائلهم. ويحتمل: أَنهم ليسوا على شيء، على نفس دعاويهم، وقولِهم في اللَّه بما لا يليق، وهم على شيء، في تكذيب بعضهم بعضًا بما قالوا. وقيل: لما قالت اليهود: ليست النصارى على شيء من الدِّين؛ فما لك يا مُحَمَّد اتبع ديننا؛ فإنهم ليسوا على شيء؛ وكذلك قول الفريق الآخر لأُولئك. ثم اختلف في " الإسلام ": قيل: الإسلام هو الخضوع. وقيل: الإسلام هو الإخلاص بالأفعال، وهو أَن يُسلم نفسه لله، أَو يسلم دينه، لا يشركه فيه. وقوله: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ). قيل: الذين لا يعلمون: الذين لا كتاب لهم، وهم مشركو العرب. وقيل: الذين لا يعلمون: هم الذين لا يقدرون على تلاوة القرآن والكتاب، وتمييز ما فيه، وهم جُهَّالهم. سوَّى - عَزَّ وَجَلَّ - بينهم في القول -مَنْ علم منهم ومَن لم يعلم- لأَن من علم منهم لم ينتفع بعلمه؛ فكان كالذي لم يعلم شيئًا، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، أَنه سماهم بذلك؛ لما لم ينتفعوا بالآيات، والأَسباب التي أَعطاهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - واللَّه أعلم. وقوله: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). بالعذاب؛ لاختلافهم فيما بينهم، وبقولهم في اللَّه بما لا يليق، تعالى اللَّه عما يقول

(114)

الظالمون علوًّا كبيرًا. * * * قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ). يقول: لا أَحد أَظلم لنفسه، ولا أوضع لها. وقوله: (مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). اختلف فيه: قيل: مساجد اللَّه: الأَرض كلها؛ لأَن الأَرض كلها مساجد اللَّه؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " جُعِلَت لي الأَرض مسجدًا وطَهورًا " منع أَهلُ الكفر أَهلَ الإسلام أَن يذكروا فيها اسم اللَّه، وأَن يُظهروا فيها دينه. وقوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا). وهو كقوله: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا). ويخرج قوله: (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ). أي: لا يدخلون البلدان والأَمصار إلا بالخوف، أَو بالعهد؛ كقوله: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)، وهو العهد. ويحتمل قوله: (مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ): ما كان ينبغي لهم -بما عليهم من حق اللَّه، وتعظيمه- أَن يدخلوا المساجد إلا خائفين وجلين؛ لما كانت هي بقاع اتخذت لعبادة اللَّه، ونسبت إليه تعظيمًا لها؛ فدخلوا مخرِّبين لها، مانعين أَهلها من عبادة اللَّه فيها. وقيل: مساجد اللَّه: المسجد الحرام. وذلك أَنهم حالوا بينها وبين دخول مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأَصحابه فيها، حتى رجعوا من عامهم ذلك. ثم فتح اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مكة لهم، فصار لا يدخلها مشرك إلا خائفًا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:

(115)

(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا). وقيل: أراد بمساجد اللَّه: بيت المقدس؛ قيل: إن النصارى استعانوا ببُختنصر وهو رئيس المجوس، حتى خربوا المساجد، وقتلوا من فيها من أَهل الإسلام، ثم بنى أَهل الإسلام -بعد ذلك بزمان- مساجد، فكان لا يدخل نصراني فيها إلا خائفا، مستخفيًا. واللَّه أعلم. وقوله: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ). قيل: الخزى: الجزية. ويحتمل القتال، (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). وقوله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (115) قيل: إن رهطًا من أَصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - انطلقوا سَفْرًا، وذلك قبل أن تُصرف القبلة إلى الكعبة، فحضر وقت الصلاة، فاشتبه عليهم، فتحرَّوْا، فمنهم من صلى إلى المشرق، ومنهم من صلى إلى المغرب؛ صلوا إلى جهات مختلفة، فلما بَانَ لهم ذلك قدموا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسأَلوا عن ذلك؛ فنزلت الآية فيهم (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ

اللَّهِ). وهذا يرد على الشافعي قولَه؛ لأَنه يقول: إنْ صلى إلى جهة القبلة يجوز، وإلا فلا. وليس في الآية ذكر جهة دون جهة، بل فيها ذكر المشرق والمغرب، وكذلك في الخبر ذكر المشرق والمغرب؛ فخرج قوله على ظاهر الآية، وهذا عندنا في الاشتباه والتحري، وأَما عند القصد فهو قوله: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). ورُوِى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن قوله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. . .) الآية، نزلت في النوافل في الأسفار. ولكن عندنا على ما ذكرنا في الكل، واللَّه أعلم. وقوله: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ). اختلف فيه: قيل: ثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، يعني: ثَمَّ ما قصدتم وجه اللَّه. وقيل: ثَمَّ قبلَةُ اللَّه. وقيل: ثَمَّ وجهُ اللَّه: ثم اللَّه. على ما ذكرنا من جواز التكلم بالوجه على إرادة الذات، أي: ليس هو عنهم بغائب. وقيل: ثَمَّ رضاء اللَّه. وقيل: ثم ما ابتغيتم به وجه اللَّه. وقيل فيه: ثم وجه الذي وجهكم إليه إذا لم يجئ منكم التقصير، كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -في أكل الناسي: " إنما أَطعمك اللَّه وسقاك ". وقيل فيه: ثم بلوغكم ما قصدتم بفعل الصلاة من وجه اللَّه ورضائه، أي: ظفرتم به. ثم الغرض في القبلة ليس إصابة عينها، ولكن أَغلب الظن، وأَكبر الرأْي؛ لأَنه ليس لنا إلى إصابة عينها سبيل؛ إذ سبيل معرفتها بالاجتهاد، لا باليقين والإحاطة، ليس كالمياه والأَثواب وغيرها من الأَشياء؛ لأَن هذه الأَشياء في الأَصل طاهرة، والنجاسة عارضة فيظفر بأَعينها على ما هي في الأَصل.

(116)

وأَما أمر القبلة فإنما بني على الاجتهاد والقصد، دون إصابة عينها. واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ عَلِيمٌ). قيل: الواسع: الغني. وقيل: الواسع: الجواد، حيث جاد عليهم بقبول ما ابتغوا به وجه اللَّه، وحيث وسع عليهم أَمر القبلة. (عَلِيمٌ) بما قصدوا ونَوَوْا. * * * قوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) وقوله (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ). فيه تنزيه، نزه به نفسه عما قالوا فيه بما لا يليق، ورد عليهم. ومعناه - واللَّه أعلم -: أَنَّ اتخاذ الولد، والتبني -في الشاهد- إنما يكون لأَحد وجوه ثلاثة تحوجه إلى ذلك: إما لشهوات تغلبه؛ فيقضيها به. وإما لوحشة تأْخذه؛ فيحتاج إلى من يستأْنس به. أَو لدفع عدو يقهره؛ فيحتاج إلى من يستنصر به ويستغيث. فإذا كان اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يتعالى عن أَن تمسه حاجة، أَو تأْخذه وحشة، أَو يقهره عدو، فلأَي شيء يتخذ ولدًا؟!. وقوله: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). رد على ما قالوا: بأن من ملك السماوات وما فيها، وملك الأَرض وما فيها - لا تمسه حاجة، ولا يقهره عدو؛ إذ كل ذلك ملك له، يجري فيهم تقديره، ويمضي عليهم أَمره وتدبيره، وإنما يرغب إلى مثله إذا اعترض له شيء مما ذكرنا، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرًا. فإن عورض بالخلة، قيل: إِن الخلة تقع على غير جوهرِ مَنْ منه الخلة، والولدُ لا

يكون إلا من جوهره، وإلى هذا يذهب الحسن. والثاني: أَن الخلة تقع لأَفعال تكتسب، وتسبق منه، فيعلو أَمره، وترتفع مرتبته؛ فيستوجب بذلك الخلة بمعنى الجزاء، وأَما الولد فإنه لا يقع عن أفعال تكتسب، بل بدو ما به استحقاقه يكون من مولده. وقد نفى عن نفسه ما به يكون بقوله: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ). والثالث: ما قاله الراوندي: أَنه لا بد من أَن يدعى إلى التسمي، أَو إلى التحقيق؛ إذ في الخلة تحقيق ما به يسمى. ثم لم يحتمل في هذا تحقيق ما به يسمى، والاسم لم يرد به الإذن، وباللَّه التوفيق. ويحتمل قوله: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وجهًا آخر، وهو أَن يقال: إن ما في السماوات وما في الأَرض، كلهم عبيده وإماؤه، فأَنتم مع شدة حاجتكم إلى الأَولاد لا تستحسنون أَن تتخذوا عبيدكم وإِماءكم أولادًا، فكيف تستحسنون ذلك لله - عَزَّ وَجَلَّ - وتنسبون إليه مع غناه عنه؟ وباللَّه التوفيق. وقوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ). قيل فيه بوجوه: قيل: إن كل من في السماوات والأرض من الملائكة، وعيسى، وعُزير، وغيرهم -من الذين قلتم: إنه اتخذهم ولدًا- قانتون له، مُقِرون بالربوبية له، والعبودية لأَنفسهم له. وقيل: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ): مطيعون؛ أي: كلهم مطيعون متواضعون. وقيل: القانت: هو القائم، لكن القائم على وجهين: يكون القائم المنتصب على الأَقدام، ويكون القائم بالأَمر والحفظ. ثم لا يحتمل أَن يراد بالقانت هاهنا: المنتصب بالقدم؛ فرجع إلى الطاعة له وحفظ ما عليه، وهو كقوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)، من الحفظ والرزق. ويحتمل: تنزيه الخلقة؛ لأَن خلقة كل أحد تنزه ربه عن جميع ما يقولون فيه. أَو أَن يقال: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) في الجملة؛ كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ).

(117)

وقوله: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (117) ابتدعهما ولم يكونا شيئًا. والبديع والمبدع واحد؛ وهو الذي لم يسبقه أحدٌ في إنشاءِ مثله؛ ولذلك سمى صاحب الهوى: مبتدعًا؛ لما لم يسبقه في مثل فعله أحد. ثم فيه الحجةُ على هَؤُلَاءِ الذين قالوا: اتخذ اللَّه ولدًا، يقول: إن من قدر على خلق السماوات والأَرض من غير شيء، ولا سبب، كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب؟! والثاني: أن يقال: إِن من له القدرةُ على خلق ما يصعب، ويعظم في أعينكم، بأقل الأَحرف عندكم - كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أَب؟! وقوله: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ). قيل: وإذا حكم حكمًا: فإنما يقول له: كن فيكون. وقيل: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا)؛ يعني قضى بإهلاك قوم واستئصالهم (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). ثم قوله: (كُنْ فَيَكُونُ). ليس هو قول من اللَّه: أَنْ كُنْ -بالكاف والنون- ولكنه عبارة بأَوجز كلام، يؤدي المعنى التام المفهوم؛ إذ ليس في لغة العرب كلام التحقيق بحرفين يؤدي المعنى المفهوم أَوجز من هذا، وما سوى هذا فهو من الصلات، والأَدوات، فلا يفهم معناها، والله أعلم. ثم الآية ترد على من يقول: بأَن خلق الشيء هو ذلك الشيء نفسه؛ لأَنه قال: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا) ذكر " قَضى " وذكر " أَمْرًا "، وذكر " كُنْ فَيَكُونُ ". ولو كان التكوين والمكون واحدًا لم يحتج إلى ذكر كن في موضع العبارة عن التكوين فالـ " كن " تكوينه، فيكون المكون؛ فيدل أنه غيره. ثم لا يخلو التكوين: إما أن لم يكن فحدث، أو كان في الأَزل. فإن لم يكن فحدث، فإِما أَن يحدث بنفسه -ولو جاز ذلك في شيء لجاز في كل شيء- أَو بإِحداث آخَر، فيكون إحداث بإحداث، إِلى ما لا نهاية له. وذلك فاسد، ثبت أَن الإحداث والتكوين ليس بحادث، وأَن اللَّه تعالى موصوف في الأَزل أَنه محدث،

(118)

مكون؛ ليكون كل شيء في الوقت الذي أراد كونه فيه، وباللَّه التوفيق. وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ (118) قيل فيه بوجوه: قيل: الَّذِينَ لا يعلمون، يعلمون في الحقيقة، ولكن سماهم بذلك؛ لما لم ينتفعوا بعلمهم. وقيل: لا يعلمون توحيد ربهم؛ وهم مشركو العرب. قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: هلا يكلمنا اللَّه، أو تأْتينا آية فتُخبرنا بأَنك رسوله. وقيل: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ)، أَي: لا يعلمون أَنهم لم يبلغوا المبلغ الذي يتمنون تكليم اللَّه إياهم. وقيل: (لَا يَعْلَمُونَ) أنه قد كلمهم وأَخبرهم بالوحي، وإِيتاء رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آياتٍ على رسالته، لكنهم يعاندون. وقوله: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ). قيل: الذين من قبلهم: بنو إسرائيل؛ قالوا لموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ما قال مشركو العرب لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو قوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا). وقيل: اليهود سألوا مثل سؤال النصارى. وقيل: النصارى سألوا مثل سؤال اليهود، واللَّه أعلم. وقوله: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ). بالكفر والسفه. وقيل: تشابهت قلوبهم في المقالة؛ يشبه بعضُها بعضًا في السؤال؛ لأَنهم سأَلوا سؤال تعنت، لا سؤال مسترشد. وقوله: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). يحتمل وجهين: أَحدهما: هذا القول. والثاني: أَن يسأَلوا سؤال التعنت والعتو، لا سؤال مسترشد؛ إذ اللَّه - تعالى - قد أَثبت آيات الإرشاد لمن يبتغي الرشد، ولا قوة إلا بالله. وقوله: (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

(119)

قيل: بينا أَمر مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالآيات، والحجج التي أَقامها: أَنه رسول لمن آمن به، وصدقه، ولم يعانده. * * * قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وقوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا). قيل: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ) يا مُحَمَّد؛ لتدعوَهم إلى الحق، وهو التوحيد. وقيل: بالحق: بالقرآن. وقيل: بالحق: بالحجج والآيات. قوله تعالى: (بَشِيرًا) لمن أَطاعه بالجنة، (وَنَذِيرًا) لمن عصاه وخالف أمره بالنار. وقيل: بالحق الذي لله على الخلق، والحق الذي لبعضٍ على بعض؛ لتدعوهم إليه وتدلهم عليه. وقوله: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ). وجائز أن يكون بمعنى: لَا تَسْأَلْ بعد هذا عنهم. ولم يُذكر أَنه سئل عنهم بعده؛ فيكون ذلك آية له بما هو خبر عن علم الغيب. قيل: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليت شعري! ما فعل أَبواي؟ " فأَنزل اللَّه - تعالى -

(120)

هذه الآية. وفيها لغتان: " لا تَسأل " بنصب التاءِ وهو ما ذكرنا. ويحتمل وجهًا آخر: أَي لا تشتغل بأَصحاب الجحيم؛ فإن ذلك تكلف منك وشُغل. وفيها لغةٌ أُخرى برفع التاءِ: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ)، أَي: لا تُسأَل أنت يا مُحَمَّد عن ذنوب أَصحاب الجحيم؛ وهو كقوله: (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وكقوله: (عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)، وكقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، ونحوه. وقوله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ (120) اختلف في الملة: قيل الملة: السنة؛ كقوله: " بسم اللَّه، وعلى ملة رسول اللَّه "، وكقوله (اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا). وقيل الملة: الدِّين، كقوله عليه السلام: " لا يتوارث أهل الملتين ". وقيل: الملة هاهنا: القبلة، وهو كقوله: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ). آيس - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن اتباع أُولئك دينه وقبلته؛ لأنهم يختارون الدِّين، والقبلة؛ بهوى أَنفسهم، لا بطلب الحق، وظهوره، ولزوم الحجة. وذلك: أَن النصارى إنما اختاروا قبلتهم المشرق؛ لأَن مكان الجبل الذي كان فيه

عيسى في ناحية المشرق بقوله: (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا). واليهود اختاروا قبلتهم ناحية المغرب؛ لأَن موسى عليه السلام كان بناحية المغرب لما أعطى الرسالة وكلمه ربه؛ كقوله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ). وأما أهل الإسلام فإنما اختاروا الكعبة -شرفها اللَّه- قبلة بالأَمر، لا اتباعًا لهواهم. والعقل يوجب أن تكون الكعبة قبلة؛ إذ هي مقصد الخلق من آفاق الدنيا، فلما احتيج في الصلاة إلى التوجه إلى وجه كان أَحَق ذلك الموضع الذي جعل للخلق مقاصد أخرى. ثم قوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ). أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله: أن ليس في وسعك إرضاءُ هَؤُلَاءِ؛ لاختلافهم في الدعاوى في الملل. فَإِنْ قِيلَ: كيف نهى رسوله عن اتباع ملتهم على علم منه: أنه لا يتبع؟ قيل: لأن العصمة لا تزيل المحنة، ولا تدفعها، بل المحنة إنما تقع في العصمة لوجهين: أحدهما: أن عصمته لِمَا مضى لا توجب عصمته في الحادث. والثاني: أَن أَحق مَنْ يُنهى عن الأَشياء مَنْ أُكرم بالعصمة؛ إذ على زَوال النهي يرتفع عنه جهة العصمة؛ لأَنه يصير برفع النهي مباحًا. فلهذا دل القول على النهي عما فيه إرضاؤهم -وإن كان في الأصل معصومًا عنه- وباللَّه التوفيق. وفي إزالة الأمر والنهي إِزالةُ فائدة العصمة؛ لأَن العصمة: هي أَن يعصم في الأمر حتى يؤديَه، وفي النهي، حتى ينتهيَ عنه، وباللَّه التوفيق. وقوله: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ). قيل؛ إن دين اللَّه -الذي اختاره أَهلُ الإسلام؛ بالأمر، واتباع الآيات، والحجج- هو الدِّين، لا كما اختار أُولئك بهوى أنفسهم، واستقبال الآيات والحجج بالرد، والإنكار، والمعاندة. ويحتمل: أن يكون الخطابُ في قوله: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)

(121)

والبيانُ لأَصحابِه، ومن دخل في دينه وصدقه، لا هو. وذلك كثير في القرآن؛ يخاطَبُ هو والمراد غيره. وقوله: (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ). ظاهره: من ولي يتولى الدفاع عنك، ولا نصير يمنعك من العذاب. ويحتمل: ينصرك فتغلب به سلطان اللَّه فيما يريد تعذيبك. وقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ (121) قيل: الكتابُ: أراد به التوراةَ أَو الإنجيلَ. وقيل: أَراد به القرآن. ومن حمله على التوراةِ والإنجيل قال: فيه إِضمار واو كأَنه قال: الذين آتيناهم الكتاب، ويتلونه حق تلاوته، أُولئك يؤمنون به، أي: إِذا تَلَوْا حق التلاوة؛ فحينئذ يؤمنون به. وقيل: يتلونه حق تلاوته، يعني يعملون به حق عمله، ولا يكتمون نعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا يحرفونه. (أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ). وهم الذين أَسلموا منهم. وقيل: يتبعونه حق اتباعه. وهو واحد. ومن حمله على القرآن، فالذين يتلونه حق تلاوته أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. * * * قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129).

(124)

وقوله: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (124) قيل: الابتلاء والامتحان في الشاهد: استفادة علم خَفِيَ عليه من الممتحن والمبتلى به، ليقع عنه علم ماكان ملتبسًا عليه. وفي الغائب لا يحتمل ذلك؛ إِذ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عالم في الأَزل بما كان، وبما يكون في أَوقاته أبدًا. ثم يرجع الابتلاء منه إلى وجوه: أَحدها: أَن يخرج مخرج الأَمر بالشيء أَو النهي عنه، لكن الذي ذكر يظهر بالأمر والنهي؛ فسمى ابتلاء من اللَّه تعالى. والثاني: ليكون ما قد علم اللَّه أَنه يوجد موجودًا، وليكون ما قد علم أنه سيكون كائنًا. وعلى هذا يخرج قوله: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ)، حتى نعلمه موجودًا، كما علم أَنه يوجد؛ كما قال: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)، علم الغيبَ، علم أنه مُوجَد. وَعلم الشهادةَ، عَلِم به موجودًا، حتى يوجد الذي علم أَنه يجاهد منهم - مجاهدًا، والذي، يصبر منهم صابرًا. ثم اختلف في الكلمات التي ابتلاه بها: فقَالَ بَعْضُهُمْ: الكلمات: هي التي ذكرت في سورة الأَنعام، وهو قوله: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا)، ورأَي القمر بازغًا، ورأَي الشمس بازغة، هي الحجج التي أَقامها على قومه بقوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ). وقيل: ابتلاه بعشر ففعلهن: خمسةً في الرأْس، وخمسة في الجسد. لكن في هذا ليس كبيرُ حكمةٍ؛ إِذ يفعل هذا كل واحد، ولكن الحكمة فيه هي: ما قيل: إن ابتلاءه بالنار، حيث أُلْقي فيها، فصبر، حتى قال له جبريل: " أَتستعين بي؟ قال: أَمَّا منْك فلا ".

وابتلي بإسكان ذريته الوادي، الذي لا ماءَ فيه، ولا زرع، ولا غرس. وابتُلي بالهجرة مِن عِندهم، وتركهم هنالك -وهم صغار- ولا ماءَ معهم، ولا زرع، ولا غرس. وابتلي بالهجرة إلى الشام. وابتلي بذبح ولده. ابتلي بأَشياءَ لم يبتل أَحد من الأَنبياء بمثله، فصبر على ذلك. ففى مثل هذا يكون وجه الحكمة. وفيه لغة أُخرى: (وَإذِ ابْتَلى إِبْرَاهِيمُ) بالرفع (رَبَّهُ) بنصب الباء. ومعناه - واللَّه أعلم -: أَنه سأَل ربه بكلمات فأعطاهن. وهو تأْويل مقاتل. وهو أَن قال: اجعلني للناس إِمامًا. قال: نعم. قال: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، قال: نعم قال: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، قال: نعم. قال: و (اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا). قال: نعم. قال: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). قال: نعم. مثل هذا: سأَل ربه هذا فأَعطاهن إياه. وقوله: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا). يحتمل: جعله رسولًا يقتدى به؛ لأَن أَهل الأديان. -مع اختلافهم- يدينون به، ويقرون نبوته. ويحتمل: إمامًا من الإمامة والخلافة. وقوله: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). فَإِنْ قِيلَ: كيف كان قوله: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وجوابًا لقوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وكانت الرسالة في ذريته؛ كقوله: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)؟ يحتمل قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي): أَحب أَن تكون الرسالة تدوم في ذريته أَبدًا؛ حتى لا تكون بين الرسل فترات؛ فأُخبر أَن في ذريته من هو ظالم، فلا ينال الظالم عهده. ويحتمل: أَن يكون سؤالهُ جعلَ الرسالة في أَولاد إِسماعيل؛ لأَن العرب من أَولاد إسماعيل - عليه السلام - فأُخبر أن في أَولاده من هو ظالم؛ فلا يناله. والعهدُ: ما ذكرنا، هو الرسالة والوحي.

(125)

وقال الحسن: لا ينال الظالم في الآخرة العهدَ. ويحتمل: أَن يكون المراد من ذلك: وذريتي، فأخبر أَن فيهم من لا يصلح لذلك. ويحتمل: أَن يريد به الإمامَة لَا النبوة، وقد كانت هي في نسل كل الفرق، والنبوةُ كانت فيهم. ويحتمل: أَن يكون قصدَ خصوصًا من ذريته، ممن علم اللَّه أَن فيهم من لا يصلح لذلك. ولا يحتمل: أن يريد به الإمامَة لا النبوة وقد ذكر، أَو قال الإنسان: قيل له: إِنه من ذريتك لكن لا ينال من ذكر؛ ولهذا خص بالدعاءِ من آمن منهم دون من كفر. وقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا (125) قيل: المثابة المجمع. وقيل: المثابة: المرجع، يثوبون: يرجعون. وقيل: يحجون. وقوله: (مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا). هو فعل العباد؛ لأَنهم يأمنون ويثوبون. أَخبر أَنه جعل ذلك؛ ففيه دلالة خلق أَفعال العباد.

ثم بين فيه - عَزَّ وَجَلَّ - شدة اشتياق الناس إليها، وتمنيهم الحضور بها، مع احتمال الشدائد والمشقة، وتحمل المؤن، مع بعد المسافة والخطرات؛ فدل أَن اللَّه تعالى -بلطفه وكرمه- حبب ذلك إلى قلوب الخلق، وأَنه جعل من آيات الربوبية والوحدانية، وتدبير سماوي، لا من تدبير البشرية. وفيه دلالة نبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إِذ أَخبر عما قد كان؛ فثبت أَنه أَخبر عن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. وقوله: (وَأَمْنًا) ولمن دخله من عذاب الآخرة. وقيل: (وَأَمْنًا) لكل مجرم آوى به، وآوى إليه من القتل، وغيره؛ كقوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)، عن كل ما ارتكب. وأما عندنا: فإنه إن قتل قتيلًا، ثم التجأَ إِليه، فإِنه لا يقتل ما دام فيه؛ لأَنه لا يقتل للكفر هنالك.

فعلى ذلك القصاص؛ لقوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، وما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ". وما رُويَ عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " لو ظفرت بقاتل عمرَ في الحرم ما قتلته، وإِذا قتل في الحرم يقتل به هنالك. والوجه فيه: أَن إِقامة مثله عليه فيما يرتكبه في الحرم أحق؛ إذ هي كفارة؛ لينزجر عما ارتكب، وأَحق ما يقع فيه الزجر بمثله، ما هو فيه منِ المكان. وإذا قيل في غير الحرم، ثم التجأ إلى الحرم - قال أبو حنيفة - رحمه اللَّه - لا يخرج من الحرم. وأَبو يوسف - رحمه اللَّه - جعل ذلك للسلطان، ذهب إلى أنه قال: (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ

حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)، كما قال: (فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ)، فأوجب الإخراج، من حيث أخرج، كما أوجب القتل من حيث قتل. وقيل: لم يُخرَج من الحرم إذا لم يخرج منه، كما لم يُقتل في الحرم إذا لم يقتُل فيه. أَو نقول بالإخراج للقتل، قَصْد ما لم يَسُغْ فعله فيها كان كالصيد يخرج، يلزم فيه ما يجب بالقتل؛ فمثله في موضع الحظر. وبعد فإِنه لو أخرج لم يأمن بالحرم، بل زيد في عقوبته؛ إِذ الإخراج عقوبة، فقد زيد عليه، مع ما لم يجز في الكفار -الذين نهوا عن قتلهم- إِخراجهم للقتل، كذلك القاتل. وذهب الآخر: إلى أنه يُخْرج؛ لإقامة الحد عند أبي حنيفة - رحمه اللَّه - وإن لم يرتكب فيه. وإِخراج المرتكب له، أَقل في الحكم من إِقامته عليه. غير أنه غلط؛ لأن إِخراجه للقتل يرفع من الحد؛ لأَنه يصل إلى قتله، ولما في القتل عقوبة واحدة، وفي الإخراج عقوبتان. ثم لم يلزمه العقوبة الواحدة -وهي القتل- إِذا لم يقتل فيه كان من ألا يلزمه العقوبتان أحق. وقول: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) اختلف في (مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ): منهم من جعل الحرم كله مقامه -يصلي إليه- لمقامه هنالك بأَولاده. ومنهم من جعل المسجد مقامه؛ لأَنه كان مكان عبادته فهو المصلى. ومنهم من جعل ما ظهر من مقامه -وهو موضع ركوبه ونزوله- لما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أَنه لما قدم مكة قام إلى الركن اليماني، فقال عمر: " يا رسول الله! أَلا تتخذ مقامَ إبراهيم مصلى؟! " فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى). وعندنا: القبلةُ البيتُ؛ كقوله - تعالى -: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)،

وقوله: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)، أي: مقامًا لقيام العبادات. وقوله: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ). فيه الأمر ببنائه. وقوله: (أَن طَهِّرَا بَيتِيَ). يحتمل التطهير لوجهين: أَحدهما: عن الأَصنام والأَوثان التي كانت هنالك، وعبادةِ غير اللَّه والأَنجاسِ. ويحتمل: التطهير عن كل أَنواع الأَقذار، وعن كل أَنواع المكاسب، على ما روي في جملة المساجد. وقوله: (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). قيل: الطائف: هو القادم؛ سمي طائفًا لدخوله بطوافه. وقيل: الاستحبابُ الطوافُ؛ لذلك قال أَصحابنا - رحمهم اللَّه - الطوافُ للقادم أَفضل من الصلاة. والصلاة للمقيم أَفضل.

(126)

والعاكفُ: المقيمُ. (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) منهما جميعًا. وقيل: العاكفون: المجاورون؛ يعني: من أهل مكة والقادمين إليها. وقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا (126) قد ذكرنا الوجه في قوله: (آمِنًا). وقوله: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). لما علم أَن المكان ليس بمكان ثمرٍ ولا عُشب دَعَا، وسأَل ربه: أن يرزق أَهله عَطفًا على أَهله، وعلى كل من ينتاب إليه من الآفاق. ثم خص المؤمنين بذلك؛ لوجوه: أَحدها: أَنه لما أَمرهما بتطهير البيت عن الأَصنام والأَوثان ظن أَنه لا يجعل لسوى أَهل الإيمان هنالك مقامًا؛ فخص لهم بالدعاءِ، وسؤال الرزق. والثاني: أَنه أَراد أَن يجعل آية من آيات اللَّه؛ ليرغب الكفار إلى دين اللَّه، فيصيروا أُمة واحدة؛ فكان كقوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ. . .). ووجه آخر قيل: لما كان قيل له: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فلعله خشي أَن يخرج ذلك مخرج المعونة لهم على ما فيه العصيان. وفي ذلك: أن لا بأْس ببيع الطعام من الكفرة. ولا يصير ذلك كالمعونة على ما هم عليه. ويحتمل الدعاءُ المبهم للكفرة: القبحَ؛ إذ ذلك اسم من يعبد غير اللَّه. وقوله: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا). بالنعم؛ لأن الدنيا دار محنة، لا توجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق، ولا إلى الولي من العدو في الدنيا. وأما الآخرةُ فهي دار جزاء، ليست بدار محنة؛ فيوجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق. ومعنى قوله: (قَلِيلًا) لأن الدنيا كلها قليل. ثم الامتحان على وجهين: امتحانٌ بالنعم، وامتحان بالشدائد.

(127)

وقد قرئ: " فأمْتِعْه " على معنى دعاءِ إِبراهيم - عليه السلام - " ومن كفر فأمتِعْه " بالجزم. فَإِنْ قِيلَ: لم لا كان تفاضل الامتحان بتفاضل النعم. وإنما يعقل فضل الامتحان بفضل العقل، ويعلم أَن المؤمن هو المفضَّل بالعقل. كيف لا وقع فضل ما به يمتحن -وهو النعم- لأَن العقل الذي به يدرك الحق واحد، لا تفاضل فيه لأَحد. ثم العقل الذي به يمتحن واحد؛ فهما متساويان -فيما به دَرْكُ الحق- إلا أَن أحدهما يدركه فيتبعه، والآخر يدركه فيعانده. فهو -من حيث معرفته- ذو عقل، أعرض عنه؛ فيسمى معاندًا، إذ من لا عقل له يُسمى مجنونًا. وقوله: (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ). ذكر الاضطرار، وهو كقوله: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) وهو السوق، وكقوله: (وَنَسُوقُ الْمُجرِمينَ)، إِنهم يساقون إليها، ويُدَعون، لا أنهم يأتونها طوعًا واختيارًا. وقوله: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). أي: بئس ما صاروا إليه. وقوله: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا (127) أُمِرَا برفع البيت وببنائه؛ فَفَعلا، ثم سألا ربهما: أَن يتقبل منهما. فهكذا الواجب على كل مأْمور بعبادةٍ، أَو قُربة -إذا فرغ منها، وأَداها- أَن يتضرع إلى اللَّه، ويبتهل؛ ليقبل منه، وأَلا يرد عليه؛ ليضيع سعيه. وقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لدعائهم. (الْعَلِيمُ) بما نَوَوْا وأَضمروا. وقوله: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ (128) والإسلام قد ذكرنا فيما تقدم أَنه يتوجه إلى وجوه: أحدها؛ هو الخضوع له والتذلل. والثاني: هوِ الإخلاص. ثم اخْتَلَفَ أهل الكلام في الإسلام: فقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنه يتجدد في كل وقت؛ لذلك سألوا ذلك، وهو كقوله - تعالى -

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، معناه: آمنوا باللَّه في حادث الوقت؛ لأَنه تارك فعل الكفر في كل وقت؛ فبترك الكفر يتجدد له الإيمان. وعلى ذلك: يخرج تأويلنا في الزيادة بقولهم: زادتهم إيمانا يتجدد له، ويزداد في حادث الوقت. وقال آخرون: كان سؤالهم الإسلام سؤال الثبات عليه والدوام. وقد ذكرنا أَن العصمة لا ترفع خوف الزوال. ومثل هذا: الدعاء والسؤال -على قول المعتزلة- يكون عبثًا؛ لأَنه لا يملك إِعطاءَ ما سألوا عندهم، بل هم الذين يملكون ذلك، فيَخرج السؤال في هذا -عندهم- مخرج اللعب والعبث، فنعوذ باللَّه من السرف في القول والزيغ عن الهدى. ثم الإيمان: هو التصديق والتصديق بالقلب يتجدد في كل وقت، فلا وقت يخلو القلب عنه في حال سكون، أَو حال حركةٍ، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ). يحتمل: أن الأُمةَ المسلمة هي أُمةُ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك: أنه لم يكن من أَولاد إِسماعيل رسول سوى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسألا: أن يجعل من ذريتهما رسولًا، وأُمة مسلمة، خالصة له. وإنما الرسل كانوا من أَولاد إِسحاق ومن نسله، واللَّه أَعلم. وقوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا). وقيل في قوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا): يريد الإراءَة إلى يوم القيامة، يدل عليه قراءَة عبد اللَّه: " وأَرهم مناسكهم "، وفي قراءَة غيره على ضم الرؤية إلى نفسه. والمنسكُ: هو القربة. وأَفعالُ الحج سميت مناسكًا. ثم لا يحتمل: أن يسألا ذلك، من غير أَمر سبق منه - عَزَّ وَجَلَّ - بذلك؛ لأَنه ليس من الحكمة سؤال: إِيجاب فضل عبادة، أَو قربة بغير أَمر؛ فدل أَنه قد سبق منه بذلك أمر، لكنه لم يبين لهما، فسألا: تعليم ماهيتها وكيفيتها، فعلمهما جبريل ذلك. ففيه: دلالة تأخير البيان عن وقت قرع السمع الخطاب؛ أَلا ترى أَنه أَمر بالنداء للحج ولم يعلم. والثاني: أَن آدم والملائكة قد كانوا حجوا هذا البيت قبل إبراهيم - عليه السلام - فدل

أَن الأَمر به قد سبق. والثالث: قوله -في نفس الحج-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). ثم لا يحتمل: لزوم الكلفة بالخروج قبل وجوب الحج؛ لما لم يأْمر بفعل ما له إيجاب الحقوق والفرائض. لكنها أوجبت شكرًا لما أَنعم عليه؛ فدل أَن الحج كان واجبًا قبل الخروج، وقد تأَخر الإمكان؛ فمثله البيان، واللَّه أعلم. واحتج بقوله: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ) أَن ظاهره يوجب خضوعًا، لزم به ما أَداه السمع على تأَخر ما بينه، وكذلك الزكاةُ، وكذا ظاهرُ قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ). واحتج أَيضًا بقول القائل وسؤاله رسولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن أَوقات الصلاة ففعله في يومين، وقد كان يمكنه تعليمه وقت السؤال، لكنه أَخر؛ فدل أن البيان يجوز تأَخره عن وقت قرع الخطابِ السمعَ. ثم في تأْخير البيان محنة المخاطب به، أَمر في تعلم العلم وطلب مراد ما تضمن الخطاب، واللَّه أعلم. وذكر في أَمر الحج -عند كل نسك من المناسك- معاني لها، لكنها ذكرت لأَحوالٍ كانت في شأْن آدم وأَمر إبراهيم، وأَمر مُحَمَّد - عليهم الصلاة والسلام - وقد كان الحج قبلهم. وقد ذكر في أَمر الرَّمَل أَنه كان من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومن معه؛ ليُعلِم به قوتهم؛ حتى

قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " علام أَهز كتفي، وليس أَحد إِزاءَه؟! لكني أَتبع رسول اللَّه، عليه السلام " أَو كما قال، رحمه اللَّه. وقد ذكر ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام: أَنه رمل، ولم يكن في وقته من كان الفعلُ لأجله، وكذلك غيرُه من الأَنبياء، صلى اللَّه عليهم وسلم. إلا أَنا نقول: جعل اللَّه كذلك؛ لعلمه بالحاجة إلى ذلك في وقت قد جعل ذلك نسكًا، فحفظ ذلك على حق النسك، وإن لم يكن المعنى مقارنًا له في كل وقت، على ما قيل: " إِن صلة الرحم تزيد في العمر " -بمعنى جعل اللَّه أَجله ذلك بما علم أَنه يصل الرحم- فيكون صرف العمر إلى تلك المدة لذلك. وكما يكتب شقيًّا أَو سعيدًا في الأَزل للوقت الذي فيه يكون كذلك، ونحو ذلك، والله الموفق. ثم الأَصل: أَن اللَّه - جل ثناؤه - جعل على عباده في كل الأنواع التي يتقلب فيها البشر للمعاش، أَو لأَنواع اللذات؛ لتكون العبادة منهم في كل نوع مقابل ما يختار صاحب ذلك شكرًا لما مكن من مثله، لما يتلذذ به ويتعيش؛ إِذ كل لذة، وكل ما يتعيش به نعمة خصَّ اللَّه بها صاحبها، بلا تقدُّم سبب يستوجبها العبد؛ فلزمه -في الحكمة- الشكر لمن أَسدى إليه تلك النعمة. وعلى ذلك: نجد التقلب -من حال القيام، إلى حال القعود، والاضطجاع- أَمرًا عاما في البشر، من أَنواع اللذات، فمثله يكون العبادة بذلك النوع عامة، نحو الصلوات. وعلى ذلك: معنى الرق، والعبودةُ لازم لا يفارق، فمثله الاعتراف به، والاعتقاد دائم لا محالة لا يخلو منه وقت. وعلى ذلك: أَمر إِعطاءِ النفس شهواتها، من المطاعم ونحو ذلك؛ لا يعم الأَوقات عموم التقلب من حال إلى حال؛ إذ لا يخلو عنها المرءُ وإن كانت مختلفة. فجعلت عبادة الصيام في خاص الأَوقات. ثم لم يمتد ما بين الأَوقات امتدادًا متراخيًا، فعلى ذلك: جعل العفو عن الصيام، لم يجعل كذلك، بل في سنة، مع ما قد يدخل الصيام في كثير من الأُمور. ثم للناس في الأَموال معاش، وبها تلذذ: لكن منها قوت لا بد منه؛ فالارتفاق بمثله لازم، لا يحتمل جعل القربة فيه، سوى أَن جعل ذلك لعينه قربة؛ إذ فرض على المرء الاستمتاع به.

ومنها فضْل، به جعلت قرب التصدق؛ لأَنه له بحق التلذذ، لا بحق ما لا بد منه. وكذلك نوع تقلب الأَحوال في النفس التي هي بحق الضرورة، لم يجعل لمثل ذلك فضل قربة يؤديها سوى ما به حياته. وذلك يجعل بحكم الفرض عليه ولا ندبه. وكذلك أَمر الصيام: لم يجعل عما لا بد منه للقوة، ولكن فضل قوة في الاحتمال. لكن الزكاة هي من حقوق ما يجوز أَن يكون هي لغير من عليه، ففرض عليه البذل إلى غيره. وحقوق الأَفعال لا تحتمل أن يصير السبب الذي له به يجب أَن يكون لغيره فيجب عليه؛ فجعل فرض ذلك الفعل في نفسه. وهي تجب للأَحوال لوجهين: أَحدهما: أَن فيها حقوقًا شائعة، على نحو النفقات، فأخرت هي إلى الحول؛ تخفيفًا، أَو لما هي تجب فيما له حكم الفضل. والفضل: ما يفضل عن الحاجة. والحاجات تتجدد في أَوقات -لا أَنها تتتابعُ- لا يظهر في مثله الفضل إِلا بمدةٍ بينةٍ أكثرها حول. ثم فَرضُ الحج جُعِل في العمر مرة؛ لأنه في حق الأَسفار المديدة، التي لا يختار مثلها للذات إلا في النوادر، فلم يوجَب مثلُه إلا خاصًّا؛ فأوجب في جميع العمر مرة.

وقد أَوجب في الأَموال في كل سنة؛ لأن أَرباب الأَموال قد يتقلبون في البلاد النائية رغبة في فضول اللذات؛ فلذلك يجوز فرض مثل ذلك. وعلى ذلك أَمر الجهاد -على أن الجهاد كالذي لا بد من الأَقوات- إِذ في ترك ذلك خوف غلبة الأَعداء، وفيها تلف الأَبدان والأَديان، والأَموال، ففرض على قدر ما فرض من الأَقوات؛ لما بينت من الخلل، ثم كانت أَحوال أَهل السفر تكون على غير المعروف من أَحوال المقيمين - في حق الرَّزانة والوقار، وحق الانبساط والنشاط - فعلى ذلك: فرائض الأَمرين - نحو الجهاد- فيه أَنواع: ما عُد في غيره من اللعب، وكذلك أَمر الحج. وعلى مثل هذا يخرج رمي الجمار والرمَل والسعي ونحو ذلك. فجعل ذلك في حق الأَسفار سُنَّة، وإن كان مثل ذلك عُدَّ في غير ذلك عبثًا؛ إِذ قد بينا مخرج العبادات، على ما عليه أَحوال العباد بأَنفسهم، لولا العبادات، واللَّه أعلم. ثم جعل ذلك في أَمكنة متباعدة الأَطراف؛ إِذ هو بحق أَمر الأَسفار يجب في المعهود؛ فجعل في النسك، بنفسه بالذي به يقطع الأَسفار، ولا قوة إلا باللَّه. ووجه آخر: من المعتبرات: أَن العبادات جعلت أَنواعًا: منها ما يبلغ القيام بحقها العامَ فصاعدًا، وهذه لم يجز أَن يجعل وقتها ينقص عن احتمال فعلها. ولا وقت من طريق الإشارة أجمع لمختلف الأَحوال بعد سقوط اعتبار العمر من السنة. ثم لأَن فعل الحج قد يمتد ذلك، ويجاوز، لم يجعل ذلك وقتًا له، وإنما جعل العمر، لما كان لا وقت يشار إليه إلا وجميع ما فيه مما يحتمله العام الآخر، وما تقدمه وما تأَخره، ثم في العمر أَحوال، لا تحتمل إِضافتها إلى الأَعوام؛ لأَن ما يضاف إلى عام

فذلك لكل عام. وليس ما يضاف إلى العمر موجودًا بحق الأَعوام. فجعل ذلك وقته، واللَّه أعلم. ثم الزكاة هي تجب للأَموال؛ صونا لها؛ لكسب عدد، وفضل غنى، ولكن على ذلك تكتب لأَحوال الحياة لا لما يخلف؛ فلم يمتد أَمرها إلى العمر؛ على أَنها جعلت حقا للفقراء. ومتى أُريد جعل الوقت له العمر يصير لغيره، ويجب فيه ما يجب في الأَول؛ فتبطل الزكاة ويبقى الفقراء بلا عيش؛ إذ اللَّه -بفضله- قدر أَقوات الخلق، ثم فضل الخلق في الأَملاك، حتى كان بعضهم بحيث لا يملك شيئًا، وبعضهم يجاوز ما ينالُ أَضعافَ عمره. ثبت أَن ذلك له بما يقتضي به كفاية الفقراء؛ فلا بد أَن يجعل لذلك مدة يتوسع في ذلك الفريقان جميعًا. ثم كانت الأَقوات -التي هي مجهولة للخلق جميعًا- تتجدد في كل عام على ذلك؛ إذ جعلت أَقوات الفقراء في أَموال الأَغنياء، جعلت في كل عام. على أَنه إِذ جعلت أَقوات الخلق في بركات السماء والأَرض، جعلها اللَّه متجددة بتجدد الأَعوام، ولا قوة إلا بالله. والصلاة والصيام عبادتان تلزم قوى الأَبدان، فعلى ما يختلف قواهما، اختلف في الأَمر بهما والترك، وفي أَنواع الرخص. لكن الصلاة ليس فيها مكابدة الشهوات، ولا مدافعة اللذات؛ إِذ لا سبيل إلى مثلها متتابعًا لما يصير اللذة أَلما، والشهوة وجعًا؛ فيبطل حق التتابع، وقدر المفروض من الصلوات لا يشتغل عما يقوم بها النفس. والصيام يضاد ذلك، ويضر في البدن. فجعل عبادة الصلوات في كل يوم، وعبادة الصيام في أوقات متراخية؛ إذ هي تضاد معنى المجعول له الأغذية بين إِقامة الأَبدان، وفي الصيام خوف فنائها؛ لذلك استعين بطول الاغتذاء على أوقات الصيام، ولا قوة إلا باللَّه. وإن شئت قلت: إن اللَّه أَنعم على البشر بما هو غذاء وقوام، وبما هو لذة وشهوة، ثم أَنعم عليهم بما هو لهم به رفعة وجاه عند الخلق -وهي الأَموال- فأَلزمهم في كل نوع من هذه الأنواع عباداتٍ.

(129)

وعلى ذلك: وقع كل نوع منها لفوت النعمة، التي هي المرغوبة المختارة في الطبيعة، وإلى ما يدوم تلك يدعو العقل ببذل ما ينقطع منه، ثم جعلت قوى النفس بشهواتها، ونعم الأَموال بأَنواع الكد والجهد. فعلى ذلك: خفف حقوق الأَموال؛ فلم يجعل إلا في الفضل الذي لا اختيار لهم ألا يبلغوا بالجهد ذلك، ففي ذلك جعلت الحقوق على ما يحتمل الوسع لهم من الترتيب، مع اليسر الذي أَخبر اللَّه أَنه يريد بهم ذلك، لا العسر، واللَّه أعلم. وقوله: (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). دل سؤال التوبة أَن الأَنبياء - عليهم السلام - قد يكون منهم الزلات والعثرات، على غير قصد منهم. ثم فيه الدليل على أَن العبد قد يُسأَل عن زلة لم يتعمدها ولم يقصدها؛ لأنهم سأَلوا التوبة مجملًا. ولو كان سبق منهم شيء علموا به وعرفوه لذكروه؛ فدل سؤالهم التوبة مجملًا على أَن العبد مسئول عن زلات لم يتعمدها. وقوله: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ (129) يحتمل وجوهًا: يحتمل (رَسُولًا مِنْهُمْ): من المسلمين؛ لأَنه أَخبر أَن عهده لا يناله الظالم. ويحتمل (رَسُولًا مِنْهُمْ): من جنسهم، من البشر؛ لأنه أَقرب إلى المعرفة والصدق ممن كان من غير جنسهم، كقوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا. . .) الآية. ويحتمل (رَسُولًا مِنْهُمْ): أي من قومهم، ومن جنسهم، وبلسانهم، لا من غيرهم، ولا بغير لسانهم - واللَّه أعلم - كقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ). وقوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ). قيل: الآيات هي الحجج. وقيل: الآيات هي الدِّين. ويحتمل: يدعوهم إلى توحيدك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ). يعني القرآن: ما أَمرهم به، ونهاهم عنه، ونحو ذلك. وقوله: (وَالْحِكْمَةَ)

قيل: الفقه، يقول: يعلمهم الكتاب وما فيه من الفقه. وقيل: الحكمة ما فيه من الأَحكام من الحلال والحرام. وقيل: الحكمة: هي السنة هاهنا. وقيل: الحكمة: هي الإصابة. وبعض هذا قريب من بعض، وباللَّه التوفيق. وقال الحسن: الحكمة: هي القرآن؛ أَعاد القول به. يعني تكرارًا. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الحكمة: الفقه. وقوله: (وَيُزَكِّيهِمْ). قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يأْخذ زكاة أَموالهم -فذلك يزكيهم- كقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا). وقيل: يزكيهم إلى ما به زكاة أَنفسهم. وقيل: يزكيهم بعمل الصالح. فإن قال لنا قائل ممن ينتحل مذهب الاعتزال: أَليس اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أَضاف التزكية والهداية إلى رسوله، ولم يكن منه -حقيقة- فعل التزكية والهداية، ولا خلق ذلك منه -كيف لا قلتم أيضًا- فيما أَضاف ذلك إلى نفسه: أَن ليس فيه منه خلق ذلك، ولا حقيقة سوى الدعاء والبيان، على ما لم يكن في إضافة ذلك إلى رسوله سوى الدعاء والبيان؟! قيل: كذلك على ما قلتم: أَنه أَضاف ذلك إلى رسوله بقوله: (وَتُزَكِّيهِمْ)، وبقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقوله: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، غير أَنه جعل إلى نفسه فضْلَ هدايةٍ، لم يجعل ذلك لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأَثبت زيادة تزكيةٍ، لم يثبت ذلك لرسوله عليه السلام؛ كقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وكقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ). فدل إضافة تلك الزيادة إلى نفسه على: أن له فضلَ فعلٍ، ليس ذلك لرسوله، وهو خلق فعل الاهتداء، وفعل التزكية، وباللَّه التوفيق. وبعد: فإن الرسول لا يحتمل أَن يملك قدرة فعل أَحد يُقدره عليه لو أَراده بما

أَقدرهم اللَّه على الفعل، حتى قدَروا؛ فجاز أَن يكون له عليه قدرة. وفي تحقيقها جواز خلق ذلك له، ومثله في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يحتمل، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). أي: لا شيء يعجزه، والعزيز بذاته، وكل شيء دونَه غيرُ عزيز، ذليل. وقيل: العزيز: المنيع. وقيل: العزيز: المنتقم من أَعدائه. والحكيم: هو المصيب في فعله. والحكيمُ في أَمره ونهيه. والحكيم هو الذي أَحكم كل شيء جعله دليلًا على وحدانيته. ثم ذكر بعض المفسرين علل المناسك فقال: سميت العرفات عرفات؛ لما قيل له: عرَفتَ. ومِنًى؛ لما قيل له: تمنَّهُ. ورَمي الجمار؛ لما استقبل لإبراهيم الشيطان فرمى. فهذه العلل لا تطمئن بها القلوب، وتنفر عنها الطباع، أَلا ترى أَنه ذكر في قصة آدم فعل ذلك جملةً؛ فزال المعنى الذي ذكر في إِبراهيم عليه السلام؟! ثم قد ذكر في الخبر أَن الملائكة قالت لآدم: حججناه، قبلك بأَلفي عام؛ فثبت أَنهم قد فعلوا هذا كله. ثم يمكن نصب الحكمة فيه من طريق العقل، وهو أَن الحج قصد لزيارة ذلك المكان؛ فأَمر بمختلف الأَفعال الواقع بها الزيارة. كالصلاة: إنها الخضوع لعينه؛ ولذلك أَمر فيها بإحضار الأَفعال المختلفة من حال الخضوع. ثم المرءُ قد يخضع مرة بالقيام، ومرة بالركوع، ومرة بالسجود. أَمر بإحضار مختلف الأَفعال التي فيها الزورة. غير أن الصلاة تخالف الحج؛ فلأنَّ أفعالها فعل المعاش أُمر فيها بإِحضار حالة تذكره الخضوع، والوقوف لله، مفرقًا بين تلك الحالة وحالة المعاش؛ ولهذا تُقْضَى في كل مكان. ثم أَفعال الحج في ظاهرها إلى أَفعال المعاش، وما إليه وَقع القصد -لا عينها- غير

(130)

أن فيه تكلف المعاش؛ ولهذا ما لا يقضي في كل مكان. * * * قوله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وقوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ). ثم اختلف في الملة؛ قيل: الملة: الدِّين. وقكل: الملة السنة. وقيل: الإسلام. وكله واحد. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله: (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ). بما يعمل من عمل السفه. ويحتمل: (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أي بنفسه؛ فكان انتصابه لانتزاع حرف الخافض. وقيل: جهل نفسه فيضعها في عير موضعها. وقوله: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا). بالنبوة والرسالة والعصمة. ويحتمل: ما جزاهم في الدنيا بثناء حسن لم ينقص من جزائهم في الآخرة. وقوله: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). في المنزلة والثواب. ويحتمل (لَمِنَ الصَّالِحِينَ)؛ لمن المرسلين. ويحتمل: أَن يكون بشَّره في الدنيا: أَنه كان من الصالحين في الآخرة؛ فيكون -في ذلك- وعدٌ له بصلاح الخاتمة، كما وعد محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأَخر. وفي ذلك أيضا: وعد بصلاح الخاتمة - واللَّه أعلم - فأَخبر بما كان بشَّره. ويجوز: تفاضُلهم في الآخرة، على ما كانوا عليه.

(131)

وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) قيل: أَخْلِصْ. ويحتمل: أَن يكون أَمرًا بابتداءِ إِسلام، على ما ذكرنا من تجدده في كل وقت يهمد. ثم يحتمل: أَن يكون وحيًا أوحى إِليه، أَن قل كذا، فقال به. فإِن كان وحيًا فهو على أَن يُسلم نفسه لله. ويحتمل: أَن يكون إِسلام القلب -بتغاضي الخلقة بالإسلام- فإن كان على هذا؛ فهو على الإسلام دون توحيده. ويحتمل: أَن يكون إِسلام خِلقة؛ كقوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)، بالخلْقة. وعلى ذلك يخرج قوله لإبراهيم: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)؛ فدعاهم، فأجابوه في أَصلاب آبائهم إِجابة الخِلقة وقت كونهم. وقيل: يحتمل: أَن يكون أَمر بابتداءِ الإسلام، كقوله: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا. . .)، إلى آخره. ثم قال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)، يكون جواب قوله: (أَسْلِمْ) واللَّه أعلم. وقوله: (وَوَصَّى (132) يعني بالملة. والملةُ تحتمل ما ذكرنا. وقوله: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). وهو الإسلام؛ ردا على قول أُولَئِكَ الكفرة: إِن إبراهيم كان على دينهم؛ لأَن اليهود زعمت أَنه كان على دينهم يهوديا. وقالت النصارى: بل كان على النصرانية. وعلى ذلك قالوا لغيرهم: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا). فلما ادَّعى كلُّ واحد من الفريقين: أَنه كان على دينهم، أَكذبهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في قولهم، ورد، عليهم في ذلك فقال: قل يا مُحَمَّد: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا)؛ فعلى ذلك قوله: (اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

(133)

أَخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أَن دينه كان دينَ الإسلام، وهو الذي اصطفاه له، لا الدِّين الذي اختاروا هم من اليهودية والنصرانية؛ لقوله تعالى: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)، أي ليس له. وقوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا (133) يقول: أَكنتم شهداءَ إِذ حضر يعقوب الموت؟! أَي: ما كنتم شهداءَ حين حضر يعقوب الموت. قيل: ويحتمل: أَن اليهود قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أَلست تعلم أَن يعقوب يوم مات أوصى بَنِيه بدين اليهودية؛ فأَنزل اللَّه تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ) أَي: أكنتم شهداءَ وصية يعقوب بنيه؟! أَي: لم تشهدوا وصيته، فكيف قلتم ذلك؟! ثم أَخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن وصية يعقوبَ بنيه فقال: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ. . .) الآية. وقوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). يعني: مخلصين بالتوحيد، وبجميع الكتب والرسل، ليس كاليهود والنصارى يؤمنون ببعضٍ ويكفرون ببعضٍ، ثم يدعون: أَن ذلك دين إبراهيم، ودين بنيه. ثم في الآية دلالة رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأَنه أَخبر عن الأَخبار التي قالوا، من غير نظر منه في كتبهم، ولا سماع منهم، ولا تعلم، دل: أَنه باللَّه علم، وعنه أَخْبر. وقوله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) كان - واللَّه أعلم - لما ادعَوْا أَن إِبراهيم ومن ذكر من الأنبياءِ كانوا على دينهم؛ فقال عند ذلك: لا تُسألون أَنتم عن دينهم وأَعمالهم، ولا هم يُسأَلون عن دينكم وأَعمالكم، بل كل يُسأل عن دينه وما يعمل به. * * * قوله تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

(135)

وقوله: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا. . .) الآية. فالآية تنقض على من يستثني في إيمانه؛ لأَنه أَمرهم أَن يقولوا قولا باتًّا، لا ثُنْيا فيه ولا شك. وكذلك قوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ) ثم يحتمل: أن يكون هذا ردًّا على أُولئك الكفرة، حيث فرقوا بين الرسل، آمنوا ببعضهم وكفروا ببعض. وكذلك آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعضها؛ فأَمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - المؤمنين، ودعاهم: إلى أن يؤمنوا بالرسل كلهم، والكتب جميعًا، لا يفرقون بين أَحد منهم، كما فرق أُولئك الكفرة. ويحتمل: أَن يكون ابتداء تعليم الإيمان من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لهم بما ذكر من الجملة. ثم اختلف في الحنيف: قيل: الحنيف: المسلم. وقيل: الحنيف: الحجاج. وقيل: كل حنيف ذكر بعده مسلم فهو الحجاج، وكل حنيف لم يذكر بعده مسلم فهو مسلم. وقيل: الحنيف: المائل إلى الحق والإسلام. وقوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا (137) رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: لا تقرأ (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ)؛ فإِن اللَّه ليس له مثل، ولكن اقرأ: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ)، أو (بما آمنتم به). وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فإن آمنوا بما آمنتم به)، تصديقًا لذلك. وعلى ذلك قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، إِن الكاف زائدة، أي: ليس

(138)

مثله شيء. وهو في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كذلك. ويحتمل: آمنوا بلسانهم، بمثل ما آمنتم بلسانكم، من الرسل والكتب جميعًا فقد اهتدوا. ويحتمل بمثل ما آمنتم به: أَي بلسانٍ غير لسانهم فقد اهتدوا. وقوله: (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ). قيل: الشقاق هو الخلاف. وقيل: الشقاق هو الخلاف الذي فيه العداوة، واللَّه أعلم. وقوله: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). هذا وعيد من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لهم، ووَعدٌ وَعَدَ نَبيَّه بالصبر له؛ لأَن أُولئك كانوا يتناصرون بتناصر بعضهم ببعض، فوَعَد له عَزَّ وَجَلَّ النصر له بقتل بعضهم، وإِجلاء آخرين إلى الشام وغيره. وقوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً (138) قيل: دين اللَّه. وقيل: فطرةُ اللَّه؛ كقوله: " كل مولود يولد على الفطرة ".

وقيل: (صِبْغَةَ اللَّهِ): حجة اللَّه التي أقامها على أُولئك. وقيل: (صِبْغَةَ اللَّهِ): سنة اللَّه. ثم يرجع قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) أي: دينًا وسنة، وحجة تدرك بالدلائل التي نصبها وأَقامها فيه، ليس كدين أُولئك الذين أَسسوا على الحيرة والغفلة بلا حجة ولا دليل. وقيل: إن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماءٍ ليطهروهم بذلك؛ فقال اللَّه عز وجل: (صِبْغَةَ اللَّهِ) يعني الإسلام هو الذي يطهرهم لا الماء. وقوله: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ). قيل: موحدون. وقيل: مسلمون مخلصون. ويحتمل: ونحن عبيده. * * * قوله تعالى: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ

(139)

مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) وقوله: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ). رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قالت اليهود والنصارى: نحن أبناء اللَّه وأَحباؤه، ونحن أَولى باللَّه منكم، فأنزل اللَّه - في ذلك -: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ). وقيل: في اللَّه، يعني: في دين اللَّه. أَي: أَتحاجون وتخاصمون في دين اللَّه؟! وقوله: (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ). أَي: أَتحاجون في اللَّه مع علمكم وإِقراركم أنه ربنا وربكم بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ). وقوله: (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ). قيل: لنا دينُنا ولكم دينُكم؛ كقوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). ويحتمل: (لَنَا أَعْمَالُنَا) ولا تُسئلون أَنتم عنها، (وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) لا نُسأل نحن عن أعمالكم، كقوله: (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). وقوله:، (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ). دينًا وعملا، لا نشرك فيه غيره. وقوله: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ (140) قيل: بل تقولون. وقيل: على الاستفهام في الظاهر: أيقولون، لكنه على الرد والإنكار عليهم، وذلك أَن اليهود قالوا: إن إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه كانوا هودًا أو نصارى. قال اللَّه تعالى: قل يا مُحَمَّد: أَنتم أعلم بدينهم أَم اللَّه، مع إِقراركم أَنه ربكم، لا يخفى عليه شيء في الأَرض ولا في السماء؟!. ومعنى الاستفهام: هو تقرير ما قالوه، كالرد عليهم والإنكار. وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ)

(141)

قيل: الشهادة التي عنده: علمهم أَنهم كانوا مسلمين، ولم يكونوا على دينهم. وقيل: الشهادة التي عندهم بالإسلام: أنه دين اللَّه وأَنه حق. وقيل: الشهادة التي كانت عندهم: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ بينَه اللَّه في كتابهم وأَخذ عليهم المواثيق والعهود بقوله: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)، فكتموه وكذبوه. وقيل: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) في قول اليهود لإبراهيم - عليه السلام - وما ذكر من الأَنبياءِ كانوا هودًا أَو نصارى؛ فيقول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: لا تكتموا الشهادة إن كان عندكم علم بذلك. وقد عَلِم اللَّه أَنكم كاذبون. وقيل: (وَالْأَسْبَاطَ): بنو يعقوب؛ سموا أسباطًا؛ لأَنه وُلِد لكل رجل منهم أُمَّةٌ. وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). خرج على الوعيد، أَي: لا تحسبوا أنه غافل عما تعملون. ويجوز أَن يكون لم ينشئهم على غفلة مما يعملون، بل على علم بما يعملون خَلَقهم؛ ليُعلم أَن ليس له في شيء من عمل الخلق له حاجة؛ ليخلقهم على رجاء النفع له، ولا قوة إلا باللَّه. خلقهم وهو يعلم أنهم يعصونه. وقوله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) قد ذكرنا هذا فيما مَرَّ. * * * قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143).

(142)

وقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا (142) هذا - واللَّه أعلم - وعد كان وعده عَزَّ وَجَلَّ لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه يحوله إلى الكعبة من بيت المقدس، وإخبار عما يقول له اليهود قبل أن يحول وقبل أن يقولوا له شيئًا. ألا ترى إلى قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)، أنه لو لم يكن فيها وعد بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لكان تقلب وجهه إلى السماء بذلك تخييرًا منه وتحكمًا عليه. وليس لأحد على اللَّه التخيير والتحكم عليه في الأحكام والشرائع ولا في غيرها، فدل أنه على الوعد له ما فعل. واللَّه أعلم. ثم فيه إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث كان أخبره على ما أخبر من التحويل إلى الكعبة. والقول منهم نقل أنه علم ذلك باللَّه واختلف في قوله (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ) قيل: هو اليهود، وقالوا ذلك عند تحويل القبلة إلى الكعبة، وذلك أنهم لايرون نسخ الشرائع والأحكام؛ لأنه كالبداء والرجوع عنها. وذلك فعل من يجهل عواقب الأمور، كبانٍ بنى بناءً ثم نقضه لجهل منه به. لكن ذلك منهم جهل بمعرفة النسخ وقدره. ولو عرفوا ما النسخ ما نفوا نسخ الشرائع والأحكام. وأما النسخ عندنا: فهو بيان منتهى الحكم إلى وقت ليس فيه بداء ولا نقض لما مضى، بل تجديد حكم في وقت بعد انقضاء حكم على بقاء الأول لوقت كونه، ليس على ما فهمت اليهود من البداء والنقض لما مضى كالبناء الذي وصفوا. وباللَّه التوفيق. وإن كانت الآية في غير اليهود من أهل مكة، على ما يقول بعض أهل التفسير، فقالوا: لما رجع مُحَمَّد إلى قبلتنا من القبلة الأولى يرجع إلى ديننا. فقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). قل يا مُحَمَّد: لله المشرق والمغرب والأمكنة كلها والنواحي، يأمر بالتوجه إلى أي ناحية شاء شرقًا وغربًا، فالطاعة له في الائتمار لأمره، والقبول لدعائه، لا للتوجه نحو الشرق أو نحو الغرب لِهَوى هووا ولتمنٍّ تمنوا؛ لأن اليهود جعلوا قبلتهم المغرب اتباعًا لهواهم، لا اتباعًا لأمر أمروا به. وكذلك النصارى اتخذوا المشرق قبلة لهوى أنفسهم؛ فأخبر اللَّه تعالى المؤمنين أنهم يأتمرون باللَّه حيث ما أمروا توجهوا نحوه.

(143)

وقوله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). هذا على المعتزلة؛ لأنه أخبر عَزَّ وَجَلَّ أنه (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، ولا جائز أن يهدي وهو لا يهتدي. وهم يقولون: شاء أن يهدي ولكن لم يهتدوا. قوله: (مَن يَشَآءُ) وعلى أن مشيئة الهداية ليست للكل على ما قالت المعتزلة: أن هدايته بيان وذلك للجميع. وفيه دليل نسخ السنة بالكتاب؛ لأن القبلة إلى بيت المقدس لم تكن مذكورة في الكتاب، بل عملوا على سنة الأولين الماضين، وهذا على الشافعي؛ لأنه لا يرى نسخ الكتاب بالسنة إلا بعد عمل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإذا عمل به صار سنة، فهو نسخ السنة بالسنة، لا نسخ بالكتاب. فهذا منه قبيح فاحش. وفيه نبذ الكتاب وهجره، وقد نهينا عنه، والتحكم على اللَّه عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه لم يجعل الكتاب من القدر ما يقع فيه الزجر على ما كان عليه آنفا لولا علمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. فنعوذ باللَّه من السرف في القول والزيغ عن الهدى. ولكن لم يعرف ما النسخ وما قدره، ولو علم لما قال بمثله. وهو عندنا: ما ذكرنا من بيان منتهى الحكم إلى وقته، ولله جل جلاله نصب الأحكام والشرائع في كل وقت، يبين ذلك مرة بالكتاب، وتارة على لسان المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وباللَّه التوفيق. وكما جعل له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يعمل به، فنسخ الكتاب فيه تلك الشريعة. فكذلك في غيره من الناس. واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (143) (وَكَذَلِكَ)، لا يتكلم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلا على العطف على ما سبق من الخطاب، وهو - واللَّه أعلم - معطوف على قوله: [(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. . .)] الآية، كأنه قال: كما وفقكم على الإيمان بما ذكر، وهداكم للإسلام، كذلك جعلكم (أُمَّةً وَسَطًا) يعني عدلًا، (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).

ثم اختلف في قوله: (عَلَى النَّاسِ): قيل: " على " بمعنى " اللام " أي للناس. وهذا جائز في اللغة سائغ، كقوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)، أي للنصب. وقيل: (عَلَى) بمعنى " على "، أي أن يشهدوا على الأمم للأنبياء على تبليغ الرسالة، ويشهد الرسول لهم بالعدالة. وفيه دليل قبول شهادة أهل الإسلام على أهل الكفر، ورد شهادتهم علينا؛ لأنه لو قبلت شهادتنا عليهم على التبليغ، ثم شهد أُولَئِكَ بأنهم لم يبلغوا، لكان فيه تناقض. فدل أن شهادتنا تقبل عليهم، ولا تقبل شهادتهم علينا. واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) الذين أبوا إجابة الرسل. (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) أن جحدتم الرسالة، وذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. . .) الآية أضاف اللَّه إليه جعلهم (أُمَّةً وَسَطًا). ثبت أن لله في فعل ذلك فعل به ذكر مننه. واللَّه أعلم. قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، فالوسط: العدل. أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه جعل هذه الأمة عدلًا، فالعدل هو المستحق للشهادة والقبول لها. ففيه الدلالة على أجعل إجماع هذه الأمة، حجة؛ لأنه وصفها بالعدالة، وصيرها

من أهل الشهادة. فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به، لزم قبول ذلك، والحكم بما شهدوا، والشهادة فيه أنه من عند اللَّه وقع لهم ذلك. والثاني: قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن فيهم صدقة، يلزم اتباعهم. والثالث: ما قال عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) ولا يجوز الوعيد في مثله إذا لم يكن ذلك هو الحق عند اللَّه. والرابع؛ قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59). أمر عَزَّ وَجَلَّ عند التنازع الرد إلى كتاب اللَّه وإلى سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فدل أنه إذا لم يتنازع لم يجب الرد إلى ما ذكر. واللَّه أعلم. وقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: يسأل اللَّه تعالى يوم القيامة الأمم عن تبليغ الأنبياء رسالته إليهم، فينكرون. ثم يأتي بهذه الأمة يشهدون عليهم بالتبليغ. فذلك قوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، ويشهد الرسول عليهم يعني لهم بالعدالة والتزكية. واللَّه أعلم.

قال الشيخ - رضي اللَّه تعالى عنه -: وفي قوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، وجهان: أحدهما: على الكفرة. وفي ذلك دليل قبول شهادة المسلمين عليهم، ورد شهادتهم عليهم، لما يتناقض فيزول منفعة الشهادة عليهم. والثاني: ليكون من شهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، شهود على من يكون بعدهم. وفي ذلك دليل من تأخر الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، عن الخلاف لهم، (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) إذا خالفتموه وعصيتموه. وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ). فهذا - واللَّه أعلم - لما كانوا في المتابعة على قسمين: منهم من تبعه لما وافق هواه. ومنهم من تبعه لما علم أنه الحق من عند اللَّه عَزَّ وَجَلَّ؛ ليبين لهم ويقع علم ذلك عندهم: من المتبع له بهواه، ومن المتبع له بالأمر والطاعة له. وقيل أيضًا في قوله: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ)، قيل: ليعلم من يتبع الرسول ما قد علم أنه يكون كائنًا، وليعلم ما قد علم أنه يوجد موجودا. وقيل: إنه يجوز أن يراد بالعلم المعلوم. معناه - واللَّه أعلم - إلا ليكون المتبع له، والمنقلب على عقبيه. ثم الأصل في هذا ونحوه من قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) أنا لا نصف اللَّه تعالى بالعلم في الخلق، قال: غير الحال التي الخلق عليها؛ لأن وصفنا إياه بالعلم على غير الحال التي عليها الخلق يومئ إلى وصفه بالجهل؛ لأنه لا يجوز أن يقال: يعلم من الساكن في حال السكون حركة، أو السكون في حال الحركة، أو يعلم من الجالس قيامًا، أو القائم جلوسًا. وكذلك لا يجوز أن يقال: يعلم من العدم موجودًا، أو من الوجود معدومًا في حال وجوده؛ لأنه وصف بعلم ما ليس، وهو محال. وباللَّه العصمة. وقيل: إن كل علم يذكر على حدوث المعلوم يذكر بذكر الوقت للمحدَث -بفتح الدال- أي: يسند علمه إلى المحدث بذكر الوقت؛ لئلا يفهم بذكره قدم المعلوم في

الأزل. وإذا وصفنا اللَّه بما هو حقيقة بلا ذكر الخلق مع ذلك نصفه بالذي نصفه به في الأزل لتعاليه عن التغير والزوال وعن الانتقال من حال إلى حال. ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ). يعني: تحويل القبلة، لكبيرة: ثقيلة، على من كان اتباعه لهواه، دون أمر أمر به، إلا على الذي يتبع أمر اللَّه فيها ويعتقد طاعته فإنها ليست بثقيلة عليه ولا كبيرة. وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) قال بعض أهل التفسير: إن قومًا صلوا إلى بيت المقدس ثم ماتوا على ذلك، فلما حولت القبلة إلى الكعبة قالوا: ضاعت صلواتهم التي صلوا إليها، إشفاقًا عليهم. لكن هذا بعيد لا يحتمل؛ لأن الذي اعتقد الإسلام من الصحابة، رضي اللَّه تعالى عنهم، وعرف موقع أمر اللَّه وأمر رسوله، لا يجوز أن يخطر ببالهم هذا، أو يعملون لو خطر ببالهم، حتى يسألوا عن ذلك، بل كانوا أعلم باللَّه من أن يجد عدو لله فيهم ذلك؛ ولأنهم قوم يأتمرون بأمر اللَّه وطاعته، ويموتون على التصديق، وعلموا أنهم مؤمنون، ثم يشككون في أحوالهم، لكن إن كان ثم سؤال فهو من اليهود الذين اعتقدوا بطلان التناسخ في الأحكام والشرائع، فكانوا يحتجون على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بأنه ينهى عن التفرق والاختلاف، ثم يدعوهم إلى ذلك. أو قوم من الكفرة آذوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأفرطوا في التكذيب له والخلاف والمعاداة، فأرادوا الإسلام، فظنوا أن ما كان منهم من العصيان والتكذيب يمنع قبول الإسلام، فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، لما كان منكم في حال الكفر. ألا ترى أن آخر الآية يدل عليه. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ). أخبر أنه (رَحِيمٌ) يتجاوز عمن تاب. أو قوم علموا ألا تناسخ في الدِّين ولا اختلاف فيه؛ فظنوا أن نسخ الأحكام وتبديلها

(144)

يوجب اختلافًا في الدِّين وتفرقًا فيه. فنقول: إن الإيمان في الأصل الذي لا يقع على اعتقاد الصلاة إلى جهة دون جهة، بل يقع على الائتمار. فالإيمان من الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، الذين ماتوا كان على اعتقاد الائتمار فهم مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى بيت المقدس، مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى الكعبة. فلا تفرق ولا اختلاف في الإيمان، إذ في الأصل به وقع الاعتقاد للائتمار. وباللَّه التوفيق. ثم قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) تأويله: أي لا يضيع إيمانكم بالصلاة إلى بيت المقدس. ولو كان على الصلاة فهو لوجهين: أحدهما: أنها إنما قامت بالإيمان، فهو سبب لها، وقد يذكر الشيء باسم سببه. والثاني: أن اليهود عرفوه إيمانا، فورد الخطاب على ما عندهم معروف؛ كقوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، لا أن كان ثم آلهة، لكن لما عندهم، وكذلك قوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، لا أن كان ثم خالق سواه، ولكن لما عرفوا كل صانع خالقًا، فخرج على الخطاب على ما عرفوا هم ذلك الأول. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وقوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ (144) قد ذكرنا أنه يخرج على الوعد له. قوله: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا). قال بعض المُفْتُون: إنه كان يقلب بصره إلى السماء لما يكره أن تكون قبلته قبلة اليهود. ولكن هذا بعيد؛ لأن مثل هذا لا يظن بأحد من المسلمين، فكيف برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؟

(145)

إلا أن يقال: كره كراهة الطبع والنفس، وأما كراهة الاختبار، فلا يحتمل. ويقال: إنه كان حبب إليه الصلاة حتى لا يصبر عنها، وقد نهى عن الصلاة إلى بيت المقدس، ولم يؤمر بعد بالتوجه إلى غيرها، فكان تقلب وجهه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالتوجه إلى غيرها، أو أن يقال: " قبلة ترضاها "؛ لأنها كانت قبلة الأنبياء من قبل، فلا شك أنه كان يرضاها. وهذا جائز في الكلام. يقول الرجل لآخر: أعطيك شيئا ترضاه، وإن لم يظهر منه الكراهية في ذلك، ولا التردد. وقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). وقد ذكرنا القول في القبلة، والاختلاف فيه فيما تقدم. وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). يحتمل قوله: (أَنَّهُ الْحَقُّ) على وجهين: أحدهما: أي علموا أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حق، لكنهم يعاندون ويتبعون هواهم. والثاني: أي علموا بما بُين له في كتبهم أن محمدًا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنه حق. وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ). وهو على ما ذكرنا أنه على الوعيد والتهديد. واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ (145) في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون ولا يتابعون محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قبلته حيث آيسه عن متابعتهم إياه؛ لأنها لو كانت في أهل الكتاب كلهم لكان لهم الاحتجاج على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ودعوى الكذب عليه؛ لأن من أهل الكتاب من قد آمن. فدل أنهم لم يفهموا من عموم اللفظ عموم المراد، ولكن فهموا من عموم اللفظ خصوصًا. وكان ظاهرًا في أهل الإسلام وأهل الكفر جميعًا المعنى الذي وصفنا لك. فظهر أنه لا يجوز أن يفهم من مخرج عموم اللفظ عموم المراد. وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه في موضع الإخبار بالإياس عن الاتباع له. ولا يوصل إلى مثله إلا بالوحي عن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. وفيه أن كثرة الآيات وعظمها في نفسها لا يعجز المعاند عن اتباع هواه والاعتقاد لما يخالف هواه. (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ).

(146)

فيه الوعد له بالعصمة في حادث الوقت وما يتلوه. ويحتمل قوله: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ)، أي وما لك أن تتابعهم في القبلة، وهذا التأويل كأنه أقرب لما خرج آخر الآية على الوعيد له بقوة. وقوله: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ). وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي. ويحتمل: أن يكون المراد من الخطاب غيره. وقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ (146) لأن الأولاد إنما تعرف بالأعلام وأسباب تتقدم، فعلى ذلك معرفة الرسل، عليهم السلام، إنما تكون بالدلائل والأعلام، وقد كانت تلك الدلائل والأسباب في رسول الله ظاهرة، لكنهم تعاندوا وتناكروا وكتموا بعد معرفتهم به أنه الحق، دليله قوله: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). والكتمان أبدًا إنما يكون بعد العلم بالشيء؛ لأن الجاهل بالشيء لا يوصف بالكتمان. ورُويَ عن عبد اللَّه بن سلام، أنه قال: أعرفه أكثر مما أعرف ولدي؛ لأني لا أدري ما أحدث النساء بعدي. وفيه الدلالة أن نعته وصفته كانت غير مغيرة يومئذ، وإنما غيرت بعد حيث أخبر أنهم كتموا ذلك. وقيل: (لَا يعْلَمُونَ): لا يؤمنون؛ وهو على ما بينا من نفى بذهاب نفعه، وجائز أن يكونوا عرفوه بما وجدوه بنعته في كتبهم، كما قال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157). وقوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) يحتمل: أن يكون الخطاب له والمراد غيره. ويحتمل: هو، وإن كان يعلم أنه لا يمتري؛ لما ذكرنا في غير موضع أن العصمة لا

(148)

تمنع النهي عن الشيء. وقوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا (148) قيل فيه بوجوه: قيل: " هو موليها " يعني اللَّه موليها، ومحولها. وقيل: " هو " يعني المصلي، هو موليها. وقيل: ولى -أقبل وأدبر- (هُوَ مُوَلِّيهَا) هو مستقبلها. ويقال في قوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) لكل ملة من المسلمين قبلكم جعلت قبلتها الكعبة. وقوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ). قيل فيه بوجوه: قيل: بادروا الأمم السالفة بالخيرات والطاعات. وقيل: (فَاسْتَبِقُوا) هو اسم الازدحام، يقول: يبادر بعضكم بعضا بالخيرات. ويحتمل: أي استبقوا في أمر القبلة والتوجه إليها غيركم من الكفرة. واللَّه ورسوله أعلم. وقوله: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا). قيل: أينما كنتم يقبض اللَّه أرواحكم من البقاع البعيدة والأمكنة الحصينة. وقيل: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا) أي في أي حال كنتم -عظامًا ناخرة أو بالية أو رفاتًا- يجمعكم اللَّه ويحييكم، ولا يتعذر عليه ذلك، وهو كقوله: (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، أخبر أن شدة الحال عندكم لا يتعذر عليه، ولا يشتد من الإحياء والإماتة. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). من جمع ما ذكرنا من الأشياء المتفرقة وإحياء العظام البالية. * * * قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا

(149)

وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) وقوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (149) نقول - واللَّه أعلم -: حيثما كنت من المدائن والبلدان (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، شطره: تلقاءه ونحوه وجهته. وهذا يبطل قول من يقول؛ إن الحرم قبلة لمن نأى عن البيت، وبعد من أهل الآفاق، حيث أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام حيث ما كانت من البلدان. وبالله العصمة والتوفيق. وقال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: ذكر المسجد، ومعناه موضعًا منه عرف ذلك بالفحص من البقاع البعيدة والأمكنة الخفية، لا بالظاهر ولا ذكر وصل البيان به. وقوله: (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ). قيل: (وَإِنَّهُ) تحويل القبلة، هو الحق (مِنْ رَبِّكَ). وقيل: (وَإِنَّهُ) يعني محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، هو الحق (مِنْ رَبِّكَ) ويحتمل يعني: القرآن هو الحق من ربك. وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). قد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (150) على ما ذكرنا. وقوله: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). خاطب الكل، وأمرهم بالتوجه إليه حيثما كانوا، حتى لا يكون هو المخصوص به دونهم. وقوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) تأويل هذا الكلام - واللَّه أعلم - أنه لما اختار اليهود ناحية المغرب قبلة، والنصارى ناحية المشرق بهواهم، فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ

مُسْتَقِيمٍ)، وقال: فأينما تولوا وجوهكم شطره، فثم وجه اللَّه. فيقطع عذرهم وحجاجهم بما بين في كتب لهم أنه يحولهم. وذلك معنى قوله: (لَئلا يَكُونَ لِلناسِ عَليكُمْ حُجة). وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). ثم اختلف في قوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ). قيل: أراد بـ (الناس) أهل الكتاب، وأراد بـ "الذين ظلموا" غيرهم من الكفرة. وتأويله: لئلا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة، ولا الذين ظلموا. وقيل: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) يعني أهل الكتاب (عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) فيقولوا: ليس هذا الوصف في كتبهم أنه يصلي إلى بيت المقدس وقتا ثم يتحول إلى الكعبة، (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) يقول: إلا من ظلم منهم عليكم في الكلام بلا حجة ولا دليل فيقولوا: ليس هذا الوصف. ومثل هذا جائز في الكلام، يقول لآخر: ليس لك على حجة إلا أن تظلمني بلا حجة. وقال الفراء: هذا كما يقول الرجل لآخر: الناس لك حامدون إلا الظالم المتعدي عليك، صواب في المعنى، خطأ في العربية. وذكر بيتا يدل على الجواز. ما بالمدينة دار غير واحدة ... دار إِلَى خليفة إلا دار مروان بمعنى: ولا دار مروان. وقيل أيضًا: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) على القطع من الأول والابتداء بهذا، أي: لا تخشوا الذين ظلموا في الضرر لكم، ولكن اخشوني في ترككم إياها، وأن يقال: لا تخشوهم بالقتال والغلبة، فذلك لهم منه أمن وإظهار على الأعداء، وعلى هذا يخرج قوله: (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) يعني الأمن من الأعداء، ولا نعمة أعظم من الأمن وإظهار الحق كقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)، قيل: هو الأمن من الأعداء، أو أراد بالنعمة كل نعمة من الإسلام، والنصر، وغيره. (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) القبلة. (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الإرشاد والصواب.

(151)

وقوله: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) (كمَا) حرف لا يصح ذكره إلا على تقدم كلام؛ إذ هو حرف عطف ونسق، وهو - واللَّه أعلم - كما أرسلنا إليكم رسولا، وأنعم عليكم بمعرفة وحدانيته وبمعرفة محاجة الكفرة وأنعم عليكم بإكرامه إياكم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كذلك يجب عليكم أن تذكروه وتشكروا له. ويحتمل على التقديم والتأخير على ما قاله أهل التفسير: كأنه قال: فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم، وذلك في القرآن كثير. قال الفراء: يحتمل: كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم أذكركم، فيكون فيه جوابه؛ لذلك جزم، وهذا كقول الرجل: كما أحسنت فأحسن. وقوله: (وَيُزَكِّيكُمْ)، قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يأخذ زكاة أموالكم، ففيه زكاتهم. وقيل: (وَيُزَكِّيكُمْ) يدعوكم إلى ما به زكاة أنفسكم وصلاحها، وهو التوحيد، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله: (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ) هو القرآن. (وَالْحِكْمَةَ)، قيل فيه بوجوه: قيل: " الحكمة ": الفقه. وقيل: " الحكمة ": الحلال والحرام. وقيل: " الحكمة ": السنة. وقيل: " الحكمة ": المواعظ. وقيل: " الحكمة ": هي الإصابة؛ ومنه سمي الحكيم حكيمًا؛ لأنه مصيب. وقال الحسن: (الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ): واحد، وهو على التكرار؛ كقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ)، وهما واحد. وقوله: (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من التوحيد والشرائع، والمحاجة مع الكفرة،

(152)

وما أكرمهم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وما أنعم عليهم من أنواع النعم. وقوله: (رَسُولًا مِنْكُمْ): خاطب العرب، وذكرهم بما أنعم عليهم من بعث الرسول فيهم ومنهم، وإنزال الكتاب بلسانهم وهم كانوا يتمنون ذلك، كقوله: (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ)، فمنَّ عليهم بذلك، وبه استوجبوا الفضيلة على غيرهم، وكفى بهم فضلًا، وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42). * * * وقوله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) قيل: (فَاذْكُرُونِي) قيل: بالطاعة في الدنيا، (أَذْكُرْكُمْ) في الآخرة بالتجاوز عن سيئاتكم. وقيل: اذكروني في الرخاء والسعة، أذكركم في الضيق والشدة. وقيل: اذكروني في الخلوات، أذكركم في ملأ الناس وأذكركم في ملأ من الملائكة. ويحتمل: اذكروني بالشكر بما أنعمت عليكم، أذكركم بالزيادة عليها. واللَّه أعلم. وقوله: (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)، أي: وجهوا شكر نعمتي إليَّ، ولا تشكروا غيري. ويحتمل: (وَاشْكُرُوا لِي): أي وجهوا العبادة إليَّ، (وَلَا تَكْفُرُونِ): ولا تعبدوا غيري. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) قد ذكرنا تأويل هذه الآية فيما تقدم. وقوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) قيل فيه بوجوه: قيل: إن العرب كانت تعرف الموتى من انقطع ذكره، إذا لم يبق له أحد يذكر به من

نحو الولد وغيره فيقولون عند موت هَؤُلَاءِ: إن ذكرهم قد انقطع، فأخبر اللَّه تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنهم مذكورون في ملأ الملائكة. وقال الحسن: إن أرواح المؤمنين تعرض على الجنان، وتعرض أرواح الكفرة على النيران، فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لغيرهم من الأرواح. ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم بعرضها على النار ما لا يكون لغيرهم من الكفرة ذلك، فاستوجبوا اسم الحياة بفضل لذة ما يجدون من اللذة على غيرهم. أخبر عَزَّ وَجَلَّ: أن أرواح الشهداء في الغيب تتلذذ مثل تلذذهم على ما كانت عليه في الأجساد في دنياهم هذه. وقيل: إن الشهيد حي عند ربه، كما عرف في اللغة: أن الشهيد هو الحاضر، أخبر عَزَّ وَجَلَّ أنهم حضور عند ربهم وإن غابوا عنكم. وقيل: إن الحياة والموت على ضروب: فمنها: الحياة الطبيعية، والحياة العرضية، والموت الطبيعي، والموت العرضي. فالحياة العرضية هي اليقظة، وهي الحياة بالدِّين، كقوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)، وكقوله في الحياة بالعلم، إنه ميت بالجهل. والحياة الطبيعية: هي التي بها قوام النفس. والموت الطبيعي: هو الذي به فوات النفسي. والشهادة: هي التي بها اكتساب الحياة في الآخرة، سمي به (حياة). واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ)، أي لا تقولوا (أَمْوَاتٌ)، لما ينفر طبعكم عن الموت، ولكن قولوا (أَحْيَاءٌ) لترغب أنفسكم في الجهاد، إذ هو يرد بحياة الدنيا والدِّين، مع ما يحتمل أن يكون اللَّه بفضله يجعل لهم ما كان لهم لو كانوا أحياء يعملون. فكأنهم أحياء فيما جعلت لهم حياة الدنيا. واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) وقوله: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156).

(155)

وقوله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ (155) وما ذكر فيه تذكير من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ للخلق؛ لئلا يجزعوا على ما يصيبهم من أنواع ما ذكر، من المصائب. وفي كل نوع ما ذكر من المصائب إضمار " شيء "، من نحو (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) و (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) واللَّه أعلم؛ لأن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أخبر في غير آية من القرآن: أنه خلقهم للموت والفناء، وأن ما أعطاهم من الدنيا والزينة فيها كله للفناء والفوات بقوله: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وقال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8). أخبر أن الدنيا وزينتها للفناء، فمن عرف أن ذلك كله لما ذكرنا يحق عليه ما يصيبه من الأمراض والأوجاع والنقص في الأموال والأنفس وما ذكر إذ ذلك كله، دون ما ذكر، وليعلموا أن ما أعطاهم من الحياة والصحة والسلامة لم يكن أعطاهم لحق لهم، بل للإفضال والإحسان، وقد جعل ذلك لمدة لا للأبد، فكأنه، في غير تلك المدة لغيرهم لا لهم، فعرفوا به منته لوقت وحقه وقت الأخذ. ثم يحتمل ما ذكر من الخوف وجهين: على جهة العبادة من نحو الأمر بمجاهدة العدو والقتال معه. ويحتمل لا على جهة العبادة، وكذلك الجوع يحتمل الجوع الذي فيه عبادة، وهو الصوم. ويحتمل ما يصيبهم من المجاعة في القحط ما أصاب أهل مكة سنين، وكذلك قوله: (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)، يحتمل: (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ) يمتحنهم بأداء الزكاة والصدقة. ويحتمل الهلاك بنفسها، وكذلك (وَالْأَنْفُسِ) ويحتمل الصرف على الوجهين اللذين ذكرتهما. وكذلك (وَالثَّمَرَاتِ). ثم لا يحتمل خصوص الامتحان بما ذكر دون غيره؛ لأنهم كلهم عبيده، له أن يمتحنهم بأجمعهم بجميع أنواع المحن، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه لما عرفهم أن كل ذلك إنما خلق للفناء، فالبعض منه كذلك، ليخف ذلك عليهم. واللَّه أعلم. ثم أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يبشر الذين صبروا على المصائب التي امتحنهم بها عَزَّ وَجَلَّ، ولم يجزعوا عليها، وقالوا: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ). فيه الإقرار بوحدانيته عَزَّ وَجَلَّ، وبالبعث بعد الموت.

وقيل: إن هذا الحرف خص به هذه الأمة دون غيرها من الأمم؛ لأنه لم يذكر هذا الحرف عن الأمم السالفة؛ ألا ترى أن يعقوب - عليه السلام - على كثرة ما أصابه من المحن والمصائب والحزن على يوسف لم يذكر هذا الحرف عنه، ولكن قال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)، ولو كان لهم هذا لظهر منهم على ما ظهر غيره؛ فدل أنه مخصوص لهذه الأمة. واللَّه أعلم. ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " من استرجع عند المصيبة جبر اللَّه مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفًا صالحًا يرضى به ". ثم الصبر: هو حبس النفس عن الجزع على ما يفوت؛ إذ هو كله لله عَزَّ وَجَلَّ مستعار عند الخلق، والجزع على فوت ما لغيره محال؛ ألا ترى إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23). نهانا أن نحزن على ما يفوت عنا؛ إذ هو في الحقيقة ليس لنا، وأن نفرح بما أتانا؛ إذ هو في الحقيقة لغيرنا. واللَّه الموفق. وقوله: (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ)، فهو على إضمار " الشيء " في كل حرف، إذ هو بحق العطف على ما تقدم؛ فكأنه قال: بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع. ولا قوة إلا باللَّه. ثم يتوجه ما أخبر من البلوى إلى وجهين: أحدهما: أن يبلوه بعبادة فيها ما ذكر. والثاني: أن يبلوه بالذي ذكر لا على عبادة يدفع إليه؛ وذلك نحو أن يبلوه بالجهاد، وفيه الخوف، أو يبلوه بأنواع أوصاب تحل به، فيخاف عند ذلك على نفسه. والجوع: أن يبلوه بالصيام الذي فيه ذلك، أو بقلة الإتراب وغلاء الأسعار. ونقص من الأموال: يكون في الجهاد، والحج، والزكوات، والمؤن المجعولة في الأموال، ويكون في الخسران في التجارات، وما يلحق أنواع المكاسب من الحوائج. والأنفس: يكون بالجهاد، ومحاربة الأعداء، ويكون بأنواع الأمراض. والثمرات: ترجع إلى قلة الإنزال، وقصور الأيدي عما به ينال، ومفارقة الأوطان للجهاد والحج ونحو ذلك مما فيه. ثم اللَّه سبحانه وتعالى أخبر أنه يبلوهم بشيء مما ذكرنا، لا بالكل. دل أنه -عَزَّ وَجَلَّ -

(156)

لم يقطع عليهم كل المخارج، بل جعل لهم في كل نوع من ذلك مسلكًا وإن كان في ذلك نقصًا وضررًا، وجائز بلوغ ذلك تمام ما في كل نوع، لكنه بلطفه قرب إليهم فيما خوفهم وجه الرجاء، وعلى ذلك جميع الفعال ذي المحن أنها مقرونة بالخوف والرجاء، وكذلك هم في أنفسهم. ولا قوة إلا باللَّه. ثم إن اللَّه دلهم على ما عليهم من الحق فيما أخبر أنه يبلوهم به بحرف البشارة والوعد الجزيل الذي يسهل بمثله البذل لمن لا حق له، فكيف ومن له كليته ذلك؛ فقال الله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). ثم وصف الصابرين فقال: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) وهدى اللَّه عبده إلى الاعتماد بحرف التوحيد عند المصيبة؛ إذ جعل التوحيد داخلا في ذلك الحرف. وفيه التبري من أن يكون له في حكم اللَّه تدبيرًا ورأى، وبذل النفسي له وما للنفس ليحكم فيها بما شاء. وقوله: (إنَّا للَّهِ)، كأنه قال: ما لنا فيما ليس لنا حكم ولا تدبير، وأبدًا يكون الحكم في كل ملك لمن يملكه. وبمثل هذا يقدر على كف الأنفس عن الجزع وحملها على ما يكره. وقوله: (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، فكأنه يقول إذ إليه مرجعنا، لا فرق أن نرجع إليه جملة أو بالتفاريق، بل في التفريق علينا الإبقاء وفضل القبول منا البعض دون الكل. وفي ذلك تذكير النفسي عاقبتها ليكون كمن تقدم شيئًا مما به قوامه إلى مكان قراوه، وقد انتهى الخبر بالبلوغ. فمعلوم أن ذلك أطيب لنفسه، وأسكن بقلبه من أن يكون جميع ذلك معه. وبالله التوفيق. وجملة ذلك أن هذه الدنيا أنشئت لا لها ولكن ليكتسب بها الآخرة، وجعل كل شيء منها زائلًا فانيا لينال به الدائم الباقي. فهذا لأن حق كل فيما يصيبه أن يرى الذي أنشيء وما له يسعى، فيعلم أنه بلغ في تجارته غايتها من الربح، وأنه باع الشيء الفاني بالباقي، مع ما كان كل شيء من الدنيا مأوى بآفات الفناء والهلاك، فأبدل المأوى بالذي لا آفة فيه. فيجب في التدبير ألا يعد ذا مصيبة، بل هو أعلى السرور وأرفع الربح، لكن البشر - تجبل على طباع نافرة عن كل ألم جاهل بالعواقب التي لعلها يرغب فيها كل أحد، لا أن ينفر عنها. واللَّه المستعان. فإن قال قائل: هذا الاسترجاع خص به هذه الأمة؛ إذ قال يعقوب: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) الآية. فهو واللَّه أعلم، إن كان فهو موضع التلقين والتعليم أن

(157)

قولوا ذلك، لا أن هذا المعنى مما يحتمل أن يكون يعقوب لا يحققه، بل حققه بقوله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). وقوله: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86). يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)، وهو مع ذلك قد كان بما أخبره يوسف، وبما أوحى إليه أنه قد علم أنه لم يهلك بعد، ولم يوجد منه إلى حيث يرجع هو إليه من البعث بعد الموت. ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ (157) قيل: الصلاة من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يحتمل وجوهًا: يحتمل: الرحمة والمغفرة. ويحتمل: الصلاة منه - مباهاته الملائكة؛ جوابًا لهم لما قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)، كيف قلتم هذا؟ وفيهم من يقول كذا. وقيل: الصلاة منه: الثناء عليهم. وأي كرامة تبلغ كرامة ثناء اللَّه عليهم. وقوله (وَرَحْمَةٌ) وقَالَ بَعْضُهُمْ الرحمة والصلاة واحد وهو على التكرار، وقيل: الرحمة: النعمة وهي الجنة. وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) شهد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بالاهتداء لمن فوض أمره إلى اللَّه تعالى، ويسلم لقضائه وتقديره السابق وهو كائن لا محالة؛ كقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). قال الشيخ - رحمه اللَّه -: قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) يبلوهم بالذي كان به عالمًا ليكون به ما علمه يكون بالأمر والنهي بحق المحنة، وهو كما يستخبر عما هو به خبير، مع ما كانت المحنة في الشاهد لاستخراج الخفيات يكون بالأمر والنهي، فاستعملت في الأمر والنهي، وإن كان لا يخفى عليه شيء، بل هو كما قال: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). ثم له جعل الغيب شاهدًا، فجرت به المحنة، ليعلم ما قد علمه غائبًا شاهدًا، إذ هو موصوف بذلك في الأزل. وباللَّه التوفيق. ثم كان العبد بجميع ما هو له من السعة والسلامة فهو لله في الحقيقة، لكنه بفضله

(157)

وكرمه يعامل عبيده معاملة من ليس له ما كان يطلب منه ولي أمره به، فقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، وقال: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) ليكون ذلك أطيب لأنفسهم وأرغب لهم في البذل لما طلب منهم، وإن كان له أخذ ذلك منهم بلا شيء يعدهم عليه، فعلى ذلك قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالذي ذكر، يدلهم على أن ذلك منه؛ ليعلموا أنه فيما كان وعد الاشتراء منهم، وطلب منهم البذل بجزيل العوض لهم، فيخف ذلك عليهم وتطيب به أنفسهم، وأن يكون يذكر أولا أنه يبتليهم بالذي ذكر ليطيبوا أنفسهم به، ولا يتكلفوا ذلك من قلوبهم، فيضجرون عند الابتلاء بذلك، وكذا كل خلاف للطبع إذا كان عن رياضته إياه وإشعاره به قبل النزول، كان ذلك أيسر عليه من أن يأتيه ذلك من حيث لم يهلمم به، مع ما كان في ذلك خطر بالقلوب نسبة مثله إلى الخلق والتشاؤم بهم، فقدم اللَّه في ذلك البيان ليعلموا أن ذلك بالذي جرى به الوعد، وذلك كقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ)، الآية، فبين أن ذلك مكتوب عليهم لتطيب الأنفس وتطمئن القلوب عليه. والأصل في هذا: أن جميع ما ذكر البلوى به في التحقيق ليس بحق للعبد، بل هو امتنان من اللَّه وإفضال منه، وأنه لم ينشئه ولا أحياه نشوء الأبدية ولا حياة السرمدية، فعلى ذلك جميع ما أنعم عليه، وإذا سكن العبد على هذا الذي جبل عليه أمر نفسه وما ملك عليه سهل عليه ذهابه، وطابت به نفسه، مع ما يعلم أنه أنعم عليه لوقت، ثم هو نعمة على غيره ولغيره، فيكون المأخوذ منه في الحقيقة لغيره، وإن كان اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ذكره في الابتلاء والمصائب، فهو على ما أخبرت من كرمه فيما يعامل عبيده عَزَّ وَجَلَّ. ولا قوة إلا باللَّه. ثم بين اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ما يكرمهم؛ إذا خضعوا لحكمه ورضوا لقضائه، مع ما دل عليه أيضًا بقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. . .) الآية، فقال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)، وقال في موضع آخر: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، فكان من فضله أن سمى ما وعدهم على الصبر أجرًا، ومعلوم أن كان ذلك حقا لله عليهم، بالسابق من نعمه، مع عظم مننه، لكنه سمى ما أفضل به أجرًا له، مع ما كان العبد

يعمل لنفسه، ولا يحتمل أن يستحق به الأجر لولا الإنعام منه جل ثناؤه. ثم وعد له في حال فعله بخصال ثلاثة: إحداها: أن عليه صلاته. وصلاته تحتمل مباهاته الملائكة تعظيمًا لما بذل عبده له، وخضع لحكمه عليه، وهو أن قالوا: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ. . .) الآية، فيخبرهم أن هذا قد سبح حضرة المصيبة، وخضع لحكمه عليه فيها بالاسترجاع. ويحتمل: مغفرته وإيجاب الثواب الجزيل له بقوله: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) إلى ما ذكر من الإفضال. واللَّه الموفق. ويحتمل ثناؤه ذكرهم في أخبار عباده، كقوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)، وقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا. . .) الآية. مع ما يرجى له من زيادة الهدى في الدنيا بقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، وقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ). والثانية: الرحمة. قد يرجع إلى ما ذكرنا، وجائز أن تكون، رحمته هي التي أكرمته بذلك الاسترجاع. ويحتمل: النعمة، أو رحمة يلقيها في قلوب العباد حتى يحبونه بها، أو خلف يعطيه في الدنيا. والثالثة: ثم شهد اللَّه لهم بالهداية، وذلك يحتمل: أن يكونوا اهتدوا لدينه، ولما من عليهم في المصيبة من التسليم لله. ويحتمل: الاهتداء لطريق الجنة على ما بينه أنه وعد الشهداء. ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) للاسترجاع. وقد رُويَ عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لم يعط الاسترجاع من كان قبلكم "،

فهو على ما بينا من القول به، وأما حق التسليم فقد كان في توقيت وقت الصبر، ثم روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الصبر عند الصدمة الأولى ". وقد رُويَ عن أنس، رضي اللَّه عنه، أن رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم قال: " ما من مصيبة وإن طال عهدها فيجدد لها العبد بالاسترجاع إلا جدد اللَّه له ثوابها كلما استرجع ". فلعل هذا لمن أحسن القبول وقت المصيبة، أو رجع عما كان فرط منه وتاب. والأول في غير ذلك. واللَّه الموفق. ثم في الآية وجوه من المعتبر: أحدها: ما يلزم العبد من المصائب، وما يستوجبه إذا وفَّى بما عليه. والثاني: في ذلك بيان أن الصحة، والأمن، وحفظ المقدر لأحد ليس بلازم في الحكمة، لكنها إنعام من اللَّه، وله الابتلاء بأخذه؛ إذ لو كان عليه الأول لم يكن يلزمه الشكر في ذلك. واللَّه الموفق. والثالث: أن اللَّه تعالى ذكر أنه بَلَا العباد بالذي ذكر، ومعلوم أن ذلك يجري على أيدي العباد بهم، فأضاف ذلك إلى نفسه. ثبت أن له في ذلك، تدبيرًا حتى يبلوهم به. والله أعلم. وفيه أن اللَّه تعالى قال: ونبلوكم بكذا، ولم يكن كان يومئذ ثم كان ذلك، وكذلك قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ. . .) الآية. ثم بلوا بذلك ليعلم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - علم ذلك باللَّه، وتبين أيضًا أنه بموضع البشارة بما يعظم على الخلق ويقتضي القرار في الطبع، لم يحتمل أن يجيزهم به لولا الأمر به وطاعة اللَّه في ذلك. وأيضًا أنه ذكر الخوف فيعلم أن الخوف من الخلق لا يوهن الاعتقاد، وكذلك قوله: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فعلى ذلك، الرجاء والطمع وجملته أن أمر

(158)

الدنيا محمول كله على أسباب، لا أنها توجب ولكن اللَّه تعالى أجرى أحكامه عليها، فيكون الخوف والرجاء في التحقيق من اللَّه تعالى أن يكون جعل ذلك سببًا. والله الموفق. وأيضا: أن يعلم أن المصائب في الدنيا ليست كلها عقيب الآثام، بل لله تعالى الابتلاء بالحسنات والسيئات، أيضًا لا يدل على وهن عقد المصائب، ولا زلة بليَ بها. وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل، عليهم السلام، ولكن على وجهين: أحدهما: أن يكون اللَّه تعالى يريد أن يحميَ وليه لذات الدنيا لينالها موفرة في الآخرة. والثاني: أن يكون لهم بعده زلات لا يسلم عنها البشر، فيبتلوا، فيبعثوا يوم القيامة ولا زلة بقيت مما يجزيهم تلك. ولا قوة إلا باللَّه. وإنما كذلك جعلت لمحنة. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) قال دلَّ: قوله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ). دلَّ أن صعودهما من اللازم في نسكه، وكذلك صعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الصفا وقال: " نبدأ بما بدأ اللَّه "، وقد قال اللَّه تبارك وتعالى: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) الآية، ولم يقل: بينهما. فمن لم يصعد الصفا والمروة فلم يطف بهما، مع ما قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ)، وفي ترك صعودهما إحلال شعائر اللَّه، إذ قد بين اللَّه أنهما (مِن شَعَائِرِ اللَّهِ). وما روي أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - طاف بينهما على ناقته، ومعلوم أن ناقته لا تصعدهما، فهو عندنا للعذر فعل ذلك، وإلا فإنه قد رُويَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه صعدهما واستقبل البيت وقال: نبدأ بما بدأ اللَّه. دليل ذلك ما رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ عنه، أنه طاف بينهما على ناقته وبالبيت لعُذر به. ولا يحتمل أيضا أن يكون بغير عذر وهو الملقب بالسعي؛ لما فيه من فعل السعي، والراكب لا يسعى.

وقال الشافعي: رُويَ عن جابر بن عبد اللَّه: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - طاف بالبيت وبين الصفا والمروة على ناقته ليرى الناس. وقال: خبر جابر أولى من خبر ابن جبير؛ فكأنه وقع عنده أنه عن ابن جبير. وذلك عن ابن جبير عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، وهو أولى؛ لأن العذر كامنٌ لا يعرف بالنظر من بعد، وإنما يعرف بالتأمل، أو بالخبر من عند ذي العذر، وعلى هذا خرج خبر ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ عنه، على أن خبر جابر لو صح على ما يروى فهو لما ذكر أنه " يرى الناس، فكأنه أراد أن يعلمهم، وذلك كالتعليم منه، والتعليم عليه لازم، فهو بتركه يلام عليه، فذلك عذر. واللَّه أعلم. والثاني: أنه يجوز أن يكون فعله ذلك ليس هو فعل ما كان عليه، أنه كيف كان يفعله؛ فكان ذلك لمكان الدلالة للخلق بذلك هو الأمر المتوارث من صنيع الحج والعمرة، أن الأولى يفعلون ما يفعل الحاج، لا على فعل الحج، ولكن على التعليم؛ فعلى ذلك أمر المرُويَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. واللَّه أعلم. ثم اختلف في الطواف بينهما بعد ما قيل: إن الجناح فيه لوجهين: أحدهما: ما قيل: كان بالصفا صنم وبالمروة صنم فيخرجوا لمكانهما. وقيل: كان بينهما أصنام، لذلك كان يخرجهم. ثم قال الشافعي: إن السعي بينهما مفروض، حتى لو ترك الحاج خطوة منه وأتى

أقصى بلاد المسلمين أمر بالعود ليضع قدمه موضعها ويخطو تلك الخطوة. واحتج بما روت صفية بنت فلان أنها سمعت امرأة سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: " إن اللَّه كتب عليكم السعي بين الصفا والمروة فاسعوا ". وهو يأتي مرة بقبول المراسيل لتوهم الغلط، ومرة يحتج بامرأة لا يعرف ولا يذكر اسمها. والوجه فيه إن ثبت وصح أن الكتاب يحتمل غير ما قاله. وهو أن يقال: (كُتِبَ) أي حكم، كقوله: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ)، وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)، قيل: به حكم اللَّه عليكم. وقال آخرون: ليس بفرض ولا لازم. واحتجوا بما ذكر في حرف أُبي: " لا جناح عليه أن لا يطوف بينهما "، ولا يذكر ذلك في شيء واجب. والثاني: إن هذه اللفظة لفظة رخصة، ولا يرخص بترك ما هو فرض أو لازم. ثم الجواب عن الحرف الأول أن اللات ربما تزاد وتنقص، ولا يوجب زيادتها ونقصانها تغير حكمها، كقوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)، أي: لا تضلوا. ومثل هذا كثير في القرآن. والثانى: ما ذكرنا أن المسلمين كانوا يتحرجون عن الطواف بينهما لمكان الأصنام. فبين عَزَّ وَجَلَّ أن لا حرج عليهم في ذلك، لا أن ليس الجناح يدفع الحرج في تركه. وأما عندنا: فهو لازم؛ لأنه نوع ما لا يتبرع به، والأصل عندنا: أن ما لا يتبرع به يخرج الأمر به مخرج الوجوب واللزوم؛ كالطواف، وسجدة التلاوة، وكالوتر، والأضحية وغيره. وقد رُويَ عن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها قالت: " ما تم حج امرئ قط إلا بالسعي ". فهو وصف بالنقصان لا وصف بالفساد، وفرق بين التمام من النقص وبين

(159)

الجواز من الفساد. وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ). قيل: (شَاكِرٌ)، أي يجزيهم جزاء الخطير بعمل اليسير. وقيل: يقبل القليل ويعطي الجزيل. وهو واحد. عامل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بكرمه ولطفه عباده معاملة من لا حق له في أموالهم وأنفسهم؛ حيث وعد قبول اليسير من العمل، وإعطاء الجزيل من الثواب؛ وحيث طلب منهم الإقراض، ووعد لهم العظيم من الجزء، كمن لا حق له فيها، بقوله: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)، وحيث خرج القول منه في الابتلاء والامتحان مخرج الاعتذار لهم كأن لا حق له فيها، بقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ. . .)، ثم بشرهم بالجنة بما صبروا على أخذ ما له أخذه، وذلك من غاية اللطف والكرم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). قيل: (الْبَيِّنَاتِ) وهي الحجج، أي كتموا ما أنزل اللَّه من الحجج التي كانت في كتبهم. وقيل: كتموا ما بين في كتبهم من نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته. وجائز أن يكون (الْبَيِّنَاتِ) وما بين للخلق مما عليهم أن يأتوا ويتقوا من الأحكام من الحلال والحرام. وقوله: (وَالهدَى). قيل: الصواب والرشد. وقيل: (وَالْهُدَى) ما جاءت به أنبياؤهم من شأن مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ودينه وأمروا من هديه من

(160)

تصديقه وقيل: كتموا الإسلام ومن دين اللَّه كتموا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ) اختلف في الناس. قيل: هم اليهود كتموا بعد ما بين لهم. وقِيل: بينا للمؤمنين ما كتمهم اليهود من نعته ودينه. ويحتمل: البيان بالحجج والبراهين. ويحتمل: البيان بالخبر، أخبر المؤمنين بذلك. وقوله: (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ)، قال بعض أهل الكلام: اللعن: هو الشتم من الله تعالى، لكنا لا نستحسن إضافة لفظ الشتم إليه؛ لأن المضاف إليه الشتم يكون مذمومًا به في المعروف مما جبل عليه الخلق. ونقول: اللعن: هو الطرد في اللغة، طردهم اللَّه عز وجل عن أبواب الخير. وقوله: (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)، يعني الداعين عليهم باللعن، سموا بذلك " اللاعنين ". ويحتمل: تستبعدهم عن الخيرات وأنواع البر. وقيل: (اللَّاعِنُونَ) هم البهائم، إذا قحطت السماء، وأسنت الأرض قالت البهائم: منعنا القطر بذنوب بني آدم، لعن اللَّه عصاة بني آدم. وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا (160) قيل: (تَابُوا) عن الشرك، و (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم، و (وَبَيَّنُوا) صفة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: (إلَّا الَّذِينَ تَابُو) عن الكتمان، و (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا بالكتمان، و (وَبَيَّنُوا) ما كتموا. وقوله: (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). قيل: يتوب عليهم: يقبل توبة من يتوب. وقيل: يتوب عليهم، أي: يوفقهم على التوبة. وقيل: (الرَّحِيمُ): هو المتجاوز عن ذنبهم في هذا الموضع.

(161)

وقيل: الكاشف عن كربهم. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) قيل: لعنة اللَّه، هو إدخاله إياهم النار وإخلادهم فيها. ولعنة الملائكة قوله: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، جوابًا لما سألوهم من تخفيف العذاب، كقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ)، وكقوله: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)، فتقول لهم الملائكة: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)، هذا ما قيل من لعنة الملائكة. وقيل: لعنة الناس أجمعين، أنهم لما طلبوا من أهل الجنة: الماء بقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)، هذا لعنة الناس. واللَّه أعلم. وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) قيل: لا يقالون ولا يردون إلى ما تمنوا، كقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ). وقيل: لا ينظرون ولا يؤجلون. وقيل: لا يناظرهم خزان النار بالعذاب. * * * قوله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164). وقوله: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ). ذكر هذا الاسم؛ لأن كل معبود يعبد عند العرب يسمون إلهًا؛ كقوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، وكقوله (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)؛ لهذا ذكر أن إلهكم الذي يستحق الألوهية والعبادة واحد بذاته، لا واحد من جهة العدد بالخلق ذي أعداد وأزواج وأشكال، بل واحد بذاته وبجلاله وعظمته وارتفاعه وتوحده عن شبه

(164)

الخلق وجميع معايبهم. يقال: فلان واحد زمانه. يراد لارتفاع أمره وعلو مرتبته، لا بحيث العدد، إذ بحيث العدد مثله كثير. وقوله: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، فيه إثبات إله واحد، وفي قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) ونفى غيره من الآلهة. فَإِنْ قِيلَ: لم كان هذا دليلًا؟ وهو في الظاهر دعوى. قيل له: دليل وحدانيته في قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) خلق السماوات وجعل فيها منافع، وخلق الأرض وجعل فيها منافع للخلق، ثم جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض لبعد ما بينهما؛ إذ لا منفعة للخلق في منافع إحداهما إلا باتصال منافع الأخرى بها من نحو ما جعل من معرفة الطرف في الأرض بالكواكب، وإنضاج الأعناب والثمار وينعها بالشمس والقمر، وجعل إحياء الأرض وإخراج ما فيها من النبات من المأكول والمشروب والملبوس بالأمطار؛ فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر وتعلقها به على أن منشئهما واحد؛ لأنه لو كان من اثنين لكان إذا قطع هذا وصل الآخر، وإذا وصل هذا قطع الآخر. فإذ لم يكن، ولكنه اتصل، دل أنه فعل واحد، فهو ينقض على الثنوية والزنادقة قولهم. وكذلك يدل اختلاف الليل والنهار على أن خالقهما واحد؛ لأنه لو كان اثنين لكان إذا أتى هذا بالليل منع الآخر بالنهار، وإذا أتى أحدهما بالنهار منع الآخر بالليل. وفيه ذهاب عيش الخلق، وفي ذهابه تفانيهم وفسادهم. فدل أنه واحد. والثاني: أنه جعل للخلق في الليل والنهار منافعًا، وجعل بعضها متصلة ببعض متعلقة مع تضادهما، كقوله: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ). فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر مع اختلافهما وتضادهما أن محدثهما واحد. وفيه دلالة حدوث العالم؛ لما ذكرنا من تغييرها وزوالها من حال إلى حال. فدل تغييرها وزوالها على إنما حدث زوال مثل هذه الأشياء بابتدائها وعجزها على قدرة مثلها على أن لها محدثًا.

والثاني: أن كل واحد منهما، أعني الليل والنهار، يصير بمجيء الآخر مغلوبًا، فلولا أن كان ثم لغير فيه تدبير، وإلا ما احتمل أن يصير مغلوبًا بعد ما كان غالبًا، فدل أن لهما محدثًا، وأنه واحد. فيه دلالة البعث والحياة بعد الموت؛ لأن الليل يأتي على النهار فيتلفه ويذهب به حتى لا يبقى فيه من أثر النهار شيء، وكذلك النهار يأتي على الليل فيتلفه حتى لا يبقى من أثر الليل شيء. ثم وجد بعد ذلك كل واحد منهما على ما وجد. في النشوء من غير نقصان ولا تفاوت. فدل أنه قادر على إنشاء ما أماته وأتلفه، وإن لم يبق له أثر، على ما قدر من إيجاد ما أتلف، وإنشاء ما أذهب من الليل بالنهار، ومن النهار بالليل، وإن لم يبق له أثر. وقوله: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، وقيل: اختلافهما وما جعل أحدهما مظلِمًا والآخر مضيئًا. وقيل: اختلافهما لنقصانهما وزيادتهما، إذ ماينتقص من أحدهما يزداد في الآخر، فدل انتقاصهما وزيادتهما على أن منشئهما واحد؛ لأنه لو كان من اثنين لمنع كل واحد منهما صاحبه من الزيادة والنقصان، وباللَّه التوفيق، ولتغير التدبير، ولا يجري كل عام الأمر فيه على ما جرى عليه في العام الأول. وقوله: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) فالآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ جعل الفلك التي تجري في البحر من آياته. والمعتزلة جعلوها من آيات البحارين؛ لأن الفلك قبل أن يعمل فيها وينحت لا تسمى فُلْكا، ولكن يسمى خشبًا، فلو لم يكن عمل العباد وفعلهم فيها من مصنوعه ومخلوقه، لزال به موضع الحجاج وتسميته باسم الآيات؛ فدل أن له فيها صنعًا وتقديرًا حيث صار من عجيب آياته. ثم فيه أعجوبة، وهو أن الطباع تنفر من مغافصة البحر بالاطلاع على أمواجهه وأهواله، وأراهم من عظم آياته مما يجريه في البحر على الحفظ والأمر الواقع لهم؛ فدل أنه من عند قادر لطيف خبير. وفيه أيضا دلالة وحدانيته؛ وذلك أن أهل البر لهم الانتفاع بأهل البحر، ولأهل البحر الانتفاع بأهل البر على بعد ما بينهما وتضادهما؛ فدل أن محدثهما واحد. ثم فيه دلالة إباحة التجارات مع الخطرات على احتمال المشقات وتحمل المؤنات. وفي ذلك دلالة النبوة؛ لأن يعلم أن اتخاذ السفن وبما فيه من المنافع لا يقوم له تدبير البشر، ثبت أنه علم ذلك ممن علم جواهر الأشياء، وما يصلح الأشياء وما لايصلح، وفي الحاجة إلى ذلك إيجاب القول بالرسالة للبشر.

وقوله: (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ)، وفيه دلالة فضل العلوي على السفلي؛ لأن ما ينزل من السماء من الماء ينزل عذبًا، وما يخرج من الأرض يخرج مختلفًا: منه ما هو عذب ومنه ما هو أجاج، ومنه ما هو مر. فدل ذا على فضل العلوي على السفلي. وقوله: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)، قد ذكرنا هذا أن فيه دلالة البعث. وقوله: (وَبَثَّ فِيهَا)، قيل: خلق. وقيل: بسط. وقيل: فرق. (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ). قيل: جعل فيها من كل جوهر الدابة. منها: ما جعل مأكولًا منتفعًا بها من كل أنواع المنافع؛ ليدلهم وليرغبهم على ما وعد لهم في الجنة. ومنها: ما جعل غير مأكولة ولا منتفع بها، بل جعلها أعداء لهم ليدلهم على تحذير ما أوعدوا وحذروا في النار. وقوله: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) يحتمل وجهين: يحتمل: تصرفها مرة للعذاب، ومرة للمنافع؛ لأنه جعل فيها منافع كثيرة للخلق: بها تجري السفن في البحار، وبها تنشر السحاب في الهواء، وبها تنتفي الأشياء، وبها يتميز ما للخلق مما للدواب مما يكثر ذلك. ثم يعلم من عظم لطفه أنه جعل الهواء بحال لا يقر فيها شيء وإن لطف، والسحاب مع غلظه وكثافته جعل الهواء مع لطافتها ورقتها مقرًّا للسحاب حتى يعلم أن ليس لغير اللَّه فيه تدبير. ويحتمل: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) صرفه إياها مرة صباء، ومرة دبورا، ومرة جنوبًا ومرة نسيمًا، ومرة يمينا، ومرة شمالا للمنافع. ثم فيه دلالة أنها من الأجسام، لا من الأعراض؛ لأنه جل وعز جعلها ماسة مانعة لا صارعة من قام في ناحيتها، وذلك صفة الأجسام، لا صفة الأعراض، لكن لا ترى للطافتها؛ فدل أنها من الأجسام ما لا يرى ولا يمس، كالهواء لا يرى ولا يمس وهو من الأجسام، وكالذرة التي في الشمس ترى ولا تمس.

(165)

ثم دلهم - عَزَّ وَجَلَّ - أن الذي سخر السحاب بالرياح التي جعلها في الهواء، وبما فيها من المنافع التي تقدم ذكرها، على أن مدبرهما واحد؛ إذ لو كان التدبير من عند اثنين لأوجب التناقض في التدبير والصنعة، إذ يجعل كل منهما على خلاف ما جعله الآخر، ويتدبر كل منهما لينقض تدبير الآخر. وفي اتساق التدبير وإتقان الصنعة وإحكامها دليل أن إلهكم هو الواحد الذي دعتكم هذه الأشياء إلى الإقرار بوحدانيته، وألزمتكم العبودية له بما أودع له في كل هذه المصنوعات من أدلة وحدانيته وآيات ربوبيته؛ ولهذا قال: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ليعتبروا ما فيها من الأدلة والحجج؛ إذ من لا يعقل جهة الحكمة في خلق هذه الأشياء: مم خلقت؟ ولماذا خلقت؟ وما الحكمة فيها؟ يستوي عليه خلقها وغير خلقها. ثم فيه دلالة أن ما خلق من السماوات والأرض، والليل والنهار، والرياح والسحاب، خلقها ليدلهم على وحدانيته وربوبيته، وجعلها مسخرة مذللة لهم. وباللَّه التوفيق. * * * قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167). وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ). قيل فيه بوجوه: قيل: (يَتَّخِذُ) يعبد (مِنْ دُونِ اللَّهِ). وقيل: (يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا) في التسمية. يعني: يتخذ الجواهر التي تصاغ أو تنحت ونحو ذلك، مما يتعلق كونهم بصنيعهم، يسفههم بهذا، أنهم تركوا عبادة من به قامت لهم كل نعمة، وسلم لهم كل خير، وعبدوا ما قد اتخذوه بالمعالجات ولا قوة إلا باللَّه. وقيل: (يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا)، أي أشباهًا في التسمية، أو أعدالًا في العبادة، أو شركاء في الحقوق كقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا

هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا. . .) الآية، يسفههم بما عبدوا ما قد صنعوه بالصناعة أو النحت، وزينوا بأنواع الزينة، وعلموا أنه لا يملك شيئًا، وأعرضوا بذلك عن عبادة من عرفوه بشهادة جميع العالم به ألهم وعلموا أنه لا يملك شيئًا مما عبدوه ضرَّا ولا نفعًا، بل لو كان يجوز العبادة لغير اللَّه لكان أُولَئِكَ الذين اتخذوا أولى من المتخذين. ثم بين عظم سفههم: علمهم بجهلها بعبادتهم، وعجزها عن الدفع عنها، ثم قاموا بنصرها والدفع عنها سفهًا بغير علم. وقوله: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ). قيل: يحبون عبادة الأنداد وطاعتهم كحبهم عبادة اللَّه وطاعته؛ لأنهم يقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ويقولون: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ). وقيل: يحبون عبادة الأنداد كحب المؤمنين عبادة ربهم. وقيل: يحبون آلهتهم كما يحب الذين آمنوا ربهم. ثم قال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) منهم لآلهتهم. قيل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي: أشد حبًّا لأجل اللَّه. وقيل: أي أشد اختيارًا لطاعته، وأكثر ائتمارًا وإعظامًا وإجلالًا لأمره من إعظامهم وإجلالهم آلهتهم. واللَّه أعلم. (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي لعبادته منهم لعبادة الأوثان من حيث لا يؤثر المؤمن على عبادة اللَّه، أعني في الاختيار لا فيما يوجد من ظاهر الأحوال في الدارين جميعًا، وهم يتركون عبادة الأوثان بوجود ما هو أعجب منها أو بأدنى شيء من متاع الدنيا. ثم المحبة -محبة الشهوة والميل إليها، وهو في الخلق، لا يحتمل في اللَّه، ومحبته- الطاعة وإيثار الأمر والإعظام، فهو في اللَّه يحتمل. وبعد فإن الحب يخرج على الثناء، وعلى العبادة والطاعة، وعلى التبجيل والتعظيم، وقد يخرج على ميل القلوب، فحب الكفرة هذا، وهو حب الجسداني به الذي يولده

(166)

الشهوة أو يستحسنه البصر. وحب اللَّه من المؤمنين من هذين الوجهين فاسد، بل همو من الوجوه التي ذكرنا، وقد كان حب الهيبة والرغبة؛ إذ علموا النعم كلها من اللَّه تعالى، وعلموا أن السلطان والعزة لله ولا أحد ينال شيئًا من ذلك إلا باللَّه، فأوجب ما عنده من النعم الرغبة، وما له من السلطان الهيبة. فذلك طريق حب المؤمنين مع ما ظهر من أياديه التي لا تحصى وأفضاله التي لا تحاط، والعلم بهما موجبًا تعظيم الأمور والمبادرة بالقيام بها مع الأدلة المظهرة تعاليه عن تقدير العقول وتصوير الأوهام. فيكون حبه في الحقيقة في تعظيم أموره، وحسن صحبة نعمه، ومعرفة حقوقه، لا في توهم ذاته، وإشعار القلب ما يعقله ليرجع المحبة إلى ذلك، بل هو فيما ذكرت؛ ولذلك أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يقول لهم: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)، وهو أن من أحب آخر محبة الجلال والرفعة عظم رسوله وانقاد لما يدعوه إليه وإن كان في ذلك هلاكه، وتعظيمًا لأمره وتبجيلًا، فكيف فيما نجاته وفوزه في الدارين. واللَّه الموفق. وقوله: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ). قوله: (يَرَى) قرئ بالياء والتاء جميعًا. ومن قرأ بالتاء جعل الخطاب لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، يقول: ولو ترى الذين ظلموا يا مُحَمَّد: شهدوا لك: (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا). ومن قرأ بالياء، يقول: ولو يرى الذين ظلموا في الدنيا إذا رأوا العذاب يعلمون أن القوة لله جميعًا. ويحتمل: لو علم الذين ظلموا إذا علموا عذاب الآخرة يعلمون أن القوة لله جميعا، ويحتمل: المراد من قوله: (يَرَى)، أي: يدخل، كقوله: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى) أي لمن يدخلها ويصليها. وقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ (166) (الَّذِينَ اتُّبِعُوا) يعني: الرؤساء، (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) يعني: الأتباع والسفلة، تبرأ بعضهم من بعض العبادة من الأتباع من القادة، وهو كقوله: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا

(167)

هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38). وقوله: (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)، وكقوله: (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)، وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا)، وقوله: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ)، وكقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ). وقيل: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا)، يعني: الشياطين، (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) يعني: الإنس. وقيل: يبرأ اللَّه كلا غدا أن أوثانهم لن تغني عنهم شيئًا، ولا شركاؤهم الذين أضلوهم، ولا أشرافهم شغلوا عنهم حين عاينوا النار. وقوله: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ). قيل: (الْأَسْبَابُ) والأرحام والأنساب؛ كقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، وكقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37). وقيل: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) يعني العهود والأيمان التي كانت بينهم في الدنيا. وقيل: تواصلهم في الدنيا وتوادهم لم ينفعهم شيئًا؛ لأنهم كانوا يتواصلون ويتوادون في الدنيا رجاء أن ينفع بعضهم بعضًا؛ كقوله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ). وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) وقوله: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ) التي لم يريدوا اللَّه بها. (حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ)، أي: حسرة عليهم وندامة.

(168)

وقيل: كل عمل عملوه أرادوا به غير وجه اللَّه، كان ذلك عليهم حسرة يوم القيامة. وقيل: أعمالهم التي عملوها في الدنيا تصير حسرات عليهم حين يرفع اللَّه لهم الجنة، فينظرون إلى مساكنهم التي كانت لهم، وبأسمائهم لغيرهم، وبأسماء غيرهم لهم. قال: وهذا عندي لا يصح أن يجعل اللَّه لأحد نصيبًا في الجنة ثم يحرمه، ولكن هذا على أصل الوعد -وعد من أطاع اللَّه الجنة، ومن عصاه النار- فهو على أن هَؤُلَاءِ لو أطاعوا كان لهم نصيبًا في الجنة، وهَؤُلَاءِ لو عصوا كان لهم نصيبًا في النار. أو يكون ذكر النصيب لهَؤُلَاءِ في الجنة هو الذي ادعوه لأنفسهم كما قالوا: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، فيحرمون ونورث عنهم ما ذكروا أنه لهم في الجنة؛ كما قال اللَّه تعالى: (كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80). * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) قيل فيه بوجوه: قيل: إنهم كانوا يحرمون التناول من أشياء والانتفاع من نحو البحائر، والسوائب، والوصائل، والحوامي، فيقولون: حرم الانتفاع بها؛ فأنزل اللَّه تعالى فقال: (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) وانتفعوا بها؛ فإن اللَّه لم يحرمها عليكم، كقوله: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103). وقيل: خلق في الأرض ما هو حلال وما هو حرام؛ فأباح التناول من الحلال ونهى عن الحرام. وقيل: إن قومًا يحرمون التناول من الرفيع من الطعام والرفيع من الملبوس، ويتناولون من الدرن والرثة، فنهوا عن ذلك. ولا يحتمل أن يراد بالطيبات الحلال منها، ولكن ما تطيب النفس من التناول؛ لأن

(169)

النفس لا تتلذذ بالتناول من كل حلال، ولكن إنما تطيب بما هو لها ألذ وأوفق. والله أعلم. وعلى ذلك قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .) الآية. فيكون كأنه الذي في الأرض حلالًا وحرامًا، ثم فما حل طيب دون ما حرم. فأمر بأكل ما طاب من ذلك إذا قدر عليه؛ لأنه على قدر طيبه يعظم محله في القلب، وعلى ذلك يرغب نفسه بالشكر لمن أنعم به عليه، والتعظيم لمن أكرمه بالذي طابت له به النفس. واللَّه أعلم. واختلف في قوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ). قيل: آثار الشيطان. وقيل: وساوس الشيطان. وقيل: سبل الشيطان؛ كقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). فهو يرجع إلى واحد. وقوله: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، وذكر في موضع آخر، وسماه وليًّا بقوله: (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ). فالوجه فيه أنه يريهم في الظاهر الموالاة ولكنه يريد في الباطن إهلاكهم، فإذا كان كذلك فهو في الحقيقة عدو. وجائز أن يكون (أَوْلِيَاؤُهُمُ)، أي هو أولى بهم إذ عملوا ماعملوا بأمره، أو أولياؤهم بما وافقوهم في الفعل، وشاركوهم في الأمر، وكانوا في الحقيقة لهم أعداء، إذ ذلك هلاكهم. ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)؛ لأنه يوسوس ويدعو فإن أطاعه -وإلا ليس له عليه سلطان سوى ذلك- فهو ضعيف؛ لأن من لا ينفذ على رعيته سوى قوله فهو ضعيف، يوصف بالضعف - واللَّه أعلم - ولكون ضعيفا على من يتأمل مكائده ويتحفظ أحواله. وقوله: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ (169) قيل: يحتمل: أن يكون السوء هو الفحشاء، والفحشاء هو السوء. لما أن كل واحد

منهما يشتمل على كل نوع من الآثام. ويحتمل: أن يكون السوء ما خفي من المعاصي، والفحشاء ماظهر منها. وقيل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه حد من نحو الزنى وشرب

الخمر وغيره.

(170)

وقيل: الفحشاء ما فحش في العقل، والسوء ما ينتهي بالنهي عنه. وقوله: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). يخرج على الأول، وهو السوء والفحشاء، يأمرهم بذلك فيقولوا: اللَّه أمرنا بها. ويحتمل قوله: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ما قالوا: إن اللَّه حرم هذه الأشياء، أو القول على اللَّه ما لا يعلمون بما لا يليق به من الولد وإشراك غيره في عبادته. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا). يحتمل هذا وجهين: يحتمل: أن آباءهم كانوا أوصوهم ألا يفارقوا دينهم الذي هم عليه، فقالوا عند ذلك: لا ندع وصية آبائنا، كقوله: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ). أو كانوا قومًا سفهاء أصحاب التقليد، فقالوا: إنا قلدنا آباءنا، فلا نقلد غيرهم. وقوله: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ). يخرج هذا الكلام على وجهين: أي: تقلدون أنتم آباءكم وإن كانوا لا يعقلون شيئًا. ويحتمل: (أَوَلَوْ كَانَ)، أي: وقد كان آباؤكم لا يعملون شيئًا فكيف تقلدونهم؟ وهو كقوله: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ)، أي وقد جئتكم. أو أن يقال: من جعل آباءكم قدوة يقتدى بهم؟ وقوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً (171) قيل فيه بوجهين: قيل: مثلنا (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) أي يصوت (بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) يسمعون الصوت ولا يفهمون ما فيه.

(172)

وقيل: (يَنعِقُ) بمعنى يُنْعَقُ، ذكر الفاعل على إرادة المفعول؛ كقوله: (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) أي مرضية. فعلى ذلك الأولى، وهو في اللغة جائز جارٍ. وقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ). سماهم بذلك وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك؛ لما لم ينتفعوا بها، إذ الحاجة من هذه الأشياء الانتفاع بها؛ ولذلك سماهم سفهاء لما لم ينتفعوا بعلمهم وعقلهم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ). يتوجه وجهين: أحدهما: الإذن في الأكل ما تستطيبه النفس وتتلذذ به، ليكون أرضى وأشكر لله فيما أنعم عليه، ويكون على إرادة الحلال بقوله: (طيباتِ)، فيكون في الآية دليل كون المرزوق حلالًا وحرامًا، إذ قيل: " من ذا "، ولم يقل: " كلوا ذا "، ولو كان كل الرزق حلالًا لكان يقول: " كلوا مما رزقناكم ". واللَّه أعلم. ثم حق المحنة التمكين مما يحرم ويحل، ومما ترغب إليه النفس وتزهد. فجائز جميع ذلك كله في الملك وفي الرزق ليمكن لكم من الأمرين بالمحنة، إذ ذلك حق المحنة. واللَّه الموفق. وقوله: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، يدل على أن الذي كان لهم الأكل وأمرهم بالتناول منه هو الحلال. ثم فيه الدليل على أن من الرزق ما هو طيب حلال، وما هو خبيث حرام؛ إذ لو لم يكن منه طيبٌ وخبيثٌ لكان لا يشترط فيه ذكر الطيب، بل يقول: " كلوا مما رزقناكم ". فَإِنْ قِيلَ: فما وجه الحكمة في الامتحان بجعل الخبيث رزقًا لهم؟ قيل: هذا أصل المحنة في كل شيء، يجعل لهم الغذاء؛ فلا يأمرهم بالامتناع عنه، ويجعل لهم قضاء الشهوة في المحرم ويأمرهم بالكف. وهو الظاهر من المحن. وقوله: (وَاشْكُرُوا لِلََّهِ).

(173)

على ما أباح لكم من الطيبات. وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي: إن كنتم منه ترون ذلك. ويحتمل: (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وأي إياه توحدون. ويحتمل: (إِنْ كُنْتُمْ) ومِمَّن تعبدونه -إياه تقصدون- فاجعلوا عبادتكم له خالصة، لا تعبدوا غيره ليكون له. ولا قوة إلا باللَّه. وقيل: " إن " بمعنى: إذ آثرتم عبادته فاشكروا له. ويحتمل قوله: (وَاشكُرُوا لِلَّهِ) على جميع ما أنعم عليكم من الدِّين، والنبي، والقرآن وغير ذلك من النعم، أي: كونوا له شاكرين. وقوله: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ (173) ذكر " الميتة " فمعناه: حرم عليكم الأكل من الميتة والتناول منها، فإذا كان كذلك فليس فيه حرمة ما لا يؤكل والانتفاع به من نحو الصوف، والشعر، والعظم ونحوه. ألا ترى أن هذا إذا أريد من الشاة وهي حية وأبين منها لم تصر ميتة لا يجوز الانتفاع به، وغيره من اللحم إذا أبين منها صار ميتة؛ لما روي في الخبر: " ما أبين من الحي

فهو ميت ". ولأن الصوف واللبن وغيرهما ليسوا بذوي الروح فيموت باستخراج الروح منها؛ كالحيوان على ما ذكرنا من الخبر. ورُويَ عن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه سئل عن الأنفحة استخرجت من الميتة، فقال: أفيها دم؟ فقيل: لا. فقال: لا بأس، كلوا؛ فإن اللبن على ذكاة فيه. أو كلام نحو هذا. وكذلك رُويَ عن ابن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، أنه قال: لا بأس. فَإِنْ قِيلَ: ألا فسد بنجاسة الضرع؛ كالوعاء النجس يكون فيه اللبن يفسد بفساده؟ قيل: إن الشيء إذا كان موضعًا للشيء ومعدنه في الأصل فإن فساد ذلك الموضع لا يوجب فساد ما فيه. ألا ترى أن الدم الذي يجري بين الجلد واللحم إذا ذبح لا يفسد اللحم لما كان ذلك موضعه ومظانه؟! فعلى ذلك اللبن في الضرع. وأما الإهاب: فإنه إذا دبغ فقد طهر؛ لما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أيما إهاب دبغ فقد طهر ". والدم المذكور في هذه الآية هو الدم المسفوح. دليله قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا)،

فالمحرم من الدماء المسفوح وهو السائل. ألا ترى أن الشاة إذا ماتت صارت ميتة بهلاك ذلك المحرم من الدم فيها؟! وقوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). واختلف فيه على أوجه: قيل: قوله: (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) هو تفسير قوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ)، وهو كقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)، فصار قوله: (غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) تفسير قوله: (مُحْصَنَاتٍ)؛ لأنها إن كانت محصنة كانت غير مسافحة ولا متخذة الأخدان. فعلى ذلك إن كان مضطرَّا كان غير باغ ولا عاد. واللَّه أعلم. وقيل: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ) أي غير مستحل لتنارله، (وَلَا عَادٍ) بعدو على أكله للجوع. وقيل: (غَيْرَ بَاغٍ) غير متجاوز حده، (وَلَا عَادٍ) ولا مقتصر نهايته. وقيل: (غَيْرَ بَاغٍ) فيه (وَلَا عَادٍ) على حد اللَّه إذ حرمه عليه في غير حال الاضطرار، فيصير باغيا في الأكل، عاديا على حد اللَّه. وقيل: (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) وفي مجاوزته في أكل الحد المجعول له من إقامة المهجة ودفع الضرورة، فأكل بشهوة أو لحاجة غير حاجة الجوع خاصة. وقيل: (غَيْرَ بَاغٍ) على المسلمين، (وَلَا عَادٍ) وعليهم. لكن تصريح النهي عن الانتفاع بالشيء وحرمة هتكها صاحبها نهي عما هتك لا عما كان مباحا لهم كما رُويَ عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " لا صلاة للمرأة الناشزة ولا للعبد الآبق " وذلك نهي عن الإباق والنشوز لا عن الصلاة، فمثله لو كان نهيا، فكيف ولا نهي؟! ولكن ذكر إباحة على صفة لم يذكر الحل والتحريم في الابتداء مع تلك الصفة وجملته أن بغيه لا يحرم ما قد أحل بالخبر هو بالاتفاق؛ فكذلك ما أحل بالسبب، دليل ذلك: أمر الكفرة وسائر الفسقة أنه لم يحرم بينهم شيء من ذلك.

والثاني النهي عن قتله. ثم اختلف في حرمة عين الميتة في حال الاضطرار وحلها:

قَالَ بَعْضُهُمْ: عينها حلال ليس بمحرم. وقال آخرون: عينها محرمة لكن التناول منها مباح. وهو قول أصحابنا رحمهم اللَّه. فمن قال بحل عينها للضرورة ذهب إلى أن الحظر والإباحة لا يقع في الأصل لعين الشيء، ولا يتكلم فيها بحل ولا حرمة بحيث العين، بل الحرمة والحل هي الواردة عليها، موجبة حق الحرمة، ثم الحرمة ترتفع بالضرورة. فيبقى عينه على ما كان في الأصل. ومن قال بحرمة عينها وبحل التناول منها ذهب إلى أن الحرمة حدثت لما كانت ميتة ومهلًّا لغير وجه اللَّه. فحدوث الحل للضرورة يدل على أن العلة كانت هي الضرورة في حق رفع حرمة التناول، ولم ترفع حرمة عينها إلا أنه أبيح التناول منها للضرورة على بقاء الحرمة. ولكن يجب ألا يتكلم في هذا ومثله بحرمة العين وحلها بعد أن تكون الإباحة للضرورة؛ إذ لله أن يحل عينا محرمة في حال الاضطرار، وله أن يحرم عينها ويحل التناول منها للاضطرار. فالتكلم فيه فضل وتكلف. وباللَّه التوفيق.

ثم المسألة في الباغي والعادي: يحرم عليه التناول منها في حال الاضطرار أم لا؟ قال بعض أهل العلم: محرم ذلك عليه لأوجه: أحدها: لأنه ظالم. وفي المنع عن التناول منها زجر عن الظلم، وفي إباحة التناول منها إعانة على الظلم، لذلك حرم عليه. والثاني: أن القاتل عوقب عندما يأوي إلى الحرم بترك المؤاكلة والمشاربة والمجالسة إلى أن يضطر فيخرج عقوبة له. فكذلك هذا يحرم عليه التناول منه عقوبة له إلى أن ينزجر. وقال: إنه قد استحق بالبغي على أهل الإسلام العقوبة العظيمة، ويعاقب بهذا أيضًا. ثم من قول هذا الرجل في الباغي: أنه إذا أتلف أموال أهل العدل لا يتعرض له بها ولا يغرم. وكذلك العادل إذا أتلف أموال أهل البغي لا غرامة عليه.

والغرامة نوع من العقوبات، فإذا استويا في سقوط الغرامة -وإن كان أحدهما ظالمًا- كيف لا استويا أيضًا في هذا؟ وما الذي يوجب التفرقة بينهما؟ ثم نقول لهذا المخالف لنا: إن الباغي المقيم يمسح يومًا وليلة، وإذا سافر لم يرخص له المسح. وهو في الحضر رخصة كهي في السفر. فما باله حرم إحدى الرخصتين على إباحة الأخرى مع وجود الظلم والبغي؛ فقال: لأن الضرورة طريق التناول فيه رخصة، لا ترخص الظالم، إذ هو تخفيف. والأصل في المسألة أن الباغي على أهل الإسلام لا يأتمر بأحكام أهل الإسلام؛ إذ لو ائتمر أمر بالكف عن بغيه. وإذا لم يأتمر في ذا، لاشك أنه لا يأتمر في الثاني، ولا يؤمر بما فيه العبث، ولا يزجره التحريم عن التناول، إذ على العلم بحرمة البغي بغى ما اشتهت نفسه، فكيف ينتهي للحرمة فيما اضطرت إليه نفسه؟ ولم يملك الغلبة عليها في شهوتها إيثارًا لها، كذلك إنظارًا لها للكف لا معنى لإحداث الحرمة عليه ببغيه.

(174)

وأصله قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، وقوله: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، حرم عليهم إلقاء أنفسهم إلى المهالك، وقتلهم الأنفس. وفي دفع هذه الرخصة عنه إباحة محرم، وهو أعظم منه عليه. فلم يفعل؟ وأما من قال: بأن من قتل فأوى إلى الحرم، فإن أهله نهوا عن مؤاكلته ومشاربته، ولم ينه في نفسه الأكل والشرب، إذ لا يقدر أحد منعه عن ذلك. فالقول في مثله تكلف. فكذا الأول. واللَّه أعلم. ثم المسألة في القدر الذي يجوز أن يتناول منها. فعندنا: أن الإباحة كانت للاضطرار، فهو على القدر الذي له الدفع والإزالة، وذلك بدون ما فيه شدة المجاعة، وذلك الأصل في انتفاء الضرورة. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ): أي في الكتاب يحتمل هذا وجهين: يحتمل: أن كتموا ما في كتبهم من بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله، وصفته. ويحتمل: ما كتموا من الأحكام والشرائع من نحو الحدود والرجم وغير ذلك من الأحكام. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله: (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). قد ذكرنا تأويل هذا فيما تقدم. وقوله: (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ). يحتمل وجهين: يحتمل: ما يأكلون في دنياهم إلا أوجب ذلك لهم في الآخرة أكل النار. ويحتمل: ما يأكلون في دنياهم إلا أكلوا في الآخرة عين النار. وقوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). قيل: لا يكلمهم بكلام خير، ولكن يكلمهم بغيره، كقوله: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ). وقيل: لا يكلمهم غضبًا عليهم؛ يقال: فلان لا يكلم فلانًا، لما غضب عليه.

(175)

وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ (175) قيل: استحبوا الضلالة على الهدى. وقيل: اختاروا العذاب على المغفرة. وما قاله الكلبي فهو أحسن: أنهم اشتروا اليهودية -التي هي تحصل عذابًا- بالإيمان -الذي يحصل مغفرة- وقد ذكرنا هذا فيما تقدم أيضًا. وقوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ). قيل: فما أدومهم في النار. وقيل: فما أصبرهم على العمل الذي يوجب لهم النار. وقيل: فما أجرأهم على عمل أهل النار. وقيل: ما أعملهم بأعمال أهل النار. وقال الحسن: فما لهم عليها صبر ولكن ما أجرأهم على النار. وقد يقال لمن يطول حبسه: فما أصبرك على الحبس. ألا على حقيقة الصبر، لكن على وجوده فيه. وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) أي: خالفوا. وإلا قد اختلف أهل الإيمان والكفر، ولكن أراد - واللَّه أعلم - بالاختلاف: الخلاف، أي: خالفوا الكتاب ولم يعملوا به. (لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) قيل: لفي خلاف بعيد. وقيل: لفي ضلال طويل. وقيل: لفي عداوة بعيدة. وقيل: حرف " البعيد " في الوعيد إياس؛ كأنه قال: لا انقطاع له. * * *

(177)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) قيل: (لَيْسَ الْبِرَّ) في نفس التوجه إلى ما ذكر دون الإيمان. ويحتمل: (لَيْسَ الْبِرَّ) في ذلك، ولكن البر لمن يقصد إليه، إذ قد يقع ذلك لحوائج تعرض، تخرج عن القربة. ويحتمل: (لَيْسَ الْبِرَّ) في التوجه إلى كذا، ولكن البر في الائتمار لأمره والطاعة له، والبر هو الطاعة في الحقيقة. وقيل: (لَيْسَ الْبِرَّ) تحويل الوجه إلى المشرق والمغرب، (وَلَكِنَّ الْبِرَّ) ما ثبت في القلب من طاعة اللَّه وصدقته الجوارح. وقيل: (لَيْسَ الْبِرَّ) أن تصلوا ولا أن تعملوا غير الصلاة. كل ذلك يرجع إلى واحد. وجملته أن يقال: ليس البر كله ذلك، لكن ما ذكر، إذ ذلك الوجه هم استعظموه حتى قال اللَّه تعالى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ). والثاني: أن يكون ذلك بنفسه ليس ببر، وإنما صار برًّا بالأمر به، أو بما ذكر من الإيمان والخيرات. فلمَّا زال عنه الوجهان سقط فعله أن يكون برًّا. وقوله: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)، بأنه واحد، لا شريك له. يعني صدق باللَّه بأنه واحد، لا شريك له. (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، وصدق بالكتب، والملائكة، والكتاب، والنبيين. وللبر تأويلان: أحدهما: ما قيل. والثاني: على الإضمار؛ كأنه قال: ليس البر بر من يولي وجهه، ولكن البر بر من آمن باللَّه، كما قال: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ

فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ)، أي أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن باللَّه؟ وقيل: أجعلتم صاحب السقاية كمن آمن باللَّه؟ وقيل: إن البر بمعنى: البار، يقول ليس البار من يحول وجهه قبل كذا، ولكن البار " من آمن باللَّه " الآية. وقوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ). قيل: أعطى على حاجته. وقيل: على قلته آثر غيره على نفسه؛ كقوله: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ). وقيل: (عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) أي ذوي قرابته. وفيه دلالة أن الأفضل أن يبدأ بصلة قرابته، ثم اليتامى؛ لأن على جميع المسلمين حفظهم؛ ولأنهم أضعف، فيبدأ بهم قبل المساكين. رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان. قيل: فما المسكين يا رسول اللَّه؟ قال: الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس، ولا يفطن به فيتصدق عليه ".

(وَابْنَ السَّبِيلِ). قيل: هو الضيف ينزل بالمسلمين. وقيل: هو المنقطع -حاج أو غاز- وقيل: هو المجتاز وهو واحد. قوله تعالى: (وَفِي الرِّقَابِ). قيل: هم المكاتبون. (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ)، ظاهر. (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) ويحتمل: العهود التي بينهم وبين الناس. ويحتمل: العهود التي فيما بينهم وبين ربهم. وقد ذكرنا العهد من اللَّه تعالى -ما هو؟ - فيما مضى. وفي حرف ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ عنه، (والموفين) على النسق على الأول. قيل: إذا عاهدت عهدًا بلسانك تفي به بعملك وفعلك. ثم ليس في القرآن آية أجمع لشرائط الإيمان من هذه، وكذلك رُويَ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه سئل عن الإيمان، فقرأ هذه الآية. وهكذا رُويَ عن عبد اللَّه بن مسعود، رضيَ اللَّهُ عنه، أنه سئل عن الإيمان، فتلا هذه الآية. وقوله: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ). قيل: في الآية تقديم وتأخير: " السائلين وفي الرقاب والصابرين ". وعلى هذا يخرج حرف ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه: " والموفين بعهدهم ". وقوله: (الْبَأْسَاءِ). من البأس، وهو الفقر. (وَالضَّرَّاءِ).

(178)

قيل: هو المرض والسقم. (وَحِينَ الْبَأْسِ). قيل: عند القتال. وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا). في إيمانهم، أنهم مؤمنون، وصبروا على طاعة ربهم. وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). وقيل: الذين صدقوا في إيمانهم وأُولَئِكَ هم المتقون. رُويَ عن عمرو بن شرحبيل، أنه قال: " من عمل بهذه الآية فهو مستكمل الإيمان ". قال الفقيه أبو منصور: تمام كل شيء باجتماع ما يزينه. ألا ترى أن المصلي إذا اقتصر على فرائضها لم يتم له؟! * * * قوله تعالى: وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179). قيل: نزلت الآية في جيشين من العرب، كان وقع بينهما حرب وقتال، وكان لإحداهما فضل وشرف على الأخرى. فأرادوا بالعبد منهم الحر من أُولَئِكَ، وبالأنثى منهم الذكر. فأنزل اللَّه تعالى: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى). وهي منسوخة؛ لأن فيها قتل غير القاتل. نسخها قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا). قيل: لا تسرف ولا تقتل غير قاتل وليك.

وقيل: لا تسرف، أي: لا تمثل في القتل. وقيل: لا تسرف في القتل، أي: لا تقتل أنت إذ هو منصور. فثبت بهذا نسخها؛ إذ لم يؤذن بقتل غير القاتل. وقوله أيضًا: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، ولا يحتمل نفس غير القاتل يقتل بنفس. دليله قوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)، ولا يتصدق على غير القاتل. ثبت أنها منسوخة بما ذكرنا. وفي الثاني: قال اللَّه تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، لما إذا هم بقتل آخر يذكر قتل نفسه، فيرتدع عن قتله، فيحيا به النفسان جميعًا، فلو لزم قتل غير القاتل لم يكن فيه حياة، إذ لا يخشى تلف نفسه. ثم هذا يدل على وجوب القصاص بمن الحر والعبد، وبين الكافر والمسلم، إذ لو لم يجعل بينهما قصاص لم يرتدع أحد عن قتلهم، إذ لا يخشى تلف نفسه بهم. فدل أنهم يقتلون بهم. واللَّه أعلم. هذا فيما يجعل الآية ابتداء، لا في الحيين، اللذين ذكرا به. ثم يقال: ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص الحكم فيه وجعله شرطًا ونفيه في غير شكله. دليله ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ". ثم إذا زنى البكر بالسيب وجب ذلك الحكم، فدل أن ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص في الحكم، ولكن فيه إيجاب الحكم، في كل شكل إذا ارتكب ذلك وهو أن يقتل الحر إذا قتل آخر. والحرية لا تمنع الاقتصاص لفضله. وكذلك العبد إذا قتل آخر يقتل به، والرق لا يمنع ذلك للذل الذي فيه. وكذلك الأنثى تقتل إذا قتلت أخرى، ولا يمنع ما فيها من الضعف في وجوب القصاص. وباللَّه التوفيق.

وله وجه آخر: وهو أنه قال: (وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى). ومن الإناث إماء، وقد أمر بالاقتصاص بينهن، فلئن وجب تخصيص ما ذكر خاصًّا، وجب أن يذكر عامًّا ما ذكر فيه العموم. فَإِنْ قِيلَ: على عموم الاسم في أحدهما، وخصوص القول في الآخر. قيل: ليس هكذا. لو كان في ذكر الوفاق في الاسم منع الحق عن ذلك الوجه المذكور إذ ذكر في الخلاف لم يدخل فيما ذكر في الوفاق ما ليس منه. فإذا دخل علم أن ذكر الوفاق في الخلاف في حق إدخال ما ليس من شكله بمحل واحد. ثم يقال: إن نفس العبد للعبد في حق الجناية، لا للمولى. إنما للمولى في نفسه الملك والمالية، ألا ترى أن العبد لو أقر على نفسه بالقصاص أخذ به، ولو أقر عليه مولاه لم يؤخذ به. فدل أن نفسه له، لا للمولى. فكان كنفس الحر للحر. فيجب أن يقتل الحر به، إذ هو ساوى الحر في حق النفس، فيجب أن يسوى بينهما في حق القصاص. وقال بعض الناس: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأنه أفضل منه. ثم هو يقول: إنه يقتل الذكر بالأنثى. وهو أفضل. وقال: إن القصاص إنما ذكر في المؤمنين. ثم قال بالعموم، وألزم قتل الكافر بالمؤمن، ولم يذكر في القصاص الكافر، وترك القصاص للكافر من المؤمن على عموم إيجاب القصاص على المؤمنين. فإذا جاز ترك القصاص، على ما ذكر فيه، وإدخال من لم يذكر في حق الاقتصاص، ما يجب إنكار مثله في الذي ذكر عقيب ذكر الحق؛ وهم بأجمعهم تحت الإيجاب مذكورين. ثم الإناث بالإناث مع اختلاف الأحوال يلزم القصاص، كيف لا لزم مثله في الأحرار؟ والأصل في هذا: ألا يعتبر في الأنفس المساواة. ألا ترى أن الأنفس تقتل بنفس واحدة. هكذا رُويَ عن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، " أنه قتل رجلًا بامرأة ". وروي أنه قتل سبعة نفر بامرأة، وقال: لو تمالأ عليها أهل صنعاء لقتلتهم. وقال: ورُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: لا يقتل مسلم بكافر ". ثم قال صاحب هذا القول: لو أن كافرًا قتل كافرًا ثم أسلم القاتل يقتل به. فهو قتل

مسلمًا تقيًّا برًّا بكافر، إذ الإسلام يطهره. ولم يقتل مسلمًا فاسقًا ارتكب الكبيرة بالكافر، إذ القتل يفسقه. والمسلم أحق أن يقتل بالكافر من الكافر بالمسلم. وذلك أن المسلم هتك حرمة الإسلام بقتل الكافر؛ لأنه اعتقد باعتقاد دين الإسلام حرمة دم الذمي، وهو بقتله كمستخف بمذهبه. وأما الذمي فإنه لا يعتقد باعتقاد مذهبه حرمة دماء أهل الإسلام، فهو ليس بقتل المسلم كمستخف بمذهبه، والمسلم كمستخف بدينه، على ما ذكرنا. لذلك كان أحق بالقصاص من الكافر. ألا ترى أن من قتل في الحرم قتل به؛ لأنه هتك حرمة الحرم كالمستخف به. وإذا قتل خارجًا منه، ثم التجأ إليه، لم يقتل به حتى يخرج منه؛ لأنه ليس كمستخف له، والأول مستخف؛ لذلك افترقا. فكذلك الأول. واللَّه أعلم. والخبر عندنا يحتمل وجهين: أحدهما: قيل: إن قومًا قتل بعضهم بعضًا في الجاهلية، فأسلم بعضهم، فأراد أُولَئِكَ أن يأخذوا من أسلم منهم بالقصاص، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا يقتل مسلم بكافر "، كما قال: " كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هذا ". والثاني: أنه أراد بالكافر المستأمن؛ لأنه قال: " لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ". فنسق قوله: " ذو عهد " على المسلم، فكان معناه: لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد به. فكل كافر لا يقتل به ذو عهد في عهده لم يقتل به المسلم. فالذمي يقتل به ذو العهد، لذلك يقتل به المسلم. والمسلم إذا قتل مستأمنًا لم يقتل به. وكذلك الذمي. فدل

بما ذكرنا أنه أراد بالكافر المستأمن، لا الذمي. واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ). اخنلف في تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو القاتل. إذا عفى له: معناه: عنه. فيتبع الولي بأخذ الدية بالمعروف، شاء القاتل أو أَبى. احتج بما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في رجل اختصم إليه في قاتل أخيه، فقال: أتعفو عنه؟ قال: لا. قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا. قال: أتقتله؟ قال: نعم ". عرض عليه الدية، ولو كان غير حقه لم يعرض عليه. وقال في بعض الأخبار: " ولي القتيل بين خيرتين: بين قتل وأخذ دية ". وأما عندنا: تأويل قوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) ليس هو القاتل؛ لأنه يكون معفوا عنه؛ ولأنه لا يتبع أحدًا وهو المتبع، بل هو الولي؛ لأنه هو المعفو له، لا القاتل، حيث أمر بالاتباع بالمعروف؛ كأنه قال: من بذل له وأُعطيَ من أخيه شيء فاتباع بالمعروف؛ وذلك جائز في اللغة؛ العفو بمعنى البذل والإعطاء، على ما قيل: خذ ما آتاك عفوًا صفوًا، أي فضلًا. وكذلك رُويَ عن عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ عنه، أنه قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ)، أي: أُعطيَ له. والحق عندنا: هو القود، لا غير، على ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " العمد قود إلا أن يعفو ولى المقتول "، وقد روي في بعض الأخبار: " إلا أن تفادى ". والمفاداة: هو فعل اثنين، فلا يأخذه إلا عن تراضٍ

واصطلاح منهما جميعًا. وفي الآية دلالة: أن الحق: هو القصاص، لا غير، بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) وأخبر أن المكتوب عليه والمحكوم القصاص، فلو كان الخيار بين القصاص والعفو وأخذ الدية -شاء أو أبى- لكن لا يكون مكتوبًا عليه القصاص، ويذهب فائدة قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) وإنما كان يكون عليه أحدهما، كما لا يقال في الكفارة: بأن المكتوب عليه العتق، بل أحد الثلاثة. فلما قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) دل أن أخذ الدية كان كالخلف عنه. وما رُويَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال لولي القتيل: " أتعفو عنه "؟ قال: " لا ". فقال: " أتأخذ الدية "؟ قال: " لا ". إنما عرض عليه الدية، لما علم أن القاتل يرضى بذلك، على ما روي أن امرأة جاءت إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بغض زوجها. فقال لها: " أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، وزيادة. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أما الزيادة فلا " وإنَّمَا قال لها ذلك لما علم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه يرضى بطلاقها إذا ردت عليه حديقته؛ فعلى ذلك الأول. ولو كانت لفظة " العفو " تعبر عن إلزام الدية ما أحوجه إلى ذكر الإشارة إلى العفو مرة، وإلى أخذ الدية ثانيًا؛ فثبت أن ليس للذي يعفو أن يأخذ الدية بالعفو. وقيل في قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ): أصلها أنها نزلت في دم بين نفر يعفو أحدهم عن القاتل، ويتبع الآخرون بالمعروف في نصيبهم؛ لأنه ذكر " الشيء "، والشيء: هو العفو عن بعض الحق. فألزم الاتباع للآخرين عند عفو بعض حقه؛ ثبت أن العفو لا يلزم الدية. ورُويَ عن عمر وعبد اللَّه بن مسعود وعبد اللَّه بن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، أنهم أوجبوا في بعض عفو الأولياء، للذين لم يعفوا - الدية، على ترك السؤال عمن عفا عنك عفوت بدية، ولو كان ثم حق ذكروه له؛ فدل أن العفو لا يوجب الدية.

واللَّه أعلم. ثم لا يخلو إما أن يكون حقه القصاص ثم له تركه بالدية؛ فهو إلزام بدل حق قِبَلَ آخر من غير رضاه، وذلك مما لم يعقل في شيء، أو كلاهما، فهو أيضًا كذلك، لا يكون أحدهما إلا باجتماعهما، أو أحدهما وهو مجهول؛ فالعفو عنه يبطل حقه، إذ العفو ترك. وقال: إن في أخذ الدية إحياء النفس التي أمر اللَّه بإحيائها، وفي الامتناع عن أداء الدية إليه والبذل له إذن بالقتل. ومن قول الجميع: إن أحدا لو قال لآخر: اقتلني، أنه لا يعمل بإذنه. فإذا كان معنى الامتناع عن أداء الدية هو إذن بالقتل، لم يأذن له. يقال له: أبعدت القياس والتشبيه؛ لأن فيما نحن فيه إذنًا بالقتل، وظهر الأمر به، وفيما ذكرت لم يظهر، حيث قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)، فأنى يشبه هذا بذلك ويقاس عليه؟ أو أن يقال: لو كان الأمر كما ذكرت لكان يجيء أن يكون الصلح على كل شيء ماله، وفيه تلف نفسه أن ليس له منعه. ومن قول الجميع: إن له المنع وجائز وقوع الصلح على ما فيه تلف ماله. ثبت أن ما يقوم له وهم. وبعد، فإن الذي ذكرت تدبير الحق عليه أن يفعل، لا تدبير الإلزام. ولو كان ذلك لازمًا، لكان يقتله ببذله نفسه فيغرم فاعل ذلك؛ وهذا كما يغني الرجل بشراء ما به قوام نفسه عند الضرورة إلا أن يلزم لو أبى ذلك، فمثله ديته، بمعنى أن في ذلك تلف نفس تلك قيمته، فمثله الأول. وما روى في التخيير بين أخذ الدية، وما ذكر فهو - واللَّه أعلم - على بيان الحل والرخصة على ما قيل: إن من حكم التوراة القتل، ولا يجوز لهم العفو ولا أخذ الدية، ومن حكم أهل الإنجيل العفو، لا يقتل بالقصاص، ولا تؤخذ الدية، فحكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ على أهل القرآن: أن جعل لهم القتل مرة، والعفو ثانيا، وأخذ الدية تارة؛ فدل أنه يخرج مخرج بيان الحل والرخصة. إذا طابت به نفس من عليه ذلك يبذله إذا طلب، ولا يوجب قطع الخيار من الآخر. ولهذا ما نقول في قوله: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وقوله في التخيير في الكفارة: إن ذلك إلى من عليه، لا إلى من يأخذ. إذ الحق هاهنا من جانب واحد. فيجعل الخيار إلى من عليه إذا كان من كلا الجانبين يعتبر

رضاءهما جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ). لما ذكر من إباحة العفو في حكم القرآن، ولم يكن في حكم غيره من الكتب، وأخذ الدية أو القتل، ولم يكن في حكم التوراة والإنجيل إلا واحد. ويحتمل: أن كان في التوراة هذا أو هذا كما قال: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ). واحتمل أنه ذكر القود شرعًا لنا، وقوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ)، لنا خاصة. وقوله: (وَرَحْمَةٌ). فيه دلالة ألا يقطع صاحب الكبيرة عن رحمة اللَّه؛ لأنه أخبر أن التخفيف رحمته في الدنيا، فإذا لم يوفِهم في الدنيا من رحمته فلا يوفيهم في الآخرة منها. وفي قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، دلالة ألا يزول اسم الإيمان بارتكاب الكبيرة؛ لأنه سماه أخا من غير أخوة نسب؛ دل أنه أخوة في الدِّين لأنه سماه أخًا. وكذلك قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا)، أبقى لهم اسم الإيمان بعد البغي والقتل. دل أن ارتكاب الكبيرة لا يخرجه من الإيمان. وهذا يرد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون: إن من ارتكب كبيرة أخرجته من الإيمان، وما ذكر من التخليد في قتل العمد يخرج على وجهين: أحدهما لاستحلال قتله، أو يتغمد ديته، وإلا فيخرج الآيتان على التناقض في الظاهر لو لم يجعل على ما ذكرنا. واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ). قيل: من اعتدى على القاتل بعد ما عفى عنه، أو بعد ما أخذ الدية. وقيل: (بَعْدَ ذَلِكَ)، أي: من بعد النهي عن قتله. وقيل: إذا أرى من نفسه العفو، ثم أخذ الدية، ثم أراد قتله، فهو الاعتداء. ثم اختلف بعد هذا بوجهين: قال قوم: إذا فعل ذلك يترك القصاص فيه للعذاب المذكور في الآخرة: وقال

(179)

غيرهم، إذا اقتص ارتفع عنه العذاب الأليم، وإن لم يقتص فلا. وجائز عندنا: أن يكون العذاب الأليم في الدنيا، إذ لم يخلق شيء من العذاب أشد من القتل؛ إذ القتل هو الغاية من الألم والوجع. واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) قيل: فيه بوجهين، وإلا فظاهر القصاص لا يكون حياة، لكن قيل: من تفكره في نفسه قتلها إذا قتل آخر ارتدع عن قتله، فتحيا النفسان جميعًا. والثاني: من نظر فرأى آخر يقتل بغيره امتنع عن قتل آخر ففيه حياته أو تذكر أنه مقتص منه إذا قتل حمله حبه في إحياء نفسه على أن يرتدع عن قتل كلٍّ، ففيه الحياة للأنفس جميعًا؛ ولهذا نقول بوجوب القصاص في الأنفس كلها وإن اختلفت أحوالها، إذ لو لم يجعل بين الأنفس على اختلاف الأحوال قصاص لم يكن في القصاص حياة. فأحق من يجعل فيه القصاص عند مختلف الأحوال لما يغضب الشريف على الوضيع فيحمله غضبه على قتله، فجعل القصاص، أو لما يستخف به. وأما الوارث لما يطمع وصوله إلى مورثه فيحمله على قتله، فسبب القتل ليس ما يذكر، لكنه شدة الغضب، وفي المواريث زيادة، وهو ما يصل إلى ماله، وفي الكافر من استخفافه بدينه من المقتول، فطلب فيه المعنى الذي فيه الإحياء وهو حرمان الميراث؛ فعلى هذا التقدير يقتل المسلم بالكافر؛ لأن المسلم قد يستخف بالكافر في دار سلمه، فيحمله استخفافه إياه على قتله. ففيه معنى يدعو إلى الفناء، فيجب أن يقتص من المسلم بالكافر لتحقيق معنى الحياة. وعلى هذا التقدير يقتل الحر بالعبد؛ لأن الحر يستخف بالعبد، فيدعوه استخفافه به على قتله، فهو يقتل به. أو نقول: يقتل الولد بالوالد لما يستعجل الوصول إلى ملكه، فيحمله على قتله؛ فلزم حفظ ما لأجله الحياة، ثم في الوالد شفقة ومحبة تمنع الوالد عن قتل ولده؛ لذلك انتهى عنه القصاص، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يقاد الوالد بولده ". وباللَّه التوفيق.

قال الشيخ - رضي اللَّه تعالى عنه -: الوالد يحب ولده؛ لأنه يرغب أن يكون له ولد. وأما الولد فإنما يحب والده له لنفسه ومنافع له. فإذا كان الولد له لم يقتص منه. * * * قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182). وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ

(180)

بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) تكلموا فيه بأوجه: قيل: إنه منسوخ بما بين عَزَّ وَجَلَّ في آية أخرى من حق الميراث. ومنهم من قال: لم ينسخ. ثم قيل: فيه بوجهين: قيل: إنه قد كان ذلك؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد في الإسلام، يسلم الرجل ولا يسلم أبواه. فقوله: (كُتِبَ) إنما وقع على من كان لا يرث. ومنهم من يقول: بأنها كانت للوارث ولم ينسخ، وإنما يقع الأمر في غير من يرث ممن ذكر. لكن في ذلك ذكر (كُتِبَ)، وذلك إيجاب. ولا يحتمل أن يفرض عليهم صلتهم مع التحذير عن اتخاذهم أولياء بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ) وقوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)، وفي إلزام الفرضية من حيث المعروف إبقاء الموالاة وإلزام المحبة، وقد حذر وجود ذلك؛ فثبت أن الآية فيمن يتوارثون اليوم لكنها نسخت. واللَّه أعلم. ومنهم من يقول: لا، ولكنه وقع على من كان يرث وعلى من كان لا يرث بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ)، فهو كان مكتوبًا عليهم مفروضًا في حق الوصاية. ثم من رأى نسخه استدل بقوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)، ذكر فيه الوصاية على بيان كل ذي حق حقه. فليس الذي أوصى اللَّه يمنع وصايته التي كتب عليهم. لكن في الآية دليل لم ينسخ بهذه لوجهين: أحدهما: قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ). فهو وصيته ذكره كذكر الوصاية في الأول، ففيه جعل حق كالحق المجعول لهم إذا لم يذكر ذلك الوصية مع الميراث ثم نفاه. والوجه الآخر: أنه قال: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)، فجعل حكم الإرث على ذكر الوصية، والإرث بعد الوصية؛ فبانَ أن لها حكم البقاء. ثم قيل: فيه بوجهين: قال قائلون: قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)، لم يكن ميراثًا، ولا هو

من أهل الميراث. فحدوث الإرث لا يمنع حق القطع عنه بالمكتوب الأول. ومنهم من جعل ذلك فيمن كان وارثًا. فورود البيان من بعد يقطع عنه المكتوب له. ثم من الناس من ادعى نسخ هذا بقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا)، ولو جعل الوصية له ما جعل اللَّه لهم فيه من النصيب خص به الكثير دون القليل؛ فثبت أن ذلك (الكتاب) رفع عنهم مما جعل لهم الحق في الذي قل أو كثر. ثم الوجه فيه عندنا: فهو أنه إن لم يكن نسخ بهذه الآيات، على ما قاله بعض الناس، فهو منسوخ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ". فبين أنه قد كان أعطى ذا حق حقه على رفع ما كانت لهم من الوصاية فيه. ثم اختلفوا في الخبر الذي روي: " إن اللَّه تبارك وتعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ". قال قائلون: فلا يجوز ورود النسخ على الآية؛ إذ السنة لا ترد على نسخ الكتاب. وقال آخرون: لا، ولكنه من أخبار الآحاد. وأخبار الآحاد، على قولكم، لا ترد على نسخ خبر مثله، فكيف على كتاب رب العالمين؟ فأما الأول -في أن السنة لا تعمل في نسخ الكتاب-: فقد سبق القول فيه، أن الذي حملهم على هذا هو جهلهم بموقع النسخ، وإلا لو علموه ما أنكروه. وهو ما قلنا: إن النسخ بيان منتهى الحكم إلى الوقت المجعول له. فأما من قال: بأنه من أخبار الآحاد، فإن الأصل في هذا أن يقال: إنه من حيث الرواية من الآحاد، ومن حيث علم العمل به متواتر. ومن أصلنا: أن المتواتر بالعمل هو أرفع خبر يعمل، إذ المتواتر المتعارف قرنًا بقرنٍ مما عمل الناس به لم يعملوا به، إلا لظهوره، وظهوره يغني الناس عن روايته، لما علموا خلوه عن الخقاء. ولهذا يقول في الخبر الذي جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه نهى عن كل ذي ناب من السباع "، فترد به الخبر المروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه من أخبار الآحاد. هو من حيث

(181)

الرواية من الآحاد، ولكنه من حيث تواتر الناس للعمل به صار بحيث يوجب علم العمل. فما لم يجز أن يجتمع الأمة على شيء علموا كله من كتاب أو سنة غير ما ورد، فيكونوا قد اجتمعوا على تضييع كتاب أو سنة، فكذا هذا، لا يجوز أن يجتمع الناس على ترك الوصية للوارث، وثم كتاب نسخه أو سنة أخرى يلزم العمل به؛ فلهذا قضينا بنسخه. واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) قيل فيه بوجهين: يحتمل: (فَمَنْ بَدَّلَهُ) هذه الوصاية المكتوبة للوالدين، إن كان هذا أراد بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية، فإنما إثمه عليه. ويحتمل: (فَمَنْ بَدَّلَهُ) الوصية (بَعْدَمَا سَمِعَهُ) ومن الموصي (فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ). ثم يحتمل بعد هذا وجهين: يحتمل: أنه أراد تبديل الوصي بعد موت الموصي. ويحتمل: تبديل من حضر الوصي ذلك الوقت من الشهود وغيره. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) أي: سميع لمقالته ووصايته. و (عَلِيمٌ) بجوره وظلمه، أو (عَلِيمٌ) بتبديله. واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

قيل: فيه بوجهين: يحتمل: (فَمَن خَافَ) أي: علم من الموصي ظلمًا وجورًا على الورثة بالزيادة على الملث، (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تبديله ومنعه ورده إلى الثلث وقت وصاية الموصي. ويحتمل: (فَمَن خَافَ)، أي: علم من الموصي خطأ وجوزا بعد وفاته بالوصية، (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تبديله ورده إلى ما يجوز من ذلك ويصح، وهو الواجب على الأوصياء أن يعملوا بما يجوز في الحكم، وإن كان الموصي أوصى بخلاف ما يجيزه الحكم ويوجبه. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وكان صرف (الخوف) إلى (العلم) أولى؛ إذ هو تبديل الوصية وقد نهى عنه وأذن به للجور، فإذا لم يعلم فهو تبديل بلا عذر، وقد يخفف للخوف حق العلم إذا غلب الوجه فيه، كما أن أذن للإكراه إظهار الكفر، وذلك في حقيقته خوف عما في التحقيق على العلم بغلبته وجه الوفاء في ذلك. وقوله: (فَأصلَحَ بَينَهُم)، يعني بين الورثة بعد موت الموصي، ورد ما زاد على الثلث بين الورثة على قدر أنصبائهم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، لجور الموصي وظلمه إذا بدل الوصي ذلك ورده إلى الحق. ويحتمل: (غَفُورٌ رَحِيمٌ)، لمن رد على الموصي جنفه وميله في حال وصايته. والله أعلم. والأصل في أمر الوصاية للوارث، أن آيات المواريث لم تكن نزلت في أول ما بهم حاجة إلى معرفة ذلك، فيجوز أن يكون في الابتداء كانت الوصايا بالحق الذي اليوم هو ميراث، يبين ذلك ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ابنتي سعد، الذي قتل بأُحدٍ، وقد كان استولى عمهما على ميراثه، فسألت أمهما عن ذلك، فقال: لم ينزل فيه شيء. ثم دعاهما، وأعطاهما ما بَيَّنَ

اللَّه في كتابه في قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ. . .). وكذلك كان للنساء الحول في تركة الأزواج وصية لهن؛ فعلى ذلك كان الأمر بالوصية، فقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) كالمبين بما كان قد أوجب التبيين على الميت، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث "، ومما يبين ذلك أنه معلوم أن تكون الوصية للوارث ليست تثبت فيما هي له؛ لأنه اليوم فيكون حصول الوصية بنصيب بعض الورثة على ذلك الوجه لا يجوز وصية الميت لأحد، فكذلك للورثة. وهذا يبين أنها كانت في وقت لم يبين الميراث، فلا يكون الوصية لمن تثبت له وصية بنصيب غيره في التحقيق، فكان يجوز، ثم بطل ببيان السنة، إذ ليس في متلو القرآن حقيقة ذلك، وإنما يكون بحق الانتزاع منه والنسخ، ومعناه بالانتزاع أبعد عن الاحتمال منه بالسنة. ولا قوة إلا باللَّه. ثم حق التواتر عندنا يقع بظهور العمل بالشيء على غير ظهور المنع منهم، والتكثير

(183)

عليهم في الفعل، وفي هذا وجود ذلك من طريق الفعل. ثم القول أيضًا من الأئمة بالفتوى به بلا تنازع ظهر فيهم مع ما قد ذكر اللَّه في المواريث: (فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ)، وتخصيص الورثة قصد مضارة بغيره، واستعمال الرأي فيما قد تولى قسمه على غير الذي قسم. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185). هَؤُلَاءِ الآيات فيهن فرضية بقوله: (كُتِبَ)، وأيد ذلك الإبدال فيها الإفطار لعذر والأمر بالقضاء، وذلك ليس بشرط الآداب مع الامتنان علينا بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)، أي يريد بكم الإذن لكم في الفطر للعذر، ولو كان غير فرض بدؤه لم يكن الفطر للعذر بموضع الرخصة مع شرطه إكمال العدة في القضاء معنى، وفي ذلك لزوم حفظ المتروك لئلا يدخل التقصير في القضاء. وعلى ذلك إجماع الأمة. ثم بين عَزَّ وَجَلَّ أن لم تكن هذه الأمة بمخصوصة في الصيام، بل هي أحق من فيهم

استعمل العفو أو الصفح بما خصهم بأن جعلهم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وأخبر أنه لم يجعل عليهم (فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، ولا ألزمهم العبادات الشاقة فضلًا منه عليهم وتخصيصًا لهم؛ إذ جعلهم (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) فقال عَزَّ وَجَلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). لكن " كما " يحتمل وجهين: يحتمل: العذر الذي كتب عليهم. ويحتمل: الفرضية في الجملة لا عين ما فرض عليهم من حيث الإشارة إلى ذلك؛ ولذلك اختلف في (الكاف) في قوله: (كما) - أنها زائدة، أو حقيقية. ثم اختلف فيما يأتيه ذلك الصيام: فمن الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، من جعله صوم عاشوراء وأيام البيض. ثم استعملوا نسخ ذلك بصيام الشهر.

وقد روي مرفوعًا: " أن صوم شهر رمضان نسخ كل صيام كان ". ورُويَ عن جماعة في أمر صوم عاشوراء: أنا كنا نصومه حتى نزل صوم الشهر، فلم

يكن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا به ولا ينهانا. وأصل هذا أنه كان يصام، لو كان ابتداء الآية عليه بحق الفرض فأبدل ذلك بصوم الشهر، فارتفعت عنه الفرضية على ما إذا كان يخرج منه بالفداء لم يكن معه فرضية القضاء، وبقي الفصل فيه؛ النسخ لم يكن من حيث نفس الصوم، إذ مثله من النسخ يكون بغير الصوم ولا يصوم. فثبت أنه في نسخ الفرضية. فبقي فيه حق الأدب والفضل، وتبين النسخ الصوم إذ مثله، وإن ذلك غير صوم الشهر الذكر في صوم الشهر بقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا. . .) الآية. إذ ذلك كان غير موضع الشهر، ولو كان الكل واحدًا لكان الذكر في موضع منه كافيًا عن الإعادة؛ فثبت أنه على تناسخ الصيام. وقد روي عن معاذ رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " أحيل الصيام ثلاثة أحوال ". وبين الخبر على وجهه في ذلك. ويحتمل: أن يكون المراد منه صوم الشهر، ويكون تكرار الذكر في الرخصة لمكان رفع الفداء، أو لمكان ذكر حق الامتنان بالتيسير، أو التحريض على حفظ العدد. والله الموفق. وأي ذلك كان؛ فليس بنا حاجة إلى معرفة حقيقة ذلك؛ لأن كيفية الابتداء لم تكلف،

وإنما كلفنا ما أبقى فرضه، وهو صيام الشهر الذي لم يختلف في ذلك. ثم قد خاطب جل ثناؤه بالصيام من قد آمن بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فكان فيما خاطب وجهان: أحدهما: أنه خاطب المؤمنين فعرف المخاطبون أن الاسم يذكرهم؛ إذ لم يذكر عن أحد أنه ظن خروجه من حكم الآية، من حيث لم يكن وفاء بما به يستحق الاسم، وكذلك سائر عبادات الأفعال. وهذا من أوضح ما يجب به العلم أن الإيمان ليس باسم لجميع القرب، بل تحقيقه يصير أفعال القرب قربًا. وفيه إذ لم يقل: يا أيها الذين، قلتم: نحن مؤمنون به صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، دلالة ظاهرة على هجر هذا القول، وأنه من تلقين الشيطان ليبطل عليهم عقدهم، كما يبطل كل عقد يستعمله فيه صاحبه مما أراد إلزامه العقد. واللَّه أعلم. والثاني: أن اللَّه تعالى خص بالعبادات المؤمنين، وأنهن لا يلزمن غيرهم وإنما يلزم غيرهم فيها الاعتقاد، لا الأفعال التي هي تقوم بالاعتقاد، وليس الاعتقاد بواجب لمكان تلك الأفعال حتى تكون كالأسباب التي توجب بإيجاب أفعال بها تقوم، بل له أوجب غيره. ألا ترى أنه لا يجوز أن يرتفع ذلك عن الخلائق بحال من الأحوال في الدنيا والآخرة مع ارتفاع غير ذلك من العبادات؛ ثبت أن الأمر بذلك بحيث نفسه، لا لغيره. ثم لا قيام لغيره مع عدمه؛ ثبت أن المعنى الذي به يصير المرء أهلًا لاحتمال فعل العبادات، لذلك لا يجوز الأمر بشيء منها دون ذلك. وله وجهان يحيلان الأمر أيضًا: أحدهما: العقل، أنه من البعيد أن يكون من لم يقبل العبودية، ولا أقر بالرسالة تؤمر بالعبادة وباتباع الرسول بحق الرسالة، بل يقول: ألزمونا الأول، حتى يكون الثاني، وهو كما أحال الناس المناظرة في الرسل مع منكري الصانع والمرسل، فمثله الأول، بل يجب كل قربة به؛ إذ لا يكون إلا به. واللَّه أعلم. والثاني: القول بأن من أسلم بعد أوقات العبادات لا يلزمه القضاء. ثم لذلك وجهان من المعتبر: أحدهما: بأنهم إذا لم يدخلوا في خطاب القضاء، بما ليس معهم في الحال ما يحتمل معه القضاء، فكذلك خطاب الابتداء؛ إذ هو الذي به لزم القضاء في الإسلام. والله

أعلم. والثاني: أنه لا يلزم القضاء بعد الإسلام، ولا يجوز الابتداء في حاله. فكان ذا تكليف لم يجعل اللَّه للمكلف وجه القيام، وقد تبرأ اللَّه عن هذا الوجه من التكليف بقوله عز وجل: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا)، مع ما بين اللَّه تعالى بقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ) أن ما للكافر التمتع في الدنيا، لا العبادات في ذلك. واللَّه الموفق. فثبت بالآية التي ذكرنا جميع المؤمنين في الخطاب؛ إذ بين الرخصة لِذِي العذر في الإفطار على وجوب القضاء فإذ لم يحتمل خروج من له العذر في الفطر عن أن يتضمنه الخطاب وجه ألزم القضاء، ثبت أن من لا عذر له داخل فيه ولا يسعه الفطر، وعلى هذا جاء ممن ابتلي بالجماع نهارًا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أكد عليه الأمر وألزم الكفارة على غير سؤال عن أحوال سوى ما علم من حاله أنه ليس بمريض ولا مسافر، فكان في ذلك دليل تأكيد الفرض، وفي ذلك إيجاب الكفارة لتعديه على الصيام على حال لا يحتمل الإرخاص، إذ قد كان تلك البلية في الليالي، فلم يُؤمَروا بها من حيث كانوا يملكون إبقاء الرخصة لأنفسهم لولا النوم، وفي ذلك أن فرض الصيام يعم المؤمنين. ثم قال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (185) والشهر اسم للكل، ولو كان المراد راجعًا إليه لكان الصيام في غيره؛ لأنه عند هجوم غيره يتم شهوده، ثم يتناقض؛ لأنه قال: (فَلْيَصُمْهُ)، ومحال أن يصوم في غيره ابتداء؛ فرجع التأويل إلى أن من شهد منكم شيئًا من الشهر (فَلْيَصُمْهُ). فمن اعترضه الجنون

فيه فهو ممن قد تضمنه الخطاب، ويجوز في حالة الفرض أيضًا؛ إذ لو شهد ليلة الصيام فعزم على الصيام يجوز له فرضه، فدخل في حق الخطاب، ثم اعترضه في سائر الليالي عذر منع النية، لا عذر منع الصيام، فيقتضيه إذ هو أهل الحكم للآية التي ذكرنا، والقيام بذلك الفرض على ما وصفنا، ففاته بفوت النية كمن كان فوت لعذر المرض

والسفر والحيض ونحو ذلك بعد أن علم أنه ممن تضمنه الآية، فعليه قضاؤه.

وعلى ذلك في الصبي والكافر لم يدخلا في معنى الآية، ولا كانا يحتملان في حال قضاء فرض الصيام، فالقضاء في غيره عن ذلك لا يعمل في حق الفرض. لذلك لم يلزم. وقد رُويَ عن مُحَمَّد، رحمه اللَّه، على هذا: أن من أدرك مجنونًا ثم أفاق في بعض الشهر، أنه لا يقضي ما مضى، على ما ذكرت. وعن أبي حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: أنه يقضي، إن كان في أول الشهر بالغًا، لما أخبرت أن صيامه لم يجز لعدم النية، والصبي والكافر بنفسه، ومن فوته لعدم النية، فهو داخل في حكم فرضه، فعليه القضاء. واللَّه الموفق. ومن جن الشهر كله لا يقضي لشرط الشهود، وهو لم يشهد شيئًا منه مع إمكان الإسقاط بدليل آخر، وإن كان حق الخطاب في الظاهر قد اقتضاه على مثل المريض الذي لا يصح، والمسافر الذي لا يقيم. واللَّه الموفق. وفي قوله: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، دلالة أن ابتداء الآية في غير صوم الشهر؛ إذ صوم الشهر يحفظ بالأهلة لا بالأيام، لكن اللَّه تعالى إذ علم الأمر الظاهر في الخلق أنهم يعدونه بالأيام وإن كان لهم عن ذلك غنى. وقد رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الشهر هكذا وهكذا وهكذا بأصابع يديه كلتيهما، وعقد أصبعًا منها في آخر المرات ". وجاء عن غير واحد أنهم قالوا: " ما كنا نصوم على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تسعة وعشرين أكثر مما نصوم ثلاثين ". فجائز ذكر قوله: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، يعني يعدها الخلق. واللَّه الموفق.

(184)

وقوله: (لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ)، أي: ما حرم عليكم من أنواع اللذات بكف الأنفس عن الذي به يدعو إليها من الأغذية. أو (تَتَّقُونَ) نقمة اللَّه في الآخرة، ومخالفته في الفعل في الدنيا. وقد جعل اللَّه جل ئناؤه عباداته أعوانًا للمعتادين بها على الكف عن المعاصي، والخلاف لله في الشهوات، فقال: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)، وقال: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، وغير ذلك. واللَّه الموفق. والأصل: أن العبادات تذكر أصحابها عظم أحوالهم في أوقات فيها من المقام بين يدي الجبار، وتطلعهم على الموعود لهم في الميعاد. وهما أمران عظيمان: أحدهما: في الزجر بما يعلم من عظم المقام واطلاع الواحد القهار عليه. والثاني: في الترغيب بما يشعر قلبه من لذيذ الموعد ما يضمحل لديه كل لذة دونه، وتنقطع شهواته التي بينه وبين ما وعد، واللَّه أعلم. ثم قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. . . (184) الآية، من غير أن ذكر فطرا، فلا أشار إلى ما ذكر من السفر والمرض اللذين جعلا له تأخير الصيام إلى أيام أخر، ولا أشار إلى أعين تلك الأيام. وكذلك قال مثله فيما كان عرف الوقت لابتداء الصيام بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) على أثر المعرف له بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، لكن الفطر يعرف أنه مضمر فيه بالعقل والسمع: فأما السمع: فما جاء من الآثار في الإذن بالإفطار للسفر والمرض؛ دل أن في ذكر العدة (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) إضمار فطر. واللَّه أعلم. والعقل: أن اللَّه تعالى جعل المرض والسفر سببي الرخص، فلا يجوز أن يصيرا سببي زيادة فرض على ما كان قبل اعتراضهما، على أن قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) دليل أنه لو كان يلزم القضاء مع فرض فعل الصوم لكان ذلك عسرًا وحرجًا في الدِّين، وقد أخبر اللَّه تعالى أنه ما يجعل علينا الحرج في الدِّين. وعلى ذلك قال بعض الناس: يلزمهما القضاء إن أفطرا أو لا، محتجا بما لم يذكر في القرآن الأنطار، وذكر (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) كأنه جعل الوقت لهما غير الذي هو لغيرهما. يؤيد ذلك المرُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الصائم في السفر كالمفطر "،

ومعلوم أن على المفطر في الحضر القضاء. فكذلك الصائم في السفر. ولكن الآية عندنا على الإضمار، وعلى ذلك يجري ذكر الرخص على إئر ذكر الحضر، كقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) من غير ذكر الأكل أنه على إباحته. وقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، ثم قال عَزَّ وَجَلَّ: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) ولم يذكر منه الإحلال، لكنه معلوم أنه على الشك ما لم يوجد؛ إذ لا يكون العذر سبب الزيادة في الفرض. وكذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)، ثم قال عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ. . .) الآية وذلك على إطلاق الحلق، ثم يلزمه الفداء؛ لأن الأذى والمرض يلزمانه. فمثله الأول. ثم الأصل: أنه لا أحد يلزم فرض صيام الشهر في غيره إذا لم يدرك الشهر، وقد أمر من نحن في ذكره؛ فبان أنه لزمه بإدراك الشهر لإدراك وقت الإمكان بلا عذر. وقال: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، وقال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) وليعلم أن الذي يلزمه بالشهر في أوقات الإمكان. وذلك على ما يلزم الإحداث الطهارة لأوقات عبادة لا تقوم دونها، وفعل الجنابات لأوقات الحلول وإن تأخرت فمثله أمر الشهر. دليله ما بينا، وما ثبت عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن صحابته: فعل الصيام في ذلك الوقت والفطر جميعًا؛ ثبت أن الصوم يجوز على المرض والسفر؛ إذ هما لأنفسهما لا يناقضان الصيام بما جاز معهما، وقد أمر به المتمتع وهو المسافر، أن ليس ذلك على حاضري المسجد الحرام، وذابح الصيد والمبادئ بهما لا يضادان الصيام، ثم كان القضاء عن الشهر بظاهر التلاوة؛ فبان أنه يجوز فيهما.

وإذا جاز ثبت أن التأخير رخصة والفضل في الفعل. واللَّه أعلم. والخبر على من يجهده الصيام حتى خيف عليه، وكذلك ما جاء من الآثار: " أن ليس من البر الصيام في السفر ". واللَّه أعلم. وعلى هذا يخرج قول أصحابنا في المكره على الفطر: أنه إن كان مريضًا أو مسافرًا

لا يسعه ألا يفطر لما جاء في ذلك من الوعيد في الفعل في السفر في حال الضرورة، ويسعه لو كان صحيحًا مقيمًا لما لم يذكر له الرخصة، ويلزمه فيه القضاء، مع ما فيه؛ إذ لم يكن ظهر الإذن في تلك الحال كان كفه عنه تعظيمًا لأمر دينه، من غير أن ذكر له في الدِّين النهي عنه، فهو في سعة، وليس كالمكره على أكل الميتة، ما ليس ذلك بذي بدل. وقد فرق بين ذي بدل وما لا بدل له، نحو إتلاف مال آخر، وأكل الميتة، ولأن علته الاضطرار وليست علة الفطر في السفر تلك، إذ قد يجوز، لا له، فهو عذر النفس، لا ضرورة النفس؛ فكأنه غير معقول العلة، وفيه تعظيم الدِّين. وليس في أكل الميتة وما ذكر. ولا قوة إلا باللَّه. ثم السفر الذي له الرخص: أجمع أنه لم يرد به المكان، لما جاء الفطر في الأمصار، ثبت أنه لنفس السفر. ثم كان السفر - حقيقته الظهور والخروج عن الأوطان، وقد يكون مثله في الخروج عن الأوطان إلى الضياع ونحوه، ولم يؤذن في الفطر؛ ثبت أنه راجع إلى الحد، وعلى ذلك متفق القول. ثم كان الحد المرخص عندنا: الخروج على قصد سفر ثلاثة أيام لخصال ثلاث: أحدها: الإجماع على أن هذا الحد مرخص ودونه تنازع. والتنازع يوجب النظر؛ لا الفتوى بالرخص، وفي ذلك أمر بفعل الصيام. والثاني: مجيء الخبر من وجهين: أحدهما: في تقدير مسح السفر بثلاثة أيام، ومعلوم أنه جعل للسفر حدا ووقتًا لفعل رخصة المسح وأوقات الأفعال على اختلافها. يتفق على أنها لا تقصر عن احتمال الأفعال على الوفاء، وليس بما لم يدخل الليالي في حق السفر عبرة؛ لأن الأسفار وإن كانت مؤسسة: على قطع الطرق والسير فيها، فإن دوام السير يجحف صاحبه ويهلكه، وفي ذلك منع السفر؛ ثبت أن أوقات السعي والسير مشترطة داخلة في حق السفر. لذلك صارت الليالي كالمعفوة، فتكون محيطة بما فيها من فعل المسح. والثاني: ما جاء من الأثر في النهي عن سفر ثلاثة أيام إلا لمحرم. وهو المنهي لما

جاء به النهي، وفيما دونه تنازع، لم يوجب الرخصة للإشكال في حق التمام لما له الرخصة على ما كان لما له النهي. واللَّه أعلم. والوجه الثالث: أن السفر عذر، والنهايات في الأعذار الثلاث، فكذلك بالأيام؛ إذ بها يسافر. وقال موسى عليه السلام: (قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76). وأما المرض فلم يجز أن يكون اسمه سببًا للرخصة؛ إذ ربما كان المرض يخفف الصيام ويسهل عليه سبيل فعله. ومن البعيد الترخيص بما يسهل فيه الفعل، والتضييق لما يشتد؛ فثبت أنه ليس لاسم المرض. وعلى ذلك الإجماع فهو - واللَّه أعلم - لما يخاف أن يزداد له بترك الأكل الداء، ويقبح على المرء اكتساب الداء وتعاطي الضارية، فرخص له الفطر بذلك، وذلك معنى البشرية، إذ به تخفيف ما به أو منع، أو ما يعتريه من الضرر، ولهذا ما رخص أصحابنا لمن به رمد يخاف الزيادة فيه. وقد رُويَ عن أنس بن مالك، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يفطر المريض

والحبلى إذا خافت أن تضع ولدها، والمرضع إذا خافت الفساد على ولدها " ثبت أن الرخصة لما يخاف من فساد ينزل. ولا قوة إلا باللَّه.

وعن عبد اللَّه بن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من مات من طعام أو شراب وهو يقدر فله النار " وباللَّه المعونة. وقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ). قال قائلون: يطيقون الفداء. وذلك في الأمر الأول في المسافر والمريض أن له أن يقضي في أيام أخر، وأن يفدي. وفيه: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)، أي: أن تقضوا الصيام - واللَّه أعلم - إذ قد يحتمل أيضًا أن كانت الرخصة من قبل فيمن عليه بالخيار بين أن يصوم وبين أن يفدي، والصوم خير على ما ذكر في الآية، ثم نسخ ذلك، إن كان على التأويل الأول بقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. . .) الآية، أنه ألزم القضاء على كل حال، وإن كان الثاني فقوله: (فَلْيَصُمْهُ)، أنه ألزم الفعل على حال، وبمثل ذلك خبر معاذ في إحالة الصيام: أنه كان للمرء خيار بين الفطر والفداء وبين الصيام، ثم نسخ. في قوله: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) على أثر ذكر السفر والمرض دلالة جعل الصيام في السفر خيرًا من الفطر والفداء في غيره، وإن احتمل الذي ذكرت. واللَّه أعلم.

ثم الدلالة على النسخ في الوجه الذي ذكرت. ومتفق القول على أن المطلق لم يكن له الخروج من ذلك بالفداء. فبذلك عرف النسخ مع ما ثبت من قطع الآية على القضاء في أحد الوجهين، وفعل الصيام في الآخر. وعلى ذلك معتبر القول في الشيخ الفاني الذي لا يقوم للقضاء أن له الفطر والفداء؛ لأن الصوم قد ثبت أنه يحتمل الوفاء بالفداء لكن نسخ بالصيام، فإذا ارتفع الصيام بالعجز عمن يحتمل الخطاب بعبادات الأموال وهم المشايخ، جاز أن يخاطبوا بالصيام ليخرجوا عنه بالفداء. وعلى ذلك ما جاء في الأثر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالأمر بالصيام عن الميت، أنه الصيام الذي هو صيام من لا يحتمل فعله وهو الفداء. واللَّه أعلم. وقد قرئ (يُطَوَّقُونَهُ) بمعنى يُكلَّفونه، ولا يطيقونه، لكن في الآية (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ولو كان " لا يطيقونه ": لا يرغبون فيه، إلا أن يشترط فيه طاقة الجهد. والله أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا). من زيادة فداء، وما يستزيد من الخيرات التي لم يفترض ليعوَّد به الخير. أو (تَطَوَّعَ) فيما أذن له في الفداء بالصوم. واللَّه أعلم.

ورُويَ عن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تسموا شهر رمضان رمضان، فإنما هو اسم من أسماء اللَّه تعالى. انسبوه إلى ما نسبه لكم القرآن ". وقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). أضاف عَزَّ وَجَلَّ الفعل إلى الشهر بقوله: (فَلْيَصُمْهُ)؛ فلذلك إذا قصد به صوم الشهر جائز الصوم وإن لم ينو الفرض سوى ما ذكرنا. وكذلك سائر الفرائض نحو الظهر والعصر ينوي ذلك، فيكون ذلك على ما جعله اللَّه من فرض وإن لم ينو الفرض. ولا قوة إلا باللَّه. وعلى ذلك من نوى بالصيام غير صيام الشهر جائز عن صيام الشهر، لما أمرنا بصيام الشهر ولم نؤمر بأن نجعل ذلك لشيء سواه، والشهر موجود لنفسه لا يحتاج صاحبه إلى أن يوجده كان من ذلك على كل حال. وكذلك كل حق معين في شيء لم يزل عنه نيته إلى غيره؛ كمن يأمر إنسانًا بشراء شيء بعينه لم يتحول عنه بالنية، على أن ذلك كالظهر والعصر ونحو ذلك؛ فيحال على تحقيق ذلك قصد غير، وبعد فإن كلا يجمع ألا يجوز غير؛ فثبت أن استحقاق الشهر بصومه لا يستحق عليه غيره من الصيام فجاز عنه. وعلى ذلك أجاز أبو حنيفة في السفر غيره، من حيث أذن له في تأخير هذا، أو غيره فرض عليه نحو صوم الظهار والقتل، ولا رخصة له في تأخيره، فجاز فيه؛ إذ هو وقت صيام حول إلى وقت غيره، فصار هذا الوقت بالحكم لغيره، وليس كنية المتطوع؛ لأنه في موضع الرخصة وفي العمل به وقد يكون له مقدار التطوع من الفضل على غيره فهو أولى به. ولما قد يجوز النفل بلا نية نفل، فكأنه لم ينو النفل. فهو رجل لم يعمل برخصة الله بل عمل بوجه العزم. ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). قيل: (تَتَّقُونَ) الأكل والشرب والجماع. ويحتمل: (تَتَّقُونَ) المعاصي؛ لأن النفس إذا جاعت شبعت عن جميع ما تهوى

وتشتهي. وإذا شبعت تمنت الشهوات، وتتمنى ما تهوى. ويحتمل: (تَتَّقُونَ) عذاب اللَّه وعقابه. واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). ألزم بعض الناس على المريض والمسافر قضاء عدة الأيام وإن صاموا، فاستدلوا بظاهر الآية فقالوا: أوجب عليهم القضاء على غير ذكر الإفطار فيها. واحتجوا أيضًا بما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر "، فقد حقق له حكم الإفطار في أن لا صوم له؛ فدل أنه لم يجز، فكان كتقديم الصوم عن وقته. وأما عندنا: فهو على إضمار الإفطار، كأنه قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) فأفطر، (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). وهو كما ذكر عَزَّ وَجَلَّ في المتأذي: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) أي: من كان به أذى فرفع من رأسه ففدية. وكما قال في المضطر: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) ومثله كثير في القرآن. فلا يجوز لأحد أن يأتي ذلك، ولأن المرض والسفر أعذار رخص الإفطار فيها تخفيفا وتوسيعًا على أربابها، فلو كان على ما قال هو لكان فيه تضييق عليهم؛ ولأنه إذا قضى في عدة من الأيام إنما يقضي عن ذلك الوقت، فلو لم يجز الفعل في ذلك الوقت وفي تلك الحال، لكان لا يأمر بالقضاء عن ذلك الوقت ولا عن تلك الحال؛ فدل أنه على ما ذكرنا. واللَّه أعلم. وأصله: ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه صام في السفر، وروي أنه أفطر، ورُويَ عن الصحابة، أنهم صاموا في السفر. ولو كان لا يجوز لكان لا معنى لصومهم.

وأما قوله: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر "، فهو عندنا: إذا كان الصوم أجهده وضعفه لزمه أن يفطر، صار كالذي أفطر في الحضر. واللَّه أعلم. ورُويَ عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " الصوم أفضل والفطر رخصة ". وقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ). قرأ بعضهم: " وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَه "، فمعناه يكلفونه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: " لا يطيقونه ". لكن هذا لا يحتمل؛ وذلك أنه قال: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)، دل أن قوله: " لا يطيقونه " لا يحتمل. وقيل: كان أول ما ترك الصوم كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا كل يوم، فلما نزل صوم شهر رمضان نسخ ما كان قبله عمن يطيق الصوم، ويثبت الرخصة لمن لا يطيق من نحو الشيخ الفاني، والحبلى والمرضع إذا خافت على ولدها. وقيل: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)، أي: الفدية. وقيل: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)، ثم عجزوا، (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) كل يوم. وقيل: إن المريض والمسافر إن شاءا أفطرا وقضيا، وإن شاءا أفطرا وفديا. لكن ذلك كله منسوخ بما ذكرنا بنزول (شَهْرُ رَمَضَانَ). ورُويَ عن أنس، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " أحيل الصوم ثلاثة أحوال: فمرة يُقضَى، ومرة يطعم، ومرة يصام، ثم نسخ هذا كله ". ثم الأصل في هذا: أن من عجز عن قضائه جعل له الخروج بالفداء بعجزه عن ابتدائه، من نحو الشيخ الفاني وغيره. ومن لم يعجز عن قضائه، لم يجعل له الخروج بالفداء، من نحو المرضع والحبلى والمريض والمسافر؛ لأنهم لم يعجزوا عن غير المفروض والبدل أبدًا، إنما يجب إذا عجز عن إتيان الأصل. واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا). يحتمل: زيادة الطواف.

(185)

ويحتمل: نفس الحج. ويحتمل: أصل التطوع أن كل ما يتطوع به فهو خير له إذا ثطوع في الأصل خير. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ (185). قوله: (هُدًى لِلنَّاسِ). قيل: يهتدون به الطريق المستقيم. وقيل: بيان للناس من الضلالة. وقوله: (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى). قيل: حجج للناس إذا تأملوه. - وقيل: (وَبَيِّنَاتٍ) أي: فيه الحلال، والحرام، والأحكام، والشرائع. وقوله: (وَالْفُرْقَانِ). قيل: يفرق بين الحق والباطل. وقيل: (وَالْفُرْقَانِ)، المخرج في الدِّين من الشبهة والضلالة. قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: " نزل الفرقان إلى السماء الدنيا من اللوح جملة في شهر رمضان في ليلة القدر -في ليلة مباركة- جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلًا رسلًا في الشهور والأيام على قدر الحاجات ". وقولهه تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). يحتمل قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وهو مقيم صحيح، (فَلْيَصُمْهُ). ثم رخص للمريض والمسافر الإفطار بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). ويحتمل قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي: من شهد منكم بعقله الشهر (فَلْيَصُمْهُ) فلا يدخل في الخطاب المجانين ولا الصبيان، ألا ترى أن أول الخطاب خرج للمؤمنين بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) فهَؤُلَاءِ لم يدخلوا فيه؛ فدل أن قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي؛ شهد منكم بعقله، (فَلْيَصُمْهُ). ثم يحتمل أن تكون فرضية الصوم بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَلْيَصُمْهُ).

ويحتمل: لا بهذا، ولكن بقوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)؛ إذ لا يجب إكمال العدة لما مضى إلا على حق الفرضية. والثاني: قال اللَّه تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)، بما رخص للمريض والمسافر الإفطار، ولو كان غير فرض لم يكن لما ذكر من الامتنان علينا بالتيسير معنى؛ لأن المنة لا تذكر فيما له تركه؛ فدل أنه فرض. ويحتمل: أن يكون فرضيته بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)؛ لأن قوله: (كُتِبَ)، أي: فرض. فدلت هذه الآيات على أنه فرض. ثم اختلف في قضاء ما فات منه برخصة الإفطار في السفر أو في المرض: قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يجوز إلا متتابعًا. وكذلك روي في حرف أبي بن كعب في قوله: " فعدة من أيام أخر متتابعات ". وأما عندنا: فإنه يجوز متتابعًا ومتفرقًا؛ اتباعًا لما رُويَ عن خمسة من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنهم قالوا: " إن شاء تابع، وإن شاء فرق " سوى أن عليًّا، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، قال: يتابع، لكنه إن فرق جاز، ثم عن عليٍّ، وعبد اللَّه بن عَبَّاسٍ، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، وآخر لست أذكره، أنهم قالوا: بجواز ذلك، ولا يحتمل أن التتابع شرطًا فيه خفي ذلك على هَؤُلَاءِ، أو تركوه إن عرفوه؛ فدل

أنه لا يصح ذكر التتابع شرطًا فيه، وليس كذكر التتابع في صوم كفارة اليمين في حرف ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه؛ لأنه لم يخالفه أحد من الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، في ذلك، فصار كالمتلو. وهاهنا قد خالفوا أبيًّا في حرفه؛ فلم يصر كالمتلو؛ لذلك افترقا. واللَّه أعلم. وقراءة أُبي إن ثبتت عنه، فهو على الأرب؛ لما ذكر من إجماع الصحابة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، وبما أنه وجب بوقت، وكل ذي وقت فليس التتابع بشرط فيه في غير ذلك الوقت. ولو كان التتابع شرطًا، لكان حق الإفطار يلزم الكل؛ حتى يكون القضاء موصولا أو الابتداء. فأما إذا جاز التفريق بين بعض له حكم الابتداء وبعض له حكم القضاء، لجاز في غيره من الأبعاض؛ إذ كل ذلك له في الابتداء جاز الفعل والترك. فصار حق كل يوم في القضاء لنفسه لا لغيره؛ إذ كذلك حقه في الترك القضاء، وفي الفعل في الابتداء. ولا قوة إلا باللَّه. وما ذكر من المسائل فهي مبنية على هذا الذي ذكرت: أن التتابع للفعل لا يحتمل اعتراض رخصة التفريق على إمكان الجمع؛ ثبت أن الجمع شرط فيه. وما نحن فيه يحتمل صوم كل يوم على الانفراد أن يؤخر فعله في الشهر بالرخصة عن غيره كذلك القضاء. واللَّه أعلم. وبعد، لو كان التتابع شرطًا لم يكن لقوله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)، كبير فائدة؛ لأن في التتابع شرط الجملة، لا أن يكلف له العدد، وعلى الرجل أن يتم المدة التي للقضاء، لا أن يحفظ الحساب لإكمال العدة. واللَّه أعلم. والأصل: أن كل صوم يؤمر بالتتابع بحيث الفعل يكون التتابع شرطًا فيه حيثما كان الفعل. وكل صوم يكون التتابع فيه بحيث الوقت، ففوت ذلك الوقت يسقط حق التتابع. ولهم على هذا مسائل: إذا قال: " لله عليَّ أن أصوم شعبان "، فلزمه أن يصوم متتابعًا، لكنه إذا فات شيء منه يقضي إن شاء متتابعًا، وإن شاء متفرقًا؛ لأن التتابع بحيث الوقت يسقط لسقوطه.

ولو قال: " لله عليَّ أن أصوم شهرًا متتابعًا "، يلزمه أن يصوم متتابعًا، لا يخرج من نذره إلا به؛ لأن التتابع ذكر للصوم، فهو لا يسقط عنه أبدًا. والثاني: ما قال عَزَّ وَجَلَّ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)، واليسر رخصة، لم يجز أن يجعل فيه ما هو عسر وضيق: وهو التتابع. واللَّه أعلم. ثم في قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، دلالة أنه إذا صام من غيره لم يجز؛ لأنه أضاف عَزَّ وَجَلَّ الصوم إلى الشهر، وأشار إليه بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَلْيَصُمْهُ) فلو جاز له أن يصوم من غيره لكان فيه صرف إلى غير ما جعله اللَّه، وفي ذلك خوف اعتراض لأمره، وإشراك في حكمه. ونسأل اللَّه العصمة من الزيغ عن الحق. وأما قوله عَزَّ وَجَلَّ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). قالت المعتزلة: من صام في السفر أو في المرض فعل ما لم يرد اللَّه؛ لأن اللَّه عز وجل أخبر أنه لم يرد العسر، وإنَّمَا أراد اليسر، فإذا صام في المرض أو في السفر أراد العسر، واللَّه تعالى أخبر أنه لم يرد، فدل أنه فعل ما لم يرد اللَّه. لكن الوجه عندنا: أن قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ)، معناه: أراد اللَّه بكم اليسر لما رخص لكم الإفطار في السفر؛ لأنهم أجمعوا على أن الصوم في السفر أفضل، والإفطار رخصة، ولا جائز أن يقال: لم يرد اللَّه ما هو أفضل، وأراد ما هو دونه على قولهم، ولكن يقال: أراد لمن أفطر اليسر، وأراد لمن ترك الإفطار العسر، وإرادته نافذه، فلا جائز أن ينفذ في وجه ولا ينفذ في وجه آخر. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)، أي: يريد أن ييسر عليكم بالإذن في الفطر، لا أن يعسر عليكم بالنهي عنه. وقد يحتمل الفعل، لكنه لم يذكر عن أحد أن اللَّه تعالى أراد به اليسر فصام؛ فثبت أن الإرادة موجبة، مع ما لا يحتمل على قولهم أن يكون الصائم في السفر غير مراد، وقد قضى به فرض اللَّه، وأطاع اللَّه فيه. والمعتزلة يقولون بالإرادة في كل فعل الطاعة فضلًا عن الفريضة. وقوله " (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ). قيل: يعني تعظمون اللَّه، (عَلَى مَا هَدَاكُمْ) لأمر دينه. ويجوز أن يريد بالتعظيم الأمر بالشكر لما أنعم عليهم من أنواع النعم من التوحيد والإسلام وغيره.

(186)

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): أي: ربكم بهذه النعم التي أنعمها عليكم. ويحتمل: أنه أمر بالتعظيم له والشكر لما رخص لهم الإفطار في السفر والمرض. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ). هو على الإضمار - واللَّه أعلم - كأنه قال: وإذا سألك عبادي: " أين أنا عن إجابتهم "، فقل لهم: إني قريب الإحسان، والبر، والكرامة لمن أطاعني. ويحتمل: (فَإِنِّي قَرِيبٌ). قرب العلم والإجابة، لا قرب المكان والذات كقرب بعضهم من بعض في المكان؛ لأنه كان ولا مكان، ويكون على ما كان، وكذلك قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وكقوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ) كل ذلك يرجع إلى قرب العلم والإحاطة وارتفاع الجهات، لا قرب الذات على ما ذكرنا. وإن كانت القصة على ما قاله بعض أهل التفسير: بأن اليهود قالوا: كيف يسمع ربك دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام، وأن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام؟! فنزل قوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)، هذا لما لم يعرفوا الصانع؛ ألا تراهم جعلوا له الولد، وجعلوا له شركاء، فخرج سؤالهم، إن كان، مخرج سؤال المتعنت، لا سؤال المسترشد.

(187)

وقوله: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ). أي: أقبل توحيد الموحد. وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، في قوله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، أي: وحدوني أغفر لكم. وقيل: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)، على حقيقة الإجابة. وقوله: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي). أي: إلى ما دعوتهم. يحتمل: على ما ذكرنا في قوله؛ (أُجِيبُ) لكم، إذا استجبتم لي بالطاعة والائتمار. ويحتمل: (أُجِيبُ) لكم، إذا أخلصتم الدعاء لي. ويحتمل: على ابتداء الأمر بالتوحيد، كأنه قال: وحدوني. ألا ترى أنه قال: (وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) إذا نعلوا ذلك. وقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ (187) سماه (لَيْلَةَ الصِّيَامِ). الليل مضاف إلى يومه، كأنه قال: ليلة يوم الصوم، وإن لم يكن فيها صوم في الحقيفة؛ لانتظار الصيام فيها بالنهار، على ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذ قال: " منتظر الصلاة ما دام ينتظرها في الصلاة "، وكذلك قوله: (فَمَن فَهِدَ مِنكم أدشهرَ فَتيَممُته)، أضاف الصوم إلى الشهر يدخل فيه الليل والنهار؛ لأن اسم الشهر يجمع الليل والنهار جميعًا. وقوله: (الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ). قيل: (الرَّفَثُ)، الجماع. وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه. وقيل: (الرَّفَثُ) هو حاجات الرجال إلى النساء من نحو الجماع، والمس، والتقبيل وغيره. وقوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ).

قيل: هن ستر لكم عما لا يحل، وأنتم ستر لهن أيضًا. يعف الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل. وقيل: هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن. يسكن الزوج بالزوجة، والزوجة بالزوج. وهو كقوله: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا)، أي: سكنا، (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ). ويحتمل: أن يكون أحدهما لباس الآخر بالليالي. واللَّه أعلم. وقوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ). (تَخْتَانُونَ) وتخونون واحد. قيل: نزلت الآية في شأن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، وذلك أن الناس إذا صاموا، ثم نام أحد منهم، حرم عليهم الطعام والجماع حتى يفطر من الغد، فواقع عمر، رضي اللَّه تعالى عنه، امرأته يومًا بعد ما نام أو نامت. فغدا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك، فنزل قوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ)، أي: تظلمون؛ لأن كل خائن ظالم نفسه، فتاب اللَّه عليه وعفا عنه، ثم رخص لهم المباشرة بقوله: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) على الرخصة، هو على الإباحة، لا على الأمر به. وقوله: (وَابْتَغُوا). أي: اتبعوا. (مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ). قيل: فيه بوجوه: قيل: (مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، من الولد. وقيل: (مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، من ليلة القدر، وما فيه من نزول الرحمة.

وقيل: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، من الرخصة، والإباحة في الجماع في ليلة الصيام، والأكل بعد النوم وهو كما جاء: " من لم يقبل رخصنا كما يقبل عزائمنا، فليس منَّا ". وقوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ). ذكر عن عدي بن حاتم، أنه قال: كنت أضع خيطين تحت وسادتي بعد نزول هذه الآية: أحدهما أبيض، والآخر أسود، فكنت أنظر فيه متى ما تبين لي إلى أن أتيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته، فقال: " إن وسادك لعريض "، يعني أن الفجر هو المتعرض في الأفق. ورُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " لا يغرنكم الفجر المستطيل، إنما الفجر

المستطير في الأفق ". وروي أنه قال: " الفجر فجران: فجر مستطيل في السماء، وفجر مستطير في الأفق، هو الذي يحرم الطعام على الصائم ويحل الصلاة ". وروي أنه قال: " لا يغرنكم أذان بلال، فإنه إنما يؤذن بالليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم ". وفي بعض الأخبار قال: " لا يغرنكم أذان بلال عن سحوركم، فإنه إنما يؤذن بليل "، أو كلام نحو هذا. والأصل في هذا: أن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جعل حد الصيام من وقت تبين النهار إلى وقت غيبوبة الشمس وأباح من وقت غيبوبة الشمس إلى وقت تبين النهار، الطعام، والشراب، والجماع تخفيفًا منه. وقوله: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ). وقد اختلف أهل التأويل في معنى المباشرة: قيل: (المباشرة) عنى اللَّه به: الجماع وما دون الجماع، فإنما نهوا عنها.

وقيل: (المباشرة) كناية عن الجماع. ثم قوله: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)، فيه أدلة من أوجه الآية، كأنها نزلت في نازلة بلوا بها، لا أن كانوا يباشرون نساءهم في المساجد؛ لأن المساجد كانت أجل عندهم من أن يجعلوها مكانا لوطء النساء. ولكنه - واللَّه أعلم - أن الاعتكاف: هو اللبث في مكان، يأخذ الحق في نفسه عند عكوفه في المسجد وخروجه منه، فذكر أن العكوف نفسه يحرم الجماع في الأحوال كلها، ليس كالصوم الذي يحرم حالًا دون حال في الوقت الذي لم يكونوا فيها، ليعلموا أن حكم المقام في المساجد أخذ وليسوا هم

فيها. ولو لم يكن شرطًا في ذلك لكان قوله: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ) كافيا إذ لم يكونوا في المساجد وقت لحوق النهي للمباشرة. واللَّه أعلم. وفيه دليل أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، حيث خص المساجد دون غيرها من الأمكنة. وفيه دليل أن المعتكف قد يخرج من معتكفه، لكنه لا يخرج إلا لما لا بد

منه، على ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه كان لا يخرج إلا لحاجة الإنسان "، وحاجة الإنسان يحتمل وجهين: يحتمل: لما يرفع إليه من الحوائج. ويحتمل: حاجة الإنسان: الحاجة المعروفة التي لا يحتمل قضاؤها في المسجد. ثم الضرورة تقع بالخروج في العكوف بوجهين: مرة في نفسه، ومرة فهي أفعال يكتسبها. وبهذا يقول أصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، في فرضية الخروج إلى الجمع؛ لأن من اعتكف على ألا يشهد الجمعة لا يؤذن له في ذلك، لما لا جائز أن يؤذن بإيجاب قربة هي ليست عليه بتضييع أخرى هي عليه؛ إذ ذلك فرض كفاية يسقط بأداء البعض، لذلك كان ما ذكرنا. فَإِنْ قِيلَ: روي أنه كان أيخرج، لاتباع الجنازة وعيادة المريض.

قيل: إن ثبت هذا فهو إذ خرج لوجه أذن له بالخروج لذلك الوجه فخرج ثم عاد مريضًا، أو شهد جنازة، وذلك جائز، ولو كان يؤذن لذلك لكان يؤذن لكل قربة؛ إذ الجنازة إذا شيعها الكافي سقط فرض الثشييع، فإذا لم يؤذن في غير هذا، وهذا مثل ذلك، أو دونه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي ذلك دليل أن الخبر على ما بينت، واللَّه أعلم. ورُويَ عن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها قالت: " إن من السنة ألا يخرج المعتكف من معتكفه "، دل هذا من عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أن خبر علي بن أبي طالب، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، على ما ذكرنا، إن ثبت. وفي قوله: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) دليل أن الاعتكاف يكون في جميع المساجد؛ لأنه عم المساجد. وما روي: أن " لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام " إن ثبت، فهو على التناسخ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اعتكف في مسجد المدينة، فدل فعله أنه منسوخ. واللَّه أعلم. وقوله: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). قيل: (تِلْكَ) المباشرة معصية، (فَلَا تَقْرَبُوهَا) في الاعتكاف، فحد الأمر ألا تقربوها. وقيل: إنه جمعل لكل طاعة وأمر ونهي حدًّا وغاية، فلا يجاوز ولا يقصر عنه. وقيل: (تلك) فرائض اللَّه.

(188)

وقيل: (تِلْكَ) سنن اللَّه. وكان الأول أقرب واللَّه أعلم. قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ). قيل: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولا تدلوا بها إلى الحكام. وقراءة أُبي: " فلا تدلوا بها إلى الحكام "، وجهان: على إضمار لا؛ كقوله: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ)، أي: ولا تكتموا الحق. وقيل: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) بما تلبسوا على الحكام، وتقيموا على ذلك حججا باطلة، على ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه المسلم فكأنما قضيت له بقطعة من النار ".

وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، جعل مال أخيه كماله، ونفس أخيه كنفسه بقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُم). فإذا أكل مال أخيه بالباطل لزمه مثله، جعل كأكل ماله بباطل، وجعل قتل نفس أخيه بالباطل كقتل نفسه بالباطل؛ لأنه إذا قتله بباطل قتل به. ثم من الناس من استدل بهذا على أبي حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، فيما يقول بمضي العقد إذا شهد الشهود على ذلك عند الحاكم، وقضى به، ثم ظهر أن الشهود شهود زور؛ حيث قال: (وَلَا تَأْكُلُوا)، وكما روي من الوعيد للأخذ مكان ما أخذ قطعة من نار، فإذا لم يحل ذلك لم يمض العقد. غير أن الأصل عندنا في كل ما لو اجتمع الخصمان على ذلك بسبب جعل ذلك لهما، فإذا قضى الحاكم بذلك السبب نفذ. وقوله: (لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). يعني: طائفة من أموال الناس. * * * قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)

(189)

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (189) يحتمل: (يَسْأَلُونَكَ)، أي: سألوك عن الأهلة. ويحتمل: (يَسْأَلُونَكَ) أنهم يسألونك من بعد، فإن كان على هذا ففيه دليل رسالته؛ لأنه كان كما أخبر من السؤال له. ثم معنى السؤال عن الأهلة - واللَّه أعلم - هو أنهم لما رأوا الشمس تطلع دائمًا على حالة واحدة، ورأوا القمر مختلف الأحوال من الزيادة والنقصان فحملهم ذلك على السؤال عن حال القمر، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه جعل الهلال معرفًا للخلق الأوقات والآجال والمدد ومعرفة وقت الحج؛ لأنه لو جعل معرفة ذلك بالأيام لاشتد حساب ذلك عليهم، ولتعذر معرفة السنين والأوقات بالأيام. فجعل - عَزَّ وَجَلَّ - بلطفه وبرحمته، الأهلة ليعرفوا بذلك الأوقات والآجال، ويعرفوا وقت الحج، ووقت الزكاة؛ طلبًا للتخفيف والتيسير عليهم. ثم قال: (مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، جعل الأهلة كلها وقتا للحج. ولهذا قال أصحابنا: إنه يجوز الإحرام في الأوقات كلها، على ما يجوز بقاء الإحرام في الأوقات كلها. وأما أفعال الحج: فإنها لا تجوز إلا في وقت فعل الحج، وهو قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، فإنما هي على أفعال فيه، دليله قوله: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ)، ولا تفرض من الحج في غير الإحرام؛ دل أنه عنى به أفعال الحج، وقد جاء: أنه سمى الإحرام على الانفراد حجا، وسمى الطواف بالبيت حجا، والوقوف حجا، وقال: " الحج عرفة " وسمى الذبح حجا، حيث قال: " أفضل الحج

العج والثج ". وإنَّمَا سمى كلًا منها حجا؛ لما جعل لها أوقاتًا معلومة يؤدَّى فيها.

وأما الإحرام فإنه جعل الأشهر كلها وقتًا له بقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ). وقوله: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا). لا معنى لعطف هذا على الأول إلا على إضمار السؤال، كأنهم سألوه عن الأهلة وعن إتيان البيوت من ظهورها، فأخبر: أن ليس البر في إتيان البيوت من ظهورها. (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ثم اختلف في قصة هذا الكلام: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن بعض العرب إذا أحرم أحدهم لم يدخل بيته من بابه، ولكن يدخل من ظهر البيت؛ مخافة تغطية الرأس إذا دخل من بابه. وقيل: إن بعض العرب إذا خرج أحدهم لحاجة ولم يقض حاجته، فرجع لم يدخل البيت من بابه، ولكن يدخل من وراء ظهره، يكره دخول بيت غير منجح -يتطيرون به- ويتفاءلون قضاءها ثانيًا. فقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَيْسَ الْبِرُّ) فيما تصنعون، (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ

(190)

اتَّقَى)، واتبع أمر اللَّه، وانتهى عما نهى عنه، ويأتي (الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا). ويحتمل: أن يكون على التمثيل والرمز، ليس على التحقيق؛ كقوله: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)، وكقوله: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)، فهو ليس على حقيقة الطرح وراء الظهر، ولكن كانوا لا يسمعون كلام اللَّه ولا يعبئون به. وكذلك كلام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: لا يسمعونه ولا يكترثون إليه، فأخبر أنه كالمنبوذ والمطروح وراء الظهر لما لم يعملوا به؛ فعلى ذلك الأول، أخبر أنه (لَيْسَ الْبِرُّ) في ترك اتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والائتمار بأمره، أي: ليس فعل البر مخالفة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يأمر، ولكن البر في الاتباع له والائتمار بأمره. وقال القرامطة: إن المراد من الأبواب هو علي بن أبي طالب، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، والبيوت بيوت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. أمروا بإتيان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من عند علي، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، على ما جاء أنه قال: " أنا مدينة العلم وعلي بابها ". فمن أراد الدخول في البيت، لا بد من أن يأتي الباب فيدخل من الباب. لكن الجواب لقولهم على قدر ما تأولوا - أنه ذكر البيوت، وذكر الأبواب أيضًا والبيوت كثيرة، والأبواب كذلك أيضًا، فعليٌّ وغيره من الصحابة من نحو أبي بكر، وعمر، وعثمان، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، فيه شرع سواء؛ ألا ترى أنه قال: " أنا مدينة الحكمة "، والمدينة لا يعرف لها باب واحد، بل يكون لها أبواب؛ فدل أن تأويلهم في عليٍّ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، خاصة، لا يصح. وباللَّه العصمة. وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ). أي: اتقوا اللَّه ولا تعصوه، ولا تتركوا أمره، وانتهوا عن مناهيه. وقوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا (190)

(191)

(سَبِيلِ اللَّهِ): دينه وطاعته، أي: في إظهار دينه. قيل: هي أول آية نزلت في الأمر بالقتال. وقيل: أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا). ويحتمل: أنه أخبر كأنهم نهوا أولًا ثم أذن لهم فقاتلوا فأنكر عليهم، فأنزل اللَّه أنه أذن لهم إخبارًا. فلا يدري أيتهما أول، ولكن فيه الأمر بالقتال، والنهي عن الاعتداء هاهنا؛ قيل: هو نهي عن قتل الذراري والنساء والشيخ الفاني، على ما جاء أنه بعث سرية أوصى لهم ألا يقتلوا وليدًا ولا شيخًا. وقيل: نهاهم أن يقاتلوهم في الشهر الحرام إلا أن يبدأهم المشركون بالقتال. والله أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). أي أنه لا يحب الاعتداء، لم يحب من اعتدى. وقوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ (191) قيل: لفظ (حَيْثُ) يعبر عن المكان؛ ففيه إذن بقتلهم في جميع الأمكنة، وفي تعميم الأمكنة تعميم الأوقات، فهو على عموم المكان إلا فيما استثنى من المسجد الحرام مطلقًا. وأما قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ)، فالاستثناء فيه مقيد، فلا يخرج عن ذلك العام. واللَّه أعلم.

ثم منهم من جعل لهم القتال في الحرم وفي أشهر الحج بظاهر هذه الآية. ومنهم من قال: لا يقتل فيهما جميعًا. وقال أصحابنا رحمهم اللَّه تعالى: يقتل في الشهر الحرام، ولا يقتل في الحرم إلا أن يبدأهم بالقتال، فحينئذ يقتلهم. وكذلك يقولون فيمن قتل آخر ثم التجأ إلى الحرم: لم يقتل فيه، ولكن لا يؤاكل ولا يشارب ولا يجالس حتى يضطر فيخرج، فيقتل. وإذا قتل في الحرم يقتل. فعلى ذلك لا يقاتل في الحرم إلا أن يبدأهم بالقتال، فعند ذلك يحل القتل. وإنما لم يحل القتال في الحرم إلا أن يبدءوهم به، وإن كان ظاهر قوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) يبيح القتل في الأمكنة كلها، بقوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ)، استثنى الحرم دون غيره من الأماكن. وأما قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)، ظاهر هذه الآية يحرم القتال في أشهر الحج، لكن فيه دليل حل القتال بقوله: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)، يعني بالفتنة الشرك، جعل القتل فيه كبيرًا، ثم أخبر أن الشرك فيه أكبر وأعظم من القتل. فالأصل عندنا: أن الابتلاء إذا كان من وجهين يختار الأيسر منهما والأخف؛ فلذلك قلنا: إنه يختار القتل في الحرم على بقاء الفتنة -وهو الشرك- إذ هو أكبر وأعظم. والله أعلم. وقوله: (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ). يحتمل: (وَأَخْرِجُوهُمْ) من مكة كما (أَخْرَجُوكُمْ) عام الحديبية. ويحتمل: أن أمرهم بأن يضيقوا عليهم ويضطروهم إلى الخروج كما فعل أهل مكة بهم. ويحتمل: الإخراج على ما جاء: " ألا لا يحجن مشرك بعد عامي هذا ".

(192)

ويحتمل: أن يمنعوهم عن الدخول فيه؛ كقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)، وكقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، المنع عن الشرك إخراجًا. وقوله: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ). أي: الشرك أعظم جرمًا عند اللَّه من القتل فيه. وقوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) كما ذكرنا أن هذا وقوله: (وَاقتُلُوهُم)، كله يخرج على المجازاة لهم. وفيه لغة أخرى: " ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه ". فإذا قتلونا لا سبيل لنا أن نقتلهم، فما معنى هذا؟ قيل: يحتمل قوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ)، أي: إذا قتلوا واحدًا منكم فحينئذ تقتلونهم، أو لا تقتلوهم حتى يبدءوا هم بالقتل، أو أن يقول: لا تقتلوهم حتى يقتلوا بعضكم، فإذا فعلوا ذلك فحينئذ تقتلونهم. واللَّه أعلم. وقوله: (كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ). أي هكذا جزاء من لم يقبل نعم اللَّه، ولم يستقبلها بالشكر. ويحتمل: كذلك جزاء من بدأ بالقتال في الحرم أن يقتل. وقوله: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) يحتمل وجهين: يحتمل: (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك، وأسلموا يتغمدهم اللَّه برحمته. ويحتمل: (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن بدء القتال، وأسلموا، فإن اللَّه يرحمهم ويغفر ذنوبهم. وقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ (193) أنه أمرنا بالقتال مع الكفرة ليسلموا. فَإِنْ قِيلَ: أيش الحكمة في قتل الكفرة، وهو في الظاهر غير مستحسن في العقل؟ قيل: إنا نقاتلهم ليسلموا، ولا نقتلهم إلا أن يأبوا الإسلام، فإن أبوا ذلك ثم لم نقتلهم لا يسلمون أبدًا؛ لذلك قتلناهم، إذ في القتل ذهاب الفتنة. ويحتمل: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)، على وجه الأرض، أي تطهر من الشرك.

(194)

وقال قوم: (وَالْفِتْنَةُ) هاهنا العذاب، أي: قاتلوا حتى لا يقدروا عليه كفار. وقوله: (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ). أي: ليكون (الدِّينُ) دين اللَّه في الأرض لا الشرك. و (الدِّينُ): الحكم. وقوله: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ). فَإِنْ قِيلَ: فإذا صار الدِّين كله لله، فلا ظالم هنالك، فما معنى هذا الكلام؟ قيل: يحتمل: أن لا عدوان إلا على الظالم الذي أحدث الظلم من بعد. ويحتمل: أن لا عدوان إلا على من بقي منهم مع الظلم. فَإِنْ قِيلَ: فلم سمي عدوانًا، والعدوان هو ما لا يحل؟ قيل: لأنه جزاء العدوان، وإن لم يكن هو في الحقيقة عدوانا، فسمي باسمه كما سمي جزاء السيئة سيئة وإن لم يكن هو سيئة في الحقيقة؛ كقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) وكما سمي جزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن هو في الحقيقة اعتداء؛ فكذلك الأول. وقوله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ (194) قيل: خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الشهر الحرام يريد مكة فصده المشركون عن دخولها، فجاء من عام قابل في الشهر الحرام فدخلها وأقام ثلاثًا، وقضى عمرته التي فاتته في العام الأول، فسميت عمرة القضاء، فذلك تأويل قوله: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ)، هذه الثانية صارت قصاصًا بالأول. وقيل: إن في الجاهلية كانوا يعظمون الشهر الحرام، ولا يقاتلون فيه، فلما أن ظهر الإسلام عظمه أهل الإسلام أيضًا، ولم يقاتلوا فيه، حتى جعل الكفار يغيرون على أهل الإسلام ويستنصرون عليهم، حتى نسخ ذلك وأمروا بالقتال فيه بقوله: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)، كأنه قال: ما هتكتم من حرمة الشهر قصاص لما هتكوا. وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ). قد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ). يحتمل: (وَاتَّقُوا) مخالفة اللَّه.

(195)

أو: (وَاتَّقُوا) عذاب اللَّه. وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ). يعني: مع المؤمنين جملة. ويحتمل: (وَاتَّقُوا) القتال في الحرم قبل أن يبدءوا هم، فـ (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) في النصر والمعونة لهم. وقوله: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (195) قيل فيه بوجوه: قيل: أمر بالإنفاق ترتيبًا على الخروج إلى الجهاد، وإلا فكل منفق على نفسه بما يعلم حاجته إليه، ولا يلقي نفسه في الهلاك من حيث منع الإنفاق. وقيل: في قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، هو أن يذنب ذنبًا ثم ييأس عن العفو عنه. وقيل: (وَأَنْفِقُوا) أي: لا تضنوا بالإنفاق مخافة الفوت في الوقت الثاني؛ فإنه يخلف لكم ما أنفقتم. وقيل: (وَأَنْفِقُوا) أي: أعينوا أصحابكم، ولا تلقوهم إلى التهلكة بترك المعونة لهم بالإنفاق والتجهيز لهم. وقيل: (وَأَنْفِقُوا) أي: تصدقوا، فإن فيه حياة أبدانكم وأنفسكم. وقوله: (وَأَحْسِنُوا). قيل: (وَأَحْسِنُوا) إلى أصحابكم بالإعانة والتصدق. وقيل: (وَأَحْسِنُوا) الظن باللَّه في الإنفاق. وقيل: (وَأَحْسِنُوا) الظن بربكم في الخروج إلى الغزو. ويحتمل: (وَأَحْسِنُوا) أي أسلموا.

(196)

وعلى ذلك يخرج قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يعني: المؤمنين. * * * قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) وقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) اختلفوا في تأويله وفي قراءته: قال بعض الناس: العمرة فريضة بهذه الآية؛ لأنه أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج. وقيل: هي الحجة الصغرى. وأما عندنا: هي ليست بفريضة، وليس في قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) دليل

فرضيتها؛ لأنا لم نعرف فرضية الحج بهذه الآية، ولكن إنما عرفناه بقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). ثم في الأمر بالإتمام وجوه: أحدها: أنهم كانوا يفتتحون الحج بالعمرة، فأمروا بإتمامها، على ما رُويَ عن عمر، رضيَ اللَّهُ عنه، قال: " متعتان كانتا على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة الحج، ومتعة النساء ". والثاني: أنهم كانوا لا يجعلون العمرة لله، فأمروا بجعلها لله. وعلى ذلك روي في حرف ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قرأ: " وأتموا الحج والعمرةُ لله " بالرفع على الابتداء، ويحتمل الأمر بالإتمام ما رُويَ عن عليٍّ وابن مسعود رضيَ اللَّهُ عنهما سئلا عن قول اللَّه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قالا: " من تمامهما أن تحرم من دويرة أهلك ". واحتج أصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، أيضًا بما رُويَ عن جابر رضيَ اللَّهُ تعالى عنه: " أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه، العمرة واجبة هي؟ قال: لا. وأن تعتمر خير لك ". وروى أيضا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " الحج مكتوب، والعمرة تطوع "، وفي بعضها قال: " الحج جهاد، والعمرة تطوع ". وعن ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " الحج فريضة، والعمرة تطوع ".

وعن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، قالت: " قلت: يا رسول اللَّه، أكل أهلك يرجع بحجة وعمرة غيري؟ قال: انفري فإنه يكفيك ". إلى هذه الأخبار ذهب أصحابنا. والأصل: احتج أصحابنا أيضًا بشيء من النظر؛ وذلك أن اللَّه تعالى فرض الصلاة والزكاة والصيام في أوقات خصها بها، وأجمع أهل العلم أن المتطوع بالصدقة والصلاة والصيام يفعل ذلك متى شاء، ثم أجمعوا أن العمرة لا وقت لها؛ فدل ذلك على أنها تطوع؛ إذ لو كانت فريضة كان لها وقت مخصوص يفعل فيه كغيرها من الفرائض. فَإِنْ قِيلَ: إن الحج التطوع مخصوص بوقت مخصوص المفروض منه، فكما لا يدل الخصوص الذي في الحج التطوع على وجوبه، فكذلك العموم الذي في العمرة لا يدل أنها تطوع. قيل: وجدنا الفرض كله مخصوصًا بوقت، ووجدنا التطوع على ضربين: منه ما هو مخصوص؛ كالحج، ومنه ما هو غير مخصوص؛ كالصلاة والصيام والصدقة. فلما لم نجد في الفرض ما ليس بمخصوص بوقت، أجعلنا كل ما ليس بمخصوص بوقت تطوعًا غير فرض. واحتجوا أيضًا: بأنا وجدنا العمرة تفعل في أشهر الحج، ولم نجد صلاتين تفعلان في وقت واحد فريضتين، ولكن تفعل الصلاة التطوع في وقت الفريضة؛ فثبت لما جاز أن يجمع بين فعل الحج والعمرة في وقت واحد أنها تطوع؛ كالصلاة التي تفعل في وقت القهر وغيرها. واحتج من جعلها فرضًا بأن قال: لم نجد شيئًا يتطوع به إلا وله أصل في الفرض، فلو كانت العمرة تطوعًا لكان لها أصل في الفرض. قيل: العمرة إنما هي الطواف والسعي، ولذلك أصل في الفرض -فرض الحج- مع ما أنا وجدنا الاعتكاف تطوعًا، وليس له أصل في الفرض. فعلى ذلك العمرة. والأصل: أن كل ما يبتدئ اللَّه إيجابه على عباده فإنه يوجب فعلها بأوقات أو يجعل لأدائها أوقات، والعمرة ليس لوجوبها وقت، ولا لأدائها. ثبت أنها ليست مما أوجبها اللَّه تعالى. وقوله: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ). قوله: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية على الإضمار، كأنه قال - واللَّه أعلم -:

فإن أحصرتم: عن الحج، فأردتم أن تحلوا فاذبحوا ما استيسر من الهدْي؛ إذ الإحصار نفسه لا يوجب الهدْي، لكنه إذا أراد الخروج منه يخرج بهدْي؛ وعلى ذلك يخرج

قوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، كأنه قال - واللَّه أعلم -: من كان منكم مريضًا أو على سفر فأفطر، فعدة من أيام أخر، وكقوله: (أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) معناه - واللَّه أعلم - أو به أذى فلو أزال من رأسه ففدية، وإلا كون الأذى في رأسه لا يوجب عليه الفداء حتى يزيل، كقوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)، أي من اضطر فأكل منها غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه. والاضطرار نفسه لا يوجب الإثم. ثم اختلف أهل العلم في الإحصار: ما هو؟ وبم يكون؟ وهل يحل؟ رُويَ عن ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " إذا أحصر الرجل من مرض أو حبس أو كسر أو شبه ذلك، بعث الهدْي وواعد يوم النحر ومكث على إحرامه على أن يبلغ الهدْي محله، وعليه الحج والعمرة جميعًا من قابل ". وعن عروة بن الزبير قال: " الحصر من كل شيء يحبسه: عدو ومرض ". وروي مرفوعًا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج

من قابل "، ومعنى قوله: " فقد حل "، أي جاز له أن يحل ألا أن يحل، بغير دم؛ لأن اللَّه تعالى أذن له في الإحلال بدم. وهذا عندنا كقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر "، فمعناه: فقد حل له الإفطار. فعلى ذلك الأول: حل له أن يحل. ثم قال بعض أهل اللغة من نحو الكسائي وأبي معاذ: إن الإحصار من المرض، والحصر من العدو. فَإِنْ قِيلَ: رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ وابن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، أنهما قالا: " لا حصر إلا عن حصار العدو ". ولكن في هذا نسخ الكتاب بقولهما، إن ثبت، وهو لا يرى نسخ الكتاب بالسنة فضلًا أن يراه بقول واحد من الصحابة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، مع ما ترك قولهما؛ لأنه رَوى عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: ذهب الحصر.

ثم يقال للشافعي - رحمه اللَّه تعالى -: إذا جاز أن تجعل المرأة بمنزلة المحصر من غير أن تخاف عدوًا، لكنها لما منعها من له أن يمنعها جعلتها محصرة، فهلا جعلت المريض مثلها، وإن كان النص في القرآن جاء في المحصر من العدو على زعمك؟ فقال: لأن المرأة حبسها من له أن يحبسها، فهي أشد حالا ممن حبسه عدو، وليس له أن يحبسه. فيقال له: المريض أمرضه من له أن يمرضه فاجعله أشد حالا من الذي حبسه عدو وليس له أن يحبسه، أو فرق بين المرأة والمريض، فقال: بل بينهما فرق. وذلك أن الخائف بعدو يخاف القتل على نفسه، وقد أباح اللَّه للخائف في القتال أن يتحيز إلى فئة، فينتقل بذلك من الخوف إلى الأمن. قيل له: كما رخص للخائف في ذلك فقد رخص للمريض ألا يحضر القتال؛ فالرخصهّ له أكثر من الرخصة للخائف. فإن قال: إن المريض لا يبرأ بالقعود، والخائف يأمن. قيل له: إن الرخص التي جعلت للأعذار لا تجعل لترفعها، ولكن الرخصة لتُوَفّيه المشقة. فيقال له أيضا: قد جعلت المرأة محصرة إذا منعها زوجها وهي لا تخاف القتل على نفسها. فبطلت علته وانتقضت. فإن قال: إنكم لم تجعلوا من ضل الطريق محصرًا وهو ممنوع من المضي على حجه، فما الفرق بينه وبين المريض؟ فيقال: لو جعلنا الضال عن الطريق محصرًا، لم يجز له أن يحل من إحرامه إلا بدم يوجهه إلى الحرم فيذبح عنه. وإذا وجد من يذهب إلى الحرم فيذبح هديه، فليس بضال؛ لأنه قد وجد دليلًا يدله على طريقه؛ لذلك افترقا. وبعد، فإن المرض أحق أن يكون عذرًا في ذلك من العدو وغيره؛ لأنه يقاتل العدو والسباع فيدفع عن نفسه الإحصار، والمرض لا سبيل له إلى دفعه. دل أنه أحق أن يجعل عذرًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يكون محصرًا من الحج، ولا يكون من العمرة؛ لأن الحج مما يحتمل الفوت، والعمرة لا. وأما عندنا: فإنه يكون محصرًا منهما جميعًا؛ لأن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ذكر الإحصار على إثر

ذكر العمرة بقوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)، وروي في الخبر، يرويه ابن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خرج معتمرًا، فحال كفار قريش بينه وبين البيت الشريف، فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية، وقوله: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)، فيه دلالة أن المحصر يبقى حرامًا على حاله، لا يحل حتى ينحر عنه الهدْي. واختلف أهل العلم: أين يذبح الهدْي؟ فعندنا: أنه لا يجوز أن يذبح إلا في الحرم؛ رُويَ عن ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: " يبعث بهدْي ويواعدهم يومًا، فإذا نحر عنه حل ". وعن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، مثل ذلك. وعن ابن الزبير وعروة ابن الزبير - رضي الله تعالى عنهما -: أن المحصر يبعث بالهدْي فإذا نحر عنه حلق. وظاهر القرآن يدل على ما رُويَ عن هَؤُلَاءِ؛ لأن اللَّه تعالى قال: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)، فجعل للهدْي محلا يبلغه، وبين موضع محله فقال: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) وكانت الكعبة محلا لجزاء الصيد والدم المحصر. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: المحل: اسم الموضع الذي يحل فيه. ولو كان كل موضع له محلا لم يكن لذلك المحل فائدة. واحتج من خالف أصحابنا رحمهم اللَّه بما روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذبح الهدْي يوم الحديبية ثم قال: ولم يبلغنا أنه نحره في الحرم. قبل روي أنه نحر هدْيه يوم الحديبية في الحرم، يرويه مروان بن الحكم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الحديبية فحال المشركون بينه وبين دخول مكة، وجاء سهيل بن عمرو يعرض عليهم الصلح فصالحهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

وأمرهم أن يسوقوا البدن حتى تنحر حيث شاء، ولا يتوهم أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يهدي الهدْي في الحل وقد أطلق له المشركون أن ينحرها حيث شاء ولا يتوهم أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو بقرب الحرم بل هو فيه. ورُويَ عن مروان والمسور بن مخرمة قالا: نزل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية في الحل وكان يصلي في الحرم، هذا يبين أنه كان قادرًا أن ينحر هدْيه في الحرم حيث كان يصلي. ولا يحتمل أن يترك نحر الهدْي في الحرم وهو على ذلك قادر، ولأن الحديبية مكان مجمع الحل والحرم جميعًا فإنما ذبح في الحرم لا في الحل؛ لما ذكرنا أنه لا يحتمل أن يذبح في الحل، وله سبيل إلى الذبح في الحرم. فَإِنْ قِيلَ: حل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عام الحديبية من إحصاره بغير هدْي؛ لأن الهدْي إلى نحره كان هديا ساقه لعمرته لا لإحصاره، فنحر هدْيه على النية الأولى، وحل من إحصاره بغير دم. قلنا: ليس الأمر عندنا هكذا؛ لأنه لا يتوهم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يكون حل بغير دم، وقد أمر اللَّه المحصر بالدم. فإن قال كذلك قال: وليس في حديث صلح الحديبية أنه نحر دمين، وإنما نحر دمًا واحدًا، فما وجه ذلك عندكم؟ قيل: وجه ذلك عندنا - واللَّه أعلم - أن الهدْي الذي ساقه كان هدْي متعة أو قران فلما منع عن البيت سقط عنه دم القران فجاز له أن يجعله من دم الإحصار. فَإِنْ قِيلَ: فكيف قلنا: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أزال الهدى عن سبيله، وأنت تزعم أن من باع هديه فهو مسيء؟ قيل له: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يصرف الهدْي عن نحره لله والتقرب به إليه، وإنما صرف النية إلى ما هو أفضل منها وأوجب، فكان ذلك في فعله متبعا والذي باعه صرفه عن سبيله وترك أن ينحره بعد أن كان نوى به القربة فكان مسيئا، ومما يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جعل الهدْي لإحصاره ما روي أنه لم يحلق حتى نحر هديه، وقال: " يا أيها الناس انحروا وحلوا ". ثم المسألة ما يجب على المحصر بالحج والعمرة من القضاء إذا حل، فعلى قول أصحابنا إذا كان محرمًا بالحج يلزمه الحج مكان الأول وعمرة بتفويت الحج؛ قال الله

تعالى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) اختلف أهل العلم في تأويل ذلك، فرُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما يكون الرجل به محصرا أنه قال: فإذا أمنتم من الخوف أو المرض فمن تمتع بالعمرة أي اعتمر في أشهر الحج، كأنه يقول: إن عليه لإحلاله بغير الطواف عمرة، فإن أخرها حتى يقضيها مع الحج في أشهره فعليه لجمعه بينهما دم، ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في رجل أهل بعمرة وأحصر: يبعث بهديه، فإذا بلغ الهدْي محله حل، فإن اعتمر من وجهه ذلك إذا برأ فليس عليه هدْي، وإن اعتمر من قابل بعد حج فليس عليه هدْي، فإن وصلها من قابل بعد حج فعليه هدْي، والحاج إذا أحصر فإنه يبعث بهدْي، فإذا بلع محله حل، وإن اعتمر من وجهه ذلك إذا برأ فإنه يحج من قابل وليس عليه هدْي، وإن لم يزر البيت حتى يحج وجعلها سفرا واحدا كان عليه هدْي آخر، سفران وهدْي أو هدْيان وسفر. وقال قوم: عليه حج واحد. ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - قال: أمر اللَّه بالقصاص فيأخذ منكم العدد، أي حجة بحجة وعمرة بعمرة. وروى في خبر عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما قال: " فقد حل وعليه الحج من قابل "، هذا يدل على قول ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، لأنه قال: " وعليه الحج من قابل "، ولم يذكر عمرة. إلا أنه قد يجوز أن يكون عليه العمرة وإن لم تذكر في الحديث، كما أن الدم عليه واجب وإن لم يذكر في الحديث، فعلى ذلك العمرة يجوز وجوبها وإن لم تذكر. أما إيجابهم العمرة لفسخ الحج بغير طواف وحجة مكان حجته: فإن كان التأويل في قوله: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ) أي: بالعمرة التي لزمته بإحلاله كما قال ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ وابن الزبير - رضي اللَّه عنهم - فكفى به حجة، وإن كان تأويل الآية غير ذلك فإنا وجدنا من يفوته الحج يلزمه أن يطوف بالبيت ثم يجب بعد ذلك قضاء الحج فأوجبوا على المحصر عمرة مكان الطواف الذي يجب على من يفوته الحج وأوجبوا الحج لما دخل فيه. فَإِنْ قِيلَ يجب أن تسقط عنه العمرة التي يجب على من يفوته الحج لأن الذي يفوته الحج لا يحل منه بدم وإنما يحل بالطواف، والمحصر قد حل بالدم فقام الدم الذي لزمه يحل به مقام الطواف الذي يفوته الحج.

قيل له: إن المحصر لو لم يذبح عنه هديا احتاج أن يقوم على إحرامه حتى يصل إلى البيت فيطوف به ولو إلى سنين ثم يحج بعد ذلك مكان الحجة التي دخل فيها فجعل له أن يتعجل إلى الخروج من إحرامه ويؤخر الطواف الذي لزمه بدم يهريقه فبالدم جاز له أن يحل ولم يبطل الطواف عنه وإذا لم يبطل الدم عنه الطواف ولم يجعل بدلًا منه فعليه أن يأتي به بإحرام جديد فيكون ذلك عمرة. فَإِنْ قِيلَ: ما الدليل على أن الدم الذي يحل به المحصر جعل عليه ليتعجل به الإحلال، ولم يجعل بدلًا عن الطواف؟ قيل: لأن أهل العلم أجمعوا على أن الذي يفوته الحج ليس له أن يفسخ الطواف الذي لزمه بدم يهريقه يجعله بدلًا عن الطواف، فدل أنه إنما يهريق الدم ليتعجل به إلى الإحلال، لا بَدَلاً عن الطواف. واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). رُويَ عن عليٍّ وابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، أنهما قالا: " شاة " وأصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، يرون الشاة مجزئًا في المتعة، والإحصار، والفدية، والحُجةُ لهم في ذلك ما ذكرنا من قول الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، وما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال لكعب بن عجرة: " النسك شاة "، وإجماع الناس على أنها مجزئة في الأضحية. ثم المسألة في المحرم إذا حلق رأسه من أذى: رخص اللَّه تعالى للمتأذي حلق رأسه بفدًى، بقوله: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)، روي في الخبر عن كعب بن عجرة، أنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يا كعب، أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم يا رسول اللَّه. قال: فاحلقه، واذبح شاة أو أطعم ستة مساكين ". وقال كعب: فيَّ نزلت هذه الآية.

ثم اختلف أهل العلم في الذبح: أين يذبح؟ قال أصحابنا - رضي اللَّه تعالى عنهم -: لا يجوز أن يذبح الفدية إلا بمكة. وأما الصدقة والصوم فإنه يأتي به حيث شاء. وذلك عندهم بمنزلة هدْي المتعة؛ لأن هدْي المتعة إنما وجب بجمعه بين الحج والعمرة في سفر واحد؛ ولأنه لو شاء أن يفرد لكل واحد منهما سفرًا فعل، فبأخذه بالرخصة لزمه دم. وكذلك دم الفدية إنما وجب لأخذه بالرخصة في حلق رأسه، فصار سبيل الدمين سواء، يجبان بمكة، وكذلك دم الإحصار إنما وجب؛ لأنه أخذ بالرخصة في حلق رأسه فحل من إحرامه. ولا يجوز أن يذبح إلا بمكة. فدم الفدية أينما كان إنما وجب؛ لأنه رخص له في حلق مثل ذلك.

والصدقة: هي ثلاثة آصع على ستة مساكين، على ما ذكر في خبر كعب بن عجرة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه. فأما الصوم: فإن المتمتع إذا لم يجد هديا، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. فأجمعوا على أن له أن يصوم السبعة بمكة وفي غيرها. فصوم الفدية كذلك. وكذلك الثلاثة الأيام إذا صامها بعد إحرامه بالعمرة عندنا، وبعد إحرامه بالحج عند مخالفينا بمكة بغيرها، فهي مجزئة، وكذلك صيام الفدية تجزئه حيث صامه قياسًا على صوم المتمتع. فأما الصدقة: فإن الشافعي رحمه اللَّه ذكر أنها لا تجزئ إلا بمكة. وقال: لأن أهل الحرم ينتفعون بها كما ينتفعون بالهدْي. فيقال له: أرأيت إن ذبح الهدْي بغير مكة، ثم تصدق به على أهل الحرم هل يجزئه ذلك؟ فإن قال: لا، قيل له: قد بطلت علتك حيث لم يجز التصدق على أهل الحرم، وبان أن الدم خص بأن يهراق في الحرم؛ لأن اللَّه تعالى قال: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ). فأما الصدقة فهي مجزئة حيث كانت. ثم اختلف في الذي يحلق قبل أن يذبح بغير أذى: فقال أبو حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: يجب عليه دم. والحجة له: بأن اللَّه - تبارك وتعالى - منع المحصر من الحلق (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)، فإن حلق رأسه لأذى فعليه دم آخر؛ لأن الآية الكريمة في الحلق في المحصر، فإذا كان الذي يصيبه الأذى في رأسه قبل الوقت الذي أذن له فيه فدية، بل الذي يحلق رأسه بغير أذى أحرى أن يكون عليه الفدية. وأبو حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، يزيد في التغليظ عليه، فيقول: لا يجزئه غير الدم، ويخير صاحب الأذى بين الدم، والصدقة، والإطعام، كما أخبر اللَّه تعالى. فدليل القرآن شهد لمذهبه. وخالفه جماعة من أكل العلم فيمن حلق قبل أن يذبح وليس بمحصر، ووافقوه في المحصر. واحتجوا بما رُويَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه لما سئل عن رجل حلق قبل أن يذبح فقال: " اذبح ولا حرج ". لكن قوله: " افعل ولا حرج "، يرجع إلى الإثم، دون الكفارة،

افعل: أي لو فعلت لم يكن عليك حرج؛ لأن الكفارة قد تجب في أشياء يفعلها الرجل خطأ وعلى جهة الجهل، إنما تجب في ذلك؛ فلا حجة لمن احتج بهذا الحديث في زوال الكفارة. وأصله في ذلك: أن أحوال الضرورة سبب تخفيف الحكم وتيسيره، لم يجز إيجاب ذلك الحكم في غير أحوال الضرورة والعذر. وعلى هذا يخرج قولهم في جميع الأصول: إن الحكم في حال الاضطرار والعذر خلاف ما هو في حال الاختيار. ولهم على هذا مسائل مما يكثر عددها. وفي الآية دليل لزوم الفداء على المتدهن؛ لأن اللَّه تعالى قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا)، وقد ذكرنا أن فيه إضمارًا. ثم معروف حاجة المريض في حال مرضه إلى الدهن، فصار كأنه مذكور في الآية. واللَّه أعلم. وقوله: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). وقد ذكرنا هذا وأقاويلهم. وقوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ). اختلف أهل التأويل فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: من حين يحرم آخرها يوم عرفة. وعن ابن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، قال: " ولا تصومهن حتى تحرم ".

وعن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، قال: " ما بين الهلال ويوم عرفة "، وعن على، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، قال: " فصيام ثلاثة أيام في الحج "، اختلف أهل التأويل فيه قبل يوم التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة. فإن فات ذلك صام ثلاثة أيام بعد أيام التشريق. أما تأخيره الصوم حتى يكون آخره يوم عرفة لما لعله يجد الهدْي، ومثال ذلك ما أمر اليتيمم عن تأخير الصلاة، رجاء أن يجد الماء فيغنيه عن التيمم، فعلى ذلك يؤخر الصوم حتى يكون آخره يوم عرفة رجاء أن يجد الهدْي. وأما ما اختلفوا فيه من صيامهن حلالا بعد العمرة، فإن من لم يجوز ذلك ذهب إلى أن اللَّه تعالى قال: (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ)، فتأول ذلك على الإحرام. وقد يجوز أن يكون الأمر كما قال، ويجوز أن يكون معناه: في أشهر الحج. ألا ترى أن اللَّه تعالى يقول: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، ومعناه - واللَّه أعلم -: أن الحج يفعل في هذه الأشهر، ولفعله أشهر معلومات. فلما احتملت الآية ما ذكرنا وجدنا السنة في المتمتع أن يحرم بالحج عشية التروية، كذلك رُويَ عن جابر بن عبد اللَّه، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " قدمنا مكة مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مهلين بالحج لأربع ليال مضين من ذي الحجة، فطاف بالبيت سبعًا، وسعَى بين الصفا والمروة، ولم يحل؛ لأنه كان ساق الهدْي وأمر من لم يسق الهدْي أن يطوف ويسعى ويقصر ثم يحل. فلما كان يوم التروية أمرهم أن يلبوا بالحج، فإذا كنا نأمر المتمتع أن يحرم بالحج عشية التروية، فكيف يصوم الثلاثة الأيام بعد ذلك، وإنَّمَا بقي له يوم واحد؟ فدل ما وصفناه: أنه يجوز له أن يصومهن حلالًا بعد العمرة. واللَّه أعلم. وقوله: (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ). اختلف فيه: قيل: إذا رجع من منى.

وقيل: إذا أتى وقت الرجوع. وقيل: إذا رجعتم إلى أهليكم. وقوله: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ). قيل: تلك العشرة وإن كانت متفرقة، فهي كالموصولة في حق الحج. وقيل: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، عن الهدْي وافية، أي: يكمل بها حق الدم. وقيل: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، في حق الثواب، أي: ثوابها كثواب الهدْي. والله أعلم. وقوله: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). جعل الحكم الذي ذكره في المتمتع والمحصر، لمن لا يحضر أهله المسجد الحرام؛ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " ليس على أهل مكة هدْي في المتعة ". ولأن أهل مكة لو كانوا كغيرهم لم بكق للمخصوص معنى. وإذا كان المعتمر في أشهر الحج إذا رجع إلى أهله ثم حج من عامه ذلك فلا هدْي عليه، فالمكي مقيم في منزله بعد عمرته فهو أحرى ألا يجب عليه دم المتعة إن حج من عامه ذلك، ولكنه إن تمتع فعليه دم الحلال؛ لأنه منهي عن التمتع. ثم اختلف أهل التأويل في (حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، من هم؟ قال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: كل من كان من أهل المواقيت فما دونها إلى مكة، فلهم أن يدخلوها بغير إحرام، فلهم جميعًا حكم حاضري المسجد الحرام. ورُويَ عن ابن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه خرج من مكة يريد المدينة، فلما بلغ قديدًا بلغه أن بالمدينة جيشين من جيوش الفتنة، فرجع ودخلها بغير إحرام. وعندنا: إذا جاوز جميع المواقيت ثم رجع فعليه الإحرام. وقال آخرون: لبس حاضري المسجد الحرام. وأما الدليل، لأصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، ما ذكرنا.

(197)

وأما قولنا: ليس عليهم إحصار؛ لأن الإحصار هو الجيش والحيلولة بينهم وبين دخولهم مكة، فإذا كانوا هم فيها قادرون على الطواف بالبيت في كل وقت، كذلك بطل الإحصار. وقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ (197) عن ابن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ): شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.

وعن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، وعن الحسن، والشعبي، ومجاهد، وابن جبير، وإبراهيم، وعطاء مثله. وعن عبد اللَّه بن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: إنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. ونرى أن عبد اللَّه بن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أراد ما أراده الأولون؛ لأنه لا يبقى بعد أيام منى شيء من مناسك الحج، فكيف تكون الأيام التي بعد النفر من أيام الحج، ولا عمل فيها للحجاج؟ ثم المسألة - فيمن يحرم بالحج قبل أشهر الحج، ما عليه؛ وهل يجوز إحرامه؟

عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: من سنة الحج ألا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج. وعن جابر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: لا يحرم بالحج قبل أشهر الحح. فأصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، يكرهون الإحرام قبل أشهر الحج، واتبعوا في كراهيتهم ما رُويَ عن السلف النهي عن ذلك، لكنهم يقولون: إن أحرم يجوز. واحتج بعض أصحابنا في ذلك بأن قال: للحج ميقات ووقت، وأجمعوا أن من أحرم بالحج قبل الميقات فإحرامه صحيح، فعل ذلك من أحرم قبل وقته فإحرامه صحيح، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، الأشهر كلها، كقوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا)، وهي الأشهر كلها، وهي معلومة؛ وهي، كقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ). فإن كان هذا تأويل الآية، ففيه دليل جواز الإحرام بالحج في الأشهر كلها. وقال آخرون: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، أي في أشهر معلومات، وهو ما ذكرنا من قول جماعة من السلف، قالوا: إنها شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، غير أنه يتوجه وجهين: أحدهما: أن لفعل الحج أشهر معلومات، دليله قوله تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ)، سماه حجّا بعد سبب الإلزام، فثبت أن ما بعد الإحرام حج. والوجه الثاني: أن للحج أشهر معلومات، لا يدخل فيها غيره، ثم أدخل فيها العمرة رخصة، دليله: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، هكذا، وشبك بين أصابعه، "، فيكون معناه: أن للحج أشهر، أي: لفعله أشهر معلومات. واللَّه أعلم.

وقوله: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ). اختلف فيما به فرض الحج؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا نوى الحج صار محرمًا، لبى أو لم يلب. وقال آخرون: إذا نوى أن يعمل بجميع ما أمر وأن ينتهي عن جميع ما نهى، صار بذلك محرمًا، وأما عندنا: فإن تأويل قوله: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ)، أي: لبى فيهن بالحج. دليله ما رُويَ عن ابن مسعود، وابن عَبَّاسٍ، وابن عمر، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، أنهم قالوا: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ)، أي: لبى. وأما بالنية مجردًا فإنه لا يكون محرمًا. وما روي أيضًا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال لعائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، وقد رآها حزينة: " ما لك؟ فقالت: أنا قضيت عمرتي، وألفاني الحج عاركا. فقال: ذلك شيء كتبه اللَّه تعالى على بنات آدم، فحجي وقولي ما يقول المسلمون في حجهم ". فبين قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، رد حجي وقولي ما يقول المسلمون في حجهم أن التلبية واجبة إذ كان المسلمون يفعلونها وأمر عائشة رضيَ اللَّهُ عنها، باتباعهم فيها. وعن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها قالت: " لا يحرم إلا من أهل أو لبى ". فدلت هذه الأحاديث النبوية على أن التلبية فرض الحج، وعن هَؤُلَاءِ الأئمة وأمثالهم الذين نأخذ منهم الدِّين فلا تجوز مخالفتهم ولا العدول عن سبيلهم.

وقال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: إن خرج رجل مع بدنته وقلدها ونوى الإحرام فهو محرم، ويقوم ذلك الفعل منه مقام التلبية. والحجة لذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، في حجته لما أمرهم بأن يحلوا العمرة، فقالوا له: إنك لم تحل. قال " إني قلدت الهدْي، فلا أحل من إحرامي إلى يوم النحر ". وقال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدْي ". فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن الذي منعه من الحل تقليده الهدْي، وأن ذلك قام مقام الإحرام لو جدده بعد الطواف. ورُويَ عن عليٍّ، وعبد اللَّه بن مسعود، وجابر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، أنهم قالوا: إذا قلد فقد أحرم. وكذلك قال عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: إذا قلد وهو يريد الحج أو العمرة - فقد أحرم. وما رُويَ عن عائشة رضيَ اللَّهُ تعالى عنها -: لا يحرم إلا من أهل أو لبى، فذلك

عندنا في الذي يقلد بدنته ولا يخرج معها، لا يصير محرمًا. ألا ترى ما رُويَ عن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها قالت: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يبعث بهديه ويقيم، فلا يحرم عليه شيء. وقوله: (فَلَا رَفَثَ). قيل: (الرَّفَثُ)، جميع حاجات الرجال إلى النساء. وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: (الرَّفَثُ)، الجماع. وعن عبد اللَّه بن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، مثله. وأجمع أهل العلم أن المحرم لا يجوز له أن يقبل امرأته، ولا يمسها بشهوة. ويوجبون على من فعل ذلك دما. رُويَ عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -: إذا باشر المحرم امرأته أهرق دمًا. وعن عليٍّ - رضي اللَّه تعالى عنه - قال: إذا قبل المحرم امرأته فعليه دم. وسئلت عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، عما يحل للمحرم من امرأته؟ فقالت: يحرم عليه كل شيء سوى الكلام. وقوله: (وَلَا فُسُوقَ). قيل: (الفُسُوقُ)، السب.

وقيل " هو كل فسق، والفسق حقيقة الخروج من أمر اللَّه تعالى، قال اللَّه تعالى: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)، أي: خرج. وقوله: (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ). قيل: " الجدال "، المراء. وذلك أن العرب كانت تؤخر الأشهر الحرم وتعجل، وفي ذلك نزل قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)، فبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وقال: " إن السَّنة قد استدارت كهيئتها يوم خلق السماوات والأرض "، فعلى ذلك استدار وقت الحج إلى حيث جعل، لا يتقدم أبدًا ولا يتأخر، فلا تماروا فيه. وعن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: لا تجادل صاحبك حتى تغضبه. وأشبه الأمور - واللَّه أعلم - بتأويل الآية: أن اللَّه سبحانه وتعالى أمر بحفظ اللسان والفرج في الإحرام عن كل ما يذكر من فسوق، ومعصية، ومجادلة، ومخاصمة، وعن الرفث بالفعل والقول؛ لأنه يروى أن الفضل بن عَبَّاسٍ كان رديف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من المزدلفة إلى منى، وكان الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصرف وجهه بيده من خلفه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن هذا يوم من ملك سمعه، وبصره، ولسانه غفر له، أو كما قال ". ورُويَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه ".

وقوله: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ). ويجزيه؛ وفيه ترغيب منه في كل خير. وقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى). قيل: (وَتَزَوَّدُوا) للحج والعمرة ما تكفون به وجوهكم عن المسألة، ولا تخرجوا بلا زاد لتكونوا عيالا على الناس. ويحتمل: أن يكون الأمر بالتزود للمعاد، يدل عليه قوله: (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)، يقول: إن تقوى اللَّه خير زاد من زاد الدنيا. وقوله: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ). يحتمل: (وَاتَّقُونِ)، المعاصي والمناهي وكل فسق. ويحتمل: على التقديم والتأخير، كأنه قال: " تزودوا يا أولي الألباب "، (وَاتَّقُونِ) في المسألة من الناس. * * * قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا

(198)

كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ (198) قيل: التجارة، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون من التجارة في عشر من ذي الحجة، فلما أن كان الإسلام امتنع أهل الإسلام عن التجارة، وأحبوا أن يكون خروجهم للحج خاصة، دون أن يختلط غيره من الأعمال، فرخص اللَّه عَزَّ وَجَلَّ للحاج وطلب الفضل. ورُويَ عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن رجلًا سأله، فقال: إنا قوم نكرى، ويزعمون أنه ليس لنا حج، فهل لنا حج؟ فقال: ألستم تحرمون وتقفون؟ فقال: بلى. قال: فأنتم حجاج، وقال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسأله عما سألتني عنه مثله، فلم يجبه حتى أنزل اللَّه تعالى هذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ)، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنتم حجاج " ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ رضيَ اللَّهُ عنه مثله. وأصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، يرون حج الأجير والتاجر تامًّا، وظاهر القرآن يدل على ذلك. وكان عند القوم أن الاستئجار على الطاعة لا يجوز أمرًا ظاهرًا حتى سألوا في هذا. وأصله: أن الحج لا يمنع أفعال غيره، فأشبه الصوم، ويجوز فيه الإجارة، كذا في وأما الصلاة فهي مانعة لما سواها من الأفعال؛ فاختلفا. وقوله (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ). قيل: إن أهل الجاهلية كانوا يفيضون من عرفات قبل غروب الشمس، ومن مزدلفة بعد طلوع الشمس، فأمر أهل الإسلام بالخلاف في الحالين جميعًا: أن يجعلوا الإفاضة من عرفة بعد الغروب، ومن المزدلفة قبل طلوع الشمس. واللَّه أعلم.

وفي الخبر: " خالفوهم في الرجعتين جميعًا ". والإفاضة: هي الإسراع في المشي في اللغة. وقيل: الإفاضة: الانحدار. وقوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ). يعني المزدلفة. ويحتمل قوله (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) وجهين: يحتمل: صلاة المغرب والعشاء، ويحتمل: الدعاء فيهما جميعًا. وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنهما -: (الْمَشْعَر الْحَرَام)، الجبل وما حوله، وهو الجبل الذي يوقف عليه يقال له: " قزح "، وسمي " جمعًا "، أيضًا؛ لأنه يجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء، وقيل: يسمى جمعًا، لأنه اجتمع فيه آدم وحواء. ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: سمي العرفات عرفات؛ لأن جبريل، صلوات اللَّه تعالى عليه، لما علَّم إبراهيم - عليه السلام - المناسك كان يقول له: عرفت عرفت. واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) يحتمل وجوهًا: يحتمل: الأمر بالذكر أمر بالشكر له على ما أنعم عليهم من أنواع النعم. ويحتمل: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ)، وأرشدكم لأمر المناسك. ويحتمل: الأمر بالتوحيد؛ كأنه قال: وحدوه كما وفقكم لدينه، وعلى ذلك يخرج قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)، عن الهدى، وعن المناسك، وعن معرفة النعم والشكر. واللَّه أعلم.

(199)

قال الشيخ - رضي اللَّه تعالى عنه -: الهدى على وجهين: هدى: عرف، ليوحدوه. وهدى: وفق، لطاعتهم. وقوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) قيل: إن أهل الحرم كانوا لا يقفون بعرفات، ويقولون: إنما نحن أهل حرم اللَّه، لا نفيض كغيرنا، ممن قصدنا، فأنزل اللَّه فيهم: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، أمرهم بالوقوف بعرفات، والإفاضة منها من حيث أفاض غيرهم من الناس. وذكر عن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها قالت: كانت قريش، ومن كان على دينها يقفون بالمزدلفة ولا يقفون بعرفة، أوكان من سواهم يقفون بعرفة. فأنزل الله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ). وفيه دليل أن الوقوف بعرفة فرض، وعلى ذلك جاءت الآثار؛ رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

(200)

" الحج عرفة، من أدرك عرفة بليل، وصلى معنا بجمع، فقد تم حجه ". ويحتمل في قوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، معنى آخر: وهو أنهم رأوا غيرهم من أهل الآفاق فإذا قصدوا على الإحرام من وراء الحرم، وهم أمروا بالإحرام في الحرم، فلما خصوهم بذلك ظنوا أن قضاء غيره من المناسك في الحرم. والله أعلم. قال الشيخ أبو منصور - رحمة اللَّه تعالى عليه -: أمر بالإفاضة بحرف " ثم "، بعد ذكر المزدلفة والإفاضة من عرفات بتقديم المزدلفة، فَبَانَ أن حرف " ثم " مما قد يبتدأ به أيضًا. وقوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (200) قيل فيه بوجهين: قيل: إنهم في الجاهلية كانوا إذا قضوا المناسك يجتمعون في مكان ويذكرون آباءهم ومناقبهم ويفتخرون بذلك، فلما أن أسلموا أمرهم أن يذكروا ربهم في الإسلام كذكرهم آباءهم في الجاهلية أو أشد ذكرا، فإنه أولى بذلك من الآباء. وقيل: أن يكونوا يذكرون آباءهم -ما أنعم عليهم وأحسن إليهم- فقال: اذكروا لي

(201)

فيما تذكرون آباءكم مكان آبائكم فإني أنا الذي أنعمت عليكم وعلى آبائكم، فاجعلوا ذلك لي دون آبائكم. وقوله: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ). وقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) وقوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202). وقوله: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. .) الآية في قوم لا يؤمنون بالبعث والإحياء بعد الموت، طلبوا خيرات الدنيا، ولم يطلبوا الخيرات في الآخرة، فأعطوا ما سألوا من حسنات الدنيا، وهو كقوله: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)، فأعطوا ما سألوا من نصيب؛ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)، أي يؤتى حرث الدنيا والآخرة، فمن كان ركونهم إلى الدنيا وميلهم إليها لم يركنوا إلى دعاء غيرها، وأما من آمن بالبعث والإحياء بعد الموت فإنهم سألوا خيرات الدنيا والآخرة جميعًا بقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) طلبوا حسنات الدنيا؛ لأن الدنيا جعلها محل الزاد للآخرة، لأنه جعلها لهم، إنما خلقهم للآخرة؛ كقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى). ثم اختلف في (الحسَنَة) في الدنيا، و (الحسَنَة) في الآخرة: قيل: حسنة الدنيا: العلم والعبادة، وحسنة الآخرة: الجنة والمغفرة. وقيل: حسنة الدنيا: النصر والرزق، وحسنة الآخرة: الرحمة والرضوان. وكله واحد. ورُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " إن لله عبادًا يحيون في عافية، ويموتون في عافية، ويدخلون الجنة في عافية. قيل: يا رسول اللَّه، بم؟ قال: بكثرة قولهم: (رَبَّنَا

(203)

آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ". وقوله: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) قيل فيه بوجوه: قيل: فيه تقديم وتأخير، كأنه قال: حسابه سريع. وقيل: (سَرِيعُ)، كما أن الإبطاء في الحساب يكون للتفكر فيه والاستذكار وحفظ عقد الأصابع أو لشغل شغله، فاللَّه - تعالى - يتعالى عن ذلك أن يوصف به أو يشغله شيء. وقيل: (سَرِيعُ)، أي قريب، كأن قد جاء، كقوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)، وكقوله: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ)، وكقوله: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، أي قرب. وقيل: كناية عن عذاب شديد، أي شديد العقاب والعذاب، وهو كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، وهو كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من نوقش الحساب عذب ". وقوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ (203) قيل: إنه يحتمل وجهين: قيل: إنه أراد بالأيام المعدودات أيام النحر والذبح، أي: اذكروا اللَّه بالنحر والذبح في أيامكم. فهو عند أبي حنيفة، رحمه اللَّه تعالى، يوم النحر ويومان بعده. وقيل: أراد بالأيام المعدودات أيام رمي الجمار، دليله قوله تعالى: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)، وهي أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر. ورُويَ عن عليٍّ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: " الأيام المعدودات: يوم النحر ويومان بعده، اذبح في أيها شئت، وأفضلها أولها ".

وكذلك رُويَ عن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه. واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ). قيل: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ)، أي: بعد يوم النحر بيومين. يقول: من نفر من منى قبل غروب الشمس في اليوم الثاني فلا إثم عليه، ومن لم ينفر حتى غربت الشمس وأقام إلى الغد -اليوم الثالث- فيرمي الجمار، ثم ينفر فلا إثم عليه. وقيل: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ)، من أيام التشريق فلا إثم عليه، ومن تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه. ثم لا يحتمل قوله: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)، أن يكونا جميعًا على الرخصة، التعجيل والتأخير جميعًا، فلا يلحقه الإثم بكليهما؛ لأنه إذا كان التعجل هو الرخصة فالتأخر لا يكون رخصة، وإذا كان التأخر هو الرخصة فالتعجل ليس برخصة، لكن الوجه فيه - واللَّه أعلم - ما رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) غفر له، (وَمَنْ تَأَخَّرَ) وغفر له ما كان له من الإثم والذنب في اليوم الذي أخر. واللَّه أعلم. ويحتمل: أنه خيره، أي: إن فعل ذا أو ذا فلا إثم عليه. وعن ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال في قوله تعالى: (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ): رجع مغفورًا له. وقوله: (لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). قيل فيه بوجوه: قيل: (لِمَنِ اتَّقَى)، قتل الصيد في الإحرام، وعلى ذلك قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) وأي فلا تستحلوا قتل الصيد في الإحرام. وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: من اتقى معاصي اللَّه جملة.

(204)

وقيل: (لِمَنِ اتَّقَى) جميع ما يحرم عليه الإحرام من الرفث، والفسوق، والجدال وغيره، وعلى ذلك قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، خوَّفهم عَزَّ وَجَلَّ ليتقوا اللَّه في كل وقت كل معصية. خرج الخطاب في الظاهر للمؤمنين، ويحتمل أن يكون للكفار أيضًا، يأمرهم أن يتقوا الشرك وإشراك غيره في أفعالهم، لما أوعدهم بالحشر والجزاء لأعمالهم. * * * قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ). قيل: إن رجلًا من الكفار كان يأتي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيخبره أنه يحبه وكان يعد له الإيمان والمتابعة له في دينه، ويحلف على ذلك، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعجبه ذلك ويدنيه في المجلس، وفي قلبه خلاف ذلك، فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ). . .) الآية. وقيل: إنها نزلت في المنافقين؛ لأنهم كانوا يرون من أنفسهم الموافقة له في الدِّين، ويظهرون أنهم على دينه ومذهبه، ويضمرون الخلاف له في السر والعداوة، ويحلفون على ذلك، فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ. . .) الآية. واللَّه أعلم. وقوله: (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) قيل: أشد الخصام. وقيل: أجدل بالباطل. وقيل: أظلم في الخصومة، لا يستقيم أبدًا.

(205)

وقوله: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) قيل فيه بوجوه: قيل: (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ)، أي يقتل النساء، وهن حرث، كقوله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)، وفي إهلاك النساء إهلاك النسل. وقيل: أراد بالحرث: الحرث نفسه -وهو الزرع، والنسل والدواب- يحرق الحرث، ويعقر الدواب وكل حيوان. وقيل: إنهم كانوا يسعون بالفساد ويعملون بالمعاصي، فيمسك اللَّه تعالى عنهم المطر، فيهلك كل شيء من الناس وغيرهم. ويحتمل: (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ)، قتل ولد آدم، وفي إهلاكهم إهلاك كل حرث؛ لأنهم هم الذين يحرثون ويتناسلون. واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)، ظاهر. وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) (قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ) عن صنيعك، وهو السعي في الأرض بالفساد، حملته الحمية على الإثم تكبرا منه. قال اللَّه تعالى لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ)، يقول - واللَّه أعلم -: أعرض عنه، واتركه وصنيعه، فإن جهنم مصيره ومأواه. ورُويَ عن عبد اللَّه بن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه أنه قال: " إن أبغض الناس من يقال له: اتق اللَّه، فيقول: عليك نفسك ". وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يحتمل: (يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ)، أي يهلك نفسه، أي يبيع نفسه في عبادة اللَّه تعالى وطاعته. فذلك شراؤه إياها. ويحتمل: (يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ)، أي يبذل نفسه للجهاد في سبيل اللَّه، وهو كقوله:

(208)

(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)، فهَؤُلَاءِ بذلوا أنفسهم لذلك بتفضيل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ببذل الجنة لهم، فهو الشراء. واللَّه أعلم. وهو ما روي أن أبا بكر الصديق، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، ألقى نفسه على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عندما همَّ المشركون بقتله. وفيه دلالة أن أبا بكر الصديق، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، كان أشجع الصحابة وأصلبهم، وإن كان ضعيفًا في نفسه، لما لم يتجاسر أحد من الصحابة على مثله. وما روي أيضًا أنه خرج لمقاتلة أهل الردة وحده. فدل هذا كله أنه كان أشجعهم وأصلبهم في الدِّين. وقيل: إن هذه الآية نزلت في صهيب، ابتاع دينه بأهله وماله على ذلك والله أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) ويحتمل: أن أراد كل العباد، وهو أن الكافر إذا أسلم وأخلص دينه لله تعالى يتغمده في رحمته ويقبل منه ذلك، ويتجاوز عنه عما كان منه في الشرك والكفر. واللَّه أعلم. ويحتمل: أن أراد بالعباد: المؤمنين خاصة، رحيم بهم. * * * * قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً). (السِّلْمِ)، فيه لغتان: بالكسر والنصب. فمن قرأ ذلك بالكسر فهو الإسلام.

(209)

ومن قرأ ذلك بالنصب فهو الصلح؛ كقوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا. . .)، إلى آخر الآية. فَإِنْ قِيلَ: كيف أمر بالدخول، وهم فيه؛ لأنه خاطب المؤمنين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؟ قيل: بوجوه: أحدها: أنه يحتمل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بألسنتهم، آمِنوا بقلوبكم. ويحتمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ببعض الرسل من نحو عيسى، وموسى، وغيرهم من الأنبياء، آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: أمره إياهم بالدخول أمر بالثبات عليه. وقيل: إنه تعالى إنما أمرهم بالدخول فيه؛ لأن للإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت، لأنه فعل، والأفعال تنقضي ولا تبقى، كأنه قال: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا فيما مضى من الأوقات، آمنوا في حادث الأوقات. وعلى هذا يخرج تأويل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ). وقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) وقد ذكرنا تأويله فيما تقدم. وقوله: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ (209) أي: ملتم وتركتم من بعد ما ظهر لكم الحق. وقوله: (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وقيل: (عَزِيزٌ) أي منتقم بميلكم وترككم الحق بعد الظهور. ويحتمل: (عَزِيزٌ)، أي غني عن طاعتكم له وعبادتكم إياه. وقيل: (عَزِيزٌ)، من أن يقهر أو يذل أو يغلب؛ لأن العزيز نقيض الذليل. وقيل: (عَزِيزٌ)، لا يقدر أحد أن يصل إليه، أو يقهره إلا ذل بنفسه، كما يقال: عزيز لا يرام. وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ

(210)

تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) (يل فيه بوجوه: قيل: (أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ) بأمره. وهو قول الحسن. وقيل: (يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ)، أي أمر اللَّه؛ وهو كقوله: (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) وكقوله: (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)، على إضمار الأمر فيه. وقيل: قوله: (فِي ظُلَلٍ)، في بمعنى (الباء)، وكأنه قال: يأتيهم اللَّه بظلل من الغمام، وذلك جائز - استعمال (في) مكان (الباء)؛ لأنهما جميعًا من حروف الخفض، والعرب تفعل ذلك ولا تأبى. والأصل في هذا ونحوه: أن إضافة هذه الأشياء إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا توجب حقيقة وجود تلك الأشياء منه على ما يوجد من الأجسام، لما يجوز إضافته إلى ما لا يوجد منه تحقحق ذلك، نحو ما يقال: جاءني أمر فظيع، و (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، وجاء فلان بأمر كذا، وجاءكم رسول. فذكر المجيء والإتيان لا على تحقيق وجود ذلك منه، فعلى ذلك يخرج ما أضاف اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إلى نفسه من المجيء والإتيان والاستواء، أليس على تحقيق المجيء والإتيان والاستواء، منه على ما يكون من الأجسام. وفي الشاهد أن ملوك الأرض يضيفون إلى أنفسهم ما عمل بأمرهم من غير أن يتولوها بأنفسهم. وكذلك أضاف جل ذكره أمر القيامة إلى نفسه لفضل ذلك الأمر. ثم الأصل: أن الإتيان والانتقال والزوال في الشاهد إنما يكون لخلتين: إما لحاجة بدت، فيحتاج إلى الانتمّال من حال إلى حال، والزوال من مكان إلى مكان ليقضيها. أو لسآمة ووحشة تأخذه، فينتقل من مكان إلى مكان لينفي عن نفسه ذلك. وهذان الوجهان في ذي المكان، واللَّه - تعالى - يتعالى عن المكان، كان ولا مكان فهو على ما كان. فاللَّه - تعالى - يتعالى عن أن تمسه حاجة أو تأخذه سآمة. فبطل الوصف بالإتيان والمجيء والانتقال من حال إلى حال أو من مكان إلى مكان. وباللَّه التوفيق. وقيل: إن النص قد ورد بالاستواء والمجيء، وأورد، الخبر بالنزول، والرؤية. ثم قد ورد السمع بأن (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، لزم نفي التشبيه فيما ورد عن ذاته، ولزم الإقرار بما جاء من عنده من غير طلب الكيفية له والتفسير. فالسبيل فيه الإيمان

(211)

بالتنزيل، والكف عن التفسير. واللَّه أعلم. وفي الشاهد الإتيان في العرض: ظهوره، وفي الجسم: نقله من مكان إلى مكان، وهو - جل ذكره - جل أن يوصف بجسم أو عرض. كذلك إتيانه لا يشبه إتيان الأجسام والأعراض، ويكون إتيان لا يعرف كيفيته، وكما جاز أن يكون هو مثبتًا بدليل لا يشبهه عرض ولا جسم. واللَّه أعلم. وقوله: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ (211) يحتمل وجوها: يحتمل: أن يكون أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، بسؤاله إياهم عما آتاهم من الآيات، على إثر سؤال كان منهم، بطلب الآيات، فقال: سلهم يا مُحَمَّد كم آتيناهم وأجدادهم من الآيات على يدي موسى، فكفروا به، ولم يؤمنوا. فأنتم -وإن آتيناكم آيات- لا تؤمنون أيضًا. يخبر نبيه عليه السلام أن سؤالهم أن كان سؤال تعنت، لا سؤال قبول وتصديق. واللَّه أعلم. ويحتمل: أن يكون لا على إثر سؤال كان منهم، ولكن على الابتداء أن سل علماء بني إسرائيل وأئمتهم كم آتيناهم من آية منه فجحدوها وكتموها وهو كقوله: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، الآية. ويحتمل: (سَلْ)، لا على الأمر به في التحقيق، لكن على التحقيق، والتبيين أنك لو سألتهم لأخبروك. أو يكون المراد من ذلك في الذين تضيق صدورهم عند الإخبار أنهم لو جاءتهم الآيات التي سألوا عنها لا يؤمنون، ليخبروا بذلك فتطمئن لذلك قلوبهم، فتزول عنها الخطرات وأنواع الوساوس. واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ). قيل: (نِعْمَةَ اللَّهِ)، دين اللَّه، من بدله بعد ظهوره وبيانه. وقيل: (نِعْمَةَ اللَّهِ)، يعني محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أي: من كفر له بعدما علم أنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويحتمل: (نِعْمَةَ اللَّهِ)، النعم المعروفة التي كان آتاهم من المن، والسلوى، والغمام

(212)

وغيره مما لم يؤت أحدًا من العالمين ممله. وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) خوَّفهم عَزَّ وَجَلَّ وحذرهم على تبديل ذلك وتركه والكفر بنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد معرفتهم أنه حق. واللَّه أعلم. ويكون تبديل نعمة اللَّه بتوجيه الشكر إلى غيره، وهو أن يعبد غيره. واللَّه أعلم. وقوله: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا (212) قال الحسن زين لهم الشيطان ذلك، وكذلك قوله تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ). ولكن معناه - واللَّه أعلم - أي زين لهم التزيين ثم التزين يكون بوجهين: يزينه الطبع لقرب الشهوات، والعقل لقيام الأدلة، فيكون التزين بالثواب. وأما ما زين للذين كفروا الحيوة الدنيا لما ركب فيهم من الشهوات وميل الطبع إليه. وأما الوجهان الآخران منهما للمؤمنين. وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يحتمل وجهين: يحتمل: (فَوْقَهُمْ)، في الحجة، يقول اللَّه تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا). ويحتمل: (فَوْقَهُمْ)، في الجزاء والثواب. وقوله: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ). يحتمل وجوهًا: يحتمل: (بِغَيْرِ حِسَابٍ)، بغير تبعة. ويحتمل: (بِغَيْرِ حِسَابٍ)، لا على قدر الأعمال، ولكن على قدر الشهوة وزيادة عليها؛ لأن رزق الجنة على ما تنتهي إليه الشهوات، ورزق الدنيا مقدر على قدر الحاجة والقوت؛ إذ لا أحد يبلغ مناه في الدنيا وحاجته، وفي الآخرة كل ينال فوق مناه. ولأن أكل الشهوة في الدنيا هو المؤذي. ويحتمل: (بِغَيْرِ حِسَابٍ)، أي من غير أن ينقص ذلك عن ملكه وخزائنه، وإن عظم عطاياه وكثر مناله، ليس كخزائن المخلوقين تنتقص بالدفع وتنفد. واللَّه أعلم.

(213)

قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215). وقوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)، قال أبو موسى الأشعري، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، وآخر معه من الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، قالا: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، كلهم كفار إلى أن بعث اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فيهم النبيين. وقال عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، مؤمنين كلهم زمن نوح، عليه السلام، الذين كانوا في السفينة إلى أن اختلفوا من بعد، فبعث اللَّه فيهم النَّبِيِّينَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، مؤمنين كلهم زمن آدم، عليه الصلاة والسلام، إلى أن أنزل اللَّه الكتاب عليهم وبعث فيهم الرسل. ولو قيل بغير هذا كان أقرب. قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، يعني صنفًا واحدًا. ومعنى الأمة معنى الصنف، كقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ

إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)، يعني: أصنافا. ثم خص اللَّه تعالى صنفا ببعث الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم من بين غيرها من الأصناف تفضيلًا لهم وإكرامًا، وبعث كل رسول إلى قومه فيهم كفار وفيهم مؤمنون؛ لأن الأرض لا تخلو من ولي أو نبي، كقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، ليعلموا أن سائر أصناف الخلق خلقوا لهم ولحاجاتهم. وهو قول الحسن. وكذلك قول أبي حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن الأرض لا تخلو عن نبي أو ولي. واللَّه أعلم. وقوله: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ)، لمن أطاعه، (وَمُنْذِرِينَ)، لمن عصاه. وجائز أن تكون البشارة والنذارة جملة عن الوقوع بما به يقعان مختلف؛ كقوله تعالى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)، وقوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا). وقوله: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) يحتمل قوله: (لِيَحْكُمَ)، وجهين: يحتمل: (لِيَحْكُمَ)، الكتاب المنزل عليهم بالحق فيما بينهم، وهو كقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12). وقرأ بعضهم: (لِيَحْكُمَ)، بالياء، وقرأ آخرون: " لتحكم "، بالتاء. فمن قرأ بالياء جعل الكتاب هو المنذر. ومن قرأ بالتاء صير الرسول هو المنذر؛ فكذلك في هذا: ليحكم الكتاب بينهم بالحق، وليحكم الرسول بالكتاب فيما بينهم بالحق. وقوله: (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) يحتمل قوله: (فِيهِ) وجوهًا: يحتمل: (فِيهِ)، في مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -. ويحتمل: (فِيهِ)، في دينه. ويحنمل: (فِيهِ)، في كتابه. وقوله: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)

(214)

أي: ما اختلفوا فيه إلا من بعد ما جاءتهم البينات والعلم، إما من جهة العقل، وإما من جهة السمع والكتب والخبر، وإما من جهة المعاينة والمشاهدة لكنهم تعاندوا وكابروا وكفروا به بغيًا. وقوله: (بغيَا بَينَهُمْ). قيل: (بَغيَا بَينَهُمْ)، أي: حسدًا بينهم. وقيل: (بغيَا بَينَهُمْ)، ظلمًا منهم، ظلموا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ). تأويله - واللَّه أعلم - أي هدى اللَّه الذين آمنوا، ولم يختلفوا من بين الذين اختلفوا. ويحتمل: هدى اللَّه من أنصف ولم يعاند، ولم يهد الذين عاندوا ولم ينصفوا. وقوله: (بِإِذْنِهِ)، قيل: بأمره، وقيل: بفضله. لكن قوله: (بِإِذْنِهِ)، بأمره، لا يحتمل، ولكن (بِإِذْنِهِ)، أي: بمشيئته وإرادته. وقوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). فيه دلالة أنه من شاء أن يهتدي فاهتدى، ومن لم يشا أن يهتدي لم يهتد؛ لأنه لو كان شاء أن يهتدوا جميعًا أنه من شاء أن يهتدوا جميعًا، على ما يقوله المعتزلة، لكان يقول: واللَّه يهدي إلى صراط مستقيم، ولم يقل: (مَنْ يَشَاءُ)، فدل قوله: (مَن يَشَآءُ)، على أنه شاء إيمان من آمن، ولم يشأ إيمان من لم يؤمن، فالآية تنقض على المعتزلة قولهم: إنه شاء أن يؤمنوا، لكن آمن بعضهم ولم يؤمن البعض. وفي قوله: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ)، دلالة على ألا يفهم من البعث والإتيان والمجيء الانتقال من مكان إلى مكان، ولا الزوال من موضع إلى موضع؛ لأنه ذكر البعث، وهم كانوا بين ظهرانيهم، فدل أنه يراد الوجود، لا غير. وقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) قيل: معنى قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ)، على إسقاط " الميم ".

وقيل: (أَمْ حَسِبْتُمْ)، بمعنى: " بل حسبتم ". وقوله: (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ). قيل: شبه الذين خلوا من قبلكم. وقيل: (مَثَلُ الَّذِينَ)، خبر الذين خلوا من قبلكم، وقيل: سنن الذين خلوا من قبلكم من البلاء والمحن التي أصابت الماضين من المؤمنين. وقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ. . .) الآية، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة قبل أن تبتلوا كما ابتلي من قبلكم، أي: لا تظنوا ذلك عمله، وإن كان فيهم من قد يدخل - واللَّه أعلم - كقوله تعالى: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4). وقيل: إن القصة فيه أن المنافقين قالوا للمؤمنين: لم تقتلون أنفسكم وتهلكون أموالكم؛ فإنه لو كان مُحَمَّد نبيًّا لم يسلط عليه؟ فقال المؤمنون لهم: إن من قتل منا دخل الجنة. فقالوا: لم تمنَوْن الباطل والبلايا؟ فأنزل اللَّه تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)، من غير أن تبتلوا وتصيبكم الشدائد، (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ). وقوله: (وَزُلْزِلُوا) قيل: حركوا. وقيل: جهدوا. وقوله: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) قيل فيه بوجهين: قيل: يقول الرسول والمؤمنون جميعًا (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)، ثم يقول اللَّه لهم: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ). وقيل: يقول المؤمنون (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) ثم يقول الرسول: ألا إن نصر اللَّه قريب ويحتمل هذا في كل رسول بعثه اللَّه تعالى إلى أمته يقول هذا، وأمته يقولون أيضًا.

(215)

ويحتمل: إن كان هذا في رسول دون رسول، على ما قاله بعض أهل التأويل: أنه فلان. وليس لنا إلى معرفة ذلك سبيل إلا من جهة السمع، ولا حاجة إلى معرفته. وفي قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ. . .) الآية. وفي قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ). وفي قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، وجه آخر، وهو أنهم. - واللَّه أعلم - ظنوا لما أتوا بالإيمان أن يدخلوا الجنة، ولا يبتلون بشيء من المحن والفتن، وأنواع الشدائد، فأخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن في الإيمان المحن والشدائد لابد منها، كقوله عليه السلام: " حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ". واللَّه أعلم. وكقوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)، ولأن الإيمان من حيث نفسه ليس بشديد؛ لأنه معرفة حق وقول صدق، ولا فرق بين قول الصدق وقول الكذب، ومعرفة الحق ومعرفة الباطل في احتمال المؤن، والإيمان: مخالفة الهوى والطبع وذلك في أنواع المحن. واللَّه أعلم. وقوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) فظاهر هذا السؤال لم يخرج له الجواب؛ لأن السؤال " عما ينفق "، فخرج الجواب " على من ينفق "، غير أنه يحتمل أن يكون (ماذا) بمعنى (مَن)، وذلك مستعمل في اللغة، غير ممتنع. ويحتمل: أن يكونوا سألوا سؤالين: أحدهما: عما ينفق؟ والثاني: على من ينفق؟ فخرج لأحدهما الجواب على ما كان من السؤال: " على من ينفق "، ولم يخرج جواب ما كان من السؤال: " عما ينفق ". وهذا أيضًا جائز، كثير في القرآن: أن يكثر الأسئلة، ويخرج الجواب لبعض ولم يخرج لبعض، ويكون جواب

(216)

سؤال: " مم ينفق؟ " في قوله تعالى: (قُلِ الْعَفْو)، فيكون على ما ذكر. واللَّه أعلم. ويدل لما قلنا، أنه كان ثم سؤالان، أن أحدهما: " عما ينفق " والآخر: " على من ينفق "، ما رُويَ عن عمرو بن الجموح الأنصاري، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: يا رسول اللَّه، " كم ننفق؟ وعلى من ننفق؟ فأنزل اللَّه تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ. . .) الآية. ثم اختلف في هذه النفقة: قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه النفقة كانت تطوعا، فنسخت بالزكاة. وقِيل: هذه النفقة صدقة يتصدقون بها على الوالدين والأقربين الذين يرثون، فنسختها آية المواريث. وقيل: فيه الأمر بالإنفاق على الوالدين والأقربين عند الحاجة، وكان هذا أقرب. والله أعلم. وفيه دلالة لزوم نفقة الوالدين والمحارم. * * * قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218). وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) والكراهة المذكورة هاهنا والمحبة: هي كراهة الطباع والنفس، ومحبة الطباع

(217)

والنفس، لا كراهة الاختيار. ولا يكون في كراهة الطباع خطاب؛ لأن طبع كل أحد ينفر عن القتال والمجاهدة مع العدو، لا أنهم كرهوا ذلك كراهة الاختيار؛ لأنه لا يحتمل أن يكون أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يؤمرون بالقتال والمجاهداة مع العدو ثم هم يكرهون عما أمروا اختيارًا منهم؛ لأن ذلك دأب أهل النار، فثبت أنه على ما ذكرنا من نفور كل طبع عن احتمال الشدائد والمشقة وكراهيته. وقوله: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ). يحتمل هذا في القتال خاصة، وهو أن يكونوا كرهوا القتال؛ لما فيه من المشقة والشدة، (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)؛ لما فيه من الفتوح والظفر وسعة العيش ومنال الثواب والدرجات في الآخرة. (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا)، يعني التعود على الجهاد، (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)، لما فيه من اجتراء العدو والأسر والقتل والذل والصغار وقطع الثواب في الآخرة. ويحتمل هذا في كل أمر يحب الرجل، في الابتداء ويكون عاقبته شرّا له، ويكره أمرًا فيكون عاقبته خيرًا له. هذا لجهلنا بعواقب الأمور وخواتيمها؛ ليعلم أن ليس إلينا من التدبير في شيء. واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، أي: ويعلم ما هو خير لكم في العواقب مما هو شر لكم، " وأنتم لا تعلمون ". وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ (217) معناه - واللَّه أعلم -: يسئلونك عن القتال في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام، (قُل قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)، لو لم يكن من الكفرة ما ذكر من الصد عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والكفر به، وإخراج أهله منه، لكن إذ فعلوا ذلك، لم يكن القتال بجنبه كبيرًا، بل الكفر فيه أكبر من القتل. فكأنه - واللَّه أعلم - ذكر هذه الأحرف وعنى به الكناية عن الكفر، ثم جعل الكفر أكبر من هذا كله مع المعرفة أن الذي يؤذيه أقل منه. ثم ألزمهم اختيار الأيسر عند البلوى بما بين. والقتال بنفسه كبير؛ لأن فيه تفاني الخلق، ولم يخلقوا للفناء. ثم فيه نقض على المعتزلة بوجهين: أحدهما: أنه ذكر القتل، وجعل الكفر أكبر منه، ولو أوجب القتل التخليد، ما أوجب الكفر، لكان فيه التساوي، ولا يكون الكفر أكبر من القتل فبان أن الكبيرة لا توجب

التخليد ما أوجب الكفر. واللَّه أعلم. والثاني: قال: والكفر أكبر منه، فصيره أكبر، ثم ألا يخلو أكبره، من أن يكون بنفسه، أو بالكافر، أو باللَّه. ولا يحتمل أن يكون بالكافر؛ لأن فعل الكفر أصغر عنده من فعل الزنى والقتل؛ لأنه يدين بالكفر ويستحسنه، ويستقبح ذلك. فبان أنه يكبر بنفسه أو باللَّه. فإن قالوا: بنفسه. قيل لهم: لما جاز أن يكون كبره بغير من ينشئه لما لا جاز خلقه بغير من يفعله، أو يكون باللَّه؟ وهو قولنا. وقوله: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) فيه دلالة إثبات رسالة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أنهم يفعلون كذا، فكان كما قال: فدل أنه إنما عرف ذلك باللَّه عَزَّ وَجَلَّ. وقوله: (إِنِ اسْتَطَاعُوا)، ولكن لا يستطيعون أن يردوكم عن دينكم. ففيه إياس الكفرة عن رد هَؤُلَاءِ إلى دينهم، وأمن هَؤُلَاءِ عن الرجوع إلى دينهم. وقيل: (إن) بمعنى (لو)، أي: لو قدروا أن يردوكم عن دينكم إلى دينهم لفعلوا. أخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عما ودوا إن استطاعوا، لكن اللَّه بما أكرمهم وبشرهم من النصر وإظهار الدِّين لا يستطيعون على ذلك أظهر بقوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا). وقوله: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ذكر إحباط الأعمال، بالموت على الكفر، والعمل يحبط بالكفر دون الموت. والوجه فيه: أنه لا يحتمل أن يكون الموت هو سبب إحباط الأعمال، بل الكفر بنفسه إذا وجد؛ إذ الموت لا صنع فيه للعباد، والكفر فيه لهم اختيار، لم يجز جعل العمل حبطًا بما لا صنع له فيه، دل أن الكفر هو المحبط، لا الموت، ولكن ذكر الموت في هذا لما فيه تمام الحبط والإبطال، وما لم يمت ترجى له المنفعة بحسناته؛ لأنه إذا كفر جحد تلك الحسنات فأبطلها، فإذا أسلم بعد ذلك ندم على جعل ذلك باطلًا، فصار مقابلا لسيئاته

(218)

بحسنات، فهو حالة الانتفاع به كما قال عَزَّ وَجَلَّ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ). وقوله: (فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). أما في الدنيا: فذهاب التعظيم والإجلال والثناء الأحسن الذي يستوجب بالخير والدِّين عند الناس، فإذا ارتد عن الإسلام حبط ذلك كله أصار على أعين الناس أخف من الكلب والخنزير. وأما حبطه في الآخرة: فذهاب ثواب أعماله، وكأن ما يستوجب المرء من الثواب إنما يستوجب بما يأتي من الأعمال ويحضرها عند اللَّه، لا بالعمل نفسه؛ ألا ترى إلى قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، وقوله: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)، دل هذا أن الثواب إنما يستوجب بإحضاره وإتيانه عند اللَّه، لا بالعمل نفسه. واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا (218) تضمن قوله: (آمَنُوا) والإيمان باللَّه، والإيمان بجميع ما جاء به الرسل من الرسالات وغيرها. وقوله: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا). الهجرة تكون على وجهين: أحدهما: الهجرة المعروفة التي كانت إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، وهو كقوله: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100). ثم رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " لا هجرة بعد فتح مكة ".

(219)

والهجرة الثانية: هجرة الآثام والإجرام، فهي لا ترتفع أبدًا. وقال الحسن في قوله تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ): أي بالعداوة منه لمن كفر باللَّه. وقال أبو بكر الصديق - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن يهجر قومه وداره ويخرج لله. وقوله: (وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ). المجاهدة تكون على وجوه: مجاهدة العدو، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس. وقوله: (أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ). فيه دلالة على أن الذي يحق رجاؤه يعمل ما ذكر اللَّه. وقوله: (رَحْمَتَ اللَّهِ)، يحتمل وجهين: الرحمة: الجنة، والرحمة: المغفرة. وقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). لما كان منهم من التقصير فيما ذكر من المجاهدة والمهاجرة. * * * قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا

أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا). (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، بعد الحرمة (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، قبل الحرمة، (وَإِثْمُهُمَا)، بعد الحرمة (أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)، قبل التحريم. والمنفعة في الميسر: بعضهم ينتفع به، وبعضهم يخسر، وهو القمار. وذلك أن نفرًا كانوا يشترون الجزور فيجعلون لكل رجل منهم سهمًا، ثم يقترعون، فمن خرج سهمه برئ من الثمن حتى يبقى آخر رجل، فيكون ثمن الجزور عليه وحده، ولا حق له في الجزور، ويقتسم الجزور بقيتهم. وقيل: يقسم بين الفقراء؛ فذلك الميسر. ثم قال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، في ركوبهما؛ لأن فيهما ترك الصلاة، وترك ذكر اللَّه، وركوب المحارم والفواحش. ثم قال: (وَمَنَافِعُ للِنَّاسِ)، يعني التجارة، واللذة، والربح. ثم اختلف فيه: قال قوم: إن الخمر محرمة بهذه الآية حيث قال (إِثْمٌ كَبِيرٌ)، والإثم محرم بقوله: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ). وقال قوم: لم تحرم بهذه الآية؛ إذ فيها ذكر النفع، ولكن حرمت بقوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ)، والرجس محرم، وقال اللَّه تعالى: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، وعمل الشيطان محرم. ثم أخبر في آخرها أنه: (يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ)، وذلك كله محرم. والأصل عندنا في هذا: أنهم أجمعوا على حرمة الميسر مع ما كان فيه من المنافع للفقراء وأهل الحاجة والمعونة لهم؛ لأنهم كانوا يقتسمون على الفقراء، فإذا حرم اللَّه هذا ثبت أن المقرون به أحق في الحرمة مع ما فيه من الضرر. الذي ذكرنا. واللَّه أعلم. وقال الشيخ، رحمه اللَّه تعالى، في قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ): ولم يبين في السؤال أنه عن أي أمرهما كان السؤال؛ وأمكن استخراج حقيقة ذلك عن الجواب بقوله: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، كان السؤال كان " عما فيهما "؛ فقال: فيهما كذا. وعلى ذلك قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى)، كأن السؤال عما يعمل في أموال اليتامى، من المخالطة وأنواع المصالح، وكذلك قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) كأنه قال: عن غشيان في المحيض، إذ في ذلك جرى الجواب فلم يبين

في السؤال لما في الجواب دليله، أو لما كان الذين سألوا معروفين يوصل بهم إلى حقيقة ذلك. واللَّه أعلم. وقيل: هذه الآية تدل على حرمتهما بما قال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، وقد قال اللَّه تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ) إلى قوله: (وَالإثْمَ)، ثبت أن الإثم محرم. وأكثر السلف على أن الحرمة فيهما ليست بهذه الآية، ولكن بقوله (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ). وقوله: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، يبلغ أمر الخمر والميسر إلى ما يكون فيهما (إِثْمٌ كَبِيرٌ)، من نحو ما بين عند السكر والميسر في سورة المائدة من وقوع العداوة والبغضاء والصد عما ذكر، (فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ)، في ذلك الوقت بوجوه: أما في الخمر: إلى أن يسكر، وفي التجارة فيها. وفي الميسر: لما كان يفرق ما فيه ذلك على الفقراء، وما فيه من التجارة ونحو ذلك. وعلى التأويل الأول يخرج قوله: (قُل فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ)، أي: في الشرب والعمل إذ حرما، (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، قبل أن يحرما. واللَّه أعلم. ثم الذي علينا: أن نعرف حرمتهما اليوم إن كانت في هذه الآية أو لم تكن، فينتهي الانتفاع بهما ويحذر ذلك، وقد بين اللَّه الكافي من ذلك في سورة المائدة، وجاءت الآثار في تحريمهما، على ما في الميسر من الخطر والجهالة التي جاءت الآثار على كون أمثالها في حكم الربا، وفي الخمر ما لا يتخذ للمنافع وإنما يتخذ للهو والطرب، وكل ذلك مما نهينا عنه، مع ما في ذلك من ذهاب العقل الذي هو أعز ما في البشر، وغلبة السفه في أهله. فحقيق لمن عقل اتقاه لو كان حلالًا؛ لما في ذلك من التبذير، فكيف وقد ظهرت الحرمة. ثم كان معلومًا علة حرمة الخمر إذا سكر منها الشارب، ثم جاء به القرآن، وليست تلك العلة في شرب القليل منه، فلم يلحق بحق القليل غيرها، وأُلحق بالكثير كل شراب يعمل ذلك العمل، لما فيه المعنى الذي ذكره، إذ كانت الخمر لا تتخذ في المتعارف للمصالح ولا لأنواع المنافع، بل تتخذ لما ذكرت من اللهو والطرب، ولا يستعمل شربها

إلا المعروفون بالفسق، فتكون حرمة الخمر بعينها، لا ما ذكرت من قصد العواقب بها. وكل جوهر لا يتخذ لا يقصد باتخاذ ذلك فهو غير محرم بعينه. واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ). (الْعَفْوَ): هو الفضل عن القوت، وذلك أن أهل الزروع كانوا يتصدقون بما يفضل عن قوت سنة، وأهل الغلات يتصدقون بما يفضل عن قوت الشهور، وأهل الحرف والأعمال يتصدقون بما يفضل عن قوت يوم، ثم نسخ ذلك بما رُويَ عن أنس بن مالك، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " الزكاة نسخت كل صدقة كانت، وصوم شهر رمضان نسخ كل صوم كان، والأضحية نسخت، كل دم كان ". فإن ثبت هذا فهو ما ذكرنا. ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، قال: كان هذا قبل أن تقرض الصدقة. دليل ذلك ظهور أموال كثيرة لأهلها في الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عنهم أجمعين، إلى يومنا لم يخرجوا من أملاكهم، ولا تصدقوا بها، ولا أنكر عليهم؛ فثبت أن الأمر في ذلك منسوخ، أو هو على الأدب. وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ). وقوله: (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). قيل: أما في الدنيا: فتعلمون أنها دار بلاء وفناء، وأما الآخرة: دار جزاء وبقاء، فتفكرون فتعملون للباقية منهما. وقال الحسن: إي - واللَّه - ومن تفكر فيهما ليعلمن أن الدنيا دار بلاء، وأن الآخرة دار بقاء. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، قال: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها. بل يعلم بالتفكر أن الدنيا للزوال، علم أنها هي للتزود لدار القرار، فيصرف سعيه إلى التقديم، وجهده في فكاك

(220)

رقبته وإعتاقها. ولا قوة إلا باللَّه. وفي قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) دلالة جواز تأخير البيان؛ لأنه أمر بالتفكر والتدبر، وجعل لهم عند الفكر الوصول إلى المراد في الخطاب، فدل أنه يتأخر عن وقت قرع الخطاب السمع. وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ (220) كأن في السؤال إضمارًا؛ لأنه قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى)، ولم يبين في أي حكم، وإضماره - واللَّه أعلم - أن يقال: يسألونك عن مخالطة اليتامى. يبين ذلك قوله: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) أن السؤال كان عن المخالطة. وكذلك قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)، ولم يبين في أي حكم، فكأنه قال: يسألونك عن شرب الخمر والعمل بالقمار والميسر، ثم قال: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، دل قوله: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) أن السؤال كان عن شرب الخمر والعمل بالميسر. وهذا جائز في اللغة، وفي القرآن كثير أن يكون في الجواب بيان السؤال أنه عما كان وإن لم يذكر في السؤال؛ كقوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) دل ما ذكر من الفتيا أن الاستفتاء كان عن الميراث. وكذلك قوله: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ)، دل قوله: (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) أن السؤال كان عن نساء اليتامى. وهذا جائز، وربما يخرج الجواب على إثر نوازل، فيعرف مراده بالنوازل دون ذكر السؤال. ثم السؤال يحتمل وجهين: يحتمل: أن يكون عن مخالطة الأموال والأنفس جميعًا بقوله: (قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ)، فإنما حملهم - واللَّه أعلم - على سؤال المخالطة، ما قيل: لما نزل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)، وقوله: (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا) أشفق المسلمون من خلطة اليتامى، فعزلوا لهم بيتا، وعزلوا طعامهم وخدمهم وثيابهم، فشق ذلك عليهم جميعًا، فسألوا عن ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فنزلت هذه

الآية: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى. . .) الآية. وفي الآية دليل جواز المناهدات والمؤاكلات في الأسفار وغيرها حيث أباح لهم المخالطة بأموال اليتامى. فإذا احتمل ذلك مال الصغار من اليتامى فاحتماله في مال الكبير أشد؛ إذ مال الكبر يحتمل الإباحة والإذن، ومال الصغير لا. وفي الآية دليل جواز القليل من المعروف واليسير منه في ملك الصغير، واحتماله ذلك؛ لأنه - جل وعز - أباح لهم المخالطة مع اليتامى على العلم في الاستيفاء مبلغ الكبير بل يقصر عنه. وفيه دليل أن علة الربا ليس هو الأكل، على ما قاله بعض الناس، ولكن هو الكيل والوزن؛ لأنه أباح لهم المخالطة في المأكول من الطعام والمشروب من الشراب، على غير كيل ولا وزن، على العلم بقصور الصغير عن الاستيفاء قدر الكبير وبلوغه مبلغه، فلو كان علته الأكل لكان لا يبيح لهم أكل الربا؛ فدل أن علته ليس الأكل، ولكن هي الفضل عن الكيل أو الوزن في الجنس. وفيه دليل جواز بيع الثمرة بالثمرتين لخروجه عن الكيل. وهكذا كل شيء خرج عن الكيل والوزن، لترك للناس مكايلته وموازنته، وإن كان كيليا يجوز بيع واحد باثنين. واللَّه أعلم. وفيه دليل أن لا بأس بأن يؤدب الرجل اليتيم بما هو صلاح له. وذلك كما يؤدب ولده وأن يعلمه بما فيه الاعتياد لمحاسن الأخلاق والتوسيع، كما أمر بالصلاة إذا بلغ سبعًا، والضرب عليها إذا بلغ عشرًا اعتيادًا. ألا ترى أنه روي في الخبر: " شر الناس الذي يأكل وحده ويشرب وحده ". وفي المخالطة التخلق بالأخلاق الحسنة، وفي تركها التخلق بالأخلاق السيئة، والاعتياد بعادة السوء. وقوله: (قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ)، فيه دليل إضمار، وهو طلب الصلاح لهم: إما بالتولي لهم في أموالهم والنظر لهم بما يعقب نفعا لهم، وطلب التخلق بالأخلاق الحسنة والاعتياد بالعادة المحمودة؛ فذلك (إصلاح) خير، بطلبكم الصلاح لهم، أو خير لهم بما يعود نفع ذلك إليهم. وإلا فظاهر الصلاح حسن لكل أحد، فلا وجه لتخصيصهم به؛ فدل أنه على طلب النفع والنظر لهم. واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ)، فيه دليل الترغيب؛ كقوله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) رغبهم عَزَّ وَجَلَّ بما أخبر أنهم (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)، بطلب الصلاح والنظر والنفع لهم، إذ

(221)

يستوجب بعضهم قبل بعض المعونة لهم والحفظ والصلاح، كقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). دل قوله: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)، على أن الصغير قد يعق والديه في أمر الدِّين، ويجوز منهم التدين إذا عقلوه وإن لم يكونوا بلغوا. واللَّه أعلم. ثم أوعدهم عَزَّ وَجَلَّ بقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ). أي - واللَّه أعلم - يعلم طالب النفع والنظر لهم من طالب الفساد والإسراف في أموالهم. وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ). قيل: يضيق عليكم، ولم يأذن لكم بالمخالطة معهم. وقيل: لأعنتكم، فلم يرض لكم في الخلطة. وقيل: لأحرجكم. وهو واحد. وأصل العنت: الإثم، كقوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)، يعني: أثمتم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). فيه وعيد لهم على ما ذكرنا. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية: فقال قائلون: الحظر على كل مشرك ومشركة -كتابيًّا كان أو غير كتابي- ثم نسخ بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). فالإماء على الحصر؛ لأنه إنما استثنى الحرائر دون الإماء بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ). وقال آخرون: هو على المشركات خاصة دون الكتابيات، والكتابيات مستثنيات،

فدخلت كل كتابية -حرة كانت أو أمة- تحت الاستثناء؛ لأن الاستثناء إذا كان عن جملة الأديان سوى دين الكتابيات لم يحتمل دخول بعض أهل ذلك الدِّين دون بعض، والذي يدل عليه قوله تعالى: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)، فجعل الأمة المؤمنة خيرًا بالنكاح من المشركة، ومن قوله إنه بالقدرة على طول الحرة الكافرة لا يباح له نكاح الأمة المؤمنة. فبان أن موقع الآية ليس على التناسخ على ما يقوله على أن الإماء يدخلن تحت قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ)، دليله قوله تعالى: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، فثبت أنهن قد يتعففن فيستوجبن اسم الإحصان، وقد جعل شرط الحل هو ذكر الإحصان. وقوله أيضًا: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا). وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، مستثنيًا الإماء من جملة المحصنات؛ دل أنهن دخلن في الخطاب. وقد أجمع على أنهن تحل لنا بالسبي، وكل مذكور في الكتاب يستوي الحل فيه إلا من جهة العدو. فإذا أبيح لنا تزويج المسبيات منهن كالحرائر، ثبت أنه محكوم بحكمهن في النكاح. فبطل قول من أبطل نكاح الإماء؛ إذ ثبت أن الآية بخلاف ما قال. وباللَّه التوفيق. ثم الآية تضمنت أحكامًا: منها: أن من قول أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى أجمعين -: أن المناهي بحيث النهي لا توجب الحرمة. والثاني: أن الآية كيف كان حملها على الخصوص في بعض أحق والعموم في بعض ومخرج الخطابين واحد. والثالث: أن في الآية ذكر المنع، لعلة وهي الدعوة إلى النار، فكيف لم يلزم حفظ ما لأجله وجب الحرمة على وجوده؟ وهذا هو الأصل: أن تحفظ الأحكام المعللة بالعلل ما دامت توجد العلل. والرابع: البيان في تولى النكاح؛ إذ للأولياء خرج الخطاب بقوله: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا). وأما قولنا في النهي: فإن النهي يوجب الانتهاء، ولكن لا يوجب الحرمة إلا بدليل يقوم على مراد الحرمة في النهي، لما رأينا من المناهي كثيرة لم توجب الحرمة، فلو كان

نفس النهي موجبًا ذلك لوجب أن يوجب في كل ذلك، فلما لم يوجب ذلك، دل أن نفسه لا توجب الحرمة، ولكن الدليل هو الموجب للحرمة. وأما قولهم وسؤالهم عن الخصوص والعموم: فذلك جائز عندنا، خروج الآية على العموم يعقل بها الخصوص. وهو كثير في القرآن مما لا يحتاج إلى ذكره وشرحه، ومن ذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) عقل إيجاب تعظيم الرسل والأنبياء والإيمان لهم على العموم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة في حق البعض دون البعض، وكذا قوله: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ). فالتخلف غير موجود في بعض الأحيان، وإنَّ حق النهي عن الرغبة عن نفسه أخذ الجميع، فعلى ذلك هاهنا يجوز خروجه عامًّا يخص بالعقول. وأما قولهم: وجوب الحكم لعلة، وهو الدعاء إلى النار، فله وجهان: أحدهما: أن الكتابي أقر بكتاب، يقدر على إلزام الدِّين بالدعاء إليه، ففيه رجاء الإسلام، وغيرهم من أهل الشرك لا طمع فيهم بمثله. والثاني: أن علة الحظر قوله: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، والزوجات لا يدعون أزواجهن إلى ذلك، بل الأزواج هم الأصل في الدعاء، وهم الأمراء على الزوجات، والزوجات بين الأتباع للأزواج والمذللات في أيديهم؛ لذلك أبيح. ثم الأصل: أن النكاح جعل لأمرين: إما لإبقاء النسل، وإما للتحصن والتعفف عن السفاح. ثم قد ينكح من لا نسل فيه، فما بقي إلا وجه المنع عن السفاح. ثم الدعاء إلى النار أعظم من السفاح، بهذا لم يبح النكاح. ثم الدلالة على تخصيصها على وجهين: أحدهما: قول الخصوم بالنسخ: أنه ورد على بعض دون بعض، وما ذلك إلا الخصوص. والثاني: أن ذكر ذلك في الكتابيات لم يجر بحيث إظهار ما يحل وما يحرم، إذ شرط نكاحهن إنما هو عند العجز عن الحرائر، فجرى الذكر فيهن، إذ هن الأصل في عقود النكاح، وأن الإماء دخيلات في حق النكاح، وإنما جرى الذكر في حلهن بملك اليمين؛

لذلك ترك ذكرهن مع ما يجوز دخول الإماء في قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)؛ لما أوجب لهن العفة والتحصن بقوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، وبقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ). وأما قولهم: خاطب الأولياء في النهي بقوله: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ)، وخاطب الأولياء أيضا في الأمر بإنكاح الأيامى بقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، فدل أن الولي شرط في جواز النكاح. فجوابنا: أنه إنما خاطب الأولياء في النهي عن النكاح، وفي الأمر بالنكاح، لما العرف في الأمة ألا يتولى النساء النكاح بأنفسهن، بل الأولياء هم الذين يتولون عليهن النكاح برضائهن وأمرهن وتدبيرهن؛ لذلك خرج الخطاب للأولياء مع ما ليس في تخصيص الأولياء، بالخطاب دليل إخراج النساء عن ولاية النكاح. ألا ترى أنه ذكر في الآية (الصلاح) بقوله: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، لم يصر ذلك شرطًا في الجواز، فعلى ذلك الأولى. وهذا يدل أيضًا على أن ليس في تخصيص المحصنات من الكتابيات حظر نكاح الإماء منهن. والثاني: أن قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ)، يحتمل أن يكون في الصغار خاصة، نهى الأولياء عن تزويج الصغار من المسلمين المشركات من غير الكتابيات. فإذا كان محتملًا ما ذكرنا، لم يكن لمخالفنا الاحتجاج به علينا في إبطال نكاح المرأة نفسها دون وليها. واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ). اختلف في تأويله: قال قوم: هو في غير الكتابيات، يبين ذلك قوله: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، فنسق الكتابيات بالإحلال على ما لم يختلف فيه أحوال الحل من أول الإسلام إلى الأبد ولا من قبل ذلك نحو الطيبات من الطعام - من طعام المؤمنين

وأهل الكتاب ونحو المحصنات من المؤمنات، فمثله الكتابيات، إذ نَسَقَ نكاحهن على من ذكر. ولو كان التأويل هذا، كانت الآية نطقت بألا تنكحوا المشركات غير الكتابيات؛ فلا يكون في الآية تحريم الإماء من أهل الكتاب، ولا النهي عن ذلك، وإنما يعرف إن كان يجوز أو لا، بدليل آخر سوى هذه الآية. فَإِنْ قِيلَ: على ذلك لِمَ لا كانت آية الإحلال في التخصيص بذكر المحصنات دليلًا على حرمة نكاح الإماء؟ قيل: يكون الجواب لأوجه: أحدها: أن ذكر الحل في حال لا يدل على الحرمة في غيرها. كذلك ذكر الحل في صنف لا يدل على حرمة في غيره. ولو كان ذا يدل، لكان يجيء أن يكون حكم ما لا يرد فيه السمع مخالفًا لما يرد فيه. وذلك فاسد؛ إذ السمع هو دليل الحكم فيما لا سمع فيه بالمعنى الذي ضمن فيه. واللَّه أعلم. وأيد ذلك قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، ثم هن يحللن وإن لم يؤتين أجورهن؛ فمثله الأول. والثاني: أنه منسوق على مثله في المؤمنات. ثم لم يكن ذلك في المؤمنات على تحريم الإماء؛ فمثله في الكتابيات. فَإِنْ قِيلَ: لما بين في إماء المؤمنات؟ قيل لهم: لم يزعم أحد أن ذلك على نسخ هذه الآية؛ فثبت أنه ليس في الذكر في المحصنات تحريم الغير؛ فكذلك في المنسوق على ذلك مع ما لو كان في مثل هذا الاستدلال على الحرمة، لكان في قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ)؛ إذ وقع على غير الكتابيات - دليل على الإحلال، فيكون ذكر الحرمة في نوع دليل الحل في غيره على مثل ذكر الحل في نوع. وفي ذلك تناقض الأدلة. واللَّه أعلم. ووجه آخر: أن (وَالْمُحْصَنَات)، يحتمل أن يريد به العفائف، وأهل الصلاح، والإماء قد يستحققن هذا الاسم، كقوله تعالى: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ)، وقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)، وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)، وإذا استحققن الاسم فهن في الآية حتى يظهر الإخراج. والله

أعلم. وبعد، فإنا نقول: أكثر ما في ذلك أن يكون في ذلك النهي عن تزوج الإماء من أهل الكتاب، فإن النهي في ذلك لا يدل على الحرمة؛ لأنه معلوم المعنى الذي له يقع النهي عن نكاح الإماء -أنه لمكان رق الأولاد، ولمكان مخالطة الإماء الرجال وخلوتهن بالموالي- وذلك مما ينفر عنه الطباع، ثم كان النساء الزانيات جميع ذلك فيهن موجود، والنهي قائم، وقد يلحق أولادهن أعظم الشين الذي يضعف على الرق، ثم لم يمنع النهي جواز نكاحهن بما هو نهي نفار الطباع، لا معنى في ذلك له بكون الحرمة؛ فمثله أمر الإماء. واللَّه الموفق. ثم دليل حلهن: أن كل امرأة حرمت لنفسها، فسواء وجه الحل بها في ملك اليمين والنكاح، وكل امرأة كانت حرمتها بالحق فيختلف فيها المكان، فإذا كانت هذه محللة بملك اليمين ثبت أنها لم تحرم لنفسها، فهي تحل بالنكاح كما تحل بملك اليمين. على هذا الأصل أمر المجوسيات والمحارم ونحوها. واللَّه أعلم. وقال قوم: الآية في جميع المشركات والكتابيات، ثم نسخت الكتابيات بالآية التي في سورة المائدة، وكان النسخ بشرط الإحصان، فبقيت الإماء على الحرمة. دليل ذلك وجهان: أحدهما: قوله تعالى: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ)، أنه يدخل في ذلك الكتابي وغيره؛ فكذا في الأول. والثاني: قوله تعالى: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ. . .) الآية. والثالث: أن الكتابي مشرك في الحقيقة، إذ هو بما لا يغفر له، والكتابي في الدعاء إليها وغيره سواء؛ فلذلك كان على ما ذكرت. فنحن نقول في ذلك - وباللَّه التوفيق -: ليس فيما ذكم دليل على ما ادعى؛ لأنه جائز خروج آية واحدة في أمرين يختلف موقعهما من الخصوص والعموم بالدليل نحو قوله: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا

بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ. . .) الآية، أنه قد يجوز التخلف عنه لعذر، ولا يجوز الرغبة عنه بحال، وقال في قوله: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا. . .) الآية، أن ليس كل ذلك مما يقتضي عموم الخلق وإن كان الظاهر في الكل بالمخرج واحد، ثم ما ذكرت من الآية دليل الفصل. والثاني: أنه يجوز أن تكون الآية في غير أهل الكتاب. دليل ذلك الأمر بالمعروف من التفرقة في التسمية، وإن كانوا في الشرك مجتمعين؛ قال اللَّه تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا)، وغير ذلك مما قد فصل الله بينهم في النسبة وإن كانوا في حقيقة الشرك مجتمعين، فجائز أن تكون الآية على ذلك، ثم حرم تزويج المسلمات من أهل الكتاب لا بهذه الآية، لكن بغيرها من الأدلة. ألا ترى أنا لا نترك مماليك أهل الإسلام تحت أيديهم لا بهذه الآية؟! فمثله أمر الإنكاح. واللَّه أعلم. ثم في الآية دليل ذلك، وهو قوله تعالى: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ. . .) الآية، وكل يجمع ألا يحل نكاح الأمة المؤمنة على الحرة الكتابية، فلو كانت هي مرادة في هذه الآية لكان نكاح من هو خير منها في النكاح لا يحرم عليه، حتى إن الذي يقول بهذا التأويل يحرم لطول الكتابية فضلا عن نكاحها. ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، دليل أن الإماء غير داخلات في الخطاب؛ لأنهن لا يدعون بل الغالب عليهن أن يتبعن ويجبن لمن هن تحتهم فيما دعين إليه، لا أن يدعون. هذا الأمر المتعارف. واللَّه أعلم. ثم نقول: جعل كأن الآية نزلت في الكتابيات، فقال: " ولاتنكحوا الكتابيات "، فإن الكتاب في جميع ما جرى به الذكر في حقوق النكاح والطلاق والأحكام تضمن خطاب الأحرار، خاصة فيما أبهم، وعرف أمر الحرمة في الإماء والعبيد بالأدلة العقلية مما دلت عليه أحكام السمع؛ فكذا هذا. واللَّه الموفق. وقوله: (وَلَا تَنْكِحُوا)، محمول على التحريم باتفاق الأمة وإن احتمل ما هو بهذا المخرج على غير التحريم، على أن اللَّه تعالى قد بين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ

الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أن النكاح قد أنفسخ حيث أباح لغير الأزواج التزوج. وفي قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ)، أنه الاستمتاع بذوات الأزواج إذا سبين، وقال: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)، ذكر جملة النساء ونهى الرجل عن التمسك بعصمتهن. واسم الشرك اسم لفريق بالإطلاق، واسم الكفر للجملة، على ما قال: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً) الآية، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ. . .) الآية، وغير ذلك مما جمع في اسم الكفر وعرف بأسماء المذاهب، وجعل اسم (الشرك) في التفريق. فدلت هذه الآيات على الحرمة في قوله: (وَلَا تَنكِحُوا. . .) الآية، ويدل قوله في آخر الآية: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) على ذلك، ومعلوم أن أول دعائهم إلى النكاح، فصير ذلك سببًا للنار.، وما يوجبها حرام. ثم فيها دلالة عموم الآية في الذكور؛ لأنه في تعارف الخلق: أن الرجال هم الذين يدعون، لا النساء، والنساء تتبعهم. وذلك المعنى في رجال أهل الكتاب وغيرهم سواء، فتكون الحرمة فيهم سواء. وعلى ذلك المروي من الخبر: أن رجلًا أسلم وتحته ثماني نسوة وأختان ونحو ذلك فأسلمن. دل أنهن يتبعن الرجال، لا أنهن يدعون إلى ما يخترن من الدِّين. واللَّه أعلم. ثم الدليل على أن النهي أيضًا نهي تحريم في قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)، أنه لولا خبث فيهن في الحقيقة يوجب حرمة الاستمتاع لكان لا ينهى عن التناكح، وذلك من أبلغ أسباب دعوتهن إلى الإسلام بما ذكرت من الفرق في طاعتهن الأزواج فيما يختارون من الدِّين في المتعارف بمن رويت فيهن الخبر، وخاصة ذلك في المشركات أحق في الحل منه في الكتابيات؛ إذ هن إنما أخذن دينهن عن آبائهن بالاعتياد والتقليد، ومعلوم اعتيادهن ما فيه رضاء الأزواج وإيثار ذلك على ما فيه رضاء الآباء حتى يؤثرنهم عليهم بما جعل اللَّه بينهم مودة ورحمة. والكتابيات أخذن دينهن لما علمن أنه دين الرسل وأنهن أمرن بالتمسك به. فإذا نهوا عن نكاح المشركات وأبيحوا نكاح الكتابيات -

والإسلام فيهن بالنكاح أرجى- ثبت أن ذلك كان لخبث نهوا، وقد حرم اللَّه الخبائث. واللَّه أعلم. ثم اللَّه - سبحانه وتعالى - أخبر أنه حرم الخبائث وأحل الطيبات، فلولا أن فيما حرم خبثًا، يحتمل الوقوف عليه، وفيما أحل طيبًا لسوى الحرمة والحل له - كان كذلك لم يحتمل التسمية في وصف التحريم والتحليل هو لا غير. وهذا كما وصف المؤمن بالحياة والسمع والبصر، والكافر بضد ذلك بما في كل معنى ذلك، لا أنه اسم لقب دون أن يكون له حقيقة له يسمى. فمثله الذي ذكرت. ثم كان (الخبث) يكون من وجهين: من خبث الأحوال، ومن خبث الأفعال، وله سمي الكفر (رجسًا)، وكذا الخمر والميسر، وذلك كله بخبث الأفعال. وعلى ذلك يجوز أن يكون تحريم تزويج المسلمات المشركين لخبث الفعل: وهو خوف وقوع الكفر؛ إذ هن يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال ويقلدونهم الدِّين، فيكون التحريم لهذا الخوف؛ إذ هو الوجه الذي عليه جرى حرمات النكاح من ذلك نحو نكاح ما كثر عددهن بقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)، فمنع عن الخمس، وأكثر الخوف وقوع الجور الذي هو في العقل خبيث، ونكاح الأمة بعد الحرة؛ إذ الطبع ينفر عن مناكحة من يخالط الرجال ويخلو بهم، لا يؤمن عليه السفاح، فما يؤثر مثلها عند الغناء بالحرة عنده عنها إلا لأمر حدث بينهما مما يبعث ذلك على الجور، فنهوا عن ذلك. وكذلك نكاح المحارم بما قد يجري من الأمور في النكاح مما يحمل على تضييع الحدود وأنواع النشوز الذي يمنع ذلك القيام بحق النسب وصلته، فيكون في ذلك تضييع الفرض. وكذلك محارم المرأة، وعلى هذا يجب تحريم المسلمة على الكتابي وغيره لخوف وقوع فعل الخبث بينهما، وهو الكفر. ولم يقع النهي عن نكاح الزانية والزاني على ذلك؛ لأنه ليس في الطباع احتمال اتباع أحدهما الآخر في ذلك الوجه بل ينفر عن ذلك أشد النفار، فلا يخاف فيه هذا، فهو على الأدب بما يلحق الولد الطعن وصاحبه يشتم به، لا أن يلحقه وصفه موافقة ما ثم إلا لمكان الآخر يكون النهي نهي تحريم، بل كان على الإرشاد بما يلحق من الطعن دون ما أن يحدث من تعدى حد أو جور في الفعل. وعلى ذلك أمر نكاح الأمة. واللَّه أعلم. ثم وجه التفصيل بين الكتابية والمشركة - واللَّه أعلم - في إباحة التناكح: أن المشركة

آثرت فعل البهيمي في الدِّين على فعل البشرى، والكتابية آثرت فعل البشرى، وهو ما يدعو إليه العقل لا الطباع؛ لأنهن يرجعن في الاختيار إلى الإيمان بالرسل لكن أنهى إليهن أنهم نهوا عن الإيمان بمن يدعوهن إليه، فاعتقدن على ذلك بالآثار عندهن من الحجج، كما اعتقدنا نحن بأن لا نبي بعد نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكن خبرنا صحيح وخبرهم فاسد. وإلا فوجه الاعتقاد على ما في العقل ذلك. وأما المشركة لم تختر ذلك بحجة أنما كان لوجود الآباء على ذلك من غير الإنهاء إلى من في العقل اتباعه؛كما قالوا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ. . .) الآية، فحرم علينا نكاحها لخبث اختيارها واتباع فعل البهيمي، وإيثاره على فعل البشرى. واللَّه أعلم. وعلى ذلك لو أسلمت لم يعظم درجة إسلامها، لولا أنا نرجو من رحمة اللَّه أن اللَّه -إذا قبلت هي الإسلام- بالاختيار لينير قلبها حتى ينشرح صدرها للحق لكان لا يكون لإسلامها فضل حمد. واللَّه الموفق. ووجه آخر: أن الكتابية لما آمنت بكتب الأنبياء، عليهم الصلوات والسلام، في الجملة، فقد آمنت بذلك بالرسل جميعًا، لكنها كذبت من كذبت، لما وقع الخبر عندها بخلاف الحقيقة، فأمكن أن تنبه عن حقيقة ذلك بالكتاب الذي آمنت به؛ ليكون إيمانها في الحقيقة إيمانا بمن كذبته بما ظنت أن في ذلك الكتاب تصديقًا. والمشركة احتيج فيها إلى ابتداء الإلزام، لا أن كان معها ما به اللزوم مما قد وجد إيمانها به. والله أعلم. وعلى هذا لا يسلم للمرتد حق الكتاب إذا اختاره؛ لأنا نعلم أنه يظهر ذلك، لا أنه في الحقيقة مختار؛ إذ كتابنا مصدق كتابهم، فلم يجز أن تظهر له بما به التصديق التكذيب ليرجع إلى رد هذا بقبول الآخر. فلذلك دم تحل ذبائحهم. واللَّه أعلم. ودليل النهي عن النكاح والإنكاح حتى يكون الإيمان، أن الإيمان معروف عندهم، يعلمون به حقيقة الشرط. واللَّه أعلم. ومخاطبات الأولياء في قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا)، يخرج على الأمر المعروف من التولى، أو على الوقت الذي إليهم حق التولية، أو على أن الحق لهن عليهم في التزويج إذا أردن، فنهوا عن ذلك؛ ليعلم أن لا حق يجب لهم في ذلك. واللَّه أعلم.

(222)

وقوله: (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، يحتمل وجهين: أحدهما: الخبر عما يدعو بعضهم بعضا إلى عبادة غير اللَّه، وذلك دعاء إلى النار، كما قال اللَّه تعالى: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، بما يوجب الفعل الذي دعوا إليه ذلك فكأنما دعوا إلى ذلك، إذ هوالمقصود من الثاني. وعلى ذلك تسمية الجزاء باسم العمل الذي له الجزاء. واللَّه أعلم. ويحتمل: (يَدْعُونَ) في التناكح للهو واستكثار الأتباع في معاداة اللَّه تعالى ومعاداة أوليائه بالتناكح، واللَّه يدعو إلى التعفف واستكثار الأتباع على ما ينال به مغفرته ورحمته. واللَّه أعلم. وقوله: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، يعني: يدعون إلى العمل الذي يستوجب به النار. (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ)، يعني يدعو إلى العمل الذي يوجب لهم الجنة والمغفرة واللَّه أعلم، وقوله: (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). * * * قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ). دل جوابه على أن السؤال كان عن قربان النساء في الحيض، أو كان عن موضع

الحيض. فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه (أَذًى). والعرب تفعل ذلك - ربما أن تفهم من الجواب مراد السؤال، وربما تبين المراد في السؤال - وإذا جاز أن يتبع غير وقت الأذى وقت الأذى بالاتصال أومن بعد انقطاع الدم قبل أن تغتسل يجوز أن تتبع غير مكان الأذى مكان الأذى بالاتصال، واللَّه أعلم، ولا يحتمل أن يكون الأمر بالاعتزال يقع على اعتزال الأبدان والأشخاص بالاتفاق؛ إذ كل يجمع أن له أن يمسها باليد وأن يقبلها وغير ذلك، إلا أنهم اختلفوا في موضع الاستمتاع: قال أبو حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: يستمتع بها ما فوق السرة وما تحت الركبة، ويجتنب غير ذلك. وقال مُحَمَّد - رضي اللَّه تعالى عنه -: يجتنب شعار الدم، على ما جاء عن عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها قالت: " يتقي شعار الدم، وله ما سوى ذلك ". ثم دل هذا

الخبر على أن النهي في الموضع الذي فيه الأذى. دليله: أول الآية: (قُلْ هُوَ أَذًى). وحجة أبي حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، ما روي أنه قال: لها ما تحت السرة، وله ما فوقها، وما روي أن أزواج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا حضن أمرهن أن يتزرن ثم يضاجعهن. وأما مُحَمَّد، رحمه اللَّه تعالى، فإنه ذهب إلى ما ذكرنا: أنه ينهى عن قربان ذلك الموضع للأذى، وأما الموضع الذي لا أذى فيه فلا بأس. ويجوز أن ينهى عن قربان هذه الأعضاء من نحو الفخذ وغيرها؛ لاتصالها بالموضع الذي فيه الأذى. ويحتمل أن يكون ذكر الإزار كناية عن الموضع الذي فيه الأذى؛ وعلى ذلك روي عن عائشى:، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنها سئلت: عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالت: " يحل له كل شيء إلا النكاح ". وسئلت: عما يحل للمحرم من امرأته؟ فقالت: لا يحل له شيء إلا الكلام. وقوله: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ) أي: لا تجامعوهن. (حَتَّى يَطْهُرْنَ) فيه لغتان: في حرف بعضهم (يَطْهُرْنَ) بضم الهاء وتخفيفها، وفي حرف آخرين بتشديد الهاء وفتحها: فمن قرأ بالتخفيف فهو عبارة عن انقطاع الدم، ومن قرأ بالتشديد فإنه عبارة عن حل قربانها بعد الاغتسال. ثم من قول أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: إن المرأة إذا كانت أيامها عشرا تحل لزوجها أن يقربها قبل أن تغتسل، وإذا كانت أيامها دون العشر لم يحل له أن يقربها إلا

بعد الاغتسال. ويحتمل: أن تكون الآية فيما كانت أيامها دون العشر في اللغتين؛ إذ الغالب كان على أن الحيض لا يحيط بكل وقت، على ما روي أنه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش: " تحيَّضي في علم اللَّه من الشهر ستا أو سبعا ". فعلى ذلك أنه إنما جعل قربانها بالاغتسال. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ): إنه على ما دون العشر من المدة بما الغالب كان على ألا يمتد إلى أكثر الوقت ولا يقصر عن الأقل، على ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال في النساء: " هن ناقصات عقل ودين ". ووصف نقصان دينهن: أن تحيض إحداهن في الشهر ستًّا أو سبعًا، ووصفهن جملة بنقصان دينهن، ثم ذكر ما بين في التفسير عن الجملة، ثبت أن ذلك كان الغالب في الجملة حتى خرج عليه الجواب أنه لا يمتد إلى الأكثر ولا يقصر عن الأقل. واللَّه أعلم. وأيد هذا ما أخبر عن ابتداء الآية أنه الأذى، وأمر بالاعتزال، ثم جعل لها بعد الانقطاع قبل الاغتسال حكم الأذى؛ فلم يجز أن يجعل الحكم لما ليس بحقيقة حكم الأذى، فيجعل للطهر الذي هو ضده ذلك الحكم، واللَّه أعلم، وبما أنه ليس لذلك حكم الأذى

في العشر إن كان الوقت يضيق عنه في رفع الصلاة، فكذا في أمر القربان. واللَّه أعلم. وعلى ما ذكرت من العرف ينصرف أمر الوقت: أنها لو أخرت الاغتسال عن وقت الصلاة فإن للزوج أن يقربها بما لزمها من قضاء الصلاة، وهذا النوع من الأذى لا يمنع لزوم القضاء. وحصل الخطاب على الوقت بالعرف أنهن لا يتأخرن، وبما ذكرت عن لزوم القضاء الذي يمنعه حكم الأذى، وبذلك صار غسل الحيض كغسل غيره من الأحداث، وهو لا يمنع القربان. واللَّه أعلم. وحرم إتيان الأدبار، بما عليه اتفاق الآثار، وبما خص المكان بالأمر بالقربان، وبما أمر بالاعتزال للحُيَّضِ، ولو كان يحل غِشْيانهن في الأدبار لم يكن للأمر بالاعتزال معنى؛ إذ قد بقي أحد الموضعين من المقصود بالغِشْيان لو احتمل. واللَّه أعلم. والأصل في ذلك: أن الحل في الابتداء لم يتعلق بقضاء الشهوات، ولا كان هذا لها، وإنما القضاء للشهوات خاصة الجنة، فأما الدنيا فإنما جعلت لقضاء الحاجات؛ إذ بها يكون بقاء النسل والأبدان، وبها يكون قوام الأبدان ودوام الحياة إلى انقضاء الأعمار، وركبت فيهم الشهوات لتبعثهم على قضاء تلك الحاجات؛ إذ لولا الشهوات لكان كل أمر من ذلك على الطباع يكون كالأدوية الكريهة والمحنة الشديدة، فخلق اللَّه تعالى فيهم الشهوات ليدوم ما به جرى تدبيره في أمر العالم، ولا تتعلق الحاجات بإتيان الأدبار. ولو أحلت لكان الحل لحق الشهوة خاصة، والدنيا لم تخلق لها؛ فلذلك لم تجعل بها حل مع ما لو كان يحتمل ذلك لاحتمل التناكح في نوع؛ فإذا لم يحتمل بأن أن ذلك إنما جعل للنسل. واللَّه الموفق. وقال بشر: إذ حرم الغشيان للحُيَّضِ بما هو أذى، وهو يكون على ما يتقذر، فالذي مجراه الدبر والذي منه يخرج من الأذى أوحش وأخبث، وذلك قائم في كل الأوقات، كقيام الحيض في أوقاته، فالحرمة لذلك أشد، ذكر بوجه، أمكن أن يبسط ما قال على الذي وصفته. واللَّه أعلم. وقوله: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ). قيل فيه بوجوه:

(223)

قيل: معنى قوله: (مِن حَيثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ): لا تأتوهن صائمات، ولا معتكفات، ولا مصليات. ويحتمل: لا تأتوهن حُتضًا، ولكن (فَأْتُوهُنَّ) طهرا. وقيل: (فَأْتُوهُنَّ) في الموضع الذي أباح لكم إتيانها، وهو القبل، ولا تأتوهن في أدبارهن. ويشبه -إذ " حيث " يعبر به عن المكان- أن يكون (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أن تبتغوا الولد، بقوله: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُم). وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) من الذنوب. (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ). من الأحداث والأذى. والثاني: ممن فعل هذا قبل النزول (الْمُتَطَهِّرِينَ) أنفسهم بالتكفير، والتواب هو الرجاع عما ارتكب، والتارك عن العود إلى ذلك، غير مصر على الذنب. ويحتمل: التواب: الذي لا يرتكب الذنب. وقوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (223) الحرث: هو الزرع. وفيه دليل النهي عن الاعتزال عنها؛ لأن الزرع إذا ترك سُدًى فيضيع ويخرب. وفيه دليل أن الإباحة في إتيان النساء طلب التناسل والتوالد، لا قضاء الشهوة؛ لأنه سمى ذلك حرثًا، والحرث ما يحرث فيتولد من ذلك الولد. وفيه دليل أن الإتيان في غير موضع الحرث يحرم منهن، وعلى ذلك جاءت الآثار أنها سميت اللوطية الصغرى، ما جاء أنه نهى عن إتيان النساء في محاشهن، يعني: في أدبارهن، وفي بعض الأخبار: إتيان النساء في أدبارهن كفر.

وقوله: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ). يعني؛ على أي جهة شئتم بعد أن يكون ذلك في المزرع، ولا بأس بالاعتزال عنها إذا أذنت؛ لما ذكرنا أن الأمر بذلك أمر بطلب النسل، لا قضاء الشهوة. فإذا كان كذلك فلها ألا تتحمل مشقة تربية الولد، وأما الزوج فإنما عليه المؤنة، وذلك مما ضمن اللَّه لكل ذي روح بقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)؛ لذلك نهِيَ هو عن الاعتزال دون إذنها، ولم تنه هي عن الإذن عن ذلك. واللَّه أعلم.

(224)

وأما الاعتزال عن الإماء وملك اليمين فإنه لا بأس؛ لأنه لا يطلب النسل من الإماء في المتعارف؛ لذلك لم يكره، ولأن في إحبالهن إتلافًا، وللرجل ألا يتلف ملكه؛ لذلك افترقا. واللَّه أعلم. والأصل: أن الشهوات مجعولة لما بها إمكان قضاء الحاجات التي يقضي بها جرى تدبير العالم، وبه يكون دوام النسل، وبقاء الأبدان، الحاجة لا تحتمل الوقوع في الأدبار؛ لذلك لم يجعل فيها. وقوله: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ). قيل فيه بوجهين: قيل: (وَقَدِّمُوا) العمل الصالح. وقيل: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) من الولد تحفظونه عند الزيغ عما لا يجب. وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ). يحتمل قوله: (أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ)، أي: ما قدمتم من العمل الصالح فتجزون على ذلك؛ كقوله: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ). ويحتمل: (أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ)، أي: ملاقو ربكم بوعده ووعيده. * * * قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227). وقوله: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ). قيل: كان الرجل يحلف ألا يصنع المعروف، ولا يبر، ولا يصلح بين الناس، فإذا أمر بذلك، قال: إِنِّي حلفت على ذلك، فنهوا عن ذلك، يقول: لا تحلفوا على أمر هو لي معصية ألا تصلوا القرابة، وألا تبروا، وألا تصلحوا بين الناس، وصلة القرابة خير لكم من الوفاء باليمين في معصية اللَّه تعالى. و " العرضة " العلة، يقول: لا تعللوا، أي: لا يمنعكم أن تبروا أو ما ذكر.

(225)

وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). حرفان يخرجان على الوعيد: (سَمِيعٌ) بمقالتكم وأيمانكم، (عَلِيمٌ) بإرادتكم في حلفكم. وقوله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ): إن كسب القلوب لا يكون عقدًا ولا حنثًا، إنما هو تعمد الكذب. كقوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)، فعلى ذلك أَمْر يمين اللغو والتعمد. وهذا يبين أن اليمين يكون في موجود، لا فيما يوجد؛ إذ فيه وصف المآثم، وفيما يكون لم يكسب قلبه ما يأثم فيه. فعلى ذلك أمر اللغو؛ فهو في الماضي، ولا يأثم بالخطأ، ويأثم في غير اللغو بالتعمد. ثم قال اللَّه تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)، وبين أن المؤاخذة تكون في هذا بالكفارة وفي الأول بالمأثم، وفي اللغو لا يؤاخذ بهما، فلزم تسليم البيان لما جاء في كل ذلك، ثم جميع المؤاخذات في كسب القلب بالمأثم ولزوم التوبة؛ فكذا في هذا. وقد رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أمر اللعان، أنه قال: " إن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟ " ومعلوم كذب أحدهما ولزوم التوبة، مع ما في تركه الوعيد الشديد من الغضب أو اللعن. ولو كانت فيه كفارة لكان لا سبيل إلى العلم بها إلا بالبيان؛ فهي أحق أن يبين لو كانت واجبة، دل ما لم يبين أنها غير واجبة على أنها تجب للحنث، والحنث عقيب العقد يدفعه، وكان هاهنا ملاقيا له، فهو يمنعه على نحو جميع الحرمات التي تفسخ الأشياء، فهي عند الابتداء تمنع. وليس ذلك كالطلاق ونحوه؛ لما قد يكون بلا شرط، واليمين لا يصح إلا به ولم يكن فأنفذ. وقوله: (وَاللَّهُ). وقد يخرج مخرج الاستخفاف الحلف باللَّه كاذبًا والجرأة على اللَّه، فيجيء أن يكون كفرًا، لولا أن المؤمن يخطر بباله ما يحمله على ذلك دون قصد

الاستخفاف به. وعلى ذلك أمر اللعان، أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يقل: أحدكما كافر، فهل منكما من مؤمن؟ لأنهما لم يقصدا ذلك القصد. فكذا " كل حالف على تعمد الكذب. واللَّه الموفق. وقوله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ)، قال سعيد بن جبير: هذا محمول على قوله: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)، أي: لا يؤاخذكم اللَّه بنقض أيمانكم التي حلفتم بها؛ لأنها معصية لله، ولكن يؤاخذكم بحفظها والمضي عليها. ثم اختلفوا في اللغو ما هو؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الإثم. وقيل: هو الغلط. ْثم اللغو المذكور الذي أخبر أن لا مؤاخذة على صاحبه يحتمل ألا يؤاخذه بالإثم، ويحتمل ألا يؤاخذه بالكفارة، بل إنما يؤاخذ بالكفارة بما يعقد. ثم ذكر في الآية الثانية: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ)، ولو حمل على أنه لا يؤاخذ في هذا أيضًا بالإثم وقع الكلام -بحيث لا يفيد- في حد التكرار. والأصل عندهم: بأن حمله على ما يفيد أحق من حمله على ما لا يفيد؛ فثبت أن الأول في نفي الإثم، والثاني في نفي الكفارة. وعلى هذا القول في الغموس: إنه لعظم الوزر والإثم لم يلزم أن يكفر، فليس فيه الكفارة.

وله وجه آخر: وهو أن سبب الحنث في اللغو والغموس تلاقى العقد، فلم يصح به اليمين؛ لأن الحنث نفسه يسقط اليمين، فإذا لاقى الحنث اليمين منع صحتها ووجوبها. فإذا كانت هذه اليمين غير صحيحة في العقد، لم يلزم الكفارة؛ لخروجها عن الشرط. ثم لم يزل عنه -في الغموس- الإثم؛ لتعمده الكذب. وقال الفقيه أبو منصور - رحمه اللَّه تعالى -: والقياس عندي في التعمد بالحلف على الكذب أن يكفر؛ ولهذا ما لحقه الوزر لما أن الأيمان - جُعلت للتعظيم لله - تعالى - بالحلف فيها، والحالف بالغموس مجترئ على اللَّه - تعالى - مستخف به؛ ولهذا نهى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الحلف بالآباء والطواغيت؛ لأن في ذلك تعظيمًا لهم وتبجيلاً. فالحالف بالغموس كالذي هو مجترئ ومستخف، فالوزر له بالجرأة لازم، ثم المتعمد مجترئ مستخف باللَّه - تعالى - على المعرفة؛ لأنه لا يسع، فسبيله سبيل أهل النفاق - إظهارهم الإيمان بما فيه استخفاف، وإن كان سببها للتعظيم، للاستخفاف لزمهم العقوبة بذلك، كذا الأول، ولكنه بالحلف خرج فعله على الجرأة للوصول إلى مناه وشهوته، لا للقصد إليه. وعلى ذلك يخرج قول أبي حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه - في سؤال السائل: إن العاصي مطيع للشيطان، ومن أطاع الشيطان كفر، كيف لا كفَّر العاصي؟ فقال: لأنه خرج فعله في الظاهر مخرج الطاعة له، لا أن القصد يكون طاعته، وإنَّمَا يكفر بالقصد لا بما يخرج فعله فعل معصية؛ فكذا الأول. واللَّه أعلم. وعلى ذلك جاء في أمر اللعان من القول بأن " أحدكما كاذب فهل منكما من تائب "، ففيه وجهان:

أحدهما: أنه لم يأمر بالإيمان، ولا قال: أحدكما كافر؛ فثبت أنه لا يكفر به. والثاني: أنه أمر بالتوبة، وقد يعلم من كذب أن عليه ذلك مع ما في القرآن من اللعن والغضب، ولم يأمر بالكفارة -وهي لا تعلم إلا بالبيان- فهي أحق أن تبين لو كانت واجبة. واللَّه أعلم. والأصل عندنا في اليمين الغموس: أنه آثم، وعليه التوبة، والتوبة كفارة. وهكذا في كل يمين في عقدها معصية أن تلزمه الكفارة وهي التوبة. وأما الكفارة التي تلزم في المال، فهى لا تلزم بالحنث؛ لأنه بالحنث يأثم، والحنث نفسه إثم؛ لذلك لم يجز إلا بالحنث. وما رويت من الأخبار - من قوله - عليه الصلوات والسلام -: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه، ثم ليأت الذي هو خير ": أنه إذا كان يمينه بمعصية يصير باليمين آثمًا، فيكلف بالتوبة.

(226)

فَإِنْ قِيلَ: الحلف بالطلاق، والعتاق، والحج بالماضي يلزم، كيف لا لزمته الكفارة؟ قيل: لأن الطلاق، والعتاق، والحج يلزم دون ذكر ما ذكر، إذا قال: (عليَّ حجة)، أو (أنت طالق)، أو (هو حر). ولو قال: (والله) ألف مرة، دون ذكر ذلك الفعل لا يكون يمينًا، ولا يلزمه شيء؛ لذلك افترقا. واللَّه أعلم. وقوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وقوله: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وقوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: الإيلاء معلوم في اللغة أنه اليمين. وكذلك كان

ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقرأ: (للذين يُقْسِمُون من نسائهم).

وما هو لليمين من الحكم، لا يجب لغيرها نحو الكفارة التي تجب للحنث فيها، ثم يجب له على كل حال، على أي وصف كانت اليمين. فكذلك حكم الإيلاء. وهو قول عبد اللَّه بن مسعود وعبد اللَّه بن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما. ورُويَ عن عليٍّ - رضي اللَّه تعالى عنه - التفريق بين الغضب والرضا. ثم أوجب التربص للمُولِي. فمن كانت يمينه بدون أربعة أشهر فهو بعد المدة ليس بِمُولٍ، فلم يلزمه الحكم الذي جعل اللَّه للإيلاء؛ ألا ترى أنه في المدة ذكر (الفيء)، وهو لو وجد منه لم يجب عليه ما في الفيء من

الكفارة؟! فكذا بمضي المدة لا يلزمه الطلاق. وبه يقول علي وابن عَبَّاسٍ وابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهم - فيقول ابن مسعود: يلزمه حكم يمين يوم، وابن عَبَّاسٍ يقول: الإيلاء يمين الأبد. وذلك عندنا على إرادة الإتمام، ولو جعله شرطًا لكان الحكم يلزمه بمضي الأربعة الأشهر؛ فلا وجه للزيادة عليه، وهو قول عبد اللَّه بن مسعود: يلزمه بدونه. ثم اختلف الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم - في الوقف بعد الأربعة الأشهر، على اتفاقهم على حق لزوم الطلاق أو حقه بمضي المدة، ثم لا يجوز أن يحلف بحق الطلاق فيلزم، ويجوز أن يحلف بالطلاق فيلزم؛ لذلك كان الطلاق أحق مع ما ذلك زيادة في المدة للتربص. وجميع المدد التي جعلت بين الزوجين لم تحتمل الزيادة عليها لما جعلت له المدة، فمثله مدة الطلاق. وهذا على أن اللَّه - تعالى - حذر نقض اليمين بقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا)، وأطلق في هذا أربعة أشهر، بما روي في قراءة أُبي بن كعب، أنه

(227)

قرأ: " فإن فاءوا فيهن "، يعني في الأربعة الأشهر، ففي غير ذلك حكم النهي له آخذ. والله أعلم. وقوله: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ (227) كقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا). وليس ذلك على إحداثه بعد مضي المدة، كذلك الأول. واللَّه أعلم. ثم اختلف فيه على وجوه: قال ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -: الإيلاء على يوم فقط، وأما التربص بأربعة أشهر؛ لأنه لم يذكر في الكتاب للإيلاء مدة، وإنما ذكر المدة للتربص. وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: الإيلاء على الأبد، ذهب في ذلك إلى أن الإيلاء كان طلاق القوم، والطلاق يقع إلى الأبد. وقال آخرون: من ترك القربان في حال الغضب مُولٍ، وإن لم يحلف. لكن هذا ليس بشيء؛ لأن اللَّه تعالى ذكر الإيلاء، والإيلاء هي اليمين. دليله ما ذكرنا من حرف ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ: (للذين يقسمون)؛ فدل هذا أن حكم الإيلاء لا يلزم إلا باليمين على ترك القربان. ورُويَ عن عليٍّ بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن رجلا سأله - أنه حلف ألا يقرب امرأته سنتين. فقال: هو إيلاء، وأنها تبين إذا مضت أربعة أشهر. فقال: إنما حلفت ذلك لمكان ولدي. فقال: لا يكون إيلاء. فرأى في ذلك إيلاء إذا كان عاصيًا وإذا كان إيلاؤه هو ترك قربانه إياها بمكان الولد لم ير ذلك إيلاء. ثم لا يجوز أن يحمل ما حمل هَؤُلَاءِ. أما ما حمل علي بن أبي طالب، رضي اللَّه تعالى عنه، واعتباره بالعصيان وغير العصيان، فالإيلاء هو اليمين، والأيمان لا يختلف وجوبها ووجوب أحكامهما في حال العصيان وفي حال الطاعة. فعلى ذلك حكم الإيلاء. ولو حمل على ما حمل ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، لكان لا يبقى الإيلاء بعد مضي اليوم، فإذا لم يكن يمين بعد اليوم لم يبق حكمها.

ولو حمل على ما قال ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، لكان لا فائدة لذكر التربص. فإذا بطل ما ذكرنا ثبت قولنا: إن مدة الإيلاء إذا قصرت عن أربعة أشهر لم يلزمه حكم الإيلاء. ولو كان على الأبد لكان لا فائدة في ذكر المدة، وألا يعتبر العصيان ولا الطاعة ولا الغضب ولا الرضاء على ما ذكرنا. وروي في بعض الأخبار، أنه قال: الإيلاء ليس بشيء. معناه ما قيل: إن الإيلاء كان طلاق القوم، فقوله: " ليس بشيء " يقع للحال دون مضي المدة ثم اختلفوا أيضًا بعد مضي المدة، قيل أن يفيء إليها في المدة. قال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: إذا مضت أربعة أشهر وقع الطلاق. وقال قوم: إنه يوقف بعد مضي المدة، فإما أن يفيء إليها، وإما أن يطلقها. واحتجوا في ذلك إلى أن اللَّه تعالى ذكر الفيء بعد تربص أربعة أشهر بقوله: (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا)؛ لذلك كان له الفيء بعد مضي الأربعة الأشهر، وروى في بعض الأخبار الوقف فيه، ورُويَ عن عمر وعلي وعثمان وعائشة وابن عمر - رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم - في الْمُولي: إذا مضت أربعة أشهر فإما أن يفيء وإما أن يطلق. إلى هذا يذهبون. لكن هذا يحتمل أن يكون من الراوي دون أن يكون ما قالت الصحابة. وأما عندنا: إن قولهم: ذكر الفيء بعد تربص أربعة أشهر، فذلك لا يوجب الفيء بعد مضيها؛ ألا ترى إلى قوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، ليس أنه يمسكها بعد مضي الأجل، ولكن معناه: إذا قرب انقضاء أجلهن فأمسكوهن. فعلى ذلك جعل لهم الفيء، إذا قرب انقضاء أربعة أشهر. وأما ما روي من (الوقف)، فليس فيه الوفف بعد مضي أربعة أشهر، يحتمل الوقف في الأربعة الأشهر.

وأما عندنا: فإنها تَبِينُ إذا مضت أربعة أشهر؛ لما روي عن سبعة من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو ثمانية، أنهم قالوا: إذا مضت أربعة أشهر بانت منه، من نحو: عمر وعلي وابن مسعود وعثمان وابن عَبَّاسٍ وجابر وزيد بن ثابت، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، فاتبعناهم. ثم اختلف في الطلاق إذا وقع: قال قوم: هو رجعي. وهو قول أهل المدينة. فهو على قولهم؛ تعنُّت؛ لأن الزوج يقدم إلى الحاكم، فيطلق عليه الحاكم، ثم كان له حق المراجعة، فيكلف الحاكم العنت. وأما عندنا: فهو بائن. وعلى ذلك جاءت الأخبار، رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: إذا مضت أربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة. وعن ابن مسعود - رضيَ اللَّهُ تعالى عنه - مثله. ورُويَ عن أُبي بن كعب - رضي اللَّه تعالى عنه - في قوله: " فإن فاءوا " أي فيهن يعني في الأربعة الأشهر، (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فثبت أنه جعل الرحمة والمغفرة فيها. والثاني: قوله: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)، ولو لم يجعل له القربان والنقض في المدة لكان لا سبيل له إلى نقضها بعد مضي المدة؛ إذ هي تتأكد؛ فثبت أنه لا بما اعتبروا يلزم. ثم قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يحتمل وجهين: يحتمل: بما جعل له الخروج مما ضيق على نفسه؛ لأنه لا تطول عليه المدة. ويحتمل: أن المغفرة كانت بما ارتكب ما إذا مضى عليه وجد ذاته مستحقًا للعقوبة، فغفر له صنيعه، ورحمه بأن يجاوز عنه ما فعل. وقوله: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ): رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: عزيمة الطلاق مضيُّ أربعة

(228)

أشهر. وقد ذكرنا قول الصحابة - رضي اللَّه تعالى عنهم -: إن عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر. وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). سميع: بإيلائهم، عليم: بترك الفيء وتحقيق حكمه، أو عليم بما أراد بالإيلاء، كأنه قال: إنه عن علم بما يكون من خلقه وبما به صلاحهم وما إليه مرجعهم، وهو السميع بجميع ما به تناجوا وأسروا وجهروا. واللَّه الموفق. والفيء: الجماع، وهو الرجوع في الحاصل؛ لأنه حلف ألا يقربها، فإذا قربها رجع عن ذلك. وهكذا رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ وابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنهما قالا: الفيء: الجماع. * * * (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) ثم اختلف الناس في الأقراء في قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: الأقراء: هي الأطهار.

وقال آخرون: هي الحيض. وهو قولنا. وعلى ذلك اختلف الصحابة: قال عمر وعلي وعبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنهم أجمعين -: هي الحيض. وقالت عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهم -: هي الأطهار. وبه أخذ أهل المدينة، وقالوا: قلنا ذلك بالسنة والأخبار عن الصحابة - رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين - واللسان، والمناقصة: أما السنة: فقوله لعمر: " مر ابنك فليراجعها، ثم ليطلقها وهي طاهر أو حامل من غير جماع؛ فتلك العدة التي أمر اللَّه تعالى أن تطلق لها النساء "؛ فدل أن العدة التي تطلق

لها النساء هي الأطهار. لكن الجواب لهذا من وجهين: أحدهما: أنه جعل ذلك عدة للطلاق، لا عدة عن الطلاق. والعدة للطلاق غير العدة عن الطلاق؛ وكذا نقول في الطهر الذي تطلق فيه النساء: إنها عدة للطلاق، لا عنها. والثاني: أن من قول الرجل أن له الإيقاع في آخر أجزاء الطهر، وقد ذكر في الخبر: " الطلاق لقُبُلِ عدتهن "، ولو كان المعنيُّ به: الطهر، لكان الطلاق في آخر أجزاء الطهر قبل الحيض - في آخر أجزاء الطهر، لا في القُبُل. فثبت أن القول بجعل الطهر عدة عن

الطلاق بعيد. وأما اللسان فهو قول الناس: قرأ الماء في حوضه، وقرأ الطعام في شدقه، أي: حبس، والطهر بسبب حبس الدم. لكن عندنا: الطهر جبلة وأصل، وعليها خلقت وأنشئت، والحيض عارض، فإذا كان في الرحم دم خرج، وإلا كانت على أصل خلقتها طاهرًا؛ لأن الطهر يحبس الدم، فإذا كان هذا ما ذكرنا بطل احتجاجه باللغة واللسان. وأما المناقصة فهي أن يقول: جعلتم هي معتدة مع زوال الأذى عنها ما لم تغتسل في إبقاء حق الرجعة. فأما دعوى المناقصة فهي بعيدة؛ لأن الكتاب جعلها باقية ما لم تغتسل على حكم الأذى؛ فإن كان فيه طعن فعلى الكتاب. وقال: ذكر اللَّه تعالى: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) باسم التذكير، لا باسم التأنيث؛ فدل أنه أراد الأطهار، يقال: ثلاثة رجال، وثلاث نسوة، فإذا أدخل فيه (الهاء) عقل أنه أراد الطهر. قيل: إن اللغة لا تمنع عن تسمية شيء واحد باسم التذكير والتأنيث كالبر والحنطة ونحو ذلك إذا لم يكن من ذي روح، فإذا كان كذلك فلا دلالة فيه على جعل ذلك طهرًا. وقال: القرء: هو الانتقال من حال إلى حال؛ يقال: أقرأ النجم: إذا غاب، وأقرأ: إذا طلع، ونحوه. لكن هذا ليس بشيء؛ لأنه لو كان القرء هو الانتقال من حال إلى حال لكان يقال للنجم إذا طلع: أقرأ؛ فيكون الاسم للظهور، لا للغيبوبة، أو لهما جميعًا؛ فلا دلالة في ذلك. وأما الأصل عندنا: فقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، فأمر بالإمساك عند بلوغ أجلهن. والبلوغ: اسم للتمام. ثم لا يخلو بلوغ الأجل من أن يكون بالإشراف على أول أجزاء الطهر أو عند انتهائه. فإن كان على انتهاء الطهر فلا غاية له ينتهى إليه ليقطع عليه الحكم، وإن كان على الإشراف عليه أيضًا كذلك، ثم لو حمل على الانتهاء أيضًا يبعد بما يعرف ذلك بالحيض الذي يقطع جهة الإمساك؛ فحمل على ما يعرف، لا على ما لا يعرف - واللَّه أعلم فثبت أنه الحيض؛ لأن لها الغاية. والثاني: قوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ)، كذا اتفقوا فيه أنه مذكور على البدل، ولم يعرف ذكر الأبدال في

الأشياء إلا على أثر الأصول حيثما ذكر -ذكر الحيض عند ذكر البدل- فبان أن المبدل من ذلك إنما هي الحيض، المجعولة أصولًا في تقضي العدة: هو الحيض. واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عدة الأمة حيضتان "؛ ثبت أن أصل ما به تنقضي العدة هو الحيض. ثم الدليل على أن المراد من قوله: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، وإن احتمل الطهر، يرجع إلى الحيض وجوه: أحدها:، أن (ثلاثة) اسم لتمام العدد، فيصير كأنه قال: ثلاثة أطهار، لو أراد به الطهر، أو ثلاثة حيض، لو أراد به الحيض. ثم هم على اختلافهم اتفقوا على أنه بالحيض ثلاثة، وبالطهر طهران وبعض الأول. ثبت أن الحيض أولى مع ما كان فيه الاحتياط إذ احتمل الوجهين أن يدخلا جميعًا في الحق لا يزال بعد أن ثبت إلا بالبيان، ويبين ذا أن في الخبر تلك العدة التي أمر اللَّه أن تطلق لقبلها النساء، أنه الحيض حتى يكون قبله الطهر مع ما يحتمل عدة فعل الطلاق في الانقضاء يبين ذلك ما رُويَ عن

رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " إن عدة الأمة حيضتان ". وهي بعض عدة الحرة، ووقت طلاقها وقت طلاق الحرة. فبان أن العدة اثنتان والثاني: ذكر الحيض عند ذكر البدل وذلك حكم الأبدال أن يذكر أصولها عند ذكرها. والثالث: قوله (فإذا بلغن أجلهن) والبلوغ اسم للتمام ووفاء بعد المراجعة من بعد الإشراف عليه، وهو بالطهر لا يعلم حتى يرى الدم؛ لأن الطهر لا غاية له، وذلك يمنع على قولهم الرجعة؛ فثبت أنه الحيض؛ لأن له الغاية، وإن لم ينقطع الدم وقت ولما كان الطلاق وقت ابتداء الحرمة، وذلك طهر، ووقت تقضي العدة وقت تمام ذلك، فهو التطهر، مع ما ينقضي سبب الملك بالطلاق، ووقته الطهر، وبقية الملك بتقضي العدة، فيجب أن يكون وقته الطهر على إلحاق جميع الفروع مع الأصول، وإلحاق التوابع بالمتبوعين، ولا قوة إلا باللَّه. ثبت أن أصل ما به تنقضي العدة هو الحيض. وقال الشافعي: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عدة الأمة حيضتان " أي: قرءان والقرءان هما الطهران. فيقال له: أبلغت في المقلة، وأفرطت في الحجاج، حيث فهمت من الحيض القرء، وهو أوضح عند أهل اللسان بالسماع من المفهوم له به مع ما في ذلك تجهيل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - باللسان، وهو أفصح العرب وأعلم البشر، حيث عبر عن الطهر بالحيض. ووجه آخر: أنهم اتفقوا على أنه لو طلق في بعض الطهر فالبقية منه عدة، ومثله من الاعتداد قرءان ونصف، والكتاب أوجب الاعتداد بالثلاث؛ فثبت أن الأمر بالاعتداد أمر بالحيض، لا بالإطهار للمعنى الذي وصفنا، وإن كان القرء اسمًا للطهر والحيض في اللغة. ثم الأصل في المسألة: أن أول ابتداء الحل لزوجها ولغيره بالطهر، وكذلك نهاية الحل إنما جعلت بالأطهار. ثم الأصل: أن ابتداء حرمتها على الزوج الأول بالطهر، فيجعل أنتهاء الحرمة في مثله بالطهر. وحاصل هذا أنه جعل نهاية الحل فيه وفي غيره بما به ابتداء الحل، فكذا يجعل نهاية الحرمة فيه وفي غيره بما به ابتداؤه. وإذا ثبت أن المنظور في الحل والحرمة في الابتداء بالابتداء، وجب أن يكون المنظور في الحل والحرمة بالانتهاء.

ثم في قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، وفي قوله: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ)، وفي قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ)، وفي نحو هذه الآيات دلالة تأخر البيان، حيث لم يبين ما الأقراء؟، ولم يبين الاعتزال من أي موضع، ومن أي مكان؟، ولم يبين المخالطة في ماذا؟ وفي أي شيء؟ فالاختلاف فيه باقٍ إلى يوم التناد؛ قبطل قول من ينكر تأخر البيان، وثبت قول من أقر به. وباللَّه التوفيق. وقوله: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). ففى الآية دلائل: أحدها: أن ذكر حرمة الكتمان فيمن آمن ليس بشرط فيه دون غيره؛ إذ قد يلزم ذلك من هو غير مؤمن، إذ هو غير مستحسن في العقل. ففيه الدليل على أن الحكم الموجب لعلة يجوز لزومه فيما ارتفعت عنه تلك العلة وعدمت وهو كقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وقد يلزم إصلاح ذات البين في غير الإيمان، وكذا قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وقد يلزم ترك الربا للمعاهد، وقد يجوز ذلك للمسلم في غير داره؛ فدل أن الحكم إذا ذكر لعلة في أحد لا يمنع لزوم ذلك في غير المذكور. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: فيه دليل على أن إضافة الحكم إلى سبب لا يمنع حقه ارتفاعه. وفيه دليل ألا يحل ذلك لمن قد آمن في الخلق؛ لأن حقه التصديق وإظهار الحق، وفي الكتمان والتكذيب ترك ما فيه من الشرط. واللَّه أعلم. ثم اختلف في قوله: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الحبل والحيض. وكذلك رُويَ عن عليٍّ وعبد اللَّه بن مسعود وعبد الله ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، أنهم قالوا: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ): الحبل والحيض؛ فثبت أن موضع الحيض الرحم. ثم الرحم يشغله الحبل عن خروج الدم؛ فبان أن الحامل لا تحيض. وعلى ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنما ذلك دم عرق انقطع ". وهو الأمر الظاهر المتعارف في النساء أن الحبل يحبس الدم. وقال بعض أهل التأويل: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ): الحبل خاصة دون الحيض؛ لوجهين:

أحدهما: أنهن في الجاهلية كن يكتمن ذلك فيلحقن بغير الآباء، فأوعدن على ذلك بعد الإسلام؛ فثبت أن الحيض لا يحتمل. والثاني: أن الحيض لا ينسب بكونه في الرحم، فإذا كان غير منسوب إليه لم يحتمل كونه فيه. واللَّه أعلم. لكن الوجه فيه ما ذكرنا من قول الصحابة، وما فيه من الدلالة أنهن مؤتمنات فيما يخبرن؛ لوجهين: أحدهما: ما جاء في الخبر من أن الأمانة أن تؤتمن المرأة على فرجها. والثاني: لولا أنها ممن يقبل خبرها فيه لما أوعدن على الكتمان. ثم يحتمل الكتمان من وجهين: أحدهما: أن يكتمن ذلك يستوجبن به الإنفاق من عند أزواجهن بقولهن: العدة باقية، وذلك يحتمل الحيض والحبل جميعًا. ويحتمل: ما قاله بعض أهل التأويل من إبقاء حق الرجعة. ويحتمل قول أبي حنيفة، رحمه اللَّه تعالى، في كتمانها، إذ قال في المرأة إذا جاءت بولد في العدة، فشهدت امرأة على الولادة والحبل: لم يكن ظاهرًا أن يقبل قولها؛ إذ هي أمرت بالإظهار، والكتمان أورث تهمة في القبول. ويحتمل: ألا يحل لهن أن يكتمن الحبل فيلحقن بغيرهم من الأزواج. واللَّه أعلم. وقوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا). يحتمل وجهين: يحتمل: أنهن لا يملكن الرجعة، ولا منع أزواجهن عن المراجعة، بل ذلك إلى بعولتهن. ويحتمل: (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) في نكاح في العدة، لا في حق الرجعة؛ إذ الزوج يملك نكاحها في العدة، وغيره من الناس لا يملك، كقوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ). وقوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ)، فيه دليل أن قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ)، إنما عنى به المطلق طلاقا لم يقطع على نفسه جهة العود. وقوله في ذلك: (إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا)، يحتمل وجوهًا:

يحتمل: إصلاح ما بينهن. ويحتمل: إن أرادوا إمساكهن بالمعروف، كقوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا)، فهو ممسك لها وإن كان مضرًّا. ثم الأصل في هذا: أنه وإن قال: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، ليس على ألا يصير ممسكًا لها بغير المعروف. وأصل هذا: أن ليس في القول بأن (لَمْ تَفْعَلُوا)، دليل الجواز، والفساد إذا فعل ذلك. ثم اختلف في قوله: (فِي ذَلِكَ)، أي: في الوقت الذي يعيد به، أو (فِي ذَلِكَ) القروء. واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: إِنِّي أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي؛ لأن اللَّه تعالى يقول: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). وقال آخرون: لهن من الكفاف ما عليهن من الخدمة. وقال غيرهم: لهن من الحق في المهور بتسليم الأزواج إليهن ما عليهن من تسليم الأبضاع إلى الأزواج؛ فيدل هذا على أن الخلوة، والتسليم منها، يحل محل قبض الحق منها لزوجها. وقيل: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ)، الحقوق ما تلزمهن من حقوق الأزواج، يلزم مثلها على الأزواج لهن، وإن كانت مختلفة. وقوله: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). قيل: هو الطلاق بيد الرجل وليس بيدها. وقيل: هي الإمارة والطاعة والأمر. وقيل: هي ما فضل اللَّه به عليها من الجهاد والميراث وغيره.

(229)

وقيل: لهم من الفضيلة من الولايات والشهادات والعقل، وذلك ليس لهن. وقيل: هي فضيلة في الحق وبما ساق إليها من المهر. وقال الشيخ أبو منصور، رحمه اللَّه تعالى، في قوله: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). أي من الحقوق على الأزواج. ثم يحتمل حقوقهن المهر والنفقة، ويحتمل ما أتبع من قوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، ويحتمل قضاء ما لها من الحوائج خارج البيت مما به قوام دينها ووقايتها عن النار. وعليها من الحقوق: مقابل الأول: البذل له وألا يوطئن فرشهن أحدًا. ومقابل الثاني: أن يحسن إليهن في البر باللسان والقول المعروف الذي فيه تطيب نفسه به، كما وصف الحميدة منهن. " من إذا نظرت إليها سرتك، وإذا دعوتها أجابتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ". ومقابل الثالث: ألا تتلقاه بمكروه، ولا تقابله بما يضجره ويغضبه مع الخدمة وكفاية الداخل مما به قوام دينه. واللَّه أعلم. و" الدرجة ": التي ما له من الملك فيها، والفضل في الحقوق عليها، وما جعل " قوامًا عليها "، وغير ذلك. واللَّه أعلم. ويحتمل: ما لهن من قوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، وعليهن بذل حقهم المعروف، والإحسان إليهم فيما يبغون من الخدمة والقيام بكفاية داخل البيت، مع حفظ ماله عندها. واللَّه أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ (229) فيه دلالة أنه يطلق بنيتين بمرتين. وقوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). أن له الرجعة بعد طلاقين، بذكره مرتين. وفيه أن المطلق في الطهر الثالث من غير رجعة مطلق للسنة؛ لما خير بين الإمساك أو التسريح من غير مراجعة، وهو على مالك؛ لأنه يقول: ليس له أن يزيد على تطليقة واحدة إلا أن يراجع. والتسريح بإحسان: هو التطليقة الثالثة، كذلك رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه سئل عن " التسريح بإحسان "، فقال: " هو التطليقة الثالثة ".

فَإِنْ قِيلَ: أيش الحكمة في ذكر (المعروف) في الإمساك.، و (الإحسان) في الثسريح. قيل: وذلك أن في (التسريح) قطع الحقوق التي أوجبها النكاح، فأمر عند قطعها عنها بالإحسان إليها مبتدئا، والإحسان أبدًا إنما يكون عند ابتداء الفعل، لا عند المكافأة. وأما (المعروف) في الإمساك فالنكاح أوجب ذلك؛ كقوله: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا). قيل: " الميثاق الغليظ ": الحقوق التي أوجب النكاح. وهذا - واللَّه أعلم - وجه الحكمة، و (المعروف) ما عرفا في النكاح، و (الإحسان) هو ما يبتدئ مما لم يعرفا. وقوله: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ). فظاهر هذه الآية الكريمة يوجب ابتداء الخطاب للأزواج، ثم آخرها يوجب الخطاب لهما جميعًا، ثم آخرها يوجب الخطاب لغير الأزواج يحفظ. عليهما حدود الصحبة، فيشبه أن يكون في الآية الإضمار (فهما الحكمين)، فيكون كقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)، فيكونان هما اللذان يحفظان عليها الحد والمحدود. ويحتمل: أن يكون الخطاب في قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) للحكام؛ لأنهم هم الذين يتولون النظر في أمور الناس ليقوموهم على حفظ حدود اللَّه. ثم القول عندنا في قوله: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)، إذا.كان النشوز واقعًا من قبل الزوج فإنه لا يحل له أخذ شيء على الخلع استدلَالًا بقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا). وأما إذا كان النشوز من قبلها فإنه لا بأس أن يأخذ قدر المهر، ويكره الزيادة وتجوز. أما قدر المهر فإنه لا بأس إذا كان من قبلها استدلَالًا بقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)، ذكر رفع الحرج عن الذي فدى فيما عنه نهي في غير هذا وهو المؤتمن؛ لذلك قلنا: إنه يجوز إذا كان النشوز من قبلها قدر المهر. وأما الزيادة فإنها تكره استدلَالًا بما روي في الخبر: أن امرأة أتت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فذكرت بغض زوجها، فقال: " أتردين عليه حديقته؟ " فقالت: نعم، وزيادة. فقال: " أما الزيادة

فلا ". ففيه الدلالة أن النشوز إذا كان من قبلها فإنه يجوز قدر المهر. وقال ابن داود: خالف الشافعي ظاهر الكتاب فيما جعل له أخذ ما فدى والزيادة، والكتاب رفع الحرج عن أخذ ما فدى، لم يجعل له غيره بقوله: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ). وقال ابن شريح: ما ذلك الأخذ في الطلاق، إنما ذلك في الطلاق كرها؛ لأنه ليس في الآية ذكر الطلاق. واستدل بقوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا)، فجعل له أكل ما أخذ بالوصف الذي ذكره، ثم كان له أخذ ما تبذل في غير الطلاق، فعلى ذلك في الطلاق وفي الطلاق، أحق. واللَّه أعلم. والأصل عندنا: جواز ما بذلت أخذه مما احتيج به الرجل إن كان له ذلك في غير الطلاق، وهو في الطلاق أجوزه؛ لأنها تنتفع، غير أنه يكره له الفضل لما ذكرنا من الآية والخبر. ثم يجوز هو لأنه تبادل، فكان كالعقود التي تكره لربح ما لم يضمن على الجواز

فكذا هذا. والأصل: بأن الطلاق بالبذل بينها، وهو لو لم يملك البينونة مطلقًا لم يملكه بما شرط؛ فثبت أنه يملك. وأصله: أنه بالطلاق، ويصرف إليها ما ملك عليها بالعقد فانتفعت بإزاء ما بذلت؛ لذلك سلم للزوج ما أخذ. واللَّه أعلم. قال: ويكره أخذ الزيادة بما فيه رفع النكاح، فيصير أخذ ما يأخذ بالذي أعطى، فما يفضل عليه ليس بإزائه بدل، وذلك وصف الربا. واللَّه أعلم. ثم اختلف في قوله: (إِلا أَن يَخَافَا): قيل: (يَخَافَا) علما، يعني الرجل والمرأة. وقيل: علم الحكمان ألا يقيما حدود اللَّه. وعلى ذلك قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)، (خِفْتُمْ) ويعني علمتم. وقيل: الخوف هو الخوف، فكأنه أقرب؛ لأن العلم يكون فيما مضى من الحال أنهما أقاما حدودًا أو لم يقيما. وأما الخوف في حادث الوقت أمكن؛ لأنه لا يعلم باليقين؛ لذلك كان ما ذكرنا، وهو كقوله: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). ثم اختلف في قوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بقوله: (عليهما)، (عليه) خاصة. وهذا جائز في اللغة إضافة الشيء إلى الاثنين، والمراد واحد منهما، كقوله: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) وإنَّمَا يخرج من أحدهما، ومثله كثير. وقال آخرون: أريدا جميعًا: المرأة بالفداء، والزوج بالأخذ؛ لأن الزوج نهي عن أخذ شيء مما آتاها بقوله: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)، ثم أباح ورفع الحرج منه بالأخذ على الشرط. وقيل: أراد بذلك الزوج خاصة. وهو ما ذكرنا. واللَّه أعلم. وقوله: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا). قيل: إذا لم يفهم بحد من حدود اللَّه تعالى ما يفهم من حد الخلق، كيف فهم من استواء الرب ومجيئه من قوله: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، و (وَجَاء رَبُّكَ) ما فهم من استواء

(230)

الخلق ومجيئهم؟ والاستواء والمجيء إلى احتمال معان أن ينفي عنه التشبيه أكثر من احتمال الحدود التي في الشاهد. فإذا لم يفهم من هذا ذلك لم يجز أن يفهم من الأول ما فهموا، وقد قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وقوله: (حُدُودُ اللَّهِ). قيل: أحكام اللَّه وسننه. وقيل: أوامره ونواهيه. وقيل: آدابه وهو واحد. وقوله: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). يحتمل وجهين: يحتمل: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ) مستحل بها، فيكفر بتعديه ذلك، فهو ظالم - ظلم كفر. ويحتمل. (وَمَنْ يَتَعَدَّ) تجاوز أمر اللَّه وما نهاه عنه غير مستحل لها، فهو ظالم نفسه، غير كافر. وقوله: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (230) هذه الآية رجعت إلى الأولى قوله: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ)، فإن طلقها بعد التطليقتين تطليقة أخرى (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)، وقوله: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، قيل: التطليقة الثالثة، وعلى ذلك جاء الخبر، وهو واحد عندنا، يدل عليه أيضًا قوله تعالى: (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ). ويحتمل: عقد النكاح خاصة، دون الجماع من الثاني؛ إذ ليس في الآية ذكر الدخول بها. وأما عندنا: فهو على الجماع في النكاح الثاني، يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: " لا، حتى تذوق من عسيلته ويذوق من عسيلتها "، فيكون النكاح مضمرًا، وهو أولى؛ لأن الآية في عقوبة الأول ولا يشتد عليه النكاح حتى يتصل به الوطء. وفيه دلالة على كراهية التطليقة الثالثة - إذ هي لا تحل له بعدها إلا بعد دخول زوج آخر بها، وذلك مما ينفر عنه الطبع ويكرهه.

وقوله: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). فيه دليل على أن في التراجع إيجاب عقد بهما جميعا؛ فدل على قطع رجعه الثاني المحل للزوج الأول، وذلك أن لا رجعة فيه لغيره. وقوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)، أضاف (الرد) إلى الأزواج؛ فدل أنهم ينفردون به دونهن. ثم ذكر الكتاب: (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)، جعل سبب الحل على الزوج الأول نكاح الثاني، لم يجز أن ينهى عنه، وقد جعل هو سبب رفع الحرمة؛ إذ مثل هذا -في أحكام اللَّه تعالى- لا يوجد ولا يستقيم وهو كالوضوء فيما جعل سببًا لإقامة الصلاة، ولم يجز أن يجعل سببًا لها ثم يكره الإقدام عليه وينهى عنه، وكالتحريم إذ جعل سببًا للدخول بها في الصلاة لم يجز النهي عنها، وبها قوامها. كذا هذا، لما جعل سببًا لرفع الحرمة به لا جائز أن ينهى عنه. ثم فيه دلالة جواز نكاح المحلل. فإن سئلنا عن قوله عليه الصلاة والسلام: " لعن الله المحلِّل والمحلَّل له ". قيل: لحوق اللعن لأجل النكاح على قصد الفراق والطلاق، ليس لأجل التحليل على الأول، ورفع الحرمة عنه، دليله قوله عليه الصلاة والسلام: " إن

(231)

اللَّه لا يحب كل ذواق مطلاق "؛ وذلك لقصده الفراق بالنكاح، إذ النكاح بني في الأصل على البقاء والدوام عليه، وفيه التعفف، وفي الطلاق زوال ما به يقصد؛ فلهذا لحقه ما لحقه من اللعن. ثم المحلَّل له لما طلب بنكاح الزوج الثاني ما ينفر عنه الطباع ويكرهه من عودها إليه بعد مضاجعة غيره إياها، واستمتاعه بها منع لهذا المعنى عن إيقاع الثالثة، لكن إذا تفكر حرمتها عليه إلا بنكاح آخر، انزجر عن ذلك. ثم العقد نفسه لا ينفر عنه الطباع ولا يكرهه؛ ثبت أن الدخول شرط فيه ليكون زجرًا ومنعًا عن ارتكابه. وقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)، يخرج على الترخيص؛ وذلك - واللَّه أعلم - أن الطلاق يحرمها عليه ويبينها منه كما تحرم عليه هي بأنواع الحرم يحرم فأخبر - عز وجل - وأباح له النكاح بعد وقوع الحرمة - أن هذه الحرمة ليست كغيرها من الحرم التي لا ترتفع أبدًا. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) وقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وقال عَزَّ وَجَلَّ: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)، ذكر في الآية الأولى (الإمساك)، والإمساك المعروف: هو إمساكها على ما كان من الملك. وذكر في الآية الأخيرة (الرد)، والرد لا يكون إلا بعد الخروج من الملك. هذا هو الظاهر في الآية. لكن بعض أهل العلم يقولون: إنه يمسكها على الملك الأول ويردها من الحرمة إلى الحل؛ لأن من مذهبهم: أن الطلاق يوجب الحرمة، ولا يخرجها من ملكه. وهذا جائز أن يحرم المرأة على زوجها وهى بعد في ملكه. فإذا كان كذلك فأمر بالإمساك على الملك الأول وبالرد من الحرمة إلى الحل. وهو قول أهل المدينة أي يردها من العدة إلى ما لا عدة، ويمسكها بلا عدة. وأما عندنا: فهو واحد بحدث الإمساك، دليله قوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا)، ولو لم يكن الإمساك سوى القصد إليه، لكان لم يكن بالقصد إليها مضرًّا. وهو فيما أمر بالإمساك بالمعروف فيه وجهان:

أحدهما: هو أن يمسكها على ما كان يمسكها من قبل من مراعاة الحقوق ومحافظة الحدود. ويحتمل ما قيل: ألا تطول عليها العدة، على ما ذكر في القصة من تطويل العدة عليها، وفيه نزلت الآية. وفيه دلالة أن الزوج يملك جعل الطلاق بائنًا بعدما وقع رجعيا؛ لأنه يصير بائنا بتركه المراجعة؛ فعلى ذلك يملك إلحاق الصفة من بعد وقوعه، فيصير بائنًا. واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). قال الشيخ - وحمه اللَّه تعالى -: الأصل عندنا في المناهي: أنها لا تدل على فساد الفعل ولا تستدل بالنهي على الفساد، كقوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)، على ذلك قوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا)، أنه يصير ممسكًا لها وإن كان فيه ضرارًا لها، وهكذا هذا في كل ما يشبه هذا من قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا)، أنه إذن بالفعل في حال فهو وإن أوجب نهيًا في الفعل، فذلك لا يدل على الفساد في حال أخرى. وقوله: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا). معناه - واللَّه أعلم - أي لا تعملوا بآيات اللَّه عمل من يخرج فعله بها مخرج فعل الهازئ؛ لأنه معقول أن أهل الإيمان والتوحيد لا يتخذون آيات اللَّه هزؤا، ولا يقصدون إلى ذلك. وقيل: إنهم في الجاهلية كانوا يلعبون بالطلاق والعتاق، ويمسكونهم بعد الطلاق والعتاق على ما كانوا يمسكون قبل الطلاق وقبل العتاق، فنهوا عن ذلك بعد الإسلام والتوحيد. ثم اختلف في (آيَاتِ اللَّهِ): قيل: حجج اللَّه. وقيل: أحكام اللَّه. وقيل: دين اللَّه. ويحتمل: (آيَاتِ اللَّهِ)، الآيات المعروفة. وقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). قوله: (نِعْمَتَ اللَّهِ)، يحتمل وجوهًا:

يحتمل: (نِعْمَتَ) هاهنا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو من أعظم النعم. ويحتمل: (نِعْمَتَ)، الإسلام وشرائعه. ويحتمل: (نِعْمَتَ)، هي التي أنعمها على خلقه جملة. النعمة على ثلاثة أوجه: النعمة بالإسلام، تقتضي منه المحافظة. والنعمة الخاصة، تقتضي الشكر. والنعم العامة جملة، تقتضي منه التوحيد. وقوله: (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ)، وهو القرآن. ففيه دلالة أن (الْكِتَاب)، هو منزل، ليس كما يقول القرامطة؛ لأنهم يقولون: بأن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألف القرآن، وإنما كان

يوحى إليه كما يتوهم الرجل شيئًا فيجعله كلامًا. وقوله: (وَالْحِكْمَةِ)، اختلف فيه: قيل: (وَالْحِكْمَةِ، الفقه. وقيل: (وَالْحِكْمَةِ)، الحلال والحرام. وقيل: (وَالْحِكْمَةِ)، المواعظ. وقيل: (وَالْحِكْمَةِ)، هي الإصابة: إصابة موضع كل شيء منه. وقيل: (الحكمة)، القرآن، وهو من الإحكام والإتقان، كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: " اذكروا ما أعطاكم من الفقه والإصابة والكتاب المحكم والمتقن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ". وقوله: (يَعِظُكُم به)، يعني بالقرآن.

(232)

وفي قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، تخويف وتحذير، ليعلموا أن كل شيء في علمه، وأنه لا يعزب عنه شيء في علمه. وباللَّه العصمة. وقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ (232) اختلف في تأويله: قال قائلون: فيه دليل فساد النكاح دون الأولياء، واحتجوا بأن قالوا: قال اللَّه تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ)، ولا ينهى عن القول من غير أن يعمل، إذ القول فيما لا يعمل غير ضار لعضلها به؛ فثبت أنه عامل، وأن له فيه حقًّا إلى أن نهوا، ثبت أن قوله: " لا تعضل "، منع؛ إذ لو لم يجعل منعًا لم يكن ضارًّا به. وقال آخرون: فيه دليل جواز نكاحهن دون الأولياء؛ لأنه تعالى قال: (أَنْ يَنْكِحْنَ)، واستدلوا: بأن النكاح على وجود العضل يجوز، ولو كان العضل سبب المنع في الجواز لم يحتمل جوازه إذا فات. وفيه أن العضل إذا لم يكن، جاز للنساء تولى النكاح. واحتجوا أيضًا بما أضاف النكاح إليهن بقوله: (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ)، وقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ)، وأضاف الإنكاح إلى الأولياء على إرادة إدخال الصغار، والثاني على وجوب الحق لهن عليهم، لا أن يجب لهم عليهن. ثم الأصل: بأن كل نكاح أريد بالذكر الصغار وأضيف الإنكاح إلى الأولياء؛ كقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، وقوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)، (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)، مع ما احتمل دخول البالغين في هذا، دليله قوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)، والفدية لا تصح من الصغار، وقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)، والصغار لا يخاطبن بإقامة حدود اللَّه، وقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وإن كان متأخرًا في الذكر. بهذا قيل إن وقوع الإنكاح بالإضافة في الصغار إلى الأولياء، وفي الكبار إليهن، ثم ذكر الكفاءة والمهر، وجرى إضافته إلى الأولياء، لذلك كان لهم التعرض في فسخه. ثم قوله: (إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)، رجع ذلك إلى المهر؛ لأن (التراضي) فعل

اثنين، والمهر يثعرف بهما؛ لأن القصة في امرأة بعينها وكانت ظهرت كفاءة زوجها لها، وقال في الكفاءة: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ)، ووجود الكفاءة إنما تكون من إحدى الجانبين، فذكر ذلك مضافًا إلى الأولياء، لم يجز دونهم. والأصل في مسألة النكاح: أن الحق في النكاح لها على الولي، لا للولي عليها، دليله: ما يزوج على الولي إذا عدم، ويجوز عليه إذا وجد، وزوج عليه إذا أبى، وهي لا تجبر بإرادة الولي إذا أبت؛ فبان أن الحق لها قبله، ومن ترك حق نفسه في عقد له قبل آخر لم يوجب ذلك فساده. واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ)، فيه دليل على أن النهي عن العضل إنما كان في الأزواج كانوا لهن، دليله قوله: (أَزْوَاجَهُنَّ)، ولا يسمى (الأزواج) إلا بعد النكاح، ويدل أيضًا قوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)، ذكر (الطلاق) فدل أنه كان في أزواج كان لهن. ويحتمل: أن يكون في الابتداء من غير أن كان ثم نكاح، وجائز تسمية الشيء باسم ما يئول الأمر إليه لقرب حالهن بهم. وأما أهل التفسير بأجمعهم قالوا: إن الآية نزلت في أخت معقل بن يسار المزني، أن زوجها قد طلقها وانقضت عدتها، ثم أراد الزوج أن يتزوجها ثانية وتهوى المرأة ذلك، فيقول الولي: لا أزوجها إياه؛ فنزل قوله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)، وهو يحتمل المعنى الذي ذكرنا. واللَّه أعلم. وقوله: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). قيل: (يُوعَظُ بِهِ)، أي ينهاكم به، كقوله: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا) أي: ينهاكم. وقيل: (يُوعَظُ بِهِ)، أي: يؤمر به. وقوله: (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ). قيل: إذا وضعن أنفسهن حيث هوين فذلك أزكى وأطهر لكم من العضل من ذلك؛ ولعل العضل يحملهن على الفساد والريبة. وقيل: المراجعة خير لكم من الفرقة، وأطهر لقلوبكم من الريبة. وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

(233)

أي: اللَّه يعلم من حب كل واحد منهما صاحبه، وأنتم لا تعلمون ذلك. ويحتمل: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) وفيما صلاحكم، (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ذلك. * * * قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وقوله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ)، هن المطلقات، يرضعن أولادهن، وهو كقوله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، ذكر هاهنا الأجر، وذكر هناك الرزق والكسوة، وهما واحد. وقال آخرون: لا، ولكن قوله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) هن المنكوحات، وقوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) هن المطلقات. دليل ذلك: ذكر الأجر في أحدهما، والرزق والكسوة في الأخرى، على أن المنكوحة إذا استؤجرت على رضاع ولدها منه لم يستوجب الأجر، ويستوجب قبل الزوج الرزق والكسوة؛ فدل هذا على أن ذكر الأجر في المطلقات، وذكر الرزق والكسوة في المنكوحات. فَإِنْ قِيلَ: ما فائدة ذكر الرزق والكسوة في المنكوحة في الرضاع، وقد يستوجب ذلك في غير الرضاع؟ قيل: فائدة ذكر الرزق والكسوة فيه - واللَّه أعلم - لأنها تحتاج إلى فضل طعام وفضل كسوة لمكان الرضاع؛ ألا ترى أن لها أن تفطر لذلك؟! فثبت أن لها فضل حاجة في حال الرضاع ما لا يقع لها تلك الحاجة في غير حال الرضاع؛ فخرج ذكر الرزق والكسوة فيه - واللَّه أعلم - ذكر تلك الزيادة والفضل، واللَّه أعلم. وفي القرآن دليل أن مؤنة الرضاع على الأب من أوجه: أحدها: قوله تعالى: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى).

والثاني: قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ). والثالث: قوله تعالى: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ). فثبت أنه حق على الوالد إلى أن ذكر فيه إيتاء الأجر. وفيه دلالة على أن شرط الطعام والكسوة للظئر يجوز بقوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ)، غير أن الكسوة لا تجوز إلا بإعلام الجنس، والطعام يجوز؛ لأن الظئرة تكسى كسوة الأهل وتطعم طعامهم. فلابد في الكسوة من إعلام جنسه، إذ لا يجوز أن تكون كسوة واحدة لها وللأهل، ويجوز في الطعام ذلك؛ لأن الكسوة ليست بذي غاية تعرف، فاحتيج إلى ذكر الجنس ليقع في حد قرب المعرفة والعلم، وأما الطعام فهو ذو غاية عند الناس غير متفاوت ولا متفاضل عندهم؛ لذلك جاز هذا، ولم يجز الآخر إلا أن يعلم الجنس، فإذا علم الجنس فحينئذ يصير عندهم كالطعام. واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - فدل على جوازه قوله تعالى: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)، أي - واللَّه أعلم - مثل ما على المولود له، ويكون ذلك بعد موته؛ لذلك يجوز شرط الكسوة والطعام في الرضاع. وقوله: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)، ليس فيه جعل الحولين شرطا في الرضاع لوجوه: أحدها: قوله: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)، فلو لم يحتمل الزيادة والنقصان لم يكن لقوله: (لِمَن أَرَادَ) معنى. والثاني: الإرادة والقدرة ربما تذكر على غير إرادة وقدرة في الحقيقة، ولكن على إرادة حقيقة الفعل. دليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من أراد الحج فليفعلْ كذا، ومن استطاع أن يفعل كذا فليفعل "، ليس ذلك على حقيقة القدرة والإرادة، ولكن هذا - واللَّه أعلم - على معنى: " من فعل كذا فليفعل كذا "؛ فكذلك الأول ليس على حقيقة الإرادة، ولكن تذكر ذلك لما لم يكن الفعل إلا بقدرة وإرادة. واللَّه أعلم. والثالث: لا يخلو " الحولين " من أن يقدر بالأهلة فقد ينتقص عن سنتين، أو أن يقدر بالأيام فقد يزداد على المعروف من الوقت؛ فثبت أنه بحيث الاحتمال لما ذكرنا؛ إذ

يحتمل (لِمَن أَرَادَ) أن يزيد حتى يتم، أو (لِمَن أَرَادَ) أن يقتصر على التمام، على أن الآية ليست في حق الحرمة، لكنها في حق الفعل؛ إذ قد يجب الحرمة لا بحولين. ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، في تأويل قوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)، وقوله: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)، قال: إن كان الحمل ستة أشهر، ففصاله في عامين، وإن كان الحمل تسعة أشهر، فيقدر الباقي؛ فدل هذا على أن (الحولين) ليسا بشرط في الفطام، ولا وقت له، لا يجوز الزيادة عليه ولا النقصان. واللَّه أعلم. وقد ذكرنا أن قوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، يحتمل وجهين: قيل: إنه في المطلقة، وقيل: إنه في المنكوحة. وقد دللنا على أنه في المنكوحة. واللَّه أعلم. وقوله: (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا). قال قوم: قوله: (إِلَّا وُسْعَهَا)، إلا ما يسع ويحل. لكن هذا لو كان على ما ذكر لكان بالأمر يحل ويسع، فكان كأنه قال: لا نكلف إلا ما نكلف. وذلك لا يكون. وقال قوم: (إِلَّا وُسْعَهَا)، يعني: طاقتها وقدرتها. وهذا أشبه، ومعناه: لا يكلف الزوج بالإنفاق عليهما والكسوة إلا ما يحتمل ملكه وإن كانت حاجاتها تفضل عما يحتمله ملكه، لم يفرض عليه إلا ما احتمله ملكه - واللَّه أعلم - كقوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا). ثم اختلف في تحريم الرضاع في حال الكبير:

قال قوم: يحرم. ورووا في ذلك أحاديث. وقال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: لا يحرم. وذكروا في ذلك إلى الآثار رويت عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه عليه السلام سئل عن الرضاع، فقال: " ما أنبت اللحم وأنشز العظم "، وفي بعضها عنه: " لا رضاع بعد حلم، ولا رضاع بعد فصال ". ورُويَ عن علي بن أبي طالب وابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، أنهما قالا: لا رضاع بعد الحولين. وعن عليٍّ وابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، أنهما قالا: لا رضاع بعد الفطام أو الفصال، الشك منا. ورُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في بعض الأخبار: أنه دخل على عائشة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، فرأى معها رجلًا، فرأت عائشة:، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، الكراهة في وجهه، فقالت: " إنه أخي من الرضاعة أو عمي "، فقال لها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " انظرن من إخوانكن، ما الرضاعة؟ إنما الرضاعة من المجاعة ".

ورُويَ عن أبي موسى الأشعري - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن رجلًا قال له: إن امرأتي أرضعتني، أتحرم عليَّ؟ فقال: نعم. فبلغ ذلك ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، فأتاه، فقال له: أأنت تفتي بكذا؟ فقال: نعم، فقال: كذبت، أو كلام نحو هذا؛ إنما الرضاعة من المجاعة. إلى هذه الأخبار ذهب أصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، في نفي تحريم الرضاع بعد الفطام وبعد الكبر. وأصله: أن ينظر: فإن كان غذاؤه باللبن أو أغلب غذائه فهو يحرم، وإذا كان بالطعام أو غالب غذائه به، فهو لا يحرم. وأصله: ما ذكر في الخبر: " ما أنبت اللحم وأنشز العظم، فهو يحرم "، فإذا كان غذاؤه بالطعام سوى اللبن، فالطعام هو الذي ينبت اللحم وينشز العظم، فلم يحرم. ثم الأصل: بأن كل مذكور على الكمال والتمام لا يمتنع عن احتمال الزيادة والنقصان. دليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من أدرك عرفة بليل وصلى معنا بجمع فقد تم حجه "، وقوله عليه السلام: " إذا فعلت هذا فقد تمت حجتك "، وقوله: " إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك ". وصفهما بالتمام والحرمة باقية.

ثم قدر أبو حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -، الزيادة بستة أشهر، ذهب في ذلك إلى أن الفطام ربما يعترض ويعترى في حال -وهو حال الحر والبرد- ما لو منع الرضاع منه لأورث هلاك الصبي وتلفه، لما لم يعود بغيره من الطعام، ففيه خوف هلاكه، فإذا كان فيه خوف هلاكه، لما ذكرنا، استحسن أبو حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، إبقاءها بعد الحولين لستة أشهر، إذ على هذين الحالين تدور السنة. واللَّه أعلم. وقال زفر: بزيادة سنة، ذهب في ذلك إلى أنه لما جاز أن يزاد بالاجتهاد على حولين بستة أشهر، جاز أن يزاد بالاجتهاد على الحولين بسنة. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: وعلى ما زيد على المذكور من الحبل مثل أقل وقت الرضاع، يزاد على المذكور من الرضاع مثل أقل الحبل، أو لما احتمل الأقل الانتقال إلى الوسط يحتمل الوسط الانتقال إلى الأكثر، وذلك في قوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا). وقوله: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا)، يحتمل وجهين: يحتمل: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا)، في ترك الإنفاق عليهما. ويحتمل: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) في انتزاع الولد منها، وهي تريد إمساكه. وقوله تعالى: (وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)، كذلك يحتمل وجهين: ويحتمل: لا يضار الوالد بولده في ردها الولد عليه ورميه إليه بعد ما، ألف الولد الأم. ويحتمل: لا يضار الوالد في تحميل فضل النفقة عليه وملكه لا يحتمل ذلك، بل إنما يحمل عليه ما احتمله ملكه. وفي قوله: (وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)، دليل أنه إنما يسمى (الوالد) على المجاز، ليس على التحقيق؛ لأنه لم يلد هو، إنما ولد له؛ فثبت أن الرجل يستحق اسم الفعل بفعل غيره، وكل معمول له يستحق اسم الفاعل وإن لم يعمل هو، نحو ما سمي (والدًا)، وإن لم يلد هو، وإنما ولد له.

ففيه دلالة أن من حلف: (لا يعتق)، و (لا يطلق) فأمر غيره، ففعل، حنث وجعل كأنه هو الفاعل. واللَّه أعلم. ثم اختلف في تأويل قوله: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو معطوف على قوله: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) ومعناه: ألا يضار الوارث أيضًا باليتيم. وقال آخرون: هو معطوف على الكل: على النفقة، والكسوة، والمضارة. وقال غيرهم: هو راجع إلى النفقة والكسوة دون المضارة. وهو قولنا؛ لوجهين: أحدهما: أن نسق الكلام إنما هو على قوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، فنسقه على حرف (على) أولى من نسقه على حرف (لا)، ليصح، إذ، لو حمل على قوله: (لَا تُضَارَّ) ولكان ما يوازيه من الكلام، إنما هو: الوارث مثل ذلك. والثاني: أنه لو حمل على إضرار من الوارث بالولد في الميراث لقال: وعلى المورث بحق الميراث، فلا ضرر يقع فيه، بل يقع الإنفاق؛ فثبت أن حمله عليه أحق. ثم اختلف في قوله: (وَعَلَى الْوَارِثِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد (بالوارث) الوالد، والأم، والجد، ولا يدخل ذو الرحم المحرم فيه. ذهبوا في ذلك إلى ما رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال ذلك. وأما أصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، ذهبوا إلى ما رُويَ عن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه أوجب النفقة على العم، وقال: لو لم يبق من العشيرة إلا واحد لأوجبتُ عليه النفقة. وروي أيضا عن زيد بن ثابت، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه أنه قال في قوله تعالى:

(وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ): النفقة على كل ذي الرحم المحرم على قدر مواريثهم. فاتبعنا الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، في ذلك. وفي الكتاب دليل وجوب النفقة على المحارم، قوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) فإنما يأكل بحق، لا بالرضاء. ألا ترى أنه يأكل من بيت الأجنبي إذا بذل ورضي، فلو لم يكن أكله من بيت هَؤُلَاءِ بحق لم يكن للتخصيص فائدة. فإن عورض (بالصديق)، أنه لا يفرض عليه قيل: لما أنه لو فرض عليه، لانقطعت الصداقة بينهما. ثم لقائل أن يقول: كيف لا أوجبت النفقة على كل وارث على ظاهر الآية؟ قيل: الآية مخصوصة بالإنفاق؛ لأن المرأة وارثة، ولا تفرض عليها نفقة الزوج؛ دل أنه أراد وارثا دون وارث، وهو الوارث من الرحم المحرم. واللَّه أعلم. وقوله: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا). قيل: فإن أراد الأبوان فِصال الصبي وفطامه بدون الحولين ليس لهما إلا بتراضيهما جميعًا واتفاقهما على ذلك، وأما بعد تمام الحولين فإنه إذا أراد أحدهما الفصال دون الآخر يفصل وأصله واحد بأن الفصال بعد الحولين فصال على التمام والكمال فجاز أن يفصل إذا أراد أحدهما. وأما الفصال قبل الحولين فصال عن غير تمام ذكره الكتاب، فلا يفصل إلا باجتماعهما واتفاقهما على ذلك. وأما ما بعد الحولين هو على تمام النص، فجاز ذلك لرأي واحد منهما، وما قبله لا يجوز إلا لرأيهما جميعًا. وأصله: أنه بالحولين قد ظهر التمام والكفاية، ثم بالنص، وما دونه يعلم بالاجتهاد، وعند التنازع يزول موضع بيان الصواب فيرد إلى الحد المذكور، مع ما في القرآن للتمام ذكر إرادة الفرد، وللفصل التشاور. واللَّه أعلم.

ثم إن الزوجين يحكمان عن أنفسهما برضاع ولدهما لذلك يحتج إلى نظير غيرهما، ولا إلى رأي آخر، لما لا يجوز أن يعدم شفقتهما جميعًا عن ولدهما. وأما إذا كان الحكم لغيرهما أو على غيرهما فلا بد من أن يحكم غيره، دليله: قوله تعالى: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)، وكقوله: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) فهذا الحكم على غيرهما؛ ولذلك احتيج إلى غيرهما؛ وذلك الزوجان يحكمان على أنفسهما وينظران لولدهما؛ لذلك افترقا. واللَّه أعلم. و (الجناح) و (الحرج) واحد: وهو الضيق، ومعناه: أي لا ضيق ولا تبعة عليهما، ولا إثم إذا أرادا فطامه بدون الحولين. وقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ). فيه دلالة جواز الرضاع بعد الحولين وحرمته؛ لأنه ذكر في قوله: (فَإن أرَادَا فِصَالا) بتراضيهما بدون الحولين. ثم قوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ) يصير استرضاعا بعد الحولين. إذ ذكر الرضاع في الحولين بقوله: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)، وذكر الفصال بدون الحولين بقوله: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ) فحصل قوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ) بعد الحولين. وهذا يدل لقول أبي حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، ويقوي مذهبه. ويحتمل: أن تكون الآية في جواز استرضاع غير الأمهات إذا أبت الأم رضاعه؛ وهو كقوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى). وقوله تعالى: (إِذَا سَلَّمْتُمْ)، يعني إذا سلمتم الأمر لله تعالى، (مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ)، أي قبلتم، ليس هو على الإيتاء، ولكن على القبول، دليل ذلك قوله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)، ليس هو الإيتاء نفسه، ولكنه على القبول كأنه قال: فإن تابوا وقبلوا إقامة الصلاة وعهدوا إيتاء الزكاة فخلوا سبيلهم، فعلى ذلك الأول. و (مَا آتَيْتُمْ) أي قبلتم إيتاء ما عهدوا وهو الأجر. وقد يكون (مَا آتَيْتُمْ)، أي: عقدتم عقد الإيتاء؛ إذ الإيتاء هو الإعطاء والعطية عقدتم

(234)

التسليم عليه. وذلك دليل لقول من يفرق بين قوله: أعطيتتني كذا، فلم أقبضه. وسلمتني فلا أقبضه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ). أي: فيما أمركم من الإنفاق، والكسوة، ونهاكم من إضرار أحدهما صاحبه. وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). وهو وعيد على ما سبق من الأمر والنهي. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) وقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا). قيل: هي ناسخة لقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ). إنها وإن كانت مقدمة في الذكر، وتلك مؤخرة، (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، ناسخة لتلك. إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل؛ ألا ترى إلى ما جاء في الخبر: أن امرأة أتت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت: أن بنتًا لها تُوفي عنها زوجها، واشتكت عينها، وهي تريد أن تكحلها. فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قد كانت إحداكن في الجاهلية تجلس حولًا في منزلها ثم تخرج عند رأس الحول، فترمى بالبعر، وإنما هو أربعة أشهر وعشرا ". فثبت

أن ما كان ذلك مما تقدم الأمر به، نسخ بالثاني. وقال آخرون: إنه قد أثبت في الآية متاعًا أو وصية، ثم ورد النسخ على كل وصية كانت للوارث بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ". وإلا كان الاعتداد الواجب اللازم هو أربعة أشهر وعشرًا.

وأمكن أن يستدل بقوله: (فَإِنْ خَرَجْنَ)، إذ كان على إثر قوله: (غَيرَ إخرَاجٍ) أن قوله، (فَإِنْ خَرَجْنَ)، كان النهي على (الإخراج)، دون (الخروج). وهذا أصل في الوصايا بالمتاع: ألا يمنع الرد وإن أجبر على التسليم. وفي الآية دلالة جواز الوصية بالسكنى إذا بطلت بحق الميراث، لا بحق الوصية - واللَّه الموفق - وهو جائِز فيمن لم تنسخ له الوصية. وأمكن الاستدلال بالآية على عدة الوفاة بالحبل إن ثبت ما روي: " أنه يكون أربعين يومًا نطفة، وأربعين يومًا علقة، وأربعين يومًا مضغة، ثم ينفخ فيه الروح في العشرة ".

فإذا كان ما ذكرنا أمرت بتربص أربعة أشهر وعشر ليتبين الحبل إن كان بها. وإذا كان بهذا معنى العدة فإذا ولدت بدونه انقضت العدة. واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: الأمة أليست لا تختلف عن الحرة في تبيين الحبل، ثم لم يجعل عدتها أربعة أشهر وعشرا، فإذا لم يجعل ذلك كيف لا بَانَ أن الأمر بتربص أربعة أشهر وعشرا إلا لهذا المعنى؟ قيل: لوجهين: أحدهما: أن الحرائر هن الأصول في النكاح، وفيهن تجري الأنكحة، فيخرج الخطاب لهن. والثاني: أنها حق أخذت الحرة، والحقوق التي تأخذ الحرائر هن الأصول في النكاح، إذا صرف ذلك إلى الإماء تأخذ نصف ما تأخذ الحرائر. والثالث: أنه لا يقصد آجالهن؛ لما فيه رق الولد واكتساب الذل والدناءة. ورُويَ عن عليٍّ بن أبي طالب، رضيَ اللَّهُ تعالى عنها، أنه قال: تعتد أبعد الأجلين احتياطًا. ذهب في ذلك إلى أن الاعتداد بوضع الحبل إذا ذكر في الطلاق، ولم يذكر في الوفاة؛ فيحتمل أن يكون ذلك في الوفاة كهو في الطلاق ويحتمل ألا يكون، فأمرها بذلك احتياطًا. وأما عندنا: ما رُويَ عن عمر، وعبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عَبَّاسٍ،

رضيَ اللَّهُ تعالى عنهم، أنهم قالوا: إذا وضعت ما في بطنها، وزوجها على السرير، انقضت عدتها. وكذلك رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أن امرأة مات عنها زوجها، وكانت حاملًا، فوضعت بعد ذلك بأيام، فأذن لها بالنكاح ". ثم الأمر بالإحداد أربعة أشهر وعشرا، ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا المرأة على زوجها، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا ". فَإِنْ قِيلَ: أليس وجب ذلك على المطلقة، والخبر إنما جاء في الموت، قيل: ليس للموت ما وجب ولكن لمعنى في الموت، وهو فوت النعمة في الدِّين، وذلك الفوت في الطلاق كهو في الموت؟! ألا ترى أنه لم يجب ذلك في موت أبيها ولا في موت ولدها، دل أنه لم يجب للموت نفسه، ولكن لفوت النعمة في الدِّين؛ ألا ترى أنه روي في الخبر أن المرأة الصالحة مفتاح الجنة، فأمرت بإظهار الحزن على ما فات منها من النعمة بترك الزينة والتشوف؛ إذ النكاح نعمة. ثم الدخول بها سواء في وجوب المهر والعدة وترك الزينة وإظهار الحزن على فوت النعمة، وأما المطلقة قبل الدخول بها لم يلزمها ذلك؛ لأن العدة لم تلزمها فتتجدد لها النعمة، لما لها أن تنكح للحال، فتكتسب نعمة. واللَّه أعلم. ألا ترى أن الصبي الصغير إذا مات عن امرأته تلزمها أربعة أشهر وعشر، دل هذا على أن وجوبها لفوت النعمة. والله أعلم. وقوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). قوله: (فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) قيل: لا تبعة عليكم ولا إثم (فِيمَا فَعَلْنَ) قيل: تزين

(235)

بعد انقضاء عدة، وقيل: المعروف هو وضعهن أنفسهن، أي في الأكفاء بمهر مثلهن. قد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ (235) قيل: (التعريض) هو أن يرى من نفسه الرغبة فيما يكنى به من الكلام، على ما ذكر في الخبر: أن فاطمة بنت قيس لما استشارت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال لها: " إذا انقضت عدتك فآذنيني، فاستأذنته في رجلين كانا خطباها، فقال لها: أما فلان فإنه لا يرفع العصا عن عاتقه، وأما فلان فإنه صعلوك لا شيء له؛ فعليك بأسامة بن زيد ". فكان قوله عليه

السلام: " فآذنيني " كناية خطاب إلى أن أشار على أسامة، دون ما ذكره أهل التأويل: " إنك لجميلة "، و " إنك لتعجبينني "، و " ما أجاوز إلى غيرك "، أو " إنك لنافعة "، ومثل هذا لا يحل أن يشافه لامرأة أجنبية لا يحل له نكاحها. وفي الآية دلالة أن لا بأس للمتوفى عنها زوجها الخروج بالنهار لما ذكر من التعريض، لأن الرجل لا يأتيها منزلها فيعرض لها، ولكن المرأة قد تخرج من منزلها فتصير في مكان احتمال التعريض، فعند ذلك يقول لها ما ذكرنا. وعلى ذلك جاءت الآثار؛ رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أن امرأة مات زوجها، فأتته، فاستأذنته للاكتحال، لم يأت أنه نهاها عن الخروج ". وما رُويَ عن عمر، وابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، بالإذن لهن بالخروج بالنهار، والنهي عن البيتوتة في غير منزلهن. ولأن المتوفى عنها زوجها مؤنتها على نفسها، فلا بد لها من الخروج. وأما المطلقة فإن مؤنتها على زوجها، والزوج هو الذي يكفي مؤنتها ويزيح علتها؛ لذلك افترقا. واللَّه أعلم. ثم (التعريض) لا يجوز في المطلقة لوجهين: أحدهما: ما ذكرنا ألا يباح لها الخروج من منزلها ليلًا ولا نهارًا، والمتوفى عنها زوجها

يباح لها الخروج. وإنما ذكر اللَّه سبحانه وتعالى التعريض في المتوفى عنها زوجها، لم يذكره في المطلقة. والثانى: أن في تعريض المطلقة اكتساب عداوة وبغض فيما بينه وبين زوجها؛ إذ العدة من حقه. دليله: أنه إذا لم يدخل بها لم تلزمها العدة، وأما المتوفى عنها زوجها لزمتها العدة وإن لم يدخل بها؛ لذلك يجوز التعريض في المتوفى عنها زوجها، ولا يجوز في المطلقة. قال الشيخ: - رحمه اللَّه تعالى -: " ولأن زوجها في الطلاق حي، يعلم ما يحدث بينهما الضغن والمكروه في الحال، وليس ذلك في الوفاة ". وقوله تعالى: (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ)، يعني أخفيتم تزويجها في السر. وقوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) سرا وعلانية. وقيل: يعني الخطبة في العدة. وقوله: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) قيل فيه بأوجه: قيل: لا تأخذوا منهن عهدًا ألا يتزوجن غيركم. وقيل: (لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)، يعني الزنى. و (السر) الزنا في اللغة. وقيل: (السر) الجماع؛ تقول: آتيك الأربعة والخمسة ونحوه. ثم قال اللَّه تعالى: (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا) يقول لها قولا لينًا حسنًا، ولا يقول لها قولا يحملها على الزنى، أو على ما يظهر من نفسها الرغبة فيه، على ما ذكر في الآية: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا)، وأن يعد لها عدة حسنة، أو أن يبر ويحسن إليها لترغيب فيه، ولا يقول لها ما لا يحل ولا يجوز. واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) قيل: هو على الإضمار، كأنه قال: " لاتعزموا على عقدة النكاح ". وقيل: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ)، لا تعقدوا (النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)، يعني

بالكتاب: ما كتب عليها من العدة حتى تنقضي تلك. وفيه دليل حرمتها على الأزواج لبقية الملك، فالخطاب للأجنبيين، لا للأزواج؛ إذ للأزواج الإقدام على النكاح وإن كن في عدة منهم. قال الشيخ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، في قوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ): حمل على التحريم، وإن احتمل الذي هو بهذا المخرج غير التحريم؛ لاتفاق الأمة على صرف المراد إليه، ولقوله: (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)، أي: ما كتب عليها من التربص، ولما كان النهي عن ذلك بما لزمها العدة للزوج الأول فهي باقية بها على ما سبق من النكاح المحرِّم لها على غيره؛ فلذلك بقيت الحرمة، ولهذا جاز لمن له العدة النكاح فيها؛ إذ لا يجوز أن يمنع حقه. واللَّه أعلم. وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ). وهو حرف وعيد، أي يعلم ما تضمرون في القلوب وتظهرون باللسان من التعريض، (فَاحْذَرُوهُ) ولا تخالفوا أمره ونهيه. وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). فيه إطماع المغفرة وإمهال العقوبة من ارتكب النهي وخالف أمره. واللَّه أعلم. (وَاعْلَمُوا. . .) الآية، حذره علمه بما في أنفسهم، ليكونوا مراقبين له فيما أسروا وأعلنوا، وليعلموا أنهم مؤاخذون بما أضمروا من المعاصي والخلاف له، وأن الذي لا يؤاخذ به العبد هو الخطر بالبال، لا بالعزم عليه والاعتقاد. ثم أخبر أنه (غَفُورٌ)؛ ليعلموا أن استتار ذلك مما غفره وأنهم قد استوجبوا بفعلهم الخزي، لكن اللَّه بفضله ستره عليهم ليشكروا عظيم نعمه، أو لئلا ييأسوا من رحمته فيستغفروه. وذكر (حَلِيمٌ)؛ لئلا يغتروا بما لم يؤاخذوا بجزاء ما أضمروا في ذلك الوقت، فيظنون الغفلة عنه، كقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42). * * * قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ

(236)

النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) وقوله: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) فيه دليل رخصة طلاق غير المدخولات بهن في الأوقات كلها؛ إذ لا يتكلم بنفي الجناح إلا في موضع الرخصة، ولم يخص وقتًا دون وقت. وأما المدخولات بهن فإنه عز وجل ذكر لطلاقهن وقتًا بقوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)؛ لذلك قال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: أن لا بأس للرجل أن يطلق امرأته في حال الحيض إذا لم يدخل بها. وجهه: أنه إذا كان دخل بها فعرف وقت طهرها مه، سبق من الدخول بها، فأمر بالطلاق في ذلك الوقت ليكون أدعى إلى المراجعة إذا ندم على طلاقها. وأما التي لم يدخل بها لا يعرف وقت طهرها لما لم يسبق منه ما به يعرف ذلك الوقت، فلم يؤمر بحفظ ذلك الوقت. ولأنه إذا لم يدخل بها فإن الطلاق بينهما منه، فجعل كل الأوقات له وقتا للطلاق، لما لم يجعل له حق المراجعة قبلها ليكون بعض الأوقات له أدعى إلى ذلك. واللَّه أعلم. والثاني: أن المدخول بها يتوهم علوقها منه، فجعل الطلاقها وقتًا لتستبين حالها: أحامل، أم لا؟ لئلا يندم على طلاقها؛ لأن الرجل إذا طلق امرأته ثم علم أنها حامل يندم على طلاقها؛ لذلك كان الجواب ما ذكرنا. واللَّه أعلم. وفيه دليل رخصة طلاق المبين منه إذا لم يملك إمساكها عند الندامة. لأن الطلاق قبل الدخول تبين المرأة من زوجها. والأصل في الأمرين - جعل الطلاق في وقت حلها للأزواج. وكل الأوقات في غير المدخول بها وقت الحل. وقوله تعالى: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) ومعناه - ولم تفرضوا لهن فريضة، كأنه عطف على قوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)، إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ: (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)، دليله قوله تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ)، دل الأمر بالمتعة أن قوله تعالى: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ)، معناه - ولم تفرضوا لهن. ودل قوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) "، أن ذلك في غير المفروض لها؛ حيث أوجب في المفروض نصف المفروض

وأوجب ثَمَّ المتعة. ثم يجيء في القياس أن يوجب في غير المفروض نصف مهر المثل إلا المتعة؛ لأنه إذا دخل بها أوجب كل مهر المثل كما أوجب كل المفروض عند الدخول بها، ونصف المفروض عند عدم الدخول بها، لكن أوجب المتعة لوجهين: أحدهما: أن مهر المثل إنما يقدر بها إذا دخل بها، فإذا لم يدخل بها لم يعرف الزوج ما قدر مهر مثلها؟، فإذا لم يعرف ما قدر مهر مثلها لم يعرف النصف من ذلك. والثاني: أنهم أوجبوا المتعة تخفيفًا وتيسيرًا؛ لأن الحاكم يلحقه فضل كلفة وعناء في تعرف حالها وحال نسائها، إذ مهر المثل إنما يعتبر بنسائها، وليس ذلك في المتعة. والله أعلم. ثم قدر المتعة: يعتبر شأنه اعتبارًا بقدرها؛ لأنه لو اعتبر شأنه قدر ما أوجب لها غناءها وغناء أهلها، ومهر المثل لا يبلغ ذلك، فكان في ذلك تفضيل المتعة على مهر المثل -وقد ذكرنا أن المتعة أوجب تخفيفًا- ولو نظر إلى قدرها دون قدره لكلف الزوج ما لا طاقة له به ولا وسع؛ لذلك وجب النظر إلى قدره اعتبارا بقدرها. واللَّه أعلم. وقوله: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)، أو نسق على قوله: (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)، فهو على: " ما لم تفرضوا لهن فريضة "، وعلى ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا). وعلى هذا إجماع القول في جواز النكاح بغير تسمية. وفي ذلك دليل أن قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)، هو ما يبتغى من النكاح بالمال، لا بتسمية المال، فيكون النكاح موجبًا له، به يوصل إلى حق الاستمتاع، لا بالتسمية؛ ولهذا كان لها حق حبس نفسها عنه حتى يسلم إليها ما منع عن الملك إلا مهر به مسمى أو غير مسمى، كقوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ. . .) الآية. وإذا جاز النكاح بلا تسمية لم يفسده فساد التسمية، بل الذي أفسد في أعلى أحواله كأنه لم يكن، وعلى ذلك اتفاق فيما يتزوج المرأة على ما لا يحل من خمر أو ميتة أو نحو ذلك أن يجوز؛ فيكون في ذلك أمران: أحدهما: أن ما لا يتعلق جوازه بالشرط، ففساد الشرط لا يفسد.

والثاني: أن تبين موضع النهي عن الشغار أنه غير مفسد العقد؛ لأنه في جعل ذلك بدلًا للبضع، واللَّه تعالى لم يجعل التسمية شرطًا لجوازه ليفسد لفسادها. واللَّه أعلم. ثم جعل الطلاق قبل المماسة سببا لإسقاط بعض ما أوجب العقد، فهو - واللَّه أعلم - لما لم يوصل إليه كمال ما له قصد النكاح، إذ هو مجعول للتعفف، وحقيقته في إمكان الاستمتاع، لا بالعقد، ولولا ذلك لما جعل النكاح، ولم يبطل كل المهر لما تقلب في الملك الذي له البدل، إذ هو في الحقيقة للملك، لا للاستمتاع. دليل ذلك: ما لا يزداد لكثرة الاستمتاع؛ فثبت أنه بدل الملك في التقلب فيه، إذ ليس هو سببًا لفسخ السبب الموجب للملك، الذي له وجب البدل، بل هو تقلب فيه، لم يرفع عنه البدل كله. والله أعلم. فأوجب عَزَّ وَجَلَّ نصف المهر، وأسقط نصفه بما قد فقد أحد القصدين ووجد الآخر. واللَّه أعلم. ثم إذا لم تكن التسمية جعل اللَّه تبارك وتعالى المتعة مقام نصف المسمى عند التسمية، وإن كان لو تركا، والتدبير بعد بيان الواجب فيما لم يسم مهر المثل نحو وجوب المسمى فيما سمى، لكان الذي يغلب على الوهم أنا لا ندرك تدبيرنا غير نصف مهر المثل، فتولى اللَّه سبحانه وتعالى بيان ذلك ليعلم الناس - واللَّه أعلم - أن اللَّه تعالى بين كل ما بالخلق إليه حاجة على قدر ما يحتمله وسعهم ويبلغه عقولهم، وأن الذي لا يحيط به تدبرهم، بين لهم بالإشارة إليه تفضلًا منه على عباده ليؤلف به بينهم، ويمنعهم عن التنازع. واللَّه أعلم. ثم لم يبين لنا ماهية المتعة بالإشارة إليها. ومعلوم أن قدر الذي يتبين فيما علم قصور التدبير عن الإحاطة بدرك ذلك النوع من الحكمة فيما لم يبين، فهو - واللَّه أعلم - بما علم أن العقول تبلغه، وأنه بالتدبير فيما يتبين وجه الوصول إليه. ولا قوة إلا باللَّه. ثم قد بين أن الحق أوكد عند التسمية، منه فيما لم يكن التسمية، بوجهين: أحدهما: بقوله تعالى: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)، فيما كان الطلاق قبل المماسة، وعند التسمية أوجب نصف المسمى، احتمله ووسعه أو لا. ومعلوم أن الاحتمال على قدر الموسع أخف مما كان يجب احتماله عند الخروج من الوسع. واللَّه أعلم. والثاني: بما علم من وقوع الاختلاف يكون بين الأمة فيما لا تسمية إذا مات أحد الزوجين في حق إكمال المهر وارتفاع ذلك بما كان ثم تسمية، فهو الدليل على أن الحق في أحد الزوجين أوكد منه في الآخر، على أن العقود والفسوخ كلها تثبت لها عند

تسمية البدل، ولا يجب شيء من ذلك بنفس العقد البدل حتى يستوفى في بعض ذلك، ولا يجب شيء في البعض على كل حال؛ فثبت به ما ذكرت، فأوجب ما ذكرت - ألا يراد بالمتعة نصف مهر المثل؛ إذ قد ثبت بالبيان الأول أن التدبير لا يوجب الزيادة عليه، وبالبيان الثاني أن الأمر فيه محمول على التيسير والتخفيف، ومن البعيد المجاوزة بالأمر المؤسس على التخفيف على المؤسس بالتغليظ في التغليظ. ولم يبين لنا ماهية المتعة - ما هي؟ ومعروف أن المتعة هي التي يتمتع بها، وأن مهر المثل مما قد يتمتع به. فجعلنا نصف مهر المثل نهاية المتعة بما هو النهاية فيما كان مبنيا على التغليظ، فلا يجاوز بها. ذلك مع ما فيه وجهان: أحدهما: إحالة وجوبها أكثر من مهر مثلها، فيكون الدخول بها سببًا لإسقاط الحق، وقد جعله اللَّه تعالى سببًا لمنع السقوط؛ فثبت أن مهر المثل معتبر في المتعة. والثاني: أنها بحكم البدل عن ذلك. دليله وجهان: أحدهما: أن المطالبة كانت بمهر المثل، والطلاق سبب إسقاط حقوق النكاح لإيجابها؛ فثبت أن المتعة كانت مكان ما فيه المطالبة، لا أن حدث الوجوب بالطلاق. والثاني: أنه متى وجب مهر المثل لم يوجد لها نحو أن يدخل بها. ثبت أنها كانت بدلًا، فلا يزاد البدل، مع ما كان التحويل إلى غير نوع مهر المثل. إنما هو - واللَّه أعلم - لما قد يتعذر تعرفه، أو أن لم يعرف ذلك بالاجتهاد والتفحص عن أحوالها ومحلها ومحل قومها، وفي ذلك مؤن وتكلف. ثم بعد العلم بذلك لا بد من الاجتهاد في الوسط من ذلك، ثم في أمرها منهم، فجعل اللَّه تفضله من الوجه الذي للمرء سبيل العلم به عن ذلك التكلف. أو لو رفع هو إلى الحاكم أمكنه الوصول إلى العلم به بدون ما ذكرت من النظر. فكان ذلك - واللَّه أعلم - نحو ما فرض اللَّه تعالى من زكاة الإبل، لا فيها إذا صار بحيث لو كانت فيها لكانت جزءًا يتعذر أخذ مثله، ثم التسليم إلى الشراء، فجعل في ذلك بدلا على أن الذي عليه لو خرج بتسليم العين جاز؛ فمثله ما نحن فيه. وهذا هو وجه جعل اللَّه تعالى متعة على أنها كانت واجبة نحو الإمساك، لو رام ذلك، إذ عليه النفقة والكسوة، فإذا طلقها فجعلت هي مكان مهر المثل إذا فات السبب الذي كان

يجب بحقها، فجعلت واجبه بحق غيرها حتى لا يقع في الطلاق وجوب أمر لم يكن فيما تقدم، لو أريد بها الإمساك. ومن البعيد أن يزداد كسوة المرأة على مهرها أو نصف مهرها في الحق. ولا قوة إلا باللَّه. ثم ليس في ظاهر الآية إبطال المهر فيما لم يسم، ولا النصف فيما سمى. وإنَّمَا في الأول الأمر بالمتعة، وفي الثاني بيان أن لها نصف الفرض. والقول: بأن نصف هذا العبد لفلان، أو لفلان، كذا من الحق لا يبطل عنه الحقوق جملة، أو عن النصف لآخر بذلك القول، بل فيه بيان ذلك أنه له وغيره متروك لدليله. ولا قوة إلا باللَّه. وكذلك قوله تعالى: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)، ليس في ذلك أن لا عدة عليهن، ولكن فيه أن لا عدة لهم، ويجوز أن تكون عليها، لا له. وكذلك عندنا: العدة هي التي عقيب الخلوة لا يملك هو فيها إمساكها، ويلزمه المؤن فكأنها عليه، لا له في المعتبر. فلما ذكرت يبطل قول من ادعى أن القول بالمهر والعدة فيما لا مماسة فيه خلاف الظاهر - واللَّه أعلم - مع ما لو كان في الظاهر ذلك لأمكن أن يكون من المسيس الإمكان، لا حقيقته. دليل ذلك: أنه لو وجدت القبلة أو المعانقة في الملأ من الخلق لوجد المسيس في الحقيقة، ولم يجب به ذلك؛ فثبت أن المراد من ذلك معنى في المسيس، لا ما يلحقه اسمه. ثم الذي يؤيد أنه الإمكان والاجتماع وجهان: أحدهما: قول تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)، فأعظم عليه أخذ شيء مما آتاها بما كان من إفضاء بعض إلى بعض. والإفضاء في اللغة معروف: أنه الانضمام، لا المجامعة، مع ما كانت المجامعة إلى الأزواج، يضاف فعلها، وفي هذا إضافة الإفضاء إلى كل واحد منهما. ثبت أنه في معنى ذلك من كل واحد منهما نحو الذي من الآخر، وذلك يكون في الاجتماع خاصة. واللَّه أعلم. والثاني: وجود القول من خمسة من نجباء الصحابة الخلفاء، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، فمن دونهم ممن لا يحتمل خفاء الآيات عليهم، ومن شهد الخطاب أحق بفهم الحقيقة من المراد أن يسألوا عن ذلك من أن يطلعهم على حقيقته إذا كان بحيث احتمال

الخفاء، والخاصة النجباء الذين يعلمون أنهم أئمة الخلق، وعلى الاقتداء بهم حثت الأمة، مع ما في ذلك عدول عن الظاهر، وقول بالذي لا يحتمل فهمه عنه؛ ثبت أن كان ذلك منهم عن بيان من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو عن دليل شهدوه أظهر المراد. ولا قوة إلا باللَّه. على أن في الآية، لو كان في تصريح جماع، لكان يلزم ذلك بالخلوة لوجهين سوى ما ذكرت: أحدهما: جرى أحكام الكتاب والسنة في البدل لأشياء مقصودة اسما وتحقيقًا يستوجب حق العرفاء بها بحق شرط اللَّه القبض في الرهن، والقتال في المغانم، والإيتاء في الأجور والمهور والخروج لأمر الهجرة وأمر رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لما أسلما لأمر اللَّه، فعلى ذلك أمر المهور والعدة في الخلوة إذ هي سلمت نفسها لذلك، وعلى ذلك أمر الخروج من الأمانات بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، ولو كان لا يخرج إلا بإدخال في الأيدي في الحقيقة، لكان لا سبيل إلى القيام بما كلف اللَّه تعالى. وعلى ذلك إجماع القول في الإجارات إذا أمكن الانتفاع بها. واللَّه أعلم. والثاني: أن النساء لا يملكن من تسليم ما عليهن من الحق، ومحال أن يلزمهن من الحق أكثر مما ذكر، لكن اللَّه تعالى وسعهن؛ فثبت أن ليس عليهن غير الذي فعلن، فاستوجبن ما لهن، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ)، والله أعلم. ثم قد أجمع على وجوب المهر في موت أحدهما، وأن الموت لا يسقطه، وإن لم يكن ثم دخول. فهو - واللَّه أعلم - أن المقصود بالنكاح الملك وقيام الزوجية إلى موت أحدهما، وإن كان ذلك الاستمتاع وقد وجد تمامه. وقد بينا أن المهر للملك، لا لنفس الاستمتاع، فوجب كماله وإن مات أحدهما، لما بلغ الملك نهايته. وعلى هذا يخرج قولنا فيما لم يسم لها المهر؛ إذ مهر المثل إنما هو بدل الملك. دليله: أنه يوجب لها المطالبة به عند قيامه وإن لم يسم به. وأصله: ما بينا من تعلق هذا الملك بالبدل حكمًا، وإن لم يكن تعلق به شرطًا، وقد وجد ثَمَّ.

وعلى هذا رُويَ عن ابن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، في ذلك، وقام معقل بن سنان فقال: " نشهد أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قضى في بروع بنت واشق بمثل الذي قضيت أنت ". فسر به عبد اللَّه لموافقة رأيه ما روي له عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وإذا ثبت ذلك فعلى ذلك، إذ المعقول بالنكاح أن تبذل المرأة نفسها له ليستمتع بها، فإذا جاءت الخلوة وجد تمام المقصود منها بالنكاح، على ما وجد في موت أحدهما، فيجب كمال المهر كما وجب بالأول، ويستوي في ذلك مهر المثل والمسمى. والله أعلم. وعلى ذلك فيما لم يوجب جعله بذل المنفعة، إذ هو قيمة البضع، ويجب قيمة الأشياء بإتلافها، ولم يوجد هاهنا. وعندنا: أنه وإن كانت قيمة ذلك فهي بدل ملك ذلك، لا بدل الانتفاع نفسه، إذ لا يجب في الزنى؛ ثبت أنه للملك يجب أو لشبهته، وقد وجد في الأول على تمام ما رجع إليه المقصود، وجب على ما مر بيانه. واللَّه أعلم. وأوجب قوم في المسماة بعد النكاح نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول استدلَالًا بظاهر الآية. ولكن التسمية عند الناس إنما تكون في العقد حتى لا يعرف لها وجود غيرها، وهي التسمية في العقد، فهي المرادة في الخطاب، إذ هي المعروفة من الفرض، ثم غيرها بحق الاستدلال، فإن ألزم الدليل لها حق التسمية في العقد لزم، وإلا لا. ثم وجد جميع الأسباب التي تحتمل الاعتياض جعل ذكر الفرض بعد السبب كلا ذكر، فمثله أمر النكاح، فأوجب ذلك فساد التسمية، فلم يجب المسمى من بعد إلا حيث يوجبه الدليل، وقد قام دليل الوجوب عند وجود ما له حكم الدخول بها، يجب عند ذلك، وإلا لا. ثم وجه لزوم القول بما يخرج على أحوال أحديهما أن لهذا التسمية إذا جازت جازت بحق مهر المثل، إذ كل سبب ليس له عوض بالحكم لم يجز. ثم كان مهر المثل يسقط قبل الدخول بها، كذلك الواجب به. واللَّه أعلم. وأيضًا فإن الحكم يوجب تبيين مهر

المثل ليدفع إليها، إذ لها حق الامتناع إلا به، فاصطلاحها على ما سميا من بعد له حق ما في الحكم ذلك وهو التبيين، ولو بينه الحاكم لكان يسقط. فمثله هذا. واللَّه أعلم. والثالث: أنه معلوم أنه لو كان الذي في علم اللَّه تعالى من طلاقها، لو كان ظاهرًا وقت التسمية، لكان حقها عليه المتعة، ولم يكن يجب النظر إلى مهر المثل إلا من وجه تحديد المتعة. فكذلك إذا ظهر - واللَّه أعلم - وأمكن أن يقال: الأصل في ذلك أن المتعة ليس يوجبها الطلاق، ولكن النكاح يوجب، ثم كان الواجب بالنكاح مجهول، لا يدري أهو مهر المثل أو المتعة؟؛ إذ لا يجوز أن يجبا، ولا أن يوجب الطلاق أحدهما، لما هو بيان ذلك؛ فثبت أن الواجب في الحقيفة أحدهما، لكن لها مطالبة مهر المثل في الظاهر، ولها التسمية عنه بما العرف في النكاح أنه للدوام ثم هو للاستمتاع، فحمل الأمر على ذلك الظاهر وبه أجيزت التسمية. فلما ورد الطلاق قبل الدخول ظهر حقيقة الواجب، فبطل الذي كان بحق المهر، لما ظهر أن الواجب في علم اللَّه تعالى المتعة. واللَّه أعلم. وعلى أصل هذا المعتبر أمر المفروض الظاهر أنه نوع الإيمان، وذلك مما لا يزداد ولا ينتقص، فيجب بالطلاق نصف مهورهن. ثم إذا كان من نوع ما يزاد وينقص فيحدث أحد الوجهين، فليس في الكتاب تسمية ذلك النوع على المعروف، ولا القضاء فيه بشيء. ومعلوم أن ذلك لو كان في يدي الزوج ليجب نصف ذلك فيما كان الطلاق قبل الدخول بها، فيصير بحكم المفروض. وإن لم يكن بما كان حدث من الحق، أو بما كان في علم اللَّه تعالى أن الحق في ذلك النصف؛ إذ ذلك حكم الطلاق قبل الدخول بها على حق المنصوص، فيكون الذي حدث من النصف حقه، أو بما كان ذلك مهرًا والحادث محتمل جعله مهرًا، فهو فيه على ما عليه معتبر الحقوق من لحوق الفروع الأصول. فإذا كان ذلك بعد القبض فقد انتهى أمر الحق، وحدث ما حدث على ملكها، إذ على ذلك يحدث. فقلنا: لو نقص المهر في العين لكان يصير النصف له بحق بعض القبض فيه، ثم نقض العقد، وإذا كان كذلك لا يخلو أمر الزيادة من أن يرد عليه فيرجع بشيء لم يسلم إليها، وذلك فضل على ما أخذ من الحق يأخذه بالحكم، فيكون ربا؛ لأنه لم يسمه، ولا يسلم إليه، فزال المعنى الذي هو لها فيه، فيكون أخذه بلا عوض في عقد التبادل، فيصير ربا، ولو أبقى له على فسخ القبض في المهر والعقد فيصير ذلك لما فضل من أصل قد فسخ العقد فيه مما لم يكن لها إلا ببدل بلا بدل، وذلك وصف الربا، وقد حرم اللَّه الربا؛

فيجب بالضرورة جعل المفروض كالهالك، فيجب نصف القيمة ليزول معنى الربا. والله أعلم. وعلى ما ذكرت يخرج قول أبي يوسف، رحمه اللَّه تعالى، في العلة والهيئة: أنه يظهر الواجب في الحكم. وعند أبي حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، ذلك في حق النقض يصير كذلك، دليله: ما لم يكن يجوز فيه تقلب الزوج، لو كان منه، ثم النقض لا يرد على ما ليس له حكم المهر، فيبقى ذلك للمرأة على ما كان لها قبل الطلاق؛ إذ الطلاق نقض الملك في المهر، وليس ذلك بمهر. واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: والمذكور من المتعة فيما فيه الدخول يحتمل ما عليه في حال النكاح من الكسوة والنفقة، إلى تمام العدة، فتكون الآية في ذكر النفقة بعد الفراق؛ إذ لا يجوز أن يكون الطلاق سببًا لإيجاد حق غير واجب قبله. ويحتمل أن يكون في حق المتبرع شرط عليه ليكون تسريحًا بالإحسان على ما رغب في غير المدخول بها من الإتمام؛ إذ لا يجوز أن يكون ذلك بدلًا فيكون لملك واحد بدلين، مع ما جعل اللَّه تعالى الطلاق سببا لتخفيف الحقوق على الزوج، ورفع المؤنة، ورد الأمر إلى الغناء بالآخر بقوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)، لم يحتمل به الوجوب، فيصير سببًا لإلزام المؤنة. ولا قوة إلا باللَّه. وقوله تعالى: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ). فيه دليل لأبي حنيفة، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، حيث قال: إن الذمي إذا تزوج امرأة ولم يسم لها صداقًا، ثم طلقها قبل أن يدخل بها، لا متعة لها؛ لأن اللَّه تعالى إنما أوجب المتعة على المحسنين، والذمي ليس بمحسن. والدليل على أن المتعة إنما أوجبت تخفيفا، ومهر المثل لا؛ لأن مهر المثل أوجب على المرء احتمله ملكه أو لم يحتمل، والمتعة لم تلزم إلا ما احتمله ملكه؛ فبان أنها أوجبت تخفيفًا فإذا كان تخفيفا؛ لم يزد على مهر المثل. والثاني: أن المتعة أوجبت بدلًا عن نصف مهر المثل، ثم لا جائز أن يراد بالبدل المبدل، كما قيل في سائر الأبدال. واللَّه أعلم. والمتعة - هي ثلاثة أثواب؛ لأنه يخرجها من المنزل، وأقل ما تخرج المرأة من المنزل إنما تخرج بثلاثة أثواب.

فإن قال لنا قائل: إن الكتاب ذكر المتعة للمطلقة قبل المماسة إذا لم يفرض لها فرض، وذكر أنه في نصف المفروض إذا طلقها قبل المماسة، وأنتم أوجبتم كل المسمى وكل مهر المثل إذا خلا بها ولم يمسسها. قيل له: في الآية بيان وجوب المتعة في حال وبيان وجوب نصف المهر في حال، وليس في بيان وجوب النصف نفي وجوب الكل؛ لأنه إذا قيل: " لفلان نصف هذا الشيء "، ليس فيه دليل أن النصف الآخر ليس له، فإذا كان ما ذكرنا ليس لمخالفنا الاحتجاج علينا بظاهر الكتاب، ولا السنة إلى مخالفة الآية، فصار معرفة ذلك بتدبير آخر من جهة الكتاب، مع ما أنه لا يوجب المهر كله لعين المسيس، فكانا -نحن وهو- اتفقنا جميعًا على إيجابه لا بالكتاب. واللَّه أعلم. وإن شئت قلت: إن الخلوة لا توجب كمال الصداق، وإنما يوجبه صحة العقد. دليله: مطالبة المرأة الزوج بكماله بعد صحة النكاح؛ فدل أن وجوبه لا بالخلوة، ولكن بصحة العقد، فالكلام إنما وقع في إسقاط البعض، فيسقط إذا قام دليل الإسقاط. والله أعلم. وإن شئت قلت: إن المرأة لا تملك سوى تسليم نفسها إليه، فالعقد إنما وقع على ما يقدر على تسليمه إليه، ليس على ما لا تقدر؛ لأنها لا تقدر على تسليم الاستمتاع إليه؛ إذ لو كان العقد واقعًا على ذلك لكان يبطل؛ لأن من باع ما لا يقدر على تسليمه إلى المشترى لبطل العقد بأصله، فعلى ذلك عقد النكاح إذا جعل واقعًا على تسليم الاستمتاع إليه كان باطلًا كالبيع للمعنى الذي وصفناه. واللَّه أعلم. ثم اختلف في المرأة التي مات عنها زوجها ولم يدخل بها ولا فرض لها مهرًا: رُويَ عن عبد اللَّه بن مسعود، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: لها مهر مثلها، وروى عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " أنه قضى لبروع بنت واشق بمهر مثلها ". ورُويَ عن عليٍّ بن أبي طالب رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، أنه قال: لها المتعة بكتاب الله تعالى. وقال: لا ندع كتاب اللَّه بقول أعرابي. ذهب - واللَّه أعلم - إلى أن الكتاب ذكر المتعة في الطلاق، ثم كان ذلك الحكم في غير الطلاق كهو في الطلاق؛ فعلى ذلك الفرقة التي وقعت بالموت توجب المتعة كوجوبها في الفرقة الواقعة في غير الطلاق، كقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، ذكر (المطلقات)، ثم

(237)

كانت التي وقعت الفرقة عليها بغير طلاق يلزمها ما يلزم المطلقة، ومثل ذلك كثير مما يكثر ذكره. واللَّه أعلم. وأما عندنا فإنه لا تلزم المتعة، ولكن يلزم مهر المثل لوجوه: أحدها: قوله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)، ذكر في الطلاق قبل الدخول نصف المفروض، وفي الدخول كل المفروض؛ فعلى ذلك ما أوجب من الحكم في التي لم يدخل بها ولم يسم لها مهرًا دون ما أوجب في حكم الدخول. واللَّه أعلم. والثاني: أن المقصود بالنكاح إنما يكون إلى موت أحد الزوجين، فإذا كان كذلك لزم كل المسمى أو كل مهر المثل. واللَّه أعلم. والثالث: الخبر الذي ذكرنا: أنه قضى بمهر المثل، وخبر أمثال هَؤُلَاءِ مقبول إذا كانت البلية في مثله بلية خاصة، إذ بمثل هذا لا يبلى إلا الخواص من الناس؛ لذلك كان ما ذكرنا. وقوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) ذهب قوم إلى ظاهر الآية - أنه ذكر فيها (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)، ولم يخص المفروض في العقد دون المفروض بعد العقد، فكله مفروض، فلها نصف المفروض سواء كان المفروض في العقد أو بعد العقد. وعلى ذلك قال قوم: إن الرجل إذا تزوج امرأة على جارية ودفعها إليها، فولدت عندها ولدًا، ثم طلقها قبل الدخول بها، أن لها نصف الجارية؛ لأن اللَّه تعالى قال: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)، وأنتم لا تجعلون له نصف ما فرضتم، فخالفتم ظاهر الكتاب. أما الجواب لمن جعل المفروض بعد العقد كهو في العقد فيما جعل لها نصف ما فرض، فإن الخطاب من اللَّه تعالى إنما خرج في المفروض في العقد لا في المفروض بعد العقد؛ الأنه لم يتعارف الفرض بعد العقد، فإذا لم يتعارف في الناس الفرض بعد العقد إنما يعارف في العقد، خرج الخطاب على هذا المتعارف فيهم، وهو المفروض في العقد، فيجعل لها نصف ذلك وما يفرض بعد العقد وإنما يفرض بحق مهر المثل، فإذا وجد الدخول وجب ذلك وإلا لم يجب.

وأما جواب من قال: بأنه إذا تزوجها على جارية ودفعها إليها، فولدت ولدًا، أن له نصف ما فرض - فإنا نقول: إن الآية ليست في الفرض الذي معه آخر ولدًا أو غيره؛ ألا ترى أن الجارية إذا كانت عند الزوج فولدت ولدًا فإن لها نصف الجارية ونصف الولد، والولد لم يكن في الفرض وقت العقد؟ فعلى ذلك الآية ليست في الجارية التي ولدت عندها، ولكن في الفرض الذي لا زيادة معه. ثم لا يخلو إما أن يجعل نصف الجارية لها دون الولد، فقد فسخ العقد في الأصل فبقي الولد بلا أصل، فذلك ربا. أو يجعل له نصف الجارية مع نصف الولد، وهو غير مفروض، واللَّه تبارك وتعالى إنما جعل له نصف ما فرض؛ فبطل قول من قال ذلك. واللَّه أعلم. قال الشيخ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه، في قوله: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)، قيل: يريد به المؤمنين فيكون في هذا التأويل دلالة على ما قاله أبو حنيفة. رضيَ اللَّهُ تعالى عنه: أن لا تلزم الذمي المتعة. وقيل: على من قصدهم الإحسان إلى الأزواج ويتقون الخلاف، لما كان عليه النكاح من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. واللَّه الموفق. واعتل قوم في حق العدة وكمال المهر، أنه ذكر فيه الطلاق لا على تخصيص الحكم له، بل بكل ما يكون به تسريحها فمثله يكون ذكر المماسة - لا على تخصيص، ولكن بكل ما يكون به تحقيقها. ولا قوة إلا باللَّه. قال: وقدرت المتعة في الاختيار بالقدر الذي كان يمتعها بالإمساك، إذ لا بد من كسوتها، ليعلم أن ليس للفرار عن ذلك الحق يطلق، أو بما به يخرجها من منزله فأمر أن يمتعها بما به التي تخرج من المنازل. وأقل ذلك ثلاثة أثواب. واللَّه أعلم. وفي هذه الآيات دلالة واضحة على أن الشيء التافه لا يحتمل أن يكون مهرًا؛ لما أوجب عند العدم، فيما لا تسمية فيه، الشيء الخطير، وهو الذي يمتعها، وأقل ما تمتع هى له فيه ثلاثة أثواب وفيما سمى أمرا عند ذلك بالعفو وجب، لا يحث على العفو عنها، ولا يرغب بين الزوجين إلا الأخذ بالفضل بمثله دل أن لذلك حدَّا قد يجري بمثله التنازع، فيرغبون في إبقاء ذلك واختيار ما به التآلف على أن اللَّه - جل ثناؤه - قد جعل بناء النكاح بالأموال وبها أحل، وقال في ذي العذر: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ. . .) الآية، ولو كان بحبة طول حرة لكان لا أحد يعجز عنها فيشترط ذلك في

تزويج المملوكة وبخاصة على قول من لا يبيح إلا بالضرورة، فمن رأى يضطر إلى حبة يتوق إلى الاستمتاع فضلا من أن يتخير، ثم على ذلك قال في الإماء: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) والحبة معلوم أنها أنكر من المنكر؛ فثبت أن مهر الحرائر بمن ويظهر في أهل الحاجة، وأن القول بجعل الحبة مهرًا تامّا ووصف ملكها بملك الطول قولًا مهجورًا، لا معنى له. وبعد فإن الناس قد أجمعوا على أنها لا تملك (المعروف) ببضعها، والبدل للزوج بلا بدل يلزمه، فصار كمتولي العقد على ما ليس لها، وحظ القليل في مثله والكثير في المنع واحد. فقياس ذلك ألا يكون الحط من مهر مثلها، والحبة لا تكون مهر مثل أخبث امرأة في العالم، فلا يجيء أن يجوز الحط ولكن أجيز العشرة بالاتفاق، ولم يجز الأكثر للتنازع، وقد بينا الفساد من طريق التدبير. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ). قيل: المرأة. وقوله: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ). اختلف أهل التأويل فيه: قال علي وابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنهما هو: الزوج - وقال قوم: هو الولي. وأمكن أن يكون قول من قال بأنه الولي؛ لما أن المهور في الابتداء كانت للأولياء. دليل ذلك قول شعيب لموسى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ)، شرط المهر لنفسه، وكما روي من الشغار، ثم نسخ من بعد وصار ذلك للنساء بقوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) وقوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا)، وقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، ولأنهم أجمعوا على ألا يجوز لأحد المعروف في ملك الآخر إلا بإذنه؛ فعلى ذلك لما ثبت أن المهر لها لا يجوز للولي المعروف فيه. وقوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ)، يعني المرأة تترك النصف ولا تأخذ منه شيئًا. وقوله: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)، يعني الزوج يجعل لها كل الصداق، يقول: كانت في

حبالتي ومنعتها من الأزواج. وتترك المرأة له النصف، فتقول: لم ينظر إلى عورتي، ولا ْتمتع بي. وهو على الإفضال، وعلى ذلك يخرج قوله تعالى: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)، أن يتفضل أحدهما على الآخر بترك النصف أو بإتمام الكل، ومعنى قوله (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)، أي لا تنسوا الفضل الذي في ابتداء الأمر؛ لأن أمر النكاح في الابتداء مبني على التشفع والإفضال، فرغبهما عَزَّ وَجَلَّ على ختم ذلك على الإفضال على ما بُني عليه. واللَّه تعالى أعلم. وفيه دلالة على أن (العفو) هو الفضل في اللغة، وهو البذل، تقول العرب: عفوت لك، أي: بذلته. فإن كان (العفو) هو البذل فكان قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي ترك له وبذل، (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)، يكون فيه دليل لقول أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى - في ذلك. وقوله تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى). معناه - واللَّه أعلم -: حق على المتقي أن يرغب فيه، وكذا قوله: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)، أن يرغب فيه. ثم لإضافة ذلك إلى الرجال وجهان: أحدهما: لما أنهم هم الذين تركوا حقهم، ومن عندهم جاء هذا التقصير. والثاني: أن في تسليم ذلك من الرجال الكمال، وهم في الأصل موصوفون بالكمال، ومن عندهم يستوفى ما فيه الكمال. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى): يحتمل اشتراك الزوجين في ذلك، لا معنى الأخذ بالعفو والفضل أولى لمن يريد اتقاء دناءة الأخلاق، أو أولى الفضل ممن أكرم باتقاء الخلاف لله تعالى. ويحتمل: الأزواج بما قد ضمنوا الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، فهو أقرب إلى وفاء ذلك واتقاء الخلاف له، على أن سبب الفراق جاء منه، فذلك أقرب لاتقاء الجفاء منهم، وأظهر للعذر لهم فيما اختاروا. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). حرف وعيد عما فبه الئعدى ومجاوزة الحدود والخلاف لأمره.

(238)

قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وقوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) و (المحافظة) هو المفاعلة والمفاعلة هي فعل اثنين. فهو - واللَّه أعلم - أنه إذا حفظها على وقتها ولم يسهو عنها حفظته، وهو كما ذكر في آية أخرى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ). وفي حرف ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -: (إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر). فعلى ذلك إذا حفظها على أوقاتها مع أحكامها وسننها، ولم يدخل ما ليس فيها - من الكلام، والالتفات، وغير ذلك مما نهي عنه - حفظته. وكذلك قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ)، وقوله: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ)، من المفاعلة، فإذا بادر إليها بدرت إليه. وباللَّه التوفيق. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى). اختلف أهل العلم في تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى)، أراد كل الصلاة لا صلاة دون صلاة. وهو - واللَّه أعلم - أن الصلاة هي الوسطى، هي من الدِّين. وهو على ما جاء: الإيمان كذا كذا بضعة، أعلاها كذا كذا، وأدناها كذا، فعلى ذلك قوله: والصلاة هي الوسطى من الدِّين، ليست بأعلاها ولا بأدناها، ولكنها الوسطى من الدِّين. وقال آخرون: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى)، هي صلاة العصر. وعلى ذلك رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " هي العصر ". وذكر في حرف حفصة - رضي اللَّه تعالى عنها -:

أنها هي صلاة العصر. وقال قائلون: هي الفجر؛ ذهبوا في ذلك إلى أن النهار يجمع الصلاتين، والليل بطرفيه كذلك، فالفجر أوسطها. وكذلك رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: هي الفجر. وقال آخرون: هي الظهر؛ ذهبوا في ذلك إلى أنها إنما تقام وسط النهار، فسميت بذلك. وكذلك رُويَ عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: هي صلاة الظهر. ومن قال: هي العصر، ذهب في ذلك إلى ما روى من الخبر، وإلى أن العصر هي الواسطة من صلاتي النهار وصلاتي الليل لأن صلاتين بالنهار قبلها، وصلاتين بالليل بعدها، فهي الواسطة. والقياس: أن تكون هي المغرب؛ لأن الظهر سميت أولى، والعصر تكون الثانية، فالمغرب هي الواسطة. لكن لم يقولوا به. وفيه دلالة أن الصلاة وتر؛ لأن الشفع مما لا وسطى له. ثم جهة الخصوصية - أيها كانت؟ فإن كانت عصرًا: فهو ما ذكر أن الكفرة حملوا على أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في صلاة العصر، فلم يتهيأ لهم إقامتها، فقالوا: احفظوا عليهم صلاة هي أكرم عليهم من أنفسهم وأموالهم. فظهر بهذا أن لها فضلاً وخصوصية من عند اللَّه ورسوله. وما روي في الخبر أيضا من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من فاتته العصر وتر أهله وماله ". فإن كانت فجرًا؛ فلأن الكتاب ذكرها بقوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)، ولما قيل: إن ملائكة الليل والنهار يشهدونها، فظهرت لها الخصوصية والفضل.

ومن قال: إنها ظهر، ذهب إلى خصوصيتها وفضيلتها ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يصلي قبل الظهر أربعا إذا زالت الشمس، وقال: إن أبواب السماء تفتح في ذلك الوقت. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى): تكلم فيه بوجهين: أحدهما؛ أن الصلاة هي الوسطى، من أمر الدِّين فهي على أن الأرفع من أمر الدِّين هو التوحيد والإيمان وذلك هو الذي لا يرتفع بعذر، ولا يسقط بسقوط المحنة، إذ ذلك في الدارين جميعًا وهو الإخلاص، ونفى جميع معاني الخلق به عمن يوحده ويؤمن به وسائر العبادات قد يقدم مع وجود أمور الدنيا والدِّين والمعاش معها وفي حالها بالذي به قوامها، والتوحيد لا، ثم الصلاة مما بها ترك جميع ما ذكرت في حال فعلها فيما به فعلها، فهي تشبه الإيمان من هذا الوجه، ثم تسقط هي للأعذار، ولا تجب في غير دار المحنة على ما عليه أمر غيرها من العبادات؛ فصارت بذلك الوسطى من أمر الدِّين. والله الموفق. والثاني: أن تكون هي صلاة من جملتها، فتذكر بحرف التخصيص لها من الجملة، لوجهين: أحدهما: لبيان جملة الفرائض أنها وتر، لا الشفع؛ إذ لا وسطى للشفع، فيكون في ذلك بطلان قول قوم أنكروا العدد لها، وقوم زعموا أنها صلاتان في الجملة. واللَّه أعلم. والثاني: أن يراد بذلك التفضيل للصلاة من الصلوات في الحث على فعلها والترغيب في محافظتها، ويجيء أن تكون تلك معروفة عند الذين خوطبوا، إما بالاسم أو بحال من النوازل؛ لأنه لا يحتمل أن يرغب في فعل لا يعلم حقيقة ذلك. واللَّه أعلم. ثم يكون لاختلاف من لم يشهد النوازل التي عرفت المراد، فقال كل مبلغ جهده فيما أدى إليه رأيه من الترغيب في الفعل أنه على ذلك، لكنهم اختلفوا: فمنهم من اعتبر بالركعات، فقال: أكثرها أربع، وأقلها ركعئان، والوسطى منها ثلاث، فصرف التأويل إلى المغرب. واستدل في الترغيب بما جاء " إن اللَّه وتر يحب الوتر " وبما جاء من الترغيب، في تعجيلها والمبادرة في فعلها، حتى لم يؤذن بالاشتغال عنها عند

هجوم وقتها لنافلة وللحاجة. وذلك بعض ما يعرف من معنى المحافظة، وهي أن الصلوات جعلن متصلات الأوقات، وهي الوسطى منهن. واللَّه أعلم. وقوم ردوا إلى صلاة الفجر بما في ذلك من الترغيب والتخصيص بالأمر، كقوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)، وما أخبر من شهود ملائكة الليل والنهار، ولأن وقتها الوسط من أحوال الخلق، إذ أحوالهم تكون سكونًا مرة، وانتشارًا ثانيا، وبذلك ختم أوقات السكون وافتتاح أحوال الانتشار، ووسط الشيء: هو الذي فيه حظ الحواشي، وقد وجد ذلك في وقت هذه الصلاة. واللَّه أعلم. ومنهم من صرف إلى العصر بما جاء في ذلك من الترغيب ومن الوعيد في ترك ذلك، وبها ختم أحوال الزلات التي تدخل في المكاسب، فتكون بها التوبة عنها والاستغفار منها. ولا قوة إلا باللَّه. وقوله تعالى: (حَافِظُوا) على مخاطبة الجملة على الاشتراك؛ إذ المفاعلة اسم ذلك على تضمن الترغيب في الجماعات، أو على لزوم كثرة عدد الصلاة، أو على ما خرج الأمر بالمسارعة إلى الخيرات والمسابقة لها، وكل في ذلك - واللَّه أعلم - على أن الظهر سميت أولى، فعلى ذلك تكون المغرب الوسطى. وقوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ). قيل: خاشعين خاضعين فيها، لا يدخل فيها ما ليس منها؛ وعلى ذلك رُويَ عن زيد ابن أرقم، أنه قال: كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلما نزل قوله: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)، مطيعين أمرنا بالسكوت في صلاتهم خاضعين خاشعين، ونهي عن الكلام؛ وعلى ذلك سمي الدعاء قنوتًا. وقال آخرون: (قَانِتِينَ)، أي مطيعين. وذلك ما قيل: إن أهل الأديان يقومون في

(239)

صلاتهم خاضعين ساهين، فأمر أهل الإسلام أن يقوموا مطيعين. و" القنوت " هو القيام، على ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه سئل عن أفضل الصلوات، فقال: طول القنوت. وأصل القنوت - ما ذكرنا - هو القيام، غير الذي يقوم لآخر، يفوم على الخضوع والخشوع والسكوت. وليس في الآية أنه أمر بذلك في الصلاة، غير أن أهل التأويل صرفوا إلى ذلك؛ لأنها ذكرت على أثر ذكر الصلاة. وكذلك قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (239) ليس فيه أن ذلك في الصلاة، لكنهم صرفوا إليها ذلك؛ لأنه ذكر على أثر ذلك الصلاة. ثم اختلف فيه: قالوا: (رُكبَانًا) على الدواب، حيثما توجهت بهم الدواب يصلون عليها في حال السير والوقوف. وعلى ذلك جاءت الآثار من فعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفعل الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، في النوافل، فتكون الفرائض عند العذر به مرادة بالآية، بل على ما ظهر فعل النوافل في غيره بالسنة. وأما قوله: (فَرِجَالًا) فمما اختلف فيه: قال: ما يكون (فَرِجَالًا)، فمشاة، وهو من الرجل وترجل: مشى راجلا. وأما عندنا: فهو على المعروف من الصلاة على الأرجل والأقدام قيامًا وقعودًا، لا يزال عن الظاهر. والمعروف الذي عرف الفعل به على ما عرف من الصلاة على الأرجل.

وقوله: (رُكْبَانًا) على ما عرف عن الركوب، وهو في حال السير، ولم نر الصلاة تقوم مع المشي فيها. فَإِنْ قِيلَ: صلاة الخوف فيها مشيٌّ، فقامت. قيل: إن المشي ليس في فعل الصلاة؛ لأنهم في الوقت الذي يمشون لا يفعلون فعل الصلاة، وهو كما يقال: إن الصلاة لا تقوم مع الحدث، فإذا أحدث فيها فذهب ليتوضأ، ليس هو في وقت الحدث مصليًا، وإن بقي في حكم الصلاة. فعلى ذلك المشي في صلاة، ليس هو في فعل الصلاة، وإن كان باقيًا على حكم الصلاة؛ واللَّه أعلم. وقوله: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) يحتمل: قوله (كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) وقوله (فَاذْكُرُوا) يحتمل: أن يصرف إلى الصلاة، أي: صلوا كما علمكم أن تصلوا في حال الأمر. ويحتمل: أن يصرف إلى غيره من الأذكار، كقوله تعالى: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ). ويحتمل: أن يصرف إلى الشكر، أي: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واشكروها بي، كقوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ). واللَّه أعلم. وفي قوله: (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، وقوله: (عَلَّمَ الْقُرْآنَ)، و (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)، دليل أن اللَّه تعالى صنع في فعل العباد حيث أضاف التعليم إلى نفسه، وهو أن خلق فعل التعليم منه؛ إذ لو لم يكن منه فيه صنع لكان أضيف ذلك المعلم دون البيان؛ فدل إضافته إليه على أن له فيه فعلًا. نعوذ باللَّه من السرف في القول والزيغ عن الهدى. قال الشيخ، رحمه اللَّه تعالى، في قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ). أي: صلوا له كما علمكم من الصلاة في حال الأمن، إذ معلوم تقدم الأمر بالصلاة وتعليم حدودها. (وَقُومُوا) في الرخصة في التخفيف بحال العذر. ويحتمل: اذكروا اللَّه بشكر أنما أمنكم كما علمكم من الشكر له في النعم، وأى ذلك كان فهو الذي علمهم بعد أن كانوا غير عالمين به. واللَّه أعلم. ودل إضافة التعليم في هذه الآية، وكذلك في قوله: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)، وقوله: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ)، إليه على وجود الأسباب من اللَّه تعالى له في الأمرين على أن كان من اللَّه تعالى في أحد الأمرين ما ليس منه في الآخر، ومعنى الأسباب فيهما واحد؛ ثبت

(240)

أنه على خلق فعل التعليم ونفيه. واللَّه تعالى أعلم. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) وقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) قد ذكرنا فيما تقدم أنها تخرج على وجهين: على النسخ بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا). ويحتمل: على نسخ الوصية خاصة دون نسخ العدة، وأن الأمر بالاعتداد في الآيتين أمر واحد - أربعة أشهر وعشرًا، ونسخ الوصية بآية الميراث وبقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا وصية لوارث ". وفيه دلالة: أن للموصَى له خيارًا بين قبول الوصية وبين ردها. وفيه أيضا: أن له أن يردها إذا قبل بقوله تعالى: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)، إذ في الخروج ردها وذلك بعد القبول. وقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، قد ذكرنا فيما تقدم أنها تحتمل وجهين: تحتمل: ما فعلن في أنفسهن من معروف، من التشويف والتزيين. وكذلك روى في حرف ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -: " لا جناح عليهن أن يتشوفن ويتزين ويلتمسن الأزواج ". ويحتمل: وضعهن أنفسهن في الأكفاء بمهر مثلهن. واللَّه أعلم. وقوله: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) تحتمل الآية أن تكون في المطلقات المدخولات بهن وقد فرض لهن أن يأمر الأزواج

(242)

بالمتعة ندبًا، لا وجوبًا، على ما رُويَ عن الحسن بن علي - رضي اللَّه تعالى عنهما - أنه متع بعشرة آلاف، على ما رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ وابن عمر، رضيَ اللَّهُ تعالى عنهما، أنهما قالا: إن كنت من المتقين ومن المحسنين فمتعها. فهو أمر ندب، لا أمر إيجاب يجبر على ذلك. وإن كانت في المطلقة التي لم يدخل بها ولا فرض لها صداقًا فهو على ما يقوله - وهي واجبة يجبر على ذلك؛ فتخرج هذه الآية والتي قبلها، قوله تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)، على مخرج واحد، غير أن في إحديهما بيان قدر المتعة، وليس في الأخرى سوى ما ذكر. ويحتمل وجه آخر: وهو أن الأمر بالمتعة أمر بالإنفاق عليها والكسوة لها إذا دخل بها، ما دامت في العدة. أو على الاختيار على ما ذكرنا، لا على الإيجاب؛ إذ لو كان على الوجوب لكان في ذلك إيجاب بدلين -الصداق والمتعة- ولم يعرف عقد من العقود أوجب بدلين؛ فكذلك هذا. واللَّه أعلم. والثاني: أن الطلاق سبب إسقاط، لا سبب إيجاب. فإذا كان كذلك لم يجز أن يوجب السبب الذي هو سبب الإسقاط؛ لذلك لم يجب. واللَّه أعلم. وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) ما سبق ذكره من الأحكام من الأمر بالاعتداد، والإنفاق عليهن، والتمتع وغير ذلك (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، أمره ونهيه. قال الشيخ، رحمه اللَّه تعالى، في قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ): أي كما يبين في هذا يبين في جميع ما يعلم لكم إلى بيان ذلك حاجة على قدر ما أراد من البيان -من بيان كفاية أو مبالغة- ليعلم أن جميع ما إليه بالخلق حاجة داخل تحت البيان، يوصل إلى ذلك بقدر ما تحتمله العقول على ما يكرم اللَّه المجاهدين فيه في طلب مرضاته.

(243)

ولا قوة إلا باللَّه. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245). وقوله: (أَلَمْ تَرَ)، حرف تعجب وتنبيه، ليتأمل فيما يلقى إليه مما أريد الإنباء عنه، أو فيما قد كان سبق الإنباء عنه، ليتجدد بالنظر فيه عهدا. وعلى ذلك المعروف من استعمال هذه الكلمة، وكذلك وجه تأويله إلى الخبر مرة وإلى العلم به ثانية، وإلى النظر فيه ثالثاً، على اختلاف ما قيل. وفيه كل ذلك. واللَّه تعالى أعلم. قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ)، " ألم تخبر "، و" ألم تنظر "، ومثل هذا إنما يقال عن أعجوبة. فالقصد فيه - واللَّه تعالى أعلم - أنه جواب قوله: (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا)، أخبرهم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عن قصة هَؤُلَاءِ: أن جهلهم بآجال أُولَئِكَ حملهم على هذا القول؛ مثل جهل بني إسرائيل بآجالهم حملهم على الخروج من ديارهم حذر الموت، ثم لم ينفعهم ذلك بل أُميتوا. كذلك هذا. ثم اختلف في قصة هذه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أخرجوا فرارًا من الجهاد في سبيل اللَّه، فأماتهم اللَّه، ثم أحياهم، وأمرهم أن يخرجوا إلى الجهاد في سبيل اللَّه. وقال آخرون: وقع الطاعون في قريتهم، فخرج أناس وبقي أناس، فمن خرج أكبر ممن بقي، فنجا الخارجون، وهلك الباقون، فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلًا، فأماتهم اللَّه، ثم أحياهم. فلا تدري كيف كانت القصة. فإن كانت القصة في الفرار من الجهاد في سبيل اللَّه، وله نظير في الآيات، قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى

مَضَاجِعِهِمْ)، وقوله: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ)، وقوله: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) وقوله: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)، ومثله كثير في القرآن. وإن كانت القصة في الطاعون، فقد جاء الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " إذا كنتم في أرض وفيها وباء فلا تخرجوا فرارًا منها ". " وإذا لم تكونوا فيها فلا تدخلوها ". ومعناه واللَّه أعلم: أنهم إذا كانوا فيها يخرجوا مخرج الفرار إن تحولوا، أو أن الفرار أنجاهم إن لم يكونوا فيها فدخلوا فأصابهم فأماتهم اللَّه، يظنون أنهم إذا لم يكونوا فيها لم يصبهم ذلك. ففي الوجهين سيان القضاء. وقد جاء: " أن لا عدوى ولا هامة ". فَإِنْ قِيلَ: رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه كان إذا مر على حائط مائل أسرع المشي، كيف نهى عن الخروج عن أرض فيها وباء وطاعون؟ قيل: إن كل ما كان مخرجه مخرج آية وفيها إهلاكهم فذلك لا يكون إلا بأمر سبق

منهم، فحق مثله الفرار إلى اللَّه، لا إلى غيره. وأما انكسار الحائط فليس لأمر سبق منه، فجائز أن يأخذ منه حذره. هذا هو الفرق بينهما. واللَّه تعالى أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: ويجوز أن يكون فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليعلم أن مثله من الخوف لا يعد نقصانا في الدِّين؛ وذلك كالعدة تتخذ للحرب والأغذية للبدن، لا على ظن باللَّه أنه لا يملك الحياة دونها أو قهر العدو، ولكن على التأهب والائتمار؛ إذ قد جعل الذي خيف فيه والذي رجى. واللَّه تعالى أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)، حين أحياهم بعد ما أماتهم، وذلك فضل منه. و (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)، بكل نعمة أنعمها عليهم، يستحق الشكر من الخلق بذلك. هذه الآية على المعتزلة إذ قالوا: ليس لله أن يفعل بخلقه إلا الأصلح لهم في الدِّين، ولو فعل غير ذلك كان جائزا. فإذا كان هذا عليه، فأنى يكون الأفضل؛ وإنما يقال (ذو فضل)، و (ذو مَنٍّ)، إذا أعطى ما ليس عليه. وأما من أعطى ما كان عليه لا يقال: إنه (تفضل) أو (مَنٍّ)، كمن يقضي دينًا عليه لآخر لا يستوجب الشكر بذلك، لأنه قضى ما كان عليه قضاؤه؛ فكذلك اللَّه تعالى إذا أخبر أنه (ذو فضل) و (ذو مَنٍّ) لم يكن ذلك عليه، فاستوجب الشكر على الخلق بذلك. وباللَّه التوفيق. ثم الكلام في أن أُولَئِكَ ماتوا بآجالهم، أو لا بآجالهم؟ قالت المعتزلة: لم تكن آجالهم. ومن قولهم: أن لكل أحد أجلين: إن قتل فأجله كذا، وإن مات فكذا. قيل: ذلك تأجيل من لا يعلم أنه يقتل أو يموت، فإذا علم اللَّه أنه يموت لم يكتب له أجل القتل. وكذلك ما روي في الخبر: " أن صلة الرحم تزيد في العمر ". إذا كان في علم اللَّه تعالى في [الأزل] أنه يصل الرحم فكتب عمره أزيد ممن يعلم في [الأزل] أنه

(244)

يقطع ولا يصل؛ إذ لو حمل ذلك على ما يقولون هم لخرج فعله فعل من يجهل العواقب. فَإِنْ قِيلَ: فلِمَ يلام القاتل إذا قتل غيره بغير حق؟ قيل له: لأنه كتب أجل المقتول بقتل هو معصية بما علم اللَّه أنه ينقضي به. وكتاب الآجال هو بيان النهايات والأعمار. وقوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) قد ذكرناه متضمنًا فيما تقدم. وقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) عامل اللَّه تعالى بلطفه وكرمه الخلق معاملة من لا حق له في أموالهم، لا كمعاملة العباد بعضهم بعضًا، وإن كان العبيد وأموالهم كلهم له حيث طلب منهم الإقراض لبعضهم من بعض ثم وعد لهم الثواب على ذلك فقال: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً). ثم لما سمع اليهود ذلك قالوا: إن إله مُحَمَّد فقير، وهو قوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا ِإنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ). ومرة قالوا لما رأوا الشدة على بعض الناس فقالوا: إنما يفعل ذلك ببخله حيث قالوا: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ). فرأوا المنع إما للبخل وإما للفقر. فأكذبهم اللَّه في قولهم ذلك فقال: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ). قيل: (يَقْبِضُ)، أي يقتر، (وَيَبْسُطُ)، أي يوسع. وقيل: (يَقْبِضُ) ما أعطى، أي يأخذ. و (وَيَبْسُطُ) ويترك ما أعطى، ولا يأخذ منه شيئًا. وقيل: إنها نزلت في أبي الدحداح؛ وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " من تصدق بصدقة فله مثلها في الجنة. فقال أبو الدحداح: إن تصدقت بحديقتي، فلي مثلها في الجنة؟ فقال: نعم. وقال: وأم الدحداح معي؟ قال: نعم. وقال: والصبية معي؟ قال: نعم. فرجع أبو الدحداح فوجد أم الدحداح والصبية فيها، فقام على باب الحديقة، فنادى: يا أم الدحداح إِنِّي جعلت حديقتي هذه صدقة، واشترطت مثيلتها في الجنة، وأم الدحداح

والصبية فيها معي. قالت: بارك اللَّه لك فيما شريت، وفيما اشتريت أربيت. فخرجوا منها، فتركوا ما كانوا اجتنوا منها، وسلموا الحديقة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. فنزل قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا. . .) الآية. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) الآية، في توجيه الآية إليه: فمنهم من يوجهها إلى جميع المحاسن يؤثرها ويختارها لله، فله أضعاف ذلك في الموعود - آجلا وعاجلا - فالآجل ما وعد، والعاجل ثناء الناس وجلالة القدر له في القلوب، متعارف ذلك للأخيار. وسماه قرضا بما هو اسم المعروف، ليذكره عظم نعمه عليه، إن قبله قول المعروف بالشكر له في ذلك، وإن كان ذلك حقا له عليه. واللَّه أعلم. والثاني: ليعرف الخلق كيفية الصحبة والمعاشرة بينهم. إن اللَّه تعالى عامل عبده فيما هو له معاملة من يستحق الشكر منه بما يسدى إليه من النعم، ولله حقيقة ذلك، ليعقل الحكماء أن مثل ذلك في معاملة الإخوان، وفيما كان نعمه في الحقيقة أوجب وأحق، وليعظموا المعروفين بالمعروف بما أكرمهم اللَّه تعالى بالأسماء الجليلة. ولا قوة إلا باللَّه. ومنهم من يوجهها إلى الصدقات خاصة؛ سماها قرضا لوجوه: أحدها: أن جعل معاملة الفقراء والتصدق عليهم معاملة اللَّه تفضيلا لهم، على ما نسب مخادعة المؤمنين إلى اللَّه تعالى تعظيمًا لهم، فمثله الصدقة. ثم وعد فيه العوض لتصير الصدقة بمعنى الإقراض، إذ يرجع في عوضه، فيزول وجه الامتنان عن الفقير بما يأخذ منه البدل. وباللَّه التوفيق. والثاني: سمى ذلك قرضًا بما هو له على ما لم يزل اللَّه تعالى عود به عباده بالذي عرفوا به كرمه وجوده حتى سمى تسليم الذي له في الحقيقة قرضا كالتسليم إلى من لا حق له في الحقيقة، وعلى ذلك أمر الشراء بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، واللَّه أعلم. والثالث: أنه ذكرهم وجه القصد في الصدقات، والموقع لها، ليكون ذلك تبينًا لعظيم منه الفقر عليه إذ وصل به إلى اللَّه ذكره وأجل محله عنده، فيصير عنده أحد الأعوان له والأنصار على عظيم الموعود وجليل القدر عند اللَّه. فيحمده على ذلك ويشكر له دون أن يمن عليه أو يؤذيه. واللَّه الموفق.

(246)

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248). وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246). في هذه الآية والتي قبلها قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات؛ لأن القصة فيهم كانت ظاهرة في أهل الكتاب، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يختلف إلى أحد منهم، ولا نظر إلى كتبهم، ثم أخبر على ما كان، دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه عَزَّ وَجَلَّ. ثم فيه دلالة: أن كل نبي منهم كان إنما يشاور الأشراف من قومه والرؤساء منهم، وإليهم يصرف تدبير الأمور، ولا إلى السفلة منهم والرُّزالة. وفيه دلالة أيضًا: أن الأنبياء، صلوات اللَّه عليهم وسلامه، لم يكونوا يتولون الجهاد والقتال بأنفسهم، ولكن الملوك هم الذين يتولون ذلك. ثم الملوك هم الراجعون إلى تدبيرالأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، في أمر الدِّين والآخرة، حيث سألوا (ملكا) يقاتلون معه عدوهم. ذكر أن كفار بني إسرائيل قهروا مؤمنيهم فقتلوهم وسبوهم وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، فمضوا زمانًا ليس لهم ملك يقاتل عدوهم، فقال النبي لهم، وهو من نسل هارون ابن عمران أخى موسى: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ) عدونا، فقال لهم نبيهم: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) استخبار عن سؤالهم الذي سألوا، أحق هو أم شيء

(247)

أجروه على ألسنتهم من غير تحقيق، لئلا يستوجبوا العذاب بتركهم ذلك إذا أجيبوا وأعطوا ما سألوا وتمنوا؛ لما عرف من شدة القتال مع العدو والجهاد في سبيل اللَّه، وكراهية ذلك في كل قوم إلى أن بينوا أنهم عن حق سألوا لما تبينوا العلة التي حملتهم على ذلك، وغاية رغبتهم فيها، وما لأجله كان السؤال، إن قالوا: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)، من القتل، وأخذ الأموال وسبي الذراري. قوله تعالى: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ)، أي: فرض، (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)، فيه دلالة على أنه قد كان فيهم ما كان في هذه من قوله: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)، من كراهية القتال والجهاد في سبيل اللَّه. وقيل: (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر نفرًا لم يتولوا عما سألوا. ثم قال لهم نبيهم. قوله تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا (247) قيل: سمي " طالوتا " لطوله وقوته. وقوله: (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ). يتوجه مثل هذا الكلام وجهين: أحدهما: على الإنكار، فلا يحمل على الإنكار؛ لأنه كفر. والثاني: على الاسترشاد وطلب العلم لهم منه في ذلك عن جهة جعله له ملكًا، لما قد عرفوا أن لا يستوجب الملك، ولا يولى إلا أحد رجلين: إما بالوراثة من الآباء، أو بالسعة في المال، لذلك قالوا: (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)، لأنهم كانوا أبناء الملوك وأرباب الأموال. ثم بين لهم - عَزَّ وَجَلَّ - أن جهة الاختيار ليس إليهم، وأن سبب الملك ليس ما ذكرنا دون غيره، بل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يختار من يشاء لذلك بأسباب سوى ما ذكروا بفضل علم وبفضل قوة، حيث قال: (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ). قرر عندهم أن الملك يحتاج إلى فضل علم وفضل قوة.

ثم يحتمل قوله: (بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ)، علم الحرب والقتال. ويحتمل: علم الأشياء الأخر على حفظ الرغبة وغيره. قال الشيخ، رحمه اللَّه تعالى، في قوله: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ): فهو - واللَّه أعلم - لأي معنى جعل له الملك علينا؛ أو كيف يكون له الملك علينا، ونحت بظاهر الأسباب التي تحقق الملك أملك، فنكون بها أحق بالملك منه فبين اللَّه أن المعنى الذي له صار أحق بالملك منهم في ذلك الأمر. واللَّه أعلم. والحرف (أَنَّى) وإن كان مما يتعارف في الإنكار فليس هو كذلك في الحقيقة؛ إذ قد أخبرهم من هو نبي عندهم، ومن تقرر عنده نبوة أحد لا يحتمل تكذيبه إياه في هذا. والله أعلم. وقد يحتمل كون أهل النفاق فيهم، فيكون منهم الإنكار أيضًا كما كان أمثال ذلك في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يؤيد سؤالهم الآية حتى قال: (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) كذا. واللَّه تعالى أعلم. ويؤيد ذلك كثرة مخالفتهم إياه لما امتحنوا بالنهر. واللَّه الموفق. وفي هذا ونحو ذلك دلالة جواز الآيات بغير الرسل إذا كان فيها تصديق الرسل، وكذلك قصة مريم، وكذلك عمل صاحب سليمان، وغير ذلك مما جاء به الكتاب، لكن ذلك يجوز إذا كان منهم تصديق الرسول، فيكون في التحقيق كآيات لهم ظهرت على ألسن غيرهم أو أيديهم. ومن أراد بها ادعاء الرسالة لنفسه فيعجز عن ذلك، بل لا يكرم اللَّه بها من يعلم أنه يدعو إلى تصديق الكذب ومضاهاة الرسل. وبهذا يجاب لمن يعارض بمن يتعلم القرآن، ثم يأتي موضعًا لا يعرف فيحتج به في نبوته، مع ما في ذلك أوجه تمنع الاحتجاج به من ذلك، بما فيه من الإخبار عن الأسئلة والإنباء عن أمور لا توجد هنالك - واللَّه أعلم - وبما لايعلم أوله أنه من تعلم تقدم منه إلى من هو حجة له، أو عن وحي إليه، إذ لم يكن امتحن من قبل. والحجة ما يخرج من المعتاد وحمل الطبيعة، يكرم بها وقت الدعوة بلا سبب سبق منه في مثله ولا عناية. ولا قوة إلا باللَّه. وبعد فإنه قد ظهر في جميع من لسانه ذلك اللسان ممن لا يطاق الدفع لمثله ولا إنكار وانتشر أمر الآتي به، فيظهر بذلك كذبه، ويفتضح عند الدعوى قبل المحنة والتأمل فيما جاء به إلا أن يأتي به من ليس ذلك لسانه، ولا معنى للاحتجاج به في أمثالهم. واللَّه الموفق. وقوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (وَاسِعٌ)، أي غنى، يغني من يشاء ويعطيه، (عَلِيمٌ)، بمن يصلح للملك.

(248)

وقوله: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (248) وكأنهم سألوا نبيهم: ما آية ملكه؟ فقال لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت تحمله الملائكة. ذكر في القصة: أن التابوت يكون مع الأنبياء، إذا حضروا قتالا قدموا التابوت من بين أيديهم إلى العدو، ويستنصرون به على عدوهم. وفيه سكينة، كأنها رأس هرة فإذا أن ذلك الرأس سمع التابوت أنين ذلك الرأس دف نحو العدو، وهم يمضون معه ما مضى، فإذا استقر ثبتوا خلفه. فلما هربت بنو إسرائيل وعصوا الأنبياء سلط اللَّه تعالى عليهم عدوهم، وأخذوا منه التابوت لما سئموا وملوا، ثم رد عليهم بعد زمان طويل، وجعل ذلك آية من آيات ملك طالوت. فلا ندري كيف كانت القصة. ثم اختلف في قوله: (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ). قيل: (سَكِينَةٌ)، ريح هفافة، فيها صورة كوجه الإنسان. وقيل: السكينة لها وجه كوجه الهرة، لها جناحان، فإذا تصوتت عرفوا النصرة. وقيل: السكينة: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء (¬1). وقيل: (فِيه)، أي: في التابوت (سَكينَةٌ)، أي طمأنينة من ربكم، كأن التابوت في أي مكان كان اطمأنوا إليه وسكنوا. فلا ندري ما السكينة؟ سوى أننا عرفنا أن قلوبهم كانت تسكن إليه وتطمئن. فليس لنا إلى معرفة (السكينة)، وكيفيتها حاجة. وقوله: (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). قيل: " البقية " فيه رضاض الألواح -وهو كسرها- وثياب موسى، وثياب هارون. وقيل: عصا موسى، وعصا هارون. ¬

_ (¬1) أكثر هذه الأقوال من الإسرائيليات المنكرة.

وقيل: (البقية) قفيز من مَنٍّ، وهو الترنجبين الذي كان يأكله بنو إسرائيل في أرض التيه. وقيل: فيه سُنَّة موسى وهارون، وعلمهما. واللَّه أعلم بذلك. وفي الآية دليل جرى الآية على أيدي الأولياء، لما أعطى لطالوت آية لملكه تشبه آيات الأنبياء حيث أخبر أنه كان (تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) هي القوة في داره، وهم كانوا لم يمروا ذلك وقت حمل الملائكة إياه، لكن تلك الآيات في الحاصل تكون للأنبياء يجريها اللَّه تعالى على أيدي الأولياء إلا أن يكون للأولياء ذلك. ثم من ادعى من الأولياء بتلك الآيات النبوة لنفسه يعجزه اللَّه تعالى عن ذلك، ويخرج الآية من أن تصير آية له، نحو من أتى مدينة من المدائن التي لم يبلغ أهلها هذا القرآن، ولا عرفوه ولا سمعوا ذلك من أحد قط، فجعل يقرأ ذلك عليهم عن ظهر قلبه، وادعى بذلك رسالة لنفسه، أيسع أهل ذلك البلد أن يصدقوه فيما ادعى، أم لا؟ فإن لأصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، جوابان: أحدهما: بأن في القران ما يظهر به كذب هذا المدعى في دعوته من نحو قوله: (يَسْأَلُونَكَ) عن كذا، ومن نحو الأخبار، والحكايات، والقصص التي فيها مما لا يحتمل كونها إلا بتقدم أسباب فيكذبه ذلك، فلم يلزمهم تصديقه. وباللَّه العصمة. والثاني: قالوا: إذا ادعى ذلك به يعجزه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عن تلاوته، وإجرائه على لسانه، وادعاء ما ادعى بذلك. وكأن هذا أقرب. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252).

(249)

وقوله: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ (249) أي: من المدينة. : هم سبعون ألفا. وقيل: كانوا مائة ألف، سار بهم في حر شديد، فنزلوا في قفرة من الأرض، فأصابهم عطش شديد، فسألوا طالوت الماء، فقال لهم طالوت: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) قيل: نهر بين الأردن وفلسطين. وقيل: هو نهر فلسطين. وقيل: إنما قال لهم: إن اللَّه مبتليكم بنهر نبيهم. وقوله: (فَمَن شَرِبَ) غرفة كفاه، ومن شرب أكثر منه لم يروه؛ لأنهم عصوه. وقيل، (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي). أي: ليس معي على عدوي، أي: لا يخرج معي. ويجوز (فَلَيْسَ مِنِّي) من أتباعي وشيعتي. وجائز أن يكون به ظهور النفاف والصدف (مِنِّي) في الدِّين. (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي). يقول: (مِنِّي)، أي معي على عدوي. فيه دليل أن يسمى الشراب باسم الطعام، والطعام باسمه. (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) استثنى (الغرفة)، كأنه قال: من شرب منه فليس مني إلا غرفة. ففيه جواز الثنيا من الكلام المتقدم وإن كان دخل بين حرف الثنيا وحرف الأول شيء آخر. وهو يدل لأصحابنا، رحمهم اللَّه تعالى، حيث قالوا: فيمن أقر، فقال:

" لفلان على كُرُّ حنطة وكر شعير إلا نصف كر حنطة "، أنه يصدق ويلزمه من الحنطة نصف كر. ويحتمل أن يكون الثنيا على ما يليه قوله: (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً). وقيل: شرب شرب الدواب. و (الغرفة) هي شرب. وقوله: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) قيل: (القليل) هم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا اغترفوا غرفة واحدة بأيديهم، وكانت الغرفة يشرب منها هو وخدمه ودوابه. وقيل: إنما استثنى الغرفة باليد لئلا يكرعوا كراع الدواب، ففعل بعضهم ذلك، فرد طالوت العصاة منهم، فلم يقطعوا معه، وقطع معه الثلاثمائة والثلاثة عشر رجلًا وهو قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ). قيل: هو قول بعضهم لبعض: (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)؛ لأنهم أكثر منا، وكانوا مائة ألف، وهو ثلاثمائة وثلاثة عشر. واللَّه أعلم بذلك العدد. وقوله: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ) قيل: الذين يعلمون ويقرون بالبعث. (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ). أي: عددهم. وقيل: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ)، يعني يخشون أنهم يقتلون؛ لأنهم وطنوا أنفسهم على الموت، فطابت أنفسهم بالموت (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً). وقوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي بأمر اللَّه. لكنه لا يحتمل الغلبة بالأمر، ولكن (بِإِذْنِ اللَّهِ)، عندنا: بنصر اللَّه. وقوله: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). بالنصر والمعونة لهم.

(250)

وقوله: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ (250) يعني لقتالهم. وقوله: (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). يقول: اصبب. ويقال: أتمم علينا صبرا. وهكذا الواجب على كل من لقي العدو أن يدعو بمثل هذا. وعلى قول المعتزلة لا معنى لهذا الدعاء، لأنه قد كان فعل بهذا الأصلح. فاستجاب اللَّه دعاءهم، وهزم عدوهم؛ وهو قوله تعالى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ (251) قَالَ بَعْضُهُمْ: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، بأمر اللَّه. لكن لا يحتمل؛ لأنهم كانوا يقاتلون بالأمر، ولا يهزمون بالأمر. وقال آخرون: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، بعلم اللَّه، كان في علمه في الأزل أنهم يهزمونهم. وقيل: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، بنصر اللَّه. وهو أقرب. واللَّه أعلم. وقيل في القصة: إن داود، عليه السلام، كان راعيًا، وكان له سبعة إخوة مع طالوت خرجوا معه للقتال. ولما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أرسل داود إليهم لينظر ما أمرهم ويأتيه بخبرهم. قال: فأتاهم وهم في الصفوف. فبرز جالوت، فلم يخرج إليه أحد. فقال: (يا بني إسرائيل) لو كنتم على حق لخرج إليَّ بعضكم. فقال داود لإخوته: أما فيكم أحد يخرج إلى هذا الأقلف؟ قال: فقالوا: اسكت. قال: فذهب داود إلى طالوت، فقال: أيها الملك، إِنِّي أراكم تعظمون شأن هذا العدو. ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ قال طالوت: أنكحه ابنتي، وأجعل له نصف ملكي. فقال داود لطالوت: فأنا أخرج إليه. فلما قال داود: (أنا أخرج إليه)، قال له طالوت: من أنت؟ قال: أنا داود بن فلان. فعرفه طالوت، ورأى أنه أجلد إخوته. قال: فأعطاه طالوت درعه وسيفه. قال: فلما خرج داود في الدرع جرها في الأرض؛ لأن طالوت كان أطول منه. قال: فأخذ داود العصا ثم خرج إلى جالوت. فمر بثلاثة أحجار، فقلن: يا داود خذنا معك، ففينا ميتة جالوت. فأخذها ثم مضى نحوه. وعلى جالوت بيضة هي ثلاثمائة رطل. فقال له جالوت: إما أن ترميني، وإما أن أرميك؟ فقال له داود: بل أنا أرميك. فرماه بها، فأصابه

في آخرها، فوقعت في صدره، فنفذته وقتلته، وقتل الحجر بعد ما نفذ جنودًا كثيرة، وهزم اللَّه جنوده. وهو قوله: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ)، والقصة طويلة فلا ندري كيف كانت القصة وليس لنا إلى معرفتها حاجة (¬1). وقوله: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ). فالملك يحتمل: علم الحرب، وسياسة القتال؛ إذ لم يكونوا يقاتلون إلا تحت أيدي الملوك، وهو كقوله: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ). ويحتمل: (الْمُلْكَ)، بما عقد له من الخلافة؛ كقوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). وذكر: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) الأمرين لما كان من قرب زمانه على ما عليه ابتداء الآية أن الملك يكون غير نبي، فجمعا جميعًا له فيكون على ذلك تأويل الحكمة أنها النبوة. (وَالْحِكْمَةَ)، قيل: هي الفقه. وقيل: هي النبوة. وقد تقدم ذكره. وقوله: (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ). قيل: صنعة الدروع، كقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ). وقيل: كلام الطير، وتسبيح الجبال، كقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ). وذلك مما خص به داود دون غيره من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام. ويحتمل: (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)، أشياء أخر. وقوله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: دفع بالكفار بعضهم ببعض شرهم عن المسلمين، لما شغل بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض أعداء إلى أن لم يتفرغوا عن أنفسهم للمسلمين، وإلا كان ¬

_ (¬1) القصة تفتقر إلى سندٍ صحيح، وإن كانت روائح الإسرائيليات تفوح منها، ونعم ما قال المفسِّر - رحمه اللَّه -.

(252)

في ذلك فساد الأرض. وقال آخرون: دفع بالرسل والأنبياء شرهم عن المسلمين، وكفاهم بهم. وقال غيرهم: دفع بالمؤمنين بعضهم عن بعض - دفع بالمجاهدين في سبيل الله عن القاعدين عن الجهاد، وإلا لغلب المشركون على الأرض. وقيل: بدفع بالمصلي عمن لا يصلي، وبالمزكي عمن لا يزكي، وبالحاج عمن لا يحج، وبالصائم عمن لا يصوم. ثم اختلف في قوله: (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) وقيل: لو لم يدفع بعضهم ببعض لقتل بعضهم بعضًا، وأهلك فريق فريقًا، وفي ذلك تفانيهم وفسادهم، وفي ذلك فساد الأرض. وقال آخرون: لو لم يدفع لفسدت الأرض، أراد بفساد الأرض فساد أهلها؛ لأنه لو لم يدفع لغلب المشركون على أراضي الإسلام وأهلها. فإذا غلبوا فسد أهلها. وقال: (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)، إذا غلب المشركون عليها هدمت المساجد والصوامع، ففيه فساد الأرض. واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ). وعلى قول المعتزلة: ليس هو بذي فضل على أحد؛ لأن عليه أن يفعل ذلك، وأن يدفع ذلك كله عن المسلمين على قولهم، فإذا كان عليه ذلك لا يصير هو بما يدفع مفضلا ولا ممتنًّا. فنعوذ باللَّه من السرف في القول. وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) يحتمل قوله: (آيَاتُ اللَّهِ)، ما ذكره من قتل داود جالوت بالأحجار. ذكر في القصة مع ضعف داود وقوة جالوت، على ما قيل: إن قامته كانت قدر ميل، وإن بيضته كانت ثلاثمائة رطل. ويحتمل: ما ذكر من قيام القليل للكثير؛ لأنه قيل: إن جنود جالوت مائة ألف، وجنود طالوت ثلاثمائة وثلاثة عشر. وذلك من الآيات. ويحتمل: جميع ما قص اللَّه عليه في القرآن من خبر الأمم السالفة. واللَّه أعلم. وفي قتل داود جالوت، وقتل القليل الكثير، دليل: أنهم لم يقتلوا لقوة أنفسهم،

(253)

ولكنهم باللَّه وبنصره إياهم. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: من آيات وحدانيته: قتل داود جالوت مع ضعف داود وقوة عدوه. * * * قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254). وقوله: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) قوله: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) يحتمل: تفضيل بعضهم على بعض ما ذكر (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ)، ومنهم من اتخذه خليلا، ومنهم من سخر له الريح والطير، ما كان في الأنبياء مثله. ويحتمل: (بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، في الحجاج، والحجج على القوم؛ لأن فيهم من كان أكثر محاجة لقومه وأعظم حججا، وهو إبراهيم، صلوات اللَّه عليه وسلامه، وموسى. ويحتمل: " التفضيل " التمكين في الأرض، مكن لبعضهم ما لم يكن للباقين. ويحتمل: ذلك في الآخرة في الشفاعة، ورفع الدرجات. ويحتمل: (بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، في الرسالة؛ لأن منهم من أرسل إلى الإنس والجن جميعًا، ومنهم من أرسل إلى الإنس خاصة، ومنهم من أرسل إلى قومه خاصة، ومنهم من أرسل إلى نفر. واللَّه أعلم. وقد ذكرنا ألا يكون من اللَّه تفضيل لبعض الرسل على بعض على قول المعتزلة؛ لأنه فعل ما عليه أن يفعل، وكل من فعل ما عليه أن يفعل، فإنه لا يوصف بالفضل والإفضال؛ دل أنه ليس على ما يقولون ويذهبون إليه.

(254)

وقوله: (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، قد ذكرناه فيما تقدم. وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) هذه الآية والآيتان من بعدها - قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)، وقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)، على المعتزلة. لأنه أخبر أنه لو شاء ألا يقتتلوا ما اقتتلوا. وهم يقولون: شاء ألا يقتتلوا، ولكن اقتتلوا. والاقتتال هو فعل اثنين، وفيهم من اقتتل ظالما، وفيهم من اقتتل غير ظالم، دليله قوله: (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)، ثم قال: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)، أخبر أنه لو شاء ألا يقتتلوا ما اقتتلوا وأخبر أنه يفعل ما يريد ثبت الفعل في الإرادة وهم يقولون لا يفعل ما يريد. وكذلك قوله (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) أخبر أنه لو شاء ما اختلفوا وهم يقولون: شاء ألا يختلفوا ولكن اختلفوا ثم لا يجوز صرف الآية إلى مشيئة القسر والجبر؛ لأن المشيئة التي ذكرها اللَّه تعالى معروفة في الناس فلا يجوز صرفها إلى غير المشيئة المعروفة إلا بعد تقدم ذكر أو بيان أنها هي المرادة وقوله: (مَا اقْتَتَلُوا) ولا اختلفوا فجعلهم على أمر واحد ودين واحد كقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)، والمعتزلة يقولون: شاء أن يصيروا أمة واحدة ولكن لم يصيروا فنعوذ باللَّه من السرف في القول والقول في اللَّه بما لا يليق به. وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ (254) يحتمل الأمر بالإنفاق، أمر بتقديم الطاعات والمسارعة إلى الخيرات قبل أن يأتي يوم يمنعه ويعجزه عن ذلك وهو الموت. ويحتمل أمره بالإنفاق من الأموال في طاعة اللَّه من قبل أن يأتي يوم، وهو يوم القيامة (لَا بَيْعٌ فِيهِ) قيل: لا فداء، (وَلَا خُلَّةٌ)، (وَلَا شَفَاعَةٌ). يحتمل قوله: (وَلَا خُلَّةٌ) أي لا ينفع خليل خليله كما ينفع في الدنيا وكذلك لا شفيع تنفع شفاعته كما تنفع في الدنيا. ويحتمل: (وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)، أي: لا ينفع أحد أحدا، ولا يخال أحد أحدا، ولا يشفع أحد أحدا. ويحتمل: (يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ)، أنهم يملكون بيع أنفسهم من اللَّه تعالى ما داموا أحياء، فإذا ماتوا لم يملكوا، كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ). فأول الآية وإن خرج الخطاب للمؤمنين فالوصف فيها وصف الكافرين، لكن فيها زجر للمؤمنين مثل صنيع الكفار. وقوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) قيل: اللَّه هو اسم المعبود، وكذلك تسمي العرب

(255)

كل معبود إلها ومعناه - واللَّه أعلم - أن الذي يستحق العبادة ويحق أن يعبد هو اللَّه الذي لا إلا إلا هو لا الذي تعبدونه أنتم من الأوثان والأصنام التي لا تنفعكم عبادتكم إياها ولا يضركم ترككم العبادة لها. ويحتمل أن يكون على الإضمار: أن قل اللَّه الذي لا إله إلا هو لأنهم كانوا يقرون بالخالق ويقرون بالإله؛ كقوله عَزَّ وَجَلَّ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وكقوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) وكقوله: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ)، فإذا كانوا يقرون به فأخبرهم أن الذي يقرون به وشممونه هو اللَّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ويحتمل أن يكون لقوم من أهل الإسلام عرفوا اللَّه تعالى وآمنوا به، ولم يعرفوا نعته وصفته فعلمهم نعته وصفته أنه الحي القيوم إلى آخره. * * * قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) وقوله (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قيل هو الحي بذاته لا بحياة هي غيره كالخلق هم أحياء بحياة هي غيرهم حلت فيهم لابد من الموت، واللَّه عَزَّ وَجَلَّ يتعالى عن أن يحل فيه الموت؛ لأنه حي بذاته وجميع الخلائق أحياء لا بذاتهم، تعالى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عما يقول فيه الملحدون علوا كبيرا. والأصل: أن كل من وصف في الشاهد بالحياة وصف ذلك للعظمة له والجلال والرفعة. يقال: (فلان حي)، وكذلك الأرض سماها اللَّه تعالى (حية)، إذا اهتزت وربت وأنبتت، لرفعتها على أعين الخلق. فعلى ذلك اللَّه سبحانه وتعالى (حي) للعظمة. وكذلك الأرض سماها اللَّه تعالى: (حية) للعظمة والرفعة ولكثرة ما يكون يذكر في المواطن كلها، كما سمى الشهداء (أحياء)؛ لأنهم مذكورون في الملأ من الخلق. ويحتمل: أنه يسمى (حيًّا) لما لا يغفل عن شيء، ولا يسهو، ولا يذهب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وباللَّه العصمة. وقوله: (الْقَيُّومُ)، القائم على مصالح أعمال الخلق وأرزاقهم. وقيل: (الْقَيُّومُ)، هو القائم على كل شيء يحفظه ويعاهده، كما يقال: (فلان قائم على أمر فلان)، يعنون أنه يتحفظ أموره حتى لا يذهب عنه شيء.

وقيل: (هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، أي لا يغفل عن أحوال الخلق. وقوله تعالى: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ). قيل: (السِّنَة)، النعاس. وقيل: (السِّنَة)، هي بين النوم واليقظة، وسمى (وسنان). وقيل: (السِّنَة)، هي ريح تجيء من قبل الرأس، فتغشى العينين، فهو (وسنان) بين النائم واليقظان. ويحتمل قوله: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) على نفي الغفلة والسهو عنه؛ إذ لو أخذه، صار مغلوبًا مقهورًا، فيزول عنه وصفه (حي، قيوم)، كقوله: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) على نفي الغفلة. ويحتمل: أنه نفى عن نفسه ذلك؛ لأن الخلق إنما ينامون وينعسون طلبًا للراحة والمنفعة -إما لدفع حزن أو وحشة- فأخبر أنه ليس بالذي يحتاج إلى راحة، وإلى دفع حزن أو وحشة. وقيل: لا يفتر ولا ينام. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: والنوم والسِّنَة حالان تدلان على غفلة من حلَّا به، وعلى حاجته إلى ما فيه راحته، وعلى عجزه، إذ هما يغلبان ويقهران. فوصف الرب نفسه يما يعلو عن الذي دلا عليه من الوجوه. وقوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). وهو العالي على ذلك، القاهر له، لا تأخذه سِنة ولا وحشة، ولا معنى يدل على العجز والحاجة. ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، أخبر أن ما في السماوات وما في الأرض، عبيده وإماؤه، ليس كما قالوا: (فلان ابن الله)، و (الملائكة بنات الله)، بل كلهم عبيده وإماؤه، والناس لا يتخذون ولدا من عبيدهم وإمائهم، فاللَّه أحق ألا يتخذ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، أي: لا أحد يجترئ على الشفاعة إلا بإذنه. ثم اختلف في الشفاعة: قالت المعتزلة: لا تكون الشفاعة إلا لأهل الخيرات خاصة الذين لا ذنب لهم، أو كان لهم ذنب فتابوا عنه. ذهبوا في ذلك إلى ما ذكر اللَّه تعالى في قوله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)، أخبر أنهم يستغفرون للذين آمنوا وتابوا واتبعوا. فإذا كان الاستغفار في الدنيا إنما يكون للذين آمنوا وتابوا واتبعوا، فعلى ذلك الشفاعة إنما تكون في الآخرة لهَؤُلَاءِ. وأما عندنا: فإن الشفاعة تكون لأهل الذنوب؛ لأن من لا ذنب له لا حاجة له إلى الشفاعة. وقوله: (لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ)، يكون لهم ذنوب في أحوال التوبة، فإنما يغفر لهم الذنوب التي كانت لهم، فقد ظهر الاستغفار لأهل الذنوب؛ فعلى ذلك الشفاعة. فَإِنْ قِيلَ: أرأيت رجلًا قال لعبده: إن عملت عملًا تستوجب به الشفاعة فأنت حر، فأي عمل يعمله ليستوجب به الشفاعة حتى يعتق عبده: الطاعة، أو المعصية؟ قيل: الطاعة، فعلى ذلك الشفاعة، لا تكون إلا لأهل الطاعة والخير لا لأهل المعصية. قيل: إن الشفاعة التي يستوجبها أهل الذنوب إنما يستوجبون بالطاعات التي كانت لهم حالة الشفاعة؛ لأن أهل الإيمان وإن ارتكبوا مآثم ومعاصي فإن لهم طاعات، فبتلك الطاعات يستوجبون الشفاعة، كقوله: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا)، فالشفاعة في شره بخيره. وقالوا: لا شفاعة في الشاهد لأحد في الآخرة؛ لأن الشفاعة هي أن يذكر عن مناقب أحد عند أحد وخيراته، ليس سوءا، وكذا في الآخرة. والجواب لهم من وجهين: أحدهما: أنه إنما يذكر في الدنيا خيرات المشفع له لجهالة هذا بأحواله، فيذكر خيراته ليعرفه بها، فيشفع فيه. واللَّه تعالى عارف لا يتعرف.

والثاني: أن ذكر خيراته لحاجة تقع للمذكور له تكون في مثلها، لا تكون في الآخرة خاصة، واللَّه - تعالى - يتعالى عن الحاجة عما بالعباد؛ لذلك اختلفا. واللَّه أعلم. فإن قال لنا قائل: إن جميع ما ذكر في هذه الآية -من أولها إلى آخرها- كلها دعوى، فما الدليل على تلك الدعوى؟ قيل: يحتمل أن يكون دليله ما تقدم ذكره من قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. . .) الآية. والثاني: من أنكر الصانع فيتكلم أولا معه في حدث العالم، وحاجته إلى محدث، فإذا ثبت حدث العالم، فحينئذ يتكلم في إثبات الصانع ووحدانيته. وباللَّه التوفيق. وفي قوله تعالى: (واحد)، ليس من حيث العدد؛ لأن كل ذي عدد يحتمل الزيادة والنقصان، ويحتمل الطول والعرض، ويحتمل القصر والكسر، ولكن يقال: ذلك (واحد) من حيث العظمة والجلال والرفعة، كما يقال: فلان واحد زمانه، وواحد قومه، يعنون به رفعته وجلالته في قومه وسلطانه عليهم، جائز القول، فهم لا يعنون من جهة العدد؛ لأن مثله كثير فيهم من حيث العدد. واللَّه أعلم. وقوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ). هذا على المعتزلة؛ لأنهم لا يصفونه بالعلم، وقد أخبر أن له العلم. ثم احتمل: (عِلْمِهِ)، علم الغيب. وقال آخرون: علم الأشياء كلها. لا يعلمون إلا ما يعلمهم اللَّه من ذلك، كقول الملائكة: (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا). ومن قال: علم الغيب، فهو الذي قال: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ). وقوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)، وسع علمه. وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه. وقال آخرون: (كُرْسِيُّهُ)، قدرته، وهو وصف بالقدرة والعظمة. وقيل: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)، والكرسي هو أصل الشيء، يقال: كرسي كذا، والمراد منه أنه المعتمد والمفزع للخلق. وذلك وصف بالعظمة والقوة.

(256)

ويقال: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)، وهو خلق من خلقه. وقيل: إن الكرسي هو الكرسي، لكنه خلقه ليكرم به من يشاء من خلقه. ثم لا يجوز أن يفهم من إضافته إليه ما يفهم من الخلق، كما لم يفهم من قوله: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ)، و " نور اللَّه "، و " بيت اللَّه " ونحوه ما يفهم من إضافته إلى خلقه. فعلى ذلك لا يفهم من قوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)، وغيره من الآيات ما يفهم من الخلق بقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وقوله تعالى: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا). قيل: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)، لا يشق عليه حفظهما. وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه تعالى عنه، ورُويَ عنه أيضًا أنه قال: لا يثقل عليه. وقيل: (وَلَا يَئُودُهُ)، لا يجهده. وقيل: لا يعالج بحفظ شيء مثال الخلق. وقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). (الْعَلِيُّ) عن كل موهوم يحتاج إلى عرش أو كرسي، (الْعَظِيمُ) عن أن يحاط به. وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه -: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)، قال: علمه، ألا ترى إلى قوله: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)، كل شيء في علمه، لا يَئُودُهُ حفظ شيء، واللَّه أعلم. قال الشيخ: - رحمه اللَّه تعالى - (الْعَلِيُّ)، عن جميع أحوال الخلق وشبههم، و (الْعَظِيمُ) القاهر والغالب. * * * قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) وقوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). قيل: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، أي: لا يكره على الدِّين. فإن كان التأويل هذا فهو على بعض دون بعض.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في المجوس، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، أنه يقبل منهم الجزية، ولا يكرهون على الإسلام. ليس كمشركي العرب ألا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ولا يقبل منهم الجزية، فإن أسلموا وإلا قتلوا. وعلى ذلك رُويَ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه كتب إلى المنذر بن فلان: " أما الحرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية ". وعلى ذلك نطق به الكتاب (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ). وقال قوم: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أي: لا دين يقبل بإكراه، بل ليس ذلك بإيمان. والثاني: أن (الرُّشُدُ) هو قد تبين من الغي، وبين ذلك لكل أحد حتى إذا قبل الدِّين قبل عن بيان وظهور، لا عن إكراه. وقال آخرون: قوله: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، أي: لا إكراه على هذه الطاعات بعد الإسلام؛ لأن اللَّه تعالى حبب هذه الطاعات في قلوب المؤمنين فلا يُكرهون على ذلك. ومعناه: أن في الأمم المتقدمة الشدائد والمشقة، ورفع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ تلك الشدائد عن هذه الأمة وخففها عليهم، دليله قوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)، وقوله: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)، ومثل ذلك كثير، كانت على الأمم السالفة ثقيلة وعلى هذه الأمة مخففة، فإذا كانت مخففة عليهم لا يكرهون على ذلك. وقال آخرون: هو منسوخ بقوله عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على اللَّه ".

وقال آخرون: إن قومًا من الأنصار كانت ترضع لهم اليهود، فلما جاء الإسلام أسلم الأنصار، وبقي من عند اليهود من ولد الأنصار على دينهم، فأرادوا أن يكرهوهم، فنزلت الآية (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: ويحتمل (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ما قال في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). وقوله تعالى: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ). يعني قد تبين الإسلام من الكفر باللَّه فلا تكرهون على ذلك. وقوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ). اختلف فيه: قيل: (بِالطَّاغُوتِ)، الشياطين. وقيل: كل ما يعبد من دون اللَّه فهو طاغوت من الأصنام والأوثان التي تعبد من دون اللَّه " وقيل: (بِالطَّاغُوتِ)، الكهنة الذين يدعون الناس إلى عبادة غير اللَّه بكفر هَؤُلَاءِ وتكذيبهم. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: ومن جملته: ومن يكفر بالذي يدعو إلى عبادة غير اللَّه، ويكذبه في ذلك، ويؤمن بالذي يدعو إلى عبادة اللَّه، ويصدقه، أنه داع إلى حق. وقوله تعالى: (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ). فيه دلالة: أن الإيمان باللَّه هو إيمان بالأنبياء والرسل والكتب جميعًا، إذ لم يذكر معه غيره، والكفر بالذي ذكرت يمنع حقيقة الإيمان باللَّه؛ لأنه في آخر السورة ذكر (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)، على طريق التفضيل -، من آمن باللَّه آمن به وبأمره ونهيه وشرائعه - لكن الذي قال: (لَا نُفَرِّقُ

(257)

بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)، لقول قوم حيث قالوا: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وإلا لكان في الإيمان باللَّه إيمان بجميع ذلك. وقوله تعالى: (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). يحتمل هذا وجهين: يحتمل: فقد عقد لنفسه عقدًا وثيقًا لا انقصام لذلك العقد ولا انقطاع، لا تقوم الحجة ببعضه. ويحتمل: (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)، بنصره إياه بالحجج والبراهين النيرة التي من اعتصم بها لا انفصال بها عنه ولا زوال. ثم فيه نقض على المعتزلة؛ لأنه أخبر عَزَّ وَجَلَّ أن من آمن باللَّه فقد استمسك بكذا. والمعتزلة يقولون: صاحب الكبيرة يخلد في النار، وهو مؤمن باللَّه، فأية عروة أوهَى من هذا على قولهم؟ وأن له زوالاً وانقطاعًا من ثوابه الذي وعد له عَزَّ وَجَلَّ بإيمانه وتصديقه به. وباللَّه العصمة. وقوله تعالى: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ) لقولهم، (عَلِيمٌ) بثوابهم. أو (سَمِيعٌ)، بإيمانهم، (عَلِيمٌ)، بجزاء إيمانهم. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا (257) قيل: الولي: الحافظ. وقِيل: الولي: الناصر، وهو ناصر المؤمنين وحافظهم. وقيل: سمى وليًّا لأنه يلي أمور الخلق من النصر والحفظ والرزق وغيره. وعلى ذلك يسمى الولي وليًّا لما يلي أمور الناس. وقيل: قوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)، أي: اللَّه أولى بهم إليه رجاؤهم أطعمهم، وهو الذي يكرمهم، وأن الطاغوت أولى بالكافرين، كما قال: (وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)، أي أولى بهم. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ). وقوله: (يُخرِجُهُم)، بمعنى: أخرجهم. وجائز هذا في اللغة (يفعل) بمعنى (فعل)، و (فعل) بمعنى (يفعل)، جاز فيها، غير ممتنع عنه.

وقوله تعالى: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، و (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)، هو ابتداء نشوئهم عليه، ليس أن كانوا فيه ثم أخرجهم، كقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)، رفعها ابتداء، ليس أن كانت موضوعة ثم رفعها. فعلى ذلك الأول. والآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ إذ من قولهم: إن جميع ما أعطى مؤمن من الإخراج من الكفر، أعطى مثله الكافر؛ فكأنهم يقولون: أخرجهم جميعًا من الظلمة، وعليه إخراج الكفار أيضًا من الظلمات، إذ ذلك هو الأصلح له، وعليه أن يعطى ما هو الأصلح لهم في الدِّين. فإذا كان هذا قولهم، فهو ولي الكفرة والمؤمنين جميعًا على قولهم؛ إذ هو بالسبب الذي ذكر الولاية للمؤمنين فيعطى أيضًا للكفرة. فإن قالوا: إنه أضاف (الكفر) إلى الطاغوت، وأنتم تضيفونه إلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ؟ قيل: هو ظاهر الكذب؛ لأنا لا نضيف ذلك إليه (الكفر). إنما نقول: إنه خلق فعل الكفر من الكافر كفرًا، وخلق فعل النور من المؤمن نورا. على أنه إن كان هذا في الكفرة فما القول في الأول من قولكم: إنه منعم على المؤمن، ثم لا نعمة فيه على المؤمن إلا بالأمر والأقدار، والأقدار منه موجود للكافر في كفره على قولكم، ثم لا نعمة تقع في الأمر والدعاء للمؤمن إلا ويقع مثله للكافر، إذ هو في الأمر والدعاء كالمؤمن سواء. ولا قوة إلا باللَّه. وليس في القول: إنه خالق، بأنه خالق فعل كل أحد على ما عليه إضافة الكفر إليه، بل إنما يضيف الخير إليه بما منه فيه من الإفضال على الشكر له. فدل أن له عَزَّ وَجَلَّ في المؤمن فضل صنع، ليس ذلك له في الكافر. و (الكفر) في اللغة الستر، وكذلك (الظلمة): هي الستر. يقال: (كفرت الشيء) أي سترته، وكذلك يقال: (ليل مظلم)؛ لأنه يستر ضوء النهار ونوره، فيستر الأشياء عن أبصار الخلق. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. . .) الآية: دلت هذه الآية على أن كان من اللَّه إلى الذين آمنوا معنى لم يكن منه إلى الذين كفروا به كان إيمانهم، ولو لم يكن إلا الأمر والأقدار أو البيان، على ما قالت المعتزلة، لكان كل ذلك عندهم إلى الكفرة، فلا وجه لتخصيص المؤمنين بما ذكر،

وجعل الطاغوت أولى بالكافرين، وصنع اللَّه إلى كل واحد، ولم تكن من اللَّه تلك الزيادة، فإذا كان الذي ذكر لهم في أنفسهم فلا وجه للامتنان بذلك. ومن البعيد ذكر الامتنان فيما به الإلزام والأمر. وما ذكرت المعتزلة إنما هي أسباب الإلزام، ولولا ذلك كان أيسر عليهم وأقل لائمة. فكيف بمن بها ثبت أن كان منه فضل، ليس ذلك في أعدائه فيه استوجب الحمد منهم؛ ولهذا يضاف إليه الخيرات على الشكر له، وتوجيه الحمد إليه، ولا يضاف إليه الشر بما ليس في ذلك تشكر، إنما منه الخذلان بما علم من إيثار الكافر عداوته واختياره الكفر به؛ فلذلك لم يجز الإضافة إليه؛ والإضافة إلى اللَّه جل ثناؤه لا باسم الخلق يخرج مخرج التعظيم له والخضوع من العبد بالحمد له والشكر. ولا يجوز مثله فيما ليس فيه ذلك على ما لا يضاف إليه الأنجاس والخبائث والجواهر القبيحة، وإن كان من طريق الخلقة جرى عليها تدبيره وخرجت على تقديره. فعلى ذلك أفعال الخلق، وعلى ذلك القول بأنه رب كل شيء، وإله كل شيء. ثم على الإشارة لا يوصف بذلك في الأشياء الخاملة المستخف بها. فمثله الأول. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)، (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَومَ الظَّالِمِينَ)، (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَومَ الْفَاسِقِينَ)، ونحو ذلك يخرج على وجوه: أحدها: أنه لا يهديهم وقت اختيارهم ذلك، ويكون على ألا يخلق منهم فعل الهداية، وهم يختارون فعل الضلال. ويحتمل: من في علمه أنه لا يهتدي، فيرجع المراد به إلى الخاص. ويحتمل: لا يهدي طريق الجنة في الآخرة من كفر باللَّه في الدنيا. ويحتمل: لا يجعلهم في حكمهم، كقوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ). وقوله تعالى: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). ذكر أن الكفرة هم أصحاب النار، وذكر في آية أخرى أن الملائكة أصحاب النار بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً)، لكنه ذكر الملائكة أصحاب النار؛ لما يتولون تعذيب الكفرة فيها، فسماهم بذلك، وذكر الكفرة أصحاب النار؛ لأنهم هم المعذبون فيها، والملائكة هم معذبوهم بها. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا

(258)

مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ (258) فقد ذكرنا فيما تقدم أن قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ)، إنما يفتتح به لأعجوبة، كقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، وقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ). وفيه إباحة التكلم في الكلام والمناظرة فيه والحجاج بقوله: (حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ)، ورد على من يمنع التكلم فيه وهو كذلك؛ لأنا أمرنا بدعاء الكفرة جميعًا إلى وحدانية الله تعالى، والإقرار له بذلك، والمعرفة له أنه كذلك، وكذلك الأنبياء بأجمعهم أمروا وندبوا إلى دعاء الكفرة إلى شهادة أن " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له "، فإن دعوناهم إلى ذلك لا بد من أن يطلبوا منا الدليل على ذلك، والبيان عليه، والوصف له كما هو له، والتقرير عندهم أنه كذا، فلا يكون ذلك إلا بعد المناظرة والحجاج فيه؛ لذلك قلنا: أن لا بأس بالتكلم والمناظرة فيه. وفيه دلالة على إباحة المحاجة في التوحيد. وفيه الإذن بالنظر في النظر؛ لأنه حاجه لينظر. واللَّه أعلم. وقوله: (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ). قال أهل الاعتزال في قوله تعالى: (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ): هو إبراهيم، عليه السلام، لا ذلك الكافر؛ لقوله تعالى: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، أخبر أن عهده لا يناله الظالم، والملك عهد. لكنه غلط عندنا لوجوه: أحدها: أن إبراهيم، صلوات اللَّه عليه وسلامه، ما عرف بالملك. والثاني: أن الآية ذكرت في محاجة ذلك الكافر إبراهيم، ولو كان غير ملك، وكان إبراهيم، عليه السلام، هو الملك، لم يقدر المحاجة مع إبراهيم، عليه السلام إذ لا

محاجة إلا عن ملك؛ دل أنه هو الذي كان الملك. والثالث: قال: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، ثم قيل: إنه جاء برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر. فلو لم يكن ملكا لم يتأت له ذلك بين يدي إبراهيم، إذا كان إبراهيم، صلوات اللَّه عليه وسلامه، هو الذي (آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)، فدل أن المراد به ذلك الكافر. ثم (الْمُلْكُ) يكون في الخلق بأحد أمرين: إما الفضل والشرف والعز والسلطان والدِّين، وإما من جهة الأموال والطول عليها والقهر والغلبة. فإن لم يكن له (الْمُلك) من جهة الأول لكان له ذلك بفضول الأموال؛ لذلك كان ما ذكرنا. واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: أعطي (الملك) ليمتحن به، كما يعطى الغنى والصحة ليمتحن بهما. وقوله تعالى: (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ). وكان هذا من إبراهيم - عليه السلام - واللَّه أعلم - عن سؤال سبق منه أن قال له ذلك الكافر: من ربك الذي تدعوني إليه؟ فقال: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وإلا لا يحتمل ابتداء الكلام بهذا على غير سبق سؤال كان منه. وهو ما ذكر في قصة فرعون حيث دعاه موسى إلى الإيمان بربه، (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)، فعلى ذلك الأول. وقوله تعالى: (قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). أنه دعا برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر، على ما قيل في القصة. (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ). قال بعض الجدليين: هذا من إبراهيم، عليه السلام، صرف المحاجة إلى غير ما كان ابتداؤها، ومثله في الظاهر انقطاع وَحَيد عن الجواب؛ لأن من حاج آخر شيئًا، وناظره فيه لعلة ضمن وفاء تلك العلة وإتمامها إلى آخره، فإذا اشتغل بغيرها كان منه انقطاع عما ضمن وفاءها؛ فإبراهيم اشتغل بغيرها وترك الأول وهو في الظاهر انقطاع؛لأن جوابه أن يقول: أنا أفعل كما فعلت، أو أن يقول له: إن هذا الحي كان حسا، ولكن أحيي هذا الميت. لكنه، صلوات اللَّه عليه وسلامه، فعل هذا ليظهر عجزه على الناس؛ لأن ذلك كان منه تمويهًا وتلبيسًا على قومه أخذ به قلوبهم، فأراد إبراهيم، صلوات اللَّه عليه وسلامه، أن

(259)

يظهر عليه من الحجة ما هو أظهر وأعجز له، وآخذ للقلوب. والثاني: أراد أن يريه أن هذا مما قدر عليه بغيره، إذ الذي لم يجعل له القدرة عليه لم يقدر عليه، ثم لما ثبت عجزه في أحدهما يظهر عجزه في الآخر. واللَّه أعلم. وقيل: بأن هذا من إبراهيم انتقال من حجة إلى حجة، ليس بانقطاع. وهو جائز. وقوله: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)، قيل: انقطع وتحير. وقوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). ذكر الظالم؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير محله، حيث هذا اللعين المحاج في غير موضعه. وقوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ (259) قيل: هو نسق قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ). وقيل: هو نسق على قوله: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)؛ لأنه بذلك أنكر البعث. ثم اختلف في المار على القرية: قَالَ بَعْضُهُمْ: كافر قال ذلك. وقال آخرون: لا، ولكن قال ذلك مسلم. وقال أكثر أهل التأويل: هو عزير. فإن كان قائل ذلك كافرًا فهو على إنكار البعث والإحياء بعد إماتة. وإن كان مسلمًا فهو على معرفة كيفية الإحياء، ليس على الإنكار، وهو كقول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). وليس لنا إلى معرفة قائله حاجة، إنما الحاجة إلى معرفة ما ذكر في الآية. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا). قيل: خالية من سكانها. وقيل: (خاوية)، ساقطة سقوفها على حيطانها، وحيطانها على سقوفها.

وقوله تعالى: (قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا). هو على ما ذكرنا. وقوله تعالى: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ). أراد - واللَّه أعلم - أن يرى الآية في نفسه، والآية هي آية البعث، ويحتمل أن تكون آية في المتأخرين. وقوله تعالى: (قَالَ كَمْ لَبِثْتَ). سأل منه - جل وعلا - الاجتهاد بظاهر الحال الذي ظهر عنده، ليظهر أنه اجتهد بدليل أو بغيره على ما يدركه وسعه؛ فبان أن المجتهد يحل له الاجتهاد بما يدرك في ظاهر الحال، وإن كان حكم ما فيه الاجتهاد بالغيب. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: أراد اللَّه تعالى بقوله: (كَمْ لَبِثْتَ)، التنبيه؛ كقوله لموسى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى)، ليريه الآية من الوجه الذي هو أقرب إلى الفهم ثم جهة الأعجوبة فيه بوجهين: مرة بإماتة الحمار، إذ من طبعه الدوام، ومرة بإبقاء طعامه، ومن طبعه التغير والفساد عن سريع. جعل في بقاء طعامه وحفظه من الفساد آية ومن طبعه الفساد، وفي إحياء حماره بعد إماتته وطبعه البقاء؛ ليعلم ما نازعته نفسه في كيفية الإحياء درك ذلك؛ وهو قوله: (قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ثم قيل في وجهةِ ما أراه بأوجه. قيل: إنه أحيا عينيه وقلبه، فأدرك بهما كيفية الإحياء في بقية نفسه. وقيل: أحيا نفسه، فأراه ذلك في حماره. وقيل: إنه أراه ذلك في ولده؛ لأنه أتى شابًّا، وولده وولد ولده شيوخ. وذلك آية. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ. . .) الآية: فإن قال قائل: كيف سأله عن لبثه، وقد علم أنه لم يكن علم به؟ وأيد ذلك إخباره بقوله (لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ). قيل: القول (كَمْ لَبِثْتَ)، يحتمل وجهين؛ وكذلك القول بقوله: (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ

عَامٍ). أحدهما: على قول ألقي إليه ونطق أسمع هو. والثاني: أن يكون على ما حدثته نفسه بمدة لبثه في حال نومه، فتأمل في ذلك أحوال نومه، وأخبر عما عاين من أحوال الوقت الذي كان فيه مما كان ابتداؤه وقت نومه، فقال بالذي ذكرتم لَمَّا تأمل شأن الحمار، واستخبر عن الأحوال، قالت له نفسه: (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ)، ثم أمعن نظره في حماره، وما رأى من تغير أحواله، وأبقاه اللَّه تعالى على ما ذكر. وكل ذلك خبر عما حدثته نفسه، هي بعثه، على التفكر في أحواله، والنظر فيما عاين من أمر الحمار، أو كان علم أن ذلك موت فيه، لكنه استقل ذلك بما شهد نفسه بما عاينها على ما كانت عليها. فلما تأمل شأن حماره وعلم أنه رفع إلى آيات عجيبة، فزع إلى اللَّه تعالى، فأنباه اللَّه تعالى بالذي وصف في القرآن. واللَّه أعلم. ولو كان على القول فإن في السؤال عما يعلم السائل جهل المسئول وجهين: أحدهما: الامتحان على ما به ظهور أحوال الممتحن من الاجتهاد في تعريف الحقائق بالاستدلال والخضوع له بالاعتراف بقصوره عن الإحاطة به، كفعل الملائكة عند قوله تعالى: (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ)، بقولهم: (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)، والأول كما فعل صاحب هذا أنه قال: (لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، ومثله أمر أصحاب الكهف. واللَّه أعلم. والثاني: أن يراد بالسؤال التقرير عنده؛ ليكون متيقطا لما يراد به من الاطلاع على الآية، كما قال لموسى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى. . .) الآية. وهذا فيما كان السؤال في الظاهر خارجًا في الحقيقة مخرج المحنة، نحو ما ذكرنا في أمر الملائكة، وأمر موسى، عليه السلام، فأما السؤال الذي هو في حق السؤال إنما هو في حق الاستخبار، ليعلم ما عليه حقيقة الحال بالسؤال. لكن الذي ذكرت فيما كان سبيله أن يكون من له الامتحان. ولا قوة إلا باللَّه. وقوله تعالى: (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ). قيل: لم يأت عليه السنون، أي: كأنه لم يأت عليه السنون. وقيل: (لَمْ يَتَسَنَّهْ)، لم يتغير ولم ينتن.

(260)

والأول أشبه؛ لأنه يقال من التغير والتنتن: لم يتسنن. وقوله تعالى: (وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا). وهو من الأحياء. و (نُنْشِزُهَا) بالزاي - وهو من الارتفاع والنصب. وفيه لغة أخرى: " ننشرها " بالراء، وهو من الإحياء. و " ننشرها " من النشر. وقوله تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (أَعْلَمُ)، بالنصب والخفض: فمن قرأه بالنصب، صرف قوله: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ)، إلى المسلم. ومن قرأ (اعلم) بالخفض صرف إلى الكافر، يقول اللَّه له: اعلم أن اللَّه على كل شيء قدير. ويحتمل أيضًا صرفه إلى المسلم: " واعلم "، على الإخبار، كأنه قال: اعلم ما كنت تعلمه غيبًا مشاهدة. وفي هذه الآيات إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك أن هذه القصص كانت ظاهرة بينهم، ولم يكن له اختلاف إليهم، ولا النظر في كتبهم، ثم أخبر على ما كان؛ ليعلم أنه إنما علم ذلك باللَّه عَزَّ وَجَلَّ ثناؤه. وقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) قَالَ بَعْضُهُمْ: كان إبراهيم، عليه السلام، موقنا بأن اللَّه يحيي الموتى، ولكن أحب أن يعاين ذلك؛ لأن الخبر لا يكون عند ابن آدم كالعيان، على ما قيل: " ليس الخبر كالمعاينة ". وقيل: يحتمل سؤاله عما يسأل لما نازعته نفسه وحدثته في كيفية الإحياء، وقد تنازع النفس وتحدث بما لاحاجة لها إليه من حيث نفسه؛ ليقع له فضل علم ومعرفة. وقيل: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، أي: ليسكن قلبي وأعلم أنك قد استجبت لي فيما دعوتك، وأعطيتني الذي سألتك. وقيل: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)، أي: أو لم توقن بالخلة التي خاللتك؟ قال: بلى.

(261)

سأل ربه على الخلة. وقيل: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)، قال: (بَلَى)، (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، بأنك أريتني الذي أردت. ويحتمل: أن يكون إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، أراد بسؤاله ذلك أن تكون له آية حسية؛ لأن آيات إبراهيم كلها كانت عقلية، وآيات سائر الأنبياء كانت عقلية وحسية، فأحب إبراهيم، صلوات اللَّه عليه وسلامه، أن تكون له آية حسية، على ما لهم، كسؤال زكريا ربه حيث قال: (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَاتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) جعل له آية حسية؛ فعلى ذلك سؤال إبراهيم، عليه السلام. وقوله تعالى: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ). معناه: وجههن إليك، كقول الرجل: " صر وجهك إليَّ "، أي: حول وجهك إليَّ. وروي في حرف ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -: " فصِرْهن إليك "، بالكسر، بمعنى قطعهن، قيل: هو التقطيع. وقيل: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)، اضممهن. * * * قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) وقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) يحتمل ضرب مثل النفقة في سبيل اللَّه بالحبة التي ذكر وجهان: أحدهما: أن يبارك في تلك النفقة، فيزداد وينمو، على ما بارك في حبة واحدة فصارت سبعمائة وأكثر. والثاني: قال: (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)، ورأوا الصدقة تتلف وتتلاشى في أيدي الفقراء فقالوا: كيف تربى، وهي تالفة؟ فقال: تربى كما أربي الحبة في الأرض بعد ما تلفت فيها وفسدت، فصارت مائة وزيادة. فعلى ذلك الصدقة في طاعة اللَّه والنفقة فيما يربى وإن كانت تالفة.

(262)

وقيل: إنها منسوخة بالفرائض. لكن هذا لا يحتمل؛ لأنه نسخ وعد في الآخرة، والوعد لا يحتمل النسخ، إلا أن يعنون نسخ عين الصدقة بغيرها، فأما الوعد فهو حالة. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). قيل: (وَاسِعٌ)، غني. وقيل: (وَاسِعٌ)، جواد، يوسع على من يشاء. وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى (262) قال المفسرون: للجهاد، خصوا الجهاد بهذا. واللَّه أعلم. لأن العدو إذا خرجوا لقتال المسلمين خرجوا للشيطان، ويسلكون سبيله وطريقه، والمؤمنون إنما يخرجون ليسلكوا طريق اللَّه تعالى، وينصروا دينه وأولياءه؛ لذلك كان التخصيص له لقولهم، وإلا كان يجيء أن يسمى الطاعات كلها والخيرات (سبيل الله)؛ لأنه سبيل اللَّه وطاعته، كقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا). وقوله: (ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى). اختلف فيه: قيل: (مَنًّا)، على اللَّه، و (أَذًى)، للفقير. وقيل: (مَنًّا)، على الفقير، و (أَذًى)، له. ثم قيل: منه على الفقير عد ما أنفق عليه وتصدق، وأذاه وتوبيخه عليه بذلك. وأما منُّه على اللَّه تعالى؛ كقوله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17). وقوله تعالى: (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وقد ذكرنا تأويله فيما تقدم. وقوله تعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) قيل: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، كلام حسن، يدعو الرجل لأخيه بظهر الغيب. وقيل: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، يستغفر اللَّه ذنوبه في السر و (وَمَغْفِرَةٌ) له، يغفر له، ويتجاوز عن مظلمته. وقيل: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، الأمر بالمعروف خير ثوابا عند اللَّه من صدقة فيها أذى ومن.

(264)

فَإِنْ قِيلَ: كيف جمع بين قول المعروف والمغفرة وبين الأذى والمن، فقال: (خير من كذا. .)، وأحدهما خير والآخر شر، وإنَّمَا يفعل هذا إذا كانا جميعًا خيرين، فيقال: " أيهما أخير "؟ قيل: معناه - واللَّه أعلم - هذا خير لكم من ذلك، وهو كقوله: (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ)، أي: خير لكم في الآخرة من اللهو والتجارة، في دنياكم، وإن لم يكن اللهو والتجارة من جنس ما عند اللَّه، فعلى ذلك الأول. ويحتمل: أن تكون الآية على الابتداء، لا على الجمع: هذا خير، وهذا شر. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: ووجه ذلك أن الصدقة قربة، وهي خير، فإذا أتبعها الأذى أبطلها، فيكون (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، أي: رد جميل للسائل خير من إجابة في البذل، ثم الرد بالأذى؛ لأن هذا يبقى، وإن كان لا ينشفع به الآخر، والصدقة لا، وإن كان ينتفع بها الفقير. واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (المن) و (الأذى)، أن يقول للسائل: خذه، لا بارك اللَّه فيه لك. وقوله تعالى: (وَاللَّهُ غَنِيٌّ)، عن صدقاتكم، (حَلِيمٌ)، لا يعجل بالعقوبة عليكم بالمن والأذى. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) المن والأذى: ما ذكرنا.

ثم جهة البطلان - واللَّه أعلم - أن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وعد لمن تصدق الثواب عليها، بقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)، وقال: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) وقال في آية أخرى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ. . .) الآية. وإن كانت تلك الأموال في الحقيقة له أعطاهم الثواب على ذلك، فأخبر أن من أعطى آخر شيئًا ببدل لا يمن عليه، كالمبادلات التي تجري بين الناس، ألا يكون لبعض على بعض جهة المن، إذا أخذ بدل ما أعطاه، وأن يقال: إن الأموال كلها لله تعالى، فإنما أعطى ماله، وكل من أعطى ماله آخر لا يستوجب ذلك حمدًا ولا مَنًّا. ثم اختلف في قوله تعالى: (كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هم المنافقون، كانوا ينفقون أموالهم رياء. دليله قوله تعالى: (وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، شبه الصدقة التي فيها (مَنٌّ) و (أذىً) بالصدقة التي فيها رياء. وذلك - واللَّه أعلم - أن الصدقة التي فيها (مَنٌّ) و (أذى) لم يبتغ بها وجه اللَّه، فكان كالصدقة التي ينفقها للزيادة لا يبتغى بها وجه اللَّه تعالى أوقال آخرون: كل صدقة فيها رياء فذلك، كافرًا كان منفقها أو مسلما؛ لأنها لم يُبتغَ فيها وجه اللَّه تعالى، والدار الآخرة. ثم ضرب المثل للصدقة المبتغى بها الرياء، والصدقة التي فيها المن والأذى بالصفوان الذي عليه التراب: وهو الحجر الأملس، فقال: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا). قيل: (الوابل) هو المطر الشديد عظيم القدر. وفي ضرب الأمثال تعريف ما غاب عن الأبصار بما هو محسوس؛ وذلك أن الصفوان الذي به ضرب المثل، والتراب محسوس، ومن التراب جعل الأغذية للخلق والدواب. ثم الثواب الذي وعد للصدقة ليس بمحسوس، بل هو غائب، فعرف الغائب بالمحسوس. فقال: لما كان التراب الذي به تكون الأغذية يذهب بالمطر الشديد حتى لا يبقى له أثر،

(265)

فكذلك الثواب الذي يكون للصدقة يذهب ويتلاشى حتى لا يُظفر بها بالمن والأذى والرياء، كما أذهب المطر التراب الذي على الصفوان، فصار صلدًا، لا شيء عليه من التراب. وقوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَومَ الْكَافِرِينَ). قالت المعتزلة: لا يهدي القوم الكافرين بكفرهم الذي اختاروا. وقلنا نحن: لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر، ويهديهم وقت اختيارهم الإيمان. وفي قوله: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى)، وجه آخر، هو أن يحتمل قوله: (مَعْرُوفٌ)، هذه التسبيحات والثناء والحمد، (وَمَغْفِرَةٌ)، ستر ما ارتكب من المأثم. وقوله: (خَيْرٌ)، أي أحب على البذل من صدقة يتبعها أذى. واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) في الأمثال التي ضربها اللَّه تعالى وذكرها في القرآن وجوه: أحدها: جواز قياس ما غاب من الحكم عن المنصوص بالمنصوص إذا جمعهما معنى واحد. والثاني: أن علوم المحسوسات والمشاهدات هي علوم الحقائق، وهي الأصول التي بها يستدل ويوصل إلى صرفة الغائب. والثالث: فيها إثبات رسالة مُحَمَّد، عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات، وذلك أن العرب كانت لا تضرب الأمثال، ولا كانت تعرفها في أمر التوحيد وتعريف ما غاب عن حواسهم من أمر القيامة ونحو ذلك. ثم بعث اللَّه تعالى محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنزل عليه القرآن، وذكر فيه الأمثال؛ ليذكرهم تلك الأمثال ليعلموا أنه إنما عرفها باللَّه عَزَّ وَجَلَّ، لا أنه أنشأ هذا القرآن من تلقاء نفسه. وذلك من آيات نبوته ورسالته. وعلى ذلك جعل عدم الكتابة وإنشاء الشعر من آيات نبوته ورسالته؛ لأن من عادة العرب إنشاء الشعر والكتابة، ويفضلون أربابها على غيرهم؛ لئلا يعرف هو بها، ويقولون: إنه أخذ من الكتب، أو اختلق من نفسه، كقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ

بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ). والرابع: فيها دلالة أن اللَّه - جل وعلا - خالق الدنيا وما فيها من المحاسن والخبائث، والأعالي والخسائس، حيث ضرب مثل الرفيع بالرفيع والخسيس بالخسيس؛ فدل أن خالق هذه الأشياء كلها هو اللَّه تعالى، لا شريك له ولا شبيه. ثم شبه الصدقة التي هي لله - عَزَّ وَجَلَّ - مرة بالربوة من الأرض: وهي المرتفعة منها، ومرة بالحبة التي تنبت كذا كذا سنبلة، وفي كل سنبلة كذا كذا حبة، ومرة بالأضعاف المضاعفة؛ كقوله: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً). فهو - واللَّه أعلم - لما علم عَزَّ وَجَلَّ رغبة الناس مرة في العدد في الدنيا، ومرة في البساتين المرتفعة أرضها وتربتها ليشرفوا على غيرهم من الخلائق والبقاع، ومرة في الكثير من الأشياء والعظيم منها رغبهم عَزَّ وَجَلَّ في الصدقة بما ذكرنا من الأشياء لعلمه برغبتهم فيها، ليرغبوا في ذلك. واللَّه أعلم. وعلى ذلك حرم اللَّه تعالى الصدقات على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان يرغب الناس في الصدقة؛ لئلا يظنوا فيه ظن السوء ويقولون: إنه إنما يرغبهم فيها لينتفع هو بها. وقوله تعالى: (وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) واختلف فيه: قيل: (وَتَثْبِيتًا): تصديقا، كقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7). وقيل: (وَتَثْبِيتًا)، أي: تيقينا بالإسلام. وقيل: يثبتون في مواضع الصدقة. وقيل (وَتَثْبِيتًا) في الصدقة، إذا كانت لله أمضى وتصدق بها، وإن خالطه شيء أمسك. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ). قيل: الربوة: المرتفع من الأرض. وقيل: الربوة: الظاهر المستوي من المكان.

(266)

وقوله تعالى: (أَصَابَهَا وَابِلٌ). والوابل: قد ذكرنا أنه المطر الشديد العظيم القطر. وقوله تعالى: (فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ)، يعني الحبة أضعفت في ثمرها في الحمل ضعفين حين أصابها وابل. كذلك الذي ينفق ماله لله في غير منة يمن بها يضاعف نفقتها، كثرت النفقة أو قلت. وقيل: يضاعف اللَّه للمنفق الأجر مرتين. وقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ). والطل، هو المطر الضعيف. وقيل: هو الطش من المطر. وقيل: هو الرذاذ من المطر مثل الندى، لا تزال الحبة خضراء دائمًا ثمرها، قل أو كثر. وقوله: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) ليس لهذا الخطاب جواب؛ لأن جوابه أن يقول: يود، أو لا يود. لكن الخطاب من اللَّه تعالى يخرج على وجوه ثلاثة: خطاب يفهم مراده وقت قرعه السمع. وخطاب لا يفهم مراده إلا بعد النظر فيه والتفكر والتدبر، وهو كقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وكقوله عز وجل: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، و (يَعْقِلُونَ). وخطاب لا يفهم مراده إلا بالسؤال عنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو من له علم في ذلك؛ كقوله تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)، وكقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). فإذا كان ما ذكرنا، فيحتمل أن ما ترك من الجواب للخطاب إنما ترك للطلب والبحث

عنه والتفحص. ثم إن هذا الخطاب يحتمل أن يكون في أهل النفاق؛ وذلك أن المنافق يرى من نفسه الموافقة لأهل الإسلام في الظاهر، وهو مخالف لهم في السر، وعنده أنه يستحق الثواب بذلك وقت الثواب، كان كصاحب الضيعة التي ذكرت في الآية: أن صاحبها يغرس فيها الغرس، وينبت فيها النبات في حال شبابه وقوته؛ رجاء أن يصل إلى الانتفاع بها في وقت الحاجة والضعف، فإذا بلغ ذلك واحتاج - حيل بينه وبين الانتفاع فيها. فكذلك المنافق الذي كان دينه لمنافع في الدنيا وسعة لها، إذا بلغ إلى وقت الحاجة حرم ذلك. وكذلك هذا في الكافر؛ لأنه رأى لنفسه النفع بعمله لوقت تأمله كصاحب الضيعة، ثم عند بلوغه الحاجة حرم عنه ذلك لاعتراض ما اعترض من الآفة، وهو كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا)؛ لأن الكافر بما يدين من الدِّين إنما يدين لنفع يتأمله في الدنيا، والمؤمن إنما يدين بما يدين لنفع يتأمله ويطمع في الآخرة. فرجاء الكافر في غير موضعه؛ لذلك كان ما ذكر. والله أعلم. ثم الأمثال التي ضربت ينتفع بها المؤمنون؛ لأن نظرهم ما في الأمثال من المعنى المدرج والمودع فيها، لم ينظروا إلى أعينها. وأما الكفار إنما ينظرون إلى أعين الأمثال، لا إلى ما فيها، فاستحقروها واستبعدت عقولهم ذلك؛ لذلك قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، و (يَعْقِلُونَ). ووجه ضرب هذا المثل: هو أن الكافر يحرم أجره عند أفقر وأحوج ما كان إليه، كما حرم هذا نفع بستانه عند أفقر وأحوج ما كان إليه حين كبرت سنه وضعفت قوته، ولا حيلة له يومئذ. وقوله تعالى: (إِعْصَارٌ). قال ابن عَبَّاسٍ: الإعصار: ريح فيها سموم. وقيل: الإعصار: ريح فيها نار تحرق الأشجار. وقيل: هي الريح تسطع إلى السماء، وهي أشد. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ. . .)

الآية: فمعناه - واللَّه أعلم - أن يكون ألا يود أحد أن تكون له جنة ينال منافعها في وقت قوته وغناه بقوته عنها وبغيرها من وجوه المعاش، ثم يحرم نفعها لوقت الحاجة إليها بضعف بدنه وارتكاب مؤن الذرية، فكذلك لا ترضوا من أنفسكم في وقت قوتها وغناها الغفلة عنها لوقت حاجتها إلى الأعمال والاضطرار إلى ثوابها. واللَّه أعلم. وأن يكون المعنى من ذلك أي: لا تغتروا بظاهر أحوالكم في الدنيا، وبما تنالون من النافع بالذي أظهرتم من موافقة المؤمنين، كاغترار من ذكرت بجنسه في خاص ما عليه حاله إلى أن صار إلى ما أراه اللَّه من عاقبته أنه يود عنه نهاية ذلك، أن لم يكن منه الاغترار في ذلك، ولكن كان قيامه على ما لا يضيع عنه ذلك بتلك الحال؛ فيخرج ذا على ضرب المثل للمنافق. ويحتمل: أن يكون ذلك مثلًا لمن كفر بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ممن يؤمن بالبعث، أن الذي ينال بالكفر به من الرياسة والعز، كالذي ذكر من صاحب الجنة أنه لا يود ذلك الابتداء بما يعلم تلك العاقبة؛ فكذا ما ينبغي لهم إذ بين لهم عواقب الكفر بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يؤثروا الذي نالوا بعد علمهم بشدة تلك العاقبة. واللَّه أعلم. والمثل خرج على غير ذكر الجواب فيه؛ لما قد جرى له البيان لعلمه بالمبعوث مبينًا أو بما في الحال التي لها نزول الآية دليل التعريف، أو بما أراد اللَّه امتحان السامعين بالتأمل في الآية لينال كل ذي عقل فضله، وليكرم به أهل التدبر في آياته في صرف وجوه من دونهم إليهم في الصدور عن آرائهم والاعتماد على إشارتهم. واللَّه أعلم. وجملة ذلك: أن أفعال ذوي الاختيار تكون للعواقب، وما إليه مرجع الفاعل مقصود في الابتداء، فبين لمن أغفل عنه بالذي عرف من حيرة المسرور بجنته لما انكشفت له عاقبتها حتى لعله يود أن لم يكن له تلك، ليكون سروره بما يحمد عاقبته. فعلى هذا الأمر: الأفعال التي يغفل عن عواقبها إذا صار إليها صاحبها. واللَّه الموفق. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ

(267)

أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) فيه دليل وجوب الزكاة في أموال التجارة بقوله: (مَا كَسَبْتُمْ)؛ لأن أموال التجارة هي التي تكتسب، وليس في كتاب اللَّه تعالى بيان وجوب الزكاة في أموال التجارة في غير هذا الموضوع، وليس فيه سنة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن ذكر عن بعض الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - القول به؛ فيحتمل أن يكون ما قالوا قالوا بهذه الآية. وأما زكاة الفضة، والذهب، والمواشي فيما لها ذكر في الكتاب والسنة، فالزكاة تجب فيها لعينها، اكتسب فيها أو لم يكتسب. وأما أموال التجارة فإن الزكاة تجب فيها بالاكتساب. وفيه دليل أن النفقة المذكورة فيه لازمة واجبة؛ لأنه قال: (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)، ذكر الإغماض، والإغماض لا يذكر في المعروف، إنما يذكر في اللازم والواجب الذي لا مخرج له عنه إلا بالأداء، إلا عن عفو وصفح والرضاء بدون الحق - ثبت أنه على اللزوم. وفيه دليل وجوب الحق في الرطاب والخضراوات؛ لأنه ذكر في الآية المخرج، والرطاب هي التي تخرج من الأرض. وأما الحبوب إنما تخرج من الأصل الذي يخرج من الأرض؛ لذلك كان الرطاب والخضراوات أولى بوجوب الحق من غيره بظاهر الآية. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: والوجوب في الحبوب بما كانت تخرج من الحقوق، والحقوق بظاهر هذه الوجوه في التي تخرج من الأرض. وأما أبو يوسف ومُحَمَّد - رحمهما اللَّه تعالى - فإنهما قالا: يحتمل قوله: (أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)، يعني من الأصل الذي يخرج لكم من الأرض، كقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا)، ولا ينزل من السماء اللباس كما هو، ولكن أراد الأصل الذي به يكون اللباس، وكذلك قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، وهو لم يخلقنا من التراب، وإنما خلق الأصل من التراب، وهو آدم - عليه السلام - فعلى ذلك الأول. واللَّه أعلم. والوجه فيه: أنه منَ اللَّه تعالى علينا بما أخرج لنا من الأرض من أنواع ما أخرج بحبة تلقى في الأرض فتفسد فيها، فيخرج منها النبات بلطفه، لا صنع لأحد فيها. وتلك المنة لا تكون على أربابها خاصة دون الفقراء أو بل هي على الفقراء كهي على أربابها؛ لأنه أخرجه رزقًا للكل، ففيه حق الفقراء والأغنياء جميعًا. ومن ثم جاز وجوب العشر على

(268)

الفقير؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64). وقوله: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا)، قيل: ءأنتم تنبتونه أم نحن المنبتون؟ وأما ما بعد النبات فيشترك العباد فيه بالسقي والحفظ وغيره؛ لذلك كان ما ذكرنا. واللَّه أعلم. وفي قوله تعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)، دلالة على ألايتصدق بالرديء عن الجيد. فإذا تصدق به يلزمه فضل ما بين الرديء إلى الجيد، على قول مُحَمَّد - رحمه اللَّه تعالى - بظاهر قوله: (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ). وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رضي اللَّه تعالى عنهما -: يجوز ولا يختار له ذلك؛ وذلك أن اللَّه - تعالى - أطمع الناس قبول ذلك إذا تغامضوا، فهو أحق أن يطمع فيه القبول لكرمه ولطفه؛ ولأنه ليس لصفة ما يكال ويوزن من نوعه قيمة، فإذا لم تكن له قيمة لا يلزمه فضل الصفة. وقوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) قوله: (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) في الدنيا بالتصدق والإنفاق، (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) بترك الصدقة. ويحتمل: (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)، في الدنيا بطول الأمل وفناء المال، (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) بسوء الظن بربه. (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) بالصدقة، و (وَفَضْلًا) ذكرًا في الدنيا. ويحتمل قوله: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) في الآخرة، و (وَفَضْلًا) في الدنيا، يعني خَلَفًا. وقيل: (مَغْفِرَةً) لفحشائكم، و (وَفَضْلًا) لفقركم. وقوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، أي: غني يقدر إخلاف ما أنفقتم، (عَلِيمٌ) جزاء صدقاتكم. ويحتمل: (عَلِيمٌ) ما تنفقون من الصدقة والحسنة. وفي قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، و (اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، ونحوه دلالة أن اللَّه - تعالى - إنما رغب الناس على الصدقات والنفقات ابتلاء ومحنة منه، لا حاجة وفقرًا.

(269)

وقوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) قيل: (الْحِكْمَةَ) في هذا الموضع معرفة القرآن وتفسيره. وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رضيَ اللَّهُ تعالى عنه - وكذا روي مرفوعا. وقيل: (الْحِكْمَةَ) الفهم في القرآن. وقيل: الفقه. وقيل: (الْحِكْمَةَ) النبوة. وقيل: (الْحِكْمَةَ) هي الإصابة. وفيه دليل جواز الاجتهاد، وأنه مصيب في اجتهاده. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ): اختلف في تأويل (الْحِكْمَةَ) في هذا: قال قوم: (الْحِكْمَةَ) هي القرآن، وهو على ما وصفه (نورا) و (وَهدًى)، و (رُوحًا)، و (وشِفَآء) هو الذي يبصر به حقائق الأشياء، وبالهدى يدرك كل شيء ويتقى كل تلف، وبالروح يحيى كل ذي روح، وبالشفاء يبرأ كل سقيم ويزال كل آفة. والذي هذا وصفه فهو الخير. وباللَّه التوفيق. وقال قوم: (الْحِكْمَةَ) هي الإصابة لحقيقة كل شيء، وبها يتقى كل شر، وينال كل خير، وذلك هو الخير الكثير، وباللَّه العصمة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْحِكْمَةَ)، هي السنة، كأنه أكرم رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالذي من سلكه نجا،

ومن حاد عنه غوى. وقيل: في الأصل الحكمة في التحقيق وضع كل شيء موضعه، ودفع كل حق إلى مستحقه، ولهذا قال بعض الفلاسفة في حد الحكمة: إنه العلم والعمل بالعلم في وضع الأشياء مواضعها، والعمل في إيصال كل ذي حق إلى مستحقه. وقيل: هي من إحكام الأمور وإتقانها. وذلك مقارب؛ لما يضاد الحكمة السفه، وهو التفاوت في العقل والاضطراب في الأمور. واللَّه أعلم. وقال قوم: الحكمة في القرآن: هي فهم الحدود والسرائر، وهو الذي به يدرك الموافقة والمخالفة من طريق الحقائق، لا من طريق الظواهر. وذلك عمل الحكماء ورعاة الدِّين. ولا قوة إلا باللَّه. وقال قوم: الحكمة: هي الفقه، والفقه: معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره، وهو الذي به يوصل إلى معرفة الغائب بالشاهد، والغامض بالظاهر، والفرع بالأصل. ولا قوة إلا باللَّه. وأي هذه الوجوه كانت الحكمة فذلك الوجه يجمع خير الدارين، لو حفظ حقه، والذي هذا وصفه فهو الخير الكثير. وباللَّه المعونة. وفي الآية دلالة أن اللَّه تعالى لا يؤتي كلًّا الحكمة، وأن الحكمة وإن كانت فعلًا للحكيم فإعطاء اللَّه تعالى نالها، وأنه لا يجوز أن يعطيها أحدًا ثم لا ينالها المعطى. وهذه الوجوه كلها تخالف رأى المعتزلة. وقوله تعالى: (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)، من حفظ النفس في الدنيا عن جميع الآفات، وفي الآخرة عن دفع العقوبات. وقوله تعالى: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) يعني: وما يتعظ بما ذكر إلا ذو الفهم والعقل. وفي الآية نقض على المعتزلة؛ لأنه قال: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ)، ثم قال: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)، ولا كل أحد يؤتى الحكمة، إنما يؤتى بعضًا دون بعض. فلو كان على اللَّه تعالى أن يعطى الأصلح في الدِّين لكان قد آتى الكل، وبطل التفضل. ومن قال: يؤتى غيرها، فكان خلاف ما في الكتاب. وقوله: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ

(270)

أَنْصَارٍ (270) يحتمل: نفقة المحارم. ويحتمل: النفقات التي تجري بين الخلق. ويحتمل: المفروض من الصدقات. ويحتمل غيرها. ثم رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوله تعالى: (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) قال: " من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا أطاقه فليوف به ". فيه تنبيه وتذكير أن اللَّه تعالى يعلم صدقهم ونذرهم؛ ليحتسبوا في النفقة ويخلصوا، وفي النذر يوفوا به. وقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ). قيل: يقبله. وقيل: يأمر بوفائه. ويحتمل قوله: (يَعْلَمُهُ) أي: يعلم ما وفيتم منه؛ فيجزيكم على ذلك. ويحتمل: (يَعْلَمُهُ): ما أردتم بصدقاتكم ونذوركم؛ فيكون فيه ترغيب للناس في أداء الفرائض. وقوله تعالى: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ). في الآخرة، يعني مجير يجيرهم من العذاب. وقيل. ما للظالمين من شفيع يشفع لهم، ولا نصير ينصرهم؛ لأنه ما من ظالم إلا وله في الدنيا ظهير. وقوله: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) قَالَ بَعْضُهُمْ: هي الفريضة. وقال آخرون: هي التطوع. وهو أَوْجَه.

وقال غيرهم: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ)، هي الفريضة، (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ) هي التطوع. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: لا يحتمل الإخفاء في التطوع، والإبداء في الفرض؛ لما أخبر في الإخفاء أنه خير، ولا يكون التطوع خيرًا من الفريضة. ومن حمله على الفريضة يستحب أن يظهروا الزكاة المفروضة ليقتدوا به ويرغبوا الناس عليها. ومنهم من يستحب الإخفاء أيضًا، ويقولون: في الإبداء شيئان: الصدقة نفسها، والاقتداء، وفي الإخفاء وجوه: أحد ها: الصدقة. والآخر: ترك المراءاة وسلامتها. والثالث: الكف عن المن والأذى. ومنهم من حمل قوله: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ) على الفريضة، و (وَإِنْ تُخْفُوهَا) على التطوع، وذهب إلى أن الفريضة ليس فيها الرياء؛ لأنه لا شيء عليه، فسواء فيها الإبداء والإخفاء، وأما التطوع ففيه الرياء؛ لأنه معروف ليس عليه، والإخفاء له أسلم. والله أعلم. وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - في قوله: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. . .) الآية، جعل اللَّه - تعالى - صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. وفي بعض الأخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصلة الرحم تزيد في العمر ". وعن الحسن، قال: الإبقاء على العمل أشد من العمل؛ وذلك أن العبد ليعمل العمل سرا فيكتب له عمل السر، فلا يزال به الشيطان حتى ينسخ من عمل السر إلى عمل العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يحمد، حتى يكتب من عمل العلانية في الرياء.

(272)

وقوله تعالى: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ): فيه دليل أن من السيئات ما يكفرها الصدقة، ومنها ما لا يكفر. وقيل: إن " من " هاهنا صلة، ففيه إطماع تكفير السيئات كلها بالصدقة، كقوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ). وهو نقض على المعتزلة؛ لأنهم لا يرون تكفير الكبائر بغير التوبة عنها، ولا التعذيب على الصغائر. فأما إن كانت الآية في الكبائر - فبطل قولهم: لا يكفر بغير التوبة، أو في الصغائر فيبطل قولهم: إنها مغفورة؛ إذ وعدت بالصدقة؛ لأنهم يخلدون صاحب الكبائر في النار، واللَّه تعالى أطمع له تكفير السيئات كلها بالصدقة. واللَّه الموفق. وقوله تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ): فيه وعيد وتحذير، أنه يعلم ما تسرون وما تعلنون في الصدقة. ويحتمل: (تَعْمَلُونَ)، من جزائكم للصدقة. * * * قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274). قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) أخبر أنه ليس عليه هداهم، وعليه البيان والتبليغ؛ فدل أن هناك فضل هدى، لا يملك هو ذلك، وهو التوفيق على الهدى والتحقيق له. وهذا يرد على المعتزلة ويكذبهم أن كل الهدى: البيان؛ إذ لو كان كل الهدى بيانًا لكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يملك ذلك، إذ عليه البيان، فدل أنه لا يملك الهدى المراد في الآية؛ فهو على ما ذكرنا من التوفيق. ويحتمل قوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) أي: حساب ترك اهتدائهم، كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، و (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ).

(273)

وقوله تعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ): (مِنْ خَيْرٍ)، أي: مال، (فَلِأَنْفُسِكُمْ)، يعني: فلأنفسكم الثواب. وقيل قوله: (فَلِأَنْفُسِكُمْ)، يعني: منفعته لكم. وفي قوله: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) دلالة على أنهم كانوا يتحرجون بالتصدق على أقربائهم من الكفار خشية ما يقع من التعاون على ما اعتيدوا من الدِّين؛ إذ المكاسب لكل أهل دين إنما تقع من العقلاء مكان ما ينفقون به لأجل الدِّين؛ فبين جل وعلا: أن ذلك يقع لكم ولأنفسكم، وتكفير ما ارتكبتم. ثم في الآية دلالة جواز الصدقة على الكفار، ودليل جواز دفع الكفارات إليهم بقوله: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ)؛ فهو دليل لأصحابنا؛ لأنه جعل هذه الصدقة مكفرة. وقوله تعالى: (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ)، يعني: يوفر عليكم ثواب صدقاتكم، وإن كان التصدق على الكفرة. وقوله تعالى: (وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)، في حرمان الثواب والجزاء. وقوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) قيل: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وقيل: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: من سبيل اللَّه، يعني: حبسوا بالفقر عن الجهاد، وهو كقوله: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ). والعرب تستعمل حروف الخفض بعضها في موضع بعض. ويحتمل قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، أي: حبسوا أنفسهم في طاعة اللَّه، لا يجدون ما يتجرون، ولا ما يحترفون، ولا ما يكتسبون. وقوله تعالى: (لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ): للتجارة. وقوله تعالى: (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)، يحتمل وجهين: يحتمل: لا يظهرون السؤال، أي: لا يسألون؛ كقوله تعالى: (وَلَا تنفَعُهَا شَفَاعَة) أي: لا يشفع لهم. ويحتمل: فإن كان على السؤال فإنهم إذا سألوا لم يلحفوا، دليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من فتح على نفسه بابًا من المسألة، فتح اللَّه عليه سبعين بابا من الفقر ". ثم ذكر في الخبر: " من

(274)

استغنى أغناه اللَّه، ومن استعف أعفه اللَّه ". وإن كان على التعريض، ففيه إباحة التعريض بين يدي أهل الجود والسخاء. وقوله تعالى: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا): قيل: (بِسِيمَاهُمْ)، يعني: سيما التخشع. وقيل: (بِسِيمَاهُمْ): بسيما الفقر عليهم، و (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) يعني: إلحاحا. وقيل: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ)، أي: بتجملهم، (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)، أي: إلحاحًا، ولا غير إلحاح. وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) قيل: هي النفقة على الخيل المحتبسة للجهاد، ينفقون ليلا ونهارًا، سرًّا وعلانية، لا رياء فيها، ولا إضمار. وعن عليٍّ وأبي أمامة الباهلي - رضي اللَّه تعالى عنهما -: هي النفقة على الخيل في سبيل اللَّه. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال: هي في علف الخيل والنفقة عليها. وقيل: نزلت هذه الآية في نفقة عبد الرحمن بن عوف في جيش العسرة.

وقيل: نزلت في علي بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه لم يكن يملك من المال غير أربعة دراهم، وتصدق بدرهم ليلًا، وبدرهم نهارًا، وبدرهم سرًّا، وبدرهم علانية، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما الذي حملك على هذا؟! قال: حملني أن أستوجب على اللَّه الذي وعدني؛ فنزلت فيه هذه الآية. وقيل: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري. فلا ندري فيمن نزلت، وليس لنا إلى معرفة المنزل في شأنه حاجة سوى أنه وصفهم بالجود والسخاء، ونفقتهم على الناس ليلًا ونهارًا سرًّا وعلانية، لا رياء فيها، ولا مَنّ، ولا أذى. وفيه نفى الرياء عن نفقتهم؛ لأن من عود نفسه الفعل في جميع الأوقات لم يراء. وقوله تعالى: (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)؛ لأن نعيم الدنيا مشوب بالحزن والخوف، فأخبر عَزَّ وَجَلَّ أن نعيم الآخرة لا يشوبه حزن ولا خوف؛ لذلك كان ما ذكر. واللَّه تعالى أعلم. * * * قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ

(275)

فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) وقوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا)، ليس على حقيقة الأكل، ولكنه كان على الأخذ، كقوله تعالى: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ). فإذا كان هذا على الأخذ فقوله تعالى: (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) هو على التمثيل، ليس على التحقيق. وقال آخرون: هو على نفس الأكل، وما ذكر من العقوبة، لما أكلوا من الربا لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم المجنون المنخنق. وقال غيرهم: ذلك لاستحلالهم الربا، وتخبيطهم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ في الحكم في تحريمهم الربا بقولهم: (قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا). ثم قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)، فيه دليل جواز القياس في العقل؛ لأنه لو لم يكن في العقل جوازه لم يكن لقولهم: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) معنى. لكنهم لم يعرفوا معنى المماثلة. ثم المماثلة على الوجهين: مماثلة أسباب، ومماثلة أحوال. فالمماثلة التي هي مماثلة أحوال: هي ابتداء محنة في الفعل، لا يقاس على غيره، نحو أن يقال: اقعد، أو أن يقال: قم، لا يقاس القيام على القعود، ولا القعود على القيام، إنما هو محنة لا يلزم غير المخاطب به. وأما مماثلة الأسباب: فهي مماثلة الإيجاب، نحو أن يقال: حرم اللَّه السكر في الخمر، فحيث ما وجد السكر يحرم؛ لأنه يجني على العقل، فكل شيء يجني عليه فهو محرم التناول منه. وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا). يقولون: لما جاز أن يباع ثوب يساوي عشرة بأحد عشر، كيف لا جاز أن يباع عشرة بأحد عشر؟

وقيل: كان الرجل منهم إذا حل ما له على صاحبه طلبه، فيقول المطلوب للطالب: زدني في الأجل وأزيدك على ما لك. فيفضلان على ذلك ويعملان به. فإذا قيل لهما: هذا ربا، قالا: هما سواء: الزيادة في البيع، أو الزيادة عند محل البيع. فأكذبهم اللَّه تعالى في ذلك وقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، أي: ليس هكذا: البيع كالربا. ويحتمل: فيه ابتداء حرمة أن حل ما هو بيج لا ما هو ربا. ثم قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا): فلقائل أن يقول: إنما يحرم منه قدر الربا، وأما العقد فإنه يجوز لما ليس فيه ربا. لكن الأصل عندنا فيه: أن الدرهم الزائد يأخذ كل درهم من العشرة قسطًا منه وجزءًا من أجزاء كل درهم منه، فلا سبيل إلى إمضاء العقد لأخذ أجزائه كل درهم من الذي فيه العقد، وهو ربا. وفيه وجه أَخر: وهو أنه ختم الكلام على قوله: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ)، ولا يزاد رأس المال في عقد قد مضى. ثم معرفة الربا من غير الربا ما ليس بإرادة بدل. ثم فيه دلالة أن حرمة الربا كان ظاهرًا عندهم حتى حكوا، وكان حرمته فيما بينهم كهو فيما بين أهل الإسلام؛ لذلك قال أبو حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: أن لا يجوز بيع الربا فيما بين أهل الإسلام وبين أهل الذمة. وعلى ذلك خرج الخطاب منه - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً). وقوله تعالى: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى): قيل: (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، بيان تحريم الربا. وقيل: (فَمَنْ جَاءَهُ) نهي في القرآن (مِنْ رَبِّهِ) وفي تحريم الربا، (فَانْتَهَى) عن الربا. ويحتمل: الموعظة، هي التذكير لما سبق منه، فيتذكر فيرجع عن صنيعه. وقوله تعالى: (فَلَهُ مَا سَلَفَ)، قيل فيه بوجهين: قيل: (مَا سَلَفَ) له في الجاهلية صار مغفورًا له، وهو كقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). ويحتمل قوله تعالى: (مَا قَدْ سَلَفَ) هو، وذلك أن الكافر إذا تاب ورجع عن صنيعه، يرجع لا أن يعود إلى فعله أبدًا، ويندم على كل سيئة ارتكبها، فيجعل اللَّه كل سيئة كانت منه حسنة، وهو كقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ). وقوله تعالى: (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ)، في حادث الوقت أن يعصمه.

(276)

وقوله تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). إن المعتزلة استدلوا على الوعيد لأهل الإسلام بما ذكر فيه من العود. لكن بدء الآية على الاستحلال، فعلى ذلك العود إليه على جهة الاستحلال، يدل عليه قوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) فأثبت له الكفر بالذي كان منه في الابتداء، وهو الاستحلال؛ فكذلك العود إليه. وقوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) قيل: (يَمْحَقُ اللَّهُ): يهلك. وقيل: (يَمْحَقُ): يبطل. ولكن أصل " المحق " هو رفع البركة؛ وذلك أن الناس يقصدون بجمع الأموال والشح عليها، لينتفع أولادهم من بعدهم إشفاقًا عليهم، وكذلك يمتنعون من التصدق على الناس. فأخبر اللَّه تعالى: أن الأموال التي جمعت من جهة الربا ألا ينتفع أولادهم بها، وهو الأمر الظاهر في الناس. وأخبر أن الصدقات التي لا يمتنعون من الإنفاق عنها يربى ويخلف أولادهم إذا تصدقوا، ويمحق الربا ويرفع البركة عنها؛ حتى لا ينتفع أولادهم بها. وهو ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كل متبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما فيه، وإن كذبا وكتما محقت عنهما البركة ". وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) الآية ظاهرة. وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) قيل فيه بوجهين: قيل: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ) من عمركم (الرِّبَا) إذا صرتم مؤمنين. وقيل: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)، الذي تقبضون (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وفي الآية دلالة على أن الربا الذي لم يقبض إذا ورد عليه حرمة القبض أفسدته. لذلك قال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: إن فوت القبض عن المبيع يوجب فساد العقد، كما كان فوت قبض الربا في ذلك العقد أوجب منع قبض الربا. والذي يدل عليه قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ)، فأوجب الفسخ فيه حتى أوجب رد

(279)

رأس المال. وفي الآية دليل وجه آخر: وهو أنه جعل حدوث الحرمة المانعة للقبض، يرتفع به العقد في فساد العقد؛ فعلى ذلك يجعل حدوث شيء في عقد معقود قبل القبض كالمعقود عليه في استئجار حصته من الثمن. وقوله تعالى: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)، وقوله: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) فيه دلالة: أن ما جرت بين أهل الإسلام وأهل الحرب من المداينات والمقارضات ثم أسلموا يرد، وما أخذوا قهزا لا يردون؛ وذلك أن الربا الذي قبضوا لئلا يرد لم يؤمر برده. فعلى ذلك ما أخذوا قهرا أخذوا لئلا يرد، لم يجب رده. وأما رأس المال فإنما أخذوا للرد؛ فعلى ذلك ما أخذ بعضهم من بعض دَيْنًا أو قرضًا وجب رده. ففيه دليل لقول أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى - على ما ذكرنا. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - قال: فمن كان مقيمًا على الربا مستحلًا له لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه: فإن تاب ونزع عنه، وإلا ضرب عنقه. وقوله تعالى: (فَأْذَنُوا)، فيه لغتان: بالقطع، والوصل. فمن قرأ بالقطع، فهو على الأمر بالإعلام لمستحليه أنه يصير حربا له بالاستحلال. ومن قرأ بالوصل، فهو على العلم، كأنه قال للمؤمنين: إنه حرب لنا. وقوله تعالى: (لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ): عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - قوله: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)، أي: (لَا تَظْلِمُونَ) فتربون، (وَلَا تُظْلَمُونَ): فتنقصون. وقتادة - رضي اللَّه تعالى عنه - يقول: بطل الربا وبقيت رءوس الأموال. وقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) عن ابن عباس - رضي اللَّه تعالى عنه -: (إِلَى مَيْسَرَةٍ) قال: هو المطلوب، وهو في الربا. وفيه دلالة جواز التقلب في البيع الفاسد؛ لأنه جعل لأرباب الأموال النظرة إلى ميسرة

(281)

من عليه المال. فلو كان له حق أخذه حيثما وجده بعد ما تناسخت الأيدي، أو كان له حق تضمين من هو أغنى لم يكن لإنظار المعسر إلى وقت الميسرة معنى. ولكن يحتاج إلى تضمين أيسرهم وأغناهم إذا كان يقدر، فله خصومته، وإذا كان شرط سقطت الخصومة، كما تقول في الذي يكفل عن معسر أو عمن أجل، ثم النظرة بالاختيار ممن له الحق، لا أنه يكون هكذا شاء هو أو أبي. دليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الصاحب الحق اليد واللسان ". أما اللسان فيتقاضاه، وأما اليد فيلازمه بها ويحبسه. ولكنه إذا أجل قطع على نفسه حق اللسان واليد إلى أن يمضي ذلك الوقت، فإذا مضى ذلك الوقت، ثبت له حق اللسان واليد. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، يعني برءوس الأموال إذا ظهر إعساره. وعن الضحاك - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه قال في قوله: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ)، قال: أخذ رأس المال حسن، وتركه أحسن. وإنما الصدقة على المعسر، فأما على الموسر فلا. وفيه دليل جواز صدقة الدَّين وهبته ممن عليه دين، وهو الأخْيَرُ له إذا ظهر إعساره وفقره. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) قال عامة أهل التأويل: إن هذه الآية آخر ما نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ، رضيَ اللَّهُ تعالى عنه. فإن كان ما ذكروا فهو - واللَّه أعلم - أنه عَزَّ وَجَلَّ رغبهم في ذكر ذلك اليوم؛ لما في ترك ذكره بطول الأمل، وطول الأمل يورث الحرص، والحرص يورث البخل ويشغله عن إقامة العبادات والطاعات. فإذا كان كذلك فأحق ما يختم القرآن به هذا؛ لئلا يتركوا ذكر ذلك اليوم فيسقطوا عن منزلته الثواب والجزاء. واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: ويصير كأنه قال: اتقوا وعيده تعالى في جميع ما يعدكم وما ألزمكم من الحق.

(282)

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283). وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) فيه دليل جواز السلم من قوله: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ)؛ لأن المداينة هي فعل اثنين، وهو السلم نفسه؛ لأنه دين من الجانبين جميعًا، وعلى ذلك رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنه قال: شهدوا أن الْمُسْلَم المضمون مما أجازه اللَّه - تعالى - في كتاب الكريم، ثم تلا هذه الآية. فأما الخبر الذي جاء به نهى عن الدَّين: فإن ذلك على فوت القبض فيه، دليله: جواز ما كان دينًا بدين إذا قبض أحد الجانبين. وقال آخرون: قوله: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ)، هو بيع كل دين إلى أجل مسمى، فهو يسمى

التداين، كما يسمى البائع والمشتري: المتبايعين؛ لأن كل واحد منهما بائع في وجه، ومشترٍ في وجه. فعلى ذلك المداينة والتداين. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): فالعرف في الإسلاف عند الناس: ألا يخلى عن الأجل، فصار الأجل بالعرف شرطا في جواز السلم وإن لم يؤجل؛ لأن الرجل لا يسلم السلف ليؤديه حالة الإسلاف؛ لأن الحاجة هي التي تحمله على الإسلاف فهو إنما يسلف ليؤديه في وقت ثان؛ لأنه لو كان عنده حاضرا لا يحتاج إلى غيره، ولكنه يبيعه فيصل إلى حاجته، ولا يتحمل الْمُؤْنة العظيمة، فصار في العرف كأنه بأجل، يفسد لترك بيان الأجل. واللَّه أعلم. وعلى ذلك رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم ". ثم أمر عَزَّ وَجَلَّ بالكتابة في التداين بقوله: (فَاكْتُبُوهُ)، وذلك - واللَّه أعلم - لأنه وصل إلى حاجته بقبض رأس المال والآخر لم يصل؛ فلعل ذلك يحمله على إنكار الحق والجحود؛ فأمر عَزَّ وَجَلَّ بالكتابة؛ احترازا عن الإنكار وجحود الحق له؛ لأنه إذا تذكر أنه كتب وأشهد عليه يرتدع عن الإنكار والجحود؛ فهو كما ذكرنا في قوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)؛ لأنه إذا ذكر أنه يقتل ارتدع عن قتل غيره؛ فكذلك إذا ذكر أنه مكتوب عليه يمتنع من الإنكار والجحود؛ لما يخاف ظهور كذبه وفضيحته على الناس، واللَّه أعلم. ولا كذلك بيع العين بالعين؛ لأن كل واحد منهما لا يصل إلى حاجته إلا بما يصلي به الآخر، فليس هنالك للإنكار معنى؛ لذلك لم يؤمر بالكتابة في بيع الأعيان، وأمر في المداينات. واللَّه أعلم.

ويحتمل الأمر بالكتابة في التداين وجهًا آخر: وهو أنه يجوز أن ينسى فينكر ذلك، أو ينسى بعضه ويذكر بعضًا؛ فأمر اللَّه تعالى بالكتابة؛ لئلا يبطل حق الآخر بترك الكتابة. ولا كذلك بيع العين؛ لذلك افترقا. واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: والنسيان يعقب التنازع، والمنازعة توجب التخالف، وفيه الفساد؛ فأمر بالكتابة لدفع ذلك، وللوفاء بالحق، ودفع الخصومات. واللَّه أعلم. ولا يحتمل أن يفرض الكتابة، وأكثر ما فيه أن يحفظ الحق، ولمن له تركه كذلك ألا يقبضه مع ما ليست في عقد أو فسخ فيكلم فيه بوجوب واختيار، إنما هي للحق، فله فعل ذلك. واللَّه أعلم. ثم اختلف في الكتابة: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي واجبة لازمة. واستدلوا على وجوبها بقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا، أخبر برفع الجناح في التجارة الحاضرة، فلو كانت في المداينة غير واجبة لم يكن لرفع الجناح فيها معنى؛ فدل أنها لازمة في المداينة حيث رفع الجناح في الحاضرة منها. وأما عندنا: فهي ليست بواجبة؛ لأنه قال عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)، ثم أمر، قال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)، ذكر الرهن بدلًا عن الكتابة، ثم ذكر ترك الرهن بالائتمان. فإذا كان له ترك الرهن بالائتمان، وهو بدل الكتابة - فعلى ذلك له ترك الكتابة بالائتمان، إن كان أصله مفروضا لم يحتمل ترك بدله بالائتمان. فإذا كان ذلك له دل أنه ليس بمفروض ولا لازم. والله أعلم. وقوله تعالى: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ): فهذا لأن الكاتب مأمون عليه فيؤدي حق ما اؤتمن فيه، لا يزيد على ما أملى عليه بالنصيحة وأداء الأمانة. وهكذا الواجب على كل محكم بين اثنين أن يحكم بالعدل والنصيحة وأداء الأمانة، كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، وكقوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وكقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ). وقوله تعالى: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا وذلك أن الكتبة كانوا في صدر الاسلام قليلا، فنهوا عن ترك الكتابة؛ إذ في ذلك بطلان حقوق الناس وذهابها. وأما اليوم فلا بأس بالإبقاء عليها، لم يجد من يكتب له بالأجر؛

فلا يبطل حقه. وفيه وجه آخر: وهو أن قوله - تعالى -: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ)، أي: لا يأب الكاتب إذا كتب أن يكتب بالعدل، أي: له ترك الكتابة، ولكنه إذا كتب لا يكتب إلا بالعدل. والله أعلم. وقوله تعالى: (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ)، هو نقض على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: يكتب وإن لم يعلمه اللَّه تعالى. واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنه يكتب بتعليم اللَّه إياه. ولو كان التعليم من اللَّه تعالى إيتاء الأسباب لم يكن لقوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ) معنى؛ لأنه قد أعطى أسبابه. والعدل -ما ذكرنا-: ألا يزيد على الحق، ولا ينقص منه. وأصل العدل: هو وضع الشيء موضعه. وقوله تعالى: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ): ما عليه، (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ): ولا ينقص، (مِنْهُ شَيْئًا) أي: لا يملي على الكاتب أقل من حقه ولا ينقص منه شيئًا. ففيه دلالة على أن القول قوله في قدر الحق حيث أوعد فيما يملى على الكاتب ألا ينقص من حق الطالب شيئًا. وقوله تعالى: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ)، قال قائلون: هذا كله واحد: السفيه، والضعيف، والذي لا يستطيع أن يمل. وقال آخرون: بل هو مختلف، السفيه هو الصغير، فليملل وليه. والضعيف هو المريض الذي لا يقدر أن يُمِلَّ. والذي لا يستطيع أن يُمِلَّ هو الجاهل الذي لا يعرف أن يُمِلَّ. ثم اختلف في الولي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الولي: هو صاحب الحق، يُمِلُّ بالعدل بين يدي من عليه الحق؛ لئلا يزيد على ذلك شيئًا، فإن زاده أو نقصه أنكر عليه صاحبه. وقال آخرون: الولي هو وصي الصغير، أو ذو النسب منه.

ثم المسألة في الحجر: قال أبو حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه -: الحجر لا يمنع عقوده. وقال مُحَمَّد بن الحسن: لا يجوز عقوده، ولكن الولي هو الذي يتولى ذلك؛ استدلَالًا بظاهر قوله: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)، فإنما جعل الإملاء إلى الولي، لا إليه. ولو كان يجوز إملاؤه لكان لا معنى لجعل ذلك إلى غيره؛ دل أنه لا يجوز. وأما أبو حنيفة - رضي اللَّه تعالى عنه - فإنه ذهب إلى أنه يجوز بقوله تعالى: (إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ)، أجاز تداينه؛ فدل أن الحجر لا يمنع العقد عليه ولا تداينه، ولأن السفيه لم يستفد الإذن من السلطان؛ إنما استفاده من اللَّه تعالى، ولا يجوز حجر من لم يستفد الإذن منه. وقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ): لم يجعل الإشهاد شرطا في جواز البيع، ولكنه معطوف على قوله: (فاكتبوه). أمر عَزَّ وَجَلَّ بالإشهاد في البيع والتداين؛ للمعنى الذي ذكرنا: أن ترك الإشهاد والكتابة يحمله على الإنكار وجحود الحق، فإذا كان هنالك شهود وكتاب يمتنع من الإنكار؛ لخوف ظهور الكذب. ولم يصر شرطا في جواز التداين؛ لأن الإشهاد إنما ذكر بعد المداينة والمبايعة. وكذلك الكتابة فهو لما ذكرنا: أن الإنسان من طبعه النسيان والسهو؛ فأمر بالاستشهاد والكتابة لئلا ينسى، أو يحمله ترك الإشهاد والكتابة على الإنكار. وأما الأمر بالإشهاد في النكاح -في عقد النكاح نفسه- دليله قوله - عليه السلام -: " لا نكاح إلا بشهود "؛ لذلك صار شرطًا في عقد النكاح، ولم يصر شرطًا في المبايعة. ووجه آخر: وهو أن الشهادة في النكاح تدفع تهمة الزنى عنهما، وقد يحوج إليه في أول أحواله. والحاجة إلى الشهادة في البيع إلى ما يتعقب فيه من توهم وقوع التنازع؛ إذ له بذل ملكه للآخر من غير عقد بيع، وليس لها بذل فرجها له من غير عقد النكاح؛ لذلك صار الإشهاد شرطا في جواز النكاح، ولم يكن شرطا في البيع. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ): في الآية دلالة أن من قضى بالشاهد واليمين قضى بخلاف ظاهر الكتاب، وهو أيضا خلاف السنة؛ لأن قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا)، ليس هو الإشهاد، إنما هو الإحضار للشهادة؛ إذ العجز لا يقع في الإشهاد، إنما يقع عند الاستحضار، ولو كان بيمينه غنية لم يأمر المرأتين هتك سترهما؛ ولأن الآية ذكرت حق القضاء في البياعات الواقعة

والأحكام إلى سبيلها لزوم الفصل بالقضاء بين أربابها. فمن جعل فصل القضاء بالشاهد واليمين جعل على خلاف ما جعله من له نصب الشرائع والحجج، وقال اللَّه تعالى: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا). وأما مخالفة السنة - فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: البينة على المدعي، واليمين على المدعَى عليه. فإذا أتى بشاهد واحد لم يخرج الآخر من أن يكون مدعى عليه. فإذا كان كذلك، وقد جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حجة المدعَى عليه اليمين، ولم يجعل اليمين حجة للمدعي؛ فلذلك قلنا: إنه المخالف لظاهر الكتاب والسنة. ولأن اللَّه تعالى جعل المرأتين في حال الضرورة، وهو حال عدم الرجل مقام ذلك الرجل، فلو كان يجوز القضاء بالشاهد واليمين، لم يحتج إلى أن يكلف النساء من الخروج إلى أبواب القضاء والسلاطين لأداء الشهادة، وفي ذلك هتك الستر عليهن وكشف عورتهن، وتكلف القضاة فضل التفحص في حالهن ومعرفتهن؛ لذلك بطل القضاء بالشاهد واليمين. واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه قضى به.

قيل: إنه لم يرو أنه فيم قضى في الأموال أو في غير الأموال فإن ثبت أنه فيم قضى لكنا نقضي به. ثم قال الصحابة: رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين، أنه قضى بالشاهد واليمين في

الأمان. ونحن نقضي بعض أحكام الأمان بالشاهد الواحد إذا كان عدلا. واليمين باب ما يحتاط فيه إذا شهد شاهد أنه أمنه لم يقبل، ولكن يستروّ. وأما الأموال فإن الاحتياط في ذلك ترك القضاء إلى أن تقوم الحجة التي تزيل الشبهة من جميع الوجوه. وباللَّه التوفيق. وأما شهادة النساء: فإنها جائزة في الأموال وفي غير الأموال إلا في الحدود خاصة، فإنها غير مقبولة. أما جوازها في غير الحدود؛ لأن اللَّه تعالى ذكر التداين، وذكر في التداين الأجل، والأجل ليس بمال. ثم أجاز شهادتهن في التداين وفي الأجل الذي ليس هو بمال؛ دل ذلك أن علة جواز شهادتهن ليس هو المالية نفسها، وأجيزت شهادتهن فيما لا مالية فيه وهو الأجل؛ فظهرت أن علتها ليست مالية. وأما بطلان شهادتهن في الحدود؛ فلأن شهادتهن إنما أجيزت بحكم البدل عن شهادة الرجال، والأبدال في الحدود غير مقبولة نحو الوكالات والكفالات؛ فعلى ذلك شهادتهن لما كانت جوازها بحكم البدل لم تقبل، ولأنهن جعلن على السهو والغفلة ونقصان العقل والدَّين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنهن ناقصات عقل ودين ". فإذا كان كذلك أورث ذلك شبهة في الحدود، والحدود مما يبتغى فيها الدرء؛ لذلك لم تقبل. واللَّه أعلم. ولأن شهادتهن إنما ذكرت فيما يبتغى به الإعلام والإعلان، لا الإسرار. فعلى ذلك تقبل شهادتهن فيما يبتغى ذلك المعنى. وأما الحدود وما يلزم بها ذلك إنما يبتغى في ذلك الإسرار والستر؛ لذلك قلنا بأن شهادتهن تجوز في النكاح والطلاق والعتاق؛ لأن النكاح يبتغى فيه الإعلان على ما جاء: " أعلنوا النكاح "؛ لذلك قبلت. واللَّه أعلم. ومعنى آخر: أن الخصم أجاز شهادة النساء بالانفراد في كل شيء ما خلا الحدود والقصاص؛ لذلك قبل بالرجال. ولأن شهادة النساء أجيزت في الأصل توسيعا، فلا يجوز أن ترد فيما يتوسع، وتقبل فيما يضيق، وأمر النكاح والطلاق في الشهادة أوسع، فهو أحق أن يقبل. وقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) فإن قال قائل: كيف جاز استشهاد المرأتين عند وجود الرجلين؟ واللَّه أمر باستحضار الرجلين عند الحاكم للشهادة، لا أمر بالإشهاد عليها؛ لذلك قال عَزَّ وَجَلَّ: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا

رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ). أي: لا تكلف النساء حضور أبواب القضاة ومجلسهم لأداء الشهادة إلا عند العجز عن وجود الرجل؛ لما في ذلك هتك أستارهن، وكشف عورتهن. واللَّه أعلم. والثاني: أن اللَّه تعالى ذكر امرأتين وأقامهما مقام رجل فائتٍ، والرجل الذي قامت امرأتان مقامه هو فائت أبدا غير موجود، إذ له أن يشهد عددا على ذلك الحق؛ لذلك جازت شهادتهن وإن كان هناك رجلان. واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في ذكر رجلين دون ذكر العدد، أو ذكر واحد؟ قيل: لوجوه: أحدها: ذكر على قدر الأشياء ومراتبها عند الناس، إذا كان أمرًا عظيما فظيعا لا تقبل فيه إلا شهادة عدد، نحو الزنى، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا). وإذا كان خسيسا سهلا عند الناس قبل قول الفرد حرًّا كان أو عبدًا، من نحو الاستئذان للدخول على آخر ونحوه. ثم الأموال وغيرها هي المتوسطة المترددة بين هذين، فقبل الوسط من الشهادة، ولم يقبل دونها. واللَّه أعلم. ووجه آخر: قيل: إنه ذكر ذلك عبادة، لا لمعنى المودع فيه، ولكن سمعا، فهو على ما ذكر، لا يطلب معناه. والثالث: أن الواحد لم تقبل شهادته في الحقوق بالانفراد؛ لأنه ينتفع بها. لأن من صدق في قوله يتلذذ بتصديقهم إياه. فعلى ذلك لم يقبل قول المدعي في دعواه وإن كان عدلا، لما ينتفع بالتصديق وقبول قوله فيه. فإذا كانا اثنين صار تلذذ كل واحد منهما وانتفاعه لصاحبه؛ فحصلت الشهادة خالصة صافية؛ فقبلت. واللَّه أعلم. والرابع: أن الإنسان مطبوع على السهو والغفلة، فإذا كان فردا يخاف عليه النسيان؛ أمر بضم آخر إليه ليذكر كل واحد منهما صاحبه إذا نسيه. وعلى ذلك يخرِج قوله: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)، لما ذكر أنهن جبلن وطبعن على فضل السهو والغفلة، أمر بضم غيرها إليها إذا سهت وغفلت عنها. ثم اختلف في قوله: (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ): قال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى -: يرجع الخطاب إلى الأحرار خاصة دون العبيد والكفرة. أما الكفرة؛ فلأن الخطاب في الابتداء للمؤمنين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا

تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ. . .) الآية؛ فخرج الكفار من خطاب الآية؛ لذلك لم تقبل شهادتهم على أهل الإسلام. وأما العبيد فلم يدخلوا تحت هذا الخطاب لوجوه: أحدها: ما ذكرنا: أن ظاهر الخطاب للأحرار دون العبيد، لما لا يملكون هم التداين والتبايع؛ فعلى ذلك خطاب الشهادة. فَإِنْ قِيلَ: أليس العبيد يملكون التبايع والتداين؟ قيل: يملكون بالإذن والتولية لا بملك أنفسهم فذلك القدر من التداين وغيره، يملك الكفار، ثم لم يجب قبول شهادتهم، ولا دخلوا تحت ذلك الخطاب؛ فكذلك العبيد. والثاني: ما قاله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)، ثم لا يملك العبيد الإجابة لكل ما دعوا لحق السادات؛ فعلى ذلك ليس عليهم الإجابة في الشهادة لحق السادات. واللَّه أعلم. والثالث: أن اللَّه تعالى قسم الشهادة قسمة الميراث بقوله: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)، وقال في الميراث: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)، ثم لا حظ للعبيد في الميراث؛ فعلى ذلك لا حظ لهم في الشهادة. والرابع: أن الشهادات تجري مجرى الولايات والتمليكات، ثم لا ولاية نكون للعبد على غيره ولا تمليك؛ فعلى ذلك الشهادة، إذ فيها ولاية وتمليك الحاكم الحكم. والله أعلم. وعلى هذا بطلت شهادة الكفار على أهل الإسلام لما لا ولاية لهم عليهم. والخامس: أن الشهود بين حالين: بين أن يصدقوا فتمضي شهادتهم، وبين أن يكذبوا فيضمنوا. ولما كان العبيد إذا كذبوا في شهادتهم لم يضمنوا؛ لأن ضمان الشهادة ضمان معروف؛ لأنه لا بدل له بإزاء من لم يكن من أهل الشهادة؛ دل أنهم ليسوا من أهل الشهادة. وعلى ذلك قلنا: إن النكاح يجوز بشهادة الفاسق والمحدود في القذف، وأنهما من أهل الشهادة فيه؛ لأنهما من أهل الضمان، وإن كانت شهادتهما ردت لتهمة الكذب في سائر الحقوق. وأما العبد: فليس هو من أهل الشهادة بحال، للمعنى الذي وصفنا. والله أعلم. وإلا القياس يقتضي أن تجوز شهادة العبيد؛ لأنها من حق اللَّه، ودليله قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ). فإذا كانت من حق اللَّه تعالى، وحقوق اللَّه تعالى لا يختلف

العبيد والأحرار فيها، فيجب أن تقبل شهادتهم، لكنها لم تقبل للوجوه التي ذكرناها. والله أعلم. وقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)، إلى أن قال: (فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى): قد ذكرنا فيما تقدم أنهن لما جبلن وطبعن على فضل سهو وغفلة، ضمت إليها أخرى لتذكرها الشهادة إذا نسيت. وفي الآية دلالة أن الرجل إذا نسي الشهادة، ثم ذكر فتذكر، يجوز أن يشهد. وأما إذا أخبر بالشهادة ولم يتذكر، لم يجز له أن يشهد؛ لقوله: (فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)، إذ لم يقل: " فتخبر إحداهما الأخرى ". وقوله تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ): فيه دلالة أن من المسلمين من لا يكون مرضيا، وكذلك فيهم من يكون عدلا ومن لا يكون عدلا، دليله قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، لأنه لو لم يكن فيهم مرضيا وغير مرضي لكان يقول: " وأشهدوا رجلين منكم "، ولم يشترط فيه العدالة والرضاء. وهو على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: المسلم لا يكون غير عدل ولا غير مرضي. وفي الآية التي ذكرنا دلالة ما قلنا. واللَّه أعلم. وفي قوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ)، دلالة أن الشهود إذا شهدوا على المدعى عليه بالحق، وهم مرضيون عنده، يجب أن يؤدي إليه حقه؛ لأنا قلنا: إن قوله: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)، أمر باستحضارهم عند الحاكم، فإذا كان كذلك فهو دليل ما قلنا. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا): احنتلف فيه: قيل: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) للإشهاد. وقيل: لا يأبوا إذا ما دعوا للأداء. وهذا أشبه؛ لأن للشهود أن يقولوا: أحضر الخصم هاهنا لتشهدنا عليه، فإنا لا نحضر المكان الذي هو فيه. وليس هذا القول في الأداء، إذ الأداء لا يكون إلا عند الحاكم؛ لذلك كان أولى، كقوله تعالى: (وَلَا تَكْتُمُوا

الشَّهَادَةَ)، ولا يجد من يشهدهم، ولا يجد من يشهد له غيرهم. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ): فيه دلالة جواز السلم في الثياب؛ لأن ما يكال ويوزن لا يقال فيه: " الصغير والكبير "، ولا يكتب: " صغيرة وكبيرة "، إنما يقال ذلك في العددي. وقوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ)، يقول: أعدل عند اللَّه، (وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ)، في الحجة. وقوله تعالى: (وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا): أقرب إلى دفع الظنون والشكوك التي تحملكم على التناكر والتنازع الذي عاقبته الفسخ؛ ولهذا ما أمر عَزَّ وَجَلَّ بالكتابة فيه والإشهاد، وذكر كل صغير وكبير، لئلا يقع بينهم في العاقبة تنازع وتناكر، فيحمل ذلك الحاكم على فسخ العقد بينهما. وعلى ذلك نصبوا الأجل فيه شرطا لقطع وقوع التنازع والتناكر الذي حكمه الفسخ في العاقبة. والله أعلم. وقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ. . .) الآية: استثنى عَزَّ وَجَلَّ التجارة الحاضرة بترك الكتابة والإشهاد والرهن وغيره، وذلك لما ذكرنا آنفا أن الديون والقروض تنسى وتشتبه على الناس؛ فلذلك أمر بالكتابة فيها، والإشهاد، ولا كذلك التجارات الحاضرات، وعلى ذلك أمر ظاهر بين الناس أنهم يكتبون ويشهدون في الديون والقروض، ولم يعلموا ذلك في التجارات الحاضرات الجاريات فيما بينهم، لارتفاع ما يخاف وقوعه في الديون والقروض وخلائها عن ذلك. واللَّه أعلم. وقوله: (تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا): يقول: يدًا بيد وليس فيها إيجاب القبض على المجلس. وقوله (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ): أمر عَزَّ وَجَلَّ بالإشهاد في التجارة الحاضرة، ولم يأمر بالكتابة، وأمر في التداين بالكتابة والإشهاد، جميعا؛ فالأمر بالكتابة لمحافظة الحقوق ومعاهدة كل قليل وكثير فيه، وأما الأمر بالإشهاد للأدب، والأمر بالرهن أمر بالوفاء، والرهن والكتابة والإشهاد كل ذلك يمنع صاحبه عن الإنكار والجحود، ويذكر عند النسيان والسهو. ذلك كله لقطع التنازع الواقع فيما بينهما في المتعقب. واللَّه أعلم.

(283)

وقوله: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) لا يشغل الكاتب ولا الشهيد، فيقول له: اكتب لي كذا، واشهد لي على كذا، وهو يجد غيره. وقال آخرون: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ)، أي لا يضار كاتب صاحب الحق، فيكتب ما لا ينبغي أن يكتب بالزيادة والنقصان، وكذلك الشاهد لا يزيد على الحق ولا ينقص من الحق شيئًا، ولا يكتم الشهادة أيضًا. فهذا أقرب. واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: إذا كان المعنى راجعًا إلى ما ذكرت ألا يزيد الكاتب ولا ينقص ألا قال: لا يضارُّ بالرفع؟ قيل: إنه لا يضاره فطرحت إحداهما فإذا طرحت انتصبت علامة للطرح إذ هكذا عمل الإضمار. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " الإضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني: إن اللَّه أمرك ألا تأبى إذا ما دعيت فتضاره بذلك ". وقوله: (وَإن تَفعَلُوا) أي: تضاروا (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)؛ هذا يدل على أن التأويل هو ما ذكرنا من النهي عن الزيادة والنقصان والتحريف والكتمان؛ إذ في ذلك خروج عن الأمر. والفسق هو الخروج عن الأمر كقوله (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)، وهو على المعتزلة؛ كقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في المضارة من الزيادة والنقصان والكتمان (وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) الحكم والأدب وما يحل وما لا يحل (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) حرف وعيد. وقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) قد ذكرنا فيما تقدم في الأمر بالكتابة والإشهاد: أنهما - واللَّه أعلم - لحفظ الحقوق، ما جل منها وما دق، وألا يحملهم على الإنكار والجحد، وأن يذكرهم ذلك حتى لا ينسوا، فعلى ذلك الأمر بالرهان لئلا يؤخر قضاء الدَّين ويذكرون ولا ينسون، واللَّه أعلم. ثم فيه دلالة ألا يجوز الرهن إلا مقبوضا؛ لأن الرهن يقبض لأمرين: أحدهما: لأنه إذا كان مقبوضًا محبوسًا عن صاحبه عن جميع أنواع منافعه ذكره وتقاضاه لقضاء دينه، وإذا كان في يديه لم يتقاضاه على ذلك؛ لذلك قلنا: إنه لا يجوز إلا

مقبوضًا. والثاني: أنه إنما يقبض ليستوفى منه الدَّين، ولا يستوفى إلا بعد القبض، أو يأخذ ليأخذ الدَّين منه من غير بخس فيه ولا منع عنه. ووجه آخر -فيما لا يجوز الرهن إلا مقبوضًا- لأنه جعل وثيقة، فلا جائز أن يكون وثيقة وهو في يدي الراهن غير محبوس ولا ممنوع عن منافعه؛ فدل ما ذكرنا من طلب الناس بعضهم من بعض الرهون، أنهم طلبوا وثيقة. فإذا كان وثيقة فهو إنما يكون وثيقة إذا كان في يدي المرتهن محبوسًا عن صاحبه. ألا ترى أن الكاتب أمر بأداء الأمانة إذا أمن بعضهم بعضا بغير رهن، فلو كان الرهن يكون رهنا في يدي الراهن لذكر فيه أداء الأمانة في الرهن، ولم يكن لذكر القبض وجه؛ لذلك قلنا: إن الرهن لا يجوز إلا أن يكون مقبوضًا محبوسًا عن منافع صاحبه. وقوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) فيه دلالة ضمان الرهن دلالة استيفاء الدِّين من الرهن؛ لأنه إنما ذكر الأداء فيما أمن بعضهم بعضا بلا رهن، ولم يذكر الأداء فيما فيه الرهن، فلولا أن جعل في الرهن استيفاء الحق والدَّين وإلا لذكر الأداء فيه كما ذكر في الرهن فدل أنه مضمون به إذا هلك، هلك به. واللَّه أعلم. وأيضا قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) فيه دليل لقولهم في الشركات: إنه يكتب اشتركا على تقوى اللَّه وأداء الأمانة؛ لأن كل واحد منهما أمين في ذلك، لذلك ذكر فيه تقوى اللَّه وأداء الأمانة، كما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - تقوى اللَّه وأداء الأمانة فيما اؤتمن. وقوله: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ذكر إثم القلب، والإثم موضعه القلب لكنه يشيع في الجوارح ويظهر على ما روي: " إن في النفس مضغة إذا صلحت صلح البدن، وإذا فسدت فسد البدن ". قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وفيه دلالة أن المأثم تعمد القلوب بأي شيء كان؛ فلذلك وصف القلب بأنه آثم؛ وهو كقوله: (يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)، وكذا قوله (وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) الآية. * * * قوله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ

(284)

إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) وقوله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (284) هو ظاهر، إذ ما في السماوات والأرض كلهم عبيده وإماؤه، ردًّا على قولهم: (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)، و (الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ)، و " الملائكة بنات اللَّه ". وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم في غير موضع. وقوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ). ومن الناس من استدل على نسخها بقوله: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)، لكنه لا يحتمل؛ لأن الآية وعد وخبر بالمحاسبة، والوعد لا يحتمل النسخ؛ لأنه خلف وبداء، وذلك ممن يجهل بالعواقب، تعالى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عن ذلك علوًا كبيرًا. ثم اختلف فيه: قال الحسن: هو على ما عزم لا على ما خطر بالنفس. وكذا قوله: " مَن هَمَّ ". ويحتمل: أن يكون على التقديم والتأخير: إن تخفوا ما في أنفسكم أو تبدوه يحاسبكم به اللَّه. ويحتمل أيضًا: إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه وعزمتم عليه وعقدتم، لا على الخطر فيه أو حديث النفس، على ما روي: " مَن هَمَّ بحسنة فله كذا، ومَن هَمَّ بسيئة فكذا "، ليس على ما يخطر فيه أو حديث النفس، على ما روي، وتحدث النفس به، ولكن على العزم عليه والاعتقاد. وكذلك قوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) همت هي به هَمَّ عزم، وهو هَمَّ بها هَمَّ خطر. والمرء غير مؤاخذ بما يخطر في القلب وتحدث النفس به، إنما يؤاخذ على ما عزم واعتقد عليه. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). فيه دليل ما قلنا: إنه على العزم والاعتقاد عليه؛ لما ذكرنا من العفو والعقوبة عليه. وقوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ (285) وقوله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ)، يحتمل وجهين:

يحتمل: آمن بنفس المنزل (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ)، أنه من عند اللَّه وكذلك (وَالْمُؤْمِنُونَ) أيضًا آمنوا بما أنزل إليه أنه من عند اللَّه تعالى. ويحتمل: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ)، أي: آمن الرسول بما في المنزل إليه، وكان فيه ما ذكر: (آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)، إلى قوله: (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، وكذلك " المؤمنون " آمنوا بجميع ما في المنزل، وهو ما ذكرنا. وفيه دليل أن الإيمان بالمنزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إيمان بجميع الرسل والكتب كلها والملائكة والبعث والجنة والنار. وفيه دلالة نقض قول من يشك في إيمانه ويستثني؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ شهد لهم بالإيمان، فلا يخلو الاستثناء: إما أن يكون لشكهم في إتيان ما أمروا، أو في الذي أخبر اللَّه عنه بما كان، ففيه الويل لهم. وفيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه شهد لهم بالإيمان، وهم نفوا عنهم الاسم الذي شهد اللَّه لهم بالإيمان به، وبالذي ذكر، وكل صاحب كبيرة مؤمن بجميع ما ذكر، وقد سماهم اللَّه به مؤمنين، وشهد لهم به. واللَّه الموفق. فَإِنْ قِيلَ: فقد ذكر الطاعة في آخرها. قيل: ذكر الطاعة في الإجابة، وبتلك الإجابة شهد لهم؛ فيلزمهم ما شهد اللَّه لهم جل وعلا بما أجابوا. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ويحتمل: أن يكون هنا خبرا أخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عن المؤمنين أنهم قالوا: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) كما فرق اليهود والنصارى. وقوله تعالى: (. . . وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا). يحتمل: (سَمِعْنَا) قولك ودعاءك، و (وَأَطَعْنَا)، أي: أطعناك في الإجابة. ويحتمل: (سَمِعْنَا) القرآن، و (وَأَطَعْنَا)، أي: أطعنا ما فيه. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (. . . غُفْرَانَكَ رَبَّنَا). أي: اغفر لنا ربنا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي: المرجع.

(286)

وهذه الآية جمع جميع شرائط الإيمان؛ لذلك قلنا: إن الإيمان بالقرآن إيمان بجميع الكتب والأنبياء والبعث وغيره. وباللَّه العصمة والنجاة. وقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (286) واختلف فيه: قال الحسن: قوله تعالى: (إِلَّا وُسْعَهَا)، إلا ما يحل ويسع، لكن بعض الناس يقولون: هذا بعيد، لا يحتمل الآية، إذا كلف حل ووسع. فإذا كان كذلك لم يكن لقوله معنى. قيل له: هو كقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)، إذا أحل طَيَّب وإذا طيب أحل. فكذا الأول. وكذا ذكرنا الأمرين جميعًا. وتأويل ثان (إِلَّا وُسْعَهَا): إلا طاقتها وكذلك قول المعتزلة: غير أنا اختلفنا في تقدم استطاعة الأفعال فمنعنا نحن تقدمها وقلنا لا تكون إلا مع الفعل، وقالت المعتزلة، بتقدم الفعل، وأما عندنا: فإنها على وجهين: استطاعة الأحوال والأسباب، واستطاعة الأفعال. أما استطاعة الأحوال والأسباب: فإنها يتقدمها، وعلى ذلك يقع الخطاب، دليله: قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). قيل: يا رسول اللَّه ما الاستطاعة؟ قال: " الزاد والراحلة ". ثم كل يجمع أن من كان بأقصى بلاد المسلمين قد يلزمه فرض الحج، على علم كل منهم أن تلك الاستطاعة لو صرفت إلى استطاعة الأفعال لم يبق إلى وقت وجود الأفعال، ثم قد لزمه ذلك؛ فبان أن الكلفة إنما تقع على استطاعة الأحوال والأسباب، وكذلك الكلفة في جميع الطاعات. فَإِنْ قِيلَ: قد يقع هذا على الخروج، فيوجد الفعل عقيب قوة الخروج، قيل: لو كان كذا لكان لا يلزم فرض الحج إلا بالخروج، وله ترك الخروج، إذ باكتساب الخروج يلزمه فرض الحج، فلا يلزم عليه فرض الحج؛ فثبت أنه لا يحتمله، بل هو على ما قاله أصحابنا - رحمهم اللَّه -: إنها استطاعة الأحوال والأسباب، وتلك تتقدم، لما ذكرنا. واللَّه أعلم. وأما استطاعة الأفعال: فإنها تحدث بحدوث الأفعال وتتلو كالأوقات التي لا تبقى في

وقت ثان، فهي كالوقت الذي لا يبقى في وقت ثان. واللَّه أعلم. فإن سئلنا عن التكليف: أيكون فيما لا يطاق؟ فجوابنا: أنه فيما منعنا عنه فلا. وفيما لم نمنع، وصنيعنا يشغلنا بغيره، فبلى. ثم الكافر بما أعطى من القوة والاستطاعة، شغل نفسه بغير وضيع ما أعطى من القوة. فإذا ضيع لم يكن تكليف ما لا يطيق ثم ننظر أينا أحق بالقول بتكليف ما لا يطاق. فمن دول المعتزلة: إن القوة على الفعل ليوجده في الوقت الثاني، ثم في الوقت الثاني جعلوه غير قادر عليه بقدرة توجد، ثم جعلوه أيضًا غير قادر على الترك للفعل. والمتعارف من الأمر في الظاهر بشيء يفعله في وقت ألا يقع الأمر به وقت ما يسمعه ويقرع الخطاب السمع، بل في ثان من الوقت. فحصل عندهم الأمر على الوقت الذي هو غير قادر فيه. فأي تكليف على فقد الطوق والوسع أبين مما قالوا؟! وباللَّه التوفيق. ثم أفحش من هذا ما قالوا: إن القدرة تتقدم الفعل، والفعل هو الذي يدل على وجود الولاية، وهو في وقت إيجاد الفعل، إن كان كفرا يعادى، وإن كان إيمانًا يوالى. فحصل القول: على أن الموالاة والمعاداة أبدا تقع في غير وقت الانتهاء والائتمار. ثم قولهم في قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) أنه على الجبر. ولا يحتمل ذلك؛ لأنه قد أوجب لكل ذلك مرة بالجبر في الخلقة، وهو قوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)، فقد ألزمهم الإسلام بالخلقة، بأن أن الثاني على الاختيار. ثم قولهم: في استطاعة واحدة لفعلين خطأ؛ لأن من قولهم: إن الاستطاعة لا تبقى، ثم وجود الفعلين معًا في وقت باستطاعة واحدة محال، ووجود تلك الاستطاعة لأحد الفعلين بعدم الآخر مستحيل لعدم البقاء، ووجوده عندهم على البدل محال، إذ جعلوا عين ما هو الأصل لأحدهما للآخر؛ فثبت أنه خطأ. وقوله تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) فيه دلالة: أن اللَّه تعالى إنما يأمر عبيده وينهى، وإنما يأمر وينهى؛ لمنافع لهم ولضرر يلحقهم، لا لمنافع تكون له بالأمر فيأمر، أو بضر يلحقه فينهى عن ذلك. فيكون الأمر جارًّا منفعة، وفي النهي دافعا مضرة. كما يكون في الشاهد أن من أمر آخر بشيء إنما يأمر

لمنفعة تتأمل فيه، وينهى عن شيء لدفع ضرر يخافه. وتعالى اللَّه عن ذلك. وقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). قيل فيه بوجهين: قيل: (إِنْ نَسِينَا)، يعني: تركنا، كقوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ). وكقوله: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ)، أي: ترك. وقوله: (أَخْطَأْنَا)، يعني: ارتكبنا ما نهيتنا. وقيل: إنه على حقيقة النسيان والخطأ، كأنه على الإضمار أن قولوا (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا. . .) الآية. ثم اختلف بعد هذا: قالت المعتزلة: أمر بالدعاء بهذا تعبدا أو تقربًا إليه. وكذلك قوله تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)، وكذلك قوله: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)، ونحوه، خرج الدعاء به مخرج التعبد والتقرب؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبر أن لا يؤاخذنا بالنسيان والخطأ، وأخبر أنه لا يخلف الميعاد، وكذلك معلوم أنه لا يحكم إلا بالحق. وكذلك قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، وقد أخبر أنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكنه على ما ذكرنا، وإلى هذا يذهب المعتزلة. وأما الأصل عندنا في هذا: أنه جائز في الحكمة أن يعاقب على النسيان والخطأ، ليجتهدوا في حفظ حقوقه وحدوده وحرماته لئلا ينسوا. ألا ترى أن اللَّه تعالى أوجب على قاتل الخطأ الكفارة، ثم قال: (تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ)، فلو لم يجز أن يعاقب على النسيان والخطأ، لم يكن لوجوب الكفارة عليه والتوبة معنى؛ دل أنه جائز في الحكمة المؤاخذة به. والثاني: قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ)، وفعل الشيطان

مما يتقى ويحذر؛ لذلك كان ما ذكرنا - واللَّه أعلم - لأنه لو اجتهد عن فعل السهو والنسيان سلم عنه، فجائز أن يسأل السلامة عنهما، إذ بالجهد يسلم عنه، وبالغفلة يقع فيه. والثالث: ما ذكرنا: أن النسيان هو الترك، والخطأ هو ارتكاب المنهي، والتارك لأمر اللَّه، والمرتكب لنهيه يستوجب العقاب عليه. واللَّه أعلم. فيصبح الدعاء على ذلك؛ لئلا يلحقهم العذاب بترك ذلك الأمر وارتكابه المنهى. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "؟ ْقيل: إنما جاء هذا في الكفر خاصة، لا في غيره؛ وذلك أن القوم كانوا حديثي العهد بالإسلام، يجري على ألسنتهم الكفر على النسيان والخطأ، وكذلك كانوا يكرهون على الكفر فيجرون على ألسنتهم الكفر مخافة القتل، فأخبرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك مرفوعًا عنهم. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: وبعد فإن في الخبر العفو، فيكون في ذلك دليل جواز الأخذ، ولعل الوعد بالعفو مقرونا بشرط الدعاء؛ فلذلك يدعون. وذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعا بهذا، فأجيبا لا أن يؤمر أحد أن يدعو ابتداء. واللَّه أعلم. وأما قوله تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)، ففيه وجهان: أحدهما: أنه وعد الرسل والمؤمنين جملة الجنة. فسؤال كل منهم أن يجعله من تلك الجملة التي وعدهم الجنة. والثاني: يسأل الختم على ما به يستوجب الموعود. وأما الأمر بالاستغفار: فهو يخرج على وجهين: أحدهما: ما روي: " المؤذن يغفر له مد صوته "، فهو على استيجاب أُولَئِكَ المغفرة به؛ فعلى ذلك استغفاره، ليغفر به بعض أمته. والثاني: أن المغفرة في اللغة هي التغطية والستر؛ فكأنه يسأل الستر عليه بعد التجاوز عنه. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: ثم الأصل أن الاستغفار هو طلب المغفرة، فلو كان لا يجوز له التعذيب، فيكون التعذيب جَورًا، فيصير السؤال في التحقيق سؤال ألا يجورَ، وذلك مما لا يسع المحنة. وكذلك لو كان مغفورا له، كان الحق فيه الشكر لما أنعم عليه، وفي ذلك كتمان النعمة، والمحنة بكتمان نعم اللَّه وكفرانها محال؛ لذلك لا

بد أن يكون في الآيات ما يتمكن معه المحنة من المعنى. واللَّه أعلم. وأما قوله عَزَّ وَجَلَّ: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)، قيل: الحق هاهنا هو العذاب، كأنه أمره أن يسأل بإنزال العذاب عليهم. وقيل: (احْكُمْ بِالْحَقِّ)، أي احكم بحكمك الذي هو الحق. فإذا كان ما ذكر محتملا، دل أنه ليس على ما ذهب إليه أُولَئِكَ. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا). قيل: " الإصر "، هو العهد، ويقول: لا تحمل علينا عهدا تعذبنا بتركه ونقضه كما حملته على الذين من قبلنا. وكان من قبلهم إذا خُطِّئُوا خطيئة حرم اللَّه عليهم على نحوها مما أحل لهم الطيبات، كقوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وكأصحاب الأخدود، وغيرهم. فخاف المسلمون ذلك فقالوا: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا)، في جرم أجرمناه فتحرم علينا الطيبات. وأصل " الإصر "، الثقل والتشديد الذي كان عليهم من نحو ما كان توبتهم الأمر بقتل بعضهم بعضا، كقوله تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). وقوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) يحتمل وجهين: يحتمل: أن (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) من القتل والهلاك، إذ في ذلك إفناؤهم، وفي الفناء ذهاب طاقتهم. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى -: أي مما نشتغل عما أمرتنا، فيكون كالدعاء بالعصمة. واللَّه أعلم. ويحتمل: أن يراد به طاقة الفعل، وهي لا تتقدم عندنا الفعل. واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (وَاعْفُ عَنَّا) قيل: اتركنا على ما نحن عليه، ولا تعذبنا. وقوله تعالى: (وَاغْفِرْ لَنَا). أي: استر لنا. و " الغفر "، هو الستر؛ ولذلك يسمى المغفر " مغفرًا "؛ لأنه يستر. وستر

الذنب هو أعظم النعم. وقوله تعالى: (وَارْحَمْنَا) أي: تغمدنا برحمتك، لأنه لم ينج أحد إلا برحمتك، وقوله تعالى: (أَنْتَ مَوْلَانَا) قيل: أنت أولى بنا. وقيل: أنت حافظنا. وقيل -: أنت ولينا وناصرنا. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله تعالى: (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) يحتمل: الكفار المعروفين. ويحتمل: الشياطين، أي: انصرنا عليهم. * * *

سورة آل عمران

سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ * * * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) قوله: (الم (1) اللَّهُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: تفسيره ما وصل به من قوله: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ). هو تفسير (الم)، و (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): تفسير (الم)، و (المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ)، وجميع ما وصل به الحروف المقطعة فهو تفسيرها، ولله أن يسمي نفسه بما شاء: سمى نفسه مجيدًا؛ كقوله: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)

(2)

وسمى القرآن مجيدًا؛ كقوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحروف المقطعة هي مفتاح السورة. وقال آخرون: إن كل حرف منها اسم من أسماء اللَّه تعالى. ومنهم من يقول بأنها من المتشابه التي لا يوقف عليها. ومنهم من يقول: هو على التشبيب؛ إذ من عادة العرب ذلك، وقد مضى الكلام فيه في قوله: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ)، بما يكفي. وقوله: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) هو الْحَيُّ بذاته، وكل حي سواه حي بحياة هي غيره، فإذا كان هو حيًّا بذاته لم

يوصف بالتغاير والزوال، ولما كان كل حي سواه حيًّا بغيره احتمل التغاير والزوال؛ وكأن الحياة عبارة يوصف بها مَنْ عَظُمَ شَأنُهُ، وشَرُفَ أمره عند الخلق. ألا ترى أن اللَّه - تعالى - وصف الأرض بالحياة عند نباتِها؛ لما يعظم قدرها ويشرف منزلتها عند الخلق عند النبات؟! وكذلك سمى المؤمن حيا؛ لعلو قدره عند الناس، والكافر ميتا؛ لدون منزلته عند الناس؛ فكذلك اللَّه - سبحانه - سمى نفسه حيًّا؛ لعظمته وجلاله وكبريائه؛ وعلى هذا يخرج قوله في الشهداء؛ حيث قال: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ)، أي: مكرمون معظمون مشرفون عند ربِّهم. وقوله: (الْقَيُّومُ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: هو القائم على كل نفس بما كسبت. وقال آخرون: القيوم: الحافظ. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " هو الْحَيُّ الْقَيَّامُ " وكله يرجع إلى واحد: القائم. والقيوم، والقيام، يقال: فلان قائم على أمر فلان، أي: يحفظه حتى لا يغيب عنه من أمره شيء. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " إنَّ اسمَ اللَّه الأعْظَمَ هُوَ: الْحَيُّ

(3)

الْقَيُّومُ ". وقوله: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ (3) ظاهر. (بِالْحَقِّ) قيل فيه بوجوه: يحتمل بالحق، أي: دعاء الخلق إلى الحق، ويحتمل بالحق، أي: هو الحق نفسه حجة مجعولة، وآية معجزة، أيس العرب عن أن يعارضوه أو يأتوا بمثله، وتحقق عند كُلٍّ أنهُ من عند اللَّه، إلا من أعرض عنه، وكابر وعاند. وقيل: بالحق، أي: بالصدق والعدل. وقيل: بالحق الذي لله عليهم، وما يكون لبعضهم على بعض. ثم قال: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ).

(4)

أي: موافقًا لما قبله من الكتب السماوية، وهي غير مختلفة ولا متفاوتة، وفيه دلالة نبوة سيدنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أنه موافق لتلك الكتب غير مخالف لها، ولو كان على خلاف ذلك لتكلفوا إظهار موضع الخلاف؛ فإذا لم يفعلوا ذلك دل أنهم عرفوا أنه من اللَّه، وأن محمدًا رسوله، لكنهم كابروا وعاندوا. وقوله: (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ (4) من بعد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (هُدًى لِلنَّاسِ). أي: بيانا لهم، وحجة لمن اهتدى، وحجة على من عمي؛ إذ لا يحتمل أن يكون له هدى، وعليه حجة فيه الهلاك؛ إنما يكون حجة له وهدى إذا اهتدى، وعليه إن ترك الاهتداء؛ فبان أنه يخالف ما يقوله المعتزلة.

وقوله: (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ): قد ذكرنا فيما تقدم أنه إنما سمي فرقانًا؛ لوجهين: أحدهما: لما فرق آياته وفرق إنزاله. والثاني: لما يفرق بين الحق والباطل، وبين الحرام والحلال، وبين ما يتقى ويؤتى؛ فعلى هذا كل كتاب مبيّن فيه الحلال والحرام، وبُيّن ما يتقى ويؤتى. والإنجيل فيه سمي إنجيلًا؛ لما يجلي، وهو الإظهار في اللغة. وَقِيل: سمي التوراة تَوْراة من أوريت الزند؛ وهو كذلك. واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ. . .): قيل: بحجج اللَّه. وقِيل: كفروا بآيات اللَّه، أي: باللَّه؛ لأنهم إذا كفروا بآياته كفروا به، وكذلك الكفر بدينه كفر به، والبراءة من دينه براءة منه، والبراءة من رسوله براءة منه.

(5)

وقوله: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ). قيل فيه بوجهين: قيل: ذو انتقام لأوليائه من أعدائِه. وقيل: ذو انتقام: ذو انتصار على الأعداء. وقيل: ذو بطش شديد. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هو وعيد؛ كأنه - واللَّه أعلم - قال: لا يخفى عليه ما في السماوات، وأما في، الأرض من الأمور المستورة الخفية على الخلق؛ فكيف يخفى عليه أعمالكم وأفعالكم، التي هي ظاهرة عندكم؟! ويحتمل: إذا لم يخف عليه ما بطن، وخفي في الأصلاب والضمائر والأرحام؛ فكيف يخفى عليه أفعالكم وأقوالكم، وهي ظاهرة؟!. ألا ترى أنه قال: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ)؛ إذ علم ما في الأرحام وصوَّرها على ما شاء وكيف شاء، وهم (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ). وقوله: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ (6) فيه دليل نقض قول من يقول بالقائف؛ لأنه جعل علم التصور في الأرحام لنفسه، لم يجعل لغيره، كيف عرف بالقائف تصوير الأول، حتى قال اللَّه: إنه على صورته وعلى

(7)

تصويره، وإنه من مائه، ثم اختلف في خلق الأشياء: قَالَ بَعْضُهُمْ بخلق الفروع من الأصول، وهن أسباب للفروع. وقال آخرون: يكون بأسباب وبغير أسباب، فإن كان بعض الأشياء يكون بأسباب؛ من نحو الإنسان من النطفة، إلا أن النطفة تتلف؛ فتكون علقة، ثم مضغة؛ فدل أنه يخلق الخلق كيف شاء من شيء ولا من شيء، بسبب وبغير سبب، وهو القادر على ذلك، وباللَّه التوفيق. وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ (7) اختلف فيه: فقيل: المحكمات: هن النَّاسخات المعمولات بهن،

والمتشابهات: هن المنسوخات غير معمول بهن، وهو قول ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنه. وقال آخرون: المحكمات: هن ثلاث آيات في آخر سورة الأنعام: قوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ. . .)، إلى قوله: (. . . تَتَّقُونَ)، وما ذكر في سورة " بني إسرائيل " من قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، إلى آخر هذه الآيات، سميت محكمة؛ لأن فيها توحيدًا وإيمانًا باللَّه وغيره من المتشابه. ثم قيل بعد هذا بوجوه: قيل: المحكمات: هي التي يعرفها كل أحد إذا نظر فيها، وتأمَّل فيها. والمتشابه: هو المبهم الذي يعرف عند البحث فيه والطلب. وقيل: المحكمات: ما يوقف ويفهم مراده. والمتشابه: هو الذي لا يوقف عليه ألبتَّة، بعد ما قضى حوائج الخلق من البيان في

المحكم منه، ولكن يلزم الإيمان به، وهو من اللَّه محنة على عباده، ولله أن يمتحن خلقه بما شاء من أنواع المحن؛ لأنها دار محنة. وغيرها لا يفهم مرادها. ويحتمل أن يكون المحكمات: هن ما ظهر لكل أحد من أهل الإسلام؛ حتى لم يختلفوا فيها. والمتشابه: هو الذي اشتبه على الناس؛ لاختلاف الألسن فاختلفوا فيها، ولما يؤدي ظاهره إلى غير ما يؤدي باطنه؛ فتعلق بعضهم بالظاهر فقالوا به، وتعلق آخرون بالباطن؛ لما رأوا ظاهره جورًا وظلمًا أو تشبيهًا، على اتفاقهم على نفي الجور والظلم عنه، ويجوز لمن يوقف على المتشابه بمعرفة المحكم. وقال آخرون: المحكم: هو الواضح المبين، فلو كان على ما قالوا لم يكن لاختلاف الناس فيه، وادعاء كلٌّ أن الذي هو عليه هو المحكم؛ لأنه لو كان ظاهرًا مبيّنًا لتمسكوا به، ولم يقع بينهم اختلاف. وفيه دليل ونقض على المعتزلة؛ لأنهم يقولون بالأصلح في الدِّين: أنه لا يفعل إلا

ذلك، ثم لم يبين لهم المحكم من غير المحكم، ولو بين كان أصلح لهم في الدِّين؛ فدل أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد يجوز أن يفعل بهم ما ليس بأصلح لهم في الدِّين؛ امتحانًا وابتلاءً منه لهم، واللَّه أعلم. لكن لا يخرج من الحكمة، ثم ما قالوه في الأمر حق؛ لأنه لا يأمر إلا أن يفعل بهم ما لهم فيه الأصلح، وقد يفعل ما هو حكمة في حق المحنة وإن كان غير ذلك أصلح لهم في الذين، بمعنى: أقرب وأدعى إليه، واللَّه الموفق. وَقال قوم: المحكم: ما في العقل بيانه. والمتشابه: ما لا يدرك في العقل؛ وإنَّمَا يعرف بمعونة السمع. وقال قوم: لا متشابه فيما فيه أحكام من أمر ونهي وحلال وحرام؛ وإنَّمَا

ذلك فيما ليس بالناس حاجة إلى العلم به، نحو: الإنباء عن منتهى الملك، وعن عدد الملوك، وعن الإحاطة بحقيقة الموعود، ونحو ذلك. ولا قوة إلا باللَّه. لكن يمكن أن يكون سمي متشابهًا؛ بما تشابه على أُولَئِكَ القوم حقيقة ما راموا من الوجه الذي طلبوا.

وقد بيّنا الحق في أمر المتشابه، وما يجب في ذلك من القول، وباللَّه العصمة والنجاة. وقوله: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ): يحتمل وجهين: يحتمل أم الكتاب، أي: أصل الكتاب. ويحتمل أم الكتاب، أي: المتقدم على غيرها؛ وعلى هذا يُخَرّجُ: (أُمَّ الْقُرَى) أعني: مكة؛ لأنها هي المتقدمة على غيرها من القرى، ويحتمل هي أصل القرى؛ كما سمى " فاتحة الكتاب ": " أم القرآن "؛ لأنها أصل؛ أو لأنها هي المتقدمة على غيرها من السور، واللَّه أعلم.

ويحتمل قوله: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ)، أي: مقصود الكتاب، يعني: المحكمات، والمتشابهات مما فيه شبه من غيره؛ فيتشابه؛ فهو متشابه؛ كقولهم: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا)؛ وكذلك المشكل سمي مشكلًا؛ لما يدخل فيه شكل من غيره فسمي مشكلًا؛ فكذلك المتشابه يدخل فيه شبه غيره؛ فصار متشابهًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) قيل: ميل عن الحق. وقيل: الزيغ: هو الريب والشك. (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) ولو كان ثم اتباع لعذروا؛ إذ الاتباع للشيء اتباع ما فيه من المراد؛ وعلى هذا يقولون في قوله: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ): أي يتبعونه حق اتباعه، وكذلك قوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ). والمتشابه قد أنزل إلينا من ربنا؛ فيحمد متبعه في الحقيقة؛ فثبت أنه لم يكن ثم اتباع في الحقيقة، وأنه لو كان لعذروا، ولكنه كان - واللَّه أعلم - اتباع الآراء في التأويل بالآراء الفاسدة؛ ألا ترى أنهم طلبوا بالتأويل منتهى ملك هذه الأمَّة؟! وفي الوقوف عليه وقوف على علم الساعة وسبب

القيامة، وذلك علم لم يُطْلِعِ اللهُ الرسلَ على ذلك، فضلًا أن يطلع عليه غيرهم. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ويحتمل أن يكون اتباعهم نظرهم فيما تقصر أفهامهم عن الإدراك في الوقوف عليه، ولو كان نظرهم في المحكم من ذلك، لكان لهم في ذلك بلاغ وكفاية فيما إليهم به حاجة، ولا قوة إلا باللَّه. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: في قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ): أي: ميل عن الحق، وذلك همتهم، أو كان ذلك اعتقادهم، فإن كان المراد من ذلك في الكفرة فهو الأوّل، وإن كان في أصحاب الهوى من الذين يدينون دين الإسلام - فهو الثاني؛ وكذلك نجد كل ذي مذهب في الدِّين - ممن اعتقد حقيقة الأمر في قوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)، وقوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) الآية، وقوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. . .) الآية - يتعلق بظاهر الآية؛ يدعي أنها محكمة بما عنده أنه الحق، بعد أن أجهد نفسه في طلب الحق، ويسوي غير ذلك عليه، فإن كان على ذلك فحقه التسليم لما عليه توارث الأمة ظاهرًا؛ على ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه أخبر عن تفرق الأمة، ثم أشار إلى التمسُّك بما عليه هو وأصحابه - رضي اللَّه عنهم -، فعلى ذلك أمر المتوارث؛ فيجب جعله محكمًا وبيانًا لما اختلف عليه، ولا قوة إلا باللَّه.

ويكون المبتدع في ابتغاء تأويله؛ يريد التلبيس على من لزم تلك الجملة، وكذلك لأهل جمل في الدِّين مرفوع عليه، كذا التنازع وترك الاشتغال بتأويل ما اعترضه، لكان متبع المحكم عند الأمة مطيعًا المتشابه، ولا قوة إلا باللَّه. وإن كان هو الأوَّل فقد ذكر أن ذلك في استخراج منتهى ملك هذه الأمة، وأن نهايته الساعة، والعلم به لم يطلع عليه الرسل فضلًا عمن دونهم، أو كان ذلك في أشياء تقصر عقول الضعفاء عن الإحاطة بذلك؛ يريدون بذلك التلبيس على العوام وأهل الغباوة؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - بما ذكر أنه لا يعلمه إلا اللَّه كان ذلك فيما يعلمه غيره أو لا، فإن كان أطلعه فباللَّه علم، لا أن في العقول بلوغ ذلك، ومعنى الاتباع ما قد بين. وقوله: (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)، أي: من القرآن بقول ما اشتبه حسابهم. (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ). وقيل: الفتنة: الكفر، ويحتمل " الفتنة ": المحنة، أي: يمتحنون أهل الإسلام. وقوله: (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ). منتهى ما كتب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لهذه الأمَّة من المدة لهم والوقت، وأصل التأويل: هو المنتهى. قال اللَّه - تعالى -: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ).

أي: وما يعلم منتهي تلك الأمة إلا اللَّه. ثم المتشابه: إن كان ما يوقف فيه فهو، وإن كان مما يعرفه أهل المعرفة، ويعلمه بالواضح - فهو هو، وأصل هذا: أن كل ذي مذهب في الإسلام يدعي على خصمه بما ذهب إليه من الحجاج بالآيات -الوقوع في المتشابه، ولنفسه- الوقوع في الواضح، وعنده أن ما ذهب إليه هو الحق؛ فلا فرق بين أن يدعي عليه ذهابه إلى غير الحق، أو تعديه إلى المتشابه وترك الواضح، فسبيل مثله الفحص والبحث عما ذهب إليه إن جاء بشيء يضطر العقل إلى قبوله سلم له ما جاء به، وإلا فخصمه منه في دعوى مثله: بالوقوع له في المتشابه بمحل دعواه. وقوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ): قال قوم: موضع الوقف على قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، ثم ابتدأ فقال: (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا): " يقولون "، بمعنى: قالوا، " آمنا به ": بما عرفنا، وذلك جائز في اللغة؛ " يقول " بمعنى: " قال ". وقال آخرون: موضع الوقف على قوله: (إِلا اللَّهُ)، ثم استأنف الكلام فقال: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا): المحكم والمتشابه وغيره. قيل: الراسخون: هم المتدارسون.

(8)

ْوقيل: المتثابتون؛ رسخ، بمعنى: ثبت. وقيل: الراسخون: الناتجون. يقال: رسخ في العلم: نتج فيه. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في إنزال المتشابه؟. قيل: إذا كان مما يعلم فهو يحتمل وجهين: يحتمل: ليعلم فضل العالم على غير العالم. ويحتمل: أن جعل عليهم طلب المراد فيه، والفحص عما أودع فيه. وإن كان مما لا يعلم يحتمل المحنة؛ امتحنهم في ذلك بالوقف فيه؛ إذ الدار دار محنة، وللَّه أن يمتحن عباده بجميع أنواع المحن. وقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ). ْأي: ما يتعظ إلا أولو الحجج والعقل. * * * قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) وقوله: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) فيه وجهان على المعتزلة: أحدهما: أنه أضاف الزيغ إلى نفسه، وهو حرف مذموم عند الخلق، إذا قيل: فلان أزاغ فلانًا عن الحق، فإذا أضاف اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إلى نفسه حرف الزيغ، دل أن فيه معنى سوى ظاهره؛ حتى جاز إضافته إليه، وهو أن خلق منهم فعل الزيغ، وكذلك هذا في الضلال، وأضاف -أيضًا- الهداية إلى نفسه بقوله: (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)، فلو كان الهدى: البيان؛ على ما يقوله المعتزلة، لجاز أن يضاف ذلك إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ هو يملك البيان؛ لأنه بعث مبينًا معلمًا، فإذا لم يجز ذلك دل أن فيه معنى سوى البيان وهو التوفيق والعصمة؛ حتى جاز إضافته إليه، ولا يجوز إلى غيره، واللَّه الموفق.

والثاني: أنهم سألوا العصمة عن الزيغ والضلال، فلو كان عليه أن يفعل، وأن يبذل لهم العصمة، لم يكن للسؤال عن ذلك معنى؛ فدل أنه تفضل منه ببذل ذلك لهم، والله أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) الآية: فيه وجهان: أحدهما: أنه لو لم يكن له إلا الأصلح في الدِّين؛ فتركه جور، فالقول بـ (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) - لا يخلو من أن يكون الإزاغة أصلح له، وهو يدعو بأن يجور أو لا يكون أصلح، فهو يدعو بأنه لا يجور، ومُحَالٌ الدعاء على خوف الجور؛ ومن خاف جور الخالق فهو غير عارف به. والثاني: أن الداعي -فيما جبل عليه الخلق- يدعو على أمر أنه لو أجابه لكان لا يزيغ قلبه، وكذلك سؤال العصمة والهداية؛ ولهذا يؤمر به -أيضًا- ولو كان معه زيغ، لكان الأفضل في الأمر بين الدعاء بالإزاغة، وأن " لا تزغ "؛ إذ الخوف مع الأمرين قائم، واللَّه الموفق. وفي ذلك -أيضًا- وجهان آخران: أحدهما: أن الإزاغة إذا أضيفت إلى أحد، خرجت مخرج الشتم له والتعيير؛ فثبت أن فيما أضيفت إلى اللَّه - تبارك وتعالى - معنى ليس فيما أضيفت إلى أحد آخر غيره، وهو - واللَّه أعلم - أن الإزاغة من كل أحد فعل هو زيغ بنفسه فيه ذم، ومن اللَّه ليست بذم؛ فيكون فيه أن خلق فعل الزيغ ليس بزيغ، وإن كان فعله زيغا، واللَّه أعلم. وفيه أن خلق الشيء ليس هو ذلك، والشيء ذاته يكون من اللَّه ما يوصف بالإزاغة، ويصير لديه الآخر زائغا، ولا شيء يوجد يكون كذلك سوى خلق فعل الإزاغة من العبد، واللَّه الموفق. والثاني: قوله: (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا): ولو لم يكن من اللَّه في الهداية سوى البيان، لكان يصح ذلك لكل كافر، ويجوز الإضافة إلى الرسل؛ فإذ لم يصح ذلك ولم يجز، ثبت أن ثم فضلاً، وهو خلق فعل الهداية، والتوفيق الذي معه الاهتداء لا محالة، وباللَّه التوفيق والمعونة.

(9)

وقوله: (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً): يحتمل وجوهًا: يحتمل الهدى والإسلام؛ إذ به يستفاد. ويحتمل الجنة. ويحتمل أنهم سألوه كل رحمة. قال أبو بكر الأصم: الرحمة: السعة في الدنيا، والثواب في الآخرة. وقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ): فهو -على قول المعتزلة- ليس بوهاب؛ لأن الوهاب هو الْمُفْضِل الذي يهب ويبذل ما ليس عليه، وهو - على قولهم - عليه أن يعطي الخلق كل ما هو أصلح لهم في الدِّين؛ فالآية تكذبهم، وترد عليهم قولهم الوَخْش في اللَّه، تعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرًا. ويحتمل: هب لنا ما يُستوجب به الرحمة، وهو عمل الخير؛ كقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). وقوله: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ (9) إقرار بالإيمان والبعث بعد الموت.

(10)

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) في هذا خاصة: يراد به القيامة والبعث. ويحتمل: لا يخلف الميعاد في كل شيء، مما يصيب الخلق: من الخير والشر، والفرح والحزن والأسف، يقولون: إنه كان بوعده ووعيده، وإنه كان مكتوبًا عليهم ولهم، وإنه لا يكون على خلاف ما كان مكتوبًا عليهم؛ ليصبروا على الشدائد والمصائب، فلا يجزعوا عليها، ولا يحزنوا، وليشكروا على الآلاء والنعماء ولا يفرحوا عليها، وهو كقوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ). * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، وذلك أنهم كانوا يستنصرون بأولادهم وأموالهم في الدنيا، ويستعينون بهما على غيرهم؛ فظنوا أنهم يستنصرون بهم في الآخرة، ويدفعون بهم عن أنفسهم العذاب؛ وهو كقولهم: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)؛ فأخبرهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن أموالكم وأولادكم لا تغني عنكم من عذاب اللَّه شيئًا. وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ):

(11)

أي: حطب النار؛ فهو - واللَّه أعلم - أن الإنسان إذا وقع في النار في هذه الدنيا لا يحترق احتراق الحطب؛ ولكنه يذوب ويسيل منه الصديد، فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: إنهم يحترقون في النار في الآخرة احتراق الحطب، لا احتراق الإنسان في الدنيا؛ لأنها أشد بطشًا، وأسرع أخذًا، وأطول احتراقًا؛ وعلى هذا يخرج قوله: (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ): ليس عذاب الدنيا أنه على الانقضاء والنفاد؛ ولكن على الدوام فيها والخلود أبد الآبدين؛ فنعوذ باللَّه منها. وقوله: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ (11) قيل: كأشباه آل فرعون، وقيل: كعمل آل فرعون وكصنيعهم، وكله واحد، ثم يحتمل بعد هذا وجهين: يحتمل: صنيع هَؤُلَاءِ وعملهم - كصنيع آل فرعون ومن كان قبلهم بموسى، في التكذيب والتعنت. ويحتمل بصنيع هَؤُلَاءِ بما يلحقهم من العذاب بالتكذيب والتعنت؛ فألحق أُولَئِكَ من العذاب بتكذيب الرسل، وتعنتهم عليهم. (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) قد ذكرناه. * * * قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) وقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) وهذا - واللَّه أعلم - في قوم قد علم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ لذلك قال تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أن قل لهم: (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ. . .) الآية، وإلا فلا يلحقه ذلك الوعيد، واللَّه أعلم؛ لأن من الكفار من يسلم ومن لا يسلم، وإلا فلا يلحق بالوعيد من الكفار من أسلم.

(13)

وقوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا (13) وفيه: فإن قال قائِل: ما في فئة قليلة، وهي فئة أهل الإسلام، في غلبة فئة كثيرة، وهي فئة المشركين؛ حيث غلبت فئةُ المسلمين -وهم قليل- فئةَ المشركين -وهم كثير- يوم بدر، وقد يكون لأهل الكفر إذا كانوا قليلًا، فغَلَبُوا على أهل الإسلام - آيةٌ. قيل: ليست الآية في الغلبة خاصة؛ لكن الآية فيها واللَّه أعلم، وفي غيرها من وجوه: أحدها: أن غلبة المسلمين، مع ضعف أبدانهم، وقلة عددهم، وخروجهم لا على وجه الحرب والقتال - المشركين مع قوة أبدانهم، وكثرة عددهم، واستعدادهم للحرب، وخروجهم على ذلك، والقتال - آية، وعلم العدو أنْ ليس لهم فئة، ولا لهم رجاء المدد، وأنْ لا غياث لهم من البشر، وذلك آية الجرأة وعلامة الشجاعة، ومعه آمَنُ، واللَّه أعلم. والثاني: أن ما روي أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخذ كفًّا من تراب، فرماه على وجوههم، وقال: " شَاهَتِ الوُجُوُه "؛ فامتلأت أعينهم من ذلك وعموا؛ حتى أنهزموا؛ فصار آية. والثالث: ما قيل: إن أبا جهل قام فدعا فقال: " أينا أَحَقُّ دِينًا، وَأوصَلُ رَحِمًا؟

فَانْصُرهُ، واجْعَلِ الغَلَبَةَ والْهَزِيمَةَ عَلَى الآخَرِ "، فاستجيبت؛ فكانت الغلبة والهزيمة عليهم؛ فكان آية. والرابع: ما أعان الملائكةُ المسلمين، وبعثهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مددًا لنصرة المؤمنين على الكافرين يوم بدر؛ فذلك آية. ووجه آخر: ما ذكرنا أن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا خرجوا شبه العير بغير سلاح، غير مستعدين للقتال على علم منهم بذلك، وأُولَئِكَ خرجوا مستعدين لذلك، فكان ما ذكر، واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: في ذكر القليل في الأعين من الجانبين آيةٌ عظيمة؛ إذ هي حسية، والحواس تؤدي عن المحسوسات حقائقها، فجعلها اللَّه بحيث لا تؤدي؛ لما قال: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا)؛ فيحتمل أن يكون المراد مما ذكر من الآية في أمر الفئتين - هذا، واللَّه أعلم. وقوله: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ). وفي بعض القراءات: " ترونهم " بالتاء: يرى المؤمنون أُولَئِكَ مثلي أنفسهم لا أكثر، وهم كانوا ثلاثة أمثالهم، على ما روي في القصة؛ وهذا لما جعل الحق عليهم قيام الواحد من المسلمين بالاثنين منهم، مع ضعفهم؛ لجهدهم في العبادات، وبلوغهم الغاية من احتمال الشدائد والمشقات.

(14)

أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - بمعرفتهم أمر أهل الحرب، وشدة رغبتهم في تعلمهم ما يحتاجون في الحرب والقتال؛ ولهذا قالوا: إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - علم المؤمنين جميع ما يحتاجون في الحرب من الآداب وغيرها في الكتاب؛ كقوله: (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا): أمرهم بالتثبت، ثم قال: (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ)، وقال: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا): فجعل التنازع الواقع بينهم - على خلاف بعضهم بعضًا - سببَ الهزيمة؛ ففيه أمر بالاجتماع، وجعل التدبير واحدًا، والطاعة لإمامهم. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ): وإِنَّمَا كان عبرة؛ لما ذكرنا من خروج المؤمنين بقلة عددهم، وضعف أبدانهم، بلا استعداد للحرب والقتال، إنما هو خروج شبه العير، وخروج أولئِك بالعدة مع قوة أبدانهم، وكثرة عددهم، وطمع المدد لهم، ولم يكن للمسلمين ذلك؛ ففي مثل غلبة المؤمنين الكافرين، والظفر بهم، والنصر لهم عليهم، على الوصف الذي وصفناهم - عبرةٌ، وآية لأولي الأبصار والعبر. * * * قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) وقوله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) أي: الشهيات. (مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ) وما ذكر. . . إلى آخره. قال الحسن: واللَّه ما زيَّنها إلا الشيطان؛ إذ لا أحد أذم لها ولأهلها من اللَّه تعالى، وإليه يذهب المعتزلة، لكن الأصل في هذا وفي أمثاله: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - زيَّن هذه الأشياء، والتزيين من اللَّه - سبحانه وتعالى - يقع لوجهين، وكذلك الكراهة -

أيضًا- تقع لوجهين: تزين في الطباع، والطبع يرغب فيما يتلذذ ويُشْتَهى، وإن لم يكن في نفسه حَسَنًا. وتزين في العقل، فلا يتزين في العقل إلا فيما ثبت حسنه بنفسه، أو الأمر أو حمد العاقبة ونحو ذلك، ثم جعل العقل مانعًا له، رادًّا عما يرغب إليه الطبع ويميل؛ لأن الطبع أبدًا يميل ويرغب إلى ما هو ألذّ وأشهى وأخف عليه، وينفر عما يضره ويؤلمه. والعقل لا ينفر إلا عما هو القبيح في نفسه، ويرغب فيما هو الحسن في نفسه؛ وعلى ذلك يخرج قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حُفَتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَالنَّارُ بِالشَهَوَاتِ ": ليس على كراهة العقل، ولا على شهوة العقل؛ ولكن على كراهة الطبع وشهوته؛ وكذلك قوله: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ): ليس على كراهة الاختيار، ولكن كراهة الطبع؛ لأن كراهة العقل كراهة الاختيار، وكذلك رغبة العقول رغبة الاختيار، وفيها تجري الكلفة -أعني: على اختيار العقل، لا اختيار الطبع- بما يميل ويرغب في الألذ، وينفر عن الضار؛ دليله قوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، أخبر أنهم لا يؤمنون ما وجدوا في قضائه حرجًا؛ فدلت الآية أن الخطاب والكلفة إنما يكون على اختيار العقل وكراهيته، لا على اختيار الطبع؛ لذلك قلنا: إنه يجوز التزيين في الطبع من الله تعالى، وكذلك الكراهة في الطبع تكره من اللَّه تعالى. فأمّا قولهم: إن الشيطان هو الذي زينها: فإن عنوا أنه يزينها لهم، أي: يرغبهم

ويدعوهم إليها، ويريهم زينتها - فنعم. وإن عنوا أنّه يزينها بحيث نَفَّسَهَا لهم - فلا؛ لأن اللَّه - تعالى - وصف الشيطان بالضعف، ونفى عنه هذه القدرة بقوله: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)، فلو جعلنا له التزيين لهم على ما قالوا، لم يكن كيده على ما وصفه - عزّ وجلّ - بالضعف؛ ولكن كان قويا، ولكنه يدعوهم إليها، ويرغبهم فيها، ويريهم المزين لهم، ثم دعاؤه إياهم، وحخثه في ذلك، وقوته من حيث ما لا يطلع عليه بقوله: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)، فالعدو الذي يَرَى هو من يعاديه، ولا يُرَى هو - كان يجب أن يكون أحذر منه، وأخوف ممن يرى. ووجه آخر: أن الشهوات التي أضاف التزيين إليها لا خلاف بينهم في أنها مخلوقة لله تعالى، فما بقي للشيطان إلا الدعاء إليها، والترغيب فيها. وفيه وجه آخر: أنه لو لم يجعل هذا مزينًا من اللَّه تعالى، زال موضع استدلال الشاهد على الغائب، وبالدنيا على الآخرة. وقد جعل ما في الدنيا نوعين: مستحسنا ومستقبحًا. وجعل ذلك عيارًا لما أوعد ووعد، فلما لم يكونا منه-لا يصح موضع التعيير، لأنه - جلّ وعلا - بلطفه سخر كل مرغوب في الدنيا، ومدعو إليه من جوهره- في الآخرة، وحسنه؛ ليرغب الناسَ هذا إلى ما في الجنة بحسنه ولطفه وزينته، ويدعوهم إلى ترك ما في الدُّنيَا من الفاني إلى نعيم دائم أبدًا، فلو جعل هذا من تزيين الشيطان - لعنه اللَّه - ومصنوعه لهم، لذهب عظيم موضع الاستدلال الذي ذكرنا؛ فدلّ أنه مزين منه عَزَّ وَجَلَّ، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. ثمّ امتحنهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بترك ما زين لهم في الطباع؛ بما ركب لهم من العقول الوافرة؛ ليختاروا ما حسن في العقول وتزين، وعلى ذلك جرت الكلفة والخطاب، لا بما مالت إليه الطباع، ونفرت عنه العقول، وباللَّه التوفيق. ثم في الآية دلالة وجوب الحق في كل ما ذكر في الآية من المال، وكذلك الخيل،

وأمَّا في النساء والبنين: فلما مُتِّعوا بهم - أوجب عليهم النفقة كذلك. وقوله - عز وجل - (وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ): أوجب في النساء عليهم النفقة، وكذلك البنين، وأوجب في الذهب والفضة حقا، ثم ذكر الخيل

المسومة: إن كان المراد منه جعلها سائمة؛ لذلك قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: إِنَّ فِي الخَيلِ صَدَقَةً، ثم اختلف في المسومة؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: هي المسيَّبة الراعية.

وقال آخرون: هي المعلمة، وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " الْمُسَوَّمَةُ الراعِيَة ". وقال غيرهم: الْمُطَهَّمَة، وهي الْمُحَسَّنة. ثم أخبر أن ما ذكر في الآية (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وأمرهم بترك ذلك، وأخبر أن لهم عنده: (حُسْنُ الْمَآبِ)، إن هم تركوا مما امتُحِنُوا به، ثم قال: إن من اتقى في الدنيا له خير من ذلك بقوله: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .) إلى آخره. ثم اختلف في (وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ)؛ منهم من قال: ألف ومائتا أوقية.

(15)

ومنهم من قال: اثنا عشر ألفًا. ومنهم من يقول: سبعون ألف دينار. ومنهم من يقول: هو بلسان الرومية: ملء مَسْكِ ثور ذهبًا أو فضة. ومنهم من يقول: كل مائةٍ قنطار من كل شيء، وهو اسم المال العظيم الكثير لا يُدرَى ما مقداره، وليس لنا إلى معرفة قدره حاجة ولا فائدة؛ إنما الحاجة إلى معرفة الرغبة فيما كثر من المال؛ إذ ليس قدر أحق بأن يحمل عليه الرغبة من الآخر، واللَّه أعلم. وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ (15) قيل: مُطَهَّرَةٌ: من الآفات كلها، من الأخلاق السيئة، والأقذار والعيوب كلها، وقد

(16)

ذكرنا فيما تقدم في صدر السورة؛ قال: وكل أهل الجنة مطهر من جميع المعايب؛ لأن العيوب في الأشياء عَلَم الفناء، وهم خلقوا للبقاء، إلا أن الذكْر جَرَى للنساء؛ لما ظهر في الدنيا فيهن من فضل المعايب والأذى. وقوله: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا ... (16) قد رضي منهم بهذا القول، وفيه تزكية لهم، ولو كان الإيمان: جميعَ الطاعات - لم يرض منهم التزكية بها، وقد أخبر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن للذين اتقوا عند ربهم في الجنة خيرا من هذا الذي زُيِّن، للناس في الدنيا من النساء، وما ذكر إلى آخره. وقوله: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا): يحتمل: اتقوا الشرك. ويحتمل: للذين اتقوا الفواحش والمعاصي كلها. وقوله: (الصَّابِرِينَ (17) قيل: الصابرين على طاعة اللَّه. وقيل: الصابرين، على أداء الفرائض. وقيل: الصَّابرين على المرازئ والمصائب والشدائد. والصبر: هو حبس النفس عن جميع ما تهوى وتشتهي. وقوله: (وَالصَّادِقِينَ). قيل: في إيمانهم. وقيل: الصَّادِقِينَ بما وَعَدوا. وقيل: الصادقين في جميع ما يقولون ويخبرون. (وَالْمُنْفِقِينَ). يحتمل الإنفاق: ما لزم من أموالهم من الزكاة والصدقات.

ويحتمل: المنفقين المؤدين حقوق بعضهم بعضًا من حق القرابة والصلة. (وَالْقَانِتِينَ). قيل: القانت: الخاضع. وقيل: القانت: المطيع. وقيل: الخاشع، وكله يرجع إلى واحد، وأصله: القيام، وكل من قام لآخر كان مطيعًا وخاشعًا وخاضعًا ومقرًا. وقيل: القانت: المقر كقوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)، أي: مقرون. وقال قتادة: (الصَّابِرِينَ): الذين صبروا على طاعة اللَّه، وصبروا عن محارمه. (وَالصَّادِقِينَ): الذين صدقت نياتهم، واستقامت قلوبهم وألسنتهم، وصدقوا في الشر والعلانية (وَالْقَانِتِينَ): المطيعين. (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)، (وَالْمُنْفِقِينَ): يعني: نفقة أموالهم في سبيل الله. (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ): قيل: المصلين بالأسحار. وقيل: المصلين في أول الليل، والمستغفرين في آخره. وأصل الاستغفار: طلب المغفرة مما ارْتُكِب من المآثم، على ندامة القلب، والعزيمة على ترك العود إلى مثله أبدًا، ليس كقول الناس: نستغفر اللَّه، على غير ندامة القلب، وأصل الاستغفار في الحقيقة: طلب المغفرة بأسبابها، ليس أن يقول بلسانه: اغفر لي؛ كقول نوح - عليه السلام -: لقومه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ)، أمرهم بالتوحيد، ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الجنة هي للصابرين والصادقين إلى آخر ما ذكرنا، واللَّه أعلم.

(18)

قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) وقوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). وقيل فيه بوجوه: قيل: شهد اللَّه شهادة ذاتية، أي: هو بذاته، (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)؛ إذ في ذاته ما تليق الشهادة بمثله له من الألوهية والربوبية، وليس ذلك في ذات غيره، وباللَّه العصمة. وقيل: شهد اللَّه بما خلق من الخلائق أنه لا إله إلا هو، أي: خلق من الخلائق ما يشهد خلقه كل أحد على وحدانيته وإلهيته، لو نظروا في خلقتهم وتدبروا فيها؛ وكذلك الملائكة، وأولو العلم شهدوا أنه لا إله إلا هو، على تأويل الأول. وعلى تأويل الثاني: أن خلقَه الملائكةَ -وأولي العلم- يشهد على وحدانيته؛ فشهدوا على ذلك، إلا الجهّال؛ فإنهم لم يتأمّلوا في أنفسهم، ولا تفكروا في أنفسهم؛ فلم يشهدوا به؛ لأنه أمر الرسل والأنبياء بأن يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فقوله وأمره به - شهادةٌ منه، ويحتمل شهادة القول؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)، وذلك من اللَّه: الربوبية، ومن الخلق: العبودية له؛ فيجب أن تعرف الربوبية من العبودية؛ ففيه دلالة خلق الإيمان؛ فمن قال: إنه غير مخلوق - لم يعرف ذا من ذاك، وباللَّه التوفيق.

(19)

وقيل: " شهد اللَّه " أي: علم اللَّه أنه لا إله إلا هو، وكذلك علم الملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو، فإن قال لنا ملحد: كيف صح، وهو دعوى؟! قيل: لأن دعوى من ظهر صدقه في شهادته إذا شهد، وهو مقبول، وهو بما ادعى من الألوهية والربوبية؛ إذا لم يَسْتَقِلهُ أحد - ظهر صدقه، وقهر كل مكذب له في دعواه، وبالله النجاة. وقوله: (قَائِمًا بِالْقِسْطِ): أي: حافظ ومتولٍّ؛ كقوله: (قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)، أي: حافظ لها ومتولٍّ؛ كما يقال: فلان قائم على أمر فلان، أي: حافظ لأمره، ومتعاهد لأسبابه. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقيل: هو عادل، أي: لا يجور، لا أن ثم معنى القيام؛ كقوله: (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ): مقسطين، لا أن ثم للقيام فيه معنى يسبق الوهمُ إليه، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (19) وقال قائلون: إن الدِّين الذي هو حق مِنْ بين الأديان، وهو الإسلام؛ لأن كل أحد منهم ممن دان دينًا يدعي أنَّه هو دين اللَّه الذي أمر به. وقال قوم: إن الدِّين الذي أمر به الآمر من عند اللَّه هو دين الإسلام؛ لأنهم. كانوا مع اختلافهم مقرين بالإيمان، لكن بعضهم لا يقرون بالإسلام؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الذين الذي أمر به وفيه التوحيد هو دين الإسلام، لا غيره؛ ألا ترى أنه قال: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا. . .): أخبر عز

وجل، أن إبراهيم - عليه السلام - ليس على دين سوى دين الإسلام، والإسلام هو الإخلاص، على ما ذكرنا فيما تقدم، وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ: أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَأنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، وَالْقِسْطُ: هُوَ العَدْلُ فِي جَمِيعِ القُرآنِ ". وقوله: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ): يحتمل وجهين. يحتمل الاختلاف: التفرق، أي: تفرقوا في الكفر؛ كقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) الآية. ويحتمل: الاختلاف: نفس الاختلاف في الدِّين؛ كقوله: (وَلَكِنِ اختَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كفَرَ): أخبر أنهم لم يختلفوا عن جهل؛ ولكن عن علم وبيان؛ كقوله: (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ). ثم يحتمل قوله: (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) وجهين: أي: لم يختلفوا إلا من بعد ما علموا وعرفوا. ويحتمل: أي: لم يختلفوا إلا من بعد ما أوتوا أسباب: ما لو تفكروا وتدبروا - لوقع العلم لهم بذلك والبيان، لكنهم تعنتوا وكابروا؛ فاختلفوا. ثم في الآية دليل ألا يجوز أن يُفسَّر قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، وقوله: (إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ)، ونحوه: بالانتقال من حال إلى حال، أو من مكان إلى مكان؛ لأنه ذَكَرَ مجيءَ العلم، والعلم لا يوصف بالمجيء ولا ذهاب، وكذلك قوله: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ): ذكر مجيء الحق وزهق الباطل؛ فهما لا يوصفان بمجيء الأجسام، وذهابهم بالانتقال والتحول من مكان إلى مكان، ولا يعرف ذلك ولا يصرف إليه؛ فعلى ذلك لا جائز أن يصرف قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، (استَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، ونحوه - إلى المعروف من استواء الخلق ومجيئهم؛ لتعاليه عن ذلك، قال: والمجيء لا يكون عن الانتقال خاصة؛ بل يكون مرة ذاك وأخرى غيره،

وكذلك الإتيان، واللَّه أعلم. وقوله: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) قيل: حسدًا بينهم؛ لأنهم طمعوا أن يبعث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بني إسرائيل، على ما بعث سائر الرسل بعد إسرائيل منهم، فلما بعث من غير بني إسرائيل حسدوه، وخالفوا دينه الإسلام، ويحتمل " بغيًا ": من البغي، وهو الجور. وقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ) أي: من المختلفين (فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ): كأنه على الإضمار - أنْ قل يا مُحَمَّد: ومن يكفر بآيات اللَّه من بعد ما جاءهم العلم والبيان، فإن اللَّه سريع الحساب. وله ثلاثة أوجه؛ لأن ظاهر الجواب على غير إضمار أن يكون: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، أي: العذاب - واللَّه أعلم - سمى به؛ لأن بعد الحساب عذاب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ نُوقشَ الحِسَابَ عُذِّبَ "، فجعل الحساب عذابًا. ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه سريع الحساب، لا كحساب الذي يكون بين الخلق؛ لأن الخلق تشغلهم أسباب، وتمنعهم أشياء يحتاجون إلى التفكر والتدبر، واللَّه يتعالى عن أن يشغله شيء أو يمنعه معنى، جل اللَّه عن ذلك.

وقيل: على التقريب حسابه سريع " كَأْن قد جاء لقربه، واللَّه أعلم. قوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): هو شهادة ربوبية، لا يتوهم له كيفية، ولا يخطر بالبال له المائية، ولا يحتمل الوصول إلى حقيقة ذلك بالتفكر، ولا أن يُحتمل بلوغُ العقل الوقوفَ على ذلك؛ إذ هو خَلْق قصر عن الإحاطة بمائية نفسه، وعن إدراك وجه قيامه بالذي ركب أو تجديد من حيث نفسه، وهو تحت جميع ما ذكرت، إذ هو خلق وحَدَث جرى عليه التدبير، ودخل تحت التقدير؛ فالربوبية أحق أن ينحسر عنها الأوهام، وتَكِلُّ عن توهم إدراكها الأفهام؛ وعلى ذلك أمر تكوين اللَّه الأشياءَ، على ما شهدت الأشياء، التي هي تحت التكوين في العبارة، لا على توهمٍ في التكوين معنى تحتمله الأفهام، أو تبلغه العقول؛ وإنما هو عبارة بها جعل لا يقف على العبارات عن المتعالي عن صفات الخلق، المحقق له الجلال عن جهاتهم إلا من حيث المفهوم في الخلق، للتقريب إلى الأفهام دون تحقيق المفهوم، مما عن العبارة عنه -قدرت العبارات في الإخبار عن اللَّه تعالى، عن ذلك وعلى هذا القول اللَّه والرحمن وجميع ما يتعارف الخلق من الأسماء على ما يقرب من الأفهام- المراد بها لا تحقيق الحروف، أو إدخال تحت تركيب الكلام وتأليف العبارة، وهذا معنى معرفة وحدانيته من جهة ضرورات توجب المعرفة، على الوصف بالسبحانية له عن معاني جميع المعروفين، وباللَّه العصمة والمعونة. ثم قد يحتمل أن يؤذن في العبارة عن ذلك بما هو ألطف وأدفع للتوهم: توهم ما لعل للقلب عند ذكر الشهادة فضل حيرة، ليس عند تلك العبارة، وذلك يخرج على وجوه في الاحتمال؛ لما يسعه عقولنا دون القطع على شيء مما وقع عندنا من الرجوع إليه واللَّه - سبحانه - أعلم من ذلك بشهادة الخلائق كلهم: ما فيها من آثار الصنعة، ودلالة الربوبية، وشهادة الألوهية؛ لتكون شهادة بالذي ذكر: بأن. لا إله إلا هو، إذ في كل شيء سواه هذه الشهادة بالصفة التي جعلها هو فيه له، واللَّه أعلم. والثاني: أن يكون بذاته متعاليًا عن جميع معاني من سواه من المعاني التي أدخلتها

اسم مربوب، وظهر كل شيء في الحقيقة له عند توهم المعبود، لا يستحق غيرُه غير آثار الحدثيَّة وجهات المدخلة تحت القدرة والتدبير، وهو بذاته متعالٍ عن كلية الجهات والمعاني، التي كانت بها بعد أن لم تكن، وبها صارت مربوبة عبدًا، وهو متعال أيضًا عن الوصف بالجهات والمعاني؛ بل هو خلق الخلق، ولا قوة إلا باللَّه. ويحتمل: شهد: علم، وكذلك مَنْ شهد الشيء فقد علم مخبره خلقته بإله العالم، وأنه واحد لا شريك له، إله الكل وخالقهم؛ ليعلموا أنما أعلمهم أنه كما أخبر، وذلك في نقض قول كثير ممن ينفون عن اللَّه - تعالى - أنه عالم وشاهد كل شيء، واللَّه الموفق. ويحتمل: شهد على الخلائق أن يكون عليهم القول والاعتقاد أنه لا إله غيره؛ بمعنى: قضى وأمر، واللَّه الموفق.، وليس فيما جمعه اللَّه بشهادة من ذكر توهم معنى لشهادته بما هو بشهادة من ذكر، مع ما قد يحتمل لما جمع إلى شهادته شهادة من ذكر وجهان: أحدهما: فضل من ذكر بما ذكر شهادته عند ذكر شهادتهم؛ على نحو قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية؛ ذكر ما له، وإن كان له الخلق كله؛ بوجهين: أحدهما: بما جعل ذلك لوجوه العبادة؛ كما أضاف إليه المساجد على أنها وغيرها له، وذكر في الملائكة الذين عنده في أمر القيامة، وإليه المصير، ونحو ذلك، إما مخصوص لما ذكر من الأوقات في فضل أو غير جعل له، أو لما كان ذلك لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نسب إليه، أو كان لكلية المعاني للعبادة؛ فمثله أمر شهادات من ذكوتها بشهادة اللَّه؛ تفضلًا لأُولَئِكَ وتخصيصًا، من بين الخلائق، واللَّه أعلم. والثاني: على كون الشهادة من الإخبار بحق الأمر، نسبه إليه؛ كما نسب إليه كتابة الألواح ونفخ جبريل الروح بما كان منه أمر به، فكذا فعله في الإضافة إليه، واللَّه أعلم. ثم حق ذلك -فيما على التحقيق- أن يفهم ما عن اللَّه ربوبيّة وعن العبد عبودية، على

(20)

جميع ما يضاف إلى اللَّه أنه يفهم من غير الوجه الذي يضاف إلى لخلق؛ فمثله أمر الشهادة، واللَّه أعلم. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (شَهِدَ اللَّهُ) إلى قوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) على معنى جَعْلِ (أَنَّهُ) صِلَة في الكلام، وحقيقته: شهد اللَّه الذي لا إله إلا هو، والملائكة، ومن ذكر: أن الدِّين عند اللَّه الإسلام، والإسلام في -الحقيقة-: جعل كلية الأشياء لله له، لا شريك له فيها: في ملك، ولا إنشاء، ولا تقدير. والإيمان: التصديق بشهادة كلية الأشياء لله تعالى، بأنه ربها وخالقها على ما عليها، جل عن الشركاء. وقد قيل: الإسلام: خضوع. وقيل: الإخلاص، وهو يرجع إلى ما بيّنا، وذلك كقوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)، والإيمان: هو التصديق لله تعالى، بما أخبر أنه رب كل شيء، وأن له الخلق والأمر. وقيل: هو التصديق بما جاءت به الرسل، وذلك يرجع إلى ما بينا أيضًا. واللَّه أعلم. وقوله: (قَائِمًا بِالْقِسْطِ): قيل: هو عادل لا يجور، لا أن للقيام معنى في ذلك؛ كقوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، بمعنى: كونوا عادلين مقسطين، والله أعلم. وقيل: قيام تولٍّ وحفظ، أو كفاية وتدبير؛ كما يقال: فلان قائم بأمر كذا، لا على توهم انتصاب؛ وعلى ذلك قوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ). وقوله: (فَإِنْ حَاجُّوكَ (20) ولم يقل: في ماذا يحاجوك؟ فيحتمل - واللَّه أعلم - أن يكون هذا. ما علم اللَّه أنهم لا يؤمنون ولا يقبلون الحجة - أمره بترك المحاخة بقوله: (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ)؛

وكذلك: من اتبعني أسلموا أنفسهم لله؛ كقوله: (وَتَوَلَّى عَنْهُم) (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)، أيأسه عن إيمانهم، وأمره بترك المحاجة معهم. وقوله: (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ): أي: أخلصت. ثم يحتمل قوله: (وَجْهِيَ لِلَّهِ)، أي: نفسي لله لا أشرك فيها أحدًا، ولا أجعل لغير الله فيها حقا، على ما جعل الكفار في أنفسهم شركاء وأربابًا. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقيل: الإسلام أن يجعل نفسه بكليتها لله - تعالى - سالمة، لا شركة فيها لأحد؛ كما قال: (وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)، والإيمان: هو التصديق لشهود الربوبية لله من نفسه وغيره؛ لأنه ما من شيء إلا وفيه شهادة الربوبية. وقوله: (وَمَنِ اتَّبَعَنِ): أي: ومن اتبع ديني، فقد أسلموا أنفسهم لله تعالى، أيضًا، لم يشركوا فيها شركاء وأربابًا. ويحتمل قوله: (وَجْهِيَ لِلَّهِ)، أي: أسلمت أمر ديني وعملي للَّهِ؛ وكذلك من اتبعني واتبع ديني، فقد أسلموا أعمالهم وأمورهم لله؛ كقوله - أتعالى، -: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، وفي حرف ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، " ومن اتبعني " أي: ومن معي.

وقوله: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ): قيل: الذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، والأميين: العرب الذين لا يقرءون الكتاب، ولا لهم كتاب. (أَأَسْلَمْتُمْ) أنتم لله؛ كما أسلمت أنا وجهي لله، ومن اتبعني. (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا): وأخلصوا وجوههم لله وأعمالهم. (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ): أي: فإن أبوا أن يسلموا فليس عليك إلا البلاغ كقوله - تعالى -: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وكقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)، وكقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ). وقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ): هو حرف وعيد. قيل: (بَصِيرٌ): غير غافل. وقيل: بصير بجزاء أعمالهم. وقيل: بصير بما أسروا وأعلنوا، وفي كل وجه وعد ووعيد. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (فَإِنْ حَاجُّوكَ): ولم يبين في ماذا، فقد يجوز ترك الإخبار عن القصة بوجهين: أحدهما: بعلم أهله.

(21)

والثاني: بما في الجواب؛ دليله: قوله: (يَسْتَفتُونَكَ)، (يَسْأَلُونَكَ) في غير موضع، على غير البيان أنه عن ماذا؟ وهو - واللَّه أعلم - داخل تحت ذينك الوجهين. ثم يحتمل أن تكون المحاجة قد كثرت فيما قال: (فَإِنْ حَاجُّوكَ)، والحجة قد ظهرت فيه؛ فكانوا يعودون إليها مرة بعد مرّة؛ عود تعنت وعناد؛ فأكرم اللَّه رسوله بالإعراض عن محاجتهم، ذلك كما ظهر تعنتهم فقال: (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) على الإعراض عن محاجتهم، واللَّه أعلم. وعلى ذلك يخرج معنى الأمر بالتولي عنهم في غير موضع. ويحتمل أن تكون المحاجة في عبادة الواحد القهار والأوثان التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه؛ فبين - جل ثناؤه - في ذلك بالذي يقول لهم هو ومن اتبعه على ذلك؛ نحو قوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وقوله: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) الآية، ونحو ذلك، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ): قيل: بآيات اللَّه التي في كتابهم: من بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وصفته. وقيل: (بِآيَاتِ اللَّهِ): بالقرآن، وبمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. (وَيَقْتُلُونَ): يحتمل قوله: (وَيَقْتُلُونَ) أي. يهمون يريدون قتلهم؛ كقوله: (فَإِنْ قَتَلُوكُمْ (¬1) فَاقْتُلُوهُمْ)، فلو كان على حقيقة القتل، فإذا قتلونا لم نقدر على قتلهم؛ وكقوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)، أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن؛ وكقوله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا) كذا، أي: إذا أردتم أن تقوموا إلى الصلاة؛ لأنه إذا قام إلى الصلاة لم يقدر على الغسل؛ فكذلك الأول. ويحتمل أن يريد: الرضا بقتل آبائهم الأنبياء، فأضاف ذلك إليهم. وقيل: إنه أراد آباءهم الذين قتلوا الأنبياء. ¬

_ (¬1) هذه قراءة حمزة والكسائي -بغير ألف- واللَّه أعلم.

وقيل: جاءَ أنهم كانوا يقتلون ألف نبي كل يوم، قال الشيخ: لا أعرف هذا، فإن صح فهو على أنهم تمنوا ذلك، أو قتلوا نبيا وأنصاره، فسموا أنبياء؛ لما كان ينبئ بعضهم بعضا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ): لو كان أراد آباءَهم كيف يأمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالبشارة وهم موتى؟! دل هذا على أن التأويل هو الأول: أنهم هموا بقتلهم، أو ورضوا بصنع آبائهم، واللَّه أعلم. والبشارة المطلقة إنما تستعمل في الشرور والخيرات خاصة، إلا أن تكون مقيدة؛ فحينئذ تجوز في غيرها؛ كقوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) قيدها هنا؛ لذلك قال أصحابنا - رحمهم اللَّه -: أن ليست الحقائق أولى من المجاز، ولا الظاهر أولى

(22)

من الباطن؛ إلا بدليل على ما صرفت أشياء كثيرة عن حقائقها بالعرف؛ من نحو: الإيمان، وغيرها. وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (22) يحتمل وجوهًا: يحتمل: أعمالهم التي فعلوا؛ قبل أن يبعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلما بعث كفروا به، فبطلت تلك الأعمال. ويحتمل: ما كان لهم من الأعمال: من صلة المحارم، والقربات، والصدقات، فبطلت لما لا قوام لها إلا بالإيمان، فلما لم يأتوا به - بطلت. وقوله: (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ): أما في الآخرة: فثوابها، وأما في الدنيا: فحمدها وثناؤها. ويحتمل في الدنيا: ثواب الدنيا؛ كقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ): فالآيات أعلام وحجج، وهن أنواع: منها حسِّيات، نحو: الخلائق؛ في الدلالة على وحدانية اللَّه تعالى. والخارجة منها عن احتمال وسع البشر يظهر عند أداء الرسل الرسالة، يشهد على أن الذي أرسلهم هو الذي تولاها؛ ليعلم بها محجة ويوضح بها رسالتهم. ومنها: السمعيات: وهي التي جاءت بها الرسل من الأنباء؛ عما لا سبيل إلى الوقوف عليها، إلا بالتعلم بلا تقدم تعليم، أو ما لا يعلم حقيقة ذلك إلا اللَّه؛ ليعلم أن اللَّه هو الذي

أطلعهم عليها؛ ليكون آية لهم، واللَّه أعلم. ومنها العقليات: وهي التي تعرف بالمحن، والبحث عنها مما بها يوصل إلى معرفة التوحيد والرسالة ونحوها، ثم قد جعلها كلها لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فمن يكفر بها يخرج على وجهين: أحدهما: على الكفران بحقيقة الآيات؛ أن يكون هن آيات لما أقيمت له، وهن من الوجوه التي ذكرت، فقضى اللَّه - تعالى - لمن يكفر بها بما ذكرت؛ لتعنتهم ومعاندتهم، واللَّه أعلم. والثاني: أن يريد بالكفر بالآيات: الكفر بمن له الآيات؛ فنسب إلى الآيات؛ لما بها تعلم الحقيقة، كما تنسب الأشياء إلى أسبابها التي بها يوصل إليها، فذلك معنى الكفر بالآيات، ثم كانت الكتب السماوية، وما فيها من النعوت، وما أعجزهم عن إتيان مثل القرآن، وغير ذلك من الحسّيات، واللَّه أعلم. فعلى ما ذكرنا يخرج معنى الكفر بالآيات؛ لأنها بحيث يأخذها الحواس، ويحيط بها الأوهام والعقول؛ ولكن على أنهن آيات للذي دَلَّكُم عليه، أو على الكفر بالذي له آيات توجب تحقيقه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) وقال في ذلك الكتاب: (لا رَيبَ فِيهِ)، وقد ارتاب فيها أكثر أهل الأرض؛ قيل: قوله: (لَا رَيْبَ فِيهِ) قد يتكلم به على تثبيت المقول به عند قائله، لا على نفي الشك عن كل من سمعه؛ إرادة التأكيد؛ فعلى ذلك أمكن أن يخرج معناه؛ إذ هو مخاطبة على ما عليه كلامهم؛ وكذلك قولهم أبدًا على دوامه وامتداده، لا على حقيقة الأبدية؛ وكذلك يقولون: (هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ)، وأمر قديم: لا على حقيقة القدم؛ التي تخرج على الكون بعد أن لم يكن، واللَّه الموفق. والثاني: على أنه لا يرتاب فيه المتأمّل المنصف بما جعل اللَّه لذلك من الآيات، وعليه من الأدلة التي من تدبر فيها - أظهرته له، حتى يصير كالمعاين، ولا قوة إلا باللَّه. والثالث: أن يخبر به رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن قوم مخصوصين مما كانوا ينازعون فيه، بعد علمهم بصدقه؛ ليعرف به تعنتهم، ويؤيسه عن الطمع فيهم، ولا قوة إلا باللَّه. قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ

(23)

يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) قوله: (أَلَمْ تَرَ) إنما يتكلم به لأحد معنيين: إما للتعجب من الأمر العظيم؛ يقول الرجل لآخر: ألم تر فلانا يقول كذا، أو يعمل كذا؟! يقول ذلك له؛ لعظيم ما وقع عنده. وإمّا للتنبيه. فأيّهما كان ففيه تحذير للمؤمنين؛ ليحذر المؤمنون عن مثل صنيعهم؛ كقوله: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ) من قبل الآية؛ حذر المؤمنين أن يكونوا مثل أُولَئِكَ الذين أوتوا الكتاب، ولا يخالفوا كتابهم كما خالفوا هم. وقوله: (يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ): يحتمل أن يكون أراد بالكتاب: التوراة؛ على ما قيل: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: " أَسْلِمُوا تَهْتَدُوا، وَلَا تَتَكَبَّرُوا " فقالوا: نحن أهدى وأحق بالهدى منك. وما أرسل الله رسولًا بعد موسى - عليه السلام - فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " بَيّنِى وَبَيّنَكُمُ التَورَاةُ وَالإنْجِيلُ؛ فَإِنَهُ مَكْتُوبٌ فِيهِمَا " يعني: وإني رسول اللَّه، فأبوا ذلك خوفًا وإشفاقًا على ظهور كذبهم. وقيل: أراد بالكتاب: القرآن، دعوا إليه؛ لأنه مصدق لما معهم من الكتاب، فأبوا ذلك. وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ (24)

(26)

الأيام التي عبد آباؤهم العجل، فظنوا أنهم إنما يعذبون بقدر ما عبد آباؤهم العجل، وأنهم لا يخلدون في النار؛ لأنهم زعموا أنهم أبناء اللَّه وأحباؤه. ويحتمل أن يكون آباؤهم قالوا لهم: إنكم لا تعذبون في النار إلا قدر عبادتنا العجل؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن قد غرهم في دينهم ما كانوا يفترون، ثم خوفهم فقال: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ). * * * قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) وقوله: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) يحتمل قوله: (مَالِكَ الْمُلْكِ) وجهين: أحدهما: مالك ملك كل ملك في الدنيا له حقيقة الملك. والثاني: أن الملك له، يؤتي من يشاء من ملكه، وينزع ممن يشاء الملك، وهو المالك لذلك، والقادر عليه. والآية ترد على القدرية قولهم؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه لا يعطي الكافر الملك، وهو قد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يؤتي من يشاء الملك، وقد يؤتي الكافر به الملك، فإن قالوا: أراد بـ " الملك ": الدِّين، فقد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أيضا أنه ينزع، فكيف يستقيم على قولكم في الأصلح هذا. ثم في الآية تقوية لمن قرأ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، بالألف لأنه أعم وأجمع؛ لأنه قال: (مَالِكَ الْمُلْكِ) وهو أعمّ. والثاني: أن (الملك) إنما يعبر عن الولاية والسلطان، و " المالك ": إنما يعبر عن حقيقة الملك، ومن له في الشيء حقيقة الملك - فله ولاية التغلب والتصرف فيه ولاية السلطان، ولا كل من له ولاية السلطان يكون له ولاية التغلب فيه؛ لذلك كان بالألف

أقرب، ومن قرأ: " ملك يوم الدِّين " بغير ألف ذهب إلى أن هذا كقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)، ومن الملك يقال: ملك؛ لا يقال: مالك؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم. والمالك -على الإطلاق- لا يقال إلا على اللَّه؛ وكذلك الرب -على الإطلاق- لا يقال إلا على اللَّه، وأما العبد فإنه يقرن الشيء إليه؛ فيقال ربّ الدار ومالكها، ورب الدابة ومالكها، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ): قال قائلون: الخطاب لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة. وقال آخرون: الخطاب بذلك لكل عاقل؛ وهو كقوله: (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إلى آخر الآية، ذلك الخطاب لكل أحد لا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة. وقال الشيخ - رحمه اللَّه -: ليس هو خطاب؛ ولكنه أمر بالبلاغ ليقوله كل أحد؛ لأنه لو خوطب به لم يذكر " قل " عند قراءته. وقوله: (اللَّهُمَّ): قال قائلون: " اللهم ": يعني: يا آلهتهم. وقال آخرون: (الله) - على القطع - " أمِّنَّا " اقصدنا بالخير، واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) الآية: فكأنه - عَزَّ وَجَلَّ - امتحن من رغب في الملك، أو نال حظًّا منه - أن يصرفوا وجه الرغبة إليه، أو يروا حقيقة ما نالوه منه؛ فيوجهون إليه الشكر، ويخضعون له بالعبادة والطاعة فيما أمرهم به؛ لينالوا شرفه ويدوم له عزه؛ وذلك كقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، ليريهم أن الذي يملك هذا النوع الذي رغبت فيه أنفسكم، ومنعتكم عن القيام بحقهِ - هو الذي يملك ذلك؛ فإليه فاصرفوا سعيكم، وبشكره استديموا، الذي له اخترتم جل كدحكم؛ فإنه يملك ذلك دون غيره؛ وجملة ذلك في قوله: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، ومعقول فيما عليه طبع البشر، وإليه دعاهم عقولهم: أن كل شيء تؤثره أنفسهم - كان الذي يحق عليهم طلبه عند من به

يوصل إليه، واختيارهم ما به يبلغون ما يأملون من أنواع الحيل التي تقربهم إلى ذلك، فمثله يلزم أمر الملك ولذات الدنيا، وتقرر في قلوبهم وجود ذلك لقوم؛ لو كان ينال بالتدبير أو بحسن السياسة، وطلب ذلك من الوجوه التي يطلب بها البشر - لم يكن الدِّين لهم ذلك بأحق من غيرهم؛ بل كان فيمن حرموا مَنْ هم أولى بذلك، وأحق أن يكون في ذلك متبوعًا لا تابعًا من الذين نالوه؛ ليعلم أن الذي يملك دفع ذلك إلى أحد أو تمليكه أحدًا، غير الذين صرفوا كدحهم، وجعلوا له سعيهم؛ فيكون لله في كل أمر مما عليه أمر البشر آية عظيمة، وعلامة لطيفة على تفرده بملك ذلك، وتوحُّدِهِ بالتدبير فيه لمن له بصيرة ولمن به يمتحن عباده. وعلى ذلك إذ ثبتت في ذلك أدلة التوحيد، ولزوم الاعتبار به؛ ليعرف من له الحق ثبت القول ببطلان ما ينكره كثير من المعتزلة؛ أن الملك الذي ناله الجبابرة، والسعة التي تصل إلى الكَفَرَة- لم يكن نالوه بتقدير اللَّه، ولا وصلوا إليه بتدبيره؛ إذ حقه ما ذكرت من عظيم ما فيه من النعم؛ ليلزمهم به أرفع المحن وأعلى الشكر، وله أن يبلو بالحسنات والسيئات؛ كما وعد عَزَّ وَجَلَّ؛ وجملته: أن الدنيا إذ هي دار محنة ومكان ابتلاء، فليس الذي يعطى منه على الاستحقاق، ولا ما يمنع على العقوبة -وإن احتمل الدفع والمنع لذلك- ولكن له وللمحن، والمحنة أكثرها على مخالفة الأهواء، وتحمل المكاره، ويكون ذلك على إعطاء ما يعظم في أنفسهم، أو التمكين ليمتحنوا؛ فيتبين الإيثار والترك لوجه اللَّه، والرغبة فيمن إليه حقيقة ملك كل شيء، أو الميل إلى من إليه أنواع التغرير والمخادعات من غير تحقيق، ولا قوة إلا باللَّه. وعلى ذلك قوله: (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)، يبيِّن ذلك احتجاجه على إبراهيم - عليه السلام -، بالذي ذكر، وإغضاء إبراهيم عنه، ولو كان الذي آتاه اللَّه، الملك إبراهيم - عليه السلام -، لم يكن ليجترئ على تلك المقالة بقوله: (أَنَا أُحْيِي

وَأُمِيتُ)، ولا قوة إلا باللَّه. ثم على قول المعتزلة: إنّ اللَّه - تعالى - إنما يشاء أن يؤتي الملك أولياءه، وينزع عن أعدائه في الجملة، فكيف ادعى لنفسه هذا السلطان والملك، وكان الوجوب على ضدّ ذلك؟! أيظن المعتزلة أن الملحدة تطعن ما هو يوجب الشبهة في حجج التوحيد بأوضح مما أعطاهم المعتزلة بهذا القول، أو يمكنهم من الطعن في نقض ما ادعت الموحدة من علو الرب وقدرته وجلاله بأبلغ مما لقنتهم المعتزلة بما لبست ثوب التوحيد، واستترت بستره في الظاهر، ثم أعطت للملحدة هذا؛ ليظنوا أنهم بلغوا ما به نقض التوحيد، ودفع حجج أهله، جل اللَّه عما وصفته الملحدة، وتعالى، فبه العصمة والنجاة. ولما أعطتهم المعتزلة في الجملة سبقهم به إبليس، حتى كانوا بمثله يحتجون؛ فيظنون أنهم أحق بالنبوة منهم، بما أعطوا من الملك والثروة في الدنيا؛ فظنوا أنهم أجل عند اللَّه - تعالى - وأرفع في المنزلة منهم، من لم يكن ليؤثرهم بالرسالة عليهم، لكن أُولَئِكَ حققوا حقائق النعم لله، ونيل ما نالوا من الملك والشرف به، والمعتزلة رامت إزالة ذلك عن اللَّه؛ ليزيلوا عنهم ما لزمهم من الشكر له، والطاعة لمن بعثه اللَّه، وأسأل اللَّه تمام نعمه في الدِّين والدنيا. وقوله: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)، وقوله: (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ونحو ذلك: وجوه من الأدلة: أحدها: أن يعلم أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيما يخلق - لا يخلق على معونة الأسباب، وتوليد الطبائع؛ لأن الأسباب تكون بموضع الإشكال؛ وكذلك الطباع تولد الذي في جوهره؛ نحو: الحار يولد الحرارة، والبارد يولد البرودة؛ فبين اللَّه - تعالى - الإنشاء على أحوال التضاد؛ ليعلم أنه القادر على اجتماع ما شاء مما شاء بلا معونة من ذلك ولا توليد، ولا قوة إلا باللَّه. والوجه الثاني: أنه جرى تقدير ذلك على ما لا تفاوت له، ولا اختلاف في اختلاف الأعوام؛ ليعلم أنها مسوَّاة على التدبير، أحكمه على ذلك العزيز الحكيم، الذي لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه أمر؛ وليعلم أن الذي قدر على ذلك واحد؛ إذ لم يختلف ولم

يتناقض، ولا قوة إلا باللَّه. وأيضًا، أنه قد صير كل جوهر بأحداث الآخر؛ كأنه لم يكن قط، ولا كان بقي له أثر، ثم رده بالوصف الذي كان؛ حتى لا يفوت منه شيء، حتى لا سبيل إلى العلم بالتفصيل بينهما؛ ليعلم أن قدرته على البعث، بعد أن يفنى كل الأجزاء والآثار، على ما كان، ولا قوة إلا باللَّه. وأيضًا، أنه إذ بني الأمر على ما فيه من عظيم الحكمة، وعجيب التدبير - لم يجز أن يكون فعله خارجًا على العبث، ثم في رفع المحنة، وإبطال الرسالة في تعليم ما في ذلك من الحكمة، وما يلزم بمكان ذلك التدبير من الشكر والمعرفة، ثم من الترغيب فيما يملك من النعمة، والترهيب عما عنده من النقمة - إبطال الحكمة، وتقرير العالم مَع ما ذكرت على العبث، وذلك فاسد في العقول، وموجود في الجواهر عظيم حكمة منشئها، ثبت بذلك العبادة والرسالة والجزاء، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) إلى آخره: يحتمل وجهين: يحتمل أن تؤتي ابتداء من غير أن كان آتاهم مرة؛ وكذلك تنزع -أي تمنع- ابتداء من غير أن كان آتاهم، ثم ينزع؛ كقوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ)، رفع ابتداء من غير أن كانت موضوعة فرفعها؛ وكقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، إخراج الابتداء، لا أن كانوا فيها ثم أخرجهم، فعلى ذلك هذا، وعلى ذلك قوله: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) إيلاج ابتداء، لا أن كان أحدهما في الآخر؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، و (النَّهَارَ سَرْمَدًا)، أخبر أنه لم يجعل واحدًا منهما مؤبدا؛ وكذلك قوله: (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) إخراج ابتداء؛ أن يخلق الحي من الميت

(27)

ابتداء، ويخلق الميت من الحي من غير أن كان فيه؛ ويحتمل هذا كله أن كان يؤتي الملك بعد أن لم يكن، ويعزّ بعد الذل، وينزع الملك بعد أن كان، ويذل بعد أن كان العز؛ وكذا قوله: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ (27) أن يدخل بعض هذا في هذا، وهذا في هذا. وقوله: (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ): قيل: أن يخرج حي الأقوال من ميت الأفعال، وميت الأفعال من حي الأقوال، يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن؛ على ما سمى اللَّه - تعالى - الكافر ميتًا، والمؤمن حيًّا في غير موضع من القرآن. وقيل: يخرج حي الجوهر من ميت الجوهر، وميت الجوهر من حي الجوهر. وقيل: يخرج الحي من المني، ويخرج المني من الحي. وقيل: البيضة من الحي، والحي من البيضة. وقيل: النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.

(28)

وقوله: (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ). قيل: (بِغَيْرِ حِسَابٍ): يعرف الخلق عدده ومقداره. وقيل: بغير تبعة ولا طلبة؛ أي: لا يحاسبهم فيما أعطاهم من بعد ما أعطاهم. ويحتمل: (بِغَيْرِ حِسَابٍ)، أي: لا يعطيهم بحساب أعمالهم، ولكن بتفضل، خلافًا للمعتزلة. ويحتمل: (بِغَيْرِ حِسَابٍ): في الآخرة. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " بغير هنداز - فارسية معربة ". وعن مقاتل: " لا يقدر ذلك غيره؛ يقول: ليس فوقي ملك يحاسبني، أنا الملك أُعطي من شئت بغير حساب، لا أخاف من أحد يحاسبني ". واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) وقوله: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يحتمل وجهين: يحتمل: (لَا يَتَخِذِ)، أي: لا يكونون أولياء لهم، وإن اتخذوا أولياء؛ بل هم لهم أعداء؛ كقوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .)، إلى آخر الآية. ويحتمل: على النهي، أي: لا تتخذوا أولياء؛ كقوله: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)

وكقوله: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ). وقوله: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً): اختلف فيه: قيل: إلا أن يكون بينكم وبينهم قرابة ورحم؛ فتصلون أرحامهم من غير أن تتولوهم في دينهم، على ما جاء عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما مات أبوه أبو طالب -: " إِنَّ عَمَّكَ الضَّالَّ تُوفي "، فقال له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " اذْهَبْ فَوَارِهِ ". ويحتمل قوله: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) على أنفسكم (مِنْهُمْ تُقَاةً)، إلا أن تخافوا منهم فتظهروا لهم ذلك مخافة الهلاك، وقلوبكم على غير ذلك. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " التَّقِيَّةُ: التكلُّمُ بِاللسَانِ، وَقَلْبُه مُطْمَئِن بِالإيمَانِ ". وقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ): قيل: عقوبته. وقيل: نقمته؛ يقول الرجل لآخر: احذر فلانًا، إنما يريد نقمته وبوائقه؛ فعلى

(29)

ذلك قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) عقوبته. وبوائقه، التي تكون من نفسه لما يكون ذلك به لا بغيره، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ ... (29) يحتمل: ما تخفوا من ولاية الكفار وتبدوه - يعلمه اللَّه، فيه إخبار أن في قلوبهم شيئًا. ويحتمل: أن يكون أراد جميع ما يخفون ويبدون (وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) الآية. * * * قوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) وقوله: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا): قيل: تجد ثواب ما عملت من خير حاضرًا؛ لأن عمله إنما كان للثواب لا لنفس العمل. (وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا): يحتمل: ما عملت من سوء تجده مكتوبًا يتجاوز عنه؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وعد المؤمنين، وأطمع لهم قبول حسناتهم، والتجاوز عن سيئاتهم؛ كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)؛ فيجد المؤمن ثواب ما عمل من خير حاضرًا، ويتجاوز عن مساوئه. وأمَّا الكافر: فيجد عقاب ما عمل من سوء في ْالدنيا؛ كقوله: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا)، فلا يتجاوز عنهم، ويبطل خيراتهم. وقوله: (أَمَدًا بَعِيدًا): قيل: بعيدًا من حيث لا يرى. وقيل: بعيدًا تودّ: ليت أن لم يكن، ما من نفس مؤمنة ولا كافرة إلا ودّوا البعد عن

(31)

ذنبه، وأنه لم يكن. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ): قد ذكرناه. وقوله: (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ): إن أراد رأفة الآخرة -يعني بالمؤمنين خاصة، وإن أراد رأفة الدنيا- فهو بالكل. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ): فالرحمة من اللَّه - جلّ ثناؤه - والرأفة نوعان: أحَدهما: في حق الابتداء، أن خلق خلقًا ركب فيهم ما يميزون به بين مختلف الأمور، ويجمعون بين المؤتلف، ثم لم يأخذ كلا منهم بما استحق من العقوبة؛ بل رحم وأمهل للتوبة والرجوع إليه، وهذه الرحمة رحمة عامة لا يخلو عنها عبد. ورحمة في حق الجزاء؛ من التجاوز والمغفرة وإيجاب الثواب للفعل، فهذه لا ينالها أعداؤه؛ لما يوجب التجهيل في التفريق بين الذي جعل في العقول التفريق؛ ولما يكون وضع الإحسان في غير أهله، والإكرام لمن لا يصرف الكرم به؛ ولما في الحكمة تعذيبهم تخويفًا وزجرًا عما يختارون، وينالها من تقرب واعتقد الموالاة، وكان هو أعظم في قلوبهم وطاعته من جميع لذَّات الدارين، وإن كانوا يبلون بالمعاصي على الجهالة، أو على رجاء الرحمة والعفو؛ إذ هو كذلك في شرطهم الذي به والوه، وبالغلبة، واللَّه أعلم، فهي رحمة خاصة، أي: هي بالمؤمنين، وبالعباد الذين بذلوا أنفسهم له بالعبودة بحق الاختيار، وإن كانوا يغلبون على ذلك في أحوال، واللَّه الموفق. وقوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (31) قيل: إن ناسًا كانوا يقولون في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إنا نحبُّ اللَّه حبًّا شديدًا؛ فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذه الآية، وبين فيها لمحبته عَلَمًا.

(32)

وقيل: إن اليهود لما قالوا: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه؛ فأنزل اللَّه - تبارك وتعالى -: قل يا مُحَمَّد: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وذلك أن من أَحبَّ ملكًا من الملوك يحبُّ رسوله، ويتبعه في أمره، ويؤثر طاعته لحبِّه، فإذا أظهرتم أنتم بغضكم لرسولي، وتركتم اتباعه في أمره، وإيثار طاعته - ظهر أنكم تكذبون في مقالتكم: نحن أبناء الله وأحباؤه؛ لأن من أَحبَّ آخر يحب المتصلين به ورسله وحشمه، والمحبَّة -هاهنا-: الإيثار بالفعل طاعة من يحبه فيما أحبه وكرهه، والطاعة له في جميع أمره، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ... (32) قد تقدم ذكرها. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ): اختلف فيه؛ قيل: (اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا) ومن ذكر لرسالته ولنبوته. وقيل: اختارهم لدينه، وهو الإسلام. وقيل: اختارهم في النية والعمل الصالح والإخلاص للَّهِ. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: الاصطفاء: أن يجعلهم أصفياء من غير تكدر بالدنيا، وغيرهم اختارهم لأمرين: لأمر الآخرة، ولأمر المعاش؛ ألا ترى إلى قوله: " إِنَا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ؛ نَمُوتُ مَوْتَ العَئبدِ لِسَيِّدِه ".

(34)

وقال الشيخ - رحمه اللَّه - أيضًا في قوله: إن اللَّه اصطفى من ذكر: فهو - واللَّه أعلم - ذكر اللَّه أولياءه وأهل صفوته، ثم أعداءه وأهل الشقاء؛ ترغيبًا فيما استوجبوا الصفوة؛ وتحذيرًا عما به صاروا أهل الشقاء؛ إذ هما أمران يتولَّدان عن اختيار البشر، ويقومان بأسبابهما أهل المحن، لا بنفس الخلقة والجوهر؛ فصار الذكر للمعنى الذي ذكرت؛ وعلى ذلك وجه ذكر عواقب الفريقين في الدنيا، وما إليه يصير أمرهم في المعاد؛ وعلى هذا ما ضرب اللَّه من الأمثال بأنواع الجواهر الطيبة والخبيثة في العقول والطبائع ترغيبًا وترهيبًا؛ وعلى هذا جميع أمور الدنيا، أنها كلها عبر ومواعظ، وإن كان فيها شهوات ولذات، وآلام وأوجاع؛ ليعلم أنها خلقت لا لها لكن لأمر عظيم، كان ذلك هو المقصود من مدبر العالم أن بالعواقب يذم أهل الاختبار ويحمدون؛ فجعل الله عواقب الحكماء وأهل الإحسان حميدة لذيذة؛ ترغيبًا فيها، وعواقب السفهاء وأهل الإساءة دميمة وجيفة؛ تزهيذا فيها؛ فخرج جميع فعل اللَّه على الحكمة والإحسان، وإن كانت مختلفة في اللذة والكراهة؛ لأنه كذلك طريق الحكمة في الجزاء، وفي ابتداء المحنة، إلا أن المحنة تكون مختلفة، والجزاء نوع لما هو كذلك في الحكمة والإحسان؛ إذ كذلك سبق من أهله الاختيار والجزاء على ما اختاره من له وعليه حكمة وإحسان؛ أعني: بالإحسان فيما يجوز الامتحان بلا جزاء بحق الشكر لما أولى وأبلى، والحكمة فيما كان لازمًا ذلك في التدبير، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ (34) قيل: بعضها من بعض في النسب من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح، ثم من ذرية إبراهيم، عليهم السلام. وقيل: بعضهم من ذرية بعض. وقيل: بعضهم من جوهر بعض؛ فلا تتكبروا؛ كقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)، منع الحر عن التعظيم على العبد. واختلف في الذرية: قَالَ بَعْضُهُمْ: " الذرية ": الأولاد والآباء؛ كقوله: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)، وكانوا الأولاد والآباء، والذرية مأخوذة، وهو الخلقة.

(35)

وقِيل: " الذرية: الأولاد خاصة، يقال: ذرية فلان، إنما يراد، أولاده خاصة؛ دليله قوله (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً). وقوله: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ). واختلف في الآل؛ قيل: آل الرجل: المتصلون به. وقيل: آل الرجل: أتباعه. وقيل: أقرباؤه. وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " كُل تَقِي فَهُوَ مِنْ آلِي ". وقيل: إن عمران من ولد سليمان بن داود. وقوله: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا (35) لما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه اصطفي آل عمران واختارهم على سائر العالمين، وكان أقل ما في صفوته واختياره أن جعلت امرأة عمران ما في بطنها مُحَرَّرًا.

(36)

(والْمُحَرَّر): هو العتيق عن المعاش بالعبادة. وقيل: " الْمُحَرَّر " هو الذي يعبد اللَّه - نعالى - خالصًا مطيعًا، لا يشغله شيء عن عبادته، فارغًا لذلك، وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقيل: " الْمُحَرَّر " هو الذي يكون لله صافيًا. وقيل: " الْمُحَرَّر " هو مَنْ خَدَمَ المسجد. وقوله: (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) جعلت ما في بطنها لله خالصًا، لم تطلب منه الاستئناس به، ولا ما يطمع الناس من أولادهم، وذلك من الصفوة التي ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - وهكذا الواجب على كل أحد أنه إذا طلب ولدًا أن يطلب للوجه الذي طلبت امرأة عمران وزكريا، حيث قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)، وما سأل إبراهيم - عليه السلام -: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، وكقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا. . .) الآية هكذا الواجب أن يطلب الولد لا ما يطلبون من الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم. وقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). أي: تقبل مني قرباني، وما جعلت لك خالصًا، إنك أنت السميع لنذري، العليم بقصدي في التحرير. وقيل: (السَّمِيعُ): المجيب لدعائي، (العليم) بنيتي. وقوله: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى (36) ومعنى قولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) -مع علمها أن اللَّه عالم بما في بطنها وبما وضعتها- وجهان: أحدهما: اعتذارًا لما لم يكن يُحَرَّر في ذلك الزمان إلى الذكور من الأولاد؛ فاعتذرت:

(37)

إني ما وضعت لا يصلح للوجه الذي جعلت. والثاني: أن الإنسان إذا رأى شيئا عجيبا قد ينطق بذلك، وإن كان يعلم أن غيره علم ما علم هو، وأنه رأى مثل ما رأى هو. أو يحتمل أن طلبت ردّها إلى منافعها إذا وضعت الأنثى؛ لما رأت الأنثى لا تصلح لذلك. ويحتمل قولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى): التعريض لإجابة اللَّه - تعالى - لها فيما قصدت من طاعته بالنذور إن لم تكن صلحت لما قصدت، وقد أجيبت في ذلك بقوله: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ) نحو ما يتقبل لو كان ذكرًا في الاختيار والإكرام، وجعلها خير نساء العالمين. وقوله: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى). اختلف فيه: قيل: إن ذلك قولها، قالت: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) على إثر قولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى)؛ لما تحتاج الأنثى إلى فضل حفظ وتعاهد، والقيام بأسبابها ما لا يحتاج الذكر. وقيل: إن ذلك قول قاله - عَزَّ وَجَلَّ - لما قالت: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى)، جوابًا لها، (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) فيما قصدت، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ). فيه دليل على أن تسمية الأولاد إلى الأمهات في الإناث دون الآباء، ثم التجأت إلى اللَّه تعالى، حيث أعاذتها به -وذريتَها- من الشيطان الرجيم. وفيه دلالة أن الذكور يكونون من ذرية الإناث؛ لأنه لم يكن منها إلا عيسى، عليه السلام. وقوله: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ (37) يحتمل قوله: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ): أن أعاذها وذريتها من الشيطان الرجيم على ما سألت.

ويحتمل أن جعلها تصلح للتحرير ولما جعلت، وإن كانت أنثى. وقوله: (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا). يحتمل -أيضًا- نباتًا حسنًا؛ أن لم يجعل للشيطان إليها سبيلًا. ويحتمل أن ربَّاها تربية حسنة؛ أن لم يجعل رزقها وكفايتها بيد أحد من الخلق؛ بل هو الذي يتولى ذلك لما يبعث إليها من ألوان الرزق، كقوله: (وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا)، وكقوله: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا). وقوله: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا). فيه لغتان: إحداهما: بالتخفيف، والأخرى: بالتشديد؛ فمن قرأ بالتخفيف؛ فمعناه ضمَّها زكريا إلى نفسه، ومن قرأ بالتشديد؛ فمعناه: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ضمَّها إلى زكريا. وقوله: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا). قيل: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف - قال زكريا: (أَنَّى لَكِ هَذَا). قيل فيه بوجهين: قيل: استخبار عن موضعه، أو كيف لك هذا، على الاستيصاف؛ إنكارًا عليها واتهامًا؛ لما لا يدخل عليها غيره، ولا يقوم بكفايتها سواه، فوقع في قلبه أنَّ أحدًا من

(38)

البشر يأتيها بذلك. وقيل: إنه قال ذلك؛ تعجبًا منه لذلك لما رأى من الفاكهة والطعام في غير حينه غير متغير؛ فقال: (أَنَّى لَكِ هَذَا)؛ تعجبًا منه لذلك. ثم قالت: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ). أي: يرزق من حيث لا يحتسب. * * * قوله تعالى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وقوله: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) قيل: فعند ذلك دعا زكريا ربه لما كانت نفسه الخاشية تحدث بالولدان تهب له، لكنه لم يدعو لما رأى نفسه متغيرة عن الحال التي يطمع منها الولد، فرأى أن السؤال في مثل ذلك لا يصلح؛ فلما رأى عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف غير متغيرة عن حالها - علم عند ذلك أن السؤال يصلح، وأنه يجاب للدعاء في غير حينه، فذلك معنى قوله: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ)، واللَّه أعلم. ويحتمل أنه لما رأى ما أكرمت امرأة عمران في قبول دعوتها وتبليغ ابنتها في الكرامة المبلغ الذي رأى فيها مما لعل أطماع الأنفس لا تبلغ ذلك - دعا اللَّه - جل جلاله - أن يكرمه ممن يبقى له الأثر فيه والذكر، وإن كانت تلك الحال حال لا تطمع الأنفس فيما رغب - عليه السلام - مع ما كان يعلم قدرة اللَّه - تعالى - على ما يشاء من غير أن كان يحس على طلب الإكرام بكل ما يبلغه قدره، حتى رأى ما هو في الأعجوبة قريب مما كانت نفسه تتمنى، واللَّه أعلم بالمعنى الذي سأل. وقوله: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ).

(39)

أي: مجيب الدعاء. وقوله: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ (39) دل هذا أن المحراب هو موضع الصلاة. (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى). فيه دلالة لقول أصحابنا - رحمهم اللَّه - أن الرجل إذا حلف ألا يبشر فلانًا فأرسل إليه غيره يبشره - حنث في يمينه؛ لأنه هو البشير، وإن كان المؤدي غيره؛ ألا ترى أن البشارة -هاهنا- أضيفت إلى اللَّه - تعالى - فكان هو البشير؛ فكذلك هذا. وقوله: (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ). (بِكَلِمَةٍ) قيل: عيسى - عليه السلام - كان بكلمة من اللَّه، فيحيى صدقه برسالته. وقيل: أول من صدق عيسى - يَحْيَى بن زكريا، ولهذا وقع على النصارى شبهه؛ حيث قالوا: عيسى ابن اللَّه، بقوله: (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)، (وَرُوحٌ مِنْهُ)، ظنوا أنه في معنى (فيه)؛ لكن ذلك إنما يذكر إكرامًا لهم وإجلالا، ولا يوجب ذلك ما قالوا؛ ألا ترى أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، ونحو ذلك، لم يكن فيه أن النعمة منه في شيء؛ فعلى ذلك الأول. وقوله: (وَسَيِّدًا): قيل: سَيِّدًا في العلم والعبادة. وقيل: السيِّد: الحكيم هاهنا.

وقيل: السيد: الذي يطيع ربه ولا يعصيه، فكذلك كان صلوات اللَّه عليه. وقيل: السيد: الحسن الخلق. وقيل: السيد: التقي. وقيل: اشتق يَحْيَى من أسماء اللَّه - تعالى - من: " حي "، واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو الذي سماه يحيى؛ وكذلك عيسى - روح اللَّه - هو الذي سماه مسيحًا؛ بقوله: (يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)، وذلك إكرامًا لهم وإجلالًا، على ما سمى إبراهيم: خليل اللَّه، ومُحَمَّد: حبيب اللَّه، وموسى: كليم اللَّه؛ إكرامًا لهم وإجلالًا؛ فكذلك الأول. وجائز أن يكون " يَحْيَى " بما حيي به الدِّين. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (بِيَحْيَى): قيل: سماه به؛ لما حيي به الدِّين والمروءة، أو حيي به العلم والحكمة، أو حيي به الأخلاق الفاضلة، والأفعال المرضية؛ ولهذا - واللَّه أعلم - سمي سيدًا؛ لأن السؤدد في الخلق يكتسب بهذا النوع من الأحوال. وسمي مسيحًا بما مسح بالبركة، أو يبارك في كل شيء يمسحه بيده؛ نحو أن يبرأ به وَيَحْيَى، واللَّه أعلم. وحقيقة السؤدد أنه يكتسب بالأخلاق الحسنة، والأفعال المرضية، وجائز أن يكون - عليه السلام - جمعهما فيه؛ فسمي به، واللَّه أعلم. والأصل في هذا ونحوه: أن الأسماء إن جعلت للمعارف، ليعلم بها المقصود - فالكف عن التكلف في المعنى الذي له سموا له أسلم، وإن كان في الجملة يختار ما يحسن منه في الأسماع، دون ما يقبح على المقال، أو على الرغبة في ذكره على ما يختار

من كل شيء، واللَّه أعلم. وقوله: (وَحَصوُرًا): قيل: الحصور: الذي لا ماء له ولا شهوة. وقيل: هو المأخوذ عن النساء، والممنوع منهن. وقيل: هو الذي لا يشتهي النساء. وكله واحد، واللَّه أعلم. (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ): ذكر أنه من الصالحين، وإن كان كل نبي لا يكون إلّا صالحًا؛ على ما سمي كل نبي صديقا، وإن كان لا يكون إلا صديقًا، ووجه ذكره صالحًا: أنه كان يتحقق فيه ذلك؛ لأن غيره من الخلق، وإن كان يستحق ذلك الاسم - إنما يستحق بجهة، والأنبياء - عليهم السلام - يتحقق ذلك فيهم من الوجوه كلها. والثاني: دعاء أن يلحق بالصالحين في الآخرة، واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ما ذكر في كل نبي أنه كان من الصالحين - يخرج على أوجه: على جميع الصلاح، وعلى البشارة لهم في الآخرة أنهم يلحقون بأهل الصلاح، وعلى أنهم منهم؛ لولا النبوة؛ ليعلم أن النبوة إنما تختار في الدِّين لمن تم لهم وصف الصلاح، وعلى الوصف به أنهم كذلك على ألسن الناس، وأن الذين ردوا عليهم - ردّوا

بعد علمهم بصلاحهم، أو على الوصف به كالوصف بالصديق، وإن كان كل نبي كذلك؛ مع ما لعل لذلك حد عند اللَّه؛ لذلك أراد لم يكن أطلع غيره عليه، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون " يَحْيَى " بما حي به الأخلاق المحمودة، والأفعال المرضية؛ ولذلك سمى سيدًا؛ وجملته أن لله أن يسمي من شاء بما شاء، وليس لنا تكلف طلب المعنى، فيما سمى اللَّه الجواهر به؛ إذ الأسماء للتعريف، لكن يختار الأسماء الحسنة في السمع على التفاؤل، واللَّه أعلم. وقوله: وروح اللَّه وكلمته - كقوله: خليل اللَّه وحبيبه، وذبيح اللَّه، وكليم اللَّه، ليس على توهم معنى يزيل معنى الخلقة، ويوجب معنى الربوبية أو النبوة، وذلك على ما قيل: من بيوت اللَّه، وعلى ما قيل لدينه: نور اللَّه، وقيل لفرائضه: حدود اللَّه، لا على معنى يخرج عن جملة خلقه؛ بل على تخصيص لذلك في الفضل على أشكاله، وذلك كما قال لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، وقال في الجملة: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، لا على ما توهمته النصارى في المسيح، فمثله الأول، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا): بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلًا. وفيه وجه آخر: وهو أن في ذلك بيان أن كلامه في المهد كلام مختار؛ إذ ذلك وصف كلام الكهل؛ ليعلم أن قوله: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ)، إلى آخره: إنما هو حقيقة الخضوع لله، والإنباء عنه، لا على خلقه؛ كنطق الجوارح في الآخرة، واللَّه أعلم. أو لتكون آية له دائمة؛ إذ لم يكن على ما عليه أمر البشر: من التغيير، على أن آيات الجوهرية تزول عند الفناء، نحو العصا فيما تعود إلى حالها، واليد، ونحو ذلك؛ ليخص هو بنوع من الآيات الحسية بالدوام، ولا قوة إلا باللَّه.

(40)

(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ (40) يحتمل هذا الكلام وجوهًا: أحَدها: على الإنكار، أي: لا يكون، لكن هاهنا لا يحتمل؛ لأنه كان أعلم باللَّه وقدرته أن ينطق به، أو يخطر بباله. والثاني: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) أي: كيف وجهه ولسببه، وكذلك قوله: (أَنى لَك هَذَا)، وقوله: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)، (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا)، أي: كيف وجهه وما سببه. والثالث: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) في الحال التي أنا عليها، أو أردّ إلى الشباب؛ فيكون لي الولد. هذان الوجهان يحتملان، وأمَّا الأول فإنه لا يحتمل. وقوله: (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) وذكر في سورة مريم: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا): ذكر على التقديم والتأخير. وكذلك قوله: (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) أو (ثَلَاثَ لَيَالٍ)، والقصة واحدة؛ ذكر على التقديم والتأخير، وعلى اختلاف الألفاظ واللسان؛ دل أنه ليس على الخلق حفظ اللفظ واللسان؛ وإنما عليهم حفظ المعاني المدرجة المودعة فيها، وبالله التوفيق، ويعلم أنه لم يكن على كلا القولين، ولم يكن بهذا اللسان. وقوله: (قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)، وقوله: (كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، وإن اختلف في اللسان. وقوله: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً (41) طلب من ربِّه آية؛ لما لعله لم يعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة، أو وساوس؛ فطلب آية ليعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا بشارة إبليس؛ لأنه لا يقدر أن يفتعل في الآية؛ لأن فيها تغير الخلقة والجوهر، وهم لا يقدرون على،

ذلك، ولعلهم يقدرون على الافتعال في البشارة؛ ألا ترى أن إبراهيم - صلوات اللَّه على نبينا وعليه - لما نزل به الملائكة لم يعرفهم بالكلام وهابوه، حتى قال: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)، حتى قالوا: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)، فذهب ذلك الروع منه بعد ما أخبروه أنهم ملائكة، رسل اللَّه، أرسلهم إليه. وقوله: (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) قال بعض أهل التفسير: حبس لسانه عقوبة له بقوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ)؛ لكن ذلك خطأ، والوجه فيه: منعه من تكليم الناس، ولم يمنعه عن الكلام في نفسه؛ ألا ترى أنه أمره أن يذكر ربَّه، ويسبح بالعشي والإبكار؛ كقوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ)؟!. ويحتمل أن يكون أراه آية في نفسه من نوع ما كان سؤاله؛ إذ كان عن العلم بالولد في غير حينه، فأراه بمنع اللسان عن النطق، وأعلى أحوال الاحتمال؛ ليكون آية للأوّل. وقيل في قوله: (اجْعَلْ لِي آيَةً): أنه طلب آية؛ لجهله بعلوق الولد، وجعلها ليعرف متى يأتيها؟. وقوله: (إِلَّا رَمْزًا): قيل: الرّمز: هو تحريك الشفتين. وقيل: هو الإيماء بشفتيه. وقيل: هو الإشارة بالرأس. وقيل: هو الإشارة باليد، واللَّه أعلم بذلك.

(42)

قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وقوله: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ): قال أهل التفسير: هو جبريل - عليه السلام - لكن ذلك لا يعلم إلا بالخبر، فإن صح الخبر - فهو كذلك، وإلا لم يقل من كان مِنَ الملائكة قال ذلك. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ): أن صفاها لعبادة نفسه، وخصها له، ما لم يكن ذلك لأحد من النساء؛ فيكون ذاك صفوتها. وقيل: اصطفاها بولادة عيسى - عليه السلام - إذ أخرج منها نبيًّا مباركًا تقيًّا، على خلاف ولادة البشر. وقوله: (وَطَهَّرَكِ): قيل: من الآثام والفواحش. وقيل: وطهرك من مس الذكور، وما قذفت به.

(43)

(وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ): هو ما ذكرنا من صفوتها؛ إذ جعلها لعبادة نفسه خالصا، أو ما قد ولدت من ولد من غير أب، على خلاف سائر البشر. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " خَط رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَربَعَةَ خُطُوط، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذِهِ؟ قَالوُا: اللَّه وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: " أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنةِ: خَدِيجَةُ، وَفَاطِمَةُ، وَمَريَمُ، وآسيَةُ امْرَأةُ فِرْعَونَ ". وكذلك روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -قال: " خَيرُ نِسَاءِ العَالَمِينَ أَرْبَعٌ: مَريَمُ بِنْتُ عِمرَانَ، وآسيَةُ بِنْتُ مُزَاحِم، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ". وقوله: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ (43) يحتمل وجهين: الأمر بالقنوت: القيام، ثم الأمر بالسجود، أي: الصَّلاة، ثم الأمر بالركوع مع الراكعين؛ وهو الصلاة بجماعة؛ ففيه الأمر بالصلاة بالجماعة، على ما هو علينا؛ لأنه قال: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)؛ وعلى ذلك روي في الخبر: أنه سئل عن أفضل الصَّلاة؟ فقال: " طُولُ القُنُوتُ ". ويحتمل أنه الأمر بالركوع، ثم بالسجود؛ فيدل أن السجود -وإن كان مقدمًا ذكره على الركوع- فإنه ليس في تقديم ذكر شيء على شيء، ولا تأخير شيء عن شيء في الذكر دلالة وجوب الحكم كذلك. وقيل: القنوت: هو الخضوع والطاعة؛ كقوله: (وَقُومُوا لِلََّهِ قَانِتِينَ)

(44)

أي: خاضعين مطيعين. فَإِنْ قِيلَ: كيف أُمِرَتْ بالركوع مع الراكعين؟! قيل: كانوا - واللَّه أعلم - ذوي قرابة منها ورحم؛ ألا ترى أنهم كيف اختصموا في ضمها وإمساكها، حتى أراد كل واحد منهم ضمها إلى نفسه، وأنه الأحق بذلك؟! دل أن بينهم وبينها رحمًا وقرابة. وقيل في قوله: (اقْنُتِي): أي: أطيلي الركوع في الصَّلاة واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: يحتمل (مَعَ الرَّاكِعِينَ): أي: ممن يركع ويخضع له بالعبادة، لا على الاجتماع - واللَّه أعلم - كيف كان الأمر في ذلك؟. وقوله: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ (44) أي: من أخبار الغيب لم تشهده أنت يا مُحَمَّد ولم تحضر، بل نحن أخبرناك وذكرناك عن ذلك. ثم في ذلك وجوه الدلالة: أحدها: أراد أن يخبره عن صفوة هَؤُلَاءِ وصنيعهم؛ ليكون على علم من ذلك. والثاني: دلالة إثبات رسالته؛ لأنه أخبر على ما كان من غير أن اختلف إلى أحد، أو أعلمه أحد من البشر على علم منهم ذلك؛ دل أنه إنما علم ذلك باللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -. والثالث: أن يتأمل وجه الصفوة لهم؛ أنهم بما نالوه؛ فيجتهدوا في ذلك، واللَّه أعلم. وفي ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى أن ظهر ذلك بإلقاء الأقلام. وقوله: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) الآية. قيل: إنهم ألقوا أقلامهم على جرية الماء، فذهبت الأقلام كلها مع الجرية؛ إلا قلم زكريا؛ فإنه وقف على وجه الماء. وقِيل: طرحوا أقلامهم في الماء، وكان من شرطهم أن من صعد قلمه عاليًا مع الجرية، فهو أحق بها، ومن سفل قلمه مع الجرية فهو المقروع، فصعد قلم زكريا، وتسفلت أقلامهم؛ فعند ذلك ضمها زكريَّا إلى نفسه.

ثم من الناس من احتج بجواز القرعة والعمل بها - بهذه الآية؛ حيث ضمها زكريا -مريم- إلى نفسه، لما خرجت القرعة له؛ لكن القرعة في الأنبياء لتبيين الأحق من غيره؛ لوجهين: لحق الوحي. والثاني: لظهور إعلام في نفس القرعة؛ ما يعلم أنه كان باللَّه ذلك لا بنفسه؛ كارتفاع القلم على الماء، ومثل ذلك لا يكون للقلم، والمحق من المبطل، وفيما بين سائر الخلق؛ لدفعهم التهم؛ فهي لا تدفع أبدا. ويحتمل استعمال القرعة فيها لتطييب الأنفس بذلك، أو علموا ذلك بالوحي، فليس اليوم وحي؛ لذلك بطل الاستدلال لجواز العمل بالقرعة اليوم، واللَّه أعلم. أو كان ذلك آية، والآية لا يقاس عليها غيرها؛ نحو: قبول قول قتيل بني إسرائيل -

(45)

آية، ليس به معتبر في جواز قول قتيل آخر قبل الموت. وقوله: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ (45) يحتمل: (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ): أن قال: " كن " - فكان من غير أب ولا سبب، وسائر البشر لم يكونوا إلا بالآباء والأسباب: من النطفة، ثم من العلقة، ثم من مضغة مخلقة على ما وصف - عَزَّ وَجَلَّ - في كتابه، وكان أمر عيسى - عليه السلام - على خلاف ذلك. ويحتمل (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ): ما ذكر أنه كلم الناس في المهد: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ) وذلك مما خص به عيسى، وهو بكلمة من اللَّه قال ذلك. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) والكهل: مما يكلم الناس؟ قيل: لأن كلامه في المهد آية، والآية لا تدوم؛ كقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ) الآية، وإنما يكون ذلك مرة لا أنها تشهد وتنطق أبدًا، فأخبر أن تكليمه الناس في المهد - وإن كانت آية - فإنه ليس بالذي لا يدوم، ولا يكون إلا مرّة. والثاني: أمنٌ من اللَّه لمريم، وبشارةٌ لها عن وفاته إلى وقت كهولته، واللَّه أعلم. وقوله: (اسْمُهُ الْمَسِيحُ). قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " المسيح: المبارك "، أي: مسح بالبركة. وقيل: سمي مسيحًا؛ لأنه كان يمسح عين الأعمى والأعور فيبصر. وقيل: المسيح: العظيم؛ لكنه - واللَّه أعلم - بلسانهم؛ فيسأل: ما المسيح بلسانهم. وقوله: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا): بالمنزلة، ومكينًا في الآخرة، (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) في الدرجة

(47)

والرفعة، ومن كان وجيهًا في الدنيا والآخرة فهو مقرب فيهما. وقوله: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ (47) عرفت مريم أن الولد يكون بمس البشر، وعلمت -أيضًا- أنها لا تتزوج، ولا يمسها بشر أبدًا؛ لأنها قالت: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) فإن لم يكن مسها أحد قبل ذلك، فلعله يمسها في حادث الوقت؛ فيكون لها منه الولد، فلما لم يقل لها يمسسك؛ ولكن قال: (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) دل ذلك أنها علمت أنها لا تتزوج أبدًا؛ لأنها كانت محررة لله، مخلصة له في العبادة، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) أي: من أي وجه يكون لي ولد بالهبة؛ لأنها بشرت أن يهب لها ولدًا، فقالت: من أي وجه يكون لي ولد بالهبة، (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)؟ ثم قال: (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) تأويله: ما ذكر في سورة مريم حيث قالت: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) الآية، ثم قال: (كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي: خلق الخلق عَلَيَّ هَيِّنٌ: بِأبٍ، وبغير أبٍ، وبمس بشر، وبغير مس، وبسبب، وبغير سبب؛ على ما خلق آدم بغير أب ولا أم؛ فعلى ذلك يخلق بتوالد بعض من بعض، وبغير توالد بعض من بعض؛ كخلق الليل والنهار، يخلق بلا توالد أحدهما من الآخر؛ فكذلك يخلق لك ولدًا من غير أب ولا مس بشر، وباللَّه الحول والقوة. وقوله: (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ): أي: إذا قضى أمرًا بتكوين أحد، أو بتكوين - فإنما يقول له: كن، لا يثقل عليه، ولا يصعب خلق الخلق وتكوينهم؛ كقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي: خلق الخلق كلهم ابتداء، وبعثهم بعد الموت - كخلق نفس واحدة؛ أن يقول: (كُنْ فَيَكُونُ)؛ وإنَّمَا يثقل ذلك على الخلق ويصعب؛ لموانع تمنعهم وأشغال تشغلهم، فاقا اللَّه - سبحانه وتعالى - عن أن بشغله شغل، أو يمنعه مانع، أو يحجب عليه حجاب. وقوله: (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ): ذكر - واللَّه أعلم - هذا الحرف؛ لأنه ليس في كلام العرب حرف أو جزء منه يعبر فيفهم معناه، لا أن كان منه - عَزَّ وَجَلَّ - كاف أو نون، أو حرف، أو هجاء، أو صفة

(48)

يفهم ويعرف حقيقته، أو يوصف هو بمعنى من معاني كلام الخلق أو صفاتهم، أو يكون لتكوينه وقت أو مدة أو حال، أو يكون تكوين بعد تكوين، على ما يكون من الخلق، إنما هو أوجز حرف يفهم معناه، بالعبارة إخبار منه - عَزَّ وَجَلَّ - الخلق عن سرعة نفاذ أمره ومشيئته. * * * قوله تعالى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) وقوله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ): بشارة منه لها -أيضًا-: أنه يعلمه الكتاب، ثم اختلف في (الْكِتَاب)؛ قيل: (الْكِتَاب): الخط هاهنا يخط بيده، ويحتمل (الْكِتَاب): الكتاب نفسه: التوراة والإنجيل، ويحتمل (الْكِتَاب): كتب النبيين. (وَالْحِكْمَةَ)؛ قيل: الحكم بين الخلق، وقيل: الفقه، وقيل: الحلال والحرام، وقيل: السنة. (وَالْحِكْمَةَ): هي الإصابة، وقد ذكرناه فيما تقدم. وقوله: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (49) أي: أجعله رسولًا إلى بني إسرائيل، وهذا -أيضًا- بشارة لها منه، وكان عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أوَّل أمره إلى آخره آية؛ لأنه ولد من غير أب،

على خلاف ما كان سائر البشر، يكلم الناس في المهد، وأقرَّ بالعبودية له، ولم يكن لأحد من البشر ذلك، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وأنباء ما كانوا يأكلون ويدخرون، وما كان له مأوى يأوى إليه، ولا عيش يتعيش هو به، والبشر لا يخلو عن ذلك، ثم ألقى شبهه على غيره؛ فقتل به، ورفع هو إلى السماء؛ وذلك كله آية، وكانت آياته كلها حسية يعلمها كل أحد، وآيات رسول اللَّه - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - كانت حسية وعقلية: أمَّا الحسية: فهو انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وكلام الشاة

المسمومة، وقطع مسيرة شهر في ليلة، وغير ذلك من الآيات مما يكثر عددها؛ هذه كلها كانت حسية. وَأفَا العقلية: فهذا القرآن الذي نزل عليه، وهو بين أظهرهم، وهم فصحاء وبلغاء وحكماء، يتلى عليهم: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. . .) الآية، وقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ

ظَهِيرًا)، فلو كان بهم طاقة أو قدرة أن يأتوا بمثله، لجهدوا كل جهد، وتكلفوا كل تكلف؛ حتى يطفئوا هذا النور؛ ليتخلصوا عن قتلهم، وسبي ذراريهم، واستحياء نسائهم، فلما لم يفعلوا ذلك - دَلَّ أنه كان آية معجزة، عجزوا جميعًا عن إتيان مثله، فأي آية تكون أعظم من هذا؟! وباللَّه المعونة والنجاة. وقوله: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ): أي: بعلامة أني رسول منه إليكم، ثم فسَّر الآية، فقال: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّه) قوله: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ) هو على المجاز، لا على التخليق والتكوين؛ لأن الخلق ليس هو من فعل المخلوق، وإنَّمَا هو من فعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأن التخليق: هو الإخراج من العدم إلى الوجود، وذلك فعل اللَّه - تعالى - لا يقدر المخلوق على ذلك؛ فهو على المجاز؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)، وليس إلى الخلق تحليل شيء أو تحريمه، إنما ذلك إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فمعناه: أني أظهر لكم حل بعض ما حرم عليكم؛ فعلى ذلك قوله: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي: أظهر لكم بيدي ما خلق اللَّه من الطين طائرًا؛ فيكون آية لرسالتي إليكم؛ وكذلك الآيات ليس مما ينشئ الأنبياء، ولكن تظهر على أيديهم. وإنَّمَا لم يجز إضافة التخليق إلى الخلق؛ لما ذكرنا: أنه إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وذلك ليس إلى الخلق. والثاني: أن التخليق هو إخراج الفعل على التقدير، وفعل العبد إنما يخرج على تقدير اللَّه، لا يخرج على تقديره؛ لذلك لم يجز إضافة ذلك إلى الخلق، إلا على المجاز. واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: الخلق: اسم المجاز والحقيقة، والتخليق: فعل حقيقة خاصَّة، وآيات الأنبياء - عليهم السلام - هي التي تخرج على خلاف الأمر المعتاد فيما بينهم، يجريها اللَّه - سبحانه وتعالى - على أيديهم؛ ليعلموا أن ذلك لم يكن بهم، إنما كان ذلك بالمُرسِل الذي أرسلهم؛ ليدل على صدقهم، ولا قوة إلا باللَّه.

وإبراء الأكمه والأبرص " هو من آيات النبوة؛ لخروجها عن الأمر المعتاد فيما بينهم. فَإِنْ قِيلَ: إن إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص من آيات النبوة؛ لعجزهم عن إتيان مثله، وخروجه عن المعتاد فيما بينهم، ولكن أنباء ما يأكلون وما يدخرون لِمَ كان من آيات النبوة، ويجوز أن يكون ذلك من منجم؟ قيل: له جوابان -إن كان يكون مثل ذلك بالنجوم-: أحَدهما: أنه مضموم إلى الآيات؛ فصار آية بما ضم إليها. والثاني: أن هذا -وإن كان يعلم بالنجوم- فعيسى - عليه السلام - لما علم قومه أنه لم يختلف إلى أحد في تعلم علم النجوم، ثم عرف ذلك وأنبأهم بذلك - دل أنه إنما علم ذلك باللَّه؛ فكان آية، وباللَّه التوفيق. مع ما كان في قومه أطباء وحكماء وبصراء - لم يَدَّعِ أحد شيئًا من هذه الآيات التي جاء بها عيسى - عليه السلام - دل ترك اشتغالهم في ذلك على إقرارهم بأنها آية سماوية، لكنهم تعاندوا وكابروا فلم يؤمنوا به. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: الخلق: اسم المجاز والحقيقة، والتخليق: فعل حقيقة خاصة. وقوله (بِإِذْنِ اللَّهِ). قيل: بأمر اللَّه.

(50)

وقيل: بمشيئة اللَّه. واختلف في " الأكمه ": عن مجاهد، قال: " الأكمه: الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " الأكمه: الأعمى الممسوح العين "، وقيل: هو الذي ولد من أمه أعمى لا يتكلف أحد من الأطباء إبراء مثله، ولا اشتغل بدوائه، دل أنه عرف ذلك باللَّه تعالى، والأطباء يتكلفون في دفع العلل العارضة الحادثة، وأما ما كان خلقة من جِبِلَّة - فلا. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): قيل: قال: إن هذا آية لكم؛ إن كنتم صدقتم أني رسول اللَّه إليكم. وقيل: قال: إن في ذلك لآية لكم في رسالتي؛ إن كنتم مؤمنين بالمُرسِل. ويحتمل (إن كنتم تُؤمِنُونَ) أي: بالآيات أنها تُعَرِّفُ مَا جُعِلْنَ له، واللَّه أعلم. وقوله: (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ... (50) الآية: ما ذكر. وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ): يحتمل: فاتقوا اللَّه في تكذيبي في الآيات، و (وَأَطِيعُونِ) في تصديقي. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) ظاهر، قد ذكرنا فيما تقدم. * * * قوله تعالى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وقوله: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ): قيل: أَحَسَّ: علم.

وقيل: أحسَّ: رأى؛ وهو كقوله: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ). وقيل: أحسَّ، أي: وجد، وهو قول الكيساني، وقيل: عرف؛ وهو كله واحد. ثم قوله: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ): يحتمل - واللَّه أعلم - أن قومه لما سألوه أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء؛ تكون لهم آية لرسالته وصدقه؛ ففعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك، وأنزل عليهم المائدة، ثم أخبر أن من كفر منهم بعد إنزال المائدة يعذبه عذابًا لا يعذبه أحدًا، فكفروا به؛ فعلم أن العذاب ينزل عليهم؛ فأَحبَّ أن يخرج بمن آمن به؛ لئلا يأخذهم العذاب، فقال: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)؛ يؤيد ذلك قوله: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ. . .) الآية. ويحتمل أن يكونوا أظهروا الإسلام له، وكانوا في الحقيقة على خلاف ذلك، فلما علم ذلك منهم، وقد همُّوا على قتله، قال عند ذلك: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)؛ أحبَّ أن يكون معه أنصار مع اللَّه ينصرونه؛ فيظهر المؤمنون من غيرهم، فنصرهم اللَّه على أعدائهم؛ ليظهر المؤمنون من غيرهم، وهو قوله: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ). ومن الناس من يقول: إنه لم يكن في سُنَّةِ عيسى - عليه السلام - الأمر بالقتال، وفي الآية إشارة إلى ذلك بقوله: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)، أخبر أنهم أصبحوا ظاهرين على عدوهم؛ فلا يخلو إمَّا أن يكون قتالًا أو غلبة بحجة أو بشيء ما يقهرهم، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ): اختلف في الحواريين: قَالَ بَعْضُهُمْ: هم القصَّارون الغسَّالون للثياب، ومبيضوها.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " إِنَّمَا سُمُّوا الحَوَارِيينَ؛ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِم "، وكانوا يصيدون السَّمك. وقيل: الحواري: الوزير، والناصر، والخاص؛ على ما جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِن لِكُلِّ نَبِي حَوَارِيِّينَ، وَحَوَارِيي فُلان وفُلان "، ذكر نفرًا من الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين، - وإنما أراد - واللَّه أعلم - الناصر والوزير. ويحتمل أن يكونوا سمُّوا بذلك؛ لصفاء قلوبهم، وهم أصفياء عيسى - عليه السلام -. كذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واللَّه أعلم بهم. وقوله: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) إن اللَّه يتعالى عن أن يُنصَر، ولكن يحتمل (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ)، أي: أنصار دين اللَّه، أو أنصار نبيه، أو أنصار أوليائه؛ تعظيمًا. وكذلك قوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ): إن اللَّه لا يُنْصَرُ؛ ولكن يُنْصَرُ دِينُهُ أو رسلُهُ أو أولياؤه؛ وهو كقوله: (يخادعُونَ اللَّهَ): إن اللَّه لا يُخَادَعُ، ولا يمكر، ولكن لما خادعوا أولياءه أو دينه، أضاف ذلك إلى نفسه؛ فعلى ذلك لما نصروا دين اللَّه ونبيه ووليّه، أضاف ذلك إلى نفسه.

(53)

وقوله: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) الآية: ينقض قول من يجعل الإيمان غير الإسلام؛ لأنهم أخبروا أنهم آمنوا، وأنهم مسلمون، لم يفرقوا بينهما، وكذلك قوله: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36): لم يفصل بينهما، وجعلهما واحدًا، وكذلك قول موسى لقومه: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ): لم يجعل بين الإيمان والإسلام فرقًا، وهو قولنا: إن العمل فيهما واحد؛ لأن الإيمان: بأن تصدق بأنك عبد اللَّه، والإسلام: أن تجعل نفسك لله سالمًا. وقيل: الإيمان: اسم ما بطن، والإسلام: اسم ما ظهر؛ ألا ترى أنه جاز في الإسلام الشهادة، وفي الإيمان التصديق؟!. وقوله: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ ... (53) يعني - واللَّه أعلم -: بما أنزلت من الكتب السماوية التي أنزلها على الرسل جميعًا، فإن أرادوا بما أنزلت على عيسى - عليه السلام - فالإيمان بواحد من الكتب أو بواحد من الرسل: إيمان بالكتب كلها وبالرسل جميعًا، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. * * * قوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) وقوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ). مكروا بنبي اللَّه عيسى - عليه السلام - حيث كذبوه وهمُّوا بقتله، (وَمَكَرَ اللَّهُ)، أي: يجزيهم جزاء مكرهم؛ وإلا حرف المكر مذموم عند الخلق؛ فلا يجوز أن يسمى الله به إلا في موضع الجزاء؛ على ما ذكره - عَزَّ وَجَلَّ - في موضع الجزاء؛ كقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. . .)، والاعتداء منهي عنه غير جائز؛ كقوله: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)؛ فكان قوله:

(55)

(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. . .) هو جزاء الاعتداء؛ فيجوز؛ فعلى ذلك المكر والخداع والاستهزاء: لا يجوز أن يسمى به، فيقال: يا ماكر، ويا خادع، ويا مستهزئ؛ لأنها حروف مذمومَة عند الناس؛ فيَشْتُمُ بعضهم بعضًا بذلك؛ لذلك لا يجوز أن يسمّى اللَّه - تعالى - به إلا في موضع الجزاء. وباللَّه العصمة. وقوله: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ): أي: خير الجازينَ أهل الجور بالعدل، وأهل الخير بالفضل. وقيل: (وَمَكَرُوا)؛ حيث كذبوه وهمَّوا بقتله، (وَمَكَرَ اللَّهُ)؛ حيث رفع الله عيسى - عليه السلام - وألقى شبهه على رجل منهم حتى قتلوه؛ فذلك خير لعيسى - عليه السلام - من مكرهم. وقيل: (وَمَكَرُوا)، أي: قالوا، (وَمَكَرَ اللَّهُ): قال اللَّه. وقولهم الشرك، وقال لهم: قولوا التوحيد. (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، أي: خير القائلين. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)؛ بما بالحق يمكر، ويأخذ من استحق الأخذ، وهم لا، واللَّه أعلم. والمكر: هو الأخذ بالغفلة، واللَّه يأخذهم بالحق من حيث لا يعلمون؛ فسمي مكرًا لذلك؛ كما يقال: امتحنه اللَّه وهو الاستظهار، ولكن لا يراد به هذا في حق اللَّه. وقوله: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ (55) اختلف فيه: قيل: هو على التقديم والتأخير: ورافعك إليَّ، ثم متوفيك بعد نزولك من السماء، ولكن هو التقديم والتأخير، ولم يكن في الذكر فهو

سواء؛ لأنا قد ذكرنا أنْ ليس في تقديم الذكر، ولا في تأخيره ما يوجب الحكم كذلك؛ لأنه كَمْ مِنْ مُقَدَّمٍ في الذكر هو مؤخَّر في الحكم، وكم من مؤخَّر في الذكر هو مقدَّم في الحكم، فإذا كان كذلك: لم يكن في تقديم ذكر الشيء، ولا في تأخيره - ما يدل على إيجاب الحكم كذلك؛ كقوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا): فإنما هو قبض الأرواح؛ فيحتمل الأول كذلك، ويحتمل توفي الجسم، أي: متوفيك من الدُّنيا، أي: قابضك، وليس بوفاة موت. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)، أي: مميتك وهو ما ذكرنا؛

ليعلم أنه ليس بمعبود. وقوله: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ): هو على تعظيم عيسى - عليه السلام - ليس على ما قالت المشبهة؛ بإثباتها المكان له؛ لأنه لو كان في قوله: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) يوجب ذلك، يجب أن يكون أهل الشام أقرب إليه؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - قال: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)، والكفرة إليه قريب منه؛ كقوله: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ)؛ دل هذا أن ما قالوا خيال فاسد - تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرًا - ولكن على التعظيم والتبجيل، أعني: المضاف إليه. والأصل في هذا: أن الخاص إذا أضيف إلى اللَّه فإنما يراد به تعظيم ذلك الخاص؛ نحو ما قال: " بيت اللَّه "؛ على تعظيم البيت، (نَاقَةَ اللَّهِ)؛ فهو على تعظيم الناقة، ونحوه مما يكثر وقوعه. وإذا أضيف الجماعة إليه، فهو على إرادة تعظيم الربِّ - جل ثناؤه - نحو: (رَبِّ الْعَالَمِينَ)، (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ونحوه؛ كله على إرادة تعظيم الربِّ، جل ثناؤه. وقوله: (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا): قيل فيه بوجوه: قيل: مطهرك من أذى الكفرة، من بين أظهر المخالفين لك. وقيل: ومطهرك من الكفر والفواحش، ويحتمل: مطهرك مما قالوا فيك. وقوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يحتمل: يجعله فوق الذين كفروا بالقهر والغلبة والقتل، ويحتمل: بالحجة، ويحتمل: في المنزلة والدرجة في الآخرة.

(56)

ويحتمل قوله: (وَمُطَهِّرُكَ) بقتل الكفرة من وجه الأرض؛ على ما ذكر في بعض القصة: أنه ينزل من السماء، فلا يبقى على وجه الأرض كافر إلا وهو يقتله مع الذين اتبعوه؛ فذلك تَطْهِيرُهُ وَجَعْلُ الذين اتبعوه فوق الذين كفروا. وقوله: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) ذكر هذا - واللَّه أعلم - وإن كان المرجع للكل إليه في كل حال؛ لأنهم يُقِرُّونَ ويعترفون في ذلك اليوم أن المرجع إليه، وكانوا ينكرون ذلك في الدُّنيا؛ وهو كقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، الملك كان في ذلك اليوم وفي غير ذلك اليوم، ولكن معناه: لا ينازعه أحد يومئذ في ملكه، ويقرون له بالملك، وفي الدُّنيا أنكروا ملكه؛ وهو كقوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا)، كلهم بارزون لله في كل وقت؛ لكنهم أنكروا بروزهم في الدنيا له؛ فيقرون يومئذ بالبروز له؛ فكذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). يحتمل: أحكم بينكم مَنِ المحقُّ منكم، ومَنِ المبطلُ. ويحتمل: أحكم بينكم: أي: أجزيكم على قدر أعمالكم. ويحتمل: أحكم بينكم أي، أجزي كلا بعمله على ما يستوجبون. وقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الآية: وقوله: (فِي الدُّنْيَا)، قيل: القتل، والجزية، وفي الآخرة: العذاب. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) فقوله: (مُتَوَفِّيكَ):

يحتمل تَوَفِّي الموت بما يقبض روحه كفعله بجميع البشر؛ تكذيبًا لمن ظن أنه اللَّه، أو ابنه، لا يحتمل أن يموت، وقد ألزمهم هذا أيضًا بوجهين ظاهرين -وإن كان فيما عليه خلقته وجوهره. ثم تقلبه من حال إلى حال في نفسه، ومكان إلى مكان في حق القرار والحاجة- كفاية لمن يعقل الحقائق، وبُلْغَة لمن تأمَّل الأشياء عبرا. أحدهما: بقوله: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)، وقوله: (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) حتى ينطق به لسان كل منهم، ومعلوم إحالة ابن بشر إلهًا أو ولدًا لإله؛ إذ هو يكون أصغر منهما وذلك آية حدثه، وكذلك قوله في المهد: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ): إلى آخر ما ذكر، مع ما لو احتمل ذلك لكان آدم - عليه السلام - الذي هو الأصل، هو المقدم، وهو الذي لا يعرف له وَالِدَانِ أحق أو هو؟ إذ هو بجوهره فهو ولده لا غير، أو ذلك وصف الأولاد، واللَّه أعلم. والثاني: (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ): فأخبر عن حاجته وغلبة الجوع عليه، وفقر نفسه إلى ما يقيمها من الأغذية. ثم في ذلك حاجة إلى الخلاء، واختيار الأمكنة القذرة لقضاء حاجته، وباللَّه التوفيق. والثالث: على قبضه بنفسه من بين أظهر أعدائه، ورفعه إلى ما به شرفه، وتطهيره مما كان يحسُّ منهم من الكفر وأنواع الفساد، وختمه من بين البشر على وجه آية يكون له عليهم من أول أحوال ظهوره إلى آخر أحوال مقامه فيهم؛ ليكون أوضح لمتبعيه في الآيات، وعلى مخالفيه في قطع العذر. ولا قوة إلا باللَّه. وفي الدعاء إلى المباهلة دلالة ظهور التعنت والعناد، وفي تخلفهم عن ذلك دليل

علمهم بتعنتهم وخوفهم مما قد وُعِدوا بالنزول عليهم، ثم لزموا مع ذلك ما كانوا عليه من السفه والعناد؛ ليعلم أن الحيل عمن اعتاد المعاندة منقطعة، ومعلوم أن الدعاء إلى المباهلة لا يكون في أول أحوال الدعوة؛ وإنَّمَا يكون بعد توفير الحجة وقطع الشبهة؛ ففي ذلك بيان أنه كانت ثَمَّ محاجاتٌ، حتى بلغ الأمر هذا، وعلى ذلك أمر القتال أنه لم يوضع في أول أحوال الإرسال، وفي الحال التي للقول وللحق وجه القبول من طريق النصف والعقل؛ وإنما كان عند ظهور معاندتهم، وكثرة سفههم، حتى همّوا بالقتل، وأكثروا الأذى، وأكرهوا أقوامًا على الكفر، وأخرجوا رسول ربِّ العزة من بين أظهرهم بما راموا قتله، وطردوا أصحابه من بلادهم حتى تحصنوا بالغيران، فأذن الله تعالى عند ذلك بالقتال، وفتح الفتوح؛ ليكون آيته في كل وجوه الآيات ظاهرة وحجته بينة، وفي ذلك جواز محاجة الكفرة في التوحيد والرسالة، لكن على ما قال اللَّه - تعالى -: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، و (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)، نهي عن التعمق والخوض فيما تقصر عنه الأفهام، وإن كان معلومًا أن لله حججًا ظاهرة وغامضة، ولا قوة إلا باللَّه. وفي ذلك تعليم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: أنه يكون ذلك باللطف والرفق يرى المقصود به؛ ليقرر به عنده الحجة، ويزيل عنه الشبهة من الوجه الذي يحتمله عقله، ويبلغه فهمه، فإن رآه يتعامى في ذلك يوعده ويخوفه بالذي في ذاك من الوعيد. فإن رأيته يكابر عرفت شؤم طبعه وسوء عنصره، يوعده بما جاء به التعليم من الضرب

(58)

والحبس، فإن نفع ذلك، وإلا بكف شره عن غيره وتطهير الأرض منه؛ فإنه النهاية في القمع، والغاية فيما يحق من معاملة السفهاء، واللَّه أعلم. لكنه على منازل لا يحتمل انتهاء كل أنواع المآثم إلى هذه الغاية؛ بل فيها ما كان أعظمها دون هذا بكثير - واللَّه أعلم - لذلك يلزم تعرف مقادير الآثام أولًا؛ ليعرف بها ما يحتمل كل إثم من العقوبة فيه والزجر به، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ): لأنه لا يحب الظلم. * * * قوله تعالى: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) وقوله: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ)، قيل: ذلك الذي ذكر في هذه الآية: نثلو عليك يا مُحَمَّد. (مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) هو المحكم، وقيل: (الْحَكِيم)، أي: من نظر فيه وتفكر يصير حكيمًا؛ كما قال: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)، أي: يبصر فيه، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ (59) قيل في القصة: إن نصارى من أهل نجران قدموا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا له: إنك تشتم صاحبنا عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد، وهو يُحْيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فيطير، فأرنا فيما خلق اللَّه عبدًا مثله يعمل

هذا، والنصارى في الحقيقة مشبهة وقدرية: وأمَّا التشبيه: فإنما حملهم على ذلك ظنهم في قول إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ حيث قال: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)؛ ظنوا أن عيسى لما قال: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أنه رب وإله؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - أخبر أن ربه (الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)؛ فسموا عيسى إلهًا بهذا، وهم كانوا يرون عيسى يأكل ويشرب وينام؛ فلولا أنهم عرفوا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وإلا ما شبهوه به، تعالى اللَّه عن ذلك. وأمّا القدرية: فلما لم يروا لله في أفعال العباد صنعًا؛ إنما رأوا ذلك للخلق خاصة،

فلما رأوا ذلك من عيسى - عليه السلام - ظنوا أنه ربٌّ؛ لما لم يروا ذلك من غيره، ولو كانوا عرفوا اللَّه حق المعرفة، لعلموا أن لم يكن من عيسى إلا تصوير ذلك الطير وتمثيله، ويكون مثله من كل أحد؛ وإنَّمَا الإحياء كان من اللًه - عَزَّ وَجَلَّ - أجراه على يدي عيسى - عليه السلام - وأظهره، وإنما كان من عيسى تصويره فقط؛ وكذلك ما كان من إبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أجراه على يديه آيات لنبوته؛ لأنهم ادعوا له الربوبية من وجهين: لكونه من غير أب، ولآياته. ثم قوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) - يحتمل وجهين - واللَّه أعلم -: أحدهما: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - صور صورة آدم من طين، ثم جعل فيه الروح، لم يجز أن يقال صار آدم حيًّا من نفسه؛ لوجود صورته، كيف جاز لكم أن تقولوا: إن عيسى لمّا صوَّر ذلك الطير من الطين، صار محييًا له بتصويره إياه دون إحياء اللَّه - تعالى - إياه؟! واللَّه أعلم. والثاني: أن آدم - عليه السلام - خُلِقَ لا من أب وأم، ثم لم تقولوا: إنه ربٌّ

(60)

أو إله، فكيف قلتم في عيسى: إنه إله؛ وإنه خلق لا من أب؟ إذ عدم الأبوة في آدم لم يوجب أن يكون ربًّا؛ وكيف أوجب عدم الأبوة في عيسى كونه ربًّا وإلها؟! والله الموفق. وإنما كان عيسى بقوله: " كن " - كما كان آدم، أيضًا، بـ " كن " - من غير أب. وقوله: (كُن): قد ذكرنا أنه أوجز كلام في لسان العرب يعبر فيؤدي المعنى؛ فيفهم المراد، لا أن كان من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كاف، أو نون، أو وقت، أو حرف، أو يوصف كلامه بشيء مما يوصف به كلام الخلق، تعالى اللَّه عن ذلك. وقوله: (فَيَكُونُ): يحتمل وجهين: يحتمل " يكون "، بمعنى: كان، والعرب تستعمل ذلك ولا تأبى. والثاني: أن تكون الكائنات بأسبابها في أوقاتها التي أراد كونها على ما أراد، وأصل ذلك، إذا ذكر اللَّه ووصف بذكر بلا ذكر وقت في الأزل، وإذا ذكر الخلق معه يذكر الوقت، والوقت يكون للخلق يقول: خالق لم يزل، وخالقه في وقت خلقه. وقوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) يحتمل هذا وجوهًا: يحتمل أن يكون الخطاب لكل أحد قال في عيسى ما قالوا، أي: لا تكن من الممترين في عيسى أنه عبد اللَّه خالصا، وأنه نبيه ورسوله إليكم. ويحتمل أن يكون الخطاب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمراد غيره؛ وهكذا عادة ملوك الأرض أنهم إذا أرادوا أن يعرفوا رعيتهم شيئا، يخاطبون أعقلهم وأفضلهم وأرفعهم منزلة وقدرًا عندهم؛ استكبارًا منهم مخاطبة كل وضيع وسفيه؛ فكذلك (ولله المثل الأعلى)، اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - خاطب نبيّه؛ إعظامًا له وإجلالًا، واللَّه أعلم. ويحتمل ما ذكرنا فيما تقدم أن العصمة لا تمنع الأمر ولا النهي؛ بل تزيد أمرًا ونهيًا،

(61)

وإن كان يعلم أنه لا يكون من الممترين أبدًا، واللَّه الموفق. وقوله: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ (61) دعاهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى المباهلة، فالمباهلة في لغة العرب: الملاعنة، دعاهم إلى الدعاء باللعنة على الكاذبين، فامتنعوا عن ذلك؛ خوفًا منهم لحوق اللعنة؛ فدل امتناعهم عن ذلك أنهم عرفوا كذبهم، لكنهم تعاندوا، وكابروا؛ فلم يقروا بالحق. وقوله: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ (62) يعني: الخبر الحق. وقوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): ظاهر، قد ذكرناه فيما تقدم، واللَّه أعلم. وقوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)، يحتمل: خبر الحق في أمر عيسى - عليه السلام - أنه كان عبدًا بشرًا نبيَّا، (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، أي: لا يحملنك شدة لجاجتهم وكثرتهم في القول فيه بهذا الوصف على الشك في الخبر الَّذِي جاءك عن اللَّه؛ كقوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ

(64)

مَا يُوحَى إِلَيْكَ) إلى آخره: على الموعظة، لا على أنه يكون كذلك، أو على ما سبق ذكره، واللَّه أعلم. ويحتمل: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)، أي: كل حق فهو عن اللَّه جائز إضافته إليه، على الوجوه التي تضاف إليه، الباطل من الوجه الذي هو باطل، (فَلَا تَكُنْ) في ذلك (مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، واللَّه أعلم. وجائز أن يقول: جعل اللَّه ذلك الفعل ممن فعله باطلًا، ولا يقال: الباطل من اللَّه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) وقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ): يعني: كلمة الإخلاص والتوحيد، (سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)، أي: عدل، أي: تلك الكلمة عدل بيننا وبينكم؛ لأنهم كانوا يقرون أن خالق السماوات والأرض: اللَّه، بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، وكذلك يقرون أن خالقهم اللَّه، بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، لكن منهم من يعبد دون اللَّه أوثانًا، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ومنهم من يجعل له شركاء وأندادًا يشركهم في عبادته، فدعاهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى ألا يجعلوا عبادتهم لغير الذي أنعم عليهم؛ إذ العبادة لا تكون إلا لله الذي أقروا جميعًا أنه خالق السماوات والأرض، وأنه ربهم، وألا يصرفوا عبادتهم إلى غير الذي أنعم عليهم؛ إذ العبادة هي لشكر وجزاء ما أنعم عليهم. (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)؛ لأن العبادة لواحد أهون وأخف من العبادة لعدد، وأن صرف العبادة إلى من أنعم عليكم أولى من صرفها إلى الذي لم ينعم عليكم؛ إذ ذاك جور وظلم في العقل أن ينعم أحد على آخر، فيشكر غيره.

(65)

قال الشيخ - رحمه اللَّه -: العدل في اللغة: وضع الشيء في موضعه، وفي إخلاص العبادة لله والتوحيد - ذلكَ وهذا معنى سواء. وجائز أن تكون كلمة يستوي فيها أنها عدل ما شهد لنا بهذا كل أنواع الحجج. وقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا): يحتمل: تولوا عن طاعة اللَّه وتوحيده، وصرف العبادة إليه. (فَقُولُوا). كذا. ويحتمل: فإن تولوا عن المباهلة والملاعنة - فقولوا (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي: مخلصون العبادة له، صادقون الشكر على ما أنعم علينا، واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: فإن تولوا عن قبول ما دعوتهم إليه من الاجتماع على الكلمة. * * * قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ). قيل: وذلك أن اليهود قالوا: إن إبراهيم كان على ديننا اليهودية، والنصارى ادعت أنه كان على دينهم ومذهبهم، ليس على دين الإسلام؛ فنزل قوله: (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) يعني: في دين إبراهيم.

(66)

(وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) يعني: من بعد إبراهيم، وهو يحتمل وجهين: يحتمل: أن التوراة والإنجيل إنما نزلا من بعده، وأنتم لم تشهدوه - يعني: إبراهيم - حتى تعلموا أنه كان على دينكم، لم تقولون بالجهل أنه كان على دينكم؟!. ويحتمل: (وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ)، أي: أن التوراة والإنجيل ما نزلا إلا من بعد موته، وكان فيهما أنه كان حنيفًا مسلمًا (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) وأنه كان حنيفًا مسلمًا؟! ثم أكذبهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فقال: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وفي هذه الآية دلالة أنهم علموا أنه كان مسلمًا، لكن ادعوا ما ادعوا متعنتين؛ حيث لم يقابلوا بكتابهم بالذي ادعوا من نعته، وبخلاف ما ادعى عليهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نعته. وفيه دلالة الرسالة؛ إذ في دعواهم أنّ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يعرف نعته بهم، لما ادعوا هم غير الذي ادّعى؛ فثبت أنه عرف باللَّه، وذلك علم الغيب، واللَّه الموفق. وقوله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ (66) وهو ما ذكرنا، وفيه دلالة جواز المحاجة في الدِّين على العلم به، وإنما نهي هَؤُلَاءِ عن المحاجة فيما لا علم لهم؛ ألا ترى أن الرسل - عليهم السلام - حاجوا قومهم: حاج إبراهيم قومه في اللَّه، وذلك قوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) وموسى - عليه السلام - حاج قومه، وما من نبي إلا وقد حاج قومه في الدِّين؛ فذلك يبطل قول من يأبى المحاجة في الدِّين. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وأيد الحق أنه كذلك - عجزُ البشر عن إيراد مثله، وعجزهم عن المقابلة بما ادعوا أنهم عرفوه باللَّه. وقوله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا (68)

وهكذا يكون في العقل أن من اتبع آخر وأطاعه؛ فهو أولى به، وإنما الحاجة إلى السمع بمعرفة المتبع له والمطيع أنه ذا أو ذا؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الذين آمنوا والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هم المتبعون له؛ فهم أولى به. وقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) اختلف فيه؛ قيل: الولي: الحافظ. وقيل: الولي: الناصر. وقِيل: هو أولى بالمؤمنين، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقد يكون وليهم: بما دفع عنهم سفه أعدائهم في إبراهيم، وأظهر الحق في قولهم. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: في قوله - تعالى -: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. . .) الآية، وفي قوله: (لِمَ تُحَاجُّونَ. .)، وفي قوله: (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. . .) الآية، ونوع ذلك من الآيات التي خص بالخطاب بها أهل الكتاب - وجوهٌ من المعتبر. أحدها: أن الذين خوطبوا بهذا الاسم كانوا معروفين، وأنه لم يخطر ببال مسلم أنه قصد به غير أهل التوراة والإنجيل، ولا ذكرت تلاوتها في حق المحاجة على غيرهم، ثبت أن المجوس ليسوا بأهل الكتاب، وأن المراد من ذكر أهل الكتاب غيرهم، وأن أخذ الجزية من المجوس ليس مما تضمنهم قوله: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)؛ لكن بدليل آخر، وهو ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال " " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَاب، غَيرَ نَاكِحِي نِسائِهِم، وَلا آكِلي ذَبَائِحِهِمْ "؛ وعلى ذلك أيَّد قوله: (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا)؛ ليعلم أن الكتاب المعروف وأهله: هَؤُلَاءِ، إن كانت ثَمَّ كتب وصحف، واللَّه أعلم. والثاني: أن اللَّه خص أهل الكتاب بأنواع الحجج، وجعل المحاجة بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليوضح أنه -وإن كان مرسلا إلى جميع البشر- كان له التخصيص في المحاجة؛ وعلى ذلك عامة " سورة الأنعام " في محاجة أهل الشرك، على أن أهل المدينة كانوا أهل كتاب، وأهل مكة كانوا أهل شرك، فحاجَّ كلًّا بالذي هو أحق أن يكلم فيه، وإن كانت

الحجة تلزم الفريقين؛ لأن محاجة أهل الشرك أكثرها في التوحيد وأمرِ البعث، وعلى وجوده فيه: في أهل الكتاب بعض المشاركة لهم، ومحاجة أهل الكتاب بما في كتبهم، وفيه وجهان: أحدهما: العلم بما قد غاب عنه السبب الذي يوصل إليه بالكسب؛ ليعلم أنه وصل إليه بالوحي؛ فيكون من ذلك الوجه حجة على الفريقين. والثاني: ظهور سفه أهل الكتاب بوجه يُسقِطُ عند التأمل الريبةَ والمحلَّ الذي كان يمنعهم ذلك عن اتباعه، وذلك فيما مدح كتبهم، وشهد لها بالصدق والحق، وإظهار الإيمان برسلهم؛ ليعلم أنه ليس بين الرسل والكتب اختلاف في الدعاء إلى عبادة الله وتوحيده، وأن أُولَئِكَ إنما كذبوا؛ لتسلم لهم الرياسة، ثم -مع ذلك- ظاهروا أهل الشرك المكذبين لكتبهم ورسلهم؛ ليعلم كلُّ ذي عقل شبههم وتمردهم في الباطل؛ إذ ظاهروا أعداءهم في الدِّين على مَنْ الذي أظهروا موالاته في الدِّين ولى له؛ فيكون في ذلك أبلغ الزجر لمتعنتيهم، وأعظم الحجة عليهم فيما آثروا من السفه وتركوا الحق، والله أعلم. وفي ذلك وجه آخر: أن أهل الشرك قد عرفوا حاجاتهم إلى أهل الكتاب في أمور الدِّين، وما عليه أمر السياسة؛ فيصير ما يلزم أُولَئِكَ من الحجة لازمةً لهم في محاجته بالذي في كتبهم - لزومَ الحجة، مع ما عليهم في ذلك بما قد (أقسموا باللَّه جهد أيمانهم) الآية، أبلغ الحجة في محاجة أهل الكتاب؛ إذ تمنوا أن يكون منهم نذير فكان، وقد بلغ المبلغ الذي له ظهر بما خصوا من الحجج، وشاركوا أُولَئِكَ في جميع ما به كان افتخارهم عليهم ودعوى الفضل، واللَّه أعلم، مع ما لم يكن له اللسان الذي به ظهر كتبهم، أخبر هو جميع ما في كتبهم بغير لسانهم؛ ليعلموا أنه أدرك ذلك ممن له حقيقة كتبهم، واللَّه أعلم. وفي ذلك وجه آخر: أنه حاجهم بوجهين: أحدهما: بالموجود في كتابهم، والمعروفِ عند أئمتهم من العلم بالكلمَة التي دعاهم إليها من التوحيد وعبادة من له الخلق والأمر، وإخبارِ ما في كتبهم من أنواع البشارات به، ومن موافقة الكتب، وعلى ذلك أمر إبراهيم - عليه السلام - وغيرهم؛ ليكون أعظم

في الحجة، وأقطع للشغب، واللَّه أعلم. والثاني: بما قد حرفوا من كتبهم، وبدلوا من أحكامهم، وحرفوا من صفته ونعته ونعت أُمَّته؛ ليعلم كلُّ متأمل أنه لا وجه لتعلم ذلك بهم؛ إذ لا يحتمل أن يكون منهم هتك أستارهم، والاطلاع على أسرارهم بما لا يتهيأ لهم دفع دلك، ولا المقابلة في ذلك؛ ليعلم كل الخلائق: من انقاد لهم أو لا، أن ذلك لا يدركه إلا بمن له العلم بكل سرٍّ ونجوى، ولا قوة إلا باللَّه. مع ما في ذلك وجهان من المعتبر: أحدهما: أن ذلك الزمان لم يكن زمان حِجاجٍ ونظرٍ في أمر الدِّين؛ إنما كان ذلك الزمانُ زمانَ تقليدٍ في أمر الدِّين، وتناهٍ في أمر الدنيا، وتفاخرٍ بكثرة الأموال والمواشي؛ فبعث اللَّه - تعالى - رسولًا نشأ من بين أظهرهم، دعاهم إلى ترك التقليد في الدِّين، واتباع الحجج التي لا يبلغها أهل الحجاج بعقولهم دون أن يكون لهم المعونة من علم الوحي، وما فيه من حكمة الربوبية؛ فكيف والقوم أصحاب التقليد؟! إمّا ثقة بأئِمتهم الذين ادعوا علم الكتب المنزلة، وإما ثقة وإيمانًا بآبائهم فيما نشئوا عليه: أن الحق لا يشذ

عنهم، على ما في ذلك من الاختلاف الذي يمنعهم الأمرين جميعًا، لكنهم إذا لم يكونوا أهل نظر في الدّين ومحاجةٍ فيه، لم يعرفوا أن ذلك يمنعهم التقليد؛ فأظهر لهم الحجج، وأنبأهم بالمودع من حجاج أنبيائهم في كتبهم، وألزمهم أن في آبائهم من يلزم التقليد، كانوا أحق بذلك بما كان عندهم أن آباءهم كانوا على دينهم بما بيَّن من تغييرهم وتبديلهم، وتركِ الواجب عليهم من حق الاتباع، واللَّه أعلم. والثاني: أن أظهر فيهم الاختلاف في أئمتهم، على ادعاء كل منهم أن ذلك هو الذي كان عليه الأنبياء والرسل في أهل الكتاب؛ وحاجات غيرهم بما ليس عندهم إلا آراء ليس عندهم فضل على القول، ثم كان معلومًا عند الاختلاف والتفرق؛ فصارت الحاجة قد عمتهم، والعلم بهم في لزوم الأحكام إلى من يدلهم على الحجة ويعرفهم الحق الذي قد تقرر عندهم؛ فبعث اللَّه بفضله من أظهر لهم بما أنطق به لسانه من الحجاج، وأراهم من علمه مما غيروا حِفظ ما كان عليه أوائلهم؛ فكان ذلك أظهر البيان، وأولى ما يعرف من أفضال اللَّه عليهم بالإغاثة، والامتنان عليهم بالفرج مما قد مستهم إليه الحاجة، ودفعهم إلى العلم به الفاقة، واللَّه الموفق. وفي الفصل الأول بقي حرف لم نذكره، وهو أنْ دعاهم إلى الزهد في الدنيا بعد الركون إليها، وإلى الأخوة في الدِّين بعد ظهور التفاخر بينهم بتكثير العشائر، وتقابل القبائل، والسخاء بجميع ما طبعوا عليه بما قدّر عندهم: ما إليه ترجع عواقب أمرهم، وقام بذلك على قهر العادة ومخالفة الطبيعة التي يعلم أن ذلك في مثل ذلك العصر آية سماوية خارجة عن وسع البشر؛ ليكون أقطع لعذرهم، وأسكن لقلوبهم إليه؛ فلله الحمد على ذلك. وقوله، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ. . .) الآية. قيل فيها بأوجه: أحدها: أنها العدل، وهي كلمة التوحيد، وكانت عدلًا باتفاق الألسن؛ إذ سئلوا عمن خلق السماوات والأرض في الفزع إليه بالإجابة، وشهادة الخلقة على وحدانية من له الخلق والأمر، واللَّه أعلم.

(69)

ومن هذا الوجه أمكن أن يحاج جميع الخلق، وإن خص به أهل الكتاب، واللَّه أعلم. وأخرى: أن يستوي فيها أنها حق وعدل، وهي عبادة الواحد الذي لم يُختلَف في أنه معبود، وأن كل من عبد غيره فعلى أن يكون له العبادة يعبده، فيرجع إلى حقيقته دون أن يكون بيننا وبينه من يعلم أنه لا يستحق العبادة، وهذا المعنى يلزم الجمع، أيضًا. والثالث: أن يكون إلى كلمة ظهر أنها عدل في كتابهم بما جاءت رسلهم، ونزلت بها كتبهم، ولا قوة إلا باللَّه. * * * قوله تعالى: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وقوله: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ): ذكر في القصة أن المشركين أخذوا عمارًا وحذيفة، فقالوا لهم: ديننا أفضل من دينكم، وأفضل من الأديان كلها؛ فنزل هذا. والأشبه أن يكون مثل هذا من رؤساء أهل الكتاب، وعلماؤهم هم الذين يتولون مثل هذا العمل، وأمَّا الجهَّال منهم والرذلة، فإنهم لا يفعلون هذا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ): الإضلال: قيل فيه بوجوه: قيل: الإضلال هو الإخمال؛ أرادوا أن يَخْمُلَ ذكرُهم، ولا يُذْكَرون بعدهم أبدًا، كما ذكر أُولَئِكَ.

(70)

وقيل: الإضلال: الإهلاك. وقيل: الإضلال: هو التحير، وكل ضال طريقًا فهو متحير تائه، (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي: ما يهلكون إلا أنفسهم وما يُخْمِلون إلا ذكر أنفسهم. (وَمَا يَشْعُرُونَ) أي: وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم، أو يحيرون، وما يشعرون ماذا عليهم فيما ودّوا من أليم العقاب، واللَّه أعلم. ويقال: نزلت في عبد اللَّه بن مسعود، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) قوله: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ): يحتمل وجوهًا: يحتمل: وأنتم تشهدون تلك الآيات، وتعاينونها، وتعلمون أنها آيات، لكن تكابرون وتعاندون، ولا تؤمنون بها. ويحتمل: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)، أي: وأنتم تعلمون ما في التوراة والإنجيل: من بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته - أنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أفضل المخلوقات، وأنه حق، ولكن لا تتبعونه. وقيل: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)، أي: تعلمون أنها آيات؛ والآيات تحتمل: القرآن، وتحتمل: رسول اللَّه محمدًا. وتحتمل غيرها من الآيات التي جاء بها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم تكفرون بدين اللَّه، وأنتم تعلمون بدلالة الخلقة، وشهادة كتبكم أن دين اللَّه وتوحيده حق؟!. وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) في الآية دلالة جواز هتك الستر، وإفشاء المكنون والمكتوم من الأمر؛ إذا كان في ذلك تحذير لغيرهم عن مثله، وترغيب لهم في المحمود من الفعل. ثم فيه دلالة إثبات رسالة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه يخبرهم عما كانوا يكتمون وُيسِرُّون فيما بينهم، وذلك من إطلاع اللَّه إياه على ذلك. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ): ذلك؛ ألا ترى أنهم لم يتعرضوا له بشيء من ذلك، فيقولوا: متى كتمنا الحق؟ ومتى لبسنا الحق بالباطل؟! فدل

(72)

أنهم علموا أنه حق، وأنه رسول اللَّه، وأن ذلك إنما عُلم بإله - عَزَّ وَجَلَّ - وذلك قوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، ثم عِلْمُ ذلك يكون بأن كان ذلك في كتابهم، أو علموا بالآيات المعجزة. ويحتمل قوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) - ما جزاء من لَبَسَ الحق بالباطل وكتمه، واللَّه أعلم. ويحتمل: وأنتم تعلمون أنكم تلبسون الحق بالباطل. * * * قوله تعالى: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وقوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) وقيل فيه بوجوه، قيل: قوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)، يعني: بأول أمر مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا النهارَ نفسه، وذلك ما روي في القصّة أن بعضهم كان يقول لبعض: إن محمدًا كان على قبلتنا وقبلته بيت المقدس، ويصلي إليها، فآمنوا أنتم به، (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)، يعني: آخر أمره، يعنون قبلة: البيت الحرام الكعبة، أي: اكفروا بقبلته التي يصلي إليها الآن، وهي الكعبة. وقيل: إن بعضهم يقول لبعض: آمنوا بمُحَمَّد في أول أمره؛ حتى يؤمن به جميع العرب، ثئم اكفروا به في آخر أمره؛ فيقولون لنا: لم كفرتم به ورجعتم عن دينه؟ فنقول لهم: إنا وجدنا في التوراة نعت نبي وصفته، فحسبنا أنه هذا؛ فآمنا به، ثم نظرنا فإذا ذلك لم يكن نعته ولا صفته؛ فرجعنا عن دينه وكفرنا به؛ حتى يرجعوا جميعًا عن دينه؛ فذلك قوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ). وقيل -أيضًا-: إن رءوس اليهود قالوا للسِّفْلة: صدِّقوا بالقرآن وبمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وجه النهار، يعني: أول النهار، يعني: صلاة الغداة، فإذا كان صلاة العصر اكفروا به، فقولوا لهم: إن قبلة بيت المقدس كانت حقا؛ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! ليرجعوا عن

دينهم. فلا ندري كيف كانت القصة؟ ولكن فيه دلالة رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لما ذكرنا أنه كان يخبرهم بما يضمرون في أنفسهم ويسرون، فذلك من إطلاع اللَّه إياه. ويحتمل قوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ)، أي: أظهروا لهم الإسلام والموافقة، ولا تؤمنوا به في الحقيقة؛ يدل على ذلك قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) في الحقيقة، أي: آمنوا به ظاهرًا، وأمّا في الحقيقة فلا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم. وقال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) الآية -: يحتمل وجهين: أحدهما: حقيقة النهار، ثم يتوجه وجهين: أحدهما: أمر القبلة خاصّة، فيريدون بذلك المحاجة بالموافقة في أحد الوقتين عليهم فيما خالفوا في ذلك، وإن علموا أن ذلك حق؛ ليشبهوا على الضعفة أنه لا تزال تنتقل من دين إلى دين، ومذهب إلى مذهب، وأن من لزم الدِّين الأول والمذهب الأول أحق للموافقة فيه مرة، ولما لا يؤمن البقاء على الثاني، وهو كقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)؛ وعلى ذلك أنكروا جواز نسخ الشرائع سفهًا منهم؛ إذ ليس معنى التناسخ إلا اختلاف العبادات، لا اختلاف الأوقات، وذلك المعنى قائم، وما التناسخ إلا ما عليه تناسخ الأحوال في كل، على أن العبادات فيها المصلحة، ومن تعبَّدهم عالم بالذي به الأصلح في كل وقت، فله ذلك.

والثاني: أن يكون الذي أول النهار لعله أنزل بما فيه وصف رسلهم وكتبهم من الهدى والبيان، أو وصف أوائلهم في رعاية الحق، وتعاهد الدِّين؛ فأمروا بالإيمان بذلك؛ ليروا قومهم أن قد ثبت وصف من تقدم بما ذُكر، وأنهم على ذلك، ومنه جاء فيما أخبر من تبديل من بذل من أوائلهم وتحريفهم، إلا إن كانوا كذلك؛ ليُلزموهم التقليد في الأمرين، واللَّه أعلم. وحقه أنه إذا عرف حال الأوائل لا يهم؛ فعلى ذلك أمر الآخر ومن به كانت المعرفة ألزمهم التصديق في الأمرين جميعًا، ومع ما أن في القرآن وصفًا بتصديق كتبهم، فحقهم فيما هووا مقابلة كتب أنبيائهم؛ لتكون هي القاضية والمثبتة للحق أنه على ما ادعوا أو ادُّعي عليهم. وقد ظهر تعنتهم بمظاهرتهم للمنكرين لكتبهم، المكذبين برسلهم على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد تصديقه إياهم وشهادة كتابه بذلك؛ ليعلم المتأمل عنادهم بغيًا وحسدًا، كما أخبر اللَّه - تعالى - عنهم. والوجه الآخر من تأويل الآية: أن يراد بما أخبر عنهم أول أمره وآخره، لا حقيقة بياض النهار. ثم ذلك يخرج على وجهين: أحدهما: أن يكون دُعاه في أول الأمر إلى التوحيد، والإيمان بالكتب المتقدمة، وهم يدعون إلى ذلك؛ وعلى ذلك كانوا قبل ظهور رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وآخر ذلك بما تبين من تحريفهم وتعنتهم، لما أخذهم البغي وغلبهم الحسد، وخافوا على رياستهم، وأشففوا على ملكهم، وجزاء الشح، وإظهار كثير مما قد كتم أوائلهم؛ فكذبوه في هذا، والله أعلم. ويحتمل أن يكون ذلك من أئمتهم اصطلاح على الإيمان بذلك؛ حتى يعلم محلهم وحرصهم على قبول الحق، ثم يكفرون به؛ ليكون الأول ذريعة لهم في الثاني؛ أنهم إذ ظنوا أنه على الحق أذعنوا له؛ فلما تبين لهم باطله رجعوا عن ذلك، فأطلع اللَّه نبيه - عليه السلام - على ما أسروا؛ ليصير ما ظنوا أنه حجة لهم حجة عليهم، وجملة ذلك: أنا لا ندري ما السبب الذي كان منهم القول وفيما كان، ولكنه قد بان أن ذلك كان منهم إسرارًا أطلع اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عليه؛ ليكون حجة له، وزجرًا لهم عن كل أنواع التبديل في شأن رسوله - عليه أفضل الصلوات - بما يهتك عليهم؛ فيفتضحون عند من راموا ستر

أمرهم، وتسقط رياستهم، واللَّه الموفق. وقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ): اختلف فيه، قيل: هو على التقديم والتأخير؛ قوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) - كان على أثر قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ): يقول بعضهم لبعض: ما أنزل اللَّه كتابًا مثل كتابكم، ولا بعث نبيا مثل نبتكم؛ قالوا ذلك حسدًا منهم. وقيل: إن هذا قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للمسلمين: لما نزل قوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) - قال لهم: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ)، يقول: دين اللَّه الإسلام هو الذين (أَنْ يُؤْتَى)، يقول: لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من دين الإسلام، والكتاب الذي فيه الحلال والحرام، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون قال: لن يؤتى أحد من الأنبياء قبلي من الآيات مثل ما أوتيت أنا؛ لأن آياتهم كانت كلها حسية يفهمها كل أحد، وآيات رسول اللَّه كانت حسية وعقلية لا يفهمها إلا الخواصُّ من الناس وخيرتُهم. وقوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ): راجع إلى قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) فـ (يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أنهم قد آمنوا به مرة وأقروا له؛ وهو كقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ): أنهم كانوا يظهرون لهم الإسلام والإيمان، ثم إذا خلوا قالوا: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)؛ فقال بعضهم لبعض: لا تظهروا لهم الإسلام؛ فيحاجوكم عند ربكم في الآخرة؟!. وقوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) هذه الآية على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن الفضل ليس بيد اللَّه؛ وكذلك الاختصاص؛ إنما ذلك بيد الخلق؛ لأن من قولهم: إنه ليس على اللَّه أن يفعل بالخلق إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين، ليس له أن يؤتى أحدًا فضلًا، ولا له أن يختص أحدًا برسالة، إلا من هو مستحق لذلك مستوجب له؛ فذلك الفضل والاختصاص إنما استوجبوا بأنفسهم لا باللَّه، على قولهم، ففي الحقيقة الفضل عندهم كان بيدهم لا بيد اللَّه، فأكذبهم

(73)

اللَّه بذلك؛ إذ الفضل عند الخلق هو فعل ما ليس عليه لا ما عليه؛ فنعوذ باللَّه من السرف في القول، والزيغ عن الرشد. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ (73) يحتمل أن يكون في السرّ، وإن أعطيتم لهم الظاهر. ويحتمل: أن يكون بعد ما أظهرتم اكفروا آخره. ويحتمل: لا تؤمنوا بما جاء به، إلا لأجل من تبع دينكم؛ فيكون عندهم قدوة، يتقرر عندهم -بالذي فعلتم- أنكم أهل الحق؛ فيتبعكم كيفما تصيرون إليه. ويحتمل: (لا تؤمنوا): لا تصدّقوا فيما يخبركم عن أوائلكم، (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) على المنع عن تصديق الرسول فيما يخبرهم من التحريف والتبديل، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ الهُدَى هُدَى اللَّهِ): يحتمل وجهين: أحدهما: البيان هو ما بين اللَّه؛ إذ هو الحق، وكل ما فيه الصرف عنه فهو تلبيس وتمويه. ويحتمل: أن يكون الدِّين هو الذي دعا إليه بما أوضحه وأنار برهانه، لا الدِّين الذي دعا إليه أُولَئِكَ المنحرفون. (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ)، أي: لن يؤتى - واللَّه أعلم - من الكتاب والحجج. ويحتمل أن يكون صلة قوله: (إِنَّ الهُدَى هُدَى اللَّهِ)، وهو دينه، أو ما دعا إليه، ثم يقول: (أَنْ يُؤْتَى) بمعنى: لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أهل الإسلام من الحجج والبينات، التي توضح أن الحق في أيديكم. وقوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ): فإن كان هو صلة الأوّل، و " أَو " بمعنى: " ليحاجوكم "، أو: " حتى يحاجوكم " إذا آمنتم بما دعوا إليه؛ فيحاجوكم بذلك عند ربكم، أي: إنما آمنتم بالذي جاء لكم من عند ربكم؛ فيصير ذلك لهم حجة عليكم. وإن كان صلة الثاني، فهو على أنهم لا يؤتون مثل ما أوتيتم من الحجج؛ ليحاجوكم بها عند ربّكم في أن الذي هو عليه حق؛ لما قد ظهر تعنتهم وتحريفهم - واللَّه أعلم - ثم بين السبب الذي هو نيل كل خير وفضل، واللَّه أعلم.

(74)

وقوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)، وقوله: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ (74) ينقض على المعتزلة قولهم بوجهين: أحدهما: أنهم لا يرون لله أن يختص أحدًا -بشيء فيه صلاح- غيره صرفَهُ عن ذلك الغير، بل إن فعل ذلك كان محابيًا عندهم بخيلًا، بل في الابتداء لم يكن له ذلك؛ وإنما يعطى بالاستحقاق، وذلك حق يلزمه، وقد ذكر بحرف الامتنان. وعندهم -أيضًا-: ليس له ألا يشاء أو لا يعطى؛ فلا معنى لذكره الذي ذكر مع ما صار ذلك، بيد غيره إذ يلزم ذلك، واللَّه أعلم. والثاني: أن الذي يحق عليه - أن يبذل كُلا الأصلح في الدِّين، وأنه إن قَصَرَ أحدًا عن ذلك كان جائزًا، ثم الأفضل للعبد شيء مما أعطى حتى يعطيه فيما أمره؛ فيكون الفضل في الحقيقة في يد العبد: يؤتى نفسه إن شاء ويمنع إن شاء، واللَّه الموفق. * * * قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) وقوله: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ): والقنطار ما تقدم ذكره، (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ): وصف - جلّ وعز - أهل الكتاب بعضهم بأداء الأمانة، وبعضهم بالخيانة، وليس المراد من الآية - واللَّه أعلم - القنطار نفسه أو الدِّينار، ولكن وصفهم بأن فيهم أمانة وخيانة، قلَّت الخيانة أو عظمت، وكذلك الأمانة؛ ألا ترى أنه يستحق الذم بدون القنطار والدِّينار إذا خان، وكذلك يستحق الحمد إذا أدى بدون ذلك؟! دلّ أنه لم يرد به التقدير، ولكن على التمثيل، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا

يَرَهُ)، ليس على إرادة الذرة؛ ولكن على التمثيل أن لعمل الخير والشر جزاء وإن قل؛ فكذلك الأول. وفيه دلالة جواز العمل بالاجتهاد، ولما ذكرنا أنه لم يرد القدر الذي ذكره؛ ولكن لمعنى فيه: بالاجتهاد يعرف لا بالنصوص، وعن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن الدِّينار عنده مستكثر يحلف عليه مدعيه عند المنبر، واللَّه - تعالى - جعله مستقلا. وفيه دلالة -أيضًا- جواز شهادة بعضهم لبعض وعلى بعض، إن كانت فيهم

نزلت، على ما قاله بعض أهل التأويل؛ لأنه وصف - عَزَّ وَجَلَّ - بعضهم بالأمانة في المال، وإن كانت الأمانة لهم في الذين والشهادة أمانة، واللَّه أعلم. ويحتمل: أن تكون الآية فيمن أسلم منهم وصف بالأمانة، ومن لم يسلم وصفهم بالخيانة؛ على ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - مثله في آية أخرى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ): وصف - عَزَّ وَجَلَّ - من آمن منهم بالعدالة والهدى، ووصف الكفار بالخيانة في غير آي من القرآن. ويحتمل أن تكون الآية فيما ائتُمِنوا، أو فيما جرى بينهم وبين المسلمين من المداينة من غير رهن ولا كفالة؛ وهو كقوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ)

أمرهم بأداء الأمانة فيما ائتمنوا. وقوله: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا): قيل: ملازمًا، مواظبًا، ملحًّا، دائمًا، متقاضيًا. ومن عامل من المسلمين الناس هذه المعاملة يُخافُ دخوله في هذا النهي والوعيد. وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قالوا ذلك؛ لأنهم كانوا يستحلون أموال المسلمين ظلمًا، يقولون: لم يُجعل علينا في كتابنا لأموالهم حرمةُ أموالنا علينا؛ يقولون: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، وأرادوا بالأمّيين: العرب؛ إذ ليس لهم كتاب. وقيل: ذلك الاستحلال بأن قالوا: ليس علينا لله فيهم سبيل، وأرادوا بالأميين: المسلمين؛ على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " نَحْنُ أمَّة أُمَيَّة؛ لَا نَحْسُبُ وَلَا نَكْتُبُ ". وقيل: قالوا: لا حرج علينا في حبس أموالهم في التوراة؛ فأكذبهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله:

(76)

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ). بأنْ ليس في كتابهم حرمة أموالهم، ولا لهم عليهم سبيل، وهم يعلمون أنهم يكذبون على اللَّه، عَزَّ وَجَلَّ. وقوله: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) يحتمل قوله: " بلى "؛ ردا على قولهم: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)؛ بل عليكم سبيل فيهم، ثم ابتدأ الكلام فقال: (مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، أي: هَؤُلَاءِ الّذين يحبّهم اللَّه لا أنتم. ويحتمل قوله: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ): الذي عليه في التوراة أمر بأداء الأمانة، وإظهار نعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته التي فيها، واتقاء محارمه وظلم الناس في ترك الوفاء، وفي نقض العهد، وصدق اللَّه ورسوله، ولم يكتم نعته وصفته - فإن اللَّه يحبّهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ): قيل: عهد اللَّه: أمره ونهيه. يحتمل هذا العهد فيما عهدوا في التوراة ألا يكتموا نعته وصفته؛ ولكن يظهرون ذلك للناس ويقرون به. (وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا): أيمانهم التي حلفوا كذبًا أن ليس نعته وصفته فيه؛ مخافة ذهاب منافعهم. ويحتمل: أن حلفوا كذبًا، فأخذوا أموال الناس بالباطل والظلم؛ وعلى ذلك روي عن

رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ؛ لِيَقطَعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسلِم لَقِيَ اللَّه - تعالى - وَهُوَ عَلَيهِ غَضْبَانُ " وتلا هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا. . .) الآية. والعهد والأيمان سواء؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ. . .)، الآية. ويحتمل عهد اللَّه: ما قبلوا عن اللَّه، وما ألزمهم اللَّه، والأيمان: ما حلفوا، والله أعلم. وقوله: (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ): أي: لا نصيب لهم في الآخرة مما ذكروا أن لهم عند اللَّه من الخيرات والحسنات؛ كقوله: (فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). وقوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ): يحتمل وجهين: يحتمل: أنه أراد بذلك كلام الملائكة الذين يأتون المؤمنين بالتحية والسلام من ربهم؛ كقوله: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24). وقوله: (لا تكلمهم) الملائكة؛ على ما تكلم المؤمنين، أضاف ذلك إلى نفسه، على ما ذكرنا فيما تقدم من إضافة النصر إليه على إرادة أوليائه؛ فكذلك هذا، أو أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كان قد كلمهم بتكليم الملائكة إياهم؛ لأنهم رسله؛ فكان كقوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا): صيره ببعث الرسل كأنْ قد كلمهم هو؛ فكذلك الأول. ويحتمل: أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يكرم المؤمنين في الجنة بكلامه على ما كلم موسى في الدنيا؛ فلا يكلمهم كما يكلم المؤمنين.

(78)

ويحتمل: لا يكلمهم بالرحمة سوى أن يقول لهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)؛ وكقوله: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وقوله: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ). نظر رحمة، كما ينظر إلى المؤمنين بالرحمة. وقوله: (وَلَا يُزَكِّيهِمْ): أي: لا يجعل لخيراتهم ثوابًا. ويحتمل: أن يكون هذا في قوم علم اللَّه منهم أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ فقال: لا يزكيهم، أي: لا تزكو أعمالهم. وقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ (78) أي: كانوا يحرفون ألسنتهم بالكتاب على التعظيم والتبجيل: (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) أي: كانوا يحرفون نعته -عليه أفضل الصلوات- وصفتَهُ، ثم يتلونه على التعظيم والتبجيل؛ ليحسبوه من الكتاب المنزل من السماء، وما هو من الكتاب الذي أنزل من السماء. (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم يكذبون على اللَّه، وأن ذلك ليس هو من عند اللَّه. وقوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) أي: ما كان لبشر اختاره اللَّه للذي قال؛ وتبين أنهم إنما أضافوا دينهم الذي فيه عبادة غير اللَّه إلى أنبيائهم كِذْبة، وأن اللَّه يجعل رسالته عند من يعصمه عن مثله بقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، لا يجعلها حيث يخان ويكتم، واللَّه الموفق. وهذه الآية تنقض على الباطنية قولهم؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه لا يؤتي النفس

البشرية الكتاب ولا النبوة؛ إنما يؤتي النفس البسيطة، وهي الروحانية، ليأتي تخيل في قلوب الأنبياء، ويؤيدهم حتى يؤلفوا؛ كقوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195). فإذا ثبت ذلك في قلوب الرسل ألفوا هم الكتب والصحف، لا يقدر غير الرسل على ذلك، ثم الناس يأخذون ذلك منهم؛ فالآية تكذبهم وترد عليهم قولهم؛ حيث أخبر أنه يؤتي البشر الكتاب والحكم والنبوة بقوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ... ) وكذلك قال عيسى - عليه السلام - في المهد: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا). وفي الآية دليل عصمة الرسل والأنبياء - عليهم السلام - عن الكفر بقوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وخاصّة في عصمة رسولنا - مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، وقال: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا): شرَطَ في المؤمنين اكتسابَ ما يستوجبون به الأذى، ولم يشترط في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ دل أنه لا يكون منه اكتسابُ ما يستوجب به الأذى، ويكون من المؤمنين بشرطه فيهم ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَكِنْ كُونُوا): معناه، أي: ولكن يقول لهم: كونوا ربّانيين؛ وكأنه على الابتداء والاستئناف ويقول لهم: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ). ثم اختلف في (رَبَّانِيِّينَ)؛ قيل: متعبدين لله بالذي يُعلّمون الكتاب، وبالذي يدرسونه. وقيل: الربانيون: العلماء الحكماء. وقيل: حكماء علماء. وقيل: علماء فقهاء. وهو واحد.

(80)

ثم فيه دلالة أن الرجل قد يدرس ويعلِّم آخر بما لا يفقه ولا يعلم، معناه: إلا كل من يدرس شيئًا أو يعلِّم آخر يكون فقيهًا فيه، ويعرف ما أودع فيه من المعنى. وفيه دلالة جواز الاجتهاد؛ لأنه إنما يوصل إلى ما فيه من المعنى والفقه بالاجتهاد، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) اختلف فيه؛ قيل: ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة أربابًا؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه أمرهم بذلك؛ كقوله - تعالى -: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا). وقيل: إن عيسى وعزيرًا ومن ذكر لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا من دون اللَّه، وقد عصمهم اللَّه بالنبوة. وقوله: (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ): يحتمل وجوهًا: يحتمل: أيأمركم اللَّه بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون له بالخلقة؛ لما يشهد خلقة كل أحد على وحدانيته؛ كقوله: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). ويحتمل: (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أي: أسلموا له، وأقروا به مرة، ثم كفروا بعد ما كانوا مخلصين له بالتوحيد. ويحتمل قوله: (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ): بعد إذ دعاكم إلى الإسلام فأجاب بعضكم. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

(81)

وقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ (81) قال مجاهد: هذا خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " ميثاق الذين أوتوا الكتاب "؛ على ما ذكر في آية أخرى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)؛ لأن الميثاق لا يؤخذ على النبيين أن يصدقوا، لكنه يجوز هذا. ثم اختلف فيه، قيل: ميثاق الأوّل من الأنبياء - ليصدقن بما جاء به الآخر منهم، لو أدرك. وقِيل: أخذ اللَّه ميثاقًا على النبيين أن يصدق بعضهم بعضًا، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى قومهم؛ ففعلوا، ثم أخذوا مواثيق قومهم أن يؤمنوا بمحمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويصدقوه وينصروه. وقيل: أخذ اللَّه على النبيين ميثاقًا على أن يبلغوا الرسالة إلى قومهم، ويدعوا الناس إلى دين اللَّه. قال الكسائي فيه بوجهين: أحدهما: يقول: ميثاق الذين منهم النبيّون وهم بنو إسرائيل، وكل ميثاق ذكره اللَّه -

(82)

تعالى - في القرآن في أهل الكتاب، فإنما يراد به بنو إسرائيل. والثاني: ذكره كما ذكرنا من تصديق بعضهم بعضًا، وتبليغ كتب اللَّه إلى قومهم. وقوله: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ). أخذ عليهم الميثاق؛ ليأخذوا على قومهم المواثيق أن يؤمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج وينصروه. وقوله: (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ): قال اللَّه - تعالى - للأنبياء: (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي)، قيل: هو عهدي. والإصر: قيل: هو العهد. (قَالُوا أَقْرَرنَا) بالعهد لنؤمنن به ولننصرنه، وأخذنا على قومنا ليؤمنن به ولينصرنه، وقال اللَّه - تعالى -: (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ويقول اللَّه - تعالى -: وأنا على إقراركم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الشاهدين. وقيل: قال اللَّه: فاشهدوا أني قد أخذت عليكم بالعهد، وأنا معكم من الشاهدين أنكم قد أقررتم بالعهد. يقول اللَّه - تعالى -: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ (82) العهد والإقرار بنقض العهد، والرجوع عن الإقرار (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). وقوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ (83) الدِّين كأنه يتوجه إلى وجوه يرجع إلى اعتقاد المذهب في الأصل، ويرجع إلى الحكم والخضوع؛ كقوله - تعالى -: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)، ويرجع إلى الجزاء. ثم قوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ): كأن كى منهم يبغي دينا هو دين اللَّه، ويدعي أن

الدِّين الذي هو عليه دين اللَّه، لكن هذا - واللَّه أعلم - كل منهم في الابتداء يبغي دين الله في نفسه، لكن بَانَ له من بعد وظهر بالآيات والحجج أنه ليس على دين اللَّه، وأن دين الله هو الإسلام، فلم يرجع إليه ولا اعتقده، ولزم غيره بالاعتناد والمكابرة؛ فهو باغٍ غيرَ دين اللَّه، واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ)، أي: أفغير ما في دين اللَّه من الأحكام والتوحيد. ويحتمل: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ): يدينون، وليس على الاستفهام؛ ولكن على الإيجاب أنهم في صنيعهم يبغون غير الذي هو دين اللَّه، كقوله: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)؛ وكقوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. . .) الآية. وقوله: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا): يحتمل وجوهًا: يحتمل: أسلم، أي: استسلم، وخضع له بالخلقة؛ إذ في خلقة كُل دلالاتُ وَحدانيته. ويحتمل: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ)، يعني: الملائكة، (وَالْأَرْضِ) المؤمنين الذين أسلموا طوعًا وكرهًا، يعني: أهل الأديان يقرون أن اللَّه ربهم وهو خلقهم؛ كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، فذلك إسلامهم، وهم في ذلك مشركون. عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " مَنْ فِي السمَاوَاتِ أَسْلَمُوا طَوْعًا، وَأَمَّا أهْلُ الأرْضِ: فَمِنْهُم مَنْ أَسْلَمَ طَوْعًا، وَمِنْهُم مَنْ أَسْلَمَ كَرْهًا؛ مَخَافَةَ السَّيفِ ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أيضًا - قال: " طَوْعًا مَنْ وُلِدَ فِي الإسْلَامِ، وَكُل مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُولَدْ فِي الإسْلَامِ فَهُوَ كَرْهٌ ". وقيل: منهم من أسلم طوعًا، ومنهم من جبروا عليه، والإسلام: هو تسليم النفس

(84)

لله خالصًا لا يشرك فيها غيره؛ كقوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ) الآية. دلَّت الآية أنه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. والإسلام: هو اسم الخضوع، وكل منهم قد خضعوا، ولم يجترئ أحد أن يخرج عليه. * * * قوله تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) وقوله: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) والآية. هذا - واللَّه أعلم - وذلك أن اليهود والنصارى لما آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، كقوله: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) - أمر اللَّه - تعالى - المؤمنين أن يؤمنوا بالرسل جميعًا؛ فآمنوا بهم جميعًا، وقالوا: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ): والإسلام ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (85) اختلف فيه: يحتمل (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ): حسنات من بغى غيرَ دين الإسلام في الدنيا؛ وهو كقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ)، أي: بالمؤمن به (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ). ويحتمل: من أتى بدين سوى دين الإسلام فلن يقبل منه، (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). وقيل: إنها نزلت في نفر ارتدوا عن الإسلام بعد ما أسلموا، ثم تاب بعضهم؛ فنزل قوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ): يحتمل: " يبتغي ": يطلب، (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)؛ كأنه نهى عن ذلك أن يقصد بالتدين التقرب إلى اللَّه - تعالى - فأخبر أن ذلك لا يقبله؛ ليصرف الطلب إلى غير ذلك، وذلك كما دانوا من عبادة الأوثان وغيرها؛ لتقربهم إلى اللَّه زلفى، فأخبر أنه لا يقرب؛ ليصرف الطلب إلى حقيقة ذلك الدِّين على الأديان التي كانت معروفة، تأبى أنفس الكفرة عن قبول اسم

(86)

الإسلام لدينهم، وادعوا أن دينهم هو دين اللَّه؛ فأخبر اللَّه - تعالى - أن دينه هو الإسلام، وأن من يبتغي الدِّين؛ ليدين اللَّه به، غيرَهُ -، فاللَّه لا يقبل منه، واللَّه أعلم. ويحتمل الابتغاء: الإرادة؛ فيكون فيه تحقيق الدِّين؛ إذ هي تجامع الفعل؛ فكأنه قال: من دان غير دين الإسلام، فلن يقبل منه، وإن قصد به اللَّه بالدِّين، واللَّه الموفق. أيد ذلك قوله: (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ): أنه فيمن أتى بغيره، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) وقوله: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ. . .) الآية. فالآية تحتمل وجوهًا: تحتمل: ألا يهدي اللَّه قومًا هم معاندون مكابرون فيه، غير خاضعين له ولا متواضعين؛ إنما يهدي من خضع له وتواضع، فأما من عاند وكابر: فلا يهديه. ويحتمل أن هذا في قوم مخصوصين، علم اللَّه منهم أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ فأخبر اللَّه - تعالى - أنه لا يهديهم، وأما من علم اللَّه أنه يؤمن وتاب: فإنه يهديهم بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) الآية: أطمع من تاب وأصلح أن يهديه ويغفر له. ويحتمل: ألا يهديهم طريق الجنة، إذا ماتوا على كفرهم؛ كقوله: (وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ). قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ويحتمل: لا يهديهم في وقت اختيارهم الضلالة. وقيل: بما اختاروا من الضلالة لا يهديهم، أي: لا يعينهم: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ودل قوله: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) - أن دين الإسلام هو الإيمان، وأن الكفر مقابله من الأضداد، وكيف يهدي قبل كفرهم؟!. وقيل: في وقت اختيارهم. وقيل: ذلك في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون، وكانت همتهم التعنت والمخالفة،

(87)

واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الآية ترد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم قالوا: إن الهدى: البيان، والبيان للكل، قالوا: بتقدم الفعل، فلو كان متقدمًا لكان في ذلك إعطاء الهدى للظالم؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّّ - أنه لا يهدي الظالم، وهم يقولون: لا، بل يهدي الظالم؛ فذلك خروج عليه، وأمَّا على قولنا: فإن التوفيق والقدرة إنما تكون معه؛ فكان قولنا موافقًا للآية. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي) من ذكر -: فلو لم يكن الهدى غير البيان، فلقد هداهم إذن؛ على قول المعتزلة، واللَّه أعلم. وقوله: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ (87) قيل: (لَعْنَةَ اللَّهِ)، عذاب اللَّه. وقيل: لعنة اللَّه: هي الإياس من رحمته وعفوه، واللعن: هو الطرد في اللّغة، ولعنة الملائكة: ما قيل في آية أخرى قوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا). وقيل: لعنة الملائكة قولهم لهم: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) إلى آخره. وقيل: يدعون عليهم باللعن. وقيل: لعنة المؤمنين قوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)، فذلك لعنهم عليهم. وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) ملحق على قوله: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ): ذكر الكفر بعد الإيمان، ثم ذكر التوبة فقال: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا. . .) الآية: أطمع لهم المغفرة والرحمة بالتوبة بعد الكفر بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وما قيل في القصّة -أيضًا- أن نفرًا ارتدوا عن دين الإسلام، ثم تاب بعضهم،

(90)

ولم يتب البعض؛ فنزل قوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) الآية. وفي الآية دلالة قبول توبة المرتدين؛ لأن قوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) الآية - قيل في القصّة. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) الآية: اختلف فيه، قيل: قوله: (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا)، أي: ماتوا على ذلك، فذلك زيادتهم الكفر. وقيل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا): بعيسى بعد الإيمان بالرسل جميعًا، ثم ازدادوا كفرًا: بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)، قيل: لن تقبل توبتهم التي تابوا مرة ثم تركوها. وقيل: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) التي أظهروا باللسان، وما كان ذلك في قلوبهم، أي:

(91)

ليست لهم توبة إلا أن يكون توبة منهم فترد؛ كقوله: (لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ). وقيل: هم قوم علم اللَّه أنهم لا يتوبون أبدًا؛ فأخبر أنه لا يقبل توبتهم؛ كقوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). وقيل: لا تقبل توبتهم عند الموت؛ كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، وكقوله: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)، وكقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ): أخبر أنه لا ينفع الإيمان في ذلك الوقت؛ فعلى ذلك قوله: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ في ذلك الوقت؛ إذا داموا على الكفر إلى ذلك الوقت. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) -: ذلك في قوم مخصوصين، أي: لا يكون منهم توبة؛ كقوله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)، أي: لا شافع لهم، ويحتمل عند رؤية بأس اللَّه وجزاء فعله عند القيامة أو معاينة الموت؛ يدل على ذلك الآية التي تقدمت. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا (91) الآية. قوله: (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ)، يقول: لو كان معهم لافتدوا به أنفسهم - ما قبل منهم، ولكن لا يكون؛ كقوله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ)، أي: لا يكون لهم شفيع، لا أن كان لهم شفعاء فيشفعون فلا تقبل شفاعتهم، ولكن لا يكون لهم؛ فهذا يدل على أن قوله: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)، أي: لا يتوبون، واللَّه أعلم. ورُويَ عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يُجَاءُ بالكَافِرِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرأَيْتَ لَو كَانَ لَكَ مِلءُ الأرْضِ ذهبًا، أكُنْتَ مُفْتَديًا به؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا

(92)

رَبّ، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ سُئِلْتَ أيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ! ". وقوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (92) يحتمل أن تكون الآية - واللَّه أعلم - في كفار منعهم عن الإسلام الزكاةُ والصدقات التي تجب في الأموال؛ كقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا. . .) الآية، إلى قوله: (بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - لن تنالوا الإسلام حتى تنفقوا مما تحبون من الأموال؛ وكقوله: (لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ). وتحتمل الآية في المؤمنين؛ رغبهم - عَزَّ وَجَلَّ - في إنفاق ما يحبون؛ كقوله: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) الآية: أخبر أن البر ما ذكر: من الإيمان به، وإيتاء المال في حبه. ورُويَ عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل قوله - تعالى -: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، قال أبو طلحة: يا رسول اللَّه، حائطي الذي في مكان كذا وكذا فهو لله، ولو استطعت أن أسره ما أعلنته؛ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اجْعَلْهُ في قَرَابَتِكَ - أو أَقْرِبائِكَ ". ورُويَ عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما نزل هذا: أعتق جارية.

(93)

ثم اختلف في الْبِرّ، قيل: الْبِرّ هو الجنة هاهنا. وقيل: الْبِرّ هو الإسلام، إن كان في الكافرين. وقيل: لن تنالوا درجات الجنة، وما عند اللَّه من الثواب إلا بإنفاق ما تحبون. وقوله: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) ففيه دليلُ قبول القليل من الصدقة؛ لأنهم كانوا يمتنعون عن قليل التصدق استحقارًا، فأخبر أنه بذلك عليم وإن قلَّ، بعد أن يكون ذلك للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قوله: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) الآية. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " وكان الطعام كله حلالًا، إلا الميتة والدم ولحم الخنزير. (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ)، يعني: يعقوب، حرم على نفسه لحم الإبل

وألبانها، وكان من أحب الطعام إليه، إن ثبت ما ذكر في القصة: أن يعقوب - عليه السلام - أقبل يريد بيت المقدس، فلقيه ملك، فظن يعقوب أنه لص؛ فعالجه يصارعه حتى أضاء له الفجر، فلما أضاء لهما الفجر غمز الملك فخذ يعقوب، فتهيج عليه عرق النسا؛ فكان يبيت الليل ساهرًا من وجعه، فأقسم: لئن شفاه اللَّه ليحرِّمن أحبّ الطعام والشراب إليه على نفسه؛ فشفاه اللَّه من ذلك؛ فحرم لحم الإبل وألبانها؛ لأنها من أحب الطعام والشراب إليه. فإن ثبت هذا فهو إنما حرم ذلك على نفسه بالإذن من اللَّه - " تعالى - والأمر منه. ثم إن اليهود قالوا: إنما كان تحريم ذلك من اللَّه في التوراة؛ فأمر اللَّه - تعالى - نبيه أن قل لهم: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): أن ذلك التحريم من اللَّه في التوراة. ويحتمل أن يكون التحريم كان بظلم منهم؛ كقوله - تعالى -: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ. . .) الآية؛ ثم أنكروا تحريم ذلك بظلمهم، فدُعوا بإحضار التوراة؛ ليظهر كذبهم، فأبوا ذلك.

(95)

فلا ندري كيف كانت القصة؟ ولكن فيه ثبات دلالة رسالة رسولنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث أخبر عما أسروا، وأظهر ما كتموا. قال أبو يزيد: إنما قدر أهل الكتاب على تغيير كتابهم، والزيادة فيه والنقصان، ولم يكن لأحد تغيير القرآن عن وجهه، أو زيادةٍ فيه أو نقصان منه؛ لأن كتبهم تشبه كلام غيره من الحكماء؛ فغيروا بغيره من كلام الحكماء، وأمَّا القرآن: فهو آية معجزة، لم يقدروا على تحريفه ولا تبديله، وإن علم أنه كان كما ذكر؛ وإلا فهو - واللَّه أعلم - ليهتك عليهم أستارهم، وليظهر منهم ما كتموا، وفيه إثباث لرسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. * * * قوله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) وقوله: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) الآية: قد ذكرنا فيما تقدم. وقوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) قيل فيه بوجوه؛ قيل: إن أوّل بيت مبارك وضع للناس هو بكة. وقيل: أوّل مسجد وضع للناس مكة. وقيل: يريد بـ " بكة " البقعة، أي: أوّل بقعة خلق اللهُ هو بكة، ومنها دحيت

الأرض. وقيل: إن آدم - عليه السلام - لما أمر بالحج فيه، قال جبريل - عليه السلام -: " قد حج فيه الملائكة قبلك بألفي عام ". وقيل: خلق اللَّه البيت قبل الأرض بألفي عام. ثم اختلف في قوله " بكة "؛ قيل " البكة ": الزحام. وقيل: " البكة ": موضع البيت، ومكة سائر القرية. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " مكة من فخ إلى التنعيم إلى المنحر، وبكة: من البيت إلى البطحاء ". وقيل: " بكة ": الكعبة؛ حيث يبك الناس، أي: يزدحم بعضهم بعضًا، بـ " مكة ": ما وراءها. وقوله: (مُبَارَكًا)، قيل: يغفر فيه الذنوب والخطايا.

(97)

(وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ (97) يحتمل قوله: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) - ما لو تأملوا لهداهم؛ وذلك أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - خلق هذا البيت بين الجبال في أرض ملساء قليلة الإنزال والريع، لا ماء فيه ولا شجر ولا نزهة؛ ما لا يرغب الخلق إلى مثله، ثم جعل قلوب الناس تميل وتهوى إليه أفئدتهم من غير أن كان فيه ما يرغبهم من النزهة، فلولا أن كان ذلك من آيات اللَّه ولطفه؛ وإلا ما رغب الناس إلى مثله. ويحتمل قوله: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) - ما ذكر: (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)، وذلك آياته، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا): ظاهره فيمن يجني، ثم دخل الحرم آمِن؛ لأن من لم يجن فهو آمِن أين دخل من الحرم وغيره، وإنما الآية على ما يخص بالأمن إذا دخل الحرم دون غيره. وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوافق هذا، ورُوي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " إذا أصاب الرجل الحدَّ في الحرم، أقيم عليه، وإن

أصابه في غير الحرم، ثم لجأ إليه، لا يُحَدَّث، ولا يُجالَس، ولا يُؤَاكَل، ولا يبايع، حتى يخرج منه؛ فيؤخذ، فيقام عليه الحد ". ورُوي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " لو وجدنا قاتل أبينا في الحرم لم نقتله " ورُوي عن الحسن - رحمه اللَّه - أنه قال في قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) -كان هذا في الجاهلية، فأما الإسلام: فلم يزده إلا شدة: من أصاب الحد في غيره، ثم لجأ- إليه أقيم عليه الحد. يقال للحسن: إن الصيد كان يأمن في الجاهلية، ثم الإسلام لا يرفع ذلك الأمن؛ بل كان أمن الصيد في حال الإسلام. كهو في حال الجاهلية؛ فعلى ذلك الأمن الذي كان في الجاهلية هو باقٍ غير زائل في الإسلام. وأصحابنا - رحمهم اللَّه - يذهبون إلى ما روي عن ابن عَبَّاسٍ وابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِنَّ اللَّه - تعالى - حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَها؛ لم تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبلي ولا تُحَلُّ لِأَحَدٍ بَعْدي، وإنَّما أُحِلَّتْ لِي ساعة مِنْ نَهَارٍ، لا يُخْتَلَي خَلَاهَا، وَلَا يُعْضد شَجَرُها، ولا يُنَفَر صَيدُها، ولا يُحْتَشُّ حَشِيشُها ". أخبر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن مكة بعد

الإسلام حرام؛ كما كانت قبله، وأنها لم تُحَلَّ له إلا ساعة من نهار، فإذا كان الملتجئ آمنًا قبل الإسلام؛ فالواجب أن يكون آمنًا بعد الإسلام، حتى يخرج منها. وحجة أخرى: وهو أن اللَّه - تعالى - أباح لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قتل المشركين جميعًا، بل فرض ذلك عليه، إلا أهل مكة؛ فإنه لم يُحِلَّ له قتلهم إلا ساعة من نهار، ففضَّل مكة على غيرها بما خصها به من التحريم؛ فلا يبعد ألا يقام على من التجأ إليها في الإسلام؛ إذ كانت جنايته أقل من كفر أهلها، ولم يُحَلَّ قتالُهم إلا ساعة من نهار. وفي الفرق بين من قتل فيها وفي غيرها، ثم لجأ إليه - وجه آخر: قال اللَّه - تعالى: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ): أباح لهم القتل عند المسجد الحرام، إذا قاتلونا؛ فعلى ذلك يقام الحد إذا أصاب وهو فيه، وإذا أصاب - وهو في غيره - ثم لجأ إليه: لم يُقِم؛ كما لم يُقَاتَلُوا إذا لم يُقَاتِلُوا، وهذا فرق حسن واضح بحمد اللَّه وعونه. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) -: يحتمل أن يكون خبرًا من الحرم في قديم الدهر: أنه كان على ما بين الخلق من القتال والحرب يأمنون بالحرم، إذا التجأوا إليه؛ وذلك كقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)؛ فيكون ذلك من عظيم آيات اللَّه - تعالى - أن أهل الجاهلية - على عظيم ما بدلوا من الأمور، وغيروا من الدِّين - منعهم اللَّه - تعالى - عن هذا التغيير؛ حتى بقيت لكل من شهده آية أن اللَّه له هذا السلطان، وبه قام هذا التدبير العظيم، له العلم بحقائق الأشياء، ووضع كل شيء موضعه؛ وعلى ذلك قال بعض أهل التأويل في قوله: (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) - إن اللَّه قد جعل - جل ثناؤه - ذلك كالماء في الشرع والطبع، فأمّا الشرع: فما جاءت به الرسل، وأمّا الطبع: فما تنافر الناس، حتى سار ذلك إلى الصيد الذي يؤذيه الأخذ، وإلى أنواع الأشياء التي قامت بجوهر تلك البقعة من النبات، لا بأسباب تكتسب؛ ولهذا كره بيع رباع مكة،

ورخص في بيع ما يحدث فيه من البنيان، واللَّه أعلم. ودلَّ قوله: و (جَعَلنَا) كذا - على لزوم ذلك الحق؛ لأنه مذكور بحرف الامتنان، والاحتجاج له، ولا يجوز تغير الذي هذا وضْعُهُ، واللَّه أعلم. ويحتمل: كأنْ صار آمنًا، أي: أوجب له الأمان، ومعلوم أن الذي لم يلزمه القتل كان آمنا دون دخوله؛ فثبت أن ذلك فيمن لزمه؛ وأَيَّد ذلك قوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فهم قوم قد سبق منهم الكفر وقت شرع القتل بالكفر، لم يأخذهم حق الشرع على ما سبق من الكفر في وقت لم يكن ذلك جزاءه في الدنيا، إلا أن يُحْدِثَ القتال؛ فعلى ذلك من لزمه - لا فيه - فهو يأمن به، إلا أن يكون أحدثه فيه، واللَّه أعلم. وأصله: أنه أضاف الأمان إلى نفسه بقوله: (كَانَ آمِنًا) فكل حق بِتَلَفِ نَفْسِهِ فله أمان بالدخول فيه، وكل حق في إقامته إحياء ما جعلت الحياة لنفع مثله - فهو يقام؛ ليكون زجرًا له، وتكفيرًا على بقاء الأمن؛ ليقي نفسه، ورده إلى ما لم يدر أنه التجأ إليه؛ للهرب عن حكم اللَّه - تعالى - أو للأمان باللَّه؛ ليصل إلى إقامة أحكام اللَّه - تعالى - آمنًا، وفي إقامته هذا أيضًا، واللَّه أعلم. وقوله (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) فرض اللَّه - تعالى - الحج بهذه الآية على من استطاع إليه سبيلًا، ولم يبين ما السبيل، وبين ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: حيث سئل عن الاستطاعة؛ فقال: " الزَّاد، والراحِلَةُ "، وهكذا يقول علماؤنا: إن الاستطاعة والسبيل هو الزاد والراحلة؛ كما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

وقال بعض الناس: إذا كان بينه وبين الحج بحر، لم يلزمه الحج؛ فكأنه ذهب إلى ظاهر الآية: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)؛ فجعل البحر وأشباهه مزيلا للاستطاعة؛ فخالف ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الاستطاعة؟ فقال: " الزَّادُ والرَّاحِلَةُ "؛ فلم يجز لأحد أن يزيد في شرائط الاستطاعة مع الزاد والراحلة؛ لأن النبي - عليه السلام - هو المبين عن اللَّه؛ فعلينا اتباعه في قوله وفعله وتفسيره الآية، ولكنا نجعل من يحول بينه وبين البيت معذورًا في التأخير، ولا يأثم - إن شاء اللَّه تعالى - إذا لم يقدر على الوصول إلى البيت بعلة على ما جعل التأخير في غيرها من العبادات عند الأعذار والعلل، ولا يأثم في ذلك. ثم في الآية دلالة أنه لا يلزم المرأة الحج إلا بالمحرم؛ لأن المرأة -وإن وجدت الزاد والراحلة- فإنها تحتاج إلى من يُركِبُها ويُنزلها، ولا تقدر على ذلك إلا بغيرها، وهكذا العرف فيهن، فإذا كان كذلك جعل كأنها غير واجدة للراحلة، واللَّه أعلم. وفيه دلالة أن العبد إذا حج ثم أُعْتِق - لزمه حجة الإسلام؛ لأنه لا يملك الزاد والراحلة، فإذا لم يملك الزاد والراحلة لم يجز ذلك من حجة الإسلام وكذلك روي عنه

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أَيُّمَا عَبدٍ حَجَّ وَلَو عَشْرَ حِجَجٍ؛ فَعَلَيهِ إِذَا أُعْتِقَ حَجَّةُ الإسْلامِ ". وليس كالحر - الفقير يحج، ثم أيسر: جاز ذلك من حجة الإسلام؛ ففرقوا بينهما، وإن كانا في زوال الحج في الابتداء سواء؛ وذلك أن الفقير إذا بلغ ذلك المكان صار غنيًا، ولزمه الفرض؛ لأنه لا يحتاج حينئذ إلى زاد وراحلة، وأمّا العبد إذا حضر ذلك المكان لم يَعْتِقْ؛ لذلك افترقا. وفي ذلك حُجة أخرى: ما أجمع أهل العلم أن فقيرًا لو حضر القتال ضرب له بسهم كامل؛ كما يضرب لمن كان فَرضُ الجهاد لازمًا له، ولو أن عبدًا شهد الوقعة رضخ له، ولم يكمل له سهم الحر؛ فافترقت حال الفقير والعبد في: الجهاد، والضرب في السَّهْمان؛ فعلى ذلك يفترق حالهما في الحج، واللَّه أعلم. وقال بعض أهل العلم: إن الشيخ الذي لا يستمسك على الراحلة، إذا وجد غيره يحج عنه - يلزمه فرض الحج؛ فما ينكر من قال في المرأة بمثله، فاحتج بما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " جاء رجل إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه، إن أبي

شيخ فأدركته فريضة الحج، وهو لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة؛ أفيجزئ أن أحج عنه؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَرَأيتَ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكَ دَيْن فَقَضَيتَهُ عَنْهُ، أكان يُقْبَلُ مِنْكَ "؟ قال: نعم؛ قال: " فاللهُ أَوْلَى بِحَج أَبِيكَ " أو كلام نحوه، ولكن ليس في الخبر أن فريضة الحج إنما أدركته في الحال التي لا يستمسك على الراحلة، فيجوز أن أدركته فريضة الحج قبل ذلك؛ فكذلك يقول علماؤنا: إن الحج إذا وجب فأخر أداءه حتى أعْسَرَ - لم يسقط عنه الحج، وكذلك إن وجب عليه الحج فلم يحج حتى كبر، فصار لا يستمسك على الراحلة، عليه أن يوصي ليُحَجَّ عنه. ويحتمل -أيضًا- أنه رغبه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الحج عنه تبرعًا، لا أنه ألزمه الحج في ذلك الوقت الذي لا يثبت على الراحلة - وعندنا أنه لا يلزمه؛ لأنه إذا لم يستمسك على الراحلة فلا راحلة له، ثم من قول هذا القائل: إن من لزمه فرض الحج، فله التأخير، وفي التأخير فَوْتٌ أو إدراك المنيّة، ومِنْ قوله: إنه لو أخر حتى مات يصير فاسقا؛ فإذا مات مات فاسقا، يجعل له رخصة التأخير، ثم يفسقه؛ فكأنه يجعل له الرخصة في الفسق، فذلك قبيح وخش من القول سمج. وأما عندنا: فإنه لا يسع له التأخير في أوّل أحوال الإمكان على تمام شرط الاختيار؛

كغيره من العبادات التي لزمت، من نحو الصلاة، والصيام، وغيرهما؛ لا يسع التأخير؛ فعلى ذلك الحج. ثم مِنْ قول الشافعي - رحمه اللَّه -: إن على الكافر الحج والصلاة والصيام في حال كفره، فإذا أسلم سقط ذلك عنه؛ فذلك عندنا لعب وعبث في دين اللَّه - تعالى - غير جائز أن يلزمه فرض في حال لا يجوز له فعله، فإذا جاء سبب الجواز يسقط عنه ذلك. وفي الآية دلالة أن الحج إنما كان فرضا على المؤمنين خاصة؛ بقوله: (وَمَن كَفَرَ) بالحج (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) فلو كان هو على الكافر كما هو على المسلم، لم يكن لقوله معنى؛ دل أنه غير لازم، واللَّه أمر بالعبادات باسم المؤمنين. ثم المسألة بيننا وبين المعتزلة في الاستطاعة، قالت المعتزلة: تكون قبل الفعل؛ لأن اللَّه - تعالى - فرض الحج، وأمر بالخروج إليه، إذا قدر على الزاد والراحلة؛ على ما فسره رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا لم يقدر لم يلزمه؛ فدلّ أنها تتقدم.

وأمَّا عندنا: فهي على وجهين: أحدهما: استطاعة الأسباب والأحوال. والثاني: استطاعة الأفعال. فأمّا استطاعة الأحوال والأسباب: فيجوز تقدمها، من نحو: الزاد، والراحلة، والجوارح السليمة. وأمّا استطاعة الأفعال فإنها لا تكون إلا مع الفعل؛ لأنها استطاعة الفعل وسببه؛ فلا تكون إلا معه، والوقت في الحج لفعل الحج لا للإيجاب؛ لأنه لو كان للإيجاب لكان له ألا يخرج، ولا يأتي ذلك المكان فيجب عليه الحج؛ ولأنه لو لم يلزمه إلا بالوقت، ثم لا يتمكن فعله به دون المكان فيجيء - لا يلزمه إلا بحضور ذلك، فلا يلزمه الخروج أبدًا؛ إذ الحج غير لازم إلا بالوقت، ولأنه ليس على العبد أن يتكلف في اكتساب إيجاب العبادات، وعليه أن يَجْهَدَ في أداء الواجب عليه. ثم الأوقات على أقسام ثلاثة: وقت الإيجاب والأداء جميعًا نحو: الصلاة، والصيام، ونحوهما. ووقت الإيجاب، نحو: الزكاة. ووقت الأداء -وهو الحج- إنما وجوبه بالزاد والراحلة، وأمَّا الوقت: فهو للأداء خاصة، فإذا كان في أقصى بلاد المسلمين فهو لم يعط قدرة فعل الحج؛ لأنه لا يقدر على فعله إذا كان فيما ذكر؛ دل أن قدرة الفعل لا تتقدم الفعل، وقدرة الأحوال تتقدم لما ذكرناه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). في الآية دلالة أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إذا أمر عباده بأمر ليس يأمره لحاجة نفسه، ويأمر لحاجة العبد؛ لأنه غني بذاته، لا حاجة تمسه، وأمَّا الأمر فيما بين الخلق: فإنما هو لحاجة بعضهم لبعض: إمَّا جر منفعة، أو دفع مكروه، فذلك معنى قوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). ثم اختلف في قوله: (وَمَن كَفَرَ): عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَمَن كَفَرَ) قال: من زعم أنه لم ينزل.

وعن الحسن: (وَمَن كفَرَ) قال: من زعم أن الحج ليس بواجب. وقيل: (وَمَن كفَرَ) باللَّه، قال: هو الذي إن حج لم يرج ثوابه، وإن جلس لم يخش عقابه. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، والسبيل أن يصح بدن العبد، وأن يكون له ثمن زاد وراحلة، من غير أن يحجب ". ثم قال: (وَمَن كفَرَ)، يقول: ومن كفر بالحج فلم ير حجه برًّا، ولا تركه إثمًا. وفي قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) دلالتان: إحداهما: في الوجوب بقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ)، وأيد ذلك قولُهُ: (وَمَن كَفَرَ) وما جاء من الأثر واتفاق القول. والثانية: جعل البيت شرطًا للقيام لما هو في قوله: (عَلَى النَّاسِ) ذلك؛ فيكون فيه دليل لزوم الطواف، تفسيره في قوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، وكذلك أيده قوله: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ)، وأيّد -أيضًا- ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في امرأة نَفِسَتْ: " أَحابِسَتُنا هِيَ؟ " قيل: إنها أفاضت. وعلى ذلك اتفاق القول بلزوم الطواف، واللَّه أعلم. فلما دلّ أن الطواف لازم لم يخل إمَّا أن يكون الطواف المبدأ به في الحج، أو الذي يختم به، والذي يبدأ به لا يلزم كل الناس -ثبت أن الفرض هو الذي يختم به، وهو

قوله: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا): أوجب جعل السبيل إليه والإمكان- شرطًا للوجوب؛ إذ الآية في ذكر الوجوب لا الفعل؛ وعلى ذلك جميع العبادات، جعل الإمكان في وجوبها شرطًا بالسمع بقوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، وغير ذلك مما ذكر في كل نوع من العبادات من الاستطاعة؛ وكذا حق هذا بالفعل، وذلك يخرج على وجهين: استطاعة الفعل من القدرة التي تحدث لا محالة ما سلمت الأسباب، إلا أن يكون ممن منه الفعل الإعراض عنها بالشغل بغير تلك الأفعال، أو اشتغال ذلك بالفعل؛ فيكون فوت الاستطاعة بتضييعه، ولا عذر بفوت ما كان المكلف يفوته، كفوت العلم به على الإمكان، وإن كان لا يقوم دونه، والذي يؤيد أن هذه الاستطاعة ليست بشرط في الإيجاب أنها لا تبقى، ثم محال وجودها في حال لو أريد إقامة الحج لا يتهيأ، وذلك نحو أن يكون في أقصى البلاد من مكة، ومعلوم أن القدرة التي بها يكون الفعل ليست معه، ومحال تكليف السبب الذي به يجب الفعل؛ فلذلك لم يجب تكليف بالخروج ولا أمر بالحج؛ فكأنه يؤمر بتكليف سبب الإيجاب -ثبت أن قد يجب الحج لا بتلك القوة؛ وكذلك يجوز في الكفارات استعمال الأبدال في حال العجز، وإن كان لا يعلم أن العجز يمتد إلى آخر ما يقوم به الأصل، بل على ظهور ألا يمتد بمضي البدل- ثبت أنْ لا عبرة لفقد قدرة الفعل ووجودها في التكليف، واللَّه أعلم. والثاني: يراد بالاستطاعة: سلامة الأسباب، ولا يجوز التكليف دونها بالفعل لأنه ممنوع، ومحال أمر الممنوع عن الفعل - به؛ كالأعمى، والمُقْعَدِ، ونحو ذلك، وإلى مثل هذا انصرف شرط الاستطاعة، وهو اللازم في العقل؛ لما القرب بحق الشكر لما أنعم على المأمور، فإذا منع عنه السبب الذي هو النعمة لم يحتمل أن يؤمر بالشكر ولا نعمة، واللَّه أعلم.

(98)

وعلى ذلك ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن ذلك؛ فقال: " الزادُ والراحِلَةُ ". واللَّه الموفق. وعلى ما ذكرت يخرج قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في وجوب الحج: وإن لم يدرك الوقت الذي فيه يقوم الحج على ما لزمه، وإن لم يكن أصاب المكان الذي فيه يقام - واللَّه أعلم بظاهر الآية مع ما ذكرنا من بيان الأثر. وأصله: أن الوقت في الحج جعل لجواز الفعل؛ إذ هو لو فات لا يحتمل في غيره، وكل فعل يجوز في غير وقته فما يقرب من الوقت به كان أحق بالجواز، فإذا لم يجز هذا وجاز في مثله من القابل - ثبت أنه للجواز لا للوجوب؛ وأيد ذلك ما لا يوصف بالقضاء متى أدى، ولو كان في الأول واجبًا لوقت الأول لكان يكون في الثاني قاضيًا، فإذا لم يكن: ثبت أنه ليس لوجوبه وقت، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ): وآيات اللَّه، ما ذكرنا فيما تقدم بمحمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالقرآن والحجج. (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ): هو حرف وعيد وتنبيه؛ ينبئهم عن صنيعهم؛ ليكونوا على حذر من ذلك. وقوله: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا (99) يحتمل قوله: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ) من الأتباع الذين كان إيمانهم إيمانَ تقليدٍ، لا إيمانًا بالعقل؛ لأن من كان إيمانه إيمانا بالعقل فهو لا يصد، ولا يصرف عنه أبدًا؛ لما عرف حسن الإيمان وحقيقته بالعقل، فهو لا يترك أبدًا، وأما من كان إيمانه

(100)

إيمان تقليد: فلم يكن إيمانهُ إيمانَ حقيقة، فمثله يصد عنه، إلا أن من يمن اللَّه عليه فيشرح صدره؛ حتى يكون على نور منه، وذلك أحد وجوه اللطف. والمقلد غير معذور؛ لما معه ما لو استعمله لأوضح له الطريق، وأراه قبح ما آثر من التقليد، ولا قوة إلا باللَّه. ويحتمل قوله: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ)، أي: لم تقصدون قصد صدهم عن سبيل اللَّه، وهم لا يرجعون إلى دينكم، أيأس منه إياهم عن أن يرجعوا عن دينهم الذي عليه؛ كقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)، فيه إياس الكفرة عن رجوع المسلمين إلى دينهم. وقيل: كانوا يصرفون المؤمنين عن الحجج. وقوله: (تَبْغُونَهَا عِوَجًا)، والعوج: هو غير طريق الحق، وهو الزيغ والتعوج عن الحق. وقوله: (وَأَنْتُمْ شُهَدَآء)، (وَأَنتُم تَشْهَدُونَ): واحدٌ، وفي حرف حفصة - رضي الله عنها -: " وأنتم شهداء على الناس ". وقوله: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ): هو حرف وعيد وتنبيه؛ لأن من علم أن عليه رقيبًا وحافظًا، يكون أحذر وأخوف ممن لم يكن عليه ذلك. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وفيه أنه لا غفلة بالذي يكون منكم خلقكم، ولكن على علم؛ لتعلموا أنه لا للحاجة خلقكم؛ بل لإظهار الغنى والسلطان، جك جلاله، وعم نواله. وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ (100) الآية تحتمل وجوهًا: أحدها: معلوم أن المؤمنين لا يطيعون الكفار بحال في الكفر، ولكن معناه - والله

(101)

أعلم - أن يدعوهم إلى شيء لا يعلمون أن في ذلك كفرًا، نهاهم أن يطيعوهم، وفي كل ما يدعوكم إليه كفر وأنتم لا تعلمون. ويحتمل: النهي عن طاعتهم، نهاهم عن أن يطيعوهم، وإن كان يعلم أنهم لا يطيعونهم؛ كما نهى الرسولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غير آي من القرآن، كقوله: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، فكذلك هذا. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ويشبه أن تكون الآية في عرض أمور عظام ترغب فيها النفس ليكفر بها؛ فحذر عن ذلك بما بين من الاعتناد والخسار في آية أخرى؛ ليعلموا أن ذلك تجارة مخسرة، وقد كانت لهم ولأهل كل دين ومذهب هذا الاعتناد، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وعلى ذلك قوله: (وَكَيفَ تَكفُرُونَ). على أن الذي أراكم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألذ للعقول، وأروح للأبدان مما وُعِدوه مع سوء ألمآب، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ): وهو على وجه التعجب ظاهر، ولكنه على طلب الحجة في كفرهم. (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) يدفع عنكم الشبهة التي عرضت لكم بإلقاء الكفار إليكم. (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ): أي: من جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ملجأ له، ومفزعًا إليه عند الشبه والإشكال. (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي: يحفظه عن الشبه، ويرشده إلى صراط مسمقيم، واللَّه أعلم. ويحتمل: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ): يتمسك بالذي جاء من القرآن، (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ

(102)

مُسْتَقِيمٍ). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ (102) رُوي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " (حَقَّ تُقَاتِهِ): أن يُطاع فلا يُعصى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُذكر فلا يُنسى "، وأراد: حق تقاته؛ مما يحتمل وسع الخلق. ورُوي في حرف حفصة: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) أي: اعبدوا اللَّه حق عبادته، وهذا في اعتقاد التوحيد. وروي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: " لا يتقي اللَّه أحد حق تقاته حتى يخزن من لسانه، ويعد كلامه من عمله ". وقيل (اتَّقُوا اللَّهَ): أطيعوا اللَّه حق طاعته. وقيل: إن هذا نسخها قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) الآية؛ لكن لا يحتمل أن يأمر الخلق بشيء ليس في وسعهم القيام به، ثم ينسخ ذلك بما يستطاع، ولكن أصله ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إِنَّ لله عَلَى عِبَادِهِ حَقًّا، وَلِعِبَادِهِ عَلَيهِ حَقًّا، وَحَقّ اللَّه على عَبدِهِ: أَنْ يَعْبُدَ اللَّه، وَلَا يُشْرِكَ غَيرَهُ فِيهِ. وَحَقُّ العَبدِ عَلَى اللَّه: أَنْ يُدْخِلهُ

(103)

الجَنَّةَ؛ إِذَا عَبَدَهُ، وَلَمْ يُشْرِكْ غَيرَهُ فِيهِ أَحَدًا " ليكون هذا تأويلًا للآية أن قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) ولا تكفروه؛ فيكون فيه الأمر بالإيمان، والنهي عن الكفر؛ لأنه ليس في وسع أحد أن يتقي اللَّه حق تقاته في كل العبادة؛ ألا ترى إلى ما روي من أمر الملائكة مع ما وصفوا من عبادتهم أنهم (لَا يَفتُرُونَ)، و (لَا يَسْأَمُونَ)، ثم يقولون: ما عبدناك حق عبادتك؟!. وإذا كان أحد لا يبلغ ذلك فلا يحتمل تكليف مثله، وجملته: أن ذلك ليس بذي حدّ وغاية، فلذلك كان - واللَّه أعلم - الأمر فيه راجع إلى الإسلام، أو في نفي حق الإشراك خاصة، لا في جميع الأحوال والأفعال، دليله ما ختم به الآية، وفي وسع الخلق ألا يشركوا أحدًا في عبادته؛ ألا ترى أنه قال: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟!. وفي ظاهر الآية النهي عن الموت إلا مسلمًا، وليس في الموت صنع للخلق، والمعنى - واللَّه أعلم -: أي: كونوا في حال إذا أدرككم الموت كنتم مسلمين؛ فالنهي فيه نهي عن الكفر، والأمر بالإسلام، حتى إذا أدركه الموت أدركه وهو مسلم، والله أعلم. وقد يكون على بيان ألا عذر عند الموت -وإن اشتد أمره- بالذي ليس بإسلام. وروي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " أكثر ما يسلب الإيمان عند الموت؛ كان الشيطان يطمعه في أمر لو أعطاه ما طلب ". ويحتمل قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) أي: احذروا عذاب اللَّه حق حذره، واحذروا نقمته؛ كقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) بمعنى نقمته. وقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا (103) اختلف فيه؛ قيل: حبل اللَّه؛ يعني: القرآن، وهو قول ابن مسعود، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " حبل اللَّه: الجماعة، وإنما هلكت الأمم

الخالية بتفرقها "، أمر بالكون مع الجماعة، ونهي عن التفرق؛ لأن أهل الإسلام هم الجماعة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، وصف أهل دين الإسلام بالجماعة، وأهل أديان غيرها بالتفرق. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -أيضًا- قال: حبل اللَّه: الجماعة. ورُوي في بعض الأخبار أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ فَارَقَ الجَمَاعةَ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ " يعني: حبل الإسلام. وروي عنه -أيضًا- قال: " إِن الشيطَانَ ذئب الإنسان، كَذِئْبِ الغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَاذَّةَ والقَاصِيةَ وَالنَّاحِيَةَ، فَإِياكم والشعَابَ، وَعَلَيكُم بِالجَمَاعَةِ وَالعَامَّةِ وَهَذَا المسجِدِ ". ورُوي عن علي بن أبي طالب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " دعاني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليلةً ثلاث مرات، ثم قال: " يَكُونُ فِي أُمتِي اخْتِلافٌ "، قلت: كيف نصنع يا رسول اللَّه إذا كان كذلك؟ قال: " عَلَيكمُ بكِتَابِ اللَّه؛ فإنَّ فِيهِ نَبَأَ مَنْ قَبلَكُم، وَخَبَرَ مَا بَعْدَكُم، وهُو حَكَمٌ فِيمَا بَينَكُم، مَنْ يَدَعْهُ مِنْ جَبارٍ يَقْصِمهُ اللَّه، وَمَنْ طلب الْهُدَى فِي غَيرِهِ يُضِلَّهُ اللهُ، وَهُوَ حَبلُ اللَّه المَتِينُ، وَأَمْرُهُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصرَاطُ الْمُستَقِيمُ، وَهُوَ الذي لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الألسِنَةُ،

وَلَا يَخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدُ، وَلَا تَنْقَضي عَجَائِبُهُ ". وقيل: حبل اللَّه: دين اللَّه. والحبل: هو العهد؛ كأنه أمر بالتمسك بالعهود التي في القرآن، والقيام بوفائها، والحفظ لها، ونهى عن التفرق كما تفرقت الأمم الخالية، واختلفت في الأديان. وقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ): بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: ألّف بين قلوبكم بالإسلام. وقيل: بالقرآن، ولم يكن ذلك للدِّين نفسه، ولكن بلطف من اللَّه منَّ به على أهل دينه، وأخبر أن التأليف بين قلوبهم نعمة؛ لأن التفرق يوجب التباغض، والتباغض يوجب التقاتل؛ وفي ذلك التفاني. وعلى قول المعتزلة: ليس من اللَّه على المسلم من النعمة، إلا ومثلها يكون على الكافر؛ لأن الهدى والتوفيق -عندهم- هو البيان، فذلك البيان للكافر كهو للمسلم؛ وعلى قولهم - لا يكون من اللَّه على أحد نعمة؛ لأنهم لا يجعلون لله في الهداية فعلا، إنما ذلك من الخلق، وأمَّا عندنا: فإنما يكون الإسلام بهدايته إياه، فذلك من أعظم النعم عليه. وقوله: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا): أي: صرتم بنعمته إخوانا. وقوله: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ):

أي: كنتم أشفيتم حفرة من النار، وهو القريب منها، لولا أنه من بالإسلام. ويحتمل أن يكون على الكون فيها والوقوع، لا القرب؛ كقوله: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)، ليس على الرؤية خاصة؛ ولكن على الوقوع فيها؛ وكقوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ) ليس على البعد منها؛ ولكن على الكون فيها، ومثله كثير يترجم على الوقوع فيها. وقوله: (حُفْرَةٍ): كأنه قال: كنتم على شفا درك من دركات النار، (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا). وهذا -أيضًا- على المعتزلة؛ لأن على قولهم: هم الذين ينقذون أنفسهم، لا اللَّه، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه - نقول: إذا كان اللَّه - تعالى - عندهم قد جمع بين الكفرة والبررة في بذل الأصلح لهم في الذين، وليس منه غير ذلك فلا يجيء أن يمن عليهم به يتألف بنعمته، والتي منه موجود مع التفرق؛ بل أُولَئِكَ تألفوا بنعمتهم. وبعد؛ فإنّ النعمة لو كانت دينًا، فما الذي كان منه حتى يمن، وذلك فعلهم بلا فضل منه فيه؟! واللَّه أعلم. وفي قوله: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ) الآية: أنه قد يلزم خطاب الإيمان حين الفترة؛ لأنهم في ذلك الوقت كانوا قد أنقذوا، واللَّه الموفق. وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ): إذ كنتم أعداء في الجاهلية والكفر، متفرقين، وصرتم إخوانًا في الإسلام؛ كلمتكم واحدة. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ): لكي تعرفوا نعمته ومنته. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقد يكون: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) في حادث الأوقات؛ لتكونوا فيها مهتدين كما اهتديتم؛ فيكون في ذلك وعد التوفيق والبشارة، والله أعلم.

(104)

قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) وقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). وقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ) يحتمل أن يكون هذا خبرًا في الحقيقة، وإن كان في الظاهر أمرًا؛ فإن كان خبرًا ففيه دلالة أن جماعة منهم إذا قاموا على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر - سقط ذلك عن الآخرين؛ لأنه ذكر فيه حرف التبعيض، وهو قوله: (مِنْكُمْ أُمَّةٌ. . .) الآية. ويحتمل أن يكون على الأمر في الظاهر والحقيقة جميعًا، ويكون قوله: (مِنْكُمْ) - صلة، فإن كان على هذا ففيه أن على كل أحد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وذلك واجب؛ كأنه قال: كونوا أمة (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الآية؛ لأنه ذكر - جل وعز - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آي كثيرة من كتابه، منها هذا: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ. . .) الآية، ومنها قوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، وذم من تركهما بقوله: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). ورُوي عن عكرمة أن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال له: " قد أعياني أن أعلم ما

يفعل بمن أمسك عن الوعظ، فقلت: أنا أعلمك ذلك، اقرأ الآية الثانية: (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ. . .)، فقال لي: أصبت. فاستدل ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بهذه الآية على أن اللَّه أهلك من عمل السوء، ومن لم ينه عنه من يعمله، فجعل - واللَّه أعلم - الممسكين عن نهي الظالمين مع الظالمين في العذاب. وقد رُوي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، وإني سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إِذَا رَأَوا الظَّالِمَ، فَلَم يَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ - أَوشَكَ أَنْ يَعُمَّهُم اللهُ بِعِقَابٍ ". وعن جرير قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إن الرجُلَ لَيَكُونُ فِي القَوْمِ، وَيَعْمَلُ فِيهِم بِمَعَاصِي الرحْمَنِ، وَهُم أكْثَرُ مِنْهُ وَأَعَزُّ، وَلَو شَاءُوا أَنْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ لَأَخَذُوا عَلَى يَدِهِ، فَيَرْهَبُوا لَهُ؛ فَيُعَذّبُهُمُ اللهُ بِهِ ". وعن حذيفة قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " والَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيَعُمَّكُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُونَهُ ولا يَستَجِيبُ لكُم ".

وعن أبي سعيد الخدري يذكر أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إِن اللهَ لَيَسأَلُ العَبدَ يَوْمَ القيَامَةِ حَتى يَقُولَ: مَا مَنَعَكَ إِذَا رَأَيْتَ مُنْكَرًا أَنْ تُنْكِرَهُ؟ فإذَا اللهُ لَقَّنَ عَبدًا حُجتَهُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَثِقْتُ بِكَ، وَفَرَقْتُ مِنَ النَّاسِ ". وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اجتمع نفر من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول اللَّه، أرأيت إن قلنا بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف إلا ما عملنا به، وانتهينا عن المنكر حتى لا يبقى، أيسعنا ألا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر؟ فقال: " مُرُوا بالمَعْروفِ، وإنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلهِ، وانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَإنْ لَمْ تُنْهَوُا عَنْهُ ". ولا ينبغي للرجل أن يقول: لست ممن يعمل بالمعروف كله، وينتهي عن المنكر كله، حتى آمر غيري وأنهاه، فإن فعله المعروف واجب عليه، فلا يجب إذا قصر في واجب أن يقصر في غيره. وقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). يحتمل وجوهًا: يحتمل: (كُنْتُمْ): أي: صرتم خير أمّة أظهرت للناس؛ بما تدعون الخلق إلى النجاة والخير. ويحتمل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) في الكتب السالفة؛ بأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. ويحتمل: تكونون خير أمة إن أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر. يحتمل: (كُنْتُمْ): صرتم خير أمة، وكانوا كذلك هم خير ممن تقدمهم من الأمم؛

(105)

بما بذلوا مهجهم لله في نصر دينه، وإظهار كلمته، والإشفاق على رسوله، حتى كان أحب إليهم من أنفسهم؛ ويرونه أولى بهم، واللَّه الموفق. ثم اختلف في المعروف والمنكر، قيل: المعروف: كل مستحسن في العقل فهو معروف، وكل مستقبح فيه فهو منكر. ويحتمل الأمر بالمعروف: هو الأمر بالإيمان، والنهي عن المنكر: هو النهي عن الكفر؛ دليله: قوله: (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .) الآية، يؤمنون هم، ويأمرون غيرهم بالإيمان، وينهون عن الكفر. وقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا (105) لأن التفرق هو سبيل الشيطان بقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ): والبينات: هي الحجج التي أتى بها. ويحتمل: بيان ما في كتابهم من صفة رسولنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونعته الشريف. ويحتمل: تفرقوا عما نهج لهم اللَّه، وأوضح لهم الرسل؛ فأبدعوا لأنفسهم الأديان بالأهواء، فحذرنا ذلك، وعرفنا أن الخير كله في اتباع من جعله اللَّه حجة له، ودليلًا عليه، وداعيا إليه، ولا قوة إلا باللَّه. (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ): دل هذا أن السبيل هو الذي يدعو الشيطان إليها. وقوله: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ (106) وصف اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وجوه أهل الجنة بالبياض؛ لأن البياض هو غاية ما يكون به الصفاء؛ لأن كل الألوان تظهر في البياض، ووصف - عَزَّ وَجَلَّ - وجوه أهل النار بالسواد؛ لأن السواد هو نهاية ما تكون به الظلمة؛ إذ الألوان لا تظهر في السواد فهو شبيه بالظلمة. وقد يحتمل أن يكون المراد من وصف البياض والسواد - ليس نفس البياض والسواد؛ ولكنّ البياض هو كناية عن شدّة السرور والفرح، والسّواد كناية عن شدة الحزن والأسف؛

كقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)، ووصف وجوه أهل الجنة بالضحك، وليس على حقيقة الضحك؛ ولكن وصف بغاية السرور والفرح؛ وكذلك وجوه أهل النار وصفها بالغبر والقتر؛ وهو وصف بشدة الحزن، واللَّه أعلم. وقوله: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ): يحتمل وجوهًا: يحتمل: أكفرتم بألسنتكم بعدما شهدت خلقتكم بوحدانية اللَّه تعالى؛ لأن خلقة كل أحد تشهد على وحدانيته. ويحتمل: أي: كفرتم بعدما آمنتم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث بوجودكم، نعته وصفته في كتابكم وعلى هذا قال بعض أهل التأويل: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ): أي: على استجابة كثير منهم من الأجلّة والكبراء، الذين لا يعرفون بالتعنت في الدِّين ولا بالتقليد، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: أكفرتم أنتم بعد أن آمن منكم فرق؟!؛ لأن منهم من قد آمن، ومنهم من كفر، فقال لمن كفر: أكفرتم أنتم وقد آمن منكم نفر؟! ألا ترى أنه قال: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ)، واللَّه أعلم؛ وكقوله: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ). وقيل: أراد بالإيمان - الذي قالوا حين أخرجوا من ظهر آدم. وفي الآية ردّ قول المعتزلة بتخليد أهل الكبائر في النار، وإخراجهم إياهم من الإيمان من غير أن أدخلوهم في الكفر؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يجعل إلا فريقين: بياض

(108)

الوجوه، وسواد الوجوه، فبياض الوجوه هم المؤمنون، وسواد الوجوه هم الكافرون؛ لأنه قال: (أَكَفَرْتُم) فأصحاب الكبائر لم يكفروا بارتكابهم الكبيرة، ولم يجعل اللَّه - تعالى - فرقة ثالثة؛ وهم فرقة ثالثة؛ وكذلك قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) لم يجعل الخلق إلا فريقين، وهم جعلوا فرقًا؛ وكقوله: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ). فَإِنْ قِيلَ: ذكر في الآية الكفر بعد الإيمان، ثم لم يكن فيه منع دخول من لم يكفر بعد الإيمان؛ فامتنع ألا يكون فيه منع دخول صاحب الكبيرة فجوابنا ما سبق: أن خلقة كل كافر تشهد على وحدانية اللَّه تعالى، لكنهم كفروا بألسنتهم، وذلك كفر بعد الإيمان؛ فلم يجز أن يدخل في الآية من لم يكن كافرًا في حكم الكافر، وباللَّه التوفيق. وقوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ) في الظاهر أمر، لكنه في الحقيقة ليس بأمر؛ لأن العذاب لا يذاق، وإنما يذوق هو؛ فكأنه قال: اعلموا أن عليكم العذاب. وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ (108) يحتمل: (آيَاتُ اللَّهِ): حجج اللَّه وبراهينه. ويحتمل: (آيَاتُ اللَّهِ): القرآن.

(109)

قوله تعالى: (بِالْحَقِّ): ببيان الحق. ويحتمل: (بِالْحَقِّ): بالدِّين، والدِّين هو الحق، ويحتمل: أن الآيات هي الحق. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: أي: بالأمر بالدعاء إلى الحق. ويحتمل: الحق الذي لله على عباده، ولبعضهم على بعض. وقوله: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ): والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فإذا كان ما في السماوات وما في الأرض كله له، ومن وصف في الخلق بالظلم إنما وصف؛ لأنه يضع حق بعض في بعض، ويمنع حق بعض؛ فيجعل لغير المحق، فاللَّه يتعالى عن ذلك. وقوله: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ) أي: لا يريد أن يظلمهم، وإن شئت قلت: قلت الإرادة صفة لكل فاعل في الحقيقة؛ فكأنه قال: لا يظلمهم، وكيف يظلم؟! وإنَّمَا يظلم بنفع تسرّه إليه النفس، أو ضرر يدفع به، فالغني بذاته متعال عن ذلك. وقوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) أي: إليه يرجع أمر كل أحد، فلا يحتمل الظلم أوجود الظلم منه. * * * قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وقال: " خير الناس أنفعهم للناس و (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ): أي: تأمرونهم، أن يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، والإقرار بما أنزل اللَّه، وتقاتلون عليه، ولَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هو أعظم المعروف،

والمنكر: هو التكذيب، فهو أنكر المنكر ". وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِياءِ "، قلنا: يا رسول اللَّه، وما هو؟ قال: " نُصِرتُ بِالرُّعْبِ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ، وَسُميتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِى طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأُمم ". قال الشيخ - رحمه اللَّه -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) له وجهان: أي: (كُنْتُمْ) على ألسن الرسل في الكتب المتقدمة خير أمة. ويحتمل: أي: كنتم صرتم بإيمانكم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واتباعكم ما معه - خير أمّة على وجه الأرض؛ لأنهم آمنوا ببعض، وكفروا ببعض. وقوله: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ): يتوجّه إلى وجوه ثلاثة: المعروف: هو المعروف في العقول، أي: الذي تستحسنه العقول، والمنكر: هو الذي قبحته العقول وأنكرته. ويحتمل أن يكون المعروف: هو الَّذي عرف بالآيات والبراهين أنه حسن، والمنكر: ما عرف بالحجج؛ أي: أنه قبيح. ويحتمل أن المعروف: هو الذي جاء على ألسن الرسل أنه حسن، والمنكر:، هو الذي أنكروه ونهوا عنه. فعلى هذه الوجوه يخرج تأويل الآية، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) لا شك أن الإيمان خير لهم من الكفر، ولكن معناه - واللَّه أعلم - أنهم إنما أبوا الإيمان وتمسكوا بالكفر لوجهين: أحدهما: أنهم كانوا أهل عزة وشرف فيما بينهم، وأهل دراية؛ ينتاب إليهم الناس، ويختلفون إليهم بحوائجهم، فخافوا ذهاب ذلك عنهم إذا آمنوا، فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم إن آمنوا لكان خيرًا، لهم من الذكر والشرف والعز في أهل الإيمان أكثر مما لهم في أهل الكفر؛ ألا ترى أن من آمن منهم مِنْ دَرَسة الكتاب وعلمائهم - كان لهم من الذكر

(111)

والشرف في الإيمان ما لم يكن لأحد مات منهم على الكفر؛ نحو: عبد اللَّه بن سلام، ومن أسلم منهم؛ نحو: كعب، وغيره من الأحبار؟! وإنما كانوا من علمائهم لم يكونوا من علماء أهل الإيمان، فنالوا بالإيمان من الذكر والعز والشرف ما لم ينل أحد منهم مات على الكفر، بل حمل ذكرهم وانتشر في أهلهم؛ فضلًا عن أهل الإيمان والإسلام، والله أعلم. والثاني: أنهم كانوا أبوا الإسلام واتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واختاروا المقام على الكفر؛ خوفًا وإشفاقا على ما لهم من المنافع والمنال أن يذهب ذلك عنهم بالإسلام، فأخبر - عز وجل - أنهم لو آمنوا لكان خيرًا لهم في الآخرة؛ إذ ذاك ينقطع ويذهب عن قريب، والذي لأهل الإيمان في الآخرة باق دائم، لا يزول أبدًا؛ لما كان الذي يُنال بالإيمان غيبًا، وكذلك ما يحلُّ بالكفار من جزاء الكفر - غيب اشتد عليهم الفكر والتدبر، لما يمنعهم عن الشهوات، وينغص عليهم اللذات، فآثروا ما هوته أنفسهم وتلذذوا به على التدبر، مع ما كان إدرإك الغائب بالشاهد أمر عسير، لا يوصل إليه إلا بفضل اللَّه، ولم يكن عليه ذلك لا يسقط معنى الإفضال والإنعام، ويصير حقًا مع ما كان منهم تقديم الجفاء، وإيثار زهرة الدنيا وبهجة الغنى على الموعود، واللَّه أعلم. وقوله: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ): كذلك كانوا: كان المؤمنون أقل، والكفار أكثر، واللَّه أعلم. وقوله: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ (111) فيه بشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وللمؤمنين، بالأمن لهم عن أذى المشركين وضررهم، إلا أذى باللسان؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)، وقوله: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ. . .) الآية، ونحوه من الآيات التي فيها بشارة لأهل الإيمان بالنصر لهم على

(112)

عدوهم. وفي قوله: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى. . .) الآية - دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر بذلك قبل أن يكون، فكان على ما أخبر؛ فدل أنه إنما علم ذلك باللَّه عزّ وجل. وقوله: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ (112) وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ضُربت عليهم المسكنة " وليس فيه الذلة، وفي حرف حفصة: " ضربت عليهم المسكنة والذلة ". ثم اختلف في (الذِّلَّةُ): قيل: هي الجزية التي ضربت عليهم، وهي ذلة؛ كقوله: (عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)؛ لأنهم كانوا يأنفون عنها. وقوله: (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) أي: وجدوا. (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) يعني: بعهد من اللَّه، وعهد من الناس يكون تحت قوم يؤدون الجزية؛ وكذلك تأوّل ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي: بعهد من اللَّه، وعهد من الناس. وقال مقاتل: و " الناس " في هذا الموضع: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة. ويحتمل قوله: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) بكفرهم فيما بين المسلمين، بعد ما كانوا أهل ذكر وشرف وعز فيما بينهم. (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) أي؛ لا يوجدون إلا بحبل من اللَّه وحبل من الناس - بالإسلام، أي: لا يظفرون بهم ولا يوجدون؛ إلا أن يسلموا لخوفهم على أنفسهم. وقوله: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ):

قيل: استوجبوا غضبًا من اللَّه بكفرهم. وقيل: رجعوا. وقيل: وجب عليهم الغضب. وقد ذكرنا هذا في غير موضع. واللَّه أعلم. وقوله: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ)؛ وهي الحاجة والفقر، وهو ما ذكرنا: أنهم ظاهروا المشركين على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع قربهم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعدهم بالمشركين؛ فأذلهم اللَّه - تعالى - بذلك، وجعلهم أهل حاجة وَضِعة فيما بين المسلمين، بعد ما كانوا أهل عزّ وشرف فيما بينهم؛ وهو كقوله: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. . .) الآية. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقد يحتمل رجوع الآية إلى خاص منهم، وهم الذين ذكر اللَّه في قوله: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ) الآية، وغير ذلك مما يصير فيه المسلمون. يعرف حقيقة المراد من شهد النوازل، وعرف الأسباب التي لها جاءت البشارات. ويحتمل: أن اللَّه - تعالى - جعل كل حاجاتهم إلى ما يفنى؛ وهي الدنيا التي لا بقاء لها ولا منفعة في الحقيقة، فهي حاجة، ثم بما فيهم بالجهل أن ذلك فيهم حاجة. ويحتمل: أن اللَّه مع ما وسع عليهم الدنيا - جعل في قلوبهم خوف الفقر، وأعظم الحاجات فهي المسكنة. وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ): وآيات اللَّه: ما ذكرنا في غير موضع. وقوله: (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ): يحتمل وجوهًا: يحتمل: أن أوائلهم قد قتلوا الأنبياء بغير حق، وهَؤُلَاءِ رضوا بذلك، وإن كانوا

(113)

لم يتولوا هم بأنفسهم؛ فأضاف اللَّه - تعالى - ذلك إليهم؛ لأنهم شاركوا في صنيعهم برضاهم؛ وهو كقوله: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). ويحتمل: أن يكونوا قصدوا قتل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإذا قصدوا ذلك فكأنهم قصدوا الأنبياء كلهم، كما ذكرنا في قوله: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا. . .) الآية. ويحتمل: أن يكونوا همُّوا بقتل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويحتمل: أن يكون عَيَّرَهُم بآبائهم؛ إذ هم قلدوهم في الدِّين، فبين سوء صنيعهم بالأنبياء - عليهم السلام - ليعرفوا به سفههم وسفه كل من قصد تقليدهم، والله أعلم. ويحتمل: أن يكونوا قتلوا أتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فأضاف إليه، وهو كما أضاف إليه مخادعتهم المؤمنين - إلى نفسه؛ وكما أضاف نصر أوليائه إليه، وإن كان اللَّه لا يخادع ولا ينصر؛ فعلى ذلك إضافة القتل إليه " لقتلهم الأتباع، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) وقوله: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ. . .) الآية: أي: لا سواء بين من آمن منهم -يعني: من أهل الكتاب- ومن لم يؤمن منهم؛ لأن منهم من قد آمن؛ فصاروا أمّة قائمة؛ قيل: عادلة، كقوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).

(114)

وقيل: أمة قائمة على حدود اللَّه، وفرائضه، وطاعته، وكتابه؛ لم يحرفوه. وقيل: أمة قائمة مهتدية، وهم الذين آمنوا منهم. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ) أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصلون، ولم يكن هذا للأمم السالفة. وفي حرف حفصة: " ليس أهل الكتاب ليسوا منهم أمة قائمة "؛ كقوله - تعالى -: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ. . .) كذا: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ. . .) الآية. وقوله: (وَهُم يَسْجُدُونَ): يحتمل قوله: (وَهُم يَسْجُدُونَ): أي: يصلون. ويحتمل (يَسْجُدُونَ): يخضعون، والسجود: هو الخضوع. (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) أي: يؤمنون بأنفسهم، ويأمرون غيرهم بالإيمان، ويدعون إليه، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، يعني: الكفر. ويحتمل (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ): كل معروف، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ): كل منكر، وقد ذكرنا هذا. (وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ): في الخيرات كلها. (وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ): وقيل: مع الصالحين في الجنة. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: أي: ومَنْ ذلك فعله - فهو صالح.

(115)

وقوله: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) أي: لن يرد ذلك عليكم؛ بل يقبل؛ بل تجزون به في الآخرة. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: أي: كيف يَكْفُرهُ، وهو الشكور الذي يقبل اليسير، ويعطي الجزيل؟!. وهو في حرف حفصة: " فلن تتركوه ": أي: لن تتركوه دون أن تُجزوا عليه؛ وإن قل ذلك؛ كقوله: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)، معناه - واللَّه أعلم - ما ذكر، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ). وقيل: لن يظلمكم. وقيل: لن ينقصكم. وقيل: فلن يضل عنكم؛ بل يشكر ذلك لهم، يعني: فلن يضيع ذلك عند اللَّه، والله أعلم. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ): ظاهر. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا): قال الشيخ - رحمه اللَّه -: فهو - واللَّه أعلم - أن بمثله يكون التناصر في الدُّنيا، لكن الذي كان فيها لا ينفع في الآخرة، بل يكون كما قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ. . .) الآية، ثم لا مال له، ثم ولا لو كان فينفع؛ وذلك أنهم ظنوا أن كثرة الأموال والأولاد تمنعهم من عذاب اللَّه؛ كقولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلََّّ -: أن كثرة الأموال والأولاد لا تغني عنهم من عذاب اللَّه شيئًا. وقوله: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ (117) ضرب مثل نفقة الكفار التي أنفقوها بريح فيها صر أصابت حرث قوم، وذلك - والله أعلم - أنهم كانوا ينفقون ويعملون جميع الأعمال: من عبادة الأصنام والأوثان، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ظنوا أن تلك الأعمال والنفقات

التي أنفقوها في صد الناس - تنفعهم في الآخرة، وتقربهم إلى اللَّه، فأخبر أنها لا تنفع، فكان كالريح التي فيها صرّ وبرد، ظنوا أن فيها رحمة، وشيئا ينفع زروعهم، وينمو بها، فإذا فيها نار أحرقت حرثهم؛ كما طمعوا من أعمالهم ونفقاتهم التي في الدنيا - بالآخرة؛ قربة وزلفة إليه، فإذا هي مهلكة لأبدانهم؛ كالريح التي فيها صر كانت مهلكة؛ محرقة لزروعهم وحرثهم، واللَّه أعلم. والصرّ: هو البرد الشديد. وقيل: الصر: الصوت؛ كقوله: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا). قيل. هي الصوت. قيل: مثل ما ينفقون في الصدّ عن سبيل اللَّه، وفي قتال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا. . .) والآية، أي: يتأسفون على ما أنفقوا تأسف صاحب الزرع على ما كان أنفق فيه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ): والظلم: ما ذكرنا: هو وضع الشيء في غير موضعه، فهو - واللَّه أعلم - قال: هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها، لا أن وضع اللَّه أنفسهم ذلك الموضع؛ لأنهم عبدوا غير اللَّه، ولم يجعلوا أنفسهم خالصين سالمين لله، فهم الذين ظلموا أنفسهم؛ حيث أسلموها لغير اللَّه، وعبدوا دونه، فذلك وضعها في غير موضعها؛ لأن وضعها موضعها هو أن يجعلوها خالصة لله، سالمة له. وقيل: ما ضروا اللَّه بعبادتهم غيره وبكفرهم به، إنما ضروا أنفسهم؛ إذ لا حاجة له إلى عبادتهم، واللَّه الموفق. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: تقديم وتأخير، وأصل ذلك أن اللَّه قد وضع كل نفس الخلقة بموضع العبودية، فجعلوها عبدة غيره. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ

(118)

الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ (118) اختلف فيه: قيل: نهى اللَّه المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين، أو يؤاخوهم، أو يتولوهم دون المؤمنين. وقيل في حرف حفصة: " لا تتخذوا بطانة من دون أنفسكم "، يعني: من دون المؤمنين. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " نهى اللَّه المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى، والمنافقين - بطانة دون إخوانهم من المؤمنين، فيحدثوهم ويفشوا إليهم سرهم دون المؤمنين ". والبطانة: قيل: هم الإخوان، ويجعلونهم موضع إفشاء سرهم. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: والنهي عن اتخاذ الكافر بطانة لوجهين: أحدهما: العرف به؛ إذ كل يعرف بمن يصحبه. والثاني: الميل إليه بما يريه عدوه أنه حسن العشرة وحسن الصحبة، مع ما فيه الإسقاط عما به يستعان على أمر الدِّين، والإغفال عن حقه. وقوله: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا): يقولون: لا يتركون عهدهم في إفشاء أمركم.

(119)

وقوله: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ): أي: يودون ويتمنون ما أثمتم. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: أي: ودوا أن تشاركوهم في أشياء تؤثمكم ويبعثكم عليه. وقيل: العنت: الضيق؛ أي: ذلك قصدهم؛ كالآية التي تتلوها. وقوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ): من قال: إن أول الآية في المنافقين يقول: قوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) ما ذكر في آية أخرى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)، أنهم كانوا يعرفون المنافق في لحن كلامه. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ): ما كان من التفريق بقوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)، وإظهار السرور بنكبتهم، كقوله: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ. . .) الآية. وقوله: (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ): وذلك أنهم كانوا يظهرون الموافقة لهم، ويضمرون العداوة والخلاف لهم، والسعي في هلاكهم فما كانوا يضمرون أكثر ما كانوا، يظهرون. ومن قال بأن الآية في الكفار - فهو ظاهر. وقوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ): من الشتيمة والعداوة، ويضمرون أكثر من ذلك من الفساد والشرور، واللَّه أعلم. وقوله: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ): يحتمل قوله: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) البينات، ويحتمل قوله: إن كنتم تنتفعون بعقولكم؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر في غير آي من القرآن أنهم لا يعقلون، قد كان لهم عقول لكنهم لم ينتفعوا بعقولهم، فإذا لم ينتفعوا نفى عنهم العقل رأسًا. وقوله: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ (119) من قال: إن أول الآية في المنافقين فهذا يدل له ويشهد؛ لأنه قال: (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا. .) الآية. يقول: ها أنتم يا هَؤُلَاءِ

(120)

المسلمون تحبونهم -يعني: المنافقين- ولا يحبونكم على دينكم. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وفي الآية بيان أن أُولَئِكَ قوم يحبهم المؤمنون، إمّا بظاهر الإيمان أو بظاهر الحال، منهم من طلب مودتهم، فأطلع اللَّه المؤمنين على سرهم؛ لئلا يغتروا بظاهرهم، وليكون حجة لهم ولرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما أطلعه اللَّه على ما أسروا، والله أعلم. ومن قال: إن أوّل الآية في الكفار - يجعل قوله: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ) على الابتداء، والقطع من الأول؛ لأنه وصفهم بصفة المنافقين، ووسمهم بسمتهم وليس في الأول ذلك. وقوله: (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) هو على التمثيل، يقال عند شدة الغضب: فلان يعض أنامله على فلان، وذلك إذا بلغ الغضب غايته. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ): إنما كان يغيظهم ما كان للمسلمين من السعة، والنصر، والتكثر، والعز؛ فيكون في ذلك دعاء لهم بتمام ذلك، حتى لا يروا فيهم الغير، واللَّه أعلم. وفي حرف حفصة: " قل موتوا بغيظكم لن تضرونا شيئًا إن اللَّه عليم بذات الصدور " على الوعيد. وقوله: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ (120) قال: ليس هذا وصف المنافقين في الظاهر؛ لأنهم كانوا يطمئنون عند الخيرات، لكنّه يحتمل أنهم كانوا يطمئنون بخيرات تكون لهم لا للمؤمنين: (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) ذكر في القصة أنهم إذا رأوا للمسلمين الظفر على عدوهم والغنيمة -يسوءهم ذلك، وإذا رأوا القتل والهزيمة عليهم- يفرحون به ويُسَرُّون. وقيل؛ إذا رأوا للمؤمنين الخصب والسعة -ساءهم، وإذا رأوا لهم القحط والجدب وغلاء السعر- فرحوا به، لكن هذا يحتمل في كل خير رأوا لهم -اهتموا لذلك، وفي

(121)

كل مصيبة ونكبة رأوا لهم- فرحوا بها. وقوله: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) وعد النصر بشرط: (لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)، أخبر أن المؤمنين إذا اتقوا وصبروا لا يضرهم كيدهم شيئًا، حتى يعلم أن ما يصيب المؤمنين إنما يصيب بما كسبت أيديهم. قوله: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) على الوعيد. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وقوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ). قوله: (تُبَوِّئُ): قيل: تهيئ للمؤمنين أمكنة القتال. وقيل: (تُبَوِّئُ): تنزل المؤمنين. وقيل: (تُبَوِّئُ الْمُؤمِنِينَ): تتخذ للمؤمنين مقاعد لقتال المشركين. وقيل: (تُبَوِّئُ): توطن. وقيل: تستعد للقتال. كله يرجع إلى واحد. ثم اختلف في أي حرب كان، وأي يوم؟ قال أكثر أهل التفسير: كان ذلك يوم أُحد. وقيل: إنه كان يوم الخندق. وقيل: كان يوم الأحزاب؛ فلا يعلم ذلك إلا بخبر يصح أنه كان يوم كذا، لكن في ذلك أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر، ويختارون لهم المقاعد، وعليهم تعاهد إخوانهم، ودفع الخلل والضياع عنهم ما احتمل وسعهم، وعليهم طاعة الأئمة، وقبول

(122)

الإشارة من الإمام، وذلك في قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ذكر مقاعد القتال في هذه الآية، لكن الذي لزم من ذلك في آية أخرى - ذكر الصف بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)، وذكر في آية أخرى الثبات بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)، والأصل أنهم أمروا بالثبات، فالأحسن أن يختار لهم أمكنة لهم بها معونة على الثبات، واللَّه أعلم، فيحتمل أن يكون أراد بالمقاعد القعود، وذلك أثبت للقتال وأدفع للعدو، وفيما ذكر الصف ذكر للجيلة عليه بقوله - عز وجل -: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) فيه رخصة الحملة على العدو، وباجتهاد إن كان فيها تولي الأدبار. ويحتمل أن يكون أراد بالمقاعد: الأماكن والمواطن للقتال والحرب، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). يحتمل. سميع لمقالتكم؛ عليم بسرائركم. ويحتمل: سميع بذكركم اللَّه والدعاء له؛ لأنهم أمروا بالذكر لله، والثبات للعدو بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)، وعليم بثوابكم. ويحتمل قوله: (سَمِيعٌ عَلِيمٌ): البشارة من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالنصر لهم، والأمن من ضرر يلحقهم؛ كقوله - تعالى - لموسى وهارون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) أمَّنهما من عدوهما بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَسْمَعُ وَأَرَى)، فعلى ذلك يحتمل ذا في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، ويكون سميع: أي: أسمع دعاءكم؛ بمعنى: أجيب، وأعلم ما به نصركم وظفركم، واللَّه أعلم. وقوله: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا (122) قوله: (هَمَّتْ): يحتمل: أن همُّوا هَمَّ خطر. ويحتمل: أن همّوا همّ عَزم، وكذلك هذا التأويل في قوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا)، همَّت هي هَمَّ عزم، وهمَّ هو بها همَّ خطر، وهَمُّ الخطر يقع من غير صنع من صاحبه، وهَمُّ العزم يكون بالعزيمة والقصد.

(123)

وقوله: (هَمَّت. . . أَن تَفْشَلَا) والفشل ليس مما ينهى عنه؛ لأنه يقع من غير فعله، لكنه - واللَّه أعلم - هموا أن يفعلوا فعل القتل والجبن وذكر في القصة أن الطائفتين: إحداهما كانت من بني كذا، والأخرى من بني كذا، فلا يجب أن يذكر إلا أن يقروا هم بذلك. وقيل: إنهم كانوا أقروا بذلك، وقالوا: نحن كنا فعلنا، وما نحب ألا يكون في قوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) ظهر لنا ولاية اللَّه، ولو لم يكن لم يظهر. وقوله (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا). قد ذكرنا هذا في غير موضع: أن " الولي ": قيل: هو الناصر، وقيل: هو الحافظ، وقيل: إنه أولى بهم. وقوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) قال الشيخ - رحمه اللَّه -: المؤمن من يعلم -علم اليقين- أن من نصره اللَّه لا يغلبه شيء، ومن يخذله اللَّه لا ينصره شيء. حق على المؤمنين ألا يتوكلوا ولا يثنوا إلا على اللَّه، عَزَّ وَجَلَّ. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: فتوكل: أي اعتمد على ما وعد، واجتهد في الوفاء بما عهده، وفوض كل أمره إلى اللَّه؛ إذ علم أنه -بكليته- لله، وإليه مرجعه، وبهذه الجملة عهد أن ينصر دينه، ولا يولي عدوَه دبرَه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) وقوله: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - ألا يتكلوا إلى أنفسهم لكثرتهم ولقوتهم ولعدتهم، ولا يثقوا

(124)

بأحد سواه، بل على اللَّه يتوكلون، وإليه يكلون، وبه يثقون؛ لأنه أخبر أنهم كانوا أذلة ضعفاء فنصرهم، وأمد لهم بالملائكة حتى قهر عدوهم -مع ضعفهم، وقلة عددهم- يوم بدر. ويوم أحد: كانوا أقوياء كثيري العدد؛ فوكلوا إلى أنفسهم، فكانت الهزيمة عليهم. وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ) يعني: اتقوا معاصيه قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وفيه دلالة أن الشكر إنما يكون في طاعته، واتقاء معاصيه، وأن المحنة إنما تكون في الشكر لما أنعم عليه، والتكفير لما سبق منه من الجفاء والغفلة، واللَّه أعلم. وقوله: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) وذكر في سورة الأنفال: (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)، فاختلف فيه: قيل: كانوا عشرة آلاف؛ لأنه ذكر مرة: ثلاثة آلاف، ومرة: خمسة آلاف. ومرة: ألفا - مردفين؛ فيكون ألفان، فذلك عشرة آلاف. وقيل: كانوا تسعة آلاف: ثلاثة آلاف وخمسة آلاف، وألف وقيل: كانوا كلهم خمسة آلاف: ثلاثة آلاف؛ وألفان مدد لهم. ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: كان يوم أحد. وقال آخرون: يوم بدر.

(125)

وقوله: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)، يوم بدر، ولا ندري كيف كانت القصة؟ وليس لنا إلى معرفة القصة حاجة؛ سوى أن فيه بشارة للمؤمنين بالنصر لهم، والمعونة بقوله: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) جعل في ذلك تسكين قلوب المسلمين. ثم اختلف في " قتال الملائكة ": قَالَ بَعْضُهُمْ: قاتل الملائكة الكفار. وقال آخرون: لم يقاتلوا، ولكن جاءوا بتسكين قلوبهم ما ذكر في الآية، ولا يحتمل القتال؛ لأنه ذكر في الآية: (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ)، ولو كانوا يقاتلون لم يكن لما يقلل معنى؛ ولأن الواحد منهم كاف لجميع المشركين، ألا ترى أن جبريل - عليه السلام - كيف رفع قريات لوط إلى السماء فقلبها؟! فدلّ لما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقيل: قاتلوا يوم بدر، ولم يقاتلوا يوم أحد. فلا ندري كيف كان الأمر؟. وقوله: (مُسَوِّمِينَ (125) قيل: " منزلين "؛ " ومسوّمين " سواء، وهو من الإرسال؛ ومن التسويم.

(126)

وقيل: معلمين بعلامة، وذلك - وألله أعلم - لِيُعْلِمَ المؤمنين حاجتهم إلى العلامة، لا أن الملائكة يحتاجون إلى العلامة؛ وكذلك روي عن نبيّ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأصحابه يوم بدر: " تَسَوَّمُوا؛ فإن المَلائِكةَ قَدْ تَسَوَّمَتْ). وقوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (126) ليعلم أنّ في النصر لطفًا من اللَّه لا يوصل إليه بشيء من خلقه؛ لأنه نفاه عنهم مع مدد الملائكة " ليعلم أن كل منصور على آخر - إنما كان ذلك من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ. وقوله: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (127) قال قتادة: " كان يوم بدر قتل صناديدهم وقادتهم في الشر ". وقيل: (طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا): جماعة. وقيل: (طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ. . .): يعني: أهل مكة. وقوله: (أَوْ يَكْبِتَهُمْ): قيل: يخزيهم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " الكبت: الهزيمة ". وقيل: الكبت: هو الصرع على وجهه. وقوله: (فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ):

والخائب: هو الذي لم يظفر بحاجته، أي: رجعوا ولم يصيبوا ما أمَّلوا. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ما ذكر من حضور الملائكة الحرب فهو - واللَّه أعلم - في حق محنة الملائكة، ولله أن يمتحنهم بما شاء من الحضور والمعونة، والكف عن ذلك، أو الدعاء لأوليائه بالنصر، وبما شاء اللَّه من الوجوه التي يمتحن بها عباده، وفيهم من قد امتحنه على الأرزاق والأرواح، والأمطار والأعمال، وأنواع الأذكار والأفعال؛ إذ هم خلق اصطفاهم واختارهم لعبادته وطاعته في جميع ما يأمرهم؛ ليجل به قدرهم، ويعلي رتبتهم، ثم لو أذن لهم بالمعونة أعانوا المؤمنين على قدر الإذن لهم؛ إذ هم -على ما وصفهم اللَّه-: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ). وقوله: (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ)، وغير ذلك مما وصفهم بالطاعة له، والاتباع لأمره، وما أكرمهم من هيبة جلاله، وخوف عقابه، صلوات اللَّه علمهم أجمعين. ثم كان للمؤمنين في حضورهم أنواع البشارات فيما لم يكن أذن لهم بالقتال، وأنواع الآيات فيما قد أذن لهم، على ما ذكر من أمر بدر وغيره؛ مما أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من إرسال جنوده، وهزيمة أعدائه؛ بمنه وفضله، من ذلك: ما قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية، أن يكون الله يؤيدهم بما به تشجيع قلوب المؤمنين على ما قد أمكن أعداءه من أنواع الوساوس، التي لديها تضطرب قلوبهم، وتزل أقدامهم، فمثله يمكن أولياءه في تشجيع المؤمنين، ليسكن قلوبهم، ويثبت أقدامهم، واللَّه أعلم. والثاني: أن يكون الذي جُبل عليه الخلق أن يكون كل أحد عند معاينة الحاجة إلى دعائه، وما يحتمل وسعه من معونة؛ عليه أقبل وبه أرغب؛ فيكون للمؤمنين بحضورهم رجاء النصر بدعائهم، ويخرج قوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا. . .) الآية، وقوله - تعالى -: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُم)، واللَّه أعلم. أو كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في عصرهم يبشرهم بحضورهم؛ فيكون لهم بذلك فضل ثبات وقرار حياة منهم بما أعلموا إطلاعهم على ذلك، أو يكون لهم فضل قوة بذلك، وإقبال

(128)

على الأمر؛ على ما جبل الخلق من الإقبال على الأمور المهمة، وإذا كثروا على ذلك قوله: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)، ولعلهم -أيضًا- بما يطمعون أنهم لو أطاعوا اللَّه، وثبتوا لأعدائه - أن لهم النصر والدفع، فكان ذلك بعض ما يستبشرون؛ وعلى ذلك أكثر ما بلى أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالهزيمة، إنما كان يصرف قلوبهم إلى بعض ما جبل عليه البشر من حب الدنيا، والإعجاب بالكثرة، ونحو ذلك، ثم من أعظم الأعلام في ذلك ما قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) فتكون البشارة والطمأنينة بالذي جبل عليه البشر على ما بينتُ، ويكون النصر من عند اللَّه، الذي متى أراد نصر أحد لن يغلب، قلَّت أعوانه أو كثرت، وذلك لطف من الله العزيز العليم؛ يريهم النصر من الوجه الذي لا يعلمه إلا هو، وفي حال الأنفس من أنفسهم أن يقوم لعدوهم؛ ليعلموا عظيم لطفه الذي بمثله ارتفعت درجات الأخيار، وشرفت منازلهم، ولو كان لهم بالإذن؛ على ما ذكر من قوة جبريل - عليه السلام - في قلب قريات لوط بجناح واحد، لم يكن يقوم لمثله أهل الأرض، فضلًا عن عدد يسير منهم، ولكنهم لا يتقدمون بين يدي اللَّه، واللَّه لم يكن أذن لهم في القتال عند كل مشهد، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) وقوله. (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. . .) الآية. قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ): إنما أنت عبد مأمور؛ فليس لك من الأمر؛ إنما ذلك إلى الواحد القهار، الذي لا شريك له ولا ند؛ كقوله: (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ). وقوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ. . .) الآية فيه: أنه كان من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معنى قولًا وفعلًا، حتى ترك قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)، ولكنا لا نعلم ذلك المعنى، غير أنه قيل في بعض القصة: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شج يوم أُحد في وجهه، وكسرت رباعيته، فدعا عليهم؛ فنزل قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)

(129)

وقيل: إن سرية من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، خرجوا إلى قتال المشركين يقاتلونهم حتى قتلوا جميعًا، فشق على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه بقتلهم، فدعا عليهم باللعنة - يعني: على المشركين - أربعين يومًا في صلاة الغداة؛ فنزل قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ). وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد: " اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيان، اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا، حتى لعن نفرًا منهم " فنزل قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. . .) الآية. وقيل: " إن نفرًا من المسلمين انهزموا، فشق ذلك على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فنزل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)، فأمره بكف الدعاء عنهم، واللَّه أعلم بالقصة في ذلك. وقوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ): فإن كانت القصة في الكفار فكأنه طلب التوبة والهدى، وأفرط في الشفقة فقال: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) فيهديهم لدينه، (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) على كفرهم؛ (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)؛ كقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ). فإن كان في المؤمنين فقوله: (يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عن ذنبهم الذي ارتكبوا، (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) بذنبهم، ولا يعفو عنهم، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... (129) فيه دلالة ما ذكرنا في قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) إنما الأمر إلى اللَّه، الذي له ما في السماوات وما في الأرض، هو الذي يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء.

(130)

وفي قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) وجواز العمل بالاجتهاد؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - عمل بالاجتهاد لا بالأمر، حتى منع عنه، واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه - قوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ويحتمل أن يكون على أثر أمر مما جبل عليه البشر ما رأى في ذلك صلاح الخلق، ومما عليه التدبير بحيث الإطلاق فقيل هذا، وإن كان على ما رأيت فليس لك من أمر هذا شيء، وإنَّمَا الذي إليك الصفح عن ذلك والإعراض، واللَّه أعلم ما كان. ويحتمل أن يكون يبتدئ القول به من غير أن يسبق منه ما يعاتب عليه أو يمنع منه؛ ليكون -أبدًا- مُتَقبلا الإذن له في كل شيء والأمر، ولا يطمع نفسه في شيء لم يسبق له البشارة به، على أن النهي والوعيد أمران جائزان، وإن كان قد عصم عن ركوب المنهي، ووجوب الوعيد؛ إذ هنالك تظهر رتبة العصمة، ولا قوة إلا باللَّه. والظاهر أن يكون على إثر أمر استعجل ذلك من: دعاء الإهلاك أو الهداية لقبول الحق والخضوع له؛ فيقول: ليس لك شيء من ذلك في أحد على الإشارة إليه، إنما ذلك إلى اللَّه، يصنع فيهم ما عنده من الثواب أو التعذيب، على قدر ما يعلم من إقبالهم على الطاعة له أو نفاذهم عنها، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً). قوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا) - كقوله: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) ففيه نهي عن الأخذ؛ كقوله: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ)؛ فعلى ذلك قوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا)، أي: لا تأخذوا. وقوله: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) فَإِنْ قِيلَ: ما معنى النهي عن المضاعفة وغير المضاعفة حرام؟! لكنه يحتمل هذا وجوهًا:

يحتمل: أن يكون هذا قبل تحريم الربا، فنهوا عن أخذ المضاعفة. ويحتمل قوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا): أي: لا تكثروا أموالكم بأخذ المضاعفة. ويحتمل: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)، أي: لا تصرّوا على استحلال الربا فتثبتون عليه آخر الأبد. ويحتمل. (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)؛ تضعيف العذاب. ويحتمل ما قيل: كان أحدهم يبايع الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل زاد في الربح، وزاد الآخر في الأجل، وذلك كان ربا الجاهلية. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا). يحتمل الأكل؛ لأنه نهاية كل كسب. ويحتمل الأخذ؛ كقوله: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ)، وقوله: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)، وقوله: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً): في الأخذ، أي: لا تأخذوا لتُكَثروا أموالكم، أو تقصدوا بذلك تضاعف أموالكم إلى غير حد؛ وليس فيه أن القليل ليس بمحرم، لكن ذلك هو مقصود أكله؛ فنهوا عن ذلك، وحرمة القليل بغير ذلك من ليُكَثروا أن يكون في نازلة عليها، خرج النهي لا على الإذن بدون ذلك، ولو كان على حقيقة الأكل فهو على النهي عن التوسع بالربا أو الأمر بالعود إلى ما لا ربا فيه، وإن كان

(131)

في ذلك ضيق، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون في الآية إضمار؛ فيقول: لا تأكلوا الربا؛ لأنكم إن أكلتموه بعد العلم بالتحريم - تضاعفت عليكم المآثم والعقوبات، وقد جعل اللَّه للربا أعلامًا دلت على ما غلظ شأنها؛ نحو ما وصف من لا يتقيه لا ينفيه بالخروج بحرب اللَّه وحرب رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالتخبط يوم القيامة، وانتفاخ البطن وما جرى في معاقبة اليهود، وبتحريم أشياء لمكان ذلك، وقوم شعيب ما حل بهم بلزومهم بتعاطي الربا، واللَّه أعلم، (وَاتَّقُوا اللَّهَ) ولا تأخذوا الربا ولا تستحلوه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) فيه دلالة أنها إنما أعدت للكافرين، لم تعد لغيرهم، فذلك يرد على المعتزلة؛ حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار، واللَّه - تعالى - يقول: إنها أعدت للكافرين، وهم يقولون: ولغير الكافرين. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ: يحتمل: للذين اتقوا الشرك؛ كقوله: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ). ويحتمل: للذين اتقوا جميع أنواع المعاصي: فإن كان التأويل هو الأول -فكل من لم يستحق بفعله اسم الكفر- فهو في الآية؛ إذ قال في النار: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، لم يجز أن تكون هي أبدًا لغيرهم؛ لوجهين: أحدهما: إذ لا يجوز أن تكون الجنة المتخذة للمؤمنين تكون لغيرهم؛ فكذلك النار المعدة للكافرين، وهذا أولى بجواز القول في إيجاب الجنة لمن لا يكون منه الإيمان؛ نحو الذرية، وفساد القول فيهم بالنار، واللَّه أعلم. والثاني: أنها إذا جعلت لغيرهم أو أعدت لغيرهم -كان لا يكون للكفر فضل هيبة

(132)

ولفعله فضل فزع في القلوب بوجود ذلك، ومعلوم أن ذلك بالعواقب لا بنفس الفعل- ثبت أنه لا يجب خلود من ليس بكافر فيها حتى يكون ممن أعدّت له، ولغير أثر وتحذير لا تحقيق ذلك كله، واللَّه أعلم. وإن التأويل هو الثاني من اتقاء جميع المعاصي؛ فيكون لذلك بعد عبارتان: إحداهما: أن قد ظهر أهل الجنة وأهل النار، وبينهم قوم لم تبلغ بهم الذنوب الشرك، فيدخلون في الوعيد بالنار المعدة لهم، ولا اتقوا جميع المعاصي؛ فيكونون في الوعد المطلق فيمن أعدت له الجنة؛ فحقه الوقف فيه حتى يظهر ذلك في قوله: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، وفي قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)، وقوله: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ)، الآية، وغير ذلك من آيات العفو والمغفرة، وما كان ذلك واجبًا في الحكمة، فيكون القائم به يستحق وصف العدل لا العفو والمغفرة - ثبت أن ذلك فيما قد وجب، أو يكون فيمن يجزيهم جزاءهم ويدخلهم الجنة؛ إذ أخبر أنه لا يجزي السيئة إلا بمثلها، وبالتخليد مضاعفة ذلك من وجهين: أحدهما: أنه عذاب الكفر، وهذا دونه. والثاني: منع لذة الحسنة بكليتها، بل حق ذلك أن يكون كقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) الآية، أن يجزي بالأمرين جميعًا، ولا قوة إلا باللَّه. والثاني: أنه قد جاء بمقابل السيئة من الحسنات، ومقابل كل أنواع من المعاصي من الطاعات، وقد وعد على الحسنة عشر أمثالها؛ فمحال أن يقابل مثل الذي دون الشرك من السيئات - الشرك في إحباط العمل، ولا يقابل مثل الذي دون الإيمان الإيمان في إحباط الذنوب، ويجب له الجنة، ثم مع ذلك الإيمان الذي لا أرفع منه، وهو الذي بعثه على الخوف والرجاء وقت الإساءة، وعلى أنه لو خشي على نفسه كل بلاء ورجا كل نفع في الكفر بربه - لم يؤثر ذلك مع ما وعد على الحسنة عشر أمثالها، ثم يبطل لذة ذلك كله، ويلزم الخلق القول فيه بالكرم والعفو والرحمة، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ... (132) ذكر - واللَّه أعلم - طاعة الرسول؛ لأن من الناس من لا يرى طاعة الرسول؛ فأمر - عَزَّ وَجَلَّ - بطاعة رسوله - لئلا يخالفوا أمر اللَّه ولا أمر رسوله، وأن من أطاع اللَّه ولم ير طاعة رسوله فهو لم يطع اللَّه في الحقيقة. ويحتمل: (وَأَطِيعوا اللَّهَ) في أمره ونهيه، وأطيعوا الرسول فيما بين في سننه أو دعا أو

(133)

بلغ، والقصد في الآية إلى فرض طاعة الرسول، وأطيعوا الرسول في أمره ونهيه، كما أطعتم اللَّه في أمره ونهيه. قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ). يحتمل أن يكون هذا موصولا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)، أي: لا تأخذوا الربا أضعافا مضاعفة فتكثروا أموالكم، وحقيقته: وسارعوا إلى ما فيه وعد المغفرة من ربكم: بالإجابة له إلى ما دعا، والقيام به بحق الوفاء. وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في استحلال الربا؛ لأن من استحل محرما فقد كفر، وحقيقته: اتقوا ما أوعدكم ربكم عليه النار. وأصل الطاعة: الائتمار بأمر المطاع في كل أمر، فمن أطاع اللَّه فيما أمر، وأطاع رسوله - رحمه ربه، وفي الطاعة رحمة الخلق؛ على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا؛ قَالُوا: كُلُّنَا نَرحَمُ يَا رَسُولَ اللهَ؟ قَالَ: لَيسَ رَحْمَةَ الرجُلِ وَلَدَهُ؛ وَلَكِنَّهُ رَحْمَةٌ عَامَّةٌ ". قوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ) في تحريم الربا، وأطيعوا الرسول: في تبليغه إليكم تحريم الربا والنهي عن أخذه. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ): أي: ارحموا الناس وترحموهم في ترك أخذ الربا، ترحمون أنتم، وتنجون من النار ومن عذاب اللَّه. ثم قال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ). أي: بادروا بالتوبة والرجوع عن استحلال الربا والترك عن أخذه، والمغفرة هي فعل اللَّه، لكنه - واللَّه أعلم - كأنه قال: بادروا إلى الأسباب التي بها تستوجبون المغفرة من ربكم، والمغفرة: هي الستر في اللغة. ثم يحتمل وجهين: يحتمل: ألا يهتك أستاركم في الآخرة إذا تبتم.

ويحتمل: أن ينسى عليكم سيئاتكم في الجنة؛ لأن ذكر المساوئ في الجنة تنقص عليهم نعمه، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّّ - أنه ينسيهم مساوئهم في الجنة؛ لئلا ينقص ذلك عليهم، واللَّه أعلم. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ): وبادروا -أيضًا- بالتوبة عن استحلال الربا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فمعنى ضرب مثل الجنة بضرب السماوات والأرض، وذلك - واللَّه أعلم - ذكر هو أن للسماوات والأرض أحوالًا ليست تلك الأحوال لغيرها من الخلائق؛ بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)؛ وذلك أنهما عندهم من أشد الخلائق وأقواها، فقال: إن الذي قدر على اتخاذ ما هو أشد وأقوى وأصلب - لقادر على إنشاء ما هو دونه، وهو هذا العالم الصغير. ووصف -أيضًا- السماوات والأرض بالغلظ والكثافة والشدة؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَبعَ سماوَاتٍ) (شِدادًا) وغلاظا، ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنها مع غلظها وكثافتها تكاد أن تنشق لعظيم ما قالوا بأن لله ولدًا وشريكًا بقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)؛ ليعلموا عظيم القول وقبحه؛ لئلا يقولوا في اللَّه ما لا يليق به. ووصف -أيضًا- السماوات والأرض بالدوام إلى وقت يبعد فناؤهما في أوهام الخلق، وإن كانا فانيان بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) فإذا كان للسماوات والأرض ما ذكرنا من الأحوال عند الخلق، ليست تلك الأحوال لغيرها من الخلائق؛ من شدتها وقوتها، وصلابتها وكثافتها وسعتها - شبه عرض جنته وسعتها بسعة السماوات والأرض وعرضهما؛ لما هما عند الخلق ليسا بذوي نهاية، وإن كانا ذوي نهاية وغاية؛ كما وصف أهل الجنة وأهل النار بالدوام فيهما بدوام السماوات والأرض، وإن كانا فيهما غير دائمين أبدًا؛ لبعد فنائهما عن أوهام الخلق؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وفيه دلالة أن الجنة ذو نهاية المكان في العرض، وإن لم تكن بذات نهاية الوقت وغايته؛ لأنه ذكر العرض لها، وكل ذي عرض يحتمل نهاية عرضه - واللَّه أعلم - ولو لم يكن ذا نهاية من حيث العرض، فكأن اللَّه غير موصوف بالقدرة على الزيادة، ومن زال عنه

وصف ذلك - انقطع عنه الطمع، واضمحل الرجاء. وبعد، فإن ثم دارًا أخرى سوى الجنة، فأوجب ذلك نهاية الجنة من حيث العرض. إذ كان غير الجنة دار أخرى مثلها في ارتفاع نهاية الوقت، وجائز وجود أمرين مختلفين على اتفاق في الوقت، ومحال وجودهما في مكان واحد اتفاق بمكان؛ لذلك لزم نهايتهما، وإن زالت عنهما نهاية الوقت. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ): والاتقاء: هو من الطاعة في كل أمره ونهيه، وترك مخالفته في ذلك كله، ثم سبب التقوى يكون بوجوه ثلاثة: بذكر عظمته وجلاله ورفعته عن مخالفة أمره ونهيه؛ فيذله ذلك ويحقره، فيمنعه عن مخالفته. أو بذكر نعمته وإحسانه، فيمنعه ذلك عن ارتكاب ما نهي عنه حياء منهم. والثالث: بذكر نقمته وعذابه في مخالفة أمره ونهيه؛ فيتقي بذلك عذاب اللَّه ونقمته. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، ثم فسَّرَ الذين يتقون إلى آخر ذلك، فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المراد: من أعدت له، له من جميع الذي ذكر. والثاني: أن يريد بـ (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ) اتقوا الشرك بالذي أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). ثم وصفهم بالذي ذكر من الأفعال المحمودة؛ لا أن ذلك بكليته شرط لأن يعد له الجنة حتى يحرم من لم يبلغ ذلك، فإن كان على الأول - فكأنه وصف النهاية لمن أعدّت الجنة، وقد يجوز أن يكون لهم أتباع

في الشركة، وإن لم يبلغوا تلك الرتبة بفضل اللَّه، أو بما أعطى من ذكر فيهم من الشفاعة، أو بما شاركوا أُولَئِكَ في أصل الاعتقاد بقبول ذلك، وإن كان منهم تقصير على أنه قد يذكر في كل أمر من الأمور العظيمة، والنهاية في ذلك على مشاركة من دونهم لهم في ذلك، وعلى ذلك ما ذكر من بعث الرسل إلى الفراعنة على دخول من دونه في ذلك، وعلى مخاطبة أهل الجلال في ذلك، ودخول من دونهم في الحق؛ وكذلك ذكر الخطاب في أهل الرفعة والعلو على تضمين من دون ذلك؛ فكذلك الأول؛ وكذلك اللَّه - سبحانه - ذكر في القرآن من الكفرة الذين جمعوا مع الكفر العناد والتمرد، وذكر أهل الإيمان الذين لهم مع ذلك الخيرات منّا منه، إن ذكر هَؤُلَاءِ بأعلى أما استحقوا من الثناء، والأول، بأعلى ما به يصير لمَقْته، من غير تخصيص في أصل له الوعد والوعيد، إلا من حيث التشديد والتفضيل، فمثله الأول؛ أيد ذلك قسمته أهل الجنة قسمين: السابقين، - وَأَصحَابَ اليَمِينِ، ثم قال في الذين من ذكر: الذين (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) وقد بين في آخر ذلك ما يدل على ذلك، وهو من ذكر من الذين يأتون الفواحش والظلم، ثم (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا)، ويكون في ذلك وجهان: أحدهما: أن اللَّه - تعالى - بمنِّه يوفقه لما يرضيه في آخر أمره؛ ليختمه به؛ إذ كان في وقت ارتكابه ما ارتكب، وتقصيره فيما قصر - معتقدًا جلال ربه، خائفًا عظمته، راجيًا رحمته، متعرضًا لما عرفه من الكرم والعفو، فيكون هو شريك من ذكر في الخاتمة، وإن كان منه تخلف عنه في الابتداء، واللَّه أعلم. أو أن يكون يجزيه عما قصر وفرط؛ حتى يطهره مما كان من الخلط؛ فيرجع إلى ما وافق الأول في جملة الاعتقاد، فتكون معدة لمن جمع ذلك، والجمع يكون بالذي ذكر، أو بالعفو والجود؛ إذ جعل الجزاء طريقه الجود والكرم، لا الاستحقاق، واللَّه أعلم. وإن كان على معنى الثاني - فالآية تخرج مخرج الترغيب في جميع تلك الأوصاف، وتكون الجنة في الإطلاق معدّة للمتقين، الذين اتقوا الشركة والدرجات وما فيها من الفضائل والمراتب، على قدر ما يبقى من أنواع الخلاف في الأفعال، ويتوسل إلى اللَّه - تعالى - بالمبادرة والمسارعة إلى ما فيه الرغاثب؛ وعلى ذلك أمر الوعد بتفضيل الذرجات في الجنة، وتفريق الدركات في النار، على ما أعدت النار في الجملة للكفرة، ويتفاوت أهلها بتفاوت الأفعال من الخلاف والتمرد، واللَّه الموفق.

(134)

ثم السّبب الذي به يستعان على التقوى ثلاثة: أحدها: أن يذكر المرء عظمته وجلاله وقدرته عليه في كل أحواله؛ فيتقي مخالفته بالهيبة والإجلال. والثاني: أن يذكر عظم منّته عليه، ونعمه عنده، وأياديه التي فيها يتقلب، وبها يتمتع؛ فيتقيه حياء منه. والثالث: أن يذكر نفسه عظم نقمته الموعودة، وعذابه المعد لأهل الخلاف له؛ فيتقيه إشفاقًا على نفسه، واللَّه الموفق. وجملة ذلك: أن من تأمل ما إليه مرجعه، والذي منه بدؤه وما فيه متقلبه، من أول أحواله إلى منتهي آجاله، حتى صير ذلك كله كالعيان لقلبه - سَهُل عليه وجه التقوى؛ لما عند ذلك تذهب شهواته، وتضمحل أمانيه، واللَّه الموفق. * * * قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136 وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ). قيل: السراء: الرخاء، والضراء: الشدة. وقيل: السراء: السعة، والضراء: الضيق؛ وهو واحد. وقيل: السراء: ما يسرهم الإنفاق؛ من نحو الولد وغيره، يسره الإنفاق عليه، والأجنبي يضره. وعلى تأويل الأول: أن الإنفاق في حال الرخاء والسعة - أيسر وأهون على المرء من الإنفاق في حال الضيق والفقر، فإذا أنفق في الأحوال استوجب بذلك المدح، واللَّه أعلم. والسبب الذي يُيَسرُ عليه الأمر وجهان:

أحدهما: علمه بأن الذي في يديه في الحقيقة في يد اللَّه؛ فهو يصرف ذلك حيث يصرفه، لم يخرجه من يد مَنْ يَدُهُ فِي يَدِهِ، كأنه يعد في يده. والثاني: بعلمه بجود ربه وقدرته، حيث يكون ذلك فيما به قضاء حاجته، والوصول إلى منفعته مع ما يعلم بالجود، وكثرة الانتفاع بما لا ملك للمنتفع به، وحرمان ذي الملك ذلك فيه. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ): يحتمل فيما يسرهم ويضرهم، أو في حال يسر وعسر، أو حال بلاء ونعمة. ثم السبب الذي يسهل سبيل الإنفاق في تلك الأحوال -وإن كان بالذي ذكر في تسهيل التقوى- هذا وجوه ثلاثة: أحدها: أن ترى مالك لمن له يد امتحنك بحق ذلك وحفظه، وأنك إذا بذلته ارتفعتْ عنك مئونة الحفظ، ومراعاة الحق على ما لم يكن ذاك عنك نفعه الذي كان له وقت كونه في يدك؛ إذ هو بعد البذل في يد من يدك قبله في يده، فكأنه لم يخرج من يدك بحيث النفع، وإنما سقطت عنك ما ذكرت من المئونة؛ إذ معلوم وجودها لك في الظاهر؛ لا منتفع به، ومن لا ملك له في الشيء منتفع به، على العلم باستواء الأمر على من له بذلت، واللَّه أعلم. والثاني: أن تشعر قلبك جوده بمن آثره على ما عنده، وقدرته على إعطائه إياه من خزائنه التي لا تنفد، ولا يتعذر عليه، فتيقن بذلك، وتعلم أنه لك على الإيصال إليه؛ فيما لم يكن أوصله، وعلى ذلك فيما أعطاه في القدرة واحد؛ فيهون عليه ذلك؛ واللَّه أعلم. والثالث: أن تعلم أن الذي عليه جبل وإليه دفع؛ ليس للوقت الذي فيه؛ ولكن ليتزود لمعاده، ويكتسب به الحياة الدائمة، والمنفعة التي لا تنفد، فيصير كبائع الشيء بأضعاف ثمنه، أو كباذل ما فيه فكاك رقبته، أو كمقدم ما يمتهن إلى مكان مهنته، أو كمن يعد الشيء في مسكنه لوقت حاجته، فإن مثله آثَرُ الشيء على الطبيعة، وألذ شيء في العقل. ولا قوة إلا باللَّه. ثم الأصل في قوله: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي: من لم يبلغ بما يرتكب من المعاصي - الكفر، لم يمتنع من احتمال التسمية المتقين على إرادة خصوص التقوى؛ وهو ممتنع

عن احتمال التسمية بالكفر على صرف الآية في إعداد النار إلى خصوص أو عموم، فثبت به خروج صاحب الكبائر عن أهل الاسم الذي أعدّت له النار، ولم يثبت خروجه عن أهل الاسم الذي له أعدت الجنة، فالقول فيه، وإنما ذلك في الجنة فاسد بأوجه: أحدها: مع الإشكال فيما يحرم الجنة، والإحاطة بأن النار لم يذكر أنها أعدت له أدخل فيها، فيكون في ذلك إسقاط شهادة تثبت بيقين بالشك، وإيجاب شهادة لم تجب بالخيال. والثاني: أن يكون في ذلك إسقاط اسم العفو والرحمة؛ إذ لو لم يجعل لمثله - لبطل أن يكون له موضع لما في غيره استحقاق، واللَّه أعلم. والثالث: ما فيه إسقاط الموازنة والمقابلة مع مجيء الآيات بالكتب التي تقرأ الموازين التي توزن؛ مع ما في ذلك مخالفته التوهم بالكريم الذي أمرنا أن نسميه بها؛ مع ما قد جاء من التجاوز عن السيئات والتقبل للحسنات من واحد، وفي ذلك قلب ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ). رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ كَظَمَ غَيظًا - وهُو يَقْدِر عَلَى إِنْفَاذِهِ - مَلأهُ اللهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا ". والغيظ متردد بين الحزن والغضب، والحزن على من فوقه، والغضب على من دونه، والغيظ بين ذلك، مدحهم - عَزَّ وَجَلَّ - بترديد حزنهم وغيظهم في أجوافهم.

ْوقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ). أي: عمّن ظلم. وروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، قال: " مَا عَفَا رَجُلٌ عَمَّنْ ظَلَمَهُ إِلا زَادَهُ اللهُ بِهَا عِزًّا " ومن عفا عن الناس عن مظلمة - فقد أحسن بذلك؛ كما يقال: فلان يحسن بكذا؛ ولا يحسن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). والإحسان يحتمل وجهين: يحتمل: العلم والمعرفة: ويحتمل: أن يفعل فعلًا ليس عليه من نحو المعروف والأيادي الذي ليس عليه، إنما فعله الإفضال، ذكر -هاهنا- المحسنين وحبه، وأخبر في الآية الأولى أن الجنة أعدت للمتقين بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) ثم قال: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، وأخبر أن النار أعدت للكافرين. ثم اختلفوا فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: من لم يكن من المتقين لم تعدّ الجنة له، فهو ممن أعدّت له النار، وهو قول الخوارج والبغاة. وقال آخرون: إنه أخبر أن النار أعدت للكافرين، فهو إذا لم يكن كافرًا - ليس ممّن أعدت له النار، فهو ممّن أعدّت له الجنة. وقال غيرهم: أخبر أن النار أعدت للكافرين وأخبر أن الجنة أعدت للمتقين، فوصف المتقين: فهم الذين اتقوا معاصيه، وتركوا مخالفة أمره ونهيه، فإذا كان قوم لهم مساوئ -

لم يدخلوا في إطلاق قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ولا دخلوا في قوله: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) وفيكون لهم موضعًا بالنار. وأما عندنا: فإنه يرجى دخول من ارتكب المساوئ من المؤمنين في قوله - عز وجل -: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، ذكر خلط عمل الصالح مع السيئ، ثم وعد لهم التوبة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) والعسى من اللَّه واجب. والثاني: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) فإذا تجاوز لم يبق لهم مساوئ؛ فصاروا من أهل هذه الآية: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). وقوله -أيضًا-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) وقالوا: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ). أخبر أنهم (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ): وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم لأي معنى ظلموا أنفسهم، حيث لم يسلموا أنفسهم لله خالصين، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فإذا لم يسلموا له - وضعوا أنفسهم في غير موضعها، لذلك صاروا ظلمة أنفسهم. (ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي: طلبوا لذنوبهم مغفرة، وأقروا أنه لا يغفر الذنوب إلا اللَّه. (وَلَمْ يُصِرُّوا) على ذنوبهم، والإصرار: هو الدوام عليه، ثم أخبر أن جزاء هَؤُلَاءِ المغفرة من ربهم؛ (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا. . .)، إلى آخر ما ذكر. دلّت هذه الآيات على تأييد قولنا: إن أهل المساوئ والفواحش إذا تابوا صاروا ممن أعدّت لهم الجنة، وإن لم يكونوا من المتقين من قبل، فمثله إذا تجاوز اللَّه عن سيئاتهم؛ وعفا عنهم بما هو عفو غفور، واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. . .) والآية: يحتمل أن يكون الظلم غير الفاحشة. ويحتمل أن يكون واحدًا في المراد؛ إذ قد يكون في المعنى أن كل عاص ظالم

(135)

لنفسه، بمعنى ضرّها؛ ونحس لحظها؛ إذا فعل ما ليس له الفعل ووضع اختياره في غير موضعه، وهما معنيا الظلم، وكذلك من تعدى حَدَّ اللَّه أو آثر ما يزجره العقل والشرع -فقد فحش فعله، وذلك معنى الظلم الذي وصفت؛ إذ فعل ما ليس له، واختياره غير الذي له- هو الذي يزجره العقل والشرع، واللَّه أعلم. ويحتمل وجها آخر غير هذين: وهو أن الظلم يجمع كل وجوه الخلاف؛ عظم أو صغر، ولذلك قد نسب ذلك إلى زلات الأخيار، نحو ما قيل لآدم - عليه السلام - في أكل الشجرة: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، وقيل في الشرك: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). والفواحش: ما أظهر وتبين، قبحه؛ لا ما قل أو كثر في الذنوب، وعلى ذلك النقصان ظلمًا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا)، وقد يوصف العيب والنقصان بالفحش؛ لكنه إذا كثر وظهر فمثله في الزلات، ويكون كالطيب في المحللات من المباح ونحوه في الدرجة، واللَّه أعلم. ثم ليس بنا حاجة إلى معرفة المقصود بالذكر في الآية؛ لما فيها الرجوع عن ذلك، وطلب المغفرة، وكل أنواع المآثم بالتوبة تغفر بما وعد اللَّه في الشرك، والزنا، والقتل؛ فما دونه - بقوله: (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .)، إلى تمام الآية، واللَّه أعلم. وقوله: (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً (135) يحتمل الفاحشة: ما فحش في العقل وقبح. وقال آخرون: كل محرم منهيّ فهو فاحشة. والأول كأنه أقرب؛ لأن الشيء ما لم يبلغ في الفحش والقبح غايته؛ فإنه لا يقال: فاحشة، وإذا بلغ الغاية -فحينئذ كالطيب، أنه إنما يقال ذلك إذا بلغ غايته في الحل واللذة، فأما أن يقال لكل حل في الإطلاق طيبًا- فلا، فعلى ذلك: الفواحش؛ لا يقال لكل محظور محرم، إنما يقال ما بلغ في القبح والفحش غايته، فأما أن يقال ذلك لكل محرم منهي - فلا، وباللَّه التوفيق.

(137)

والطيب: ما استطابه الطبع؛ فإذا بلغ طيبه غايته في الطبع؛ فهو طيب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُم يعْلَمُونَ) أنها معصية فلا يقيمون عليها، ولكن يتوبون، فمن تاب من ذنبه فجزاؤه ما ذكر. * * * قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ). يحتمل أحكامًا، والأحكام تكون على وجهين: حكم يجب لهم، وهو الثواب عند الطاعة، واتباع الحق، وعذاب يحل بهم عند الخلاف والمعصية. ويحتمل " السنن ": الأحكام المشروعة. (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) حتى تروا آثار من كذب الرسل وما حلَّ بهم من العذاب؛ بالتكذيب. أو (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ): أي سلوا من يعلم ما الذي حل بهم حتى يخبروكم ما مضى من الهلاك في الأمم الخالية، فهذا تنبيه من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إياهم أنكم إن كذبتم الرسول - فيحل بكم ما قد حل بمن قد كان قبلكم، وإن أطعتم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلكم من الثواب ما لهم، فاعتبروا به كيف كان جزاؤهم بالتكذيب. وما في القرآن مثل هذا فمعناه: لو سئلت لأخبروك. وقيل: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ): أي: تفكروا في القرآن يخبركم عن الأمم الماضية؛ فكأنكم سرتم في الأرض، وما في القرآن مثل هذا - فمعناه: لو سألتَ لأخبروك؛ فإن فيه خبر من كان قبلكم من الأمم، وما لهم من الثواب بالتصديق والطاعة، وما عليهم من العقاب بالتكذيب، واللَّه أعلم.

(138)

وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) يحتمل في المكذبين بالرسل والمصدقين، (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يحتمل: لو سرتم فيها لرأيتم آثارهم، ولعرفتم بذلك ما إليه ترجع عواقب الفريقين. ويحتمل: الأمر بالتأمل في آثارهم، والنظر في الأنباء عنهم؛ ليكون لهم به العبر، وعما هم عليه مزدجر. ويحتمل " السنن ": الموضوع من الأحكام، وبما به امتحن من قبلهم؛ ليعلموا أن الذي بلوا به ليس ببديع؛ بل على ذلك أمر من تقدمهم؛ كقوله. (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ)؛ وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)، واللَّه أعلم. وقوله: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ (138) يحتمل قوله: (هَذَا بَيَانٌ) يعني: القرآن؛ هو بيان للناس، وهدى من الضلالة. (وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي: يتعظ به المتقون. ويحتمل (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ): ما ذكر من السنن التي في الأمم الخالية. دل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، أن لله في صرف الدوْلة إلى أهل الشرك فعل وتدبير؛ إذ أضاف ذلك إليه ما به الدولة، ثم ذلك معصية وقهر وتذليل، فثبت جواز كون ما هو فعل معصية إلى اللَّه من طريق التخليق والتقدير، واللَّه أعلم؛ إذ ذلك لهم بما هم عصاة به - عَزَّ وَجَلَّ - واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا تَهِنُوا (139) ولا تضعفوا في محاربة العدو، ولا تحزنوا بما يصيبكم من الجراحات والقروح؛ كقوله - تعالى -: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)، ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَهِنُوا): في الحرب وأنتم تعملون لله؛ إذ هم لا

(140)

يضعفون فيها، وهم يعملون للشيطان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من إخوانكم الذين قتلوا. ويحتمل: ما أصابكم من القروح؛ أي: تلك القروح والجراحات لا تمنعكم عن قتال العدو؛ ولكم الآخرة والشهادة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ). قيل فيه بوجوه: قيل: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) في الآخرة. وقيل: (الْأَعْلَوْنَ) المحقون بالحجج. وقيل: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) في النصر؛ أي: ترجع عاقبة الأمر إليكم. ويحتمل أن النصر لكم إن لم تضعفوا في الحرب، ولم تعصوا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويحتمل: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ): لكم الشهادة إذا قتلتم؛ وأحياء عند اللَّه، وهم أموات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). ليس على الشرط؛ ولكن على الخبر؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ)، أي: إذ كن يؤمن باللَّه، وإن كنتم مؤمنين بالوعد والخبر. * * * قوله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وقوله: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ). اختلف فيه: قيل: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) في آخر الأمر؛ يعني في أُحد؛ فقد مسَّ المشركين قرح مثله يوم بدر، يذكر هذا - واللَّه أعلم - على التسكين؛ ليعلموا أنهم لم يخصوا بذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ). تحتمل الآية وجوهًا: يومًا للمؤمنين ويومًا عليهم، وذلك أن الأمر بمجاهدة العدو والقتال معهم محنة من اللَّه - تعالى - إياهم يمتحنهم ويبتليهم؛ مرة بالظفر لهم والنصر على عدوهم، ومرة بالظفر للعدو عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وكقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، يمتحن عباده، بجميع أنواع المحن، بالخير مرة، وبالشر ثانيًا. ويحتمل المداولة -أيضًا وجهًا آخر: وهو أن الظفر والنصر لو كان أبدًا للمؤمنين- لكان الكفار إذا أسلموا لم يسلموا إسلام اختيار؛ ولكن إنما آمنوا إيمان قهر وكره وجبر؛ لما يخافون على أنفسهم من الهلاك إذا رأوا الدولة والظفر للمؤمنين، وإن كان الظفر والنصر أبدًا للكفار؛ فلعلهم يظنون أنهم المحقون فيمنعهم ذلك عن الإسلام. ويحتمل أن ما يصيب بمعصية المؤمنين إنما يصيب بمعصية سبقت منهم، أو خلاف كان منهم؛ من ترك أمر أو ارتكاب نهي، واللَّه أعلم. فإن طعن طاعن من الملاحدة في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ)، أليس وعد أنكم إن نصرتم دينه ينصركم، وأخبر -أيضًا- أنه إن نصركم فلا غالب لكم، فإذا نصرتم دينه فلم ينصركم؛ أليس يكون خلفًا في الوعد؟ أو إن نصركم فغلبتم يكون كذبًا في الخبر. قيل: لهذا جواب من أوجه: قيل: يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: إن تنصروا دين اللَّه في الدنيا ينصركم في الآخرة بالحجج؛ كقوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا). وقيل: إن تنصروا دين اللَّه ولم تعصوا اللَّه فيه - ينصركم؛ فلا غالب لكم. وقيل: يحتمل: إن تنصروا دين اللَّه جملةً - ينصركم؛ كقوله - عليه السلام -: " لَنْ يُغْلبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِن قِلَّةٍ، كَلِمَتُهُم وَاحِدَة " وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ

مَا سَأَلْتُمُوهُ). وقيل: إن تنصروا دين اللَّه ينصركم؛ أي: يجعل الظفر؛ والنصر في العاقبة لكم، وكذلك: وإن كان في ابتداء الأمر الغلبة على المؤمنين؛ فإن العاقبة لهم في الحروب كلها، ومقدار ما كان عليهم إنما كان لأمر سبق منهم: إمَّا إعجابًا بالكثرة؛ كقوله - تعالى -: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا)، وإما خلافًا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) دلالة أن كان من اللَّه معنى لديه تكون الغلبة لهم؛ بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ) ولكان هو يجعل أبدًا الدولة لأحد الفريقين، وقد أخبر أنه يجعل لهما، ومعلوم إن كانت الدولة بالغلبة، فثبت أن من اللَّه في صنع العباد - صنع له أضيف إليه صنيعهم، واللَّه أعلم. ثم معلوم أن الغلبة لو كانت للمسلمين - كان ذلك ألزم للحجة، وأظهر للدعوة، وأدعى إلى الإجابة، وفيها كل صلاح، فثبت أن ليس في المحنة شرط إعطاء الأصلح، واللَّه أعلم. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) رد قول الأصلح؛ حيث قالوا: إن اللَّه لا يفعل إلا الأصلح في الدِّين، يقال لهم: أي صلاح للمؤمنين في مداولة الكافرين على المؤمنين؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا): أي: ليعلم ما قد علم بالغيب أنه يؤمن بالامتحان مؤمنًا شاهدًا، وليعلم ما قد علم أنه يكون كائنًا. وجائِز أن يراد بالعلم: المعلوم؛ كقوله: الصلاة أمر اللَّه، أي: بأمر اللَّه. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية، تخرج على أوجه:

أحدها: أن ما وصفت اللَّه به إذا ذكرت معه الخلق - تذكر وقت كون الخلق؛ لئلا يتوهم قدمه، وإذا وصفت اللَّه - تعالى - بلا ذكر الخلق وصفته به في الأزل؛ نحو أن تقول: عالم، قادر، سميع - في الأزل، فإذا ذكرت المسموع والمقدور عليه والمعلوم - ذكرت وقت كونه؛ لتزيل توهم القدم على الآخر؛ وعلى هذا عندنا القول بـ " خالق " " رازق " ونحو ذلك، واللَّه أعلم. والثاني: على تسمية محلومة علمًا في مجاز اللغة؛ وذلك كما سمّى عذاب اللَّه في القرآن أمره، وسمى الناس الصلاة -وغيرها من العبادات- أمره، على معنى أنها تفعل بأمره؛ وكذلك ما سميت الجنة رحمته، على أن كان فيها؛ فيكون: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا): أي: ليكون الذين آمنوا على ما علمه يكون، واللَّه أعلم. والثالث: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) في الغيب شهودا؛ إذ هو عالم الغيب والشهادة، وتحقيق ذلك لا يكون بحادث العلم، وذلك نحو من يعلم الغد يكون؛ يعلمه بعد الغد، وإن لم يكن له حدوث العلم قد كان؛ وعلى هذا قيل: ليعلمه كائنًا لوقت كونه ما قد علمه يكون قبل كونه، واللَّه أعلم. وقال بعض أهل التأويل: ليكون الذي علمه يكون بالمحنة ظاهرًا موجودًا، وهو يرجع إلى ما بيّنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليراه، وهذا من صاحبه ظن أن الكلام في الرؤية لعله أيسر، وعن التشبيه أبعد، وعند من يعرف اللَّه حق المعرفة: هما واحد. والأصل في هذا ونحوه في الإضافات إلى اللَّه: أنها كانت بالأحرف المجعولة المتعارف في الخلق، ثم هي تؤدي عن كل ما يضاف إليه، ويشار إليه ما كان عرف من حال ذلك قبل الإضافة، لا أن يقدر عند الإضافة معنى لا نعرفه به لولا ذلك، على ما عرف من الاشتراك في اللفظ والاختلاف في المعنى؛ فعلى ذلك أمر الإضافة إلى اللَّه - تعالى - ويوضح ذلك ما لم يفهم أحد من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ)، ما فهم من إضافة الحدود إلى غيره؛ وكذلك بيوت اللَّه، وعباد اللَّه، وروح

اللَّه وكلمته، ونحو ذلك، فمثله الذي نحن فيه. وجائز -في الجملة- أن يوصف اللَّه بأنه لم يزل عالمًا بكون كل ما يكون كيف يكون؟ وفي وقت كونه كائنًا؛ وبعد كونه قد مضى كونه؛ على تحقيق التغير في أحوال الذي يكون لا في اللَّه - سبحانه وتعالى - إذ تغير الأحوال واستحالتها من آيات الحدث وأمارات الصنعة. قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ): قيل فيه بوجهين: أحدهما: " ولم يعلم "، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: على إثبات أنه علم أنهم لم يجاهدوا؛ كقول الناس: ما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن، أي: شاء ألا يكون، لا يكون. والثاني: أنه عالم بكل شيء، فلو كان منكم جهاد لكان يعلمه، وإنما لم يعلمه؛ لأنه لم يكن؛ وعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، أي: ليس لهم. والثاني: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا يَعْلَمِ) بمعنى: إلا؛ كقوله: (لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) - بالتشديد - بمعنى: إلا عليها حافظ؛ فيكون معنى الآية: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)؟! لا تدخلوها إلا أن يعلم اللَّه مجاهدتكم، أي: حتى تجاهدوا فيعلم اللَّه ذلك منكم موجودًا، واللَّه أعلم. وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي: ليعلم ما قد علم أنه يصير صابرًا؛ وكذلك قوله: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، أي: ليعلمن الذين قد علم أنهم يصدقون - صادقين، وليعلمن الذين قد علم أنهم يكذبون - كاذبين، وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ)، أي: حتى يعلم ما قد علم أنهم يجاهدون - مجاهدين، وأصله: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ليعلم شاهدًا ما قد علم غائبًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) أي: يستشهدون في سبيل اللَّه بأيدي عدوهم.

(141)

ويحتمل: ويتخذ منكم شهداء على الناس؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، وفيه دلالة أنهم لا يستوجبون بنفس الإيمان الشهادة على الناس، حتى تظهر الصيانة والعدالة في أنفسهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا (141) أي: يمحص ذنوبهم وسيئاتهم. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ): أي: يهلكهم ويستأصلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا): ما ذكرنا من تمحيص الذنوب على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " السَّيفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ ". (وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ): أي: يهلكهم، ولا يكون السيف تمحيصًا لهم من الكفر، بل يهلكهم في النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ (142) قيل: بل حسبتم أن تدخلوا الجنة. (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ). قيل فيه بوجهين: قيل: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ): أي: ولم يعلم اللَّه الذين جاهدوا منكم؛ أي: لم يجاهدوا. وقيل: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)، و " لما " بمعنى: " إلا يعلم "، بمعنى: لا تدخلون الجنة إلا أن يعلم اللَّه الذين جاهدوا منكم؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ): من قرأ بالتشديد؛ فكان معناه:، إلا عليها حافظ "، ومن قرأ بالتخفيف؛ فمعناه: لَعَلَيها حافظ، و " ما " صلة. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)، أي: ظننتم ذلك، (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)، وقال في موضع آخر: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الآية.

(143)

بمعنى: ولم تجاهدوا، ولم يصبكم مثل الذي ذكر؛ ففي ذلك وعد أن يصيب أُولَئِكَ الذين خاطبهم به ما أصاب من تقدمهم، وأن اللَّه قد يعلم أنهم يجاهدون قبل الموت؛ وعلى هذا قال قوم في تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ): أن يدخلوا الجنة إذا أصابهم مثل الذي أصاب من تقدمهم، واللَّه أعلم. فيكون تأويل (لَمَّا): ولم، والألف صلة. وقيل: يحتمل بالتشديد منه: إلا؛ كما قيل في تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) بالتشديد: " إلا عليها حافظ "؛ فيكون بمعنى الإضمار: لا تدخلوا إلا أن يعلم اللَّه الذين جاهدوا منكم، وقد بينا ما في العلم في الحرف الأول على أنه له وجهان -أيضًا-: أحدهما: أن اللَّه لم يعلم بذلك، وهو العالم بكل شيء فلو كان: لكان يعلمه. والثاني: أن يعلموا أن يكونوا لم يجاهدوا بعد، وسيجاهدون على ما بينا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وقوله: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ): قيل فيه بوجهين: قيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: تمنون ما فيه الموت، وهو القتال. وقيل: تمنون الموت نفس الموت. ثم يحتمل وجوهًا: يحتمل: يتمنون إشفاقًا على دينهم الإسلام؛ لئلا يخرجوا من الدنيا على غير دينهم الذي هم عليه، ويحتمل أن يكونوا تمنوا الموت، لينجوا أو يتخلصوا من تعذيب الكفار إياهم وتغييرهم؛ على ما قيل: إن أهل مكة كانوا يعذبونهم، طلبوا النجاة منهم

(144)

والخلاص، واللَّه أعلم. وقيل: يتمنون الموت، أي: يتمنون الشهادة؛ لما سمعوا لها من عظيم الثواب وجزيل الأجر، تمنوا أن يكونوا شهداء لله - عَزَّ وَجَلَّ - أحياء عند ربهم، واللَّه أعلم. وقيل: في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ): وذلك حين أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّّ - عن قتلى بدر، وما هم فيه من الخير؛ فتمنوا يومًا مثل يوم بدر؛ فأراهم اللَّه يوم أحد فانهزموا، فعوتبوا على ذلك بقوله: (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)، يعني: يوم أحد. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ). يحتمل أيضًا، وجوهًا: يحتمل: فقد رأيتم أسباب الموت وأهواله. ويحتمل: فقد رأيتم أصحابكم الذين قتلوا بين أيديكم، على تأويل من صرف قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) إلى القتال، واللَّه أعلم. وقوله - عزّ وجلّ -: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). يحتمل: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)؛ إلى الموت، يعني: إلى موت أصحابكم أو إلى القتال. ويحتمل: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)، أي: تعلمون أنكم كنتم تمنون الموت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (144) يحتمل هذا وجهين: يحتمل - واللَّه أعلم -: أن يقول لهم: إنكم لما آمنتم بمحمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث لم تؤمنوا به؛ لأنّه مُحَمَّد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن آمنتم بالذي أرسله إليكم، والمُرسِل حي، وإن كان مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قتل أو مات على زعمكم؛ فكيف انقلبتم على أعقابكم؟!.

قال الشيخ - رحمه اللَّه -: في الآية خبر بانقلاب من علم اللَّه أنه يرتد بموت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ). والشاكرون: الذين جاهدوهم، قد أخبر اللَّه - تعالى - أنه يحبّهم ويحبّونه. وقال الحسن: إن أبا بكر الصّديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان - واللَّه - إمام الشاكرين. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن من كان قبلكم من قوم موسى وعيسى - عليهما السلام - كانوا يكذبون رسلهم ما داموا أحيّاء؛ حتى قال لهم موسى - عليه السلام - (يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)، وكذلك قال عيسى - عليه السلام -: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا) الآية، فإذا ماتوا ادعوا أنهم على دينهم، وأنهم صدقوهم فيما دعوهم إليه، وإن لم يكونوا على ذلك، فلم ينقلبوا على أعقابهم؛ فكيف تنقلبون أنتم على أعقابكم إن مات مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو قتل؟!. والانقلاب على الأعقاب: على الكناية والتمثيل، ليس على التصريح، وهو الرجوع إلى ما كانوا عليه من قبل من الدِّين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا): أي: من ارتد بعد الإسلام فلن يضرّ اللَّه شيئًا؛ لأنه لم يستعملهم لنفسه، ولكن إنما استعملهم لأنفسهم؛ ليستوجبوا بذلك الثواب الجزيل في الآخرة، فإنما يضرون بذلك أنفسهم، لا اللَّه - تعالى. والثاني: أنه إنما يأمرهم ويكلفهم؛ لحاجة أنفسهم، لا أنه يأمر لحاجة نفسه، ومن أمر آخر في الشاهد: إنما يأمر لحاجة نفس الآمر، فإذا لم يأتمر لَحِق ضرر نَفْس ذلك الآمر، فإذا كان اللَّه - سبحانه - يتعالى عن أن يأمر لحاجته؛ وإنما يأمر لحاجة المأمور، فإذا ترك أمره - ضر نفسه، وباللَّه التوفيق. (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ): قيل: الموحّدين لله.

(145)

وقيل: الذين آمنوا وجاهدوا يجزيهم في الآخرة، وكل متمسك بأمر اللَّه ومؤتمر بأمره فهو شاكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ (145) يحتمل قوله: (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي: لا يموت إلا بقبض المسلط على قبض الأرواح - روحه؛ كقوله: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ): إن مات أو قتل. ويحتمل: (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ): إلا بعلم اللَّه. (كِتَابًا مُؤَجَّلًا): قيل: وقتًا موقتًا، لا يتقدم ولا يتأخر، مات أو قتل، ما لم تستوف رزقها وأجلها. وقيل: (كِتَابًا مُؤَجَّلًا)، أي: مبينًا في اللوح المحفوظ، مكتوبًا فيه. وقوله: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا): أي: من أراد بمحاسن أعماله الدنيا نؤته منها. (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ): أي: من يرد بأعماله الصالحات ومحاسنه الآخرة نؤته منها. [(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)]: وهو كقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) على قدر ما قدر (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)؛ فكذلك هذا -أيضًا- واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ):

قيل: فيه لغات: أحدها: " قاتل معه " بالألف، وتأويله: وكم من نبي قاتل معه ربيون كثير، فقتل؛ على الإضمار. والثاني: " وكم من نبيّ قُتِل معه ربيون كثير "، برفع القاف. والثالث: " وكم من نبي [قَاتَلَ] معه ربيون كثير " بالنصب. ومعنى الآية - واللَّه أعلم -: كم من نبي قتل معه ربيون كثير، فلم ينقلب أتباعه على أعقابهم؛ بل كانوا بعد وفاتهم أشد اتباعًا لهم من حال حياتهم؛ حتى قالوا: لن يبعث الله من بعده رسولا؛ فما بالكم يخطر ببالكم الانقلاب على أعقابكم، إذا أخبرتم أنه قتل نبيكم أو مات؟!. وفي إنباء هذه الأمة قصصَ الأمم الخالية وأخبارهم - وجهان. أحدهما: دلالة إثبات رسالة رسولنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم علموا أنه لم يختلف إلى أحد منهم ممن يعلم هذا، ثم أخبر بذلك، فكان ما أخبر؛ فدل أنه علم ذلك باللَّه. والثاني: العمل بشرائعهم وسننهم، إلا ما ظهر نسخه بشريعتنا؛ ألا ترى أنه ذكر محاسنهم وخيراتهم؛ وإنما ذكر لنتبعهم في ذلك ونقتدي بهم، وذكر مساوئهم وما لحقهم بها؛ لننتهي عنها ونكون على حذر مما أصابهم بذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ): اختلف فيه - عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " عالم كثير "، وعنه -أيضًا-: " الجموع الكثير ". وعن الحسن - رحمه اللَّه - مثله.

(147)

وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الألوف. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)، يقول: قاتل؛ ألا ترى أنه يقول: (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ). ثم اختلف في قوله: (فَمَا وَهَنُوا) (وَمَا ضَعُفُوا). قيل: فما وهنوا في الدِّين، وما ضعفوا في أنفسهم في قتال عدوهم بذهاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بينهم؛ فما بالكم تضعفون أنتم؟! ويحتمل قوله: (فَمَا وَهَنُوا)، يعني: فما عجزوا لما نزل بهم من قتل أنبيائهم، وما ضعفوا في شيء أصابهم في سبيل اللَّه من البلايا. وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا وَهَنُوا) يرجع إلى: (قَاتَلَ) إلى المقاتلين وفي " قتل " إلى الباقين. وقوله: (وَمَا اسْتَكَانُوا): قيل: لم يذلّوا في عدو لهم، ولم يخضعوا لقتل نبيهم؛ بل قاتلوا بعده على ما قاتلوا معه؛ فهلا قاتلتم أنتم على ما قاتل عليه نبيكم؛ كما قاتلت القرون من قبلكم إذا أصيب أنبياؤهم، واللَّه أعلم. (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ): على قتال عدوّهم، وعلى كل مصيبة تصيبهم. وقوله: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا (147) قيل: وما كان قول الأمم السالفة عند قتل نبيهم - إلا أن قالوا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) الآية، يقول: يعلِّمُ اللَّه هذه الأمة ويعاتبهم: هلا قلتم أنتم حين نُعِي إليكم نبيكم كما قالوا القوم في الأمم السالفة؟!.

(148)

وقوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)، قيل: الذنوب: هي المعاصي. وقوله: (وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا): والإسراف: هي المجاوزة في الحد، والتعدّي عن أمره. وقيل: هما واحد. وقوله: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا). يحتمل وجهين: يحتمل: ثبتنا على الإيمان، ودين الإسلام، والقَدمُ كناية؛ كقوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) أي: تكفر بعد الإيمان، وكقوله: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)؛ وذكر القدم لما بالقدم يثبت. ويحتمل قوله: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) وفي قتال العدو، وفزعوا إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بعد ذهاب نبيّهم من بينهم؛ ليحفظهم على ما كان يحفظهم في حياة نبيهم. وقوله: (وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ): يحتمل: النصر عليهم بالحجج والبراهين. ويحتمل: النصر بالغلبة والهزيمة عليهم. وقوله: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا (148) يحتمل ثواب الدنيا: الذكر والثناء الحسن، وهم كذلك اليوم نتبعهم ونقتدي آثارهم وهم موتى. ويحتمل -: على ما قيل-: النصر والغنيمة. وقوله: (وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ): الدائم، وذُكِر في ثواب الآخرة " الحُسْن "، ولم يذكر في ثواب الدنيا الحسن؛ لأن

(149)

ثواب الآخرة دائم لا يزول أبدًا، وثواب الدنيا قد يزول، أو أن يشوب في ثواب الدنيا آفاتٌ وأحزان؛ فينقص ذلك، وليس ثواب الآخرة كذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الإحسان يحتمل وجوهًا ثلاثة: يحتمل: المحسن: العارف، كما يقال: فلان يحسن ولا يحسن. ويحتمل: المعروف من الفعل -مما ليس عليه- يصنع إلى آخر؛ تفضلًا منه وإحسانًا. ويحتمل: اختيار الحسن من الفعل على القبيح من الفعل والسوء؛ وكان كقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ): هذا يختار المحاسن من الأفعال على المساوئ، والله أعلم. ويحتمل: المحسنين إلى أنفسهم باستعمالها فيما به نجاتها. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ): يحتمل الطاعة لهم: طاعة الدِّين، أي: يطيعونهم في كفرهم. ويحتمل: الطاعة لهم في ترك الجهاد مع عدوهم؛ كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً) والآية، وقوله: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ). قد ذكرنا، أي: يردوكم على دينكم الأول، وهو على التمثيل والكناية، واللَّه أعلم. وقوله: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ (150)

(151)

أي: أولى بكم، أو ناصركم، أو حافظكم، أو وليكم. (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ): أي: خير من ينصر من نصره؛ فلا يغلب، كقوله: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ). وقوله: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (151) هذه بشارة من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر له؛ حيث أخبر أنه يلقي في قلوبهم الرعب، وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " نُصِرتُ بِالرعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ "، وكان ما ذكر؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يأتيهم بعد ذلك ويقصدهم، لا أنهم أتوه، وكانوا قبل ذلك يأتون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويقصدونه. وقوله: (بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا): أي: بالشرك ما فذف في قلوبهم من الرعب، من غير أن كان لهم بما أشركوا حجة أو كتاب أو برهان أو عذر؛ قال ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " السلطان في القرآن حجة ". وقوله (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ): أي: مقامهم في النار. (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ): أي: النار بئس مقام الظالمين. وقوله: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ (152) أي: أنجز اللَّه وعده؛ حيث أخبر أنه يلقي في قلوبهم الرعب، وقد فعل. (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ): قال أهل التفسير: [إذ تَقْتُلُونَهُمْ] (¬1). وقوله: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ): ¬

_ (¬1) في الكتاب المطبوع هكذا [إذ تضلونهم]، والصواب من تفسير القرطبي وغيره. ما أثبتناه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

هو على التقديم والتأخير: " حتى إذا تنازعتم وفشلتم "؛ إذ التنازع هو سبب الفشل والجبن؛ كقوله: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) وقيل: في القصّة: إن نفرًا من رماة أمرهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يكونوا في مكان، وألا يدعوا موقفهم، فتركوه ووقعوا في غنائمه؛ فعوقبوا على ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ)، يحتمل: ما أراكم ما تحبون من الهزيمة والغنيمة. ويحتمل: ما أراكم من النصر لكم على عدوكم، وإنجاز الوعد لكم. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ): روي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " ما كنا نعرف أن أحدًا من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يريد الدنيا، حتى نزل قوله:، (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا). وقوله: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ). روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله - تعالى -: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ)، يعني: هُزِمَ المسلمون، يقول: صرفوا عن المشركين منهزمين، بعد إذ كانوا هزموهم، لكن لما عصوا وتركوا المركز صرفهم اللَّه عن عدوه: (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي: ذلك الصرف كان لكم من اللَّه ابتلاء ومحنة. وقيل: كان ذلك العصيان -الذي منكم كان- من اللَّه ابتلاء؛ ليعلم من قد علم أنه يعصي عاصيًا، واللَّه أعلم. ودلّ قوله - عَزَّ وَجَلَّّ -: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) - وإن كان الانصراف فعلهم -أن الله

لفعلهم - على ما عليه فعلهم - خالقٌ، وأن خلق الشيء ليس هو ذلك الشيء؛ إذ ذلك الشيء إذا كان انصرافًا عن العدو معصيّة، وقد تبرأ اللَّه - تعالى - عن أن تضاف إليه المعاصي، وقد أضاف انصرافهم إلى فعله وهو الصرف - ثبت أنه غير فعلهم، واللَّه أعلم. (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ): يحتمل وجهين: يحتمل: (عَفَا عَنْكُمْ)؛ حيث لم يستأصلكم بالقتل. ويحتمل: (عَفَا عَنْكُمْ)؛ حيث قبل رجوعكم وتوبتكم عن العصيان. وهذه الآية قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ)، وقوله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) - ترد على المعتزلة؛ وكذلك قوله - تعالى -: (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَليهِمُ القَتلُ)، إلى آخر الآية؛ لأنهم يقولون: هم الذين صرفوا أنفسهم لا اللَّه، وهم الذين كتبوا عليهم القتل لا اللَّه، وهم الذين يداولون لا اللَّه، وقد أضاف - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك إلى نفسه؛ فعلى ذلك لا يضيف إليه إلا عن فعل وصنع له فيه؛ ولأنهم يقولون: لا يفعل إلا الأصلح لهم في الدِّين، فأي صلاح كان لهم في صرفه إياهم عن عدوهم؟! وأي صلاح لهم فيما كتب عليهم القتل؟! فدل أن اللَّه قد يفعل بعباده ما ليس ذلك بأصلح لهم في الدِّين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ): بالعفو عنهم، وقبول التوبة؛ حيث عصوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتركوا أمره، وعلى قول المعتزلة عليه أن يفعل ذلك؛ فعلى قولهم ليس هو بذي فضل على أحد، نعوذ باللَّه من السرف في القول. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: الفائدة في تخصيص المؤمنين بالامتنان عليهم دون جملة من بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيهم ومنهم، مع ما ذكر منته بالبعث من أنفسهم، وقد بيّنا وجه المنة في البعث من جوهر البشر - وجهان: أحدهما: أن من لم يؤمن به لم يكن عرف نعمة من اللَّه - تعالى - وإن كان - في الحقيقة - نعمة منه لهم، ورحمة لهم وللعالمين، فخص من عرفه ليشكروا له بما ذكرهم؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) أي: هم يقبلون ويعرفون حق الإنذار.

(153)

والثاني: أنه صار لهم حجة على جميع الأعداء: أنهم لا يطيعون لمعنى كان منهم، إلا وللمؤمنين عليهم وجه دفع ذلك بما كان عليه ما عرفوه به قبل الرسالة؛ لما فيه لزوم القول بصدقه؛ فيكون ذلك منة لهم وسرورًا ونعمة عظيمة؛ فاستأداهم اللَّه لشكرها، ولا قوة إلا باللَّه. * * * قوله تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ): فيه لغتان: " تَصْعدون " بفتح التاء، وهو من الصعود أن صعدوا الجبل، " وتُصعدون " بالرفع، وهو أن أصعدوا أصحابهم نحو الوادي؛ لأن المنهزم الأوّل إذا التفت فرأى منهزمًا آخر اشتد. وقيل: الإصعاد هو الإبعاد في الأرض. وقيل: تَصْعدون من صعود الجبل، وتُصعدون في الوادى من الجبل. وقوله: (وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ): أي: لا تلتفتون على أحد، ولا ترجعون. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ).

أي: الرسول يدعوكم وينادي وراءكم: إلَيَّ أنا الرسول. وقيل: يناديكم من بعدكم: إِلَيَّ أنا رسول اللَّه يا معشر المؤمنين، وكان يصل نداؤه في أخراهم بأولهم بعضهم ببعض، فلم يرجعوا إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ): اختلف فيه، قيل: غمّ الأول: الهزيمة والنكبة التي أصابتهم، والغم الآخر: الصوت الذي سمعوا: قُتِل مُحَمَّد - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - فذلك غم على غم. ويحتمل: (غَمًّا): بعصيانهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اغتموا، والغم الآخر: أن كيف يعتذرون إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتركهم المركز، وعصيانهم إياه والخلاف له. وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ): أي: مرة بعد المرة الأولى. وقيل: (غَمًّا بِغَمٍّ)، أي: هزيمة بعد هزيمة: أصابتهم هزيمة بعد هزيمة من قتل إخوانهم، وإصابتهم الجراحات. وقيل: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا): بعصيانكم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، (بِغَمٍّ): الذي أدخلوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بترككم المركزَ والطاعةَ له، وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) وهو غم الهزيمة والنكبة، بالغم الذي أدخلوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في عصيانهم إياه، وإهمالهم المَقْعَد الذي أمرهم بالمقام فيه. وقيل: غمًا بالغم الذي له تركوا المركز، وهو أن غمهم اغتنام أصحابهم. وقيل: غم الاعتذار إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالغم الذي جنوه به؛ حيث مالوا إلى الدنيا، وعصوه فيما أمرهم. وقيل: غمًا على أثر غم، نحو: القتل، والهزيمة، والإرجاف بقتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وحقيقته: أن يكون أحد الغمين جزاء، والآخر ابتداء، وفي ذلك تحقيق الزلة والجزاء؛ وذلك كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ).

(154)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ): يعني: من الفتح والغنيمة، ولا ما أصابكم من القتل والهزيمة. ويحتمل قوله: (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) من الدنيا، (وَلَا مَا أَصَابَكُمْ): فيها من أنواع الشدائد؛ بما أدخلتم على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الغمّ بعصيانكم إيّاه. (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ): على الوعيد. وقوله: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ (154) قيل فيه بوجهين؛ قيل: الطائفة التي أتاهم النعاس هم المؤمنون، سمعوا بانصراف العدو عنهم فصدقوا الخبر فناموا؛ لأن الخوف إذا غلب يمنع النوم، وأمَّا الطائفة التي قد أهمتهم أنفسهم هم المنافقون، لم يصدّقوا الخبر فلم يذهب عنهم الخوف، فلم ينعسوا؛ وذلك كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا) الآية. وقيل: كانت الطائفتان جميعًا من المؤمنين، لكن إحداهما قد أتاها النعاس؛ لما أمنوا من العدو، والأخرى لا؛ بعصيانهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وترْكِهم أمره منع ذلك النوم عنهم؛ إذ كيف يلقون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكيف يعتذرون إليه؟ واللَّه أعلم. وعن ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - قال: " النُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيطَانِ، وَفِي القِتَالِ أَمَنَة مِنَ اللَّه ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ): قيل: يظنون باللَّه ألا ينصر محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ذا في غير المؤمنين. وقيل: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) [ظنونًا] كاذبة، إنما هم أهل شرك وريبة في أمر اللَّه، يقولون: [(لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)]. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقُوُلونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ): قيل: يقولون بعضهم لبعض: (هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ)، يعني بالأمر: النصر

والغنيمة. وقيل: قالوا ذلك للمؤمنين. (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) يعني النصر والفتح كلّه بيد اللَّه. (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ): والذين يخفون قولهم: لو أقمنا في منازلنا ما قتلنا هاهنا، وقيل: يقولون: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)، قالوا: ليس لنا من الأمر من شيء؛ إنما الأمر إلى مُحَمَّد، ولو كان الأمر لنا ما خرجنا إلى هَؤُلَاءِ حتى قتلنا هاهنا. قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ): قيل: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) كما يقولون: (لَبَرَزَ)، يعني: لخرج من البيوت (الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ)؛ ليقتلوا. وقيل: من كتب عليه القتل يظهر الذي كتب عليه حيث كان. وقيل: إذا كتب على أحد القتل لأتاه، ولو كان في البيت، وكقوله: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)، وقيل: متى كتب اللَّه على قوم القتل فلم يموتوا أبدًا؟! وفي هذا بيان أن الآجال المكتوبة هي التي تنقضي بها الأعمار: إن كان قتلًا فقتل، وإن كان موتًا فموت، لا على ما قالت المعتزلة: إن القتل تعجيل عن أجله المكتوب له وعليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ): والابتلاء هو الاستظهار؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) تبدي وتظهر، وذلك يكون بوجهين: يظهر بالجزاء مرة، ومرة بالكتاب، يعلم الخلق من كانت سريرته حسنة بالجزاء، وكذلك إذا كانت سيئة، أو يعلم ذلك بالكتاب.

(155)

وقوله - تعالى -: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ)، أي: ليظهر اللَّه للخلق ما في صدورهم مما مضى، وليجعله ظاهرًا لهم. (وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) من الذنوب. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " الابتلاء والتمحيص هما واحد ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ): يقول: هو عالم بما في صدورهم من سرائرهم، ولكن يجعلها ظاهرًا عندكم. ويحتمل الابتلاء -هاهنا- الأمر بالجهاد؛ ليعلموا المنافق منهم من المؤمن، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ (155) يعني: إن الذين انصرفوا عن عدوهم مدبرين منهم منهزمين يوم التقى الجمعان: جمع المؤمنين، وجمع المشركين. وقوله: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا): أي: إنما انهزموا ولم يثبتوا خوفًا أن يقتلوا بالئبات؛ فيلقوا اللَّه وعليهم عصيان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فكرهوا أن يقتلوا وعليهم معصية رسول اللَّه جمم؛ خوفًا من اللَّه - تعالى -. (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) وبما خافوا اللَّه بعصيانهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) - أن اللعين لما رآهم أجابوه إلى ما دعاهم من اشتغالهم بالغنيمة، وتركهم المركز، وعصيانهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعاهم إلى الهزيمة، فانهزموا وتولوا - عدوَّهم. ويحتمل قوله: (بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا)، أي: بكسبهم، قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)؛ فكذلك هذا، واللَّه أعلم. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). قَبِلَ توبتكم، وعفا عنكم، (حَلِيمٌ) لم يخزكم وقت عصيانكم، ولا عاقبكم، أو حليم بتأخير العذاب عنكم.

(156)

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) وقوله - عزّ وجلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى) الآية. اختلف في قوله - تعالى -: (الَّذِينَ كفروا)، قَالَ بَعْضُهُمْ: نهى المؤمنين أن يكونوا كالذين كفروا في السر والعلانية. (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ)، يعني: المنافقين، (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا). وقيل: لا تكونوا كالمنافقين قالوا لإخوانهم -يعني: لبعضهم-: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. وقيل: قالوا لإخوانهم، يعني: المؤمنين الذين تولوا، وهم كانوا إخوانهم في النسب، وإن لم يكونوا إخوانهم في الدِّين والمذهب. لا حاجة لنا إلى معرفة قائله من كان، ولكن المعنى ألا يقولوا مثل قولهم لمن قتل. وقوله: (إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ)، يعني: إذا ضربوا في الأرض تجارًا أو " غزى "، أي: غزاة. وقيل: قوله: (إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أو كانوا غزاة على إسقاط الألف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ): أي: ليجعل اللَّه ذلك القول الذي قالوا حسرة يتردد في أجوافهم. ويحتمل قوله: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً) يوم القيامة؛ كقوله: (أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي: واللَّه يحيي من ضرب في الأرض وغزا، ويميت من أقام ولم يخرج غازيًا، أي:

(157)

لا يتقدم الموت بالخروج في الغزو، ولا يتأخر بالمقام وترك الخروج، دعاهم إلى التسليم، إنما هي أنفاس معدودة، وأرزاق مقسومة، وآجال مضروبة، ما لم يفناها واستوفاها وانقضى أجلها: لا يأتيها. (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): وعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) أي أن الموت إن كان لا بدّ نازل بكم؛ فقتلكم أو موتكم في طاعة اللَّه وجهاده خير من أن ينزل بكم في غير طاعة اللَّه وسبيله. (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون): من الأموال. (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) أي: إن متم على فراشكم، أو قتلتم في سبيل اللَّه - فإليه تحشرون، فمعناه - والله أعلم - أي: إن لم تقدروا على أن لم تحشروا إليه، كيف تقدرون ألا ينزل على فراشكم بكم الموت، وإن أقمتم في بيوتكم؟! واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ): يحتمل هذا وجهين: يحتمل: فبرحمة من اللَّه عليك لنت لهم؛ كقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ويحتمل قوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ): فيجب أن يكون الإنسان رحيما على خلقه؛ على ما جاء في الخبر قال لأصحابه: " لَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا "، فقيل: كلنا نرحم يا رسول اللَّه، فقال: " لَيسَ تَرَاحُمَ الرجُلِ وَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ، وَلَكِنْ يَتَرَاحَمُ بَعْضُهُم بَعْضًا " أو كلام نحو هذا. وما جاء: " مَنْ لَمْ يَرحَم صَغِيرَنَا، وَلَم يُوَقر كَبِيرَنَا - فَلَيسَ مِنَّا "، وما جاء: " مَنْ لَمْ

يَرحَمْ أَهْلَ الأَرْضِ لَمْ يَرحَمْهُ أَهْلُ السَّمَاءِ "؛ كما قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) الآية، وقد أمر اللَّه عباده أن يعامل بعضهم بعضا بالرحمة واللين، إلا عند المعاندة والمكابرة؛ فحينئذ أمر بالقتال؛ كقوله لموسى وهارون -حيث أرسلهما إلى فرعون- فقال: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) وكان اللين في القول أنفذ في القلوب، وأسرع إلى الإجابة، وأدعى إلى الطاعة من الخشن من القول، وذلك ظاهر في الناس؛ لذلك أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - رسله باللين من المعاملة، والرحمة على خلقه، وجعله سبب تأليف القلوب وجمعها، وجعل الخشن من القول والفظ سبب الفرقة بقوله: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) في القول (غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي: لو كنت في الابتداء فظًّا غليظًا لتفرقوا ولم يجتمعوا عندك. وقوله - عزّ وجل -: (فَاعْفُ عَنْهُمْ) بأذاهم إياك ولا تكافِهِم، واستغفر لهم فيما بينهم وبين ربهم. ويحتمل قوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) بما عصوك ولا تنتصر منهم، وكذلك أمر اللَّه المؤمنين جملة أن يعفوا عنهم، وألا ينتصروا منهم بقوله: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، وكان أرجى للمؤمنين قوله: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)؛ كما قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ. . .) الآية، وقوله -أيضًا-: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ): لا جائز أن يؤمر بالاستغفار لهم ثم لا يفعل، وإذا فعل لا يجاب؛ فدل أنه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وكذلك دعاء إبراهيم - عليه السلام -: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)، ودعاء نوح - عليه السلام -: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ

دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، لا يجوز أن يدعو هَؤُلَاءِ الأنبياء - عليهم السلام - ثم لا يجاب لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ): أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاور أصحابه في الأمر؛ ففيه وجوه ثلاثة: أحدها: أنه لا يجوز له أن يأمره بالمشاورة فيما فيه النص، وإنما يأمر بها فيما لا نص فيه؛ ففيه دليل جواز العمل بالاجتهاد. والثاني: لا يخلو أمره بالمشاورة، إما لعظم قدرهم وعلو منزلتهم عند اللَّه، أو لفضل العقل ورجحان اللب؛ فكيفما كان فلا يجوز لمن دونهم أن يسووا أنفسهم بهم، ولا جائز -أيضًا- أن يأمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمشاورة أصحابه، ثم لا يعمل برأيهم؛ دل أنهم إذا اجتمعوا كان الحق لا يشذ عنهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمشاورتهم في أمر الحرب والقتال، وعن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لما أنزل اللَّه - تعالى -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) - قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللهَ ورَسُولَهُ غَنيَّانِ عَنْ مُشاوَرَتِكُم "؛ ولكنه أراد أن يكون سُنَّة لأمته "، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقرأ: " وشاورهم في بعض الأمر ". وقيل: أمر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاور أصحابه في الأمور، وهو يأتيه وحي السماء؛ لأنه أطيب لأنفس القومِ، وأن القوم إذا شاورهم بعضهم بعضًا فأرادوا بذلك وجه اللَّه - عزم الله لهم على أَرْشدِهِ. وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا إذا أراد سيدهم أن يقطع أمرا دونهم، لا يشاورهم في الأمر شق عليهم؛ فأمر اللَّه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاورهم في الأمر إذا أراد؛ فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم. وفي بعض الأخبار قيل: " يا رسول اللَّه، ما العزم؟ قال: " أن تستشير ذا الرأي، ثم

(160)

تطيعه ". وكان يقال: ما هلك امرؤ عن مشورة، ولا سعد ثبور، قيل: الثبور: الذي لا يستشير ويعمل برأيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ): أي: لا تتكلن إلى نفسك، ولا تعتمدن على أحد؛ ولكن اعتمد على اللَّه وَكِلِ الأمر إليه. وقيل: فإذا فرق ذلك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك، فإن كان في أمر الحرب على ما قيل فهو - واللَّه أعلم - لا تعجبن بالكثرة، ولا ترَيَنَ النصر به، ولكن اعتمد بالنصر على اللَّه؛ كقوله - تعالى -: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا)، واللَّه أعلم بما أراد، بذلك؛ كقوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ (160) صدق اللَّه من كان اللَّه ناصره؛ فلا يغلبه العدو من بعد. (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) أي: يترككم (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ): والنصر يحتمل وجهين، يحتمل: المعونة، ويحتمل: المنع: كقوله - تعالى -: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ)، أي: أعانكم اللَّه؛ فلا يغلبكم العدو، (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ): ولم يعنكم؛ فمن ذا الذي أعانكم سواه؟! ومن المنع، أي: إن منع اللَّه عنكم العدوَّ، فلا غالب لكم، (وَإن يَخْذُلكُم)، ولم يعنكم، فمن الذي يمنعكم من بعده؟! والخذلان في الحقيقة هو: ترك المأمول منه ما أُمِّلَ منه، واستعمل في هذا كما استعمل الابتلاء على غير حقيقته. وقوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ):

(161)

هو على الأمر في الحقيقة كأنه قال: وعلى اللَّه فتوكلوا أيها المؤمنون. والتوكل: هو الاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه، لا بالكثرة والأسباب التي يقوم بها، من نحو: القوة والعدة والنصرة والغلبة، وفي الشاهد إنما يكون عند الخلق بثلاث: إمّا بالكثرة، وإما بفضل قوَّة بطش، وإمَّا بفضل تدبير ورأي في أمر الحرب، وجميع نصر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وغلبته على عدوه إنما كان لا بذلك؛ ولكن بالتوكل عليه وتفويض الأمر إليه؛ دل أن ذلك كان باللَّه - عزَّ وجلَّ - وذلك من آيات نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. * * * قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) فيه قراءتان: " يَغُلَّ " بنصب الياء، وبرفع الياء ونصب الغين، ومن قرأه بنصب الياء فذلك يحتمل وجهين: يحتمل: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أي: لم يكن نبي من الأنبياء غل قط، وهو أحق من لا تتهمونه؛ لعلمكم به؛ فكيف اتهمتموه هنا بالغلول؟! وقيل: إن ناسًا من المنافقين خَشوا ألا يقسم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الغنيمة بينهم؛ فطلبوا القسمة؛ فنزلت هذه الآية. وقيل: قالوا: اعدل يا مُحَمَّد في القسمة؛ فنزل هذا. ويحتمل قوله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أي: قد كنتم عرفتموه من قبل أن يرسل، فما

عرفتموه خان قط أَوْ غَلَّ؛ فكيف يحتمل الخيانة بعدما أرسل؟! هذا لا يحتمل. ومن قرأه بالرفع أي: يُغَلَّ، فهو -أيضًا- يحتمل وجهين، أي: يتهم بالغلول في الغنيمة؛ فهو يرجع إلى تأويل الأول. ويحتمل قوله: " أن يُغَلَّ " أن يخان في الغنيمة، لا يخون ولا يحل أن يخان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الغنيمة؛ فإنه يطلع على ذلك، يطلع اللَّه [رسوله]، على ما جاء في بعض الأخبار أنه مرَّ بقبر، فقال: إنه في عذاب، قيل: بماذا يا رسول اللَّه؟! فقال: " إِنَّهُ كَانَ أَخَذَ مِنَ الغَنِيمَةِ قَدْرَ دِرْهَمَينِ أَوْ نَحْوَهُ ". ويحتمل: خصوص الغنيمة بما يتناول الغالَّ حِلُّهُ، بما لا يعرف له صاحب؛ كالمال الذي لا مالك له، وربما يباح التناول منه للحاجة والأخذ بغير البدل بوجه لا يحتمل بتلك أكل الحل من ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): أي: يؤخذ به يوم القيامة، وهكذا كل من أخذ من مال غيره بغير إذنه؛ فإنه يؤخذ به. وقال بعض الناس: وإنما خص الغنيمة بفضل وعيد؛ لأن الغلول فيها يجحف بحق الفقراء وأهل الحاجة، أو يضر ذلك أصناف الخلق، وسائرُ الأموال ليس كذا. وقيل: إنما جاء الوعيد في هذا أنهم كانوا أهل نفاق، يستحلون الغلول في الغنيمة والأخذ منها، وهذا كأنه أشبه. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جيشًا فغلوا رأس ذهب؛ فنزلت الآية، (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ). وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -أيضًا- قال: فُقِدَتْ قطيفة حمراء يوم بدر مما

(162)

أصيب من المشركين؛ فقال الناس: لعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخذها لنفسه؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ (162) قيل: أفمن لم يغل، ولم يأخذ من الغنيمة شيئًا - كمن غلَّ وأخذ منها؟! ليسا سواء؛ رجع أحدهما برضوان اللَّه، والآخر بسخطه. ويحتمل: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ): أفمن أطاع اللَّه واتبع أمره، كمن عصى اللَّه واتبع هواه؟! ليسا بسواء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ (163) والدرجات - واللَّه أعلم -: ما يقصدها أهلها. والدركات: ما تدركهم من غير أن يقصدوها؛ كالدرك في العقود يدرك من غير قصد. وقيل: الدرجات: ما يعلو. والدركات: ما يَسْفُل، واللَّه أعلم. فهذا في التسمية المعروفة أنْ سُمِّيَتِ النار دركات والجنة درجات، وحقيقة ذلك واحد، والآية تدل على الأمرين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ (164) وجه المنة فيما بعث الرسل عليهم من البشر، ولم يرسلهم من الملائكة ولا من الجن - وجوه: أحدها: أن كل جوهر يألف بجوهره، وينضم إليه ما لم يألف بجوهر غيره، ولا ينضم إلى جنس آخر، فإذا كان كذلك، والرسل إنما بعثوا لتأليف قلوب الخلق وجمعهم، والدعاء إلى دين يوجب الجمع بينهم، ويدفع الاختلاف من بينهم - فإذا كان ما وصفنا بُعِثُوا من جوهرهم وجنسهم؛ ليألفوا بهم وينضموا إليهم، واللَّه أعلم. والثاني: أن الرسل لابد لهم من أن يقيموا آيات وبراهين لرسالتهم، فإذا كانوا من غير جوهرهم وجنسهم لا يظهر لهم الآيات والبراهين؛ لما يقع عندهم أنهم إنما يأتون ذلك بطباعهم دون أن يأتوها بغير إعطائهم إياها ذلك. والثالث: أن ليس في وسع البشر معرفة غير جوهرهم وغير جنسهم من نحو الملائكة

والجن؛ ألا ترى أن البشر لا يرونهم؟! فإذا كان كذلك بُعِثوا منهم؛ ليعرفوهم ولتظهر لهم الحجة، واللَّه أعلم. ثم المنة الثانية: حيث بعثهم من نسبهم وجنسهم وحَسَبهم لم يبعثهم من غيرهم؛ وذلك أنهم إذا بعثوا من غير قبيلهم وجنسهم لم يظهر لهم صدقهم ولا أمانتهم فيما ادعوا من الرسالة، فبعثهم منهم؛ ليظهر صدقهم وأمانتهم، لَمَّا ظهر صدقهم وأمانتهم في غير ذلك؛ فيدلّ ذلك لهم أنهم لما لم يكذبوا بشيء قط ولا خانوا في أمانة - لا يكذبون على اللَّه تعالى. والثاني: أنهم إذا كانوا من غير نسبهم فلعلهم إذا أتوا بآية أو براهين يقولون: إنما كان ذلك بتعليم من أحد، واختلاف إلى أحد ممن يفتعل بمثل هذا، بعثهم اللَّه منهم؛ ليعلموا أنهم إذا لم يتعلموا من أحد، ولا اختلفوا فيه - أنهم إنما علموا ذلك باللَّه - تعالى - لا بأحد من البشر، واللَّه أعلم. ألا ترى أن ما أتى به موسى - صلوات اللَّه عليه - من الآيات من نحو: العصا، واليد البيضاء وغير ذلك لو كان سحرًا في الحقيقة لكان من أعظم آيات رسالته: لأنه لم يعرف أنه اختلف إلى أحد في تعلم السحر قط، وقد نشأ بين أظهرهم، فكيف ولم يكن سحرًا؟! فدل أن لله على خلقه منة عظيمة؛ فيما بعث الرسل من نسبهم وقرابتهم، وممن نشأ بين أظهرهم لمعنى الذي وصفنا، واللَّه أعلم. وقيل: قوله؛ (رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، أي: من العرب معروف النسب أميًّا؛ ليعلموا أنه إنما أتى به ما أتى سماويا وَحْيًا، وألا يرتابوا في رسالته وفيما يقوله، كقوله: (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ): يحتمل: إعلام رسالته ونبوته، ويحتمل الآيات الحجج والبراهين، هما واحد، ويحتمل: آيات القرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُزَكِّيهِمْ): يحتمل: التزكية من الزكاء والنماء، وهو أن أظهر ذكرهم، وأفشى شرفهم ومذاهبهم؛ حتى صاروا أئمة يذكرون ويقتدون بهم بعد موتهم؛ كقوله - نعالى -: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)

(165)

أظهره ولم يُخمل ذكرهم؛ ألا ترى أنه قال: (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) أي: أخفاها وأخملها؟! ويحتمل: (وَيُزَكِّيهِمْ)، أي: يطهرهم بالتوحيد، وقيل: (وَيُزَكِّيهِمْ)، أي: يأخذ منهم الزكاة؛ ليطهرهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أن ينصرف إلى وجوه، وقد ذكرناه في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ): وقد ذكرنا الضلال أنه يتوجه إلى وجوه: إلى الهلاك، وإلى الحيرة، وإلى خمول الذكر وغيره. * * * قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ): يوم أحد؛ حيث قتل منكم سبعون. (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) يوم بدر: قتلتم سبعين وأسرتم سبعين. وقيل: إن ذلك كله يوم أُحد كانت الدائرة والهزيمة على المشركين في البداية، ثم هُزِم المؤمنون، يقول: إن أصابكم في آخره ما أصاب، فقد أصابهم -أيضًا- مثلاها؛ يذكر هذا لهم - واللَّه أعلم - على التسلي بما أصيبوا؛ ليتسلى ذلك عنهم، أو يذكرهم نعمَهُ عليهم بما أصيب المشركون مثلي ذلك؛ ليشكروا له عليها، وليعلموا أنهم لم يُخَصُّوا هم بذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) هو: كأنه يعاتبهم - واللَّه أعلم - بقولهم: (أَنَّى هَذَا)؛ فقال (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ): يعاتبهم بتركهم الاشتغال بالتوبة عما ارتكبوا من عصيان ربهم، والخلافِ لنبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ مثل ذلك الكلام لا يكون إلا ممن كان متبرئًا عن ارتكاب المنهي والخلافِ لأمره، فأما من كان منه ارتكاب المناهي والخلاف لربه؛ فلا يسع ذلك أو كان ما أصابهم إنما أصاب محنة منه، ولله أن يمتحن عباده بأنواع المحن على يدي من شاء؛ إذ كلهم عبيده، فعاتبهم لما لم يعرفوا محنه، و (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا)، ونحن مسلمون نقاتل في سبيل اللَّه، وهم مشركون؟! فقال: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)، يقول: بمعصيتكم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وبتركبهم ما أمركم به من حفظ المركز وغيره؛ كقوله: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ). قال الشيخ - رحمه اللَّه - في قوله - تعالى -: (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا): يخرج إن كان من أهل النفاق مخرج الاستهزاء، أي: لو كان ما يقول مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من النصر له والرسالة حقًّا؛ فمن أين بُلي بهذا؟! وذلك كقولهم: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) وقولهم يوم الخندق: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)، وغير ذلك مما عليه معتمدهم في إظهار الإسلام، واللَّه أعلم. وإن كان ذلك من أهل الإيمان فهو سؤال تعريف الوجه الذي بلوا به، وهم أنصار دين اللَّه، وقد وعد لأنصار دينه النصر، وإن الذي يتصره اللَّه لا يغلبه شيء، وكان قد وُعِدوا إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، أو بما كانوا رأوا الدَّبْرَةَ عليهم والهزيمة من الأعداء، فيقولون: بم انقلب علينا الأمر؛ فبين أنه بما قد عصوا ومالوا عن اللَّه، وإن كان ذلك عن بعضهم لا عن كلهم: فجائز ذلك بحق المحنة؛ إذ قد يجوز الابتداء به مع ما يكون ذلك عن المعاصي أزجر، وللاجتماع على الطاعة أدعى؛ إذ المحنة بمثله تدعوا كلًّا إلى اتقاء الخلاف، ومنع إخوانه -أيضًا- عن ذلك؛ فيكون به التآلف وصلاح ذات البين، واللَّه أعلم

(166)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): من النصر والهزيمة، ولكن ما أصابكم إنما أصاب بمعصيتكم ربكم، وخلافكم رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو أصابكم؛ محنة منه إياكم. وقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) جمع المؤمنين، وجمع المشركين. (فَبِإِذْنِ اللَّهِ): قيل: فبمشيئة اللَّه وإرادته، وقيل: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ): فبتخلية اللَّه إياكم لما لعلهم رأوا النصر والغلبة بالكثرة، أو بالقوة والعدة؛ فخلاهم اللَّه بينهم وبين عدوهم؛ ليعلموا أن أمثالهم مع قلتهم وضعفهم لا ينتصرون من أمثال أُولَئِكَ مع كثرة عددهم، وقؤة أبدانهم، وعدتهم في سلاحهم، ولكن باللَّه ينتصرون منهم، ويتغلبون عليهم. وقيل: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ): بعلم اللَّه، أي: يعلم اللَّه ما يصيبكم من خير أو شر، ليس عن سهو وغفلة منه يصيبكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا (167) كما ذكرنا فيما تقدم؛ ليعلم ما قد علم أنهم يؤمنون، ويصبرون على البلايا والقتال مؤمنين صابرين محتسبين؛ وكذلك ليعلم ما قد علم أنهم ينافقون، ويصيرون منافقين، غير صابرين، ولا محتسبين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا): قوله: (أَوِ ادْفَعُوا): يحتمل: (أَوِ ادْفَعُوا)، أي: كثروا السواد؛ لأن المشركين إذا

رأوا سواد المؤمنين كثيرًا، يُرهبهم ذلك ويخوفهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ). ويحتمل: أو ادفعوا العدو عن أنفسكم؛ لما لعلهم يقصدون أنفس المؤمنين المقاتلين، أو ادفعوا عن أموالكم وذراريكم ويقصدون ذلك، أو ادفعوا عن دينكم إذا قصدوا دينكم، وقد يقصدون ذلك، أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) - واحدًا، أي: قاتلوا في سبيل اللَّه وادفعوا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ) يعني: المنافقين، قيل: قال المنافقون الذين تخلفوا في المدينة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وقيل: قال ذلك غيرهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ): يعني: المنافقين، أخبر أنهم إلى الكفر أقرب من الإيمان للكفر وإلى الكفر من الكفر، كل ذلك لغة، وفي حرف حفصة: هم " إلى الكفر أقرب "، وتأويله - واللَّه أعلم -: أن المنافقين كانوا لا يعرفون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ولا كانوا يعبدونه؛ فإنما هم عباد النعمة، يميلون إلى حيث مالت النعمة: إن كانت مع المؤمنين؛ فيظهرون من أنفسهم الوفاق لهم، وإن كانت مع المشركين فمعهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ. . .) الآية، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ. . .) الآية، وأما الكفار: فإنهم كانوا يعرفون اللَّه، لكنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان لوجهين: أحدهما: لما اتخذوها أربابًا. والثاني: يطلبون بذلك تقربهم إلى اللَّه زلفى؛ كقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، لكنهم إذا أصابتهم الشدة، ولم يروا فيما عبدوا الفرج عن ذلك - فزعوا إلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، كقوله - تعالى -: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ

الدِّينَ)، فإذا ذهب ذلك عنهم عادوا إلى دينهم الأول، وقوله - عز وجل -: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ) الآية، وأمّا المؤمنون: فهم في جميع أحوالهم: في حال الرخاء والشدة، والضراء والسراء - مخلصون لله صابرون على مصائبهم وشدائدهم قائلون: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ): يحتمل هذا وجوهًا: قيل: إنما كانوا كذا؛ لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين: (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) وإن كان للكافرين نصيب قالوا: (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ): ذكروا كونهم مع المؤمنين، وذكروا في الكافرين استحواذهم عليهم، ومنعهم من المؤمنين؛ فذلك آية الأقرب منهم. ويحتمل: أقرب منهم للإيمان؛ لأن ما أظهروا من الإيمان كذب، والكفر نفسه كذب؛ فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم عليه أقرب، وهو الكفر. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ)، قال: " هم يومئذ يسرون الكفر، ويظهرون الإيمان، وسرّ العبد أولى من علانيته، وفعله أولى من قوله ". (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ): وهو قولهم، وقيل: وهم منهم أقرب؛ لأنهم كانوا في الحقيقة كفارًا على دينهم. وفي قوله - تعالى -: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ) - يحتمل الذم، وقيل: كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا): فيكون الوصف بالقرب على الوقوع والوجوب؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، أي: هي لهم - وباللَّه التوفيق - وذلك لأنهم كانوا أهل نفاق، والكفر لم يكن يفارق قلوبهم، وما كان من إيمانهم كان بظاهر اللسان، ثم قد يفارقها في أكثر أوقاتهم، واللَّه أعلم. وقد يكون على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان؛ إذ حقيقته تصديقٌ عن معرفة، ولم يكن لهم معرفة، والكفر قد يكون بالتكذيب؛ كأن له بما يكذب علم بالكذب أولًا؛ فلذلك كان الكفر أقرب إليهم، ويحتمل: أقرب إليهم: أولى بهم، وهم به أحق أن يعرفوا؛ بما جعل اللَّه لهم من إعلام

(168)

ذلك في لحن القول، ثم في أفعال الخير، ثمّ في أحوال الجهاد، ومما يظهر منهم من آثار الكفر في الأقوال والأفعال مما جاء به القرآن، واللَّه أعلم. فإدن قيل في قوله: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) -: كيف عم هَؤُلَاءِ بالعقوبة، وإنما كان العصيان والخلاف في الأمر من بعضهم لا من الكل، قيل: لما خرج لهم ذلك مخرج الامتحان والابتلاء، لا مخرج الجزاء لفعلهم، ولله أن يمتحن عباده ابتداء بأنواع المحن من غير أن يسبق منهم خلاف في الأمر أو عصيان، وكل عقوبة خرجت مخرج جزاء عصيان أو خلاف في أمر - لم يؤاخذ غيرُ مرتكبها؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، وما خرج مخرج الامتحان جاز أن يعمهم؛ لما ذكرنا أن له ابتداء امتحان، أو إن كان ما كان منهم بمعونة غيرهم؛ فعمهم لذلك بذلك، كقُطاع الطريق وكسُراق أن تعمهم العقوبة جميعًا: مَنْ أخذ ومن لم يأخذ، ومن تولى ومن لم يتولَّ؛ فكذلك هذا، أو كانوا جميعًا كنفس واحدة؛ فعمهم بذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ ... (168) وقيل: لإخوانهم في الدِّين، ومعارفهم من المنافقين: (لَو أَطَاعُونَا) ولم يخرجوا إلى الجهاد (مَا قتُلُوا). وقيل: لإخوانهم في النسب والقرابة، وليسوا بإخوانهم في الدِّين والولاية؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) ليس بأخيهم في الدِّين ولا في الولاية؛ ولكن كان أخاهم في النسب والقرابة. قوله تعالى: (لَو أَطَاعُونَا) وقعدوا عن الخروج في الجهاد (مَا قتُِلُوا) في الغزو. ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ - لنبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن قل لهم: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) بأنهم لو قعدوا في بيوتهم ما قتلوا؛ فمعناه - واللَّه أعلم -: أن من قتل في سبيل الله

(169)

فمكتوب ذلك عليه، ومن مات في بيته فمكتوب ذلك عليه، فإذا لم تقدروا دفع ما كتب عليكم من الموت؛ كيف زعمتم أنهم لو قعدوا ما قتلوا، وهو مكتوب عليهم كالموت؟!. وهذه الآية ترد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون: إن من قتل مات قبل أجله، أو قبل أن يستوفي أجله؛ فهم واليهود فيما أنكر اللَّه عليهم قولهم لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا - سواء بقوله: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). * * * قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا): قيل فيه بوجوه، قيل: إن المنافقين قالوا للذين قتلوا بأُحُدٍ وببَدْرٍ: إنهم ماتوا؛ فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وبأحد وبدر (أَمْوَاتًا) كسائر الموتى؛ بل هم أحياء عند ربهم. وقيل: قالوا: إن من قتل لا يحيا أبدًا ولا يبعث؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: بل يحيون ويبعثون كما يحيا ويبعث غيرهم من الموتى. وقيل: إن العرب كانت تسمي الميت: مَنْ انقطع ذكره إذا مات ولم يذكر، أي: لم يَبقَ له أحد يُذْكر به؛ فقالوا: إذا قتل هَؤُلَاءِ ماتوا، أي: لا يذكرون؛ فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم مذكورون في الملأ: ملأ الملائكة، وملأ البشر، وهو الظاهر المعروف في الخلق أن الشهداء مذكورون عندهم. وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ) أي: يُجْرِي أعمالهم بعد قتلهم، كما كان يُجْري في حال حياتهم، فهم كالأحياء فيما يجري لهم ثواب أعمالهم وجزائهم، ليسوا بأموات. وقيل: إن حياتهم حياة كلفة؛ وذلك أنهم أمروا بإحياء أنفسهم في الآخرة؛ ففعل المؤمنون ذلك: أحيوا أنفسهم في الآخرة؛ فسموا أحياء لذلك، والكفار لم يحيوا أنفسهم

(170)

بل أماتوها؛ فسمى أؤلئك أحياء، والكفار موتى. وقيل: سمى هَؤُلَاءِ أحياء؛ لأنهم انتفعوا بحياتهم، وسمى الكفار أمواتًا؛ لما لم ينتفعوا بحياتهم. ألا ترى أنه - عَزَّ وَجَلَّ - سماهم مرة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)؛ لما لم ينتفعوا بسمعهم ولا ببصرهم ولا بلسانهم، ولم يسم بذلك المؤمنين؛ لما انتفعوا بذلك كله؟! فعلى ذلك سمى هَؤُلَاءِ أحياء؛ لما انتفعوا بحياتهم، وأُولَئِكَ الكفرةَ موتى؛ لما لم ينتفعوا بحياتهم، واللَّه أعلم. وقال الحسن: إن أرواح المؤمنين يعرضون على الجنان، وأرواح الكفار على النار؛ فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لأرواح غيرهم من المؤمنين ذلك، ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم وشدة ما لا يكون لأرواح غيرهم من الكفرة ذلك؛ فاستوجبوا بفضل اللذة على غيرهم اسمَ الحياة. ألا ترى أنه قال - تعالى -: (يُرزَقُونَ): فيها، (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (170) وقيل: إن الناس كانوا يقولون فيما بينهم: من قتل بـ " بدر وأحد " مات فلان ومات فلان؛ فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ): روي عن مسروق، قال: سألت عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن هذه الآية: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. . .) الآية؛ قال: سألت عن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: " أرْوَاحُهُم عِنْدَ اللهَ في حَوَاصِلٍ طَيرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَة بِالْعَرشِ، تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فِي أَيها شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلِهَا. . . " والحديث طويل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ. . .) الآية: عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " تَنْزِلُ عَلَيهِم صُحُفٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا مَنْ يَلْحَقُ بِهِم مِنَ الشّهَدَاءِ؛ فَبِذَلِك يَسْتَبْشِرُونَ ". وقيل: " يَسْتَبْشِرُونَ " لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم؛ بما قَدِموا عليه من الكرامة والفضل والنعم، الذي أعطاهم اللَّه. وقيل: " يَسْتَبْشِرُونَ "، يعني: يفرحون (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ)، يعني: من بعدهم من إخوانهم في الدنيا: رأوا قتالا؛ استشهدوا " فلحقوا. وقيل: (لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ): الذين يدخلون في الإسلام من بعدهم. والاستبشار: هو الفرح أو طلب البشارة؛ كأنهم طلبوا البشارة لقومهم؛ ليعلموا بكرامتهم عند اللَّه ومنزلتهم؛ كقول من قال: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27). وقيل: إن الحياة على ضربين: حياة الطبيعي، وحياة العَرَضِي، وكذلك الموت على وجهين. موت الطبيعي، وموت العرضي، ثم حياة العرضي على وجوه: أحدها: حياة الدّين والطاعة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ). وحياة العلم والبصيرة واليقظة، يسمي العالِم حيًّا، والجاهل ميتًا. وحياة الزينة والشرف، على ما سمى اللَّه - تعالى - الأرض ميتة في حال يبوستها، وحيَّةً: في حال خروج النبات منها بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا). وحياة الذكر واللذة؛ فجائز أن يكون اللَّه - تعالى - لما أخبر أنهم أحياء عند ربهم أن يكون لهم حياة من أحد الوجوه التي ذكرنا: حياة ذكر ولذة، أو حياة زينة وشرف، أو حياة العلم لهم بأهل الدنيا على ما كان لهم قبل ذلك، أو حياة دين وعبادة، أو يُجري عليهم أعمالهم على ما كان لهم قبل الشهادة، وإن كانت أجسادهم في الحقيقة ميتة في أحكام الدنيا عند أهل الدُّنيَا، وهذا يقوي قولنا في المرتد: إنه إذا لحق

(171)

بدار الحرب يحكم في نفسه وماله بحكم الموتى في قسمة المواريث، وقضاء الديون وغيرها، وإن كان هو في الحقيقة حيًّا على ما حكم في أموال الشهداء وأنفسهم بحكم الموتى في حكم الدنيا؛ لما لا يعودون إلى الدنيا، وإن كانوا عند ربهم أحياء؛ فعلى ذلك يحكم في نفس المرتد وأمواله بحكم الموتى؛ لما لا يعود إلى دارنا، وإن كان هو في الحقيقة حيًّا عند اللَّه لما جاز أن يكون حيًّا عند اللَّه، ميتًا عندنا، وجاز أن يكون ميتًا عندنا حيًّا عند اللَّه، واللَّه أعلم. وحياة الطبيعي: هو حياة جوهر، وما به يقوم النفس، وموت الطبيعي هو هلاكه، وفوته واللِّه أعلم. وموت العرضي: هو جهله؛ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ (171) يحتمل (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) أي: بدين من اللَّه؛ كقوله - تعالى -: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، قيل: بدينه، ويحتمل: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ): الجنة، (وَفَضْلٍ): زيادات لهم وكرامات من اللَّه، عَزَّ وَجَلَّ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ): أي: لا يضيع من حسناتهم وخيراتهم وإن قل وصغر؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا)، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)، كقوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. . .) الآية. * * * قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ): قيل: أجابوا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى ما دعاهم إليه، وأطاعوا فيما أمرهم

(173)

به من بعد ما أصابهم القرح، أي: الجراحة. قيل: دعاهم إلى بدر الصغرى بعد ما أصابهم بأُحدٍ القروح والجراحات؛ فأجابوه، فذلك قولهَ تعالى -: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ): في الإجابة له بعدما أصابتهم الجراحة، وشهدوا القتال معه. (وَاتَّقَوْا): الخلاف له، وترك الإجابة، ويحتمل: اتقوا النار وعقوبته. (أَجْرٌ عَظِيمٌ): في الجنة وثواب جزيل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ... (173) قيل: إن المنافقين قالوا لأصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد ما انهزم كفار مكة وولوا أدبرهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)، يخوفونهم؛ حتى لا يتبعوهم على أثرهم، فذلك عادتهم لم تزل؛ كقوله - تعالى -: (مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا)، أي: فسادًا. وقيل: إنه إنما قال ذلك لهم رجل يقال لهم: نعيم بن مسعود، ولا ندري كيف كانت القصة؟.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا): لما وجدوا الأمر على ما قال لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ووعد لهم، لا على ما قال أُولَئِكَ؛ فزادهم ذلك إيمانًا، أي: تصديقًا. زادهم: قيل: جراءة وقوة وصلابة على ما كانوا من قبل في الحرب والقتال، ويحتمل؛ زادهم ذلك في إيمانهم قوة وصلابة وتصديقًا. وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا)، أي: تصديقًا ويقينًا بجرأتهم على عدوهم، ويقينهم بربهم، واستجابتهم لنبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. فإن قال قائل: ما معنى قوله - سبحانه وتعالى -: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) على أثر قوله - عز وجلَ: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا)، وقول ذلك قول لا يحتمل أن يزيد الإيمان، وليس كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)؛ لأنها حجج، والحجج تزيد التصديق، أو تحدث، أو تدعوا إلى الثبات على ذلك؛ فيزيد الإيمان؛ فقولهم: اخشوهم، كيف يزيد؟ قيل: يخرج ذلك - واللَّه أعلم - على وجوه: أحدها: أنهم إذا علموا أنهم أهل النفاق، وأنهم يخوفون بذلك، وقد كان وعدهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بصنيعهم، فكذبوهم بذلك، وأقبلوا نحو أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إجابة لأمره؛ وتصديقا بوعده، ومجانبة لاغترارهم بأخبار أعدائه والنزول على قولهم؛ فكان ذلك منهم - عند ذلك - زائدًا في إيمانهم مع ما في تكذيبهم؛ ذلك نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. . .)، الآية: إنه إذا زاد بتكذيب آيات الله رجسًا؛ فمثله تكذيب المكذب بالآيات؛ لذلك يزيد إيمانًا، واللَّه أعلم. والثاني: أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبرهم بتفرق أعداء اللَّه، وتشتت أمرهم، وأخبرهم المنافقون بالاجتماع؛ فصاروا إلى ما نعتهم به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فوجدوا الأمر على ما قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك من أنباء الغيب، والإنباء عن الغيب، من أعظم آيات النبوة؛ فزادهم ذلك إيمانًا، واللَّه أعلم، وذلك، قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ. . .) الآية. والثالث: لم لما يغتروا بقول المنافقين، ولا قصدوا لذلك، ولا ضعفوا؛ فأنزل اللَّه -

(174)

تعالى - سكينته على قلوبهم؛ ليزيد لهم بذلك إيمانًا؛ كقوله - تعالى -: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. . .) الآية، وباللَّه التوفيق. ثم معنى زيادة الإيمان يتخرج على وجوه: أحدها: بحق الابتداء في حادث الوقت؛ إذ له حكم التجدد في حق الأفعال بما هو للكفر به تارك؛ وعلى ذلك قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية، فيكون ذلك بحق الزيادة على ما مضى، وإن كان بحق التجدد في حق الحادث والفرد. والثاني: أن يكون له الثبات عليه؛ إذ حجج الشيء توجب لزومه، والدوام عليه؛ فسمى ذلك زيادة. ويحتمل: أن يكون يزداد له في أمره بصيرة، وعلى ما رغب فيه إقبالا، ولحوقه مراعاة؛ فيكون في ذلك زيادة في قوته أو في نوره، أو بزينته وتمامه، وذلك أمر معروف. ويحتمل: أن يكون ذلك داع إلى محافظة حقوق، والتمسك بأدلته، والوفاء بشرائطه؛ فيزيد ذلك فضله؛ كما عدت صلاة واحدة في التحقيق ألفا؛ بما في ذلك من حفظ الحقوق ومراعاتها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ): فزعوا إلى اللَّه - تعالى - بما رأوا من صدق وعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لهم وظهور كذب قول المنافقين: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. . .) الآية، أو قالوا ذلك عند قول المنافقين إياهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)؛ فوضوا أمرهم إلى اللَّه تعالى، وسلموا لما رأوا النصر منه؛ رضاء منهم بكل ما يصيبهم، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ): مدحهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بما رأوا أنفسهم لله؛ فكذلك هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللََّهُ ذُو فَفحلٍ عَظِيم). أي: ذو من عظيم، يدفع المشركين عن المؤمنين. وقرله - عَزَّ وَجَلَّ -. (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) يحتمل النعمة: نعمة الدِّين، على ما ذكرنا.

(175)

وقيل: انقلبوا بنصر من اللَّه والغنيمة، ويحتمل: النعمة من اللَّه: الأمن من العدو؛ لأن المنافقين كانوا يخوفونهم بقولهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)، ويحتمل: النعمة: الجنة، وفضلَ الزيادة على ذلك. وقيل: انصرفوا بأجر من اللَّه وفضل، وهو ما تشوقوا به من الشوق: (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) ولا قتل، ولا هزيمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ) أي: اتبعوا العمل الذي به رضوان اللَّه، ورضاء رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: اتبعوا طاعته ورضاه. ويحتمل قوله: (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ): الزيادة في الإيمان، وهو الصلابة والقوة فيه. وقوله: (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ): مما كانوا يخوفونهم بقوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ). ويحتمل قوله - تعالى -: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ)، أي: رجعوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) يخوف أولياءه وأعداءه، لكن أعداءه لا يخافونه، وأولياؤه يخافونه؛ كقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ): ومن لم يتبع، لكن من اتبع الذكر كان يقبل إنذاره، ومن لم يتبع الذكر لا؛ وإلا فإنه كان ينذر الفريقين جميعًا؛ فعلى ذلك الشيطان كان يخوف أولياءه وأعداءه جميعًا، لكن أعداءه لا يخافونه، وأولياءه يخافونه. ويحتمل قوله: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ)، أي: بأوليائه، وجائز هذا في الكلام؛ كقوله: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ)، أي: بيوم الجمع؛ ألا ترى أنه قال: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)؛ فعلى ذلك قوله: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ)، أي: بأوليائه، واللِّه أعلم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يخوفكم أولياءه، وهذا يؤيد تأويل من يتأول: يخوف بأوليائه، واللَّه أعلم.

(176)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي: لا تخافوه لمخالفتكم إياه، (وَخَافُونِ)، أي: خافوا مخالفتكم أمري؛ كقوله: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ). أخبر أنْ ليس له سلطان على الذين آمنوا؛ إنما سلطانه على الذين يتولونه؛ لذلك قال: لا تخافوه؛ لما ليس له عليكم سلطان، وخافون؛ لما لي عليكم سلطان، وباللَّه العصمة. * * * قوله تعالى: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يحتمل الآية وجهين: يحتمل: ولا يحزنك الذين ظاهروا غيرهم من المشركين عليكم، وقد ظاهر أهل مكة غيرهم من المشركين على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيقول اللَّه لرسوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ) مظاهرتهم عليك؛ فإن اللَّه ينصرك؛ فيخرج هذا مخرج البشارة له بالنصر على أعدائه والغلبة عليهم. ويحتمل -أيضًا- وجهًا آخر: وهو أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يشتد عليه كفرهم باللَّه، ويحزن لذلك، كقوله - تعالى -: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)؛ فيخرج قوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ) مخرجَ تَسْكينِ الحزن، ودفْعِهِ عنه، والتسلي عن ذلك، لا مخرج النهي؛ إذ الحزن يأخذ الإنسان، ويأتيه من غير تكلف ولا صنع، وكقوله - تعالى -: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا): هو على مخرج التسكين والدفع عنه، لا على النهي؛ فكذلك الأول - واللَّه أعلم - وكقوله - تعالى - لأم موسى - عليه السلام -: (وَلَا تَحْزَنِي). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا):

(177)

يحتمل قوله: (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا)، أي: لن يضروا أولياء اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إنما ضرر ذلك عليهم، كقوله - تعالى -: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ). ويحتمل: (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا)؛ لأنه ليس لله في فعلهم وعملهم نفع، ولا في ترك ذلك عليه ضرر؛ إنما المنفعة في عملهم لهم، والضرر في ترك عملهم عليهم، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ): هذه الآية تنقض على المعتزِّلة قولهم؛ لأن اللَّه - تعالى - يقول: أراد ألا يجعل لهم في الآخرة حظًا؛ والمعتزلة يقولون: بل أراد أن يجعل لهم حظا في الآخرة؛ إذ يقولون: أراد لهم الإيمان، وبالإيمان يكون لهم الحظ في الآخرة، فثبت بالآية أنه لم يكن أراد لهم الإيمان، والآية في قوم خاص علم اللَّه - تعالى - أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ فأراد ألا يجعل لهم حطا في الآخرة، ولو كان على ما تقوله المعتزلة: بأنه أراد أن يجعل لهم حظا في الآخرة - لما أراد لهم أن يؤمنوا، ولكن لم يؤمنوا لكان حاصل قولهم: أراد اللَّه ألا يجعل لمن أراد يؤمن في الآخرة، وذلك جور عندهم، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ): وذكر مرة: (أَلِيم)، ومرة: (شَدِيد)؛ لأن التعذيب بالنار أشد العذاب في الشاهد وأعظمه؛ لذلك أوعد بها في الغائب، وجعل شرابهم وطعامهم ولباسهم منها، فنعوذ باللَّه من ذلك. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) قد ذكرنا تأويل هذا فيما تقدم. (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) وما ذكرنا أنه على الوجهين اللذين وصفتهما، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) اختلف في قراءتها، قرأ بعضهم بالياء: وبعضهم بالتاء: فمن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: لا تحسبن يا مُحَمَّد أنما نملي لهم خير لهم؛ إنما نملي لهم ليزدادوا شرًّا.

ومن قرأ بالياء: صرف الخطاب إلى الكفرة، فقال: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) يكون خيرًا لهم؛ بل إنما نملي لهم ليكون سرّا وإثما لهم؛ فالآية على المعتزلة، لكنهم تأولوا بوجهين: أحدهما: على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما؛، إنما نملي لهم خير لأنفسهم "؛ فيقال لهم: لو جاز جعل الآية وصرفها على ما حملتم عليه وصرفتم إليه، جاز حمل جميع الآيات التي فيها وعد للمؤمنين، وصرفها إلى الكافرين، وما كان فيها وعيد للكافرين إلى المؤمنين؛ إذ لا فرق بين هذا وبين جعلكم الخير مكان الإثم، والإثمَ مكان الخير، وبين جعل الوعد في موضع الوعيد، والوعيد في موضع الوعد. والوجه الثاني: قالوا: أخبر اللَّه - تعالى - عما يئول أمرهم في العاقبة، لا أن كان في الابتداء كذلك؛ كقوله - تعالى -: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)، ومعلوم أنهم لم يلتقطوا ليكون لهم عدوًا وحزنًا؛ ولكن إخبار عما آل أمره في العاقبة أن صار لهم عدوًا وحزنًا؛ وكذلك يقال للرجل: سرقت لتقطع، وقتلت لتقتل، وهو لم يسرق ليقطع، ولا قتل ليقتل؛ ولكن إخبار عما آل أمره وحاله في العاقبة؛ فكذلك هذا، لكن الإخبار عما يئول الأمر يخرج مخرج التنبيه عن السهو والغفلة في الابتداء، فاللَّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك؛ فخرج ذلك مخرج التحقيق في الابتداء، لا مخرج الإخبار عما يئول الأمر في العاقبة، وباللَّه التوفيق. والثاني: أن من أراد أمرًا يعلم أنه لا يكون فهو لجهل يريد ذلك أو لعبث، فاللَّه - سبحانه - يتعالى عن الجهل بالعواقب، أو العبث في الفعل؛ دل أنه كان على ما أراد، لا ما لم يرد، ولو كان اللَّه - سبحانه وتعالى - لا يفعل بخلقه إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين وأَخْيَرُ - لم يكن لنهي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الإعجاب بما أعطى الكفرة من الأموال والأولاد بقوله - سبحانه وتعالى -: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ. . .)، الآية؛ دلّ أنه قد يعطي ما ليس هو بأصلح في الدِّين ولا أَخْيَرَ، واللَّه أعلم. وقال الشيخ - رحمه اللَّه -: في قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، وقولِهِ - تعالى -: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا. . .) الآية، وقوله - تعالى -: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ

مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) ونحو ذلك من الآيات - فيها وجهان على المعتزلة: أحدهما: قولهم في الأصلح: إن اللَّه - تعالى - لو فعل بالخلق شيئًا غيرهُ أصلحُ لهم في الدِّين في حال المحنة - كان ذلك جَورًا، ومعلوم أن الفعل بهم؛ ليزدادوا إثمًا لا يبلغ في الصلاح في الدِّين الفعلَ بهم؛ ليزدادوا به برا، ومعلوم أنه لو كان كذلك لم يكن ليجوز أن يحذر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فيقول: لا يعجبك كذا؛ فكأنه قال: لا يعجبك الذي هو صلاح في الذين، ثم يؤكد ذلك بأنه جعل لهم ذلك ليعذبهم بها، ثم شهد على من حسب ما حسبته المعتزلة بأنهم لا يشعرون؛ فكان ذلك شهادة منه - عَزَّ وَجَلَّ - على كل من وافق رأيُهُ رأيَ أُولَئِكَ الكفرة: أنهم لا يشعرون، ومعلوم أن الجبابرة والفراعنة لو لم يجعل اللَّه - تعالى - لهم تلك الحواشي والملك والقوة لم يكن ليجترئوا على دعوى الربوبية، ويبلغوا في المآثم ما بلغوا؛ فيكون فوت ذلك أصلح لهم في الدِّين، وقد قال اللَّه - تعالى -: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ. . .) والآية ثم كان معلومًا أنه إذا كان بما يجعل ذلك للكفرة يكفرون، فلو جعل للمؤمنين يؤمنون، ثم لم يجعل كذلك، واللَّه أعلم. وأيد ذلك قوله - تعالى -: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ ليُعَذبَهُم بِهَا. . .) الآية. والثاني: أن الإرادة إذ هي صفة لكل فاعل مختار في الحقيقة، وقد أخبر لأي وجه أعطى؛ ثبت أنه أراد ذلك مع ما كان المتعالم من فعل كل أحد لا يخرج على ما أراده ولا يبلغ به ما لو فعل أنه يكون على جهل أو سفه. فالأول: يكون فعله على ظن أن يكون ذلك فلا يكون. والثاني: إذا علم ألا يكون؛ فيكون له به عابثًا سفيهًا، جلّ اللَّه - تعالى - عن الوجهين؛ ثبت أن فعله لما علم أنه يكون لا لغيره ليلحقه به وصف جهل أو سفه؛ وبهما سقوط الربوبية. ثم وجهت المعتزلة الآية إلى وجهين: أحدهما: على التقديم والتأخير بمعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا إنما نملي خير لأنفسهم. وذلك فاسد لوجهين: أحدهما: لو كان جعل الخير شرًّا والشر خيرًا بالتأويل، وصرف الآية عن سياقها ونظمها - لجاز ذلك في كل وعد ووعيد، وأمر ونهي، وتحليل وتحريم؛ فيصير كل أمور

(179)

الدنيا مقلوبًا. والثاني: أنه لو كان كذلك لكان يجب أن يعجب به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ على كل ذلك معجبًا، ولكانوا فيما حسبوا أن ذلك ضر لهم - يشعرون، لا ألا يشعرون، مع ما قيل: (وَلَا يَحسَبَنَّ) بالياء في بعض القراءة، ومتى كان يحسب الكفرة ذلك شرا حتى يعاتبوا على الحسبان؟! واللَّه الموفق. والثاني: قالوا ذلك خبر عما يئول الأمر إليه؛ كقوله - تعالى -: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)، وهم لا لذلك التقطوا، وكمن يقول للسارق: سرقت لتقطع يدك، وكما يقال: من الوافر . . . . . . . . . . . . لدوا للموت وابنوا للخراب والذي قالوه إنما هو تنبيه وإيقاظ لقوم لا يذكرون عواقب الأمور، فيحرصون عليها عن غفلة بالعواقب، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - فمحال أن يكون أمره على ذلك ليكون فيما يذكره ذلك؛ ألا ترى أن أحدًا لا يقول: ولدت للموت، أو بنيتُ للخراب؛ لأنه لا لذلك يفعل، وإن كان إليه يئول، وإنما هو قول الواعظ لهم بما ذكرت؛ كذلك بطل هذا، وأمر قوم فرعون لم يقل: ليكون لهم عندهم؛ إنما هو ليكون لهم عند اللَّه تعالى، وبما أراد اللَّه، وكان كذلك، ولا قوة إلا باللَّه. وقد بيّنا ما في الحكمة تحقيقه من طريق الاعتبار - ولا قوة إلا باللَّه - والأصل في ذلك أن اللَّه - تعالى - عالم بمن يؤثر عداوته ويعاند آياته، فإرادته ألا يكون منه ذلك حاجة إليه في موالاته، أو إيجاب غلبة عليه في بعض ما يريد، جل اللَّه عن هذا الوصف. قوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)

قيل فيه بوجوه: قيل: لا يترك اللَّه المؤمنين على ما أنتم عليه أيها المنافقون؛ ولكن يمتحنكم بالجهاد وبأنواع المحن؛ ليظهر المنافق لهم من المؤمن. وقيل: ليظهر الكافر لهم من المؤمن المصدق. وقيل فيه بوجه آخر: وذلك أن المنافقين كانوا يطعنون لأصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويستهزئون بهم سرًّا؛ فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: لا يدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الطعن فيهم، والاستهزاء بهم؛ ولكن يمتحنكم بأنواع المحن؛ لتفتضحوا وليظهر نفاقكم عندهم. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن قوله: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، أي: لا يدع المؤمنين على ما أنتم عليه من النفاق والكفر في دار واحدة؛ ولكن يجعل لكم دارًا أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب. يجعل الخبيث في النار، والطيب في الجنة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) الآية. وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ): قيل فيه بوجهين: قيل: إنهم كانوا يقولون: لا نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي الأنبياء؛ كقولهم: (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)؛ ومثل قوله: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً)؛ فعلى ذلك قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) إلا من اجتباه لوحيه، وجعله موضعا لرسالته، أي: لا يجعلكم رسلًا؛ إذ علم الغيب آية من آيات رسالته، واللَّه أعلم. وقيل: إن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء، فيسترفون؛ فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم إن الكهنة يخبرون بها غيرهم من الكفرة؛ فأنزل الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ): بعدما بعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نبيا، كما كنتم تطلعون على أخبار السماء قبل بعثه. (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: يصطفي من يشاء، فيجعله رسولًا، فيوحي إليه ذلك، أي: ليس الوحي من

السماء إلى غير الأنبياء، عليهم السلام. ويحتمل قوله - تعالى -: (يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)، أي. لا يُطْلِعُ أحدًا منكم على الغيب إلا من اجتباه منكم لرسالته. ويحتمل قوله: (يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)، أي: لا ينسخ شرائعه وأحكامه برسول آخر؛ نحو ما بَيْن موسى إلى عيسى - عليهما السلام - ولكنه إن كان فيما بينهما نبي لم يجعل له أحكامًا سوى أحكام موسى - عليه السلام - أبقى تلك الأحكام والشرائع؛ وكذلك ما بين عيسى إلى مُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - فاجتبى هَؤُلَاءِ؛ لإبقاء شرائعهم وأحكامهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ): ظاهر (وَإِنْ تُؤْمِنُوا): برسله كلهم. (وَتَتَّقُوا): المعاصي. (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) ويحتمل: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) الشرك (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ). * * * قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)

(180)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ ... (180) أوتوا العلم بالكتاب أن ما يؤتون من المال، وينالون من النيل بكتمان بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته وتحريفهما - أن ذلك، خير لهم. (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) وفي الدنيا والآخرة، ولو لم يكتموا كان خيرًا لهم في الدنيا ذكرًا وشرفًا، وفي الآخرة ثوابًا وجزاء. وقيل: نزلت في مانعي الزكاة؛ بخلًا منهم وشحًا؛ فذلك وعيد لهم. والأوّل أشبه، واللَّه أعلم. وإن كان في الزكاة - قيل: الجحود بها؛ كقوله - تعالى -: (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): فإن كان على التأويل الأول من كتمان نعته وصفته؛ فهو - واللَّه أعلم - يطوق ذلك في عنقه يوم القيامة؛ ليعرفه كل أحد؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ). وإن كان على التأويل الثاني - قيل: إن الزكاة التي منعها تصير حية ذكرًا شجاعًا أقرع ذو ذنبتين، يعني: نابين؛ فيطوق بها في عنقه، فتنهشه بنابيها؛ فيتقيها بذراعيه، حتى يُقضَى بين الناس، فلا يزال معه حتى يساق إلى النار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): في الآية دلالة أن أهل السماوات يموتون، ليس على ما يقوله القرامطة: إنهم لا يموتون؛ لأنه أخبر أن له ميراث السماوات والأرض، والوارث هو الذي يخلف المورَث؛ دلّ أنه ما ذكرنا، وإن كانوا هم وجميع ما في أيديهم لله - عَزَّ وَجَلَّ - ملكًا له وعبيدًا؛ ألا ترى أنه روي في الخبر: " لَا يَرِثُ الكَافِرُ الْمُسلِمَ، وَلَا الْمُسلِمُ الكَافِرَ، إِلا المَوْلَى مِنْ عبدهِ " سمى ما يكون للمولى من عبده ميراثا، وإن كان العبد وما في يده ملكا للمولى:

فعلى ذلك الأول: سمى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك ميراثًا له، وإن كان عبيده وما في أيديهم ملكًا له، واللَّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وقوله - تعالى، -: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): وكانت له لا بحق الميراث؛ لوجهين: أحدهما: على الإخبار عن ذهاب أهلها، وبقائه - عَزَّ وَجَلَّ - دائمًا؛ إذ ذلك وصف المواريث أن تكون لمن له البقاء بعد فناء من تقدم، واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو الباقي بعد فناء الكل، مما يجوز القول بما هو له في الحقيقة من قبله بالميراث؛ من حيث مَلَّكَ غيره الانتفاع بذلك؛ وعلى ذلك المرُوي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَا يَرِثُ الكَافِرُ الْمُسلِمَ، وَلَا الْمُسلِمُ الكَافِرَ، إِلا المَوْلَى مِنْ عَبدِهِ "، وليس ذلك في الحقيقة ميراثًا، إذ كان له في حال حياته؛ ولكن كان ولاية الانتفاع به فزال؛ وعلى مثل هذا وراثة المسلمين الجنة، لا على انتقال من غيرهم إليهم، ولكن على بقائهم فيها، وحصول أمرها لهم، أو على وراثة ما لو كان من لم يؤمن آمن، وما ادعوا أنها لهم بقولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، فصارت ميراثًا لغيرهم ما ادعوا أنها لهم، واللَّه أعلم. والثاني: أن يعلم كل بالموت حقيقتها أنها له فأضيفت إليه بالميراث عنهم؛ كما قال - تعالى -: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جمَيعًا)، (وَإليهِ المَصِيُر)، والمرجع ونحو ذلك من غير غيبة عنه، ولكن ما يعلم كل إذ ذاك ذلك؛ وكذلك قوله - عز وجل -: (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، وهو في الحقيقة كل يوم له، ولا قوة إلا باللَّه. وفي الذكر والإخبار أنها له ميراث - تحريض على الإنفاق والتزود؛ إذ هي في الحقيقة لغير أهلها؛ وإنما لهم ما ينفقون ويتزودون دون ما يمسكون، وفيه منع الإمساك؛ وذلك كقوله - تعالى -: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية

(181)

(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ): وعيد منه - عَزَّ وَجَلَّ - إياهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ (181) قيل: لما نزلت: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا. . .) الآية، قالت اليهود: ربكم يستقرض منكم ونحن أغنياء. وليس في الآية بيان أن ذلك القول إنما قاله اليهود أو غيرهم من الكفرة، ولكن فيه أنهم قالوا ذلك؛ فلا ندري من قال ذلك، ولا يجوز أن يشار إلى أحد بعينه إلا ببيان، ثم يحتمل ذلك القول منهم وجوهًا: يحتمل أن يكون قال ذلك أوائلهم؛ على ما قال في قتل الأنبياء - عليهم السلام - وهَؤُلَاءِ لم يَقْتُلُوا؛ ولكن إنما قتلهم أوائلهم، أضيف ذلك إليهم؛ رضاء منهم بصنيعهم؛ فعلى ذلك القول الذي قالوا يحتمل ما ذكرنا. ويحتمل أن يكون هَؤُلَاءِ قالوا ذلك بحضرة أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبمشهدهم، أو قالوا ذلك في سر. فإن قال ذلك أوائلهم؛ فإنه يحتمل وجهين: يحتمل أن يكون اللَّه - تعالى - أعلم ذلك رسولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ تصبيرًا منه إياه وتسكينًا؛ ليصبر على أذى الكفار؛ حيث قالوا في اللَّه ما قالوا فكيف فيه؟! واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون ذلك ليكون ذلك آية من آيات رسالته. وإن كانوا قالوا ذلك بحضرة أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ففيه -أيضًا- وجهان: أحدهما: ما ذكرنا من التسكين والتصبير على أذاهم. والثاني: ليعلموا أن جميع ما يقولون محفوظ عليهم، ليس بغائب عنه، ولا غافل عنه؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ. . .) الآية، لكنه يؤخر ذلك إلى وقت. وإن كانوا قالوا ذلك سرًا؛ ففيه -أيضًا- وجهان: أحدهما: ما ذكرنا أن يكون آية من آيات النبوة؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك باللَّه، على علم منهم أنه لم يكن فيما بينهم من يُنْهِي الخبرَ إليه. والثاني: خرج على التعزية له والتصبير على أذاهم.

ثم معنى قوله - تعالى -: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، و (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) - يحتمل وجهين: أحدهما: لئلا يمنوا على الفقراء بما يتصدقون عليهم؛ إذ يعلمون أنه ليس بفقير ولا محتاج ليستقرض لفقره ولحاجته، وكل من أقرض آخر لا لحاجة له في ذلك القرض ولا فقر؛ ولكن ليكون ماله عنده محفوظًا في الشاهد - فإنه لا يَمُن الْمُقْرِضُ عليه؛ بل تكون المنة للذي عنده القرض على الْمُقْرِض؛ حيث يحفظ ماله في السفاتج؛ فعلى ذلك المال الذي يقرضون ويتصدقون على الفقراء، يكون محفوظًا عند اللَّه ليوم حاجتهم إليه؛ فلا منة تكون على الفقير، واللَّه أعلم. والثاني: إنباء عن جوده وكرمه؛ لأن العبد وما في يده له، فلو أراد أن يأخذ جميع ما في يده لكان له ذلك، ثم يطلب منه ببدل يضاعف على ذلك. والثالث: أن المولى في الشاهد إذا طلب من عبده القرض؛ يكون في ذلك شرف للعبد وعظم؛ فعلى ذلك اللَّه - تعالى - إذا طلب من عبده القرض، على علم منه في أنه غني بذاته، لا يجب أن يبخل عليه، وفي ذلك شرفه وعظمه، واللَّه أعلم. وقوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ)، قال أهل التفسير: قالت اليهود، وذلك تنبيه بصنيعهم وشدة سفههم؛ حتى زعموا أن يد اللَّه مغلولة، لكن ليس في الآية بيان القائلين، ولا في النسبة إلى أحد تقع سوى خوف الكذب؛ لو لم يكن ذلك منه، لكنهم قالوه، والأغلب على مثله أن يكونوا قالوه سرا، يكون في إظهاره آية الرسالة، أو كانت الأوائل يقولون فيكون في ذلك ذلك؛ إذ لا يحتمل أن يُصْبَرَ لمثله: يقال بحضرة الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - إلا أن يكون في وقت أمروا بالكف؛ فيكون في ذلك بيان قدر طاعتهم لله، مع عظيم ما سمعوا من القول، وجملة ذلك أن في ذكر ذلك دعاء إلى الصبر على أذاهم وسوء قولهم؛ إذ هم مع تقلبهم في نعم اللَّه - تعالى - وعلمهم بأنهم لم ينالوا خيرًا إلا باللَّه - تعالى - اجترءوا عليه بمثل هذا القول، وبلغ عُتُوُّهُم هذا،

واللَّه - جل ثناؤه - مع قدرته وسلطانه يَحْلمُ عنهم ليوم وعدهم فيه الجزاء؛ فمن ليس منه إليهم نعمة ولا تقدم عليهم منه كثير منة - أحق بالصبر لأذاهم، وإعراضٍ عن مكافأتهم؛ وعلى ذلك قوله - تعالى -: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ. . .) الآية، وقال اللَّه تعالى لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنَكتُبُ مَا قَالُوا): قيل: سنجزيهم جزاء ما قالوا، وقيل: سنحفظ ما قالوا، وسنثبت، وسألزم، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ): قد ذكرنا هذا فيما تقدم أنه يحتمل: إذ قتل أوائِلُهم؛ فأضيف إليهم لرضائهم بفعلهم؛ كقوله - تعالى - (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)؛ لرضاه بقتله.

(182)

فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في قوله: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ)، والأنبياء - عليهم السلام - لا يرتكبون ما يجب به قتلُهم؛ كقوله - تعالى - (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. . .) الآية، أطلق القول فيه من غير ذكر اكتساب شيء يستوجب به ذلك، وشرط في المؤمنين اكتساب ما يستوجبون به؛ كقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا. . .) الآية، فكيف ذكر هاهنا - القتل بغير حق، وهم لا يكتسبون ما يستوجبون به القتل؟! قيل: يحتمل قوله: بغير حق، أي: بغير حاجة؛ لأنهم كانوا يقتلون بلا منفعة تكون لهم في قتلهم؛ على ما قيل: إنهم كانوا يقتلون كذا كذا نبيا، ثم يهيج لهم سوق؛ فإذا كان كذلك يحتمل قوله: (بِغَيْرِ حَقٍّ)، أي: بغير حاجة؛ كقول لوط - عليه السلام -: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فقالوا: (مَا لنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ)، أي: من حاجة، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ)، أي: قصدوا قصد قتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فكأنْ قد قتلوه، أو قتلوا أصحابه - رضي اللَّه عنهم - فأضيف إليهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ): أي: الْمُحْرِق، وقد ذكرنا هذا. وقوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ (182) ذكر الأيدي؛ لما بالأيدي يقدم، وإن لم يكن هذا مقدمًا باليد في الحقيقة؛ وكذلك (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، لما باليد يكتسب، واللَّه أعلم.

(183)

قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) وقولهَ عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ): قيل: إنهم لما دعوا إلى الإسلام - يعني: اليهود - قالوا: (إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)، وكان ذلك آية في بني إسرائيل؛ فسأل اليهود منْ نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك. وقيل: كان مِنْ قبلنا، في الأمم الخالية ذلك؛ فسألوا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك، ولكن لم يكن القربان من آيات النبوة والرسالة إن كان؛ فهو من آيات التقوى؛ كقوله - عز وجل -: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ): كان القربان من آيات التقوى؛ ألا ترى أنه قال: يا مُحَمَّد (قُل قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) يعني: القربان؛ (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي: إن كان ذلك من آيات النبوة، لم قتلتم الأنبياء الذين أتوا به؟! أو لِمَ قَتَلَ أوائِلُكُم الأنبياءَ؛ إذ أتوا بالقربان، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): أنه من آيات النبوة، أو (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): أنه عهد إليكم ألا تؤمنوا به حتى يأتي بقربان، واللَّه أعلم. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -أيضًا-: (قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) - فهو، واللَّه أعلم، ادعَوا أن أوائلهم ادَّعَوُا الذي ذكروا من العهد، وهم تبِعُوا أُولَئِكَ، فعرَّفهم صُنْعَ من بدعواهم احتجوا؛ ليكون لهم فيه آيةٌ، أما تكذيبهم بما احتجوا بوصية المتقدمين في ذلك، فَبَطَل عذرهم؛ إذ هم قتلوهم؛ فلا يجوز تصديقهم على العهد الذي ادعوا وذلك صنيعهم، أو يقروا أنهم أُخْبِروا بالعهد من غير أن كان كذبًا وباطلًا؛ فبطل حجاجهم. على أن في الآية: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، فجعل ذلك آية التُّقَى لا آية النبوة. والأصل فيه: أنا لما عرفنا آيات الرسل - عليهم السلام - لا يُذكر فيها

(184)

القرابين؛ ثبت أن هذا الذي ادعوا ليس هو بعهد جاء به الرسل - عليهم السلام - ولكنه حِيَلُ السفهاء بتلقين الشياطين وَوَحْيِهِم؛ لذلك لم يجب الذي ذكروا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ (184) يا مُحَمَّد في القول، وما جئت من آيات تدل وَتُوَضحُ أنك رسول اللَّه، وأنك صادق في قولك (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ) يعزي نبيه - عليه الصلاة والسلام - ويصبره؛ ليصبر على أذاهم وتكذيبهم إياه؛ كما صبر أُولَئِكَ على أذاهم وتكذيبهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. . .) الآية. وفي قوله - تعالى -أيضًا-: (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) وجوه: أحدها: أن يصبره على ذلك بما له فيه أجر أن صبروا، على عظم ذلك عليهم؛ وذلك قوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). والثاني: على رفع العذر عنه في ترك الإبلاغ؛ فإن ذلك لم يمنع من تقدمه. والثالث: على الأنبياء أنهم أصحاب تقليد في التكذيب، لا أن يكذبوا من محنة وظهور؛ فذلك أقل للتأذي، ولتوهم الارتياب في الأنبياء؛ ليستيقن من حضره، وصدقه - أن ذلك منهم على الاعتناد والتقليد دون المحنة والظهور، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِالْبَيِّنَاتِ): قد ذكرناها فيما تقدم في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالزُّبُرِ): قيل: أحاديث الأنبياء - عليهم السلام - من قبلهم بالنبوة على ما يكون. وقيل: الزبر: هي الكتب، أي: جاءوا بالبينات والزبر، يعني: الكتب. (وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ): قيل: الزبر والكتاب واحد. وقيل: (وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ): هو الذي فيه الحلال والحرام، والأحكام المكتوبة عليهم. والمنير: هو الذي أنار قلب كل من تمسك بالهدى؛ كما قيل في الفرقان أنه يفصل ويفرق بين الحق والباطل، واللَّه أعلم. وتسمي كتب اللَّه كلها فرقانًا ومنيرًا؛ بما تفرق بين الحق والباطل، وتبين السبيلين

(185)

جميعًا، واللَّه أعلم. قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ): فيه دلائل: أحدها: دليل إثبات الرسالة؛ لأنه ليس في العقل ألا تبقى هذه الأنفس أبدًا، ولا تدوم، ولا فيه آثار فنائها وموتها، ثم وجود العلم من كل منهم بالموت، والتسليم له، والإقرار منهم أن كل نفس تموت - يدل أنهم إنما عرفوا ذلك وأيقنوا به من خبر السماء بالوحي، واللَّه أعلم. ثم إن كل حي يتلذذ بحياته، وحُبِّب ذلك إليه، ويتكره الموت ويبغضه؛ دل أن هذا العالم لم يكن بالطباع، ولكن كان بغيره؛ لما يتلذذ طبع كل منهم بالحياة، ويتكره بالموت ويتنغص به؛ إذ لو كان به: لكان يختار ما يتلذذ به، ولدفع ما يتكره به؛ فدل أن غيرًا فَعَلَ ذلك وخلق؛ لما ذكر: (خلق الموتَ وَالحيَاةَ) الآية؛ وفي ذلك بطلان قول أصحاب الطبائع. وأيضًا: أن كل نفس يجتمع فيها الطبائع المختلفة المتضادة، التي من طبعها التنافر - لم يجز أن يكون بنفسه تجتمع؛ دل أن له جامعًا. وأيضا: إن كان العالَم لو كان بنفسه وطبعه لاختار كل لنفسه أحوالاً: أحسنَ الأحوال وألذها؛ فيبطل به الشرور والقبائح؛ فدل وجود ذلك على كونه بغيره. ثم فيه أن ذلك الغير -الذي كان به العالم- واحدٌ لا عدد؛ إذ لو كان بعدد لم يحتمل وجود العالم على الطبائع المختلفة والهمم المتفرقة: لما جَمَعَ هذا فَرَّقَ الآخر، وما أثبت هذا نفي الآخر، وفي ذلك فساد الربوبية؛ فدل وجوده على ما ذكرنا: أنه واحد لا عدد؛ فاتسق تدبيره ونفذ أمره، مع ما كان الأمر المعتمد بين الملوك في الشاهد: أن من فعل هذا نقض الآخر، وما رام هذا إيجادَهُ يريد الآخر إعاقتهُ، وما أبقى هذا أراد الآخر إفناءه؛ وفي ذلك تناقض وتناف؛ فدل الوجود على. أن الذي به كان - واحد لا عدد، ثم يحتمل على الاصطلاح منهم؛ لأنه يدل على العجز والجهل: أن العجز والجهل هو الذي حملهم على الاصطلاح، والعاجز والجاهل لا يصلح أن يكون إلهًا وربًّا، وباللَّه التوفيق.

ثم الدلالة على حكمته وعلمه: ما لم يُعَايَنْ شَيءَ وَلَا يُشَاهَدْ إلا وفيه حكمة عجيبة، ودلالة بديعة مما يَعْجَزُ الحكماء عن إدراك مائيته، وكيفية خروجه على ما خرج، وعلم كل أحد منهم بتصور علمه على ما عنده من الحكمة، والعلم عن إدراك كُنْهِ ذلك فيما ذكرنا، وخروجُ الفعل متقنًا محكمًا - دلالةُ حكمةِ مبدعه وخالقه، وباللَّه التوفيق. ثم الدلالة أنه لم يخلق الخلق للفناء خاصَّة؛ ولكن خلق للعواقب: يتأمل ويرجى ويخاف ويحذر - خروج فعل كل أحد في الشاهد من الحكمة إذا بنى للفناء والنقض، فإذا كان الحكمة التي هي جزء يُخرج فعلَهُ عن الحكمة؛ إذا كان ذلك للفناء والهلاك خاصَّة، فخروج الكل عن ذلك لذلك أحرى وأولى أن يكون سفها لا حكمة، واللَّه الموفق. قال: دلت طمأنينة القلوب بموت كل نفس، وترك حكماء البشر الاحتيال - في دفعه، على ما ليس في الجوهر دليله، ولا في العقل امتناعه - أنه عرف ذلك بمن له التدبير فيها بالوحي إليه؛ وفي ذلك إيجاب القول بالرسل، ثم دل قهر جميع الحكماء به على حب الحياة إليهم، وبغض الموت عندهم - على خروج جميع الأحياء عن تدبيرهم، وفي خروجهم خروج الأموات؛ إذ هم تحت تدبير الأحياء. ثم في طمأنينة كل قلب على الموت دلالةُ التدبير للواحد؛ إذ لو كان لأكثر لَجُوز التمانع وإبطال الوارد من الحي؛ وفي ذلك ارتياب، مع ما كانت كل نفس تحت أمور تقهرها، وتحوجها إلى أمور تعلم أن مدبرها هيأها على ذلك وطَبَعَهَا، وأنه العليم بما به صلاحها وقوامها وإليه حاجتها، وعلى ذلك جبلها؛ ليظهر عظيم حكمته وتعاليه عن الشرك في التدبير، أو المعونة في التقدير. ثم لا يحتمل نشوء مثله على ما جرى عليه من حكمته في موت كُل - أنه كان للموت أنشأ لا لغير؛ إذ تدبيرُ فعلٍ واحد للفناء خاصَّة من حكماء البشر - يُخْرِج عن معنى الحكمة، ويدل على قصور صاحب ذلك وسفهه؛ فجملة العالم الذي كانت حكمة الحكماء جزءًا منها، وعقل العقلاء بعضًا منها - أحق وأولى؛ فثبت أنها أُنْشِئَتْ (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)، ويوم تجزى كل نفس بما كسبت، وذلك قوله - تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لما ذكرنا أنهم لها خلقوا -أعني: الآخرة- للجزاء والثواب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ):

(186)

قيل: بُعِّدَ ونُحِّيَ عنها. (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ): قيل: فاز: نجا، وقيل: سَعِدَ، وقيل: الفائز: السابق، وقيل: فاز: غنم. وأصل الفوز: النجاة، أي: نجا مما يخاف ويحذر، ويظفر بما يتأمَّل ويرجو. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ): حياة الدنيا للدنيا غرور؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)، حياة الدنيا للدنيا لعب ولهو وغرور، وللآخرة: ليست بلعب ولا لهو ولا غرور. وأصل الغرور: هو أن يتراءى الشيء في ظاهره حسنا مموهًا؛ يغتر بها كل ناظر إليها ظاهرًا، فإذا نظر في باطنها وجدها قاتلة مهلكة، نعوذ باللَّه من الاغترار بها. وقيل: الحياة الدنيا -على ما عند أُولَئِكَ الكفرة- لعب ولهو، وعند المؤمنين حكمة. * * * قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ): يحتمل الابتلاء في الأموال والأنفس: أن يُبلَوْا بالنقصان فيها؛ كقوله - عز وجَل -: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ. . .) الآية. ويحتمل: أن يُبلَوْا بما جعل فيها من العبادات، من نحو: الزكاة في الأموال والصدقات والحقوق التي جعل فيها، وفي الأنفس: من العبادات: من الصلاة والجهاد والحج، وغيرها من العبادات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ):

(187)

يعني: الذين لهم علم بالكتاب ومن غيرهم. (أَذًى كَثِيرًا) أي: تسمعون أنتم من هَؤُلَاءِ أذى كثيرًا، على ما سمع إخوانكم الذين كانوا من قبلكم من أقوأمهم أذى كثيرًا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَصْبِرُوا): على أذاهم. (وَتَتَّقُوا): مكافأتهم، على ما صبر أُولَئِكَ واتقوا مكافأتهم. (فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ): قيل: من خير الأمور؛ هذا يحتمل. وقيل: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ومن قولهم: عزير ابن اللَّه، والمسيح ابن اللَّه، (وَمِنَ الَّذِينَ أَشرَكوُا)، يعني: العرب، (أَذًى كَثِيرًا)، يعني: نصب الحروب فيما بينهم، والقتال، والسب وغير ذلك، (وَإِنْ تَصْبِرُوا): على ذلك والطاعة له، (وَتَتَّقُوا): معاصي الرب، (فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ):، يعني. من حزم الأمور. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ (187) أي: الذين أوتوا العلم بالكتاب، وأَخَذَ الميثاق؛ ليبينوا، أي: يُبَيِّنُوا للناس ما في الكتاب من الأمر والنهي، وما يحل وما يحرم، وغير ذلك من الأحكام، ولا يكتموا ذلك. ويحتمل: أن أخذ عليهم الميثاق: أنْ بَيّنُوا للناس بَعْثَ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفَتَهُ، ولا تكتموه بالتحريف وبترك البيان. وقوله: (فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهورِهِم) أي: لم يعملوا بما فيه، ولا بينوا للناس؛ فهو كالمنبوذ وراء ظهورهم. (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. . .) الآية: قد ذكرنا معناه في غير موضع.

(188)

وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " ما أخذ اللَّه ميثاقًا على أهل الجهل بطلب العلم، حتى أخذ ميثاقًا من أهل العلم ببيان العلم؛ لأن العلم كان قبل الجهل ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا (188) قيل: بما غيَّروا من نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته في كتابهم وكتموه، وتبديلهم الكتاب، وإعجاب الناس ذلك وحمدهم على ذلك. وقيل: إن اليهود دخلوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: نحن نعرفك ونصدقك - وليس ذلك في قلوبهم - فلما خرجوا من عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟ فيقولون: عرفناه وصدقناه؛ فيقول المسلمون: أحسنتم، بارك اللَّه فيكم: يحمدهم المسلمون على ما أظهروا من الإيمان، وهم يحبون أن يحمدوا على ذلك؛ فذلك تأويل قوله: (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا). وقيل: إنهم قالوا: نحن أهل الكتاب الأول والعلم، وأهل الصلاة والزكاة. ولم يكونوا كذلك، وأحبُّوا أن يحمدوا على ذلك، واللَّه أعلم بالقصَّة. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا. . .) والآية - دلّ ما ذم اللَّه عباده، وأوعدهم عليه أليم عقابه فيما أحبُّوا الحمد على ما لم يفعلوا - على تعالى الرب عن قول المعتزلة في قولهم: ليس لله في الإيمان

تدبير سوى الأمر، ولا صُنْع، وقد أحث أن يحمد عليه بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، وبقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ)، وقولهِ - تعالى -: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ)، في غير موضع من القرآن، ولا قوة إلا باللَّه. * * * قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) قال اللَّه - تعالى -: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): امتدح - جل ثناؤه - بإدخال كلية الأشياء تحت قدرته، وبه خَوَّفَ من عاند نعمته، وأطمع من خضع له عظيم ثوابه؛ فلئن جاز إخراج شيء تحت القدرة عن قدرته، لاضمحل الخوفُ عما خوَّفَهُ، والرجاءُ فيما أطمعه؛ إذ لم يظهر على ذلك قدرته إلا بقوله: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وما لا صنع لأحد في شيء إلا بأقداره، ومحال أن يقدر على ما لا يقدر هو عليه، أو يزول به قدرته؛ لما فيه ما ذكرت؛ فلذلك قلنا في بطلان قول المعتزلة بإخراج أفعال صنع الخلق عن قدرة اللَّه، وامتناعه عن تدبيره، ولا قوة إلا باللَّه. قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). .) إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) نقول - وباللَّه نستعين -: أخبر اللَّه - تعالى - أن فيما ذكر آيات لمن ذكر، ومعلوم أن الآيات إنما احتيج إليها لمعرفة أمور غابت عن الحواس، يوصل إليها بالتأمل والبحث عن الوجوه التي لها جعلت تلك الأشياء المحسوسة، التي يغني من له اللب دخولها تحت الحواس - عن تكلف العلم بها بالتدبير، بل علم الحواس هو علم الضرورات وأوائل علوم البشر الذي منه يرتقي إلى درجات العلوم؛ فيلزم طلب ذلك؛ فيبطل به قول من قال: العلوم كلها ضرورات لا تقع بالأسباب، ولا يلزم الخطاب دون تولى الرب إنشاءَ العلم في القلوب بحقيقه ما فيه الخطاب؛ إذ ذلك يرفع حق الطلب، ويستوفي فيه الموصوف باللبِّ وغير الموصوف، والمتفكر في الأمر وغير المتفكر، وقد قال اللَّه - تعالى -: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية، وفي ذلك دليل أن المقصود مما أظهر ليس هو ما أظهر، إذ لزم التفكر بالذي أظهر؛ ليوصل به إلى العلم بالذي له أنشأ الذي أظهر، ويعلم ما جعل في الذي دليله وعلمه، وهذا لكل أنواع العلوم أن منها ظاهرًا مستغنيا بظهوره عن الطلب، وخفيًّا يطلب بما له في الذي ظهر من أثر ينبئ عنه التأمل،

واللَّه أعلم. وفي ذلك دليل لزوم التوحيد باللبِّ؛ إذ صيرها آيات لمن له ذلك، وأوَّل درجات الآيات أن يُعَرف منشئها وجاعلها آيات، واللَّه أعلم. ثم دلَّ اتصال منافع السماء والأرض على تباعد ما بينهما، حتى قام بها وحي جميع من دب على وجه الأرض وانتفع بشيء، ثم في إيصال الليل بالنهار في منافع كل حي على تضاد ما بينهما؛ حتى صارا كالشكيلين، والسماء والأرض كالقرينين - على أن منشئ ذلك كله واحد، وأنه لو اختلف الإنشاء لتناقض التدبير، وبَطَلَ وجوه النفع، وأن الذي أنشأ ذلك علم كيف يدبر لاتصال المنافع واجتماعها بغيرها، على اختلافِ ما بينها، وأنه حكيم وضع كل شيء على ما لو تدبر الحكماء فيه -لم يكن يُعْرَفُ اتصال أقرب في المنافع، على اختلاف في الجواهر، وتضاد في الأحوال- أبلغَ من ذلك؛ بل تقصر حكمتهم عن الإحاطة بوجه الحكمة، أو الظفر بطرف منها، إلا بمعونة مَنْ دَبَّرَ ذلك سبحانه، - وذلك هو الدليل على قدرته وعلو سلطانه؛ إذ سخر ذلك كلها لبذل ما فيها من المنافع لمن جعلها له، وجعل لبعض على بعض سلطانًا وقهرا؛ ليُعْلَمَ أن التدبير يرجع إلى غير ذلك، ويُعْلَمَ أن من قَدَرَ على ذلك، وعلم قبل خلق المنتفعين بما خلق على أي تدبير يخلق ذلك، وبأي وجه يصل كل خلق في ذلك إلى منافعه بها، وما الذي سوى معاشهم، وعلى أي تدبير، دلهم عليه - لقادر على إعادة مثله، والزيادة منه على أنواع ذلك؛ إذ كل أمر له حق الابتداء - كان ذلك أبعد عن التدبير مما له حق الاحتذاء بغيره أو الإعادة، مع ما كان في إعادة الليل والنهار، وجعل كُل من ذلك كالذي، مضى، وإن كان الذي مضى -مرة- دلالة كافية للبعث والقدرة عليه، واللَّه الموفق. ومنها: أنها جعلت على تدبير يُعَرِّفُ صَاحِبَهَا ومُنْشِئَهَا، وأنه دبرها على ما فيها من وجوه الحكمة التي صارت الحكمة جزءًا منها، وفنون العلم التي تنال بالتأمل فيها، مما يوضح أن الذي أبرمها حكيم عليم، مع ما فيها من آثار الإحكام والإتقان الكافية في الإنباء عن الإنشاء للحكمة، وأن الذي أبدع ذلك ليس بعابث ولا سفيه.

ثم معلوم أن الفعل للهلاك والفناء غيرُ داخل في الحكمة؛ ثبت أن ذلك غير مقصودا فصار المقصود من ذلك وجهًا يبقى؛ فثبت أن مع هذه دارًا أخرى تبقى، فهي المقصود، وجعلت بحق الجزاء؛ وفي ذلك لزوم المحنة والقول بالرسالة؛ ليعلم بالوحي كيفية وجوه المحنة مع ما لم يخل شيء من أن يكون فيه آثار النعمة، من غير أن كان منه ما يستحق ذلك؛ فثبت أنه في حق الابتداء، ولازمٌ شكر المنعم في العقول؛ فيجب به وجهان: أحدهما: القول بالرسل؛ لبيان وجوه الشكر؛ إذ النعم مختلفة، وأصل الشكر يتفاضل على قدر المنعمين؛ وكذلك النعم تتفاضل على قدر تفاضل متوليها، لابد من بيان ذلك ممن يعرف حقيقة مقادير النعم، وجلالة حق المنعم، وباللَّه التوفيق. فكان فيها آيات الرسالة والتوحيد، وحكمته وقدرته وعلمه وجلاله عن الأشباه والشركاء، وبها جل عن احتمال الشرك في صنعه، أو الشبه في فعله على أن كليةَ كُلّ مَنْ سواه تحت القدرة، وهو المتعالي عن ذلك. وفيه دلالة البعث؛ لما ذكرت، ولما إذ لزم الشكر بما ذكرت -لزمت عقوبة الكفران، وقد يخرج المعروف به سليمًا غريقًا في النعم، وفي الحكمة والعقل عقوبته- لزم أن يكون ثَمَّ دارٌ أخرى، مع ما كان خلق الخلق، لا لين يعرف الحكمة من السفه، والولاية من العداوة، والخير من الشر، والرغبة من الرهبة، لا معنى له بما فيه تضييع الحكمة، وجمع بين الذي حقه التفريق في الحكمة والعقل، وذلك آية السفه، ومحال كونه ممن الحكمة صفته والعدل نعته؛ فلزم به خلق الممتحن بالذي ذكرت؛ فصار جميع الخلائق للمحن. ثم لابدَّ من ترغيب وترهيب؛ إذ على مثله جُبِل محتملو المحن؛ فلزم به القول بالدار الأخرى، وهو البعث؛ ليكون إحداهما بحق ابتداء النعم، والأخرى: بحق استحقاق الجزاء، وإن كان لله التكليف بلا جزاء سابق النعم، ولا قوة إلا باللَّه. والمعاقبة واجبة في الحكمة للجفاء والكفران، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) وقيل: بمفازة، أي: بنجاة من العذاب، وهو ما ذكرنا من الفوز أنه نجاة على ما

(189)

يخاف ويحذر، أي: ليسوا هم بنجاة، من العذاب، بل لهم عذاب أليم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) يشبه - واللَّه أعلم - أن يكون هذا جوابًا لقولهم: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) أي: كيف جاز نسبة الفقر إليه والحاجة، وله ملك ما في السماوات وما الأرض؟! ونسبة الغنى إلى أنفسكم، وأنتم عبيده وإماؤه، وما في يد العبد يكون لمولاه؟!. أو أن يكون جوابًا لقولهم: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)، أي: كيف يجوز أن يتخذ ولدًا، وله ملك ما في السماوات وما في الأرض، كلهم عبيده وإماؤه؟! والولد في الشاهد إنما يُتَّخَذُ لأحد وجوه ثلاثة: إمَّا لوحشة أصابته فيستأنس به، أو لحاجة تبدو له فيُدْفع به، أو لقهر وغلبة يخاف من عدوٍّ؛ فيستنصر به على أعدائه، ويرث ملكه إذا مات. فإذا كان اللَّه له ملك السماوات والأرض وتعالى عن أن يصيبه شيء من ذلك؛ كيف جاز لكم أن تقولوا: اتخذ ولدًا؟! وإن كان الخلق كلهم عبيده وإماءه، وأنتم لا تتخذون الأولاد من عبيدكم وإمائكم؛ كيف زعمتم أنه اتخذ ولدًا من عبيده؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): وهذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: لا يقدر على خلق فعل العبد، وعلى قولهم: غير قادر على أكثر الأشياء، وهو قد أخبر أنه على كل شيء قدير. * * * قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) .

(190)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) في الآية وجوه. أحدها: أنه خلق السماوات والأرض للبشر ولمنافعهم، لا أنه خلقهما لأنفسهما: لا منفعة لهما بخلقه إياهما؛ حتى يكون خلقه لأنفسهما؛ إذ خلق الشيء لا لمنفعة أحد أو للفناء خاصة - عَبَث، فإذا كان ما ذكرنا أنه لا منفعة لهما في خلقهما - دل أنه إنما خلقهما لمنافع البشر، وسخرهما لهم، ثم جعل منافع السماء مع بُعْدِها من الأرض متصلة بمنافع الأرض؛ حتى لا تقوم منافع هذا إلا بمنافع الآخر؛ فيصيرهما كالمتصلين؛ لاتصال المنافع مع بعد ما بينهما؛ فدل هذا أن الذي أنشأهما واحد. وكذلك: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ): هما مختلفان: أحدهما ظلام والآخر نور، يُفْنِيان الأعمار ويقربان الآجال، وليس بينهما في رأي العين تشابُه ولا تشاكل؛ إذ أحدهما نور والآخر ظلام، وهما متضادان، لكن خلقهما لمنافع البثر، والمقصود بخلقهم بنو آدم لا أنفسُهُم، على ما ذكرنا أنْ لا منفعة لهم في خلقهم، ثم صيرهما مع اختلافهما وتضادهما كالشكلين؛ لاتصال منافع بعضها ببعض؛ دل أن منشئهما واحد، وأنه عليم حكيم؛ حيث جمع من المتضادين المختلفين وصيرهما كالشكلين؛ وهما لعلم وحكمة وتدبير صارا كذلك. وفيهما دلالة البعث؛ لأنهما يَفنيان حتى لا يبقى من الليل أثر حتى يجيء النهار، فيذهب النهار أيضا حتى لا يبقى من النهار أثر، فيجيء آخر، لا يزالان كذلك، فإذا كان قادرًا على خلق الليل وإنشائه من غير أثر بقي من النهار؛ وكذلك قادر على إنشاء النهار من غير أن بقي من الليل أثر ظلام - لقادر على أن ينشئ الخلق ثانيا ويحييهم، وإن فَنوا وهلكوا ولم يبق منهم أثر؛ فإذا كان ما ذكرنا من خلق السماوات والأرض وما فيهما لمنافع البشر، وهو المقصود من خلقهما لا غيرهم من الخلائق؛ لما ركب فيهم من العقول والبصر الذي بهما يميزون بين المنافع والمضار، وبين الخبيث والطيب، وبين الحسن والقبيح، ولم يركب ذلك في غيرهم من الخلائق - لابد من أمر ونهي: يأمر بأشياء، وينهى عن أشياء؛ يمتحنهم على ذلك؛ إذ هم أهل التمييز والفهم والبصر؛ فإذا كان ما ذكرنا، لابد -أيضًا- من دار أخرى للجزاء، يُكْرَمُ المطيع له فيها والولي، ويُعَاقَبُ العدو فيها والعاصي، ولا قوة إلا بالله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ (191)

(192)

يحتمل هذا لما جعل اللَّه - تعالى - على العبد في كل حالٍ نعمةً ليست تلك في غيرها من الأحوال، نحو: أن جعل القيام نعمة في قضاء حوائجه وتقلبه في تلك الحال، وجعل القعود راحة له عند الإعياء، وكذلك الاضطجاع؛ فاستأداهم بالشكر له في كل نعمة على حال من تلك الأحوال، ومدحهم على ذلك إذا فعلوا. ويحتمل: أن يكون - تعالى - أمرهم أن يذكروه في كل حال: في حال الرخاء والشدة، وفي الضراء والسراء، لا في حال دون حال، على ما يفعله بعض خلقه: يذكرونه في حال الشدة والضراء، ولا يذكرونه في حال الرخاء واليسر، ويذكرونه في حال الرخاء واليسر، ولا يذكرونه في حال الشدة والبلاء، فمدح المؤمنين أنهم يذكرونه في كل حال، لا على ما يفعله أهل الشرك على إرادة نفس القيام، ونفس القعود والاضطجاع؛ ولكن على كل حال وفي كل وقت، واللَّه أعلم. وقيل: إنه جاء في رخصة صلاة المريض: يصلِّي قائمًا إن استطاع، وإلا فقاعدًا إن لم يستطع، وإلا فمضطجعًا، وكذلك روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إذ في خلقهما دليل وحدانيته، وشهادة ربوبيته. (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا): أي: عبثًا، ولكنَّ خَلْقَهُم دَلِيل على وحدانيتك، وشاهد على ربوبيتك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَكَ): هو للتبرئة، والتنزيه: هو إبعاده عن العيب، وتبريئه منه، وتطهيره عما يقول الكفار، وهو حرف يقدم عند حاجات ترفع إليه، ودعوات يدعى بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ (192)

(193)

قيل: أَذْلَلْتَهُ وفضحتَهُ وأهنتَه. (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ): أي: مانع يمنع عنهم العذاب ويدفع، ويحتمل الأنصار: الأعوان، أي: ليس لهم أعوان يعينونهم في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ (193) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: على حقيقة السمع أن سمعوا مناديًا يدعوهم إلى الإيمان، وهو رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو القرآن، كلاهما يدعوان الخلق إلى الإيمان باللَّه. ويحتمل قوله: (سَمِعنَا)، أي: عقلنا، وعَقْلُ كُل أحد يدعو إلى التوحيد والإيمان به. وقيل: سمعوا دعوة اللَّه فأجابوها، وصبروا عليها. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المنادي: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم قرأ: (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. . .) هو الآية. وعن غيره: المنادى هو الترآن، يدعوهم (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمَنَّا رَبَّنَا) وفيه دلالة أن الإيمان ليس هو جميع الطاعات، على ما يقول بعض الناس؛ ولكنه فرد تصديق؛ لأنه لما قال لهم: آمنوا بربكم لم يطلبوا التفسير، ولا قالوا: كم أشياء تكون؟!، ولكن أجابوه إجابة موجزة، فقالوا: (فَآمَنَّا رَبَّنَا). ثم فيه دلالة أن لا ثُنَيَّا في الإيمان؛ لأنهم أطلقوا القول في الإخبار عن إيمانهم من غير ذكر حرف الثنيا؛ دلَّ أن

(194)

الإيمان مما لا يحتمل الثنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا): قيل: قولهم: (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا): التي كانت فيما مضى من عمرنا، (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا)، أي: اعصمنا فيما بقي من عمرنا، أو: وفقنا للحسنات التي تكفر سيئاتنا؛ لما قد يلزم العبدَ التكفيرُ لما أساء. وقيل: المغفرة والتكفير كلاهما سواء؛ لأن المغفرة هي الستر، وكذلك التكفير " ولذلك سُمِّي الحراثون: كفارًا؛ لسترهم البذر في الأرض؛ وكذلك الكافر سمى كافرًا؛ لستره الحق بالباطل، ولستره جميع ما أنعم اللَّه عليه بتوجيه الشكر إلى غيره، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ): يحتمل قوله: (وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)، أي: توفنا واجعلنا مع الأبرار. ويحتمل: وتوفنا من الأبرار وفي الأبرار. ثم اختلف في البَرِّ: قيل: هو الذي لا يؤذى أحدًا، وقيل: الأبرار: الأخيار. ويحتمل: توفنا على ما عليه توفيت الأبرار، وتوفنا وإنَّا أبرارٌ. والبر: الطاعة، والتقوى: ترك المعصية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ (194) قيل فيه بوجهين: قيل: وآتنا ما وعدتنا على ألسن رسلك، على إضمار " ألسن " كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا). وقيل: (مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)، أي: ما جعلت عليهم من الاستغفار للمؤمنين؛ كقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، وكقول إبراهيم - عليه السلام -: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ)، وكقول نوح - عليه السلام -: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ). ثم بيننا وبين المعتزلة كلام في الآية: قالت المعتزلة: يجوز الدعاء والسؤال عنه بما قد أعطى، وما عليه أن يعطي نحو ما ذكر من السؤال بما وعد، وما وعد لا شك أنه يعطي،

(195)

وأنه لا يخلف الميعاد، ونحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)، وهو لا يحكم بالجور. وأما عندنا: أن السؤال عما عليه أن يعطي - يخرج مخرج الدعاء له ربنا لا تَجُر ولا تَظْلم، إن هذا لا يقال إلا لمن يخاف الجور منه والظلم؛ إذ يعلم أن ذلك عليه، والسؤال عما قد أعطى محال؛ لأنه يخرج مخرج كتمان ما أعطى، أو ليس عنده ما يعطيهم؛ فيخرج مخرج السخرية به؛ لذلك بطل السؤال، واللَّه أعلم. ثم تأويل الآية عندنا على وجوه: أحدها: قوله: (وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)، يحتمل أن يكون الوعد منه لرسله باستغفار الرسل، إذا كان من المؤمنين استغفار وسؤال؛ كقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ. . .) الآية: وعد لهم المغفرة لهم باستغفار الرسول؛ إذا كان منهم استغفار وسؤال، يقول: اجعل دعائي دعاء من جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مستغفرًا فاستغفر له، وكقوله -أيضًا-: (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا). والثاني: يحتمل أن يكون الوعد لهم؛ إذا ماتوا على ذلك، فالدعاء كان منهم، والسؤال: أنه إذا أماتهم يميتهم على الإيمان، على ما كانوا أحياء، والمغفرة والرحمة حينئذ تكون لهم؛ ألا ترى أنه قال: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ)، فله كذا، ولم يقل: من عمل بها فله كذا، ولكن ذكر مجيئه بها، فعلى ذلك الأوَّل، واللَّه أعلم. ثم يحتمل ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وفيما ذكر من تأويل الآية في الابتداء كفاية من ذلك، واللَّه أعلم. والثالث: يدعو؛ ليجعلهم من الجملة الذين كان لهم الوعد؛ إذ الوعد غير مُبَيّنٍ لمن هو؛ فسألوا أن يجعلهم في تلك الجملة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) هذا يدل أن الوعد لهم كان مقرونًا بشرط السؤال؛ لأنه قال: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ)،

(196)

والاستجابة تكون على أثر السؤال؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ. . .) الآية. وقوله تعالى: (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ). قيل: من الخلق كلهم، لكن جعل جزاء أعمال الكفرة في الدنيا؛ كقوله تعالى: (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)، وأما المؤمنون: في الدنيا والآخرة، وأما الكفار فإنما يعطيهم ابتداء ليس بجزاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ)، أي: نردها عليهم، وهم لا يبخسون أرزاقهم. وقيل: قوله: (مِنْكُمْ) - إشارة إلى المؤمنين خاصَّة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي. . .) الآية: الذين هاجروا: إلى اللَّه تعالى ورسوله طوعًا، (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ)، أي: اضطروهم حتى خرجوا من ديارهم فهاجروا، (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي)، أي: في طاعتي، (وَقَاتَلُوا): حتى (قُتِلُوا). ويحتمل هذا كله أنْ هاجر بَعْضٌ طوعًا، وبعض أُخرجوا من ديارهم حتى هاجروا، وقاتل بعضٌ حتى قتلوا، وقاتل بعض ولم يُقْتلوا، وقُتِل بعض. وقوله: (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .) الآية تأويلها ظاهر. * * * قوله تعالى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ): يحتمل تقلبهم وجوهًا. وذلك نعمة من اللَّه عليهم؛ لترْكِهِم يَتَّجِرون في البلدان مع كفرهم بربهم. والثاني: أعطاهم أموالًا يتنعمون فيها ويتلذذون.

(198)

والثالث: ما أخر عنهم العذاب والهلاك إلى وقت. يقول: لا يغرنك يا مُحَمَّد ذلك؛ إنما هو متاع يسير، ومصيرهم إلى النار؛ كقوله - تعالى -: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ. . .) والآية؛ وكقوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. . .) الآية. قال: وليس الاغترار في نفس التقلب؛ لأنه جهد ومشقة؛ ولكن لما فيه من الأمن والسعة والقوة؛ دليله قوله - تعالى -: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ)، ثم قال: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ)، وسعيهم للآخرة متاع لا ينقطع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ (198) يعني: الشرك (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .) إلى آخر ما ذكر (ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ). يحتمل أن يكون الأمر ما ذكر في بعض القصة: أن بعض المؤمنين قالوا: إن الكفار في خصب ورخاء، ونحن في جهد وشدة؛ فنزل: لا يغرنك تقلبهم في ذلك؛ إنما هو متاع قليل، وذلك ثوابهم في الدنيا، وأما ثواب الذين اتقوا ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار. . . إلى آخر ما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ (199) ويعني: القرآن. (وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ) ويعني: التوراة. ثم اختلف في نزوله: قَالَ بَعْضُهُمْ: نزل في شأن عبد اللَّه بن سَلام وأصحابه: أقرُّوا بأنه واحد لا شريك له، وصدقوا رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما أنزل عليه. . . ". وقيل: نزل في شأن النجاشي، وروي عن جابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن

(200)

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما صلى على النجاشي قال أناس من المنافقين: يصلي على حبشي مات في أرض الحبشة؟! فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ. . .) الآية. وعن الحسن قال: لما مات النجاشي، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " استغفروا لأخيكم " قالوا: يا رسول اللَّه، لذلك العِلْج؟! فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ. . .) الآية، وقيل: لما صلَّى عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ قال المنافقون: صلى على من ليس من أهل دينه؟ فأنزل اللَّه الآية. وعن الزهري عن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلى على النجاشي، فكبَّر عليه أربع تكبيرات، وصففنا في المصلَّى خلفه، وكان مات بالحبشة. قال: والنوازل على وجهين: من ترك بسببه خيرًا وسعة فله فيه فضل؛ لأنه كان مفتاح الخير، ومن ترك بسببه ضيقًا فعليه فضل لوم؛ كأنه مفتاح الضيق. وأمَّا الأحكام: فإنه ينظر إلى ما فيه نزل فيشترك فيه الخلق، ولا يجوز أن يقال: نزل في شأن فلان؛ إنما أنزل لما في شأن فلان، لا في شأنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا (200) قيل: على أداء الفرائض والعبادات، وقيل: اصبروا على البلايا والمصائب والشدائد:

(وَصَابِرُوا) في الجهاد لعدوكم. وقيل: اصبروا على أمر اللَّه وفرائضه، وصابروا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله وصحبه في المواطن. وعن الحسن قال: أُمِروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضى اللَّه لهم، وهو الإسلام، ولا يَدَعُوا دينهم؛ لشدة ولا لرخاء، ولا ضراء، ولا سراء، حتى يموتوا، ويكونوا يصابرون الكفار، حتى يكونوا هم يميلون عن دينهم، وأمروا أن يرابطوا المشركين. وقيل: اصبروا على الجهاد، وصابروا لعدوكم. (وَرَابِطُوا) أي: داوموا على دينكم. (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): قال: والصبر في نفسه خاصة في طاعة يصبر عليها، ومعصية يصبر عنها وفي بلوى، والمصابرة مع غيره، وقد يكون كل واحد على المعنيين؛ لأنه لا يخلو عن مصابرة عدو فيما يطيع ربه. وقيل: رابطوا مع عدوكم ما أقاموا، واتقوا اللَّه فيما أمركم به، فلا تدعوا ذلك مع نبيكم، وذروا ما نهاكم عنه، ولا قوة إلا باللَّه. * * *

سورة النساء

سُورَةُ النِّسَاءِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) في كل ما كان الخطاب للكفرة: ذكر اللَّه - سبحانه وتعالى - على أثره حُجج وحدانيته، ودلائل ربوبيته؛ لأنهم لم يعرفوا ربهم، من نحو ما ذكر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. . .) الآية، وكقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. . .) الآية، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، ونحوه كثير: ذكر الحجج والدلائل التي بها يوصل إلى معرفة الصانع وتوحيده؛ لينظروا فيها وليتفكروا؛ فيعرفوا بها خالقهم وإلههم. وفي كل ما كان الخطابُ للمؤمنين: لم يذكر حجج الوحدانية، ولا دلائل الربوبية؛ لأنهم قد عرفوا ربهم قبل الخطاب، ولكن ذكر على أثره نعمه التي أنعمها عليهم، وثوابه الذي وعد لهم، نحو قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا. . .) إلى آخر ما ذكر، ذكر نعمه التي أنعمها عليهم، وكقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ. . .) كذا إلى آخر ما ذكر؛ على هذا يخرج الخطاب في الأغلب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّقُوا رَبَّكُمُ). قيل: اتقوا عذابه ونقمته. وقيل: اتقوا عصيانه في أمره ونهيه. وقيل: اتقوا اللَّه بحقه في أمره ونهيه. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أضاف خلقنا إلى آدم؛ إذ صورة الإنسان في النطفة. قال: دلت إضافة خلقنا من آدم -وإن لم تكن أنفسنا مستخرجة منه- على أمرين:

أحدهما: جوازُ إضافة الشيء إلى الأصل الذي إليه المرجع، وإنْ بَعُدَ ذلك عن الراجع إليه؛ على التوالد والتتابع. والثاني: أنا لم نكن بأبداننا فيه، وإن أضيف خلقنا إليه؛ إذ لو كنا فيه لكُنا منه بحق الإخراج لا بحق الخلق منه. وذلك يبطل قول من يجعل صورة الإنسان في النطفة مع الإحالة أن يكون معنانا في التراب أو النطفة؛ إذ هما من الموات الخارج من احتمال الدرك، ونحن أحياء داركون، واللَّه أعلم. وقوله: (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) أي: فرق، ونشر، وأظهر منهما أولادًا كثيرًا: ذكورا وإناثًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) قوله: (تَسَاءَلُونَ بِهِ)، أي: اتقوا اللَّه الذي تساءلون بعضكم من بعض، أي: يسأل بعضكم من بعض الحوائج والحقوق به، يقول: أسألك بوجه اللَّه، وبحق اللَّه، وباللَّه. ويسأل بعضكم من بعض بالرحم، يقول الرجل لآخر: أسألك بالرَّحم وبالقرابة أن تعطيني. وقوله: (وَالْأَرْحَامَ)، روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ)، واتقوا في الأرحام وصلوها. وقرئ بالنصب والخفض: (وَالْأَرْحَامَ): فمن قرأ بالنصب يقول: اتقوا اللَّه فلا تعصوه، واتقوه الأرحام فلا تقطعوها. ومن قرأ بالخفض يقول: اتقوا اللَّه الذي تساءلون به والأرحام. وروي في الخبر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " اتقُوا اللهَ وَصِلُوا الأَرْحَامَ؛ فَإِنَّهُ أَتْقَى لكُم فِي الدُّنْيَا، وَخَيرٌ لكُمْ فِي الْآخِرَةِ ". والآية في الظاهر على العظة والتنبيه. وكذلك قوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) هو على التنبيه والاتعاظ.

(2)

قوله تعالى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) قوله - تعالى -: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: احفظوا أموالهم إلى أن يخرجوا من اليتم، فإذا خرجوا من اليتم أعطوهم أموالهم. ويحتمل قوله: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)، أي: أنفقوا عليهم من أموالهم، ووسعوا عليهم النفقة ولا تضيقوها لينظروا إلى أموال غيرهم. (وَآتُوا)، بمعنى: آتوا لوقت الخروج من اليتم، أي: احفظوا؛ لتؤتوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي: لا تأخذوا الخبيث فتتركوا لهم ما وعد لكم في الآخرة بحفظ أموالهم. وقيل: لا تأخذوا الجياد من ماله وتعطي الدون من ماله؛ فذلك تبديل الخبيث بالطيب. وقيل: لا تأكلوا الخبيث: وهو أموال اليتامى، وتذروا الطيب: وهو أموالكم؛ إشفاقًا على أموالكم أن تفنى. وقيل: لا تأكلوا الحرام مكان الحلال؛ لأن أكل مال اليتيم حرامٌ، وأكل ماله حلال؛

فنهي أن يبدلوا الخبيث بالطيب. ويحتمل: لا تأخذ ماله -وهو خبيث- ليؤخذ منك الذي لك وهو طيب. ويحتمل: لا تأكلوا ذلك؛ إبقاء لأموالكم التي طيبها اللَّه - تعالى - لكم، بما جعل اللَّه لكم خبيثًا. ويحتمل: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ) في الدنيا؛ فتكون هي نارا تأكلونها؛ فتتركون الموعود لكم في إبقاء الخبيث؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا. . .) الآية. وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) يحتمل هذا - واللَّه أعلم - وجهين: يحتمل قوله: (أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)، أي: مع أموالكم، أي: لا تخلطوا أموالهم مع أموالكم فتأكلوها؛ ففيه نهي عن الخلط والجمع. ويحتمل: (أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)، أي: بأموالكم؛ ففيه النهي عن أكل أموالهم بأموال أنفسهم تبعًا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). وقوله - تعالى -: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)، بمعنى: لا تجمعوها إليها فتأكلونهما معًا. ويحتمل: مع أموالكم، واللَّه أعلم. وقوله - جل وعز -: (إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) قيل: جورًا. وقيل: الحوب: الإثم، وهو واحد. وقيل: خطأ. وقِيل: ذنبًا كبيرًا.

(3)

وقيل إثمًا؛ وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ (3) اختلف في تأويله: فقيل: إنهم كانوا يخافون من أموال اليتامى ويتحرجون منها؛ لكثرة ما جاء من الوعيد فيها؛ فنزل هذا: (وَإِنْ خِفْتُمْ) وتحرجتم من أموال اليتامى؛ فكذا فتحرجوا من الزنا: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. . .) الآية. عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: نزلت في يتامى من يتامى النساء كُنَّ عند الرجال؛ فتكون اليتيمة الشوهاء عند الرجل -وهي ذات مال- فلا ينكحها؛ لشوهتها، ولا يُنْكِحُهَا؛ ضنًّا بمالها؛ لتموتَ فيرثَها، وإن نكحها أمسكها على غير عدل منه في أداء حقها إليها، ولا ولي لها سواه يطالبه بحقها؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) فذروهن، ولا تنكحوهن، (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ). وروي عنها -أيضًا- أنها سئلت عن هذه الآية؟ فقالت: نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في جمالها ومالها، وينقص من صداقها؛ فنهوا عن نكاحهن، إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء. قالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: واستفتى الناس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك؛ فأنزل اللَّه: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ. . .) إلى قوله: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) فأنزل اللَّه - تعالى - لهم في هذه الآية: أن اليتيمة إذا كانت ذات جمالٍ ومال رغبوا فيها -في نكاحها- وسنتها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبًا عنها في شوهتها، وقلة

مالها؛ تركوها وأخذوا غيرها من النساء. قالت: فكما تتركونها حين ترغبون عنها؛ فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق. وقيل: لما أنزل اللَّه - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا. . .) الآية ترك المؤمنون مخالطة اليتامى، وتنزهوا عنها؛ فشق ذلك عليهم؛ فاستفتوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في مخالطتهم، وكان يكون عند الرجل عدد من النساء ثم لا يعدل ببنهن؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَإِنْ خِفْتُمْ) الجور في مخالطة اليتامى؛ فكذلك خافوا جمع النساء وترك التسوية بينهن في النفقة والجماع. ثم من الناس من يبيح نكاح التسع بقوله تعالى: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) فذلك تسع. وأما عندنا: فإنه لا يحتمل ذلك؛ لأن معنى قوله - تعالى -: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ): مثنى أو ثلاث أو رباع؛ لأنه قال: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً): استثنى الواحدة إذا خاف ألا يعدل بينهن، فلو كان ما ذكر؛ لكان لا معنى لاستثناء واحدة منهن، ولكن يقول: وإن خفتم ألا تعدلوا " بين التسع؛ فثمان، أو سبع، أو ست؛ فلما لم يستثن إلا واحدة دل أن التأويل ما ذكرنا: مثنى أو ثلاث أو رباع، على الانفراد.

والثاني: ما ذكر في القصة: أنه كان عند الرجل عدد من النساء عشر أو أكثر أو أقل، فخرج ذلك على بيان ما يحل من العدد، وذلك أربعة. وروي أن رجلا أسلم وتحته ثماني نسوة، فأسلمن، فقال له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اختَر مِنْهُنَّ أَرْبعًا، وفَارِقِ الْبَوَاقِي ". والخبر في بيان منتهى ما يحل من العدد دون وجه الحل؛ فاحتمل أن يختار أربعًا على استقبال النكاح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى. . .) الآية: قيل فيه بوجوه: أحدها: أنه قال: إذا خفتم الجور في كفالة اليتامى فاتقيتموها؛ فخافوا في كفالة النساء؛ فلا تكثروا منهن. والثاني: أنكم إذا خفتم في أموال اليتامى؛ فتحرجتم ضم أموالهم إليكم؛ إشفاقا على أنفسكم أن تأكلوا منها - فخافوا النساء مواقعتهن من وجهٍ يحرم عليكم؛ فانكحوهن. والثالث: أنه إذا خفتم الجور في يتامى النساء لو تزوجتموهن من حيث ليس معهن من يمنعكم من ظلمهن، فانكحوهن من غيرهن ممن إذا جرْتُمْ فيهن مُنِعْتُمْ من ذلك.

لكنه معلوم أن الحد في عدد النساء؛ لخوف الجور، وبما علم اللَّه من عجز البشر على ما جُبِل عليه، أخبر أنه لا يقوم بوفاء الحق في أكثر من ما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) ليس على الحكم والحتم؛ ولكنه أدب؛ لأنه وإن خاف ألا يعدل فتزوج أربعًا - جاز، وهو مثل الذي نهى -في الإصرار- المراجعة، وأمر بالقصد فيها والعدل، فإن فعل ذلك أثم ورجعته صحيحة، وكذلك كالأمر بالطلاق في العدة، والنهي عنه في غير العدة، ثم إذا طلق في غير العدة وقع؛ فكذلك الأول. وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا): في القسم والجماع والنفقة. (فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) إن خفتم ألا تعدلوا في واحدة؛ لأنه ليس للإماء قِبَلَ سادتهن حق الجماع والقسم؛ ينكح ما شاء؛ كأنه قال هذا؛ لما ليس لأكثرهن غاية؛ فله أن يجمع ما شاء من الإماء في ملكه، وليس له أن يجمع بالنكاح أكثر من أربع، ولو كان التأويل ما ذهب إليه لم يكن لقوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وجهٌ. وفيه إذن بتكثير العيال، مع ما أن كثرة العيال معدودة من الكرم؛ إذا أحسن إليهم لم يحتمل أن يزهد فيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا): قال بعضُ أهل العلم: إن قوله - تعالى -: (أَلَّا تَعُولُوا): من كثرة العيال، وهو قول الشافعي - رحمه - اللَّه تعالى - ولكن هذا لا يستقيم في اللغة؛ لأنه يقال من كثرة العيال: أعال يُعِيل إعالة؛ فهو معيل، ولا يقال: عال يعول، وإنما يقال ذلك في الجور. فَإِنْ قِيلَ: روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ " لكن تأويله - والله أعلم -: ابدأ بمن يلزمُك نفقته، أي: ابدأ بمن تصير جائرًا بترك النفقة عليه، وكذلك يقال: عال يعول عولا؛ إذا أنفق على عياله، وليس من كثرة العيال في شيء، ألا ترى أن على الرجل أن يبدأ بمن يعول؛ فلو كان قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) من العيال؛ لكان المتزوج واحدة ذا عيال، وإن قول اللَّه - تعالى -: (أَلَّا تَعُولُوا)، والمتزوج واحدة يعولها؛ فدل بما ذكرنا أن قوله: (أَلَّا تَعُولُوا)، أي: لا تجوروا ولا تميلوا؛ على ما قيل. وعن عائشة - رضي اللَّه عنها -: (ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا): ألا تميلوا.

(4)

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله. والعول: هو المجاوزة عن الحد؛ ولذلك سمي الحساب الذي ازداد على أصله عولا؛ لمجاوزته الحد؛ فعلى ذلك العول هاهنا هو: المجاوزة عن الحد الذي جعل له، وهو الجور. وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً): ليس بشرط؛ ليتفق القول، ولأنه لا وجه لمعرفة حد الخوف الذي يجعل شرطا للجواز، وكل عدل يخاف أدنى خوف، بل جميع أمور الدِّين هي على الخوف والرجاء. ولأنه يوجب جهل النساء بمن يحل لهن النكاح ويحرم؛ إذ لا يعرفن ذلك، ومتى حرم عليه حرم عليها، ولا يحتمل أن يجعل للحل شرطا لا يوصل إلى حقيقته، ولظهور الجور في الأمة على الإبقاء على النكاح؛ فضلًا عن خوفه؛ كذا مع ما في قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا. . .) الآية. دلالة ظاهرة، وكذلك في قوله: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا) الآية، وقوله - تعالى -: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ). * * * قوله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وقوله - تعالى -: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً).

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نحلة -قال-: المهر. وقيل: النحلة: الفريضة، أي: آتوهن فريضتهن. وقيل: نحلة؛ أي: عطية، أي: تُعْطَى هي لا وليها؛ وهو من النُّحْلَى. وقيل: نحلة: من نحلة الدِّين، أي: من الدِّين أن تؤتوا النساء صدقاتهن؛ ليس على ما كانوا يفعلون في الجاهلية: يتزوجون النساء بغير مهورهن؛ ففيه أن لأهل الكفر النكاح بغير مهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا). وفي الآية دلالة جواز هبة المرأة من زوجها، وفساد قول من لا يجيز هبة المرأة بمالها حتى تلد أو تبقى في بيته سنة؛ فيجوز أمرها. وفي الآية -أيضًا-: دليل أن المهر لها؛ حيث أضاف الإحلال والهبة إليهن بقوله: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا).

وفيه دليل -أيضًا-: أن هبة الديون والبراءة منها جائزة؛ كما جازت هبة المرأة مهرها وهو دَين. وقيل: فيه وجه آخر، وهو أن الآباء في الجاهلية والأولياء كانوا يأخذون مهور نسائهم؛ فأمرهم - عَزَّ وَجَلَّ - ألا يأخذوا ذلك، وحكم بأن المهر للمرأة دون وليها، إلا أن تهبه لوليها؛ فيحل حينئذٍ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكُلُوهُ هَنِيئًا): لا داء فيه، و (مَرِيئًا): لا إثم فيه. وقيل: الهنيء: هو اللذيذ الشهي، الذي يلذ عند تناوله ويسر. والمريء: الذي عاقبته. ثم الحكمة في ذكر الهنيء والمريء هنا وجهان: أحدهما: ما ذكر في الآيات من الوعيد بأخذه منها: يقول - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا. . .) إلى قوله: (بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ)؛ لئلا يمتنعوا عن قبول ذلك للوعيد الذي ذكر في الآيات. والثاني: إن الامتناع عن قبول ما بذلت الزوجة يحمل على حدوث المكروه، ويورث الضغائن؛ وذلك يسبب قطع الزوجية فيما بينهما. وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، يعني: بطيبة أنفسكم: يقول: لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون، ولكن آتوهن وأنفسكم بها طيبة؛ إذ كان المهور لهن دونكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ)، أي: ما طابت به أنفسهن من غير كره فهو حلال.

وعن علقمة أنه قال لامرأته: أطعميني من الهنيء المريء. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا اشتكى أحدكم شيئًا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها، ثم يشتري بها عسلًا، ثم يشربه بماء السماء، فيجمع اللَّه - تعالى - الهنيء المريء والشفاء والماء المبارك. وفي قوله - أيضًا، عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) أن النفقة - وإن كانت عليه - فهي إذا قامت بها في نفسها لا يحرج هو؛ لأن نفقتها عليها ليست بأعظم من نفقته من مالها إذا تطيبت، ووصف بالهنيء المريء بما ربما يستثقل الطبع عن مالها؛ كراهة الامتنان، أو بما كان عليه كفايتها، أو بما جرى من الوعيد الشديد في منع مهرها، أو بما قد تحتشمه فتبذل له، أو بما يوهم الطمع في مالها، والرغبة في النكاح لذلك؛ فطيبه اللَّه - تعالى - حتى وصفه بغاية ما يحتمل المال من الطيب. وفيه بيان جواز معروفها، وترغيب في حسن المعاشرة بينهما حتى أبقى ذلك بعد الفراق بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ. . .) الآية وذلك أحد ما يورث المحبة والمودة، أو يديمها؛ إذ جعل اللَّه بينهما بقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا). مسألة: في العبد لا ينزوج أكثر من اثنتين: روي عن عبد اللَّه بن عتبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ينكح العبد اثنتين، ويطلق اثنتين، وتعتد الأمة بحيضتين، فإن لم تحض فشهر ونصف ".

وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " لا يحل للعبد أن ينكح فوق اثنتين ". وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: " يتزوج العبد اثنتين ". وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لابن مسعود - رضي اللَّه عنه -: " ما يحل للعبد من النساء؟ قال: " اثنتين "، قال عمر - رضي اللَّه عنه -: " ذلك أرى ". وعن الحكم قال: اجتمع أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين؛ فهَؤُلَاءِ ستة نفر من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، منهم: عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي، وابن مسعود، والفضل بن العباس، والأنصاري - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - اتفقوا على أن العبد يتزوج اثنتين، ولا يتزوج أكثر من ذلك. وأيضًا عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " طَلاقُ الأَمَةِ تَطْليقَتَانِ، وَعِدتُهَا حَيضَتَانِ ". وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الأَمَةُ تُطَلقُ تَطْيقَتَينِ، وَتَعْتَد حَيضَتَينِ ". فإن احتج محتج بعموم الآية أن اللَّه - تعالى - قال: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)، ولم يذكر عبدًا ولا حرًّا؛ فهو على عمومه. قيل: في الآية دليل أن الخطاب للأحرار، وهو قوله - تعالى -: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)؛ فهو على من له النكاح بنفسه، والعبد يكون له النكاح بغيره بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ): فكان المخاطب بنكاح العبيد مواليهم، ليس له أن ينكح المرأة إلا بإذن مولاه؛ ومولاه يزوجه إذا شاء بغير أمره، فإنما الخطاب لمن له أن يتزوج إذا شاء؛ والعبد من ذلك خارج؛ ألا ترى أنه قال - عز

وجل -: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)؟! والعبد لا يملك ملك اليمين؛ فدل أن الخطاب راجع إلى الأحرار دون العبيد. فَإِنْ قِيلَ: قد جعلتم للعبد أن يطلق الحرة ثلاثًا، فجعلتم له من الطلاق مثل الذي جعلتموه للحر؛ فيجب أن تجعلوا له مِنْ تزوج النساء مثل الذي يجوز للحر. قيل: الفرق بينهما أن الطلاق عندنا بالنساء؛ لأن الحر يطلق امرأته الأمة تطليقتين؛ فتحرم عليه؛ والتزويج بالرجال لا ينظر فيه إلى النساء، فللعبد أن يتزوج النصف من تزويج الحر، كما أن عدة الأمة وطلاقها على النصف من عدة الحرة، على ما روينا من الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حَتَّى يَكُونَ لِلْعَبدِ في امْرَأَتَينِ شَيءٌ نِصْفُ مَا لِلْحُر مِنَ الأرْبَعِ "؛ ورُويَ عن الحسن أنه قال في قوله - تعالى -: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) يعني: الكفار. وقيل: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ)؛ فيكونوا قيامًا عليكم، ولكن كونوا أنتم قيامًا عليهم. وقيل: لا تؤتوهم أموالكم؛ فيكونوا أربابًا عليكم، وكونوا أربابًا بأموالكم عليهم. ومن صرف التأويل إلى اليتامى جعل معنى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْوَالَكُمُ) و - كقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، وكقوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُم): يريد من ترونه في البيوت؛ فعلى ذلك إضافة أموال اليتامى إلى الأولياء.

(5)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ... (5) فالسفيه -في الحقيقة- من يعمل عمل الجهال، كان جاهلا في الحقيقة أو لا؛ لما قد يلقب العالم به؛ إذا ضيع الحدود، وتعاطى الأفعال الذميمة؛ وعلى ذلك ما جاء من الكتاب بتسفيه علماء أهل الكتاب. ثم قد يسمى الجهال به؛ لما أن الجهل هو السبب الباعث على فعل السفه؛ فقوله - تعالى -: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) يحتمل ذلك الوجهين. وأي الأمرين كان ففيه التحذير للمعنى الذي بين من قوله: (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا): فإما إذا كانت قيامًا للمعاش أو للمعاد أو لهما، وطريق الإنفاق في الوجهين والإمساك لهما التدبر، ومراعاة الشرع، وتعاهد الأسباب، والوجهان جميعًا يمنعان الوفاء بما جعلت له الأموال؛ فحذر من أنعم بها عن تضييع ذلك بالتسليم إلى من ذكر، مع ما يكون في ذلك أن اتباع من يستحق أن يكون متبوعًا لمن حقه أن يجعل تابعًا، وذلك خارج عن حد الحكمة، وما يحمده العقل. ثم قد صرفت الآية إلى النساء بما جعل من إليه التدبير وهو الذي أنشأهن تحت أيدي الرجال في الأمور، مع وصف الرجال أنهم قوامون على النساء. وصرفت -أيضًا- إلى الصغار بما ضمن حفظ أموال مثلهم الكبار، وجعلوا مكفولين عند البالغين؛ فأموال البالغين أحق بذلك، وحقيقة السفه ما ذكرت. وجائز أن يكون المقصود بالذكر -من ذكر الصغار والنساء بما خاطب من حذر بالدفع إلى من ذكر- رزق أُولَئِكَ وكسوتهم، ولا يجب رزق الجهال والسفهاء في الأفعال على غيرهم؛ فيكون ما ذكروا أولى بمراد الآية، وإن كان للمعنى الذي قصد بالآية التي ذكرتهم - قد استحقوا. ولما غلبت تلك الأحوال على هَؤُلَاءِ جعل من ذكرت قوامًا عليهم، وقد ذكرت عن الحسن: أنه صرف الآية إلى الكفار؛ فكأنه تأول في القيام - القيام بأمر الدِّين؛ والكفار لا

يجوز الاستعانة بهم فيه؛ وله جعل المال عنده مع ما كره العلماء تسليط الكفار العقوبة؛ لجهلهم بحق شرع الإسلام فيها؛ فمثله دفع الأموال إليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)، يعني: قوام أمركم ومعيشتكم، وهو هكذا جعل اللَّه هذه الأموال أغذية للخلق، بها يقوم دينهم وأبدانهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) يقول: لا تؤتوهم، ولكن ارزقوهم أنتم واكسوهم. وقيل: يقول: أنفقوا عليهم منها، وأطعموهم. وقيل: لما أضاف الأموال إلى الدافعين لا إلى المدفوعة إليهم؛ دل على وجوب نفقة الولد وكسوته على الرجل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا)

(6)

قيل: عِدَةٌ حسنة جميلة: سأفعل وسأكسو. وقبل: مروهم بالمعروف، وانهوا عن المنكر. وقيل: علموهم الأدب والدِّين، وقولوا لهم كلام البر واللين واللطف. * * * قوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا) حرف، " حتى " صلة؛ وتأويله: وابتلوا اليتامى إذا بلغوا النكاح؛ وهو قول الشافعي، يجعل الابتلاء بعد البلوغ.

ويحتمل أن يكون المراد بالابتلاء - قبل البلوغ؛ لوجهين: أحدهما: أن يبتلي الأيتام قبل بلوغهم بأنواع العبادات والآداب؛ ليعتادوا بها ويتأدبوا؛ ليعرفوا حقوق الأموال وقدرها، ويحفظوها إذا بلغوا؛ لأنهم إذا ابتلوا بعد البلوغ لم يعرفوا ما عليهم من العبادات والفرائض وقت البلوغ، وكان في ذلك تضييع حقوق اللَّه وفرائضه؛ إذ لا سبيل لهم إلى القيام بها حتى البلوغ، فأمر الأولياء والأوصياء أن يبتلوهم قبل البلوغ، حتى إذا بلغوا، بلغوا عارفين لما عليهم من العبادات والحقوق، حافظين لها؛ ألا ترى إلى ما روي في الخبر أنه أمر الأب أنه يأمر ولده بالصلاة إذا كان ابن سبع، وأمر بالضرب والتأديب إذا كان ابن تسع وبالتفريق في المضاجع، وهو من حقوق الخلق؟! فهذا ليعتادوا، ويأخذوا الأدب قبل البلوغ، حتى إذا بلغوا عرفوا ما عليهم، وهَان القيام بها، وإذا لم يُعَوَّدُوا قبل ذلك يشتد عليهم القيام بإقامة العبادات وأداء الحقوق؛ فعلى ذلك الأول. ووجه آخر: أن يبتلي عقولهم بشيء من أموالهم يتجرون بها، ويتقلبون فيها؛ لينظروا: هل يقدرون على حفظ أموالهم عند حدوث الحوادث والنوائب؟ ففيه دليل جواز الإذن في التجارة في حال الصغر؛ لأنه لا يظهر ذلك إلا بالتجارة. وإن كان المراد بالابتلاء بعد البلوغ والكبر فهو -أيضًا- يحتمل وجهين: يحتمل العلم بها نفسه؛ ويحتمل العمل بها والعلم، ولا يضعوها في غير موضعها. وقوله: " إن حرف (حتى) صلة ": إنه لو جاز له أن يجعل هذا صلة، لجاز لغيره أن يجعل الرشد صلة فيه؛ إذ لا فرق بين هذا وبين الأول أن يجعل صلة. ثم اختلف في قوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو أن يصير هو من أهل الشهادة؛ فحينئذ يدفع إليه المال؛ فعلى قوله يجيء أن ينتزع الأموال من أيدي الفساق؛ لأنه لا شهادة لهم؛ ومن قوله: إن اليتيم من أهل الكفر لا يدفع إليه المال إلا بعد استئناس الرشد منه، فلو كان شرط الرشد هو شهادة لكان الكافر لا يدفع إليه عنده؛ لما لا يقبل الشهادة ما لزم الكفر على أحد؛ دل أن

الرشد ليس ما ذكر، ولكن ما قيل من العقل والحفظ لماله، والإصلاح فيها. ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - في قوله - تعالى -: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا) قال: إذا أدرك بحلم وعقل ووقار. وهو يقول -أيضًا- في قوله - تعالى -: (مِنْهُمْ رُشْدًا): إن اللَّه - سبحانه وتعالى - يقول: اختبروا اليتامى من عند الحلم، فإن عرفتم منهم رشدًا في حالهم، والإصلاح في أموالهم -: (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ). وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " فإن أحسستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم ". وفي حرف حفصة: " وابتلوا اليتامى في أموالهم حتى إذا بلغوا النكاح بعد كبرهم ". ثم لا يخلو منع الأموال منهم من أوجه ثلاثة: إما أن يمنع؛ لفرط البذل والإنفاق، جودًا وسخاوة، وحسن الظن باللَّه أنه - عَزَّ وَجَلَّ - يرزقهم ويعطيهم خلف نفقتهم، وهذا لا يحتمل؛ لأن هذا من أخلاق الأنبياء - صلى اللَّه عليهم وسلم - وسيرتهم؛ فلا يحتمل النهي عن ذلك. أو يمنع؛ لغلبة شهوتهم، ولقضاء وطرهم وحاجتهم، ينفقون الأموال؛ ليصلوا إلى ذلك، فإنهم إن مُنِعوا عن أموالهم يتناولوا من أموال غيرهم، ويتعاطوا ما لا يحل ولا يحسن؛ فلا يحتمل أن يمنعوا لذلك. أو أن يمنع عنهم الأموال؛ لآفة في عقولهم، ونقص في لُبِّهم، فإن كان لهذا ما يمنع أموالهم عنهم؛ فيجب أن يمنع أبدًا، لا وقت في ذلك ولا مدة إلا بعد ارتفاع ذلك وزواله عنهم، وهو الوجه، يمنع منه حتى يؤنس منه الرشد. ثم جعل إدراكه وبلوغه بالاحتلام؛ لأن كل جارحة من جوارح الإنسان يجوز استعمالها إلا الجارحتين منهما؛ فإنه لا يقدر على استعمالهما إلا هو، إحداهما: الذكر، والأخرى: اللسان؛ فإن هاتين الجارحتين لا يمكن استعمالهما إلا صاحبهما؛ فجعل

الاحتلام علمًا لبلوغه وإدراكه لذلك؛ ولهذا لم يعمل الإكراه عليهما، نحو من أكره أعلى الزنا؛ فزنا؛ فإنه عليه الحد؛ لأن الإكراه لا يعمل عليه؛ فإنما كان بفعل منه، إلا الوالي؛ فإنه إذا أكره آخر بالزنا ففعل لم يقم عليه الحد؛ لما جعلنا ذلك كالعلم بالسبب الذي يحل؛ وكذلك لو أكره حتى وطئ امرأة لزمه المهر، ولا يرجع على المكرِه. ولو أكره على إتلاف مال من أمواله ففعل لرجع على المكرِه؛ للمعنى الذي وصفنا؛ ولهذا ما وقع طلاق المكره ونكاحه وعتاقه؛ لأن هذه الأشياء إنما تقع باللسان، واللسان مما لا يعمل عليه الإكراه؛ لذلك جاز، واللَّه أعلم. وأما البيوع والأشربة والعقود كلها سوى هَؤُلَاءِ، تكون بالتسليم والقبض دون النطق باللسان والتكلم بها، فالإكراه مما يعمل عليها؛ لما أمكن استعمالها غيره؛ لذلك افترقا؛ ولهذا ما قلنا: إن الإيمان يكون بالقلب دون اللسان؛ لأنه إذا أكره حتى يكفر؛ فأجرى كلمة الكفر على لسانه، وكان قلبه مطمئنا بالإيمان -لم يكفر، فإذا اطمأن قلبه بالكفر- كَفَرَ؛ لأن الإكراه لا يعمل على القلب، ولا يصير المكره مستعملا له، إنما المستعمل هو؛ لا غير؛ لذلك كان الجواب ما ذكرنا. ومعنى جعل الاحتلام بلوغا هو إمكان استعمال سائر الجوارح دونه -يعني: الفرج- إلا بعد الكبر، وما كان المعروف من الآباء والأولاد، وما كان مما يجري الأمر بابتغاء المكتوب من الولد يكون بعد البلوغ، وبعيد ذلك، إلا في الوقت الذي لو ابتغى لوجد ولقدر عليه، وليس ذلك إلا في خروج الماء للشهوة. ثم يكون في المتعارف الاحتلام عن ذلك؛ فجعل علمًا له؛ ولذلك قيل: (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) ثم فرق في حق الكتاب بين اللسان وغيره؛ من حيث لا يملك أحد قهر لسان آخر حتى ينطق دون صاحبه؛ فبه يظهر سبب جري القلم من الإقرار بالبلوغ وهذا معنى ما جعل سببه بما لا يعلمه غيره؛ ليكون أول أحوال البلوغ وقوع قوله بحيث البلوغ، مع ما كان النطق فعل من يجري في جنسه الخطاب؛ وكأنه اتصل أمره بالسبب الذي خص به

الممتحن من العقل؛ إذ كان العقل قد يعرف بالمحنة والاحتلام لا؛ فأمرنا بالابتلاء من حيث العقول، ولم نؤمر من حيث الاحتلام، بل يقبل قوله في ذلك. ودل قبول قول من بلغ بالإخبار عن احتلامه، وبه يجري القلم عليه، ويلزم الحقوق - أن يقبله، يجوز في ذلك الوقت -وبخاصة على قول من يرى الابتلاء بعد الإدراك- أنه لو لم يقبل فبم نبتليه؟ ثم إذا جاز قوله لزم كل أمر علق به، وعلى ما ذكرت من أول ما علق به القول في حق البلوغ دليل اتصال حكم القول بالعقل، وتمام العقل بالبلوغ؛ إذ به يجري القلم. ودل ما ذكرت من امتناع اللسان عن سلطان غير صاحبه عليه - على لزوم كل حق معلق به على الإكراه؛ إذ لا يلزم بغيره، وهو لا يجري عليه، ثم كل أمر يكون لا به يصير اللسان سببا فيه كَالْمُعْلِم عنه، وهو مما يجري عليه القهر، ويعلم به؛ فيبطل، والله أعلم. وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا) الإسراف: هو كل ما نُهي عنه. وقيل: الإسراف: هو أكل في غير حق؛ وكأن الإسراف هو المجاوزة عن الحد، وهو كقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا)، وكان القتر مذمومًا، فعلى ذلك الإسراف في النفقة في مال اليتيم. وقوله - تعالى -: (إِسْرَافًا وَبِدَارًا)، قيل: البدار: هو المبادرة، وكلاهما لغتان، كالجدال والمجادلة، وهو أن يبادر بأكل مال اليتيم؛ خشية أن يكبر؛ فيحول بينه وبين ماله. وهو قول ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وفي حرف ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -: " ولا تأكلوها إسرافًا وبدارا خشية أن يكبروا ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) أطلق اللَّه - تعالى - لولي اليتيم - بظاهر الآية؛ إذا كان فقيرا - أن يأكل بالمعروف من غير إسراف، وذلك هو الوسط منها، وكذلك روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَن رجُلا سَألَهُ، فَقَالَ: لَيسَ لِي مَالٌ، وَلي يَتِيم؟ فَقَالَ: " كُلْ مَالَ يَتِيمك غَير مُسرِفٍ، وَلا مُتَأَثِّلٍ مَالَكَ بمَالِهِ " وفيه دليل أن الغني لا يجوز له أن يأكل مال اليتيم، وأن الفقير إذا أكل منه: أنفق نفقة لا إسراف فيها. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إني أنزلت نفسي من مال اللَّه منزلة مال اليتيم: إذا استغنيت استعففت، وإذا احتجت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: الوصي إذا احتاج وضع يده مع أيديهم، ولا يكتسي عمامة. وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: في قوله - تعالى -: (وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)، قالت: يأكل والي اليتيم من مال اليتيم؛ إذا كان يقوم له على ماله،

ويصلح إذا كان محتاجًا. وقيل: يأكل قرضًا ثم يرد عليه إذا أيسر، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنهما. وقيل: (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)، أي: من مال نفسه، حتى لا يفضي إلى مال اليتيم. وقيل: يأكل إذا كان يعمل له، ويقوم عليه. وقيل: يأكل قرضًا؛ ألا ترى إلى قول اللَّه - تعالى -: (فَأَشْهدُوا عَلَيْهِمْ): أمر بالإشهاد عليهم عند الدفع، ولو كان أمانة في يده لم يحتج إلى الإشهاد في الدفع، ولكن يجوز أن يأمر بالإشهاد لا لمكان الوصي نفسه؛ ولكن لما يجوز أن يحدث بينه وبين ورثة الوصي خصومة فَيُشْهِد؛ ليدفع تلك الخصومة عنهم. وقيل: الأكل بالمعروف هو ما يسد به جوعه، ويواري عورته.

(7)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) قيل: شهيدا بما أخذ من ماله وأنفق. ويحتمل قوله: (حَسِيبًا) يحاسبه في الآخرة؛ إذا لم يحاسبه اليتيم في الدنيا. قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ. . .) الآية. يحتمل أن تكون الآية - واللَّه أعلم - نزلت بسبب ما لم يكن يورث أهل الجاهلية الإناث والصغار، ويجعلون المواريث لذوي الأسنان من الرجال، الذين يصلحون للحرب، ويحرزون الغنيمة؛ فنزلت الآية بتوريث الرجال والنساء جميعًا. ويقال: إن الآية نزلت في شأن رجل يقال له: أوس بن ثابت الأنصاري، توفي

وترك بنات وامرأة، فقام رجلان من بني عمه - وهما وصيان - فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئًا؛ فجاءت امرأة أوس بن ثابت إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فشكت، وأخبرت بالقصة؛ فقال لها: " ارْجِعِي في بَيتِكِ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللَّه في ذَلِكَ ". فانصرفت؛ فنزل قوله - تعالى -: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ. . .) الآية. وقيل: نزلت الآية في شأن امرأة سعد: أن سعدا استشهد بأُحد، وترك ابنتين وامرأة، فاحتوى أخ لسعد على مال سعد، ولم يعط المرأة ولا الابنتين شيئًا؛ فاختصمت إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأخبرته بالقصة؛ فقال لها: " لَم يُنْزِلِ اللهُ عَلَيَّ فِيكُم شَيئًا ". ثم نزلت الآية، فأخذ من عمهما ثلثي المال، ورده إليهما، ودفع الثمُن إلى المرأة، وترك البقية للعم. واللَّه أعلم أنْ فيم كان نزولها؟. وفي هذا الخبر دليل أن للابنتين الثلثين، كما للثلاث فصاعدًا، ليس كما قال بعض الناس: إن لهما النصف؛ لأن اللَّه - تعالى - إنما جعل الثلثين للثلاثة. ثم تحتمل الآية وجهين بعد هذا: تحتمل أن يكون المراد الأولاد خاصة لا غير؛ فيدخل كل ولد: ولد البنات، وولد البنين؛ لأنهم كلهم أولاده. ويحتمل أن يكون المراد منها الرجال والنساء؛ فيدخل ذوو الأرحام في ذلك، فلما لم يدخل بنات البنات في ذلك -وهم أولاد- دل أنه أراد النساء والرجال جميعًا، لا

الأولاد خاصة. وفيه دلالة نسخ الوصية للوارث؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ. . .) إلى قوله: (مَفْرُوضًا) أي: معلومًا بما أوجب في كل قبيل. ثم قال في قوله: (نَصِيبًا مَفْرُوضًا)، قيل: ذا يرجع إلى ما بين فرضه، وهو أصحاب الفرائض دون العصبات، فيكون على ما أشار إلى حقه من حيث الاسم في القرآن. ويحتمل ما بين، وقد جرى فيه ذكر حقين: أحدهما: حق العصبة، كما ذكر في الأب والإخوة والأولاد، وحق أصحاب الفرائض، ولو كان على ذلك فقد يتضمن الفرض ما يعلم بالإشارة إليه والدلالة؛ لأن أكثر من يوصي بحق العصبة هو ما لا نص فيه، والذي فيه النص هو في الأولاد والإخوة -خاصة- والوالد. وقيل: يتضمن كل الأقرباء على اختلاف الدرجات؛ فيكون منصوصًا -أيضًا- ومدلولا عليه، ويؤيد هذا التأويل قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) ثم بَيَّنَ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) وأُولَئِكَ هم البعداء الذين لهم أخوة الدِّين والهجرة، فإذا بقي في الرحم أحد - لم يصرف ذلك إلى المؤمنين، وقد قدم حقهم على المؤمنين والمهاجرين بالرحم؛ لذلك هم أولى، مع ما للإمام صرف ذلك بحق الإيمان إليهم؛ فيصير الدفع إليهم بحق الجواز، وإلى غيرهم شك عند قيامهم؛ فالدفع إليهم أولى لوجهين: أحدهما: عموم الكتاب على تحقيق حق لكل آية منها؛ دون إدخال حكم آية في حق آخرين بلا ضرورة. والثاني: الإجماع من الوجه الذي ذكرت مع اتفاق أكثر الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - والفتوى إلى يومنا هذا.

(8)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى) قيل فيه بوجهين: قيل: أراد بالقسمة: قسمة المواريث بين الورثة بعد موت الميت. وقيل: أراد به: قسمة الموصي وهو الإيصاء، يوصى ويبر لمن ذكر من الأقرباء واليتامى والمساكين بشيء؛ فالخطاب للموصى. ومن قال بقسمة المواريث: فالخطاب للورثة إن كانوا كبارًا، يعطون لهَؤُلَاءِ شيئًا،

ويبرونهم بشيء؛ وإن كانوا صغارا يقول الوصي: لهم (قَوْلًا مَعْرُوفًا)، أي: يَعِدُ لهم عدَةً حسنة إلى وقت خروج الأنزال، أو إلى وقت البيع إن باعوها. ثم اختلف المتأولون فيها: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي منسوخة. وقال آخرون: هي محكمة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ومن قال: هي منسوخة، قال: نسختها آية المواريث: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ. . .) الآية؛ لأنهم كانوا يوصون الأولاد والآباء والأمهات؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. . .) الآية. فنسخت آية المواريث وصية الموصي. ومن قال: هي محكمة متقنة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، والحسن ومجاهد وغيرهم؛ لأنه المعروف والبر والإحسان، وذلك مما لا يحتمل النسخ. وقبل: إن عبد اللَّه بن عبد الرحمن قسم ميراث أبيه، وعائشة حية، فلم يدع في الدار مسكينًا ولا ذا قرابة إلا قسم له من ميراث أبيه، وتلا هذه الآية: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ. . .) الآية، فذكر ذلك لابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - فقال: ما أصاب ليس ذلك له، إنما ذلك في الوصية، يريد الميت أن يوصي لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا). قيل: إذا كان المال كثيرًا - رضخ وأعطى لهم شيئًا، وإذا كان قليلًا اعتذر إليهم، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

(9)

وقيل: أمر من يرث أن يرضخ ويعطي لمن لا يرث شيئًا، وهو قول الحسن، ويقال لهم: (قَوْلًا مَعْرُوفًا). والقول المعروف يحتمل ما ذكرنا: أن يعطى لهم إن كانوا كبارًا -أعني: الورثة- ويعد لهم عِدة إن كان المال ضياعًا إلى وقت خروج الأنزال والغلات، أو إلى وقت خروج الثمر، أو يعطي الورثة إن كانوا كبارا ويعتذر إليهم الوصي إن كانوا صغارًا. وقوله - جل وعز -: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ ... (9) قيل: هو الرجل يحضره الموت، وله ولد صغار، فيقو له آخر: أوص بكذا، أو أعتق كذا، أو افعل كذا، ولو كان هو الميت لأحب أن يترك لولده؛ فخوف هذا القائل بقوله: (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ)، وأمر أن يقول له مثل ما يحب أن يقال له في ولده بالعدل بقوله - عز وجل -: (وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)، وهو قول ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنه. وقيل: هو الرجل يحضره الموت، فيقول له مَنْ يحضره: اتق اللَّه، وأمسك عليك لولدك الصغار والضعفاء، ليس أحد أحق بمالك منهم، ولا توصِ من مالك، شيئًا. فنهي أن يقال له ذلك؛ لما لو كان هو الموصي، وله ورثة صغار ضعفاء، أحبَّ بألا يقال له ذلك؛ فكذلك لا يقول هو له. والأول أشبه. وقوله: (وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا). قيل: عدلًا؛ يأمر أن يوصي بما عليه من الدَّين والوصية، ولا يجور في الوصية.

(10)

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: نهي من حضر منهم مريضا عند الموت أن يأمره أن ينفق ماله في العتق والصدقة، أو في سبيل اللَّه؛ ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين أو حق. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) أي: استحلالاً، فإذا استحل كفر؛، فذلك الوعيد له. وقيل: (ظُلْمًا): أي: غصبًا. والأكل: هو عبارة عن الأخذ؛ كقوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) إنما هو نهي عن أخذه، وكذلك قوله: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا)، وقوله: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) - إنما هو نهي عن قبض الربا؛ فعلى ذلك الأكل -في هذه الآية- عبارة عن الأخذ والاستحلال. ومن حمل الآية على الغصب جعل الوعيد عليه، إلا أن يتوب؛ إذ لله أن يعذب من

شاء ممن ارتكب من عباده جرمًا، كما جعل الوعيد على المستحل إلا أن يتوب. وقيل: إنه على التمثيل أن الذي يأكل من مال اليتيم كأنه يأكل نارًا؛ لخبثه ولشدته. وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " اتقُوا اللَّه في الضعِيفَين "؛ قيل: ومن هما يا رسول اللَّه؟ قال: " اليَتيمُ والمرأة "؛ فإن اللَّه أيتمه وأوصى به، وابتلاه وابتلى به. وقيل في قوله: (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا): للميت إذا جلس إليه (قَوْلًا سَدِيدًا)، أي: عدلاً في وصيته ولا يجور، ومن عدل في وصيته عند موته، فكأنما وجه ماله في سبيل اللَّه؛ فقال سعد بن أبي وقاص: فسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: كم يوصي الرجل من ماله؛ فقال: " الثلُث، والثلُث كَثير، لأَنْ تَدَع عِيالَكَ أَغْنياءَ خَيرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناسَ ". ثم قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّ اللَّه - تعالى - تَصَدَّقَ عَلَيكُم بثُلُثِ أَمْوالِكم زِيَادةً في أَعْمَالِكم عِندَ وَفَاتِكُم ".

(11)

قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) قيل: قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) أي: يفرضكم اللَّه، وقد سمى اللَّه - تعالى - الميراث

فريضة في غير آى من القرآن بقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ) ثم قال: (نَصِيبًا مَفْرُوضًا. . .)، وقال -أيضًا- في آخر هذه الآية: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ)، ولأنه شيء تولى اللَّه إيجابه من غير اكتساب أهله؛ فهو كالفرائض التي أوجبها اللَّه على عباده من غير اكتساب أهلها؛ فعلى ذلك سمى هذه فريضة؛ لأن اللَّه - تعالى - أوجبه، واللَّه أعلم. وقيل: قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)، أي: يبين اللَّه في أولادكم. . . إلى آخر ما ذكر. وفيه نسخ الوصية للوالدين والأقربين في قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، ودليل نسخه ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَعْطَى كُل ذِي حَق حَقَّهُ؛ فَلَا وَصِيةَ [لِوَارِثٍ] ". ثم قيل: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد والإناث في الميراث؛ وإنما كانوا يورثون الرجال ومن يحوز الغنيمة؛ فنزل قوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ. . .) الآية؛ فالآية في بيان الحق للإناث في الميراث، وكذلك قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فيه بيان حق الميراث للذكور والإناث جميعًا. وقيل: تأويل هذه الآية ما بين في القرآن في ذوي الأرحام، وإن كانوا مختلفين في سبب ذلك، وإن الآيات التي بعدها من قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) إلى آخر الآيات

التي فيها ذكر المواريث - فُسر بها مبلغ النصيب الذي أوجبه اللَّه للنساء والرجال في الآية الأولى مجملا، وأجمعوا أن الرجل إذا مات وترك ولدًا ذكورًا وإناثًا؛ فالمال بينهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). ويحتمل قوله: (فِي أَوْلَادِكُمْ) - أولاد موتاكم، وهذا جائز في اللغة؛ لأنه لا يجوز أن يفرض على الرجل قسمة الميراث في أولاده وهو حي؛ دل أنه أراد أولاد الموتى. أو يحتمل ما ذكرنا أنهم كانوا لا يورثون الإناث من الأولاد والصغار منهم؛ فخاطب الجملة بذلك؛ لئلا يحرموا الإناث من الأولاد والصغار منهم. وفي قوله -أيضًا-: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)، أي: في أولاد من مات منكم؛ إذ لا يحتمل خطاب الحي ما ذكر في ولده؛ فهذا إن كان تأويل " يوصي ": يفرض أو يأمر. وإن كان تأويل ذلك: يُبَيِّن، فذلك جائز أن يخبر الحي ما بيَّن اللَّه في أولاده بعد موته في ماله، وذلك يمنع الوصية؛ لأنه يزيل حق البيان، ولما يمكن رفع القسمة وتحصيل الوصية على بعض لبعض، وذلك بعيد؛ إذ لا يملك في غيرهم. ثم من الناس مَنْ رأي نسخ الوصية للوارث بقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ. . .) الآية؛ لأن الآية أوجبت الميراث فيما قل أو كثر، فلو كانت الوصية تجب للوالدين بقوله - تعالى -: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ. . .) الآية، لكان الميراث لا يجب فيما قل منه، وإنما يجب فيما يفضل منه، لكن الآية إذا لم تمنع الوصية للأجنبي وهي تصرف السهم المفروض إلى ما يفضل من الوصية؛ فمثله للوارث، لكن في الآية دلالة على رفع الكتاب؛ إذ في الأولى أنها كتبت، فلما أوجب الحق في كل قليل وكثير لم يبق معه الفرض والوجوب، ولكن يجب الفضل، ثم كان حق الوالدين ومن ذكر بحق اللزوم، وقد سقط ذلك، وبه كان يجوز، فلما سقط الحق جاء في الخبر أن " لا وَصِيَّةَ [لِوَارِثٍ] ". وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّه قد أَعْطَى كُل ذِي حَق حَقه؛ فلا وَصيةَ [لِوَارِثٍ] "؛ فسقط الحق بالآية من الوجه الذي ثبت، والتنفل بقوله: " لا وَصية. . . ". فمن هذا الوجه الذي ذكرت يسقط حق الوصية بالقرآن، لكن قد ذكر للمرأة لا بحرف الوجوب بقوله: (مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ)، ثم سقط -أيضًا- بالخبر الذي

ذكرنا؛ إذ ليس في الآية ذكر المرأة بما ذكر فيها ميراث الأولاد والأقربين، وقد بقي حق المتاع؛ إذ له أن يوصى لغير الورثة، لكن ذكر في ميراث المرأة وصية، كقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً) من اللَّه، والوصية منه مكتوبة على ما للوالدين والأقربين، ثم أشرك الزوجين في ميراث الوالدين والأقربين مما قل أو كثر، كقوله: " النصف " و " الربع " و " الثمن " مما ترك. وقد بينا أن الآية نسخت ما ذكرت فصارت ناسخة للأمرين جميعًا، فهذا من جهة الاستخراج في حق النسخ. على أنه على مذهبنا: السنة كافية في بيان نسخ الحكم الذي، بينه الكتاب؛ إذ هو بيان منتهى الحكم من الوقت، وقد جعل اللَّه - تعالى - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بحيث البيان مما في القرآن. وقوله - تعالى -: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ): فيه دلالة أن المال كله للذكر من الولد إذا لم يكن ثَمَّة أنثى؛ لأنه جعل للذكر مثلَي ما جعل للأنثى، وجعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر؛ بقوله - تعالى -: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). فدل أن للذكر من الولد إذا جعل له مثلي ما جعل للأنثى عند الجمع، إنما جعل له ذلك بحق الكل، ففي حال الانفراد له الكل. وقوله - تعالى -: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: بين الحق لما فوق الثنتين، ولم يبين للاثنتين، ولهما النصف الذي ذكر للواحدة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه.

وأما عندنا: فإن للاثنتين ما للثلاث فصاعدًا؛ فيكون بيان الحق للثلاث بيانا للاثنتين؛ لأن اللَّه - تعالى - جعل حق ميراث الواحدة من الأخو. ات: النصف؛ بقوله: (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ)، كما جعل حق الابنة النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله - تعالى -: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)، ثم جعل للأختين الثلثين بقوله: (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ)، فإذا نزلت الأخوات منزلة البنات في استحقاق النصف إذا كانت واحدة، واستحقاق الثلثين إذا كانتا اثنتين فصاعدًا؛ فعلى ذلك نزل بيان الحكم في الأختين منزلة بيان الحكم في الابنتين. قيل: يفوق اثنتين اثنتان فما فوقهما. وقيل: بين الكتاب الاستواء بين الابنة، الواحدة والأخت الواحدة؛ ليعلم استواء حق الولد وولد الأب، ثم بين في الأخوات للثنتين الثلثان، وفي البنات لما فوقهما؛ ليكون الذكر في الأختين دليلاً على الابنتين، وفيما كثر من البنات على ما كثر من الأخوات، وأيد ذلك أمر الاجتماع بين البنتين والبنات -وإن كثروا- بالإخوة والأخوات -وإن كثروا- مع ما كان معلومًا أن بنات الرجل أحق من بنات أبيه؛ أيد ذلك أن بنات ابنه قد يَرِثْنَ، وبنات ابن أبيه لا؛ فلا يجوز أن تكون الأختان أكثر حقا من الابنتين. وفي الأغلب أن يجعل لهن ميراث هَؤُلَاءِ، وأيد ذلك أنه ما دام يوجد في الأولاد من له فرض أو فضل - لم يصرف إلى أولاد الأب؛ ثبت أنهم بمعنى الخلف من هَؤُلَاءِ، وعلى ما ذكرت جاءت الآثار، واجتمع عليه أهل الفتوى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بالولد الذكورَ خاصة؛ لأنه جعل للأبوين لكُلِّ واحد منهما السدس إذا كان الولد ذكرًا، أما إذا كان الولد أنثى فللأب يكون الثلث. وأمَّا عندنا: فإن اسم الولد يجمع الذكور والإناث جميعًا. وبعد: فإنه إن كان الولد -هاهنا- ذكرًا وأنثى؛ فينظر:

إن كان ذكرًا يكون لكل واحد من الأبوين السدس، والباقي للولد. وإن كان أنثى فلها النصف، وللأبوين السدسان، والباقي للأب؛ على ما جاء في الخبر: " مَا أَبْقَتِ الفَرَائضُ فِلأَوْلَى رَجُل ذَكَرٍ ". وقالت الروافض: الباقي للابنة، ذهبوا في ذلك إلى أن الذي يقابل الابنة هو الابن، والذي يقابل الأب هي الأم، فالذي يقابلُ الابنة هو أولى بإحراز الميراث من الذي يقابل الأم؛ وهو الأب؛ فعلى ذلك الذي يقابل الابن -وهي الابنة- أولى بذلك من الذي يقابل الأم؛ وهو الأب. وأما عندنا: فإن الأب أولى بذلك من الابنة؛ لأن للأب حَقَّين: حق فريضة، وحق عصبة: أمَّا حق الفريضة بقوله: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)، وأما حق العصبة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ): جعل الباقي له؛ فذو حقين أولى بذلك من ذي حق واحد، والابنة ليس لها إلا حق الفريضة؛ لذلك كان الأب أولى. وفي الخبر دلالة أن حكم الابنتين وما فوقهما سواء، وهو الثلثان: ما روي عن جابر ابن عبد اللَّه قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بابنتين إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول اللَّه، هاتان ابنتا ثابت بن قيس، أصيبَ معك يوم أحد، وقد أخذ عمهما مالهما وميراثهما، ولم يدع لهما شيئا إلا أخذه، فما ترى يا رسول اللَّه؟ فواللَّه لا تنكحان إلا ولهما مال، فنزل قوله - تعالى -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)؛ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعم الجاريتين: " اعْطِهِمَا الثُّلُثَينِ، وَأَعْطِ أمَّهُما الثمُنَ، ولَكَ ما بَقِيَ ". ثم في الآية دلائل:

أحدها: يخرج الخطاب على العموم، والمراد منه خاص؛ لأنه ذكر الأولاد، والولد قد يكون على غير دينه؛ فلا يرث، وقد يكون مملوكًا فلا يرث، على ما روي في الخبر: " لا يَتَوَارَث أَهْلُ مِلَّتَيْنِ "، وما روي: " لا يَرِث الْمُسْلمُ الكافِرَ وَلا الكَافِرُ الْمُسْلِمَ إِلا العَبْدَ مَوْلاهُ "، وذلك في الحقيقة ليس بميراث، ولكن ما للعبد يكون لمولاه. وفي هذا دليل جواز الاستثناء من غير نوعه؛ حيث استثنى العبد، وذلك في الحقيقة

ليس بميراث. وفي الآية دليل جواز القياس، والفكر فيها، والاعتبار؛ لأن ميراث الابنتين مستدل عليهما، غير منصوص، وكذلك ميراث الذكور من الأولاد بالانفراد مستدل عليه غير

منصوص، وما يحرز الأب من الميراث بحق العصبة مستدل عليه لا منصوص، وما يستحق بالفريضة فهو منصوصٌ عليه، وهكذا كل من يستحق شيئا بحق الفريضة فهو منصوص عليه؛ فدل أن ما ترك ذكره إنما ترك للاجتهاد، والتفكر فيه، والاعتبار. وفيه دليل أنه يجوز ألا يُطْلِع اللَّه عباده على الأشياء بقوله - تعالى - (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) إذ لم يبين أيهم أقرب نفعًا؛ دل قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ)؛ إذ ذكر وراثتهما، ولم يبين حق الأب أنه جعله عصبة يرد إليه الفضل. فيظهرُ للأب بهذه الآية من قوله - تعالى -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ. . .) إلى آخرها - أمران: أَحَدُهُمَا: حق العصبة. الثاني: حق الفرض بقوله: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ) ثم بعد هذا فيه أمران: أحدهما: أنه إذا ثبت له حق العصبة، وقد بين اللَّه - تعالى - نصيب الابنة أنه النصف، ونصيب الأب مع الوالد أن له السدس؛ فزعمت الشيعة أن الفضل يرد إلى الابنة؛ لأنها ولد، ولم يذكر له مع الولد إلا السدس. وعندنا: يرد إلى الأب؛ لأنه لم يذكر للابنة إلا النصف، ثم قد جعل الأب عصبة فيما له حق الفضل عن المفروض، ولم يجعل الابنة؛ لذلك كان الرد إلى الأب أحق مع ما يحتمل إن كان له ولد ذكر، ثم حرمت الأمُّ بالابنة؛ إذ هي تحرم بالأخوات، فالبنات أحق؛ إذ هن أقرب. والثاني: أنه إذ جعل للأب السهم من وجهين، ثم الذي له في أحد الوجهين صار للجد دون أولاده، وبين لأولاد الأب الحق، وإبقاء حق الجد لما بين لولده؛ فعلى ذلك ما له من الوجه الثاني وهو أولى؛ لأن حق العصَّاب يخرج على إلحاق الأبعدين فيه بالأقربين، وحق الفرائض لا، حتى يبين، ثم صار الجد أبًا في حقه من الفرض إذا لم يكن هو فمثله في حق العصبة. ثم فيه وجه آخر: أنه أتبع ذلك الذكر ذِكر الزوجين، وذكرهما مع الولد، ولم يذكر معهما الولدان؛ فثبت أن أمرهما يدخل في حالهما فيما كان، لا في حالهما، أي: الزوجين، وأيد ذلك قوله: إنه بقي حالهما مع الزوجين مع الولد على ما كان عليه دون الزوجين معه؛ فعلى ذلك حالهما بلا ولد، وفي ذلك وجوب صرف حقهما إلى ما فضل، كما ذكر في قوله:

(وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ) فيكون الفضل بينهما على ما كان عليه بالكل لولا الزوجان. وقوله: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) اختلف في حكم الآية من أوجه ثلاثة: قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يحجب الأم عن الثلث أخوان ولا أختان، حتى يكون ثلاثة؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (إِخْوَةٌ)، وأقل الإخوة ثلاثة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه. وقال آخرون: يحجب الأم عن الثلث الذكور منهم، ولا تحجب الإناث؛ لأن اللَّه - تعالى - ذكر الإخوة، والإخوة اسم للذكور منهم دون للإناث؛ إذ الإناث اسم على حدة وهو الأخوات؛ لذلك حجب الذكور ولم يحجب الإناث. وأما عندنا: فإن الإخوة اسم للذكور والإناث جميعًا في الحكم، وإن لم يكن اسمًا لهما جميعًا في الحقيقة؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - ذكر الإخوة، ثم جعل بالتفسير اسما لهما جميعا بقوله: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً)، دل أن اسم الإخوة يجمع الذكور والإناث جميعا في الحكم؛ لذلك حجب الأم عن الثلث ذكورًا كانوا أو إناثًا. وأما قولنا: بأن الاثنين يحجبانها عن الثلث: ما رُويَ عن عليٍّ وعبد اللَّه وزيد بن ثابت أنهم قالوا: يحجب الأخوان الأم عن الثلث كما يحجبها الثلاثة.

وجعلوا الأخوين إخوة، والفرائض على اختلافها اتفقت في أن حكم الاثنين حكم الأكثر؛ فكذلك في حق الحجاب، واللَّه أعلم. وحجة أخرى: وهي أن اللَّه - تعالى - حكم في (الْكَلَالَةِ) إذا كان واحدًا أن له السدس، (فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ)؛ فجعل حكم الاثنين والثلاثة واحدًا يشتركون في الثلث؛ فوجب أن يكون حكم الاثنين والثلاثة من الإخوة في حجب الأم عن الثلث سواء. وحجة أخرى: وهي أن اللَّه - تعالى - جعل للأختين من الأب والأم الثلثين، وسوى بين حكم الأختين والثلاث في الميراث؛ فعلى ذلك يجب أن يستوي حكم الأخوين والثلاث في حجاب الأم عن الثلث. ثم المسألة بيننا وبين الروافض: زعمت الروافض أن الإخوة من الأم لا تحجب الأم عن الثلث؛ لأنهم منها، فمن البعيد أن يحجبوها، ويمنعوا ذلك عنها، ويجعلون ذلك لغيرها، يضرون بالأم وينْفَعونَ غيرها؛ وقد قال - تعالى -: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً). والثاني: أن الحجاب قد يجوز أن يقع بمن يحصل له ما حجب عنها نحو الإخوة من الأب والأم إذا حجبوا الأم عن الثلث وقع لهم ذلك، وأمَّا الإخوة من الأم فإن وقع لهم الحجاب لم يجعل لهم ذلك المحجوب منها؛ فلا يحتمل الحجاب بهم. وأما عندنا: فإنه ليس لهم بحق القرب والبعد ما يحجبون، ولكن بحق الميت، فإذا كان ما ذكرنا؛ فسواء كانوا من قبل الأم أو من قبل الأب في حق الحجاب. والثاني: أن المواريث جعلت بحق الابتداء لا بحق المورثين؛ لما لا يحتمل أن يختار المورث من هو أبعد على من هو أقرب، نحو من يموت عن ابنة وابن عم، لا يحتمل أن يختار ابن العم على الابنة في النصف الباقي؛ دل أنه على الابتداء. ونقول في الإخوة في الأم: إنهم في الحجاب كالأخوة من الأب والأم، وإن كان الحق

لغيرهم؛ لما أن الإخوة لما تفرقت حقوقهم ذكرت، وكذلك الأولاد، فلو كان الحجابُ يتفرق لكانت الحاجة إلى الذكر لازمة؛ إذ بعيد ترك الأمر للنظر فيما لا أصل له في الأثر، ولا أصل له في هذا بالتفريق؛ بل قد جمع ذلك بين الإخوة والأخوات، على ما في ذلك من اختلاف الحقوق؛ ثبت أن غير الحجاب من الحقوق ليس بأصل له، والأصل أن ذلك لو كان على اعتبار الحق فهو بحق الميت، لا بحق الأبوين؛ لأنه لم يُعرف إيجاب حق ممن لا حق له، ولا حق لهم مع الأب؛ فبان أنه بمعتبر حق الميت يقع الحجاب، والمعنى منه واحد، ولو كان حجاب الإخوة من الأب بالأب لكان الأب إذن حجب الأم، فإذا كان هو لا يحجب بأن أن ولدها لا يحجبونها؛ إذ هو بحق الميت. وقوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) ذكر اللَّه - تعالى - الوصية قبل الدَّين، وأجمع أهلُ العلم أن الدَّين يبدأ به قبل الوصية والميراث. رُويَ عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: تقرءون الوصية قبل الدَّين، وقضى مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - بالدَّين قبل الوصية.

ورُويَ عن عليٍّ - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الدَّيْنُ قَبلَ الوَصِيةِ، وَالْوَصِيةُ قَبلَ المِيرَاثِ، وَلَا وَصِيةَ لِوَارِثٍ ". وأجمعوا أنه إذا قضى الدَّين - دفع إلى أهل الوصايا وصاياهم إلا أن تجاوز الثلث فترد إلى الثلث؛ إن لم يجز الورثة، ويقسم الثلثان بين الورثة على فرائض اللَّه تعالى. وليس معنى قول اللَّه - تعالى -: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) - أن يخرج الثلث، فيبدأ بدفعه إلى الموصى لهم، ثم يدفع الثلثان إلى الورثة؛ لأن الموصى له شريك الورثة؛ إن هلك من المال شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعًا، ويبقى سائر المال بالشركة بينهم. ولكن معناه: من بعد وصية إعلام أن الميراث يجري في المال بعد وضع الوصية من جملته إذا كان الثلث أو دونه، وإن لم يكن دفع ذلك إلى أصحاب الوصايا، ثم لم يذكر في الآية قدر الدَّين والوصية، ومن قولهم: إن الدِّين إذا أحاط بالتركة منع الميراث والوصية، وإذا لم يحط لم يمنع. والوصية تجوز قدر الثلث، ولا تجوز أكثر من الثلث، إلا أن يجيز الورثة.

والآية لم تخص قدرًا من الدَّين دون قدر، وكذلك الوصية، لكن تفسيره ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الثلُث والثلُث كثير "، وما رُوي في خبر آخر: " إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - تصَدَّقَ عَلَيكُم بِثُلُثِ أَمْوَالِكُم عِنْدَ وَفَاتِكُم زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُم لَم يَجْعَلْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ "، وما روي في خبر آخر عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعمر وعثمان - رضي اللَّه عنهما -: " الخُمُسُ اقْتِصادٌ، وَالرُّبُعُ جَهْدٌ، وَالثلُثُ حَيفٌ ". ثم الوصية جوازها الاستحسان والإفضال من اللَّه تعالى، والقياس يبطلها؛ وذلك أن اللَّه - تعالى - لم يملك الخلق أَعْينَ الأموال؛ وإنما جعل الانتفاع لهم بها؛ ألا ترى أنهم نُهوا عن إضاعتها، ولو كان أعين المال لهم لكان لا مَعْنى للنَهْي عن إضاعتها؛ دل أنه إنما جعل لهم الانتفاع فيها إلى وقت موتهم، وبالموت ينقطع الانتفاع بها؛ فينظر من الأحق بها بعد الموت: الغريم صاحب الدَّين، أو الوارث، وإلا جواز الوصية الإفضال من اللَّه - تعالى - على عباده بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللهَ تَصَدقَ عَلَيكُم بِثُلُثِ أَمْوَالِكُم عِنْدَ وَفَاتِكُم "؛ دل هذا الخبر أن جوازها الإفضال والاستحسان منه إلى عباده، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) -يدل على أن ما ليس بدين ولم

يوصِ به الميت- فإنه لا يخرج من ماله، ويدخل عندنا في هذا الجنس: الحج يكون على الرجل، والنذر، والزكاة، وأشباه ذلك، ليس بشيء منها دين، فإذا لم يوص الميت بها فلا يجب أن تؤدى من التركة إلا أن يُنْفِذَها الورثة. فإن قال قائل: هي دين كسائر الديون. قيل له: أرأيت إن كان عليه دين وزكاة: يبدأ بالدَّين أو تقسم التركة بالحصص إذا لم يف بذلك كله؟ فإن قال: يبدأ بالدَّين؛ قيل له: لو كانت الزكاة دينًا كديون الناس كانت في القضاء. فإن قال: أجعل الزكاة أسوة في القضاء مع الديون؛ قيل له: ما تقول في رجل أفلس وعليه ديون: هل يقسم ماله بين غرمائه؟ فإن قال: نعم؛ قيل: فإن كانت عليه زكاة هل يضرب لها بسهم؟ فإن قال: لا؛ قيل: كيف ضربت لها بسهم بعد الموت لما قسمت ماله، ولم تضرب لها بسهم في الحياة، إن كانت كسائر الديون بعد الموت؟! فيجب أن تكون كسائر الديون في الحياة، إلا أن الزكاة حالة واجبة على من كان عنده مال فحال عليه الحول فاستهلكه، وليس يجوز له تأخير قضاء الدَّين. وفي إقرارك أنك تبدأ بالدَّين قبل الزكاة في الحياة دليل على أنه يجب أن يبدأ بالدَّين قبل الزكاة بعد الموت. فَإِنْ قِيلَ: قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للمرأة التي سألت: هل تحج عن أبيها؟: " أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ، فَقَضَيتِيهِ أَلَم يُجْزِ عَنْهُ؟ " يدل على أن الحج دَين. قيل له: ليس فيه دلالة الوجوب عليها؛ إنما فيه دليل جواز الحج عن الميت وقبوله، إذن كان قضاء ما هو أوكد منه من ديون العباد قضاء صحيحًا؛ فالحج الذي هو دون ذلك

في التأكيد أحرى أن يقبل؛ كأنه أراد هذا، واللَّه أعلم. ودليل آخر: أن الزكاة لا تجوز أن تؤدى عن الميت إذا لم يوص بها؛ لأن الزكاة لا تؤدى إلا بنية المزكي، والنية عمل القلب، ولا خلاف في أنه لا يُصَلَّى عن الميت ولا يصام عنه؛ فلما لم يجز أن يُقْضَى عن الميت على الأبدان، لم يجز أن تقوم نية الورثة في أداء الزكاة مقام نية الميت. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) وظاهره أنه يقدم الوصية على الميراث، لكن أجمع أن الابتداء به عن حق حد الميراث، ولكن يوزع؛ فيخرج التأويل على وجوه: أحدها: أن قوله - تعالى -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ. . .) إلى قوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) -كأنه سوى، أي: سواء مالُكُمْ: أن توصوا، أوصاكم اللَّه فيه- بكذا. والثاني: أن يكون (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ)، أي: من بعد ما أوصيتم، ويكون الميراث بعد الإيصاء. ويحتمل: من بعد أن كان عليكم الإيصاء والدَّيْنَ - أمركم بالمواريث؛ فيكون فيه نسخ قول: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ)؛ فدلت هذه الآية على حجر بعض الوصايا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (غَيْرَ مُضَارٍّ)، لكن يحتمل أن تكون المضارة تبطل الفضل، ويحتمل ألا تبطل؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا) في الرجعة على إمضاء الرجعة على ذلك، لكن الإضرار في الرجعة

مقصود، وفي هذا مفضول، فيمكن التفريق بين الأمرين، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ. . .) الآيتين، وأوعد جهنم على تعدي هذه الحدود، وفي ذلك لا يحتمل مع جواز الفضل، وأيد ذلك قوله: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ. . .) الآية، ولو كان يجوز لكان لا يملك معه الإصلاح؛ فثبت أن من الوصايا ما يبطل مع ما كان اللَّه ذكر في المواريث: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ)؛ فلا يُملك إبطال فريضة اللَّه، وبالإذن منه يجوز فعله؛ لذلك يبطل بعض وصاياه. والأصل في ذلك أن الأموال أنشئت للأحياء؛ وخُلقت لمنافع الأحياء، فكأنهم ملكوا منافعها إلى انقضاء آجالهم، ثم صارت إلى مَن به ملكوها، يجعلها لمن يشاء، ويضعها عند من يشاء. وقد بين - عَزَّ وَجَلَّ - أنها: لمن، ومن أحق بها؛ فصار الموصي كأنه أوصى بحق مَنْ بَيّن أن مُحِقَّه فيه غيرُهُ، فإن تفضل اللَّه عليه في ذلك من شيء، وإلا فذلك كسائر الأملاك التي بينت أربابها، لم يكن لغيرهم فيها حق إلا بجعل اللَّه أو جعل من له؛ فعلى ذلك هذا قد جاء عن اللَّه بيان هذه بعد أن بينت هذه الآيات جعل الحق له إلى الثلث، فذلك له صدقة من اللَّه - تعالى - وفي الفضل إن أجاز المجعول له جاز، وإلا لا، واللَّه أعلم. فجعلت للوصية حدًّا، ولم تجعل للدِّين؛ لأن الدِّين مما يتصل بحوائجه في حال حياته؛ إذ هو يلزم بالأسباب التي بها معاشه وغذاؤه؛ فصار مقدمًا على المتروك في الحكم، وإنما جُعلت المواريث في المتروك مع ما كان الغرماء أحق بملكه في حياته بعجزه عن كثير من المعروف في مرضه بهم، فلو لم يكن لهم الحق لامتنعوا من المداينات إلا بوثائق يكونون هم أحق بها بعد الوفاة من الورثة، أو يمتنعون من المداينات، وفي ذلك تقصير القوت والأغذية عن مضي الأجل، وهو به مأمور؛ فجعلت الديون كأنها استحقت الإملاك في حال الحياة؛ فلم تجئ منهم التركة، وليس كالعبادات؛ لأنها تجب في الفضول عن الحاجات، والديون في الأصول، فليست العبادات بالتي تمنع الوفاء بالآجال ولا كان بأربابها إليها تلك الضرورات؛ فإنما هي بحق القرب، وهي عمل الأحياء، فإذا ماتوا زال الإمكان، وجرت في الأموال المواريث، وكذا المعروف من الدِّين المذكور في القرآن من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا

أَوْ دَيْنٍ) - أن العبادات لا توصف بالديون، ولا تفهم من إطلاق القول بالديون؛ فصارت بمعنى الفضل عن الوصايا والديون إلى أن يؤجل، وهو الحقيقة؛ ألا يكون للمولى على عبده دين؛ فيكون المذكور دينا في الأفعال؛ كما ذكرت العِدَاتُ دَيْنًا في الأخلاق، لا في حقيقة الذمم، مع ما كانت هي لله، وقد جعل اللَّه له فريضة لأقوام بأعيانهم، لا تمنع عنهم إلا بالوصية، كما جعل للموصي. وعلى أن العبادات لا تقوم إلا بالبينات، ولا تؤدى عن أحد في حياته إلا بأمره، وإن احتمل قيام بعض منها عن بعض، وسائر الديون تجوز دونه؛ فعلى ذلك بعد الوفاة، وإن كان كل ما يؤدى به فهو الذي حدث به الوصية، وقد جاء الحد لها مع ما كانت العبادات لا تحتمل لحوق الأموات ولا الإيجاب عليهم في أموالهم، ثبت أنها حقوق الحياة خاصة، والديون تحتمل، فهي حقوقهم في الحالين. ثم قد ذكر في الدِّين (غَيْرَ مُضَارٍّ)؛ بل الدَّين أقرب إلى حرف الثنيا، ومعلوم أنه لا يقع منه في الديون الظاهرة المعلومة مضارة بالورثة إن كان يقع، يقع في الغرماء؛ إذ يؤخذ منه بلا إيصاء، ولا يحتمل النهي من حيث الغرماء؛ لما فيه إلزام المكاسب في أوقات العجز لقضاء الديون؛ فثبت أن ذلك فيما لا يعرف من الديون؛ وإنما يرجع فيها إلى قوله؛ فبطل بالذي ذكرته جواز إقراره على كل حال لكل أحد؛ إذ لا ضرر يقع من حيث فعله فيرد، وقد بينا أن المضارة في هذا تمنع الجواز؛ فثبت أن من الإقرار ما لا يجوز، فقال أصحابنا - رحمهم اللَّه -: لا يجوز إقراره لبعض الورثة وقت الإياس من نفسه؛ لأنه

وقت الإيثار، والسخاء بما عنده من المال، ولوقت السخاء ما أبطل وصيته للوارث بما يخرج مخرج الإيثار، فنحن إذا أجزنا إقراره فيهن لنظره لم يمنع الوصية أن ينتفع؛ بل يذهب الكل، وفي الأول لم يكن يذهب، واللَّه أعلم. ثم الأصل أنه أجيز في الكل بحق الأمانة، ووصيته بحق الفضل ثم جعل في وارثه كمن لا ملك له؛ إذ قد يقصد به التفضيل والتخصيص إلى القربة؛ فعلى ذلك فيما خان في الأمانة يجعل كمن لا أمانة له لما يخرج، على ما بينا، وإسقاط الأخبار؛ لتوهم من الأمناء أوجد في الأحكام، ومن إسقاط المعروف عن الأملاك، واللَّه أعلم. وعلى ذلك فيما كانت عليه ديون ظاهرة قد يبقى الضرر بأهلها لبعض من له بشأنه عناية، وفيما بينهما حقوق تحث على المعروف والصلة له وقت السخاء بماله، وللعلم بأنه عن الانتفاع به عاجز؛ فيقر لهم ذلك بتهم في الحقوق التي ظهرت، ثم كانت عبادات الأموال قد تقام عن الأموات بالأمر، ولا تقام عبادات الأفعال لوجهين: أحدهما: جواز بعض في أحد عن بعض النوعين فيما للعباد بلا أمر في الحياة، ولا يجوز في الآخر؛ فمثله العبادات بالأمر. والثاني: أن السبب الذي به تجب عبادات الأموال قد يجوز أن يوجب على نفر بالتحول من ملك إلى ملك، وما له تجب عبادات الأفعال يجوز فعل ذلك حق القيام بالأفعال، وعلى ذلك النيات؛ إذ ليست من الحقوق التي تتصل بالأموال في شيء من الأمور لم يقم بها أحد عن أحد، لذلك لم يجز إلا بأمر؛ فيكون الأمر بالأمر لما أمرنا به نادرا، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الدنيا، وهو أن يلزم الابن نفقة والده عند الحاجة والقيام بأمره، والأب يلزم أن ينفق على ولده في حال صغره، وعند الحاجة إليه، والقيام بحفظه، وتعاهده، فإذا كان ما ذكرنا لم يدر أيهما أقرب نفعًا: نفع هذا لهذا، أو هذا لهذا. ويحتمل أن يكون قال: لا تدرون أنتم أي نفع أقرب إليكم: نفع الآباء أو الأبناء، فإن كان التأويل ما ذكرنا؛ ففيه دلالة بطلان شهادة الوالد لولده، وشهادة الولد لوالده؛ إذ

أخبر أن لهذا نفعًا في مال هذا ولهذا نفعًا في مال هذا، فإذا ثبت النفع لم تقبل شهادة من ئنتفع بشهادته؛ ولهذا قال أبو حنيفة - رضي اللَّه عنه -: لا يجوز للوكيل بالبيع أو الشراء أن يبيع من أبيه، أو ابنه، أو والدته؛ لما ينتفع ببيعه منه وبالشرى منه. وكذلك قالوا: إذا اشترى من هَؤُلَاءِ فليس له أن يبيع مرابحة، إلا أن يبين؛ لأنه ينتفع به. وقيل: هذا في الآخرة. ورُوي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، يقول: أطوعكم لله من الآباء والأبناء: أرفعكم درجة عند اللِّه يوم القيامة؛ لأنه - تعالى - يُشَفعُ المؤمنين بعضهم في بعض. وقيل: قوله: (لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ) أنتم في الدنيا (أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، يقول: أخصّ لكم نفعًا في الآخرة في الدرجات الوالد لولده، أو الولد لوالده؛ إذ هم في الدنيا لا يدرون أيهم أقرب لصاحبه نفعًا في الآخرة حتى يرجعوا في الآخرة قال: فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع اللَّه - تعالى - إليه ولده في درجته؛ لتقر بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والده رفع اللَّه - تعالى - الوالدين إلى الولد في درجته؛ لتقر بذلك

أعينهم برفع الأسفل إلى الأعلى والأدون إلى الأفضل، وهو كقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ)، يعني: بإيمان الآباء، (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ)، يعني الآباء (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ). ويحتمل أن يكون هذا في الشفاعة، أو لا يدرى ما ذلك النفع وما مقداره. أو يحتمل قوله: (لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا): ليس على حقيقة القرب؛ ولكن على الكبر والعظم، وقد يتكلم بهذا كقوله: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا): ليس على أن آية هي أكبر من أخرى، ولكن على وصف الكل منها بالكبر والعظم؛ فعلى ذلك قوله: (لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) على وصف كل منهم بالنفع؛ على الإعظام والإكبار، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله - تعالى -: (أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، أي: أوجب؛ كقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، أي: واجب للمحسنين، وغيره من الآيات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) سمى اللَّه - تعالى - المواريث فرائض؛ لأنه كان بإيجاب اللَّه - تعالى - لا باكتساب من الخلق؛ إذ لم يملك الخلق أعين هذه الأموال، ولكنه إنما ملكهم المنافع منها، وإلى وقت وفاتهم فإذا ماتوا صار ذلك المال للذي جعل اللَّه له؛ لذلك سمى فرائض. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) ببدو حالهم ومعاشهم ومصالحهم، وما يصلح لهم وما لا يصلح (حَكِيمًا) فيما فرض من قسمتها وبينها. والحكيم: هو المصيب واضع كل شيء في موضعه، والظالم: هو واضع الشيء في غير موضعه. * * * قوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى

(12)

بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ. . .) إلى آخر ما ذكر: فيه مراد الخصوص، وإن كان مخرج الخطاب عافا؛ لأن الزوج أو الزوجة إذا لم يكن على دين صاحبه وعلى وصفه لم يجز بينهما التوارث؛ دل أن ليس لأحد الاحتجاج بعموم المخرج، على ما ذكرنا في الولد والوالد والأم وغيرهم: أنه إذا لم يكن بعضهم على وصف بعض لم يجز بينهما التوارث؛ دل أن عموم مخرج الخطاب لا يدل على عموم المراد، ثم الآية معطوفة على ما سبق من الآيات؛ لأنها ذُكرت بحرف العطف والنسق بقوله: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) والربع إن كان لهن ولد (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ)، والثمن إن كان لكم ولد، فبين في الآية الأولى ميراث الأب والأم وميراث الأولاد، ولم يبن ميراث الأزواج، ثم بين في هذه الآية؛ فنسق على الأول؛ دل أن الأزواج والزوجات إذا كانوا معهم فإن الحكم لا يختلف فيهم، يكون للأم الثلث إذا لم يكن هنالك ولد ولا اثنان من الإخوة والأخوات فصاعدا، والسدس إن كان له ولد أو اثنان من الإخوة والأخوات يكون لها مع هَؤُلَاءِ ثلث ما بقي، حيث نسق هذه على السابقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً) اختلف في الكلالة: قَالَ بَعْضُهُمْ: الكلالة: الميت الذي لا ولد له ولا والد.

وعن الحسن أنه قال: الكلالة: الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو الإخوة والأخوات من الأب، ذهب في ذلك إلى ما ذكر في آية أخرى قوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ. . .) إلى آخر ما ذكر. والنصف إنما يكون للأخت من الأب والأم، أو الأخت من الأب، وذلك تفسير الكلالة؛ دل أنها الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب. وروي عن أبي بكر الصديق - رضي اللَّه عنه - أنه قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد. وروي عن عمر - رضي اللَّه عنه - أنه قال: لقد أتى عليَّ زمان وما أدري ما الكلالة، ألا وإن الكلالة ما لم يكن له ولد ولا والد. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد. وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في خطبته: ألا إن الآية التي أنزلها اللَّه - تعالى - في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والمرأة، والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة من الأب والأم، والآية التي في سورة الأنفال في: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)، مما جرت في الرحم من العصبة. وروي عن عمر - رضي اللَّه عنه - أنه قال: إذا كانت الكلالة بعضهم أقرب من بعض بأبٍ فهو أحق بالمال.

وحديث عمر هذا يبين أن الكلالة، اسم يقع على الإخوة من الأم ويقع على الإخوة من الأب، ويقع على الإخوة من الأب والأم، وهو ما ذكرنا في قول أبي بكر الصديق وعمر - رضي اللَّه عنهما - أن الكلالة ما عدا الولد والوالد، فكانوا يذهبون - واللَّه أعلم - أن الأعمام وبني الأعمام يرجعون في النسب مع الميت إلى جده، وقد تكللهم الجد، وكذلك الأخوال والخالات وأولادهم يرجعون مع الميت إلى جده أبي أمه، وقد تكللهم أبو الأم؛ فسبيلهم في ذلك سبيل الإخوة والأخوات الذين تكللهم الأب والأم، إلا أنهم لما كانوا أبعد في النسب من الإخوة والأخوات لم يرثوا معهم، فأجمعوا أن معنى قوله - سبحانه وتعالى -: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ)، هو في الأخت من الأب والأم، أو من الأب، إذا مات الرجل ولا ولد له ذكر ولا أنثى يعطى الأخت النصف تسمية، فقال قوم من الشيعة: الآية تدل على أنه إن ترك ابنة وأختا أن المال كله للابنة، ولا شيء للأخت؛ لأن اللَّه - تعالى - جعل لها الميراث إذا لم يكن له ولد؛ فسوى الذكر والأنثى من الأولاد. وليس الأمر كما قالوا؛ لأنا إذا جعلنا للابنة النصف وجعلنا ما بقي للأخت فلم نعطها ما أعطيناها بالتسمية؛ ألا ترى أنه لو كانتا أختين كان لهما عندنا ما بقي، ولو جعلنا ذلك لهما تسمية، أعطيناهما الثلثين؛ لأن اللَّه - تعالى - جعل لهما الثلثين بالتسمية، وليس سبيل ما تأخذه الأخت بالتسمية لا ينقص منها شيئًا ما تأخذه من الباقي بغير تسمة؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - جعل للأبوين السدسين مع الولد، فإن كانت ابنة وأبًا فلها النصف، وما بقي للأب، فقد أعطينا الأب أكثر مما سمى اللَّه - تعالى - ولكنا لم نعطه الزيادة بالتسمية؛ فلم يلزمنا الخلاف في زيادثه، فإن خالفونا في ذلك، قيل: قد سبق لذلك جواب ما يدل على أن الأب بالباقي أولى من الابنة؛ لذلك لم نذكره في هذا الموضع. فإن قال: الابنة أولى بما زاد على النصف؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)؛ فكانت الابنة أحق بذلك من غيرها.

قيل له: أإن قوله - تعالى -:، (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) - إنما أوجب أنهم أولى ببعض من الأجنبيين؛ بين ذلك قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ)؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة، فنسخ اللَّه ذلك، وجعل الميراث لذوي القرابة. وليس في الآية دليل على أن القريب أولى بالميراث ممن هو أبعد منه في القرابة، وقال اللَّه - تعالى -: (وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ)، يقول - واللَّه أعلم -: الأخ من الأب يرث الأخت المال كله؛ إن لم يكن لها ولد، وترث من الأخ النصف إذا كان هو الميت، وقال اللَّه سبحانه وتعالى: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ)؛ فأجمعوا أن الأختين وما زاد من الميراث سواء. وقال اللَّه - تعالى -: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ)، فأجمعوا أن الرجل والمرأة إذا مات أحدهما وترك أخًا وأختًا فما زاد على ذلك من الذكور والإناث كان الميراث بينهم: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)؛ فهذا ما نص اللَّه - تعالى - عليه في فرائض المواريث. وقد تكلم أهل العلم في الرد، والعول، وميراث ذوي الأرحام: فأما ميراث ذوي الأرحام: فإن اللَّه - تعالى - قال: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)، فمن زعم أن المال لبيت المال فلم يجعل بعض الأرحام أولى ببعض؛ بل جعل الغرباء أولى بالميت من أولى الأرحام؛ فكان قول المورثين عندنا أولى، وهو قول عمر، وعلى، وعبد اللَّه بن مسعود، وجماعة من الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - إلا زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه جعل ذلك لبيت المال. فَإِنْ قِيلَ: إن قول اللَّه - سبحانه وتعالى -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) إنما هو فيمن سمى اللَّه لهم سهامًا. قيل: في الخبر دليل أنه في غير الذين سمى اللَّه لهم سهامًا: ما روي عن عمر بن

الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اللهُ وَرَسُولُهُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ، وَالخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ ". وروي -أيضًا- أن عمر - رضي اللَّه عنه - قضى للخالة بالثلث، وللعمة بالثلثين. وعن زر بن حبيش، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قسم الميراث بين العمة والخالة. وعن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الخالة والدة. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في العمة والخالة: للعمة الثلثان، وللخالة الثلث. فأخذ علماؤنا في ذلك بما رُوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعن الأجِلَّة من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وكان ذلك موافقا لظاهر الآية وعمومها، وكان اتباع ذلك عندهم أولى من غيره. فأما الكلام في العول: فإن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - كان ينكره، ويقول: لا تعول الفريضة. وكان علي وعبد اللَّه وزيد بن ثابت يقولون بعول الفرائض. وروي عن الحارث قال: ما رأيت أحدًا قط أحسب من علي بن أبي طالب - رضي اللَّه عنه - أتاه آت، فقال: يا أمير المؤمنين، رجل مات وترك ابنتيه وأبويه وامرأته، ما لامرأته؟ قال: صار ثمنها تسعًا. وكان ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - يكره أن ينقص الأب من السدس، وقد سمى اللَّه - تعالى - له السدس، ثم لم يمض على هذا الأصل؛ لأنه قال في الابنتين وأبوين وامرأته: للمرأة الثمن، وللأبوين السدسان، وما بقي فللابنتين؛ فنقص الابنتين مما سمى اللَّه لهما،

فلم كانتا أولى بالنقصان كله من غيرهما؟ وسائر الصحابة أدخلوا النقصان على كل وارث بقدر نصيبه؛ لئلا يلحق النقصان على بعض، ويأخذ البقية كمال نصيبهم، وجعلوا ذلك كقوم أوصى لهم رجل بوصايا تتجاوز الثلث إذا جمعت؛ فالحكم أن يقسم الثلث بينهم بالحصص، وكقوم صح لهم دَيْن على ميت، وتركته لا تفي بذلك؛ فهم جميعًا أسوة: يلحق كل واحد منهم النقصان بقدر حصته. وأما الردُّ: فإن عليًّا - رضي اللَّه عنه - وعبد اللَّه - رضي اللَّه عنه - قالا به، على اختلافهما فيمن يرد عليه، وسبيل ذلك سبيل ذوي الأرحام؛ لأن ذا الرحم بباقي المال أولى من الأجنبيين؛ بقول اللَّه - سبحانه وتعالى -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)؛ فمن لا رحم له فلا حق له غير سهمه. وليس في الزوج والزوجة خلاف بين أهل العلم أنه لا يرد عليهما، ولأن في الآية دليل الرد على غير الزوجين من أهل السهام ومنعَ الرد عليهما؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر للأبوين السدسين إذا كان له ولد، وسمى للأم الثلث إذا لم يكن له ولد، ولم يسم للأب شيئًا؛ فيرد الباقي عليه، وكذلك سمى للذكور من الأولاد مع الإناث نصيبًا بقوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)، ولم يسم لهم شيئًا في حال الانفراد؛ فيرد الكل عليهم، ولم يترك للزوجين ذكر تسمية سهامهما في حال؛ بل ذكر سهامهما في الأحوال كلها في حال الولد، وفي حال الذي لا ولد له؛ فلذلك منع دليل الرد عليهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) ومرة: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ)؛ حتى يعلم أنهما واحد. ثم ذكر المضارة في ميراث الإخوة والأخوات، ولم يذكر في الولد والوالد والزوج والزوجة؛ فهو - واللَّه أعلم - يحتمل وجهين: يحتمل: أنه ذكر في هذا أنه بهم ختم المواريث؛ فتكون تلك المضارة كانت كالمذكورة في الأولاد، أو الوالدين والأزواج؛ إذ بذلك ختم. ويحتمل: أنه ذكر هاهنا المضارة ولم يذكر فيما ذكرنا؛ لما في الطبع يقصد الرجل إلى مضارة الأخ والأخت ومَنْ بَعُدَ منه، ولا يقصد في المتعارف إلى مضارة الآباء والأولاد ومن ذكرنا، فإذا جاء النهي في مضارة من يُقصد في الطبع - بقصد الرجل - مضارته؛ فَلَان ينهى عنها فيما لا يقصد بالطبع أحق.

ثم بيان المضارة في الوصية ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " وقوله: " إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِياءَ خَيرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ "، وما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ الخَيرِ سِتِّينَ سَنَةً، فَإِذَا أَوْصَى خَانَ فِي وَصِيتِه، فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ؛ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الشَرِّ سِتِّينَ سَنَةً، فَيَعْدِلُ فِي وَصِيّتهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ " ثم يقول أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اقرءوا إن شئتم: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .) إلى قوله: (عَذَابٌ مُهِينٌ) وما روي: " الثُّلثُ حَيفٌ ". وما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم قرأ (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ. . .) إلى آخره، قال: في الوصية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ). ثم الإضرار قد يكون -أيضًا- إذا أوصى لوارث ولم يوص للباقين؛ لأنه أضر به بالوصية لبعض ورثته الباقين؛ فلا فرق بين أن يضر بعض الورثة وبين أن يضر الورثة كلهم؛ ففيه دليل بطلان الوصية لبعض الورثة دون بعض. ثم الإضرار قد يكون بالدَّيْن على ما يكون بالوصية؛ لأنه إذا أقر المريض لبعض الورثة بدين، فإن إقراره لا يجوز كما لا تجوز وصيته، والإقرار بالدَّين أحق ألا يجوز من

الوصية؛ لأن الإقرار في المرض جوازه بحق الأمانة؛ إذ يجوز جواز الشهادة، والشهادة أمانة، والوصية جوازها بحق الملك؛ فإذا بطلت الوصية لوارثه فإقراره له في المرض أحق أن يبطل؛ وعلى ذلك إذا كان عليه دين في الصحة، فأقر بدَين في المرض؛ فغرماء الصحة أولى بدينهم من غرماء المرض؛ لأن في ذلك إضرارًا بغرماء الصحة؛ لأن دينهم قد تعين في ماله، وتحول من الذمة إلى التركة؛ ألا ترى أنه ليس له أن يقضي غريمًا دون غريم! فإذا كان ما ذكرنا - لم يكن له قسمة المال بين غرماء الصحة وبين من أقر لهم بالدَّين في المرض؛ إذ فيه الإضرار بهم؛ إذ قد تعين حقهم؛ فلا فرق أن يكسب الضرر على الوارث وبين أن يكسب الضرر على الغرماء. وإذا باع شيئًا بقيمته في المرض أو استقرض؛ فإنه يجوز ويبدأ به؛ لأنه يعمل للغرماء؛ إذ يقضي ديونهم مما أخذ. وإذا تزوج أو استأجر فيكون أسوة الغرماء؛ لأنه لم يعمل لهم، إنما يعمل لنفسه، وليس فيه اكتساب الضرر على الغرماء، فيكون أسوة، ثم إذا أضر لم يجز، ويرد ذلك الضرر ويفسخ. فَإِنْ قِيلَ: إن الرجل قد ينهى عن الإضرار في نفسه وماله، ولو فعل يجوز. قيل: إن الإضرار إذا حصل في ملكه أو في نفسه - يُنْهي ويجوز؛ لأنه لم يضر غيره، وإذا حصل في ملك غيره لم يجز وَرُد، وهاهنا إنما حصل في ملك الورثة والغرماء؛ لذلك بطل، ولا يوصي بأكثر من الثلث، ولا يوصي لوارث، ولا يقر بحق ليس عليه مضارة للورثة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) يحتمل قوله تعالى: (وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ)، أي: الذي نهي عن المضارة وصيةً. ويحتمل: الذي فرض عليكم من المواريث؛ وصية من اللَّه وفريضة منه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ). بمن ضارَّ الوارث، وزاد على الثلث، وبمن لم يضار. (حَلِيمٌ) لا يعجل بالعقوبة على من ضار. ويحتمل العليم والحليم أن يكونا سواء؛ لأن ضد (حَلِيمٌ) سفيه، وكذلك الحليم.

(13)

قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) قيل: فرائض اللَّه التي أمركم بها من قسمة الميراث. ويحتمل (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ): ما حد لنا حتى لا يجوز مجاوزتها، وقد تقدم ذكرها في سُورَةِ البقرة. وذكر حدود اللَّه، وقد يجوز أن يكون للخلق حدود، يقال: حدُّ فلان؛ فإذا لم يفهم من حدود اللَّه ما فهم من حد الخلق كيف فهم من قوله: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، و (استَوَى إلَى السَّمَاءِ) ما فهم من استواء الخلق؟! فإذا لم يفهم من حدود اللَّه ما فهم من حد الخلق - لم يجز أن يفهم من استواء اللَّه ما يفهم من استواء الخلق، وكذلك لا يفهم من رؤية الرب ما يفهم من رؤية المخلوق، ولا يفهم من مجيئه مجيء الخلق، ولا من نزوله نزول الخلق، على ما لم يفهم من قوله - تعالى - (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) حدود الخلق؛ إذ لا فرق بين هذا وبين الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) يحتمل وجهين: أحدهما: أوامره ونواهيه، وما حَرَّم وأحلَّ. ويحتمل: حدود شيء من ذلك؛ فيرجع تأويل الأول إلى أنفس العبادات، والثاني: إلى نهايات العبادات. والمعروف من الحدود التي تنسب إلى الخلق وجهان: أحدهما: نهاية المنسوب إليه، وذلك حق حد الأعيان. والثاني: الأثر الذي يضاف إليه، وذلك حد الصفات أن يقال: حد الفعل فعل كذا، وحد البصر والسمع، يراد به الأثر الذي به يعرف، أو هنالك ما ذكر، ثم لم تكن الحدود التي أضيفت إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - على واحد من الوجهين اللذين يضافا إلى الخلق؛ إذ قد ثبت بضرورة العقل وحُجج السمع تعاليه عن المعاني التي هي معاني خلقه؛ فعلى ذلك ما أضيف إليه من طريق العقل من الاستواء، والمجيء، والرؤية - لم يجز في ذلك تصوير المعنى الذي في إضافة ذلك إلى الخلق يكون بما في ضرورة العقل والسمع جلاله وكبرياؤه عن ذلك المعنى، وباللَّه العصمة.

(14)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). قيل: من يطع اللَّه في أداء فرائضه أوسنة رسوله. (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ. . .) إلى آخر ما ذكر. وقيل: ومن يطع اللَّه فيما أمر ونهى، وأطاع رسوله في أمره ونهيه؛ فله ما ذكر. وقيل: إذا أطاع اللَّه فقد أطاع رسوله، وإذا أطاع رسوله فقد أطاع اللَّه - تعالى - وهو واحد، كقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ) - تعالى -: فيما أمر ونهي، وحَرَّم وأحلَّ، (وَرَسُولَهُ): فيما بلغ وبين. وقيل: ذا ليس بتفريق، لكن من الذي يطيع اللَّه هو الذي يطيع رسوله؛ لأنه إلى طاعة اللَّه - تعالى - دعاه، وعلى عبادته رغب؛ فتكون طاعتُهُ طاعتَهُ، كقوله - تعالى -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، وكقوله - سبحانه -: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي. . .) الآية. وقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... (14) وهذا كذلك -أيضًا- إذا عصى اللَّه؛ فقد تعدى حدوده، ومن تعدى حدوده فقد عصى اللَّه. ويحتمل قوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ): فيما لم ير أمره أمرًا ونهيه نهيًا، (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ)، يعني: أحكامه وشرائعه، أي: لم يرها حقًّا -: (يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا) وله ما ذكر. * * * قوله تعالى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ)، (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا) قيل: كان هذان الحكمان في أول الإسلام: الأول منهما للمرأة، والثاني للرجل.

وقيل: إن آية الأذى كانت في الرجل والمرأة، وآية الحبس كانت في حبس المرأة. ويحتمل أن تكون آية الأذى في البكر في الرجل والمرأة جميعًا، وآية الحبس في الثيب في الرجل والمرأة جميعًا. ويحتمل أن تكون آية الأذى في الرجال خاصة: فيما يأتي الذكرُ ذكرًا؛ على ما كان من فعل قوم لوط، وآية الحبس في الرجال والنساء جميعًا. فإن كانت آية الأذى في الرجال خاصّة؛ ففيها حجة لأبي حنيفة - رضي اللَّه عنه - حيث لم يوجب على من عمل عمل قوم لوط الحدَّ؛ ولكن أوجب التعزير والأذى، وهو منسوخ إن كان في هذا، وإن كانت في الأول؛ فهي منسوخة. ثم اختلف بما به نسخ: فقال قوم: نسخ بقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)، لكن عندنا هذا يجوز أن يجمع بين حكميهما؛ فكيف يكون به النسخ؟! ولكن نسخ عندنا بالخبر الذي روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً: البِكْرُ بِالبِكْرِ، والثيبُ بِالثيبِ، البِكْرُ يُجْلَد ويُنْفَى، والثيبُ يُجْلَدُ وَيُرجَمُ ". ففيه دليل حكم نسخ القرآن بالسنة. فَإِنْ قِيلَ: في الآية دليل وعد النسخ بقوله: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)؛ فإنما صار متسوخًا بما وعد اللَّه في الآية من النسخ، لا بالسنة. قيل: ما من آية أو سنة كان من حكم اللَّه النسخ إلا والوعد فيه النسخ، وإن لم يكن مذكورًا؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يجعل الحكم في الشيء للأبد ثم ينسخ؛ لأنه بدو، وذلك فعل البشر لا فعل الربوبية؛ فإذا كان ما ذكرنا فلا فرق بين أن ينسخه بوحي يكون قرآنا يتلى وبين أن ينسخه بوحي لا يكون قرآنا، وفيه أخبار كثيرة: روي أنه رجم ماعزًا لما أقرّ بالزنا مرارًا، ورجم -أيضًا- غيره: ما روي أن عسيف الرجل زنا بامرأته، وقال: سأقضي بينكما بكتاب اللَّه تعالى، وقال: " وَاغْدُ يَا أُنَيسُ عَلَى

امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ هِيَ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ". وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائله: ما نجد الرجم في كتاب اللَّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، ألا وإن الرجم حق إذا أحصن الرجل، وقامت البينة، أو اعترف، وقد قرأناها: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتَّة نكالا من اللَّه "، رجم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده. وقال قوم: الرجم بين اليهود والنصارى كهو بين المسلمين كالجلد بالآية، ولما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه رجم يهوديين ". قيل: إنما رجم بحكم التوراة؛ ألا ترى أنه روي أنه دعا بالتوراة، ودعا علماءهم فأمرهم أن يقرءوا عليه؛ فوضعوا أيديهم على الموضع الذي فيه ذكر الرجم فقرءوا غيره؛ فقال ابن سلام: إنهم كتموه يا رسول اللَّه، ثم قرأ هو؛ فأمر برجمهم، ولا شك أن القرآن نسخ حكم التوراة؛ لذلك لم يقم عليهم الرجم. فإن قال قائل: إن الحد يقام على من عمل عمل قوم لوط بقوله - تعالى -: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)، قيل: لا يحتمل وجوب الحد عليه بذلك؛ لأنه مختلف حكم هذا من هذا في الحرمة، ووجوب المهر؛ وغير ذلك، فلا يحتمل أن يعرف حكم شيء لما يخالفه في جميع أحكامه وجميع الوجوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) -: في الآية دليل جواز القياس؛ لأنه ذكر الحكم في النساء، ولم يذكر في الرجال ذلك الحكم، وهما لا يختلفان في هذا الحكم؛ ما يلزم المرأة في ذلك الفعل يلزم الرجل مثله؛ دل أن ما ترك ذكره في المنصوص إنما ترك؛ للاستدلال عليه، والاستنباط من المنصوص والانتزاع منه.

وقال قوم: إن على الثيب الجلد والرجم جميعًا؛ ذهبوا في ذلك إلى ما روي عن عبادة ابن الصامت، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " خُذُوا عَني خُذُوا عَني؛ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُن سَبَيلا: البِكْرُ بِالبِكْرِ يُجْلَدُ وُينْفَى، وَالثيبُ بِالثيبِ يُجْلَدُ وُيرجَمُ ": أوجب الجلد والرجم على الثيب أما عندنا: فإنه لا يوجب مع الرجم الجلد؛ لما روينا من الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه رجم ماعزًا، ولم يذكر أنه جلده، وما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " اغْدُ يَا أُنَيسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ": لم يُذكر هنالك جلد، والأخبار كثيرة في هذا. وروي أنه قال: " مَنْ أصَابَ مِنْ هَذِهِ القَاذُورَاتِ شَيئًا فَلْيَستَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ الَّذِي سَتَرَهُ عَلَيهِ، فَإِن مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيهِ حَدَّ اللَّهِ ". ثم يحتمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الثيبُ بِالثيبِ يُجْلَدُ ويرجَمُ " في اختلاف الأحوال: يجلد في حال، ويرجم في حال، أو يجلد ثيب ويرجم آخر؛ لأنه لا كل ثيب يرجم؛ لأنه إذا كان ثيبا غير محصن لا يرجم؛ دل أنه على ما ذكرنا. أو يحتمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " البِكْرُ بِالبِكْرِ يُجْلَدُ وُينْفَى، وَالثيبُ بِالثيبِ "، أي: البكر مع البكر، والثيب مع الثيب؛ فيكون ثيبا يجلد وثيبًا آخر يرجم. ثم اختلف أهل العلم في نفي البكر: قال قوم: النفي ثابت واجب. وعندنا: إن كان فهو منسوخ، ودليك نسخه: ما روي في خبر زيد بن خالد، وكان الرجل بكرا، لم يذكر أنه نفي. وما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه نفى رجلا؛ فارتد ولحق بالروم؛ فقال: لا أنفي بعد هذا أبدًا. وما روي أنه قال: كفى بالنفي فتنة.

وإن كان فهو عقوبة وليس بحد؛ كحبس الدعارة وغيره. والدليل على أن النفي ليس بحد أن اللَّه - سبحانه وتعالى - قال في الإماء: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، والأمة لا تنفي؛ لما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، قال: " إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَلْيَجلِدْهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ ": أمر بجلدها ولم يأمر بالنفي، ولو كان حدا لأمر به كما أمر بالجلد؛ دل أنه ليس بحد في الحر، ولأنه أوجب على الإماء نصف ما أوجب على الحرائر، ولا نصف للنفي؛ دل أنه ليس بحد، ولا يجب ذلك، أو إن كان فهو حبس، وفي الحبس نفي، فيحبسان أو ينفيان؛ لينسيا ما أصابا؛ لأن كل من رآهما يذكر فعلهما؛ فينفيان لذلك، لا أنه حد؛ ولكن لينسبا ذلك ولا يذكر. وقوله -أيضًا-: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ. . .) إلى قوله - تعالى -: (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا)، - يخرج على وجهين - لو كان الإتيان الزنا: أحدهما: أن يكون في جميع الإناث الحبس، وفي الذكور: الإيذاء؛ ولذلك جمع بين

الجميع في الخبر الذي به النسخ؛ فارتفع الحبس والأذى جميعًا، وذلك معقول: تأديب الرجل به أزجر له، وحبس المرأة أقطع لوجوه الزنا. أو أن تكون الآية الأولى: في المحصنات؛ على تضمن المحصنين بالمعنى، والآية الثانية: في الذكور؛ على تضمن الإناث بالمعنى، لكن جرى الذكر على ما ظهر من فضل صيانة الأبكار في الإناث: إما تدينًا، أو حياء الافتضاح، أو بما الغالب عليهن الصون من المحارم، والحفظ عن قرب الذكور، ليس بشيء من ذلك في الذكور ولا في الثيبات من النساء، على أنه بعيد بلوغ النساء في قلة الحياء إلى أن يُعْلِنَ حتى يشهده أربع، والغالب عليهن ألا يخالطن هذا القدر من العدد. ثم الدلالة على دخول الكل - قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خُذُوا عَني، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَ سَبِيلًا. . . ": ذكر لهن؛ على ما جرى به الذكر في القرآن، ثم جمع في التفسير بين الكل؛ ثبت أن الذكر قد يضمن الكل، وذلك يبطل تأويل من يصرف الآية إلى الأبكار من الإناث والذكور، ومتى يحتمل وجود الكل مثل ذلك بعد النكاح على إثر خلوة الأزواج بهن والاطلاع على ما فيه المسبة الدائمة، والعار اللازم لهن، ثم كشف ذلك لجميع محارمها، ثم خوف الانتشار به ظاهرًا، وكيف يحتمل في مثل تلك الحال إلى تمكن من ذكر بحضرة من ذكر دون أن ينضم إلى زوجها؟ فتأويل من وجَّهَ الآية إلى الأبكار خارج عن المعروف. ثم المروي من السنة، ثم بما أجمع عليه أهل التأويل عمل صاحبه على هذا جهله بألا يجوز بيان نسخ حكم بينه الكتاب بالسنة، ويحكم على اللَّه - تعالى - وعلى رسوله بحجر هذا النوع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا. . .) الآية، ومعلوم أن عقوبة الزناة يتولاها الأئمة، فكأن الخطاب عليهم خرج، ثم قد أثبت الفاحشة منهن، ولم يأذن في إقامة عقوبتها حتى يستحضر أربعة فيشهدون بها؛ فعلى هذا أن ليس للأئمة تولي حد الزناة بعلمهم حتى يكون ثَمَّ شهود، وفي ذلك لزوم حق الستر إلى أقصى ما ينتهي إليه من إعلان الفعل من الزناة؛ إذ ذلك أمر معلوم فيما يحل ألا يفعل إلا في أحوال الخلوات التي تعلم حقيقة ذلك بالولد يكون، فأما

من حيث الكون دونه فإنما هو غالب الظن، فالذي لا يحل من ذلك أن يكون بحيث لا يعلم حقيقته أبدًا؛ يدل على ذلك جميع الأمور التي منها المباح أو المحظور: أن المحظور منه أبعد من الظهور والعلم به من المباح؛ فعلى ذلك أمر هذا مع ما زيد هاهنا ما جعل فيه من حد الزاني وجهين: أحدهما: الزجر عن هتك هذا النوع من الستر حتى خرجت شهادة من رمى بذلك؛ بما هتك ستر اللَّه. والثاني: فحش الشين بفاعل ذلك، ولزوم المسبة في صاحب ذلك، وذلك غاية معنى لزوم الشين، وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ القَاذُورَاتِ شَيْئا فَليَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّه، فَإِنهُ مَن أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَد اللَّه ". فإذا بلغ العمل الذي حده ما ذكرت من العقوبة، من نهاية الستر النهاية من الإعلان حتى أظهر ذلك الجماعة بفعل من يشينه فعله ما ذكرت، استحق ما ذكرت من العقوبة بجرأته على ذلك بحله، وبقلة حيائه، حيث أظهر الذي ذلك حقه الستر عقوبة ذلك الفعل، فألزم من إليه ذلك القيام به لله، ثم جعل اللَّه في ذلك الفعل عقوبات مختلفة على اختلاف أوقات الفعل وأهله، على ما علم من مصلحة الخلق بها، وزجرهم، وتكفيرهم بها. ثم إن اللَّه - سبحانه وتعالى - جعل أول عقوبة الزنا في نوع من الخلق في الإسلام الحبس في البيوت، فهو - واللَّه أعلم - مخرج على أوجه: أحدها: إنه كان الزنا في الابتداء في نوع ظاهر يكتسبون به عرض الدنيا في ذلك في الإماء حتى قال اللَّه - تعالى -: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ. . .) الآية، وحتى كانوا يدعون الأنساب في أولاد الزناة من الإماء، حتى بلغ من ظهور ذلك إلى أن يمازج به الحرائر في الطرق تعاميا عن حالهن؛ فنزل قوله - سبحانه وتعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ)، وإن كان هذا حالهم في ذلك الوقت غلب عليهم خوف مواقعة الزنا، وكذلك على الحرائر؛ لكثرة ما يرين أو يسمعن، وذلك معنى يبعث من شَرِهَت نفسه،

وقل تفكره في أمر عاقبته مما ينزل به أو يشينه، وقد ركبت هذه الشهوة في كل البشر، فخفف اللَّه عقوبته في الابتداء أن جعل فيه الحبس والإمساك في البيوت، ثم صار ذلك إلى الضرب؛ لما أن تحرج الناس وعظم ذلك في أعينهم، وجعل في الشتم به الحد؛ ليعرفوا عظم موقعه عند اللَّه وينتهوا عن فعله، وقد جعل في ذلك في بعض الأحوال الرجم، وهي الحال التي يزول فيها كل وجوه العذر، ويرتفع جميع معاني الشبه لعظيم أمره. والثاني: أن السبب الباعث على ذلك قرب بعض لبعض، ومخالطة بعض ببعض على عظم الشهوة؛ فغلب عليهم الأمر، واستعدتهم الشهوة حتى واقعوا ذلك. ثم في الحبس وجهان: أحدهما: الكف عن المعنى الذي يدعو إليه من الاختلاط وتلاقي الأبصار. والثاني: ما فيه من فضل ضجر وتضييق الحال؛ إذ جعل ذلك إلى الموت، فيكون في ذلك عقوبة من حيث الضجر، ومعونة على الكف عنه بالحبس حتى لا يقع بصر ذكر على أنثى وأنثى على ذكر. والثالث: أن يكون في الحبس ترغيب الأرحام في الحفظ وإلزام القرابة بعض ما يزجر عن تضييع حقوق الرحم، ويدعو إلى القيام بالكفاية؛ إذ ضيق على الفاعل ذلك، وذلك يوجب قبل المواقعة الاستعلام عن الأحوال والجهد في الحفظ؛ إذ في ذلك بعض عقوبة أهل الاتصال من تكليف الإمساك والقيام بالكفاية؛ فيكون أبلغ في العفاف، وأقرب إلى الصلاح، وعلى مثل ذلك جعل أمر المعاقل؛ ليقوم أهل الصلاح في كل قبيلة في كف أهل الفساد عن الفساد، واللَّه أعلم. ثم لما انقطعت العادة وقام الناس بالتعاهد، وتفرق الفريقان حتى لا يؤذن بالاجتماع، إلا أن يكون ثَمَّ مَنْ جُبِلَ على الإياس من ذلك وأنشئ على قطع الشهوة فيهن، فجعل في ذلك حد، وجعل في ذلك لهن سبيلا، وذلك - واللَّه أعلم - يخرج على أوجه، يجب التأمل في الوجه الذي سمى ما نسخ به اللازم في ذلك، وذكر فيما ذكر حد مرة ورجم ثانيًا، ومعلوم أن المجعول له السبيل، والرجم والحد أشد عليهم من الحبس، وقد رُوي عن نبي الرحمة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائة وَتَغْريبُ عَامٍ، والثيبُ بِالثيبِ يُجْلَدُ وُيرجَمُ " فهو - واللَّه أعلم - أن بهذه الشريعة خلى سبيلهن، لا أن أوجب على المحبوسات إقامة ذلك بما قد حبس بالزنا،

ولكن في هذا تخلية السبيل، على أنهن؛ إذا زنين فعل بهن ذلك على رفع الحبس عنهن إذا حبس بما لم يبين حد ذلك، فإذا بين زال ذلك ولا حد حتى يكون منها ذلك، فالسبيل المجعول لهن تخلية السبيل، ثم بين الحكم في الحادث. ووجه آخر: أن السبيل في الحقيقة مجعول لمن كلف إمساكهن، وإن أضيف إليهن بما فيهن ضيق عليهم الأمر، وذلك كقوله - تعالى -: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، والإماء لا يؤتَين الأجر، لكن بما بمعنى فيهن ذكر الأجر، فأضيف إليهن، وعلى نحو ما أضيف أهل القرى إلى القرى بالتسمية، فأخرجت على تسمية القرى، وإذا كان المراد أهل ذلك في حق تسمية الأهل التذكير والقرية التأنيث، فكأنه جعل للمأمورين بالإمساك سبيلا في أن يقيموا الحد، ويزول عنهم مؤنة الإمساك والقيام بالكفاية. والثالث: أن يكون في طول الحبس ضجر وضيق، وحيلولة بين المحبوس والشهوات كلها، وقطع ما بينه وبين الأحباب، وتحمل مثله بمرة أيسر على النفس وأهون من دوام الذل والقهر، ثم لا مخلص عن ذلك إلا بما في الأول يكون ثمرة؛ فلذلك سمي - واللَّه أعلم - ذلك سبيلاً لهن. ثم دل الخبر الذي ذكرت على أمرين: أحدهما: أن الحبس -وإن كان مذكورًا في النساء خاصة- فهو في جميع الزناة؛ لأنه قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني، قَدْ جَعَلَ اللُّه لَهُن سَبِيلًا " ثم ذكر ما به جعل لهن السبيل، في الذكور والإناث، في المحصنين وغيرهم جميعًا؛ ليعلم أن الحكم يجمع الكل وإن كان الذكْرُ فيهن، وذلك كما ذكر حد المماليك في الإماء، وحد الزناة في قذف المحصنات، والحكم يجمع الذكر والأنثى من حيث اتفاق المعنى الذي له جعل، فمثله فيما نحن فيه. والثاني: بيان نسخ المذكور من الحكم في الكتاب بالسنة، وذلك لوجهين: أحدهما: أنه لم يوجد على الترتيب الذي ذكر في القرآن مع ما ذكر تخلية السبيل، وليس بمذكور في شيء من القرآن؛ ثبت أن ذلك كان بوحي غير القرآن. والثاني: أنه - عليه السلام - قال: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني " ثم أخبر عن جعل اللَّه لهن السبيل؛ فدل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني " أنه بيان اللَّه، وهكذا معنى النسخ

أن بيان جعل اللَّه مدة حكم الأول بما يحدث فيه الحكم، وليس قول من يقول في هذا في القرآن وعد بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) - معنى؛ لأن كل شيء في حكم اللَّه أنه ينسخه، فالوعد في حكمه قائم، إلا أن يقول قائل: لا يصدق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ببيان وعد الحكم، وإنما يصدق ببيان وعد الشرط؛ فيحتاج أن يحدث منه إيمانًا، واللَّه الموفق، مع ما إذا جاز أن يعد النسخ المذكور في القرآن حقيقة، لا فيه يجوز أن ينسخ المذكور حقيقته لا فيه. وبعد، فإن من يقول هذا بعثه عليه جهله بمعنى النسخ: أنه البيان عن منتهى حكم المذكور من الوقت، ولا ريب أن لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بيان منتهى الحكم من النوع، فمثله الوقت. ثم إذا كان هذا أول عقوبة في الإسلام؛ فثبت به نسخ الحكم بالتوراة والعمل إذا كان فيها الرجم، وقد ذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما رجم بحكم التوراة، وقال: " أَنا أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّة أَمَاتُوهَا ". وإذا ثبت أن ذلك حكم التوراة ثم ثبت نسخ حكمه، فلا يقام عليهم الرجم إلا بعد البيان مع ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهَ فَلَيسَ بِمُحْصَنٍ "، وأنه أخبر بالرجم في القرآن للمحصن. وقال قوم: عقوبة الحبس في الإناث خاصة، وأما في الذكور ففيهم الأذى باللسان والتعزير بقوله - تعالى -: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا. . .) الآية، وهذا

قريب من حيث كانت النساء مكانهن البيوت، وأمكن حفظهن عن الزنا، وتسليمهن إلى الأزواج مرة والمحارم ثانيًا، والرجال إذا حبسوا تحولت مؤنهم إلى غيرهم، فتكون عقوبة فعلهم تلزم غيرهم، والراحة تكون لهم، وأمَّا النساء فمؤنهن في الأصل على غيرهنَّ، فليس في حبسهن زيادة على غيرهن، فذلك عقوبة لهن مع ما كان الرجال بحيث يمكن تعييرهم، وذلك أبلغ ما يزجر العقلاء، وقد يحتمل أن يكون ذلك في الرجال خاصة؛ إذ لا يذكر في عمل قوم لوط العقوبة، وقد علم اللَّه - سبحانه وتعالى - حاجة الناس إلى معرفة عقوبة ذلك؛ إذ قد جعل اللَّه - تعالى - في إتيان النساء حقوقا وحرمات وأحكامًا ليست في إتيان الذكور، عرف الخلائق تلك؛ فلم يحتمل أن يترك ذكر عقوبة للذكور في الزنا بعد أن فرق أحكام الأمرين؛ فيشبه أن تكون الآية على ذلك؛ وأيد ذلك عَزَّ وَجَلَّ أنه - سبحانه وتعالى - قال: (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) ولم يذكر في ذلك جعل السبيل، وقد ذكر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك في كل أقسام الزنا، ثبت أن ذلك فيما ذكر، فتكون عقوبة الأولى في ذلك أخف من الحد، فكذلك عقوبة الثانية مع ما يكون فيما يؤذيان بتفريق، وهو تعزير، وذلك هو الباقي أبدًا إذا لم يظهر معنى النسخ، وأيد الذي ذكرت استواء الذكور والإناث في جميع عقوبات الزنا في قديم الدهر وحديثه من حدود المماليك والأحرار، والثيبات والأبكار، فعلى ذلك أمر تأويل الآية. والنفي المذكور في الخبر يحتمل وجوهًا: أحدها: ما ذهب إليه الخصوم من جعله عقوبة، وأنه النفي من البلد، لكن الحدود إذا جعلت كفارات قد جعلن زواجر، وفي الزنا بخاصة إذا أمر فيه بالحبس أريد قطع السبيل إليه، وفي الإشخاص والإخراج من البلدان تمكين، وذلك بعيد، واللَّه أعلم. فعلى ذلك لو كان عقوبة فهو على الحبس، فينتفي عن وجوه الاجتماع على ما كان من قبل، فينتفي ذلك العذر منه؛ لظهور خشوع التوبة. وقد يحتمل أن يراد بالنفي قطع الذكر ورفع المسبَّة، فينفى؛ لينسى ذلك؛ فلا يعير بذلك، وكذلك في الإماء ولا في الكفر؛ إذ ما فيهم من الذل أعظم مع ما لا يجب بسبِّ من ذكرت حد؛ ليعلم عظيم موقع ذلك في الأحرار، ولو كان على العقوبة فهو منسوخ بما

(17)

جرت السنة في الإماء بحدهن من غير ذكر الحبس، وقد قال اللَّه سبحانه وتعالى: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، والمذكور في الثيب يحتمل: يجلد في حال ويرجم في حال؛ إذ لا كل ثيب يجلد، وإن كان ثم نسخ بما ذكر من خبر ماعز وغيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآذُوهُمَا) قيل: فآذوهما، بالحد. وقيل: فآذوهما بالتعيير (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا) كُفوا عن ذلك. وقيل: سبوهما، لكن ذا قبيح، والتعيير أقرب. * * * قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) يحتمل قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ) كذا؛ أي: توفيق التوبة وهدايته على اللَّه - سبحانه وتعالى - إذا كانت نفسه ترغب فيها، وتميل إليها على اللَّه أن يوفقه على ذلك؛ إذا علم اللَّه منه أنه يتوب. ويحتمل قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) سبحانه وتعالى أي: قبول التوبة على اللَّه - تعالى - إذا تاب ورجع عما كان فيه وارتكبه. وفي قوله -أيضًا-: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) لمن ذكر، يحتمل قبولها بمعنى أن الذي

لا يُسَوِّفُ التوبة ولا ينتظر بها وقت المنع عن ركوب ما عنه يتوب والإياس من إمكان العود إلى ما عنه يتوب، فاللَّه يقبلها إذا كان ذلك دأبه وعادته. وإن بلغ هو ذلك الضيق بأمر دفع إليه، أو كان يتوب من قريب من الذنب بألا يستخف به؛ فيترك الرجوع؛ لقلة مبالاته به، فلا يقبلها ممن هذا وصف توبته، وحال استخفافه بالذنب. والثاني: أن يكون توفيق التوبة والهداية إليه ممن يفزعه ذنبه ويبعثه على الرجوع إلى اللَّه، والتعرض لرحمته وإحسانه، ولا يوفق من لا يبالي بالذي يذكر ولا يتضرع إليه. وقيل: الأول في الصغائر، والثاني في الكبائر، والثالث في الكفر: بأن صاحب الصغيرة أرق قلبًا وأخص ذكرًا له ورجوعًا إلى ربه، وصاحب الكبيرة أقسى قلبًا من الأول وأظلم، فهو لا يندم إلا بعد شدة، وبعد طول المحنة وضيق القلب، فليس على اللَّه قبول توبة من يتوب في تلك الحال، ولا توبة من بأن منه ما يأمله بالذي عليه قبول ذلك، ولكن بفضله وبرحمته يقبل ويوفق له بما كان منه من الخيرات والحسنات التي هُن أسباب التقريب إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - والكافر لا يقبلها؛ إذ هو لا يتوب حتى يموت؛ فيستيقن بالعذاب، واللَّه أعلم. ويحتمل أن تكون هذه الأجرة في الكفار؛ فيكون فيهم من يظهر التوبة عند الضرورة والدفع إلى الحال التي يزول عنه وسع الإمكان، ويأنس من الإمهال؛ ليصل إلى ما كان له يذنب، فاللَّه لا يقبل توبته؛ إذ ليست في الحقيقة تَوْبَةُ مَمكَّنٍ، بل توبة مضطر، وتوبة دفع ما حل به، إذ هو وقت يشغل عن الاستدلال، وعن الوقوف على الأسباب من جهة التأمُّل والنظر، ولا يرى غير الذي أقبل عليه يظن أن له الخلاص بالذي يبدّل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)

(18)

هذا -أيضًا- يحتمل وجهين: يحتمل جهل الفعل؛ فيقع فيه من غير قصد. ويحتمل: قصد الفعل، والجهل بموقع الفعل. والعمل بجهالة يخرَّج على وجوه: يكون عن غلبة: تغلب عليه شهوته؛ فيعمل ذلك العمل على طمع منه أنه سيتوب من بعد، ويصير رجلاً صالحًا؛ على ما فعل إخوة يوسف، حيث قالوا: (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) ثم سماهم جهلة بذلك في آية أخرى، حيث قال لهم: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ). ويحتمل العمل بالجهالة: هو أن يعمل على طمع المغفرة، ويتكل على رحمة اللَّه وكرمه. ويحتمل العمل بالجهالة: جهالة عقوبة عمله على ذلك. وكذلك الخطأ والنسيان على وجهين: خطأ الفعل: وهو الذي ليس بصواب ولا رشد. وخطأ القصد عمد الفعل: وهو الذي قصد أحدًا فأصاب غيره. والنسيان على وجهين -أيضًا-: نسيان ترك: وهو الذي يجوز أن يضاف إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - بحال؛ كذلك الجهالة، واللَّه أعلم. والأصل في الشيء المنسي أنه متروك، فسمي المتروك من الرحمة والكرامة منسيًّا؛ فتجوز الإضافة إلى اللَّه - تعالى - من هذا الوجه. وقيل: نزل قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ. . .) الآية - في المؤمنين. وقوله: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ... (18) إلى آخر الآية، في

الكافرين. وقيل: إنهما جميعًا في المؤمنين، والثالثة في الكفار. وقيل: إن الأولى في المؤمنين، والثانية في المنافقين، والثالثة: في الكفار. وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن اللَّه - تعالى - يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. ورُوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ تَابَ قَبلَ أَنْ تُغَرغِرَ نَفْسُهُ وُيعَايِنَ المَلَائِكَةَ قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَهُ ". والأصل في هذا أن توبة الكافر تقبل إذا كان توبته توبة اختيار، وأمَّا إذا كانت توبته توبة اضطرار ودفع فإنها لا تقبل أبدًا؛ كقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) إذا كان إيمانه إيمان دفع واضطرار عند معاينة العذاب فإنه لا يقبل أبدًا، وهو -أيضًا- كإيمان فرعون، حيث قال: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ. . .) الآية، لم يقبل إيمانه؛ لأنه إيمان دفع واضطرار؛ فعلى ذلك كل إيمان كان إيمان دفع واضطرار فإنه لا يقبل أبدًا، وكقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ). وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ. . .) توبة تشريط، فلم تقبل؛ لأنه لم يقطع القول فيه قطعا. وقيل: في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا

(19)

حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) هم الذين يتوبون عند معاينتهم الموت؛ أخبر أنه لا يقبل توبتهم؛ لأنهم يتوبون توبة دفع واضطرار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) لا تقبل توبتهم، لأنهم يتوبون في الآخرة؛ دفع العذاب عن أنفسهم؛ كقوله تعالى: (مَآ أَشْرَكْنَا)، و (مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ). * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: كان يجوز لهم أن يرثوا النساء طوعًا؛ لأنه إنما نهي أن يرثوهن كرهًا، فكان فيه دليل جواز وراثتهن طوعًا. وأما عندنا: فإنه ليس فيه دليل جواز وراثتهن طوعًا، وإن كان النهي إنما كان في حال الكره؛ لأن الأصل عندنا: أن ليس في حظر الحكم في حال دليل إباحته في حال أخرى، ولا في إباحته في حال دليل حظره في حالة أخرى، ولا في حله في حال دليل حرمته في حال أخرى، ولا في حرمته في حال دليل حله في حال أخرى، دليل ذلك قوله - تعالى -: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ)، ليس على أن لهم أن يقتلوا إذا لم يخشوا الإملاق، وقوله: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، ليس فيه أنه لا يحل له؛ إذا لم يؤت أجورهن، وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً). والقصة في الآية ما قيل: إن الرجل إذا مات وترك امرأة، كان أولياؤه أحق بامرأته من ولي نفسها: إن شاءوا تزوجوها وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يتزوجوها؛ فنزلت الآية في ذلك. وقيل -أيضًا-: كانوا في أول الإسلام إذا مات الرجل أقبل أقرب الناس منه فيلقي على امرأته ثوبًا فيحدث نكاحها طوعًا وكرهًا؛ فنزلت الآية في ذلك.

والآية عندنا خرجت مخرج بيان التحريم على ما كانوا يفعلون؛ دليل ذلك قوله - تعالى -: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) نهي الأبناء أن ينكحوا ما نكح آباؤهم من النساء؛ فدل أن النهي كان في الحالين جميعًا: في حال الكره والرضا، واللَّه أعلم. وفي قوله: (لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا. . .) الآية، تحتمل حرمة وراثتهن أبدًا، وأن ذكره " كرهًا " لأوجه: أحدها: أن ليس في ذكر الحرمة في وجه أو ذكر الحكم في حال دلالة تخصيص الحال؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ)، وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -. (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، أنهن يحللن وإن لم يؤتين أجورهن، وإذا لم يصر ذلك شرطا صار كأنه قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا)، واللَّه أعلم. والثاني: أن تكون الوراثة أبدًا تكون كرهًا ويجب الميراث سواء من فيه وله أولاد إذا كان وجه الوراثة، فذكره ذلك وغير ذلك سواء. والثالث: أنهم كانوا يتوارثون النكاح، وهو أمر لا يحتمل الانقسام، ولا عند الاشتراك بالاستمتاع، فكان ذلك على تراض منهم لواحد. أو أن، يكون فيما كانت الوراثة ترجع إلى واحد؛ فيكون ذلك له بحق النكاح لا الميراث، فإذا حرم النكاح في حق من يرث من الذكور -وهم الآباء والأبناء- فبطل الميراث لو كان يجوز أن يورث. ثم دلت هذه الآية في قطع وراثة منافع الأبضاع، وملك الأبضاع أدوم من ملك الإجارات؛ فيجب أن يكون قطع الإجارات أولى. ودليل آخر على بطلان الوراثة: أن المرأة قد ترث الميراث؛ فتكون وراثة بعض نفسها، فبطل من حيث يراد إثباته. وقوله: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) اختلف فيه. قَالَ بَعْضُهُمْ: هو معطوف على ما تقدم، وهو ما ذكرنا من الوراثة، نهى أن

يعضلوهن؛ ليُذْهِبُوا ما آتوهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة؛ قيل: لم يكن يومئذ عقوبة؛ إذا أتت المرأة بفاحشة سوى أخذ المهور منها، وكانوا يمسكونها على الوراثة، فإذا أتت بفاحشة أخذ ما آتاها، ثم يسرحها. فَإِنْ قِيلَ: إنما نهاها عن الوراثة؛ لأن الولي إذا ورثها ورثت هي نفسها؛ فيبطل بذلك، فالنهي لذلك. قيل: لو كان لذلك فالمرأة إذا كانت ممن لا ترث عن الزوج مملوكة يجيء أن يحل ذلك؛ إذ لا وراثة ثَمَّ، فإذا لم يجز دل أنها خرجت على بيان التحريم، واللَّه أعلم. وقيل: في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) على الابتداء، ليست على الأول، نهي الزوج أن يأخذ منها ما آتاها من المهر إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. ثم اختلف في قوله - تعالى -: الفاحشة. قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الزنا، وهو ما ذكرنا. وقال آخرون: الفاحشة - هاهنا - هو النشوز، أي: إذا نشزت فلا بأس أن يأخذ منها ما آتاها. وقيل: هو ما ذكره - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)، لا تأخذوا منه شيئًا: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)، نهى الأزواج أن يأخذوا منهن شيئًا إلا عندما يخافا ألا يقيما حدود اللَّه، فحينئذ أباح أخذ ما افتدت به، فعلى ذلك قوله: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)، وهو ما ذكرنا من النشوز وخوف ترك إقامة حدود اللَّه؛ فعند ذلك أباح له أخذ ما آتاها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) اختلف فيه: قيل: هو كقوله - تعالى -: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)

وكقوله - تعالى -: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ). وقيل: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ): في كلامها، وبرها، والإنفاق عليها، والإحسان إليها والاجتناب عما لا يليق بها من الشتم والإيذاء، وغير ذلك. (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) يحتمل: بالفضل، ويحتمل: كما لو فعل بك مثل ذلك لم تنكره، بل تعرفه وتقبله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ) قيل فيه بوجهين: قيل: كرهتم صحبتهن من قبحهن ودميمتهن، أو سوء خلقهن، فصبرتم على ذلك (وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) قيل: يهب لكم منهن أولادًا تقر بهم أعينكم، أو يعطي لكم في الآخرة ثوابًا جزيلاً بصحبتكم إياهن. وقيل في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ) أي: كرهتم فراقهن، ويجعل الله

(20)

في الفراق خيرا كثيرًا؛ كقوله - تعالى -: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ). * * * قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) والقنطار: قيل: مائة رطل. وقيل في حرف ابن مسعود: " قنطارا من الذهب ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن كرهت امرأتك أو أعجبتك غيرها؛ فطلقت هذه وتزوجت تلك، فأعط هذه مهرها وإن كان قنطارًا. والقنطار: اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار. وقيل: القنطار ألف ومائتا دينار، فهذا على التمثيل، ليس على التقدير، ووجه النهي والوعيد في ذلك - واللَّه أعلم - ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إِنَّ النسَاءَ عِنْدَكُم عَوَان، اتخَذْتُمُوهُنَّ بِأمَانَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُن بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى " فوعد - عَزَّ وَجَلَّ - الأزواج في غير آي من القرآن عن أخذ مهور النساء وغيرها من الأموال؛ لضعفهن في أنفسهن، والرجال هم القوامون عليهن؛ لئلا يبسط الأزواج في أموالهن؛ إشفاقًا عليهن، أو لما إذا أخذ منها مهرها تبقى تلك المنفعة بلا بدل، وذلك زنا؛ وعلى هذا يجيء ألا يجوز له أن يخلطها؛ لأنه إذا أخذ منها مهرها بقيت له المنفعة بلا بدل، لكنه أجيز له ذلك؛ لأنه تقلب في الملك، وكل من تقلب في ملكه ببدل يأخذه جاز له ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا)

(21)

قيل: ظلمًا بغير حق. وقيل: إذا أراد طلاقها لا يضارها بكذب لتفتدي منه مهرها. (وَإِثْمًا مُبِينًا): ويحتمل أن يكون البهتان والإثم واحدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ ... (21) وقيل: الإفضاء: هو الجماع. والأشبه أن يكون الإفضاء: الاجتماع؛ لأنه أضاف إليهما جميعًا، فهو بالاجتماع أشبه وإليه أقرب؛ فيجب المهر بالاجتماع والخلوة بها، والجماع فعل الزوج، يضاف إليه خاصة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) قيل: عقدة النكاح. وقيل: هو ما ذكرنا في قوله - تعالى -: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). وقيل: الميثاق الغليظ ما ذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُم إِنَّمَا اتخَذْتُمُوهُن بأمَانَةِ اللَّه، وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُن بِكَلمِة اللَّه، وإنَهُنَّ عِنْدَكُم عَوَان لَا يَمْلِكْنَ مِنْ أَمْرِهِنَّ شَيئًا ". وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يَآ أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لَكُم عَلَى نِسَائِكُم حَقا، وإنَّ لَهُنَّ عَلَيكُم حَقًّا، وإنَّ مِنْ حِقكُمْ عَلَيهِنَّ أَلا يُوطِئنَ فُرُشَكُم، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأحَدٍ تَكْرَهُونَهُ، وَلَا يَأْتِينَ

(22)

بِفَاحِشَةٍ مبُيَنةٍ، فَإِنْ هُن فَعَلْنَ ذَلِكَ فَقَدْ أَحَلَّ اللهُ لَكُم أَنْ تَضْرِبُوهُن ضَربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ - يعني: غير شائن - وَإِنَّ مِنْ حَقهِن عَلَيكُمُ الكُسوَةَ والنَّفَقَةَ بِالْمَعْرُوفِ ". وقيل: إن رجلا سأل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ماذا يحل لنا من نسائنا؟ وما يحرم علينا منهن؟ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حَرْثُكَ، فَأْتِهِ أنى شِئْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الوَجْهَ، وَلَا تُقَبحْهُ، وَلَا تَهْجُرهَا إِلا فِي بَيتِهَا، وَأَطْعِمْهَا إِذَا أَكَلْتَ، وَاكْسُهَا إِذَا اكْتَسَيتَ ". وقيل: الميثاق الغليظ: ما أقروا به من قول اللَّه: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ (22) حرم - اللَّه تعالى - على الأبناء نكاح نساء الآباء، وذلك أنهم كانوا يعملون في الجاهلية ما قيل في القصة: أن أبا قيس توفي فعمد ابنه - يقال له: محصن - فتزوج امرأة أبيه، فنهى اللَّه - تعالى - عن ذلك، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ). وقيل: إن رجلًا من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خرج سالاًّ سيفه؛ فقيل له: ما شأنك؟ فقال: إن رجلاً تزوج بامرأة أبيه، فهذا إذا تزوجها مستحِلًّا لها، فهو يكفر لذلك: كأن قصد قتله؛ وكذلك حرم اللَّه - سبحانه وتعالى - على الآباء نكاح نساء الأبناء بقوله - تعالى -: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا): أي: إنكم إذا انتهيتم عن ذلك في الائتناف يغفر لكم ما قد سلف، وإن كان فاحشة

(23)

وقيل: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) قبل: التحريم. (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) أي: صار فاحشة في الإسلام: (وَمَقْتًا) قيل: بغضًا. (وَسَاءَ سَبِيلًا) أي: بئس المسلك تزوج نساء الآباء. ويحتمل أن تكون الآية في الطلاق؛ إذ كان الرجل يطلق امرأته ثم يندم على طلاقها، فيتزوجها ابنه، فيمقت ذلك الأب ويبغض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَاءَ سَبِيلًا): أي: بئس السبيل نكاح امرأة أبيه، حيث مقت أبيه وبئس مقت أبيه المسلك. * * * قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ) إلى آخره، يحتمل وجهين: يحتمل: أي: حرم عليكم الاستمتاع بأمهاتكم وبناتكم وأخواتكم. . . وما ذكر، والجماع بهن. ويحتمل: حرمة النكاح، أي: حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم، فإن كان هذا أراد، فلا يحرم النكاح لنفس النكاح، ولكن يحرم النكاح؛ لما به يوصل إلى الاستمتاع بالنساء، وإليه يقصد؛ فدل أنه يحرم الجمع بين الأختين في الاستمتاع في ملك اليمين، ولا يحرم الجمع بينهما في العقد. ثم ذكر الحرمة في الأمهات والبنات والأخوات، ولم يذكر في الجدات فهُنَّ محرمات وإن علون، ولم يذكر في بنات البنات، فهُنَّ محرمات وإن سفلن.

فعندنا: أن ذكر الحرمة في الأمهات والبنات ذكر في الجدات وإن علون، وفي بنات البنات وإن سفلن؛ لأنه ذكر الحرمة في العمات والخالات، والعمات من ولد الجد، والخالات من ولد الجدات، فإنما ذكرت في الأولاد الحرمة، ثبت حرمة الجدات والأجداد، وكذلك ذكر الحرمة في الأخوات وبنات الأخوات، فالحرمة في بنات الأخ والأخوات لحرمة في الأخوات والإخوة، فعلى ذلك ذكر في الأمهات ذكر الحرمة في البنات وبنات البنات، لما ذكرنا. أو أن يقال: إن بنات البنات بنات وإن سفلن، فدخلن في ذكر الحرمة نصًّا، وكذلك أم الأم أم، وإن علت، فدخلت في الخطاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) ذكر الأمهات من الرضاعة والأخوات، ولم يذكر البنات، قال بشر: إنما لم يذكر البنات من الرضاعة؛ لأنه لا يمكن من الرضاعة البنات؛ لذلك لم يذكر، وذلك اختلاف بيننا وبينه في لبن الفحل، فعندنا لبن الفحل محرم، وعند بشر لا يحرم لبن الفحل، ذكر اللَّه - سبحانه وتعالى - الحرمة في النسب بيننا وبَيّنَ بيان إحاطة وحقيقة، وذكر الحرمة في الرضاع، وبين بيان كفاية لا بيان إحاطة؛ فإما أن تركه للاجتهاد والاستنباط من المذكور، وقد أجمعوا جميعًا أن بنات الإخوة والأخوات من الرضاع كالذكر في أولادها؛ فعلى ذلك يجب أن يكون ذكر الحرمة في الأمهات من الرضاعة ذكرًا في بناتها، أو ترك بيان ذلك للسنة: روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يَحْرُمُ مِنَ الرضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ "، وما روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: جاء عمِّي من الرضاعة، فاستأذن عليَّ، فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فجاء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسألته عن ذلك؟ فقال: " إنَه عَمُّكِ، فَأذَني لَهُ " فقلت: يا رسول اللَّه، إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل؟! فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنهُ عَمُّكِ، فَلْيلِجْ عَلَيكِ " فقالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: وذلك بعد أن ضرب علينا الحجاب.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - سئل عن رجل له امرأتان، أو جارية وامرأة، فأرضعت هذه جارية وهذه غلامًا، هل يصلح للغلام أن يتزوج الجارية؟ فقال: لا؛ اللقاح واحد. وعن عمرة، عن عائشة - رضي اللَّه عنها -: أنها أخبرتها أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان عندها، وأنها سمعت رجلا يستأذن في بيت حفصة - رضي اللَّه عنها - قالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: فقلت: يا رسول اللَّه، هذا رجل يستأذن في بيتك، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أُرَاهُ فُلَانًا " - لعم حفصة من الرضاعة - فقالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: يا رسول اللَّه، لو كان فلان حيا - لعمها من الرضاعة - دخل عليَّ؟ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " نَعَم؛ إِنَّ الرضَاعَةَ تُحَرمُ مَا تُحَرمُ الوِلَادَةُ ". وعن علي - رضي اللَّه عنه - قال: لا تنكح من أرضعته امرأة أبيك، ولا امرأة أخيك، ولا امرأة ابنك. وعن عائشة - رضي اللَّه عنها -: أن أفلح أخا أبي القعيس جاء فاستأذن عليها -وهو عمها من الرضاعة- بعد أن نزل الحجاب، قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبرته بالذي صنعت، فأمرني بأن آذن له عليَّ. وحجة أخرى من النظر: بأن اللَّه - تعالى - حرم الابنة على أبيها، وعلى جدها، والابنة حدثت عن ماء الأب بعينه، ولم تحدث عن ماء الجد، ولكن الجد سبب ماء الأب الذي حدثت عنه الابنة، قال: فاللبن -وإن كان حدوثه من الأم- فإن سبب كونه هو الأب؛ فيجب أن تحرم المرأة التي أرضعتها امرأته عليه؛ إذا كان سببًا لذلك اللبن، كما يحرم المرضع إذا كان سببًا على التي أرضعته. ثم بقيت مسألتان: إحداهما: في التقدير، والأخرى في الحد.

أما في التقدير: فعموم قوله - تعالى -: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) لم يخص قدرًا دون قدر. وروي عن عليٍّ وعبد اللَّه قالا: قليل الرضاع وكثيره سواء. وعن ابن عَبَّاسٍ كذلك. وعن عبد اللَّه بن عمر قال: الرضعة الواحدة تحرم. فَإِنْ قِيلَ: رُويَ عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: كان فيما نزل عشر رضعات، ثم صرن إلى خمسٍ، فتوفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو فيما يقرأ. فَإِنْ قِيلَ: لسنا نجد في القرآن آية الناسخ ولا آية المنسوخ، ولا يجوز أن يقال من القرآن شيء؛ فلا نترك ما نجده ثابتًا في القرآن، محفوظًا برواية لعلها قد غلطت فيها. ورُويَ عنها أنها قالت: يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم والدم. وروي عنها -أيضًا-، أنها قالت: لا تحرم المصَّة والمصَّتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان: فذكر ذلك لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: حكم اللَّه أولى وخير، أو كلام نحو هذا من حكمها. وعن عمرو بن دينار قال: سألت ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - فذكر شيئًا من الرضاع، فقال: لا نعلم إلا أن اللَّه - تعالى - حرم الأختين من الرضاعة، قال: فقلت: إن أمير المؤمنين ابن الزبير يقول: لا تحرم المصَّة والمصَّتان قال: فقضاء اللَّه خير من

قضائك وقضاء أمير المؤمنين. مع ما يحتمل قوله: لا تحرم المصة والمصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان؛ لما لم يتحقق بالمصة والمصتين أن اللبن قد صار في جوف الصبي ووصل إليه؛ فلذلك لم يحرم به. وأما المسألة في الحد: أن الرضاع في الكبر لا يحرم عندنا، وما روي في خبر عائشة - رضي اللَّه عنها - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها، فرأى عندها رجلا، فتغير وجه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " مَنْ هَذَا؟ " قالت: إنه عمي من الرضاعة، فقال: " انْظُري مَا الرضَاعَةُ؟ إِنما الرضَاعَةُ مَنْ المَجَاعَةِ ". وما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الرضَاعُ مَا أنْبتَ اللحْمَ، وَأَنْشَز العَظْمَ "، وما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الرضَاعُ مَا فَتَّقَ الأَمْعَاءَ " وفتق الأمعاء، إنما يكون في الصغر؛ لأن أمعاء الصبي تكون ضيفة لا تحتمل الطعام لضيقها، وأما فتقها باللبن على ما وصفه - عَزَّ وَجَلَّ - لبنا خالصا سائغا للشاربين، فإذا كان غذاؤه إنما يكون باللبن -للمعنى الذي وصفنا- كانت كفاية مجاعته به، وكان هذا معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنما الرضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ " وكذلك ما روي: " الرضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللحْمَ وَأَنْشَزَ العَظْمَ " وفي الكبر لا ينبت اللحم، ولا ينشز العظم. وروى زاذان عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

يقول: " الجَزعَةُ تُحَرِّمُ كَمَا يُحَرِّمُ حَولَانِ كَامِلَانِ " فإن ثبت هذا فهو الأصل في ذلك، والمعتمد عليه، فإن عورض بما في خبر سالم، حيث قال لها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " أَرْضِعِي سَالِمًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ تَحْرُمِي عَلَيهِ " قيل: هذا يحتمل وجهين: يحتمل: أن يكون ذلك لسالم خاصة دون غيره من الناس، فإذا كان كذلك لا يقاس عليه غيره. ويحتمل: أن يكون منسوخًا بما روينا من الأخبار المرفوعة والموقوفة بإيجاب الحرمة بالقليل منه والكثير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ. . .) الآية. اجتمع أهل العلم في " الربيبة " على أنها لا تحرم على الرجل الذي كان تزوج أمها وطلقها قبل الدخول بها أو ماتت، وإنَّمَا تحرم عليه إذا دخل بها. واختلف في أم المرأة إذا لم يدخل بالابنة حتى بانت منه: قال أصحابنا - رحمهم اللَّه -: هي حرام عليه، كان دخل بالأم أو لم يدخل بها. وقال آخرون: شرط الدخول في آخر القصة راجع إلى الربيبة والأم جميعًا، فما لم يدخل بواحدة منهما حل له أن يتزوج بالأخرى إذا فارقها، وهو القياس الظاهر في الكتاب في أمر الشرط والثنيا أن يكون الشرط فيهما جميعًا؛ لأنه قال - تعالى -: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) ذكر أمهات النساء وربائب النساء، ثم شرط الدخول بهن، فيجب أن يكون الشرط لاحقًا بهما جميعًا.

وكذلك روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: هي بمنزلة الربيبة. وعن جابر قال: ينكح أمها إن شاء. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أفتى في امرأة تزوجها رجل فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت، قال: لا بأس أن يتزوج أمَّها، فلما أتى المدينة رجع، فأتاهم فنهاهم عن ذلك، فقيل: إنها ولدت أولادًا، فقال: ولو ولدت. إلى هذا يذهبون أُولَئِكَ، وهو الظاهر من الآية. واحتج بعض أصحابنا في ذلك أن الثنيا الملحق في آخر الكلام ربما يلحق الكل، على ما تقدم من الكلام، وربما يقع على ما يليه، فلما كان غير ملحق على الكل من المذكور، وقع على ما يليه. فَإِنْ قِيلَ: يلحق على ما تقدم من الذكر ما يحتمل ليس على ما يحتمل؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - قال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. . .) إلى قوله: (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ)، لم يلحق الكل، ولا وقع على ما يليه خاصة، ولكنه لحق على ما احتمل عليه، فعلى ذلك في هذا لم يلحق الكل؛ لأنه لا يحتمل، ووقع على الأم والرّبيبة؛ لأنه يحتمل. واحتج أصحابنا - رحمهم اللَّه أيضًا - أن الحرمة قد تثبت بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ. . .) إلى قوله - تعالى -: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) فلا تستحل بالشك، وفي الربيبة لم تثبت إلا بالشرط؛ فلا تحرم بالشك. وقيل -أيضًا-: إن الدخول لو كان شرطًا في الأم والربيبة جميعًا لاكتفي بذكر نساء

الأمهات والربائب، فنقول: أمهات نسائكم من ربائبكم اللاتي دخلتم بهن، ولم يَحْتَجْ إلى أن يذكر (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) على ما اكتفى بذكر الحرمة في الأنساب والرضاع في الأصول عن الشعوب، فلما لم يكتف بذلك، دل أن الربائب مخصوصات بالشرط دون الأمهات، ومما يبين ذلك أن الربيبة لو لم تذكر لم يجز أن يبقى من الكلام: وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن ولو لم يذكر الأمهات، فبقي من الكلام: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) - كان كلامًا تامًّا؛ فدل ذلك على أن قوله - تعالى -: (مِنْ نِسَائِكُمُ) وإنما هو في الربائب دون الأمهات. وأصله: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَيما رَجُلٍ تَزَوجَ امْرَأَة فَطَلقَهَا قَبلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَاتَتْ عِنْدَهُ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوجَ ابْنَتَهَا. وَأَيمَا رَجُلٍ تَزَوجَ امْرَأَةً فَطَلقَهَا قَبلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَاتَتْ عِنْدَهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوجَ أُمَّهَا ". وعن ابن عَبَّاسٍ وعمران بن حصين في " أمهات نسائكم "، قالا: هي مبهمة. وقال أكثر أهل العلم: إذا تزوج الرجل امرأة ودخل بها، لم يجز له أن يتزوج ابنتها، وإن لم تكن ربيبة وفي بيته وحجره، وهي في ذلك بمنزلتها لو كانت في حجره يربيها. وأجمعوا جميعًا: أن الجمع بين المرأة وأمها وابنتها في الجماع في ملك اليمين حرام. وكذلك رُويَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن ذلك؟ فقال: ما أحب ذلك. فإن قال قائل: إن الخطاب - كما ذكرت - يدل على أن الشرط في الدخول بالأمهات إنما هو بسبب الربائب، فما تنكر أن يكون حكم الأمهات حكم الربائب كما كان حكم

حلائل الأبناء حكم نساء الآباء؟ قيل: لا يجوز أن يقاس المنصوصات بعضها على بعض، وإنما يقاس ما لا نص فيه على المنصوص؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. ثم يجب أن ننظر أي حكمة أوجبت تحريم الجمع بين المحارم بين محارم الرجال ومحارم النساء؟ وروي عن أنس قال: إن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا يكرهون الجمع بين القرائب في النكاح، وقالوا: لأنه يورث الضغائن، أو كلام نحو هذا؛ فقيل له: يا أبا حمزة، من منهم؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان، رضي اللَّه عنهم. وروي مرفوعًا أنه قال: لا ينكح كذا على كذا، ولا كذا على كذا، فإنهن يتقاطعن. ونراه قال: " لَا تُنْكَحُ المَرأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا ". وروي في بعضها أنه يوجب القطيعة. وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كره الجمع بين ابنتي عم، وقال: لا أحرم، ولكن أكره؛ لأنه يوجب القطيعة. فلم يحرم؛ لأن صلة القرابة فيما بينهما ليست بمفترضة، والصلة بين المحارم مفترضة، فإذا كانت مفترضة فالجمع بينهما يحمل على القطيعة؛ فحرم، وعلى ذلك في نساء الآباء وحلائل الأبناء إذا فارق واحد من هَؤُلَاءِ امرأته فلعله يندم على ذلك؛ فيريد العود إليها، فإذا تزوجها أبوه أو ابنه، أورث ذلك فيما بينهما الضغائن والقطيعة؛ لذلك حرم، واللَّه أعلم. وكذلك هذا المعنى في الابنة، إذا طلقها ثم تزوج بأمها، حملها ذلك على الضغينة فيما بينهما. وأمَّا إذا تزوج الأم، ثم فارقها قبل أن يدخل بها، حل له أن يتزوج بابنتها؛ لأن الأم تُؤْثر ابنتها على نفسها في المتعارف؛ فلا يحمل ذلك على القطيعة، والابنة لا تؤثر أمها على نفسها، بل تؤثر نفسها على أمها، كذلك كان ما ذكر. وأمَّا إذا دخل بالأم لم يحل له أن ينكح بالابنة؛ لأنه يذكر استمتاع هذه في استمتاع

هذه؛ فيكون جامعًا بينهما في الاستمتاع؛ لذلك حرم. ثم اختلف في الجماع والدخول بها إذا كان من غير رشد؛ قال أصحابنا - رحمهم اللَّه - يحرم كما يحرم الحلال، ويمنع نكاح الربيبة كما يمنع الحلال. وقال قوم: لا يحرم، ولا يمنع نكاح الربيبة، واستدلوا في ذلك بقول اللَّه - تعالى -: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ) لأن اللَّه - تعالى - حرم ربائب النساء إذا دخل بالأمهات، والمزني بها ليست بزوجة للزاني؛ فلا تحرم ابنتها، لكنه لا حجة لهم في ذلك؛ وذلك أن اللَّه - تعالى - ذكر الدخول بهن، ولم يذكر النكاح، ولا خص الدخول في النكاح، بل ذكر الدخول، وهو على كل دخول، رشدا كان أو سفاحًا، والسفاح أحق في الحرمة من الحلال؛ إذ حكمه أغلظ وأشد؛ فعلى ذلك في إيجاب الحرمة من الحلال يجيء أن يكون أشد وأغلظ، ولو كان ذكر الدخول - هاهنا - في النكاح لم يكن فيه ما يمنع وجوب الحرمة إذا كان في غير النكاح؛ ألا ترى إلى قول اللَّه - تعالى -: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) والربيبة التي لا تكون في حجر الرجل مثلها في الحرمة، ولم يجعل قوله - تعالى -: (فِي حُجُورِكُمْ) خصوصًا فيها دون ما أشبهها، وكذلك يجوز ألا يجعل قوله: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) خصوصًا الدخول بالزوجات دون ما أشبههن - وهن الموطوءات - مع ما ذكرنا أن ليس في الآية ذكر نسائنا؛ لذلك لم يكن فيه دليل الحظر في غيره. وبعد: فإنا قد ذكرنا فيما تقدم أن ليس في حظر شيء في حال حظره في غير تلك الحال، والحرمة من ذلك الاستمتاع أنه إذا استمتع بإحداهما لم يكن له الاستمتاع بالأخرى، ولا يحل أن يتزوج بالأخرى؛ ألا ترى إلى ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَلْعُون مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا " ومعلوم أنه لا ينظر إلى فرجهما في وقت واحد، وإنما ينظر في وقتين، فهو - واللَّه أعلم - إذا نظر إلى فرج إحداهما ثم نظر إلى فرج أخرى يذكر نظره في فرجها في وقت نظره في فرج هذه، فهو كالقاضي وطره فيهما، كذلك في الزنا كهو في النكاح، واللَّه أعلم. على أنهم أجمعوا: أن من وطئ أمَةً له لم يكن له أن يتزوج ابنتها؛ فدل أن الدخول بها في النكاح وفي غير النكاح سواء، وأنه محرم، وما أجمعوا عليه -أيضًا- أنه إذا وطئ امرأة في النكاح الفاسد لشبهة حرمت ابنتها عليه، وهو وطء حرام؛ فدل هذا على أن

التحريم إنما يكون بالاستمتاع بها لا غير. وروي -أيضًا- عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرجِ امْرَأَةٍ لَم تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا ". وعن عمران بن حصين في رجل زنى بأم امرأته قال: حرمت عليه امرأته. وعن عبد اللَّه قال: لا ينظر اللَّه في رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها. إلى هذه الأخبار ذهب أصحابنا، رحمهم اللَّه. وقوله - تعالى -: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ. . .) الآية. الأصل: أن اللَّه - سبحانه وتعالى - بين المحرمات في الأنساب بيان الإبلاغ، وفي غير الأنساب بيان الكفاية؛ إذ بين في الأنساب الحرمة في الطرفين: في اللواتي علون وسفلن: نحو الأمهات والبنات، ثم في اللواتي يتصلن بالآباء والأمهات: نحو العمات والخالات، ثم في اللواتي يشركن الطرفين بالاسم: كالأخوات. وذكر في الرضاع من الأنفس أحد الطرفين، وفي الشعوب ما يشركن الطرفين؛ على الاكتفاء بذكر طرف من الأنفس عن الطرف الآخر، وبذكر المشتركات من الشعوب؛ اكتفاء عن ذكر المنفردات؛ فعلى ذلك أمر الأنفس في خطاب الحرمات، فلما ذكر في ذلك الأمهات والبنات جميعا على ما ذكر في الواحد فيما كان المذكور في نوعه بحق الكفاية من البيان، لا بحق الإبلاغ؛ دل أن ذلك لما أريد به التفريق في الأمرين وأيد ذلك خبر عبد اللَّه بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأقاويل جماعة الصحابة مع ما كان في ذلك إمكان شبهة محضة؛ إذ لو اقتصر على إبداء الآيةِ الحُرمَة بالعقد لا يزال ذلك بالشك، على أن وجه الاعتبار الاستواء في الحرمة قبل الدخول؛ لتكون حرمة الابنة على الأم في زوجها حرمة الأم عليها على ما عليهما أمر الابن من الأب في زوجته، لكن فرق من حيث إساءة الرجل في الاختيار إذا اختار الأم على الابنة إن علم، أو الغفلة إن لم يكن علم، وحق مثله الزجر عنه، والتوبة عن مثله، فجعل له مفارقتها لابنتها، وقد يعلم بذلك قبل الدخول، على أن الدخول مذكر له ما كان بها في حال الاستمتاع بها،

وقد حرم ذلك الجمع حرمة أيدية ما ينبغي أن يجعل بما يذكر، وسبيل الحظر بالقلب، واللَّه أعلم. وليس أمر الابن والأب هذا؛ إذ إليهما في الابتداء الاختيار والإيثار، وكل يؤثر الذي له على الذي هو لغيره، وفي النساء إنما يجب بعد الخطاب، وليس منهن عرض، لذلك لم يعتبر حالهن على أن الأمهات في العرف يؤثرن لَذَّات بناتهن على لَذَّاتهن؛ فلا يلحقهن في الفراق لأجل البنات غضاضة، ويلحق للبنات، فلذلك فرق. وأمَّا بعد الدخول فهو موجب الحرمة، لا من حيث الإيثار؛ إذ من جهة حرام أو حلال يوجب ذلك؛ فلذلك اختلف الأمر أن قال بشر: دل تخصيص ذكر الأصلاب في حلائل الأبناء على رفع حرمة الرضاع، أو على ألا يكون الابن إلا من الصلب، ونحن نقول: لا دلالة فيه على ما ذكرنا، لو استدل به على الكون كان أقرب؛ إذا خص ذكر الأصلاب ولو لم يكن الابن إلا من الصلب لكان القول بحلائل أبنائكم كافيًا عن ذكر الأصلاب، مع ما فيه وجوب الإلحاق بقوله: " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ. . . "، ومعلوم أن الحرمة من الولادة تلحقه وإن لم يكن منه حقيقة الولادة بما كان سببًا له، فكذلك يصير مرضعًا لما كانت هي مرضعة، وإن لم يكن منه حقيقة الإرضاع؛ لما كان هو سبب لما به ورود اللبن، وأيد ذلك أمر حلائل أبناء الأبناء، بل حلائل أبناء البنات، وإن لم يكونوا للصلب؛ للاتصال به بالنسب على البعد عما ذكرنا أحق، واللَّه أعلم، مع ما يجوز أن يقال: صار الرضاع ولادًا في الحكم بالخبر؛ فيصير للصلب بالحكم نحو قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ). ثم قد يعتبر فيهم الولاء في الحجاب؛ لما جاء: " إِنَّ الوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ "، ويصير ذو نسب ورحم في الحكم ما ذكر من الخبر، فمثله الأول، مع ما قد قيل: إن فائدة ذكر الصلب ألا تتحقق حرمة حلائل أبناء التبني بالأصلاب؛ ولذلك قال - واللَّه أعلم - (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ)، وقوله - تعالى -: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) إلى قوله - تعالى -: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ)؛ إذ يحتمل الجمع في العقد، والجمع في الملك، والجمع في الاستمتاع ويحتمل الجمع في جنس الاستمتاع.

ويحتمل ألا يرجع المراد إلى معنى من ذلك، ولكن يرجع إلى الكل، ثم كان الاستمتاع بهما مرة واحدة غير ممكن، فإن كانت فيه حرمة فهو لمعنى هنالك يوجد في حال الجمع، لا أن الخطاب يأخذه؛ إذ هو غير ممكن وجوده، ولا يتهيأ احتماله؛ ليقصد بالخطاب نحوه، ولكن من خاطب يجوز أن يخاطب بما يجعل فيه تحريمه وإن لم ينص عليه في الخطاب، ثم الملك المطلق أو العقد المطلق قد يوجدان غير محرمين نحو عقده به ملك ملك يمين؛ فثبت أن المقصود لو كان ملكا أو عقدًا فهو مقيد؛ نحو ملك النكاح، أو عقد ملك النكاح، وقد أجمع على دخول هذا في حق الخطاب؛ إذ قد أجمع على أن من جمع بين الأختين في النكاح أنه لا يصح، وأجمعوا أنه لو تزوج بعقدين: أن نكاح الثانية فاسد من غير أن كان جمع في العقد، بل في الملك لو ثبت العقد في الثانية، وإذا ثبتت الحرمة بهذا العقد والملك لم يكن لعقد ملك اليمين ولا تملكه أثبت أنها لمعنى في ذلك، لا لنفس ملك أو عقد. وبعد: فإنهما في إيجاب الحل واحدة، ثبت أن ذلك ليس للحل نفسه، ولا للملك، ولا للعقد؛ إذ كل ذلك على الانفراد لا يعمل هذا العمل؛ فيجب أن يكون المعنى من ذلك الاستمتاع، والجمع في الفعل به غير ممكن؛ فثبت أنه لمعنى قد وصف الجمع بالاستمتاع وذلك على وجوه: أحدها: عقد الاستمتاع، وهو عقد النكاح؛ إذ عقد ملك اليمين قد يوجد ولا يوجب حق الاستمتاع، وملك النكاح؛ إذ هو لا يخلو من أن يوجب ذلك الحق، ثم كان نفس الاستمتاع بحقه أحق من الأسباب الموجبة له، والعدة مما يوجب الاستمتاع نفسه؛ فهي أحق أن تكون شرطا للمنع، بل هي أولى؛ إذ قد يمنع الاستمتاع بملك اليمين، ولا يمنع لحل ولا لملك ولا لسبب، فإذا وجب المنع في النكاح لما هو سبب له فهو لأن يجب بحقيقته أحق، وإن شئت قلت: إن لم يتفرد الخلق لنوع من السبب دون أن يشاركه غيره من الأسباب لزم أن يكون حقيقة السبب مجهولا، لا يطلق ما قد يثبت الحرمة إلا بيقين، واللَّه أعلم. وأيضا إن عقدة النكاح قد حرم عليه وعليها، لكن الذي حرم عليه في محارمها عليها في الكل.

ثم معلوم أن يملك الزوج فيها ما به يحل لغيره من الفراق حضرة فعله، فلما دخل عجز عن ذلك بما أحدث له فيها الاستمتاع بها حقًا بعد الفراق أبقاها على ما سبق من الوصل بلا فراق؛ فعلى ذلك ما فيه من الحق؛ إذ ذلك واجب بما فيه الشرك على أنها في بقية ملك له بنكاح عملت فيها بقية ملكه عمل صلة ملكه فمثله فيه، وقد ألحق بعض من أنكر حرمة الجمع في العدة بالوطء حرمة ما نزل منها من اللبن على احتمال درور دونه، ودون الولد بما كان هو سببا في ذلك كانت حرمة العدة أحق بذلك. فالأصل: أن الحرمة قد ثبتت بالنكاح، فلما وقعت الفرقة أشكل زوالها؛ فلا يزال بالشك مع ما في الإزالة تعليق الحرمة بالحل أو بالملك خاصة، وقد بينا وجوبها لا لتلك الوجوه. ثم الأصل في النكاح: أن المقصود منه الاستمتاع، وبحله يحل هو، وبحرمته يحرم؛ فيجب أن يكون هو الأصل للتحريم والتحليل، وعلى هذا يحرم كثير من الإماء في حق الاستمتاع بهن، وإن لم يحرم فيهن الملك، ويحرم بالاستمتاع في ذلك، وإن كان الملك لا يوجب الحرمة؛ فإذا ثبت أن الاستمتاع أحق في التحريم، والعدة حق الاستمتاع - أوجبها، فيجب أن تكون هي محرمة؛ لذلك لم يجز نكاح الأخت فيها مع ما كانت موجبة الحرمة فيها أكثر مما يوجب في ملك اليمين، ثم كان الاستمتاع بملك اليمين يحرم الاستمتاع بالأخت، فالعدة التي هي مجعولة لتأكيد الحرمات وقطع المجعول للحل خاصة أحق أن يمنع، واللَّه أعلم. وعلى ما بينا إذا ثبت أن الاستمتاع هو الأصل في التحريم، سواء له وقع من وجه يحل أو لا فيهن الحرمة حرمة الأنفس، لا حرمة الجمع؛ إذ لا أثر يقع له جمع. ثم الأصل في ذلك أن تعلق الحرمات بالمحرم من الأعيان أظهر منه بالمحللة منها، ثم كان الاستمتاع بالأعيان المحللة توجب حرمة الأمهات والبنات فهو في المحرم أحق مع ما لا يخلو أن تكون الحرمة لا تجب إلا فيما يحل، فيجب ألا يجب في النكاح الفاسد، ولا في وطء جارية بعد وطء الابن، أو الملك فيهما أيضا زائل بالنسب، فيجب ألا

تجب الحرمة فيما لا يكون منه نسب، أو في وقت لا يتمكن، أو بإيجاب الحقوق، فيجب ألا تجب في مماسة الأمة دون الفرج، أو للاستمتاع خاصة؛ فيجب استواء حال السفاح والنكاح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو كناية عن الجماع. لكنه عندنا: الدخول بها: هو أخذه يدها في إدخالها في موضع الخلوة والجماع، لا نفس الجماع، كما يقال: فلان دخل بفلان موضع كذا، لا يراد به عين الدخول به المعروف، وهو أخذ اليد والدخول فيه؛ لذلك قلنا بأنه إذا أدخلها في موضع وخلا بها، وجب كمال المهر بظاهر الآية، ووجبت الحرمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - أيضًا: (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) كنى به عن الجماع من حيث لا يكون الجماع إلا بالدخول بها مكانًا يسترهما، وإلا فحقيقة الدخول بآخر ليس بجماع، ولا يصلح القول به مطلقًا دون ذكر المكان، إلا في المرأة بما يعلم أنها لماذا يدخل؟ وفيم يدخل؟ فجائز أن يكون في الحرمة على حق الكناية، والمراد منه الجماع، وجائز على حقيقة الدخول بها مكانًا لذلك؛ إذ هو الظاهر، وهذا الثاني يكون بأخذ يدها أو شيء منها؛ ليكون هو الداخل بها لا هي، ووجوده لا يكون إلا للشهوة؛ فيكون هو المذكور للحرمة، فإذا لم يظهر حقيقة المراد يجب الاحتياط في إيجاب الحرمة من كل وجه، أو تحقيق هذا؛ إذ هو أظهر له، وله أدلة ثلاثة: أحدها: ما روي: " مَلْعُونْ مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا " أنه أوجب اللعن بالنظر، فلولا أن نظر الأول قد حرم الثاني لم يلحقه به اللعن، ثم النظر دون اللمس في العبادات والأحكام، فاللمس أحق في إيجاب الحرمة. والثاني: ما بينا أن علة الحرمة الاستمتاع، ومعلوم أن معناه في القبلة والمباشرة أعلى منه في السبب الذي يقضي به الاستمتاع، وهو النكاح، وقد أوجب له، فالقبلة أحق أن يوجب لها، وذلك كما أوجب بسبب الحدث -وهو النوم- حكمه، ثم لا يجب إلا في

حال دون حال، وقد يجب لنفس الحدث على كل حال، فمثله سبب الاستمتاع من حقيقته، واللَّه أعلم. والثالث: أن كل أنواع الاستمتاع في الحرمة والحل متصل بالجماع، وبخاصة في حقوق الأملاك؛ فعلى ذلك في فسخ الأملاك وتحريمها، على أنه يبعد أن يكون المرء يستمتع بالمرأة عاما ثم يستمتع بها ولدها، وكذلك بابنتها دون الفرج، أو أن يكون من لا يقدر على الإيلاج لِعِنَّةٍ أو جبٍّ يرتفع عنه الحرمة أبدًا، فيشترى أمّا وابنة ويستمتع بهما أبدًا، وذلك بعيد؛ فيجب الحرمة من الوجه الذي ذكرت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ). يحتمل ذكر الصلب وجوهًا: أحدها: يحتمل أن يكون ذكر الصلب؛ ليعلم أن الحرمة في حليلة الولد كهو في الولد الصلب، وكذلك الحرمة في حليلة ابن الرضاع كهي في حليلة ابن الصلب؛ على ما كانت في محارم الرضاع، وإن لم يذكر: نحو أن ذكر أمهات الرضاع وأخواته، ولم يذكر غيرها، ثم دخل ما دون ذلك في الحرمة؛ فعلى ذلك هذا. وقال بشر: دل تخصيص الأصلاب على فسخ حرمة حليلة الابن عن الرضاعة؛ إذ لا يكون من الرضاع ابن. قلنا: لو لم يكن من الرضاع ابن لم يكن لذكر الصلب للابن معنى ولا فائدة؛ دل أنه يكون من الرضاع ابن على ما يكون من النسب، وأن الحرمة من الرضاع كهي في النسب، وإن كانوا في الحقوق مختلفين: نحو العتاق، يعتق بعض على بعض، ويوجب لبعض في أموال بعض النفقة، وحقوق بمثلها لا توجب في محارم الرضاع، وذلك - واللَّه أعلم - أن الرضاع انتفاع، والنسب حدوث نفس بعضهم من بعض، فإذا كان كذلك لم يوجب الرضاع إلا حرمة الانتفاع خاصة، وهو الاستمتاع، وأمَّا النسب فهو كون الولد منه، وحدوث نفسه منه؛ فأوجب مع ذلك حقوقًا، ولأن في إقرار بعضهم في يد بعض -مماليك وعبيدًا- قهرًا وغلبة لم يوجب ذلك؛ فما لم يحصل لبعضهم قهر بعض، لذلك كان الجواب ما ذكر. وقيل: إنه ذكر أبناء الأصلاب؛ وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تزوج امرأة زيد بن حارثة بعد ما

طلقها، وقد كان تبناه، فعابه المنافقون على ذلك، وقالوا: تزوج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - امرأة ابنه، فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) يحتمل قوله - سبحانه وتعالى -: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) وجوهًا: يحتمل الجمع بينهما في العقد، وقد أجمعوا: أنه إذا لم يجمع بينهما بالعقد ولكنه تزوج إحداهما، ثم تزوج أخرى، لم يحل له نكاح الأخرى؛ دل أنه لم يرد به الجمع في العقد. أو يحتمل الجمع في الملك، وقد أجمعوا -أيضًا-: أن له الجمع بينهما في ملك اليمين؛ فدل أنه إنما أراد الجمع بينهما في الاستمتاع، وإذا استمتع بإحداهما بنكاح، ثم فارقها، لم يحل له أن يتزوج أختها، والأولى في عدة منه من طلاق بائن؛ لأن الاستمتاع هو الذي حبسها عن الأزواج؛ فكان كالجمع بينهما في الاستمتاع، ولأن المعنى الذي به حرم الجمع في ملك النكاح، ذلك إذا كانت في عدة منه موجود، وهو خوف القطيعة فيما بينهما، واللَّه أعلم. ولأن أكثر أحكام الزوجات قائم فيما بينهما: نحو الإسكان، والإنفاق عليها، وإلحاق الولد، وغير ذلك من الحقوق. وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن رجل طلق امرأته، فلم تنقض عدتها حتى تزوج أختها، ففرق عليٌّ بينهما، وجعل لها الصداق بما استحل من فرجها، وقال: تكمل الأخرى عدتها، وهو خاطب. وعن زيد بن ثابت أنه سئل عن رجل تحته أربع نسوة، فطلق إحداهن ثلاثًا، أيتزوج رابعة؟ فقال: لا، حتى تنقضي عدة التي طلق. وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - مثله. واختلف في الجمع بين الأختين من ملك اليمين: عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل

عن المرأة وأختها من ملك اليمين، هل توطأ بعد الأخرى؛ قال: ما أحب أن أجيزهما جميعًا، ونهى عنه. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حنث في الأختين من ملك اليمين، فقال: حمل أحدكم ملك اليمين. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يحرم من جمع الإماء ما يحرم من جمع الحرائر إلا العدد. وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - أنه سئل عن رجل له أمتان أختان، وقع على إحداهما أيقع على الأخرى؟ قال: لا ما دامت في ملكه. وأجمعوا -أيضًا- على أنه إن تزوج بامرأة فاشترى أختها لم يحل له أن يطأها؛ إلى هذا ذهب أصحابنا؛ رحمهم اللَّه. ثم إذا طلق امرأته وانقضت عدتها أو ماتت، حل له أن يتزوج أختها، ولم يحل له أن يتزوج بأمها، وذلك - واللَّه أعلم - بأن الحرمة في الأخت في نفسها وليس في ولدها، والحرمة في الأم والابنة في أنفسهما، وفي ولدها، فإذا كانت الحرمة في الأخت من وجه، وفي الأم من وجهين، ففيما كانت الحرمة من وجه كانت حرمة الجمع لا حرمة تأبيد، وفيما كانت من وجهين حرمة جمع وحرمة تأبيد؛ لأنها تأدت إلى أولادها، وفي الأخت لم يتأد؛ لذلك اختلفا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) يحتمل: إلا ما قد سلف قبل التحريم في الجاهلية، فإنهم إذا انتهوا عن ذلك في الإسلام، يغفر اللَّه لهم. ويحتمل قوله: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) وإن كان محرمًا في ذلك الوقت فإنهم إذا انتهوا عن ذلك بعد الإسلام يغفر ذلك لهم، ويتجاوز عنهم، فهم كما ذكرنا في قوله: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً).

(24)

يحتمل: كان في ذلك الوقت فاحشة. ويحتمل: كان فاحشة، أي: صار فاحشة في الإسلام. * * * قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) اختلف في تأويله: قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " والمحصنات عن النساء إلا ما ملكت أيمانكم " قال: ذات الأزواج من المسلمين والمشركين. وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذات الأزواج من المشركين. وذهب عبد اللَّه في تأويل الآية إلى أن بيع الأمة طلاقها؛ فيحل للمشتري وطؤها، وأسر الكتابية والمشركة يحلها لمولاها؛ وإن كان لها زوج في دار الحرب. وذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أن الآية نزلت في المشركات. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كل ذات زوج إتيانها زنا؛ إلا ما سبيت. وروي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وقعت في سهمي يوم أوطاس جارية، فبينا أنا أسوقها إذ رفعت رأسها إلى الحل فقالت: ذلك زوجي؛ فأنزل اللَّه - سبحانه وتعالى -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. . .) الآية، قال أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فاستحللنا فروجهن بها. بيّن أبو سعيد الخدري، في حديثه أن الآية نزلت في المشركات ذات الأزواج،

وكأن حديثه يقوي قول علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن وافقه. وقيل -أيضًا- في تأويل الآية: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ) قال: والمحصنات من النساء حرام على الرجال إلا ما ملكت يمينك، قال: ملك يمينه امرأته. وعن أبي قلابة قال: ما سبيتم من النساء، إذا سبيت المرأة ولها زوج من قومها، فلا بأس أن يطأها. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) قال: لا يحل له أن يتزوج فوق أربع نسوة وما زاد عليهن، فهو عليه حرام كأمه وابنته وأخته: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) الإماء فإنه على أربع، وأكثر من أربع. وعن أبي سعيد الخدري - رضي اللَّه عنه -: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) هن نساءكنَّ نُصيبهن، يهاجرن ولا يهاجر أزواجهن، فمنعناهن في هذه الآية، ثم أنزل اللَّه - عز وجل - في الممتحنة: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، حللن لنا بعد أن نتزوجهن، وفيه نهى عن الزنا وأباح التزويج، فجعلوا ملك اليمين التزويج. وأصح التأويلين وأولاهما بالقبول ما روي عن عليٍّ أبن أبي طالب - رضي اللَّه عنه -،

وابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، وظاهر القرآن يدل على أن ذلك هو الحق؛ لأن اللَّه - تعالى - قد فَصل في غير هذا الموضع بين التزويج وملك اليمين، فجعل ملك اليمين الإماء؛ ألا ترى إلى قوله: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) وقال: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)، فهاتان الآيتان تدلان على أن قول اللَّه - سبحانه وتعالى - في آية المحصنات: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) على غير الأزواج، كما روي عن الجماعة من الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - الذين ذكرناهم، ثم الكلام بين علي وابن مسعود - رضي اللَّه عنهما - ونحن نعلم أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أوجب على الأمة إذا باعها مولاها ولها زوج - العدة؛ إذا كان قد دخل بها، وأنها عنده لا تحل لمولاها حنى تنقضي عدتها، فلم يجعلها حلالا للمولى الثاني بملكه إياها؛ فكان قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أشبه بظاهر الآية؛ لأنه تأول الآية على متزوجة تحل بالملك لمولاها في حال الملك من قول عبد اللَّه؛ إذ جعلها محرمة وإن كانت مملوكة حتى تمضي عدتها. وفي ذلك وجه آخر: وهو أن اللَّه - تعالى - قال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وعند اللَّه يحرمها على البائع ويحلها للمشتري، ولم يخص اللَّه - تعالى - أحدًا من المالكين. وروي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حمل الآية على امرأة كافرة متزوجة سبيت، فأحلها اللَّه - تعالى -: هي لمالكها، فلم تعرف من حال المملوكة، هذا مع موافقة الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وظاهر الآية يدل على أن المأسورة ذات الزوج لا عدة عليها، وهو قوله - تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ. . .) إلى قوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، فأمر ألا يردهن إليهم وينكحهن، فلما جاز أن يتزوج الحرة إذا خرجت مسلمة ولا عدة عليها، حلت إذا سبيت فملكت قبل أن تعتد. والثاني: إنها كانت حرة، فأبطل السبي حكم الحرية والزوجية، فكذلك يبطل حكم العدة. هذا كله إذا سبيت ولم يكن معها زوجها، فأما إذا سبيت وزوجها معها، فإن الفرقة لا

تقع بينهما؛ لأنها لو بانت من زوجها بانت للرق، والرق لا يمنع ابتداء النكاح كيف يعمل في فسخ نكاح ثابت؟ ولكن اختلاف الدارين هو الموقع فيما بينهما الفرقة؛ لفوت الاجتماع بينهما، وإذا فات الاجتماع بين الزوجين والإياس عن الانتفاع وقعت الفرقة فيما بينهما، وهذا يبطل قول من يقول: إنه تقع الفرقة فيما بينهما للرق. والثالث: أن العدة حق من حقوق الزوج؛ يبين ذلك قول اللَّه - سبحانه وتعالى -: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)، فلا يجوز أن يبقى للحربي على المسلمة الخارجة إلى دار الإسلام حق، فإذا لم تكن عليها العدة لها أن تتزوج، وسبيل الأمة المسبية مسألة الحرة المسلمة؛ لأن حكم الإسلام قد جرى عليها؛ فحلت للمولى وإن كان لها في دار الحرب زوج. ومن الدليل -أيضًا- على أن المسبية ذات الزوج يحل تزوجها ووطؤها لمولاها: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تزوج صفية بنت حيي بن أخطب في رجوعه من خيبر قبل أن يصل إلى المدينة، ومعلوم أنه كان لها زوج كبير، وأن عدتها منه لو كانت واجبة لم تنقض في تلك المدة؛ فهذا يبين ألا عدة على مسبية من زوجها المقيم في دار الحرب، ولا على مسلمة إذا خرجت من دار الحرب، وأقام زوجها هنالك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ. . .) الآية. قيل فيه بأوجه ثلاثة: أحدها: في المسبية ذات الأزواج، وكذلك روي عن عليٍّ وأبي سعيد الخدري - رضي اللَّه عنهما - فيكون فيه أمران: أحدهما: الحرمة على الأزواج. والثاني: ارتفاع العدة؛ إذ هما حقان للحربي، وحقه في نفسه لا يمنع الاسترقاق، ولو كانت حُرة الاستمتاع فمثله في زوجته، لكن يدخل على هذا سبي الزوج معها أن الرق قد ثبت فيهما ولم يبطل النكاح؛ فيجاب لهذا بوجهين: أحدهما: الاستحسان من حيث يلزم المولى حق الإنكاح بقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ. . .) الآية، فلم يبطل عليه التجديد، وليس هذا في سبي الزوجة؛

فلا تعفف لها به، وهو في دار الحرب. والثاني: أن يكون الزوج وحق الرق إنما يجب إذا أخرج المرء من يد نفسه، والمملوك قد يكون له يد في النكاح، فكأنها لم تخرج من يده إذا سبي معها، وإذا لم يسبيا لا يكون لمن في دار الحرب يد في دار الإسلام. وفي حق الآية عبارة أخرى: أنها إذا سبيت دونه انقطعت عنها عصمة الزوج، وقد جعل اللَّه - تعالى - انقطاع عصمته بسبب حل غيره؛ لقوله - تعالى -: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ. . .) إلى قوله (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ)، وقد جعل ذلك في الزوج سببًا لقطع عصمته بقوله - تعالى -: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)، وعصمة الزوجين عصمة مشتركة، أيهما خرج مسلمًا خرج لئلا يعود، وكذلك المختلف يختلف لئلا يخرج؛ فبطلت العصمة بينهما، وأحل التناكح، ولو خرجا معًا لا، فمثله أمر السبي. وتأويل آخر: أن يكون قوله - تعالى -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ. . .) الآية إلى قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. . .) الآية، على ألا يحل وراء الأربع إلا ملك يمين، وعلى هذا في غير ذات الأزواج، وقد روي مثله عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - ويكون في ذلك بيان ما كانت حرمته من حيث العدد، ويختص في النكاح، فإن كان النكاح وملك اليمين فيما كانت الحرمة من حيث المنكوحة يستوي من حيث كانت حرمة العدد بحيث العقد بما فيه من الحقوق التي لا يقوم لها إلا بشر قد عصم، وملك اليمين لا يجب فيه ذلك، وما كانت الحرمة بحيث نفس المرأة تستوي لاستواء الملكين في حق الحل والحرمة. ووجه آخر: قيل: المحصنات: هن الحرائر، وما ملكت أيمانكم بالنكاح، فذهب من يقول بهذا إلى ما لو لم يذكر " أيمان "، ولكن قال: " المحصنات من النساء إلا ما ملكتم "؛ فيكون التحريم في غير النكاح، لكنه بعيد على المعهود من الكلام أنه لا يتكلم به إلا في ملك اليمين خاصة، ويجوز جعل الأمرين من الإماء على خطر وطء الزانيات على الموالي، واختيار المتعففات منهن لمكان الأولاد.

وقوله - تعالى -: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) قيل: كتب اللَّه عليكم ما ذكر مما مر في هَؤُلَاءِ الإناث. وقال الكسائي: نصب كتاب اللَّه على قوله: حرم كذا وأحل كذا، كتاب اللَّه عليكم؛ على الأمر؛ يقول: عليكم كتاب اللَّه، ودونكم كتاب اللَّه، اتبعوا كتاب اللَّه، في نحو هذا المعنى. وقيل: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) يقول: هذا حرام اللَّه عليكم في الكتاب. وقيل: هذا التحريم من النكاح قضاء اللَّه عليكم في الكتاب. وقوله - جل وعز -: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) اختلف فيه: قيل: (مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) أي: ما سوى ذلكم، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه؛ دليله قوله: (وَيَكفرونَ بِمَا وَرَآءَهُ)، أي: سواه. وقيل: (مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) أي: ما قبله وأمامه، وهو كقوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ)، وهو كان أمامهم. وقيل: (وَرَاءَ ذَلِكُمْ) أي: بعد ذلك وخلفه، وهو ظاهر. ومن قال سوى ذلك يقول: أحل لكم ما سوى ذلكم الذي حرم عليكم ما لم يسم لكم. ومن قال (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ): أمام ذلك وقبله، وهو ما ذكر قبل هذه المحرمات: قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ).

ومن قال: (مَا وَرَاءَ): بعد، أي: ما بعد الأربعة الأصناف المحرمة: المحرمات بالنسب، والمحرمات بالرضاعة، والمحرمات بالصهر، والمحرمات بالجمع، يقول: أحل لكم ما بعد هَؤُلَاءِ الأربعة الأصناف. وقيل في قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ): هن المتعففات من الإماء (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) من الإماء المسافحات الزانيات، كأنه قال: فاستمتعوا بالمتعففات منهن ولا تستمتعوا بالزانيات؛ لأنهن يلبسن عليكم النسب، وهو كقوله - تعالى -: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا). وقوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) بين اللَّه - تعالى - أن النكاح لا يكون إلا ببدل يكون مالًا؛ لأنه قال: (بِأَمْوَالِكُمْ). وفي الآية دلالة -أيضًا- على أن ما يملك ولا يقع عليه اسم المال لا يَكْفِيَنَ مهرًا؛ لأنه قال: (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) ولا يسمَّى الدانق والحبة: مالًا، ولو كانت الحبة مالًا كانت التمرة مالًا، فثبت بما وصفنا من دلالة الآية أن المهور لا تكون إلا من الأملاك. فَإِنْ قِيلَ: روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: " قَدْ زَوجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ "، قيل: تأويله عندنا - واللَّه أعلم -: " بما معك من القرآن " أي: من أجل ما معك من القرآن، ولا يجوز أن تكون السورة مهرًا بدليل الكتاب؛ لأنها ليست بمال، وكذلك كل شيء ليس بمال ولا يكون له قيمة، فلا يجوز أن يكون مهرًا، وكذلك قوله - سبحانه وتعالى -: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)، يدل على أن السورة وما لا يتمول لا يكون مهرًا. وروي عن أنس أن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تزوج على وزن نواة من

الذهب. قلنا: وزن نواة من الذهب يكون دينارًا. فَإِنْ قِيلَ: قد بين في الخبر قيمتها ثلاثة دراهم وثلث، لكن لا ندري من كان المقوم للنواة، ولا يجوز أن يجعل تقويم ذلك المقوم وتفسيره حجة على علمائنا حتى نعلم ذلك، مع ما قال قوم: إن النواة عشرة دراهم، وهو ما قال إبراهيم. فَإِنْ قِيلَ: روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَعْطَى فِي نِكَاح مِلْءَ كَفهِ طَعَامًا أَوْ دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ ". وكذلك يقول أصحابنا - رحمهم اللَّه - ولكن يتم لها عشرة دراهم، ولم يقل النبي - - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ولا شيء عليه سوى ذلك مع ما يقول المخالف لنا إذا كان المهر مما لا يتمول لم يكن مهرًا، وملء الكف من الطعام لا يتمول، وإن جعل ذلك مهرًا فقد ترك أصله: أن ما لا يتمول فليس بمهر، فكذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " زَوجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " ولم يذكر أن ليس عليه سوى ذلك، وأهل العلم مجمعون على أن السورة لا تكون مهرًا. ومن الحجة لعلمائنا ما روي عن جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَا مَهْرَ دُونَ عَشَرَةٍ ". وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم ". وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنه - مثله.

على أن أهل العلم أجمعوا أن النكاح لا يكون إلا ببدل، وأنه خالف سائر الأملاك التي توهب ويتصدق بها بغير بدل، وكل يجعل لذلك حدا، وإن اختلفوا في ذلك المقدر والحد، وكل يقول -أيضًا-: إن التافه لا يكون مهرًا، فذهب أصحابنا أن الفروج لما لم تملك إلا ببدل، لم يجعل البدل إلا ما أجمعوا عليه، وهو عشرة دراهم؛ إذ كان النكاح مخصوصًا ألا يملك إلا ببدل دون غيره من الأملاك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) قيل: متناكحين غير زانين بكل زانية. وقيل: (بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ) أي: عفائف للفروج، وغير مسافحين في العلانية بالزنا؛ وكأنه أمر - عَزَّ وَجَلَّ - ابتغاء النكاح بالأموال، ونهي عن الاستمتاع بغير مال. وقيل: المسافح الذي يزني بكل امرأة يجدها، والمسافِحَةُ كذلك تزني بكل أحد. والمتخذات أخدان: هن اللاتي لا يزنين إلا بأخدانهن. والسفاح من الفعل: ما ظهر وعلا. مسألة في المتعة: وقوله - تعالى -: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ذهب قوم إلى جواز المتعة بهذه الآية؛ يقولون: ذكر الاستمتاع بهن ولم يذكر

النكاح، وذكر الأجر بعد الاستمتاع، والمهر إنما يجب في النكاح بالعقد: يؤخذ الزوج أولا بالمهر ثم يستمتع بها؛ فهو بالمتعة والإجارة أشبه؛ كقوله - تعالى -: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، أمر بإيتاء " الأجرة إذا أرضعن فعلى ذلك: لما ذكر الاستمتاع بهن، وأمر بإيتاء الأجر لا المهر؛ دل أنها نزلت في المتعة. وأمّا عندنا: فإنها نزلت في النكاح؛ دليله ما تقدم من الذكر، وهو قوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) نكاحًا، وقوله: (مُحْصِنِينَ) هو: متناكحين، (غَيْرَ مُسَافِحِينَ) هو غير زانين. وقوله - تعالى -: (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) كل ذلك يدل أنه في النكاح، فكذلك قوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) في النكاح (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وقد سمى اللَّه المهر أجرًا؛ كقوله: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، وقال: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). وأما قولهم: ذكر إيتاء الأجر بعد الاستمتاع والمهر يجب بالنكاح - فهو على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم بهن؛ كقوله - تعالى -: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ)، أي: طلقوهن، -إذا طلقتم- لعدتهن، ونحو ذلك كثير. وقال أبو بكر الأصم: دل قوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) فآتوهن مهورهن كملا، وإذا لم يدخلوا بهن فالنصف بالآية الأخرى؛ فهذا فائدة ذكر الأجور والاستمتاع، وهو بالنكاح أشبه وأولى من المتعة؛ لما ذكرنا من تحريم الأجناس من المحرمات في أولها وإباحتها

في آخرها ما وراء ذلك، وبين -أيضًا- أن الاستمتاع هنا النكاح، وأن الأجر هو المهر؛ لما ذكرنا. ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رحم اللَّه عمر، ما كانت المتعة إلا رحمة رحم اللَّه بها أمة مُحَمَّد؛ فلولا نهيه عنها إيانا ما زنى إلا شقي، وكان يراها حرامًا حلالا. قال: وكان يقول في حرف أُبي: " إلى أجل مسمى ". وروي عنه أنه قال: إن الناس هذا قد أكثروا في المتعة، فقال: إنها لا تحل إلا لمن اضطر إليها؛ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير؛ فدل قوله: إنها بمنزلة الميتة على أنه رجع عن قوله الأول؛ فإن كانت المتعة في حال غير الضرورة حرامًا فهي في حال الضرورة حرام، وإنما أحل اللَّه المحرم في الضرورة إذا خاف الرجل على تلف نفسه، وليس في ترك الوطء خوف تلف نفسه. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله - تعالى -: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) قال: نسخها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ. . .) الآية. هذا يدل على أنه رجع عن قوله الأول. ومن الدليل على تحريمها قول اللَّه - سبحانه وتعالى -: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)، فحرم اللَّه - تعالى - من الجماع ما عدا النكاح وملك اليمين، والمتعة ليست بملك نكاح، ولا ملك يمين؛ فهي

داخلة في التحريم. ومن الدليل على تحريمها ما روي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. وعن سبرة الجهني، عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه نهي عن متعة النساء يوم فتح مكة. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر عن متعة النساء، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية. وفي خبر آخر أنه كان قائمًا بين الركن والمقام وهو يقول:: إِني كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُم فِي المُتْعَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيءْ فَلْيُفَارِقْهُ، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آَتيتُمُوهُنَّ شَيئًا؛ فَإِن اللَّهَ - عَز وَجَلَّ - قَدْ حَرَّمَهَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ ". وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنه - قال: سمعت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول في المتعة: لو تقدمت فيها لرجمت. وعن عبد اللَّه قال: المتعة -متعة النساء- منسوخة، نسخها الطلاق، والصداق، والعدة، والمواريث، والحقوق التي تجب في النكاح.

وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها إذا ذكر لها المتعة قالت: واللَّه ما نجد في كتاب الله النكاح والاستسرار، ثم تتلو هذه الآية: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) الآية. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: متعتان كانتا على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما. فأنكر قوم على عمر - رضي اللَّه عنه - إقراره أنهما فعلا في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونهيه عنهما. لكن الجواب في ذلك كحكم أنه علم بنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن متعة النساء، وما نزل فيها من نص القرآن؛ فكان وعيده لاحقًا بمن فعلها لعلمه بأنها منسوخة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) يحتمل الإجارة. ويحتمل التسريح بالنكاح أنه إذا كان بعد الاستمتاع يؤتيهن كل المهر؛ لأنه ذكر المهر في النكاح، والبعض بعد الطلاق، فبين الكل في هذا، وأيد هذا التأويل ما كان عليه ذكر المحرمات والإحلال أنه كله بالنكاح، وكذلك على ذلك قوله - تعالى -: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا)، أن كله في النكاح لا في الإجارة وإن ذكر فيه الأجر كما ذكر للإماء، ولو كان بالإجارة فهو منسوخ بقوله: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ)، كان ذلك إجارة وصف أنه بغي، ونهوا عن ذلك. وبقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)، ذكر أن مُبتَغي وراء ذلك باغٍ بهذا لو عرف بحكم الكتاب، فما ذكرته له ناسخ، ولو عرف بالإخبار، فكانت أخبار الإباحة رويت مقرونًا بها النهي، فمن رام الأخذ بطرف منها على الإغضاء عن الطرف الثاني أعطى خصمه الإغضاء عليه بالطرف الثاني والمنع عما قال به. ثم امتناع الأمة عن العمل على ظهور الحاجة، ونفور الطباع عن قبول مثله من أحد في المتضدين؛ فاصبر على الحق. ثم دل ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: نسخه الطلاق والعدة - أن الأول كان نكاحها يمضي بمضي المدة أبطله ارتفاع أحكام النكاح عنه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ). في الآية دلالة أن الزيادة في المهر جائزة؛ لأن الفريضة هي التسمية. فَإِنْ قِيلَ: قوله: (فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ) معناه قوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ. . .): هو أن تبذل المرأة من مهرها شيئًا للزوج، أو الزوج لها. قيل: لو كان ذلك كذلك برضاها؛ يعني: رضا زوجها، وقال: (تَرَاضَيْتُمْ بِهِ) فجعل للزوج في الرضا نصيبًا، ومعناه - واللَّه أعلم - أن الزوج إذا زاد على المهر فذلك جائز، فهذا التراضي إنما يكون منهما جميعًا في الحالين، وذلك أصل الزيادة في المهر، والثمن في البيع، وأشباه ذلك. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يخطب أم سلمة ويقول: " إِنْ كَانَ إِيْمَانُكِ أَنْ أَزِيدَكِ فِي الصدَاقِ زِدْتُكِ، وَإِنْ أَزِدْكِ أَزِدِ النّسوَةَ ". وروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: زدها، فهو أعظم للبركة. وروي عن عثمان وعمار كذلك. وقد دل الكتاب والسنة وقول الصحابة على جواز ذلك، فهو الحق، وعلى ذلك جمهور المسلمين في بياعاتهم وتجاراتهم. ومن الدليل -أيضًا- على جواز الزيادة في الثمن والمهر وأنها تصير كأنها كانت مسماة في عقد البيع -: أن رجلا لو اشترى من رجل عبدًا بيعًا باتًّا، ثم إن أحدهما جعل لصاحبه الخيار يومًا فنقض البيع - أن نقضه جائز، ويصير ذلك كالخيار المشروط في أصل البيع، وكذلك رجل اشترى عبدًا بألف درهم حالَّة، ثم إن البائع أَخلَّ المشترى في الثمن

(25)

شهرًا - كان الأجل جائزا، ويصير كأنهما سميا الأجل في عقد البيع، فوجب أن تكون الزيادة بعد البيع في الثمن، كأنها كانت في عقد البيع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)، (عَلِيمًا)، فيما حرم وأحل، (حَكِيمًا) حيث وضع كل شيء موضعه. * * * قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم) وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) فقال بعض أهل العلم: لا يجوز تزوج الأمة حتى يعجز عن نكاح الحرة، ويخشى مع ذلك العنت، فإذا اجتمع الأمران فحينئذ يجوز أن يتزوج الأمة، ولا يجوز أن يكون تأويل الآية في هذا؛ وذلك أن الإماء أعز وجودا اليوم من الحرائر، ويجد الرجل حرة يتزوجها بأدنى شيء ما لم يجد بمثله الأمة، إلا أن يقال: إن الإماء في ذلك الزمان أوجد، وإن الحرائر أعز، وإن مؤنة الإماء ومهورهن أقل، فخرج الخطاب على ذلك. أو أنه لما نزل قوله - سبحانه وتعالى -: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، رغب السادات في تزويج الإماء بشيء يسير، فعند ذلك نزل قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا. . .) الآية، وإلا الأمر الظاهر ما ذكرنا أنهن أعز وجودًا من الحرائر وأكثر مؤنة، وأن الحرائر أهون وجودا، ومؤنتهن أقل. أو أن تكون الآية في الإنفاق عليهن، ليس في ابتداء النكاح، وهو أن الرجل إذا تزوج حرة لزمه أن ينفق عليها شاء أو أبى، فإذا عجز عن الإنفاق عليها يطلقها ويتزوج بأمة؛ إذ نفقة الأمة على سيدها ونفقة الحرة عليه، فأمر أن يطلق الحرة التي نفقتها عليه ويتزوج أمة تكون نفقتها على سيدها، هذا أشبه - واللَّه أعلم - مما قاله أُولَئِكَ.

أو أن يقال: إنه أراد بالنكاح الوطء، لا العقد والتزويج على ما قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. والنكاح اسم للوطء والتزويج جميعًا، قال اللَّه - تعالى -: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً)، وتأويله الوطء، فكذلك الأول، ومعنى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث حمل الآية على الوطء؛ لأنه قال لا يتزوج الأمة على الحرة. كأنه منعه من ذلك؛ لأنه قادر على وطء الحرة، ويتزوج الحرة على الأمة. يقول: يتزوج الأمة ولم يكن قادرًا على وطء الحرة؛ فجاز نكاحه. أو إن كانت الآية في ابتداء النكاح والتزويج؛ على ما قالوا، فليس فيها حظر نكاح الإماء وبطلانه في حال الطول والقدرة؛ لأنه أباح نكاحهن في حال عدم الطول والقدرة، ومن أصلنا: أن ليس في إباحة الشيء وحله في حال - دلالة حظره ومنعه في حال أخرى؛ دليله: قوله: (أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، ليس فيه أنه لا يحل له إذا لم يؤت أجورهن، وقوله - تعالى -: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ليس فيه حظر الأربع وإن خاف ألا يعدل؛ فهذا يدل على أن حظر الشيء ومنعه في حال، لا يوجب الحظر في حال أخرى، وإباحة الشيء في حال وحله لا يوجب منعه وحرمته في حال أخرى، على أن المخالف لما لم يجعل الإيمان المذكور في الآية شرطًا لقوله - تعالى -: (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) فإذا لم يصر الإيمان شرطًا في حال نكاح الإماء، كيف صار الطول والقدرة شرطًا فيه؟! إذ من قوله أن ليس له أن ينكح الأمة إذا كان له طول نكاح المحصنة الكتابية، فلما لم يصر هذا شرطا في ذلك كيف صار الطول والعنت شرطا؟! وهذا يبطل قوله: أن ليس له أن ينكح أمة كتابية؛ لأنه يقول: لأن اللَّه - تعالى - شرط فيهن الإيمان بقوله: (مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) فإذا لم يصر الإيمان شرطًا في المحصنات كيف صار شرطًا في الإماء، وذلك كله عندنا ليس بشرط. فإن قال قائل: إن قول اللَّه - تعالى -: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ. . .) كذا، ليس ذلك شرطا حتى لا يجوز غيره إذا كان له طول العتاق وقدرة الصوم ما ينكر أن يكون الأول بمثله.

قيل: صار ذلك شرطًا فيه؛ لأنه فرض لزمه بشريطة لم يكن له الخروج والتعدى إلى غيره، وأمَّا النكاح: فليس هو بفرض لزمه بوجود الطول والقدرة والعتاق، وما ذكر فرض لزمه بوجود الطول والقدرة عليه، ويجوز الطعام، لكن لم يسقط الفرض الذي لزمه عنه؛ لذلك صار شرطًا فيه، والأول لم يصر. فإن قال: ما معنى الآية إذن؟ قيل: معنى الآية على الاختيار والأدب، أو على الإنفاق الذي ذكرنا، أو ألا يختار نكاح الأمة على نكاح الحرة إذا كان له طول الحرة؛ على ما جاء عن عمر - رضي اللَّه عنه - قال: أيما حر تزوج أمة فقد أرق نصفه، وأيما عبد تزوج حرة فقد أعتق نصفه. لا يختار نكاح الأمة وله إلى طول الحرة سبيل. ويجيء أن يكون قوله: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) هو ألا يحمل على الزنا، ولكن يحمل على مخالطتهن الناس واسترقاق الأولاد، فإذا أمنه السيد عن استرقاق الولد، وعن ترك الاختلاط بالناس، فعند ذلك يتزوجها؛ إذ قلوب الناس لا تحتمل اختلاط أزواجهم بالناس واسترقاق الأولاد، فَحَمْلُ العنت على هذا أشبه من الزنا. ومن الدليل -أيضًا- على ألا يعتبر الطول على التزوج على ما قالوا: إذا تزوج أمة ثم قدر على تزوج الحرة لم يفسد نكاح الأمة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - فعلى ذلك طوله في الابتداء على نكاح الحرة لا يمنع جواز نكاح الأمة، واللَّه أعلم. على أن عدم الطول في الأصل لا يمنع نكاح الحرة؛ إذ المهر شيء يلزم الذمة، وعدم النفقة يمنع الإمساك عنده؛ فدل أن الآية لعدم نفقة الحرة أشبه وأقرب من عدم طول مهر الحرة في الابتداء؛ على ما ذكرنا. والأصل: أن كل أمر يجوز بشرط الاضطرار؛ فإن ارتفاع الضرورة يمنع البقاء، فإذا لم يمنع بأن أنه لا على الحل بالضرورة، وعلى ذلك يختار لمن تحته حرة مفارقة الأمة؛ إذ بإمساكها رِقُّ الولد الذي يَقْبُحُ في العقل اختياره، ومخالطة الزوجة في الطبع نفار منه، فمثله في الابتداء - واللَّه أعلم - مع ما قال اللَّه - تعالى -: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وليس عن الذي فيه الضرورة شرط الصبر، ثم القول واحد فيهن بملك المال وهو غائب عنه يخشى العنت إلى أن يبلغ ذلك أنه لا يمنع النكاح، وجميع ما له الحرمة، يستوي غيبة ذلك وحضرته: كنكاح الأمة على الحرة، والأخت على الأخت، ونحو ذلك، مع ما لو

كانت خشية العنت تصير سببًا للحل في شيء لكان ملك الحرة التي هي عنه غائبة؛ إذ لم تصر الضرورة مبيحة، فإذن بأن أن الحرمة لنفس النكاح في الوجود والحل لعدمه لا للسبيل إلى ذلك وغير السبيل. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) إنما هو الضيق؛ كقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ)، أي: يضيق عليكم مخالطة الأيتام. أو الإثم؛ كقوله - تعالى -: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)، وكل رجل فيه وسع الاستمتاع فهو يخشى الإثم، فيجيء أن يباح له على كل حال، أو يرجع إلى الضيق؛ فيكون المقصود منه الإمساك دون العقد، واللَّه أعلم. ثم خشية الزنا يحتمل أن يصير شرطًا للحل، وقد حصل له عقوبة، فيها أبلغ الزجر لمن عقل من: رجم أو حد، بل يفرض عليه اتقاء ذلك بكل وجوه الإمكان، ومعلوم أن اللَّه قد جعل عنه بغير النكاح سبيلا في الاستمتاع، أيضًا، وقد جاء -أيضًا- الأمر بالصيام بأنه له وجاء، فإنما خشية ذلك خشية حظر، لا حقيقة، فلم يجز أن يجعل عذرًا لرفع الحرمات ولقدر عليه بالمباح من الصيام. القول في قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ) الآية، نقول - وباللَّه التوفيق -: تحتمل الآية وجهين: أحدهما: طول عقد النكاح أمن ملك المهر. والثاني: طول إمساك الحرة؛ للاستمتاع من النفقة والكسوة والمسكن، وهذا الوجه أحق؛ لأوجه: أن طول عقد النكاح، مذكور -أيضًا- في نكاح الأمة، بقوله: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ومعلوم وجود الحرة بالمهر الذي يوصف في المعروف من المهور، بل لعل ذلك في الحرائر أوجد؛ إذ قد جاز نكاح الحرائر بالأشياء الضعيفة، ومعروف وجودهن في كل عصر بدون ما يوجد من مثله الإماء، فمحال أن يشترط في نكاح الإماء عدم ما لا يوجد السبيل إليه إلا بوجود

ذلك، أو ما هو أعظم في الوجود. وأمَّا النفقة والمسكن فقد يكون بمال السيد دون أن يؤخذ به، وفي الحرة هي لا سبيل إليها إلا بمال الزوج، ففيهما بذكر الوجود، لا فيما يستوي الذكر فيه في المتلو. ثم في الحاجة على ما عليه العرف فيه فضل، ولا قوة إلا باللَّه. والوجه الثاني: ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا تُنْكَحُ الأَمَةُ عَلَى الحُرةِ " ولو كان يجوز نكاحها عند وجود طول الحرة، لم يكن للنهي عن ذلك بعد النكاح وجه؛ إذ ليس لذلك وجود؛ لما الطول يمنع وجوده. والثالث: أن الذي به يجب النكاح ليس للوجود شرط فيه، والذي به الإمساك شرط؛ إذ قد يجوز بذمة من لا يملك شيئا ولا يمسك بمثله، ثبت أن ذلك في حق الإمساك. وبعد: لو كان يمنع بالذي ذكر، لكان جوازه بحق الضرورة، وهذا مما لا يقع به الضرورة، ثبت أن ذلك في حق الإمساك. ثم لو كان التأويل على النكاح لم يكن في ذلك تحريم النكاح على وجود طول الحرة؛ لخصال: أحدها: أن ذلك يوجب أن يكون نكاح الإماء يجوز بحق الإبدال والاضطرار، وذلك لا يحتمل حق النكاح؛ لوجوه: أحدها: أن طريق ذلك طريق إباحة ورخص، والفروج لا تحتمل الإباحات؛ بل الإباحة توجب حد المبيح وعقوبته، وتجعل كمبيح ما لا يملكه. والثاني: أن الحرمات التي كانت في جميع النكاح كانت ظاهرة لم يرتفع شيء منها لحاجات وكذا نكاح الإماء لو كان من المحرمات، بل الحكم أن كل امرأة لا تحتمل النكاح فهي لا تحل بملك اليمين، فلو قلنا: إنه لا يحل نكاحها لذاتها لم يحل في ملك اليمين، فإذ حلَّت بأن ما ذكرت، وليس كالزيادة على الأربع؛ لأن تلك الحرمة لحق المنكوحة لا لمكان المرأة، وكذلك الأخت ونحو ذلك؛ دليل ذلك جواز ذلك لا بحق

الإبدال والاضطرار، إذا عدم نكاح غيره. وبعد: فإنه لم يجعل في شيء من الحل والحرمة المال؛ بل قال - تعالى -: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا. . .) الآية؛ صير العدم شرط الترك، وله قد يفسخ، لا أنه شرط الإباحة، فكذلك أمر نكاح الإماء. والثالث: إذ الأصل في إضافة الحل والحرمة إلى حال أنه لا يوجب ضد ذلك في غير تلك الحال؛ بل هو في غيرها موقوف على قيام الدليل من ذلك المضاف إليه أو غيره، لا أنه يوجب ذلك؛ دليل ذلك أمور النكاح؛ قال اللَّه - تعالى - لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، لا أنه لو لم يؤتهن الأجور لم يحللن، وكذلك قوله - سبحانه وتعالى -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ. . .) الآية؛ لأن الحد لا يجب لو لم يحصن، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) لا على جعل الإيمان شرطا، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، لأن الأمة لا تحل إذا لم يخف العدل في الحرائر، وغير ذلك مما يكثر؛ إذ ليس في إضافة الحل إلى حال قطعه عن غيره، فمثله أمر النكاح فيما نحن فيه.

ثم احتج بعضهم بالآيات التي فيها: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ)، (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ)، لتوجيه ذلك الحق هاهنا وقد دخل جواب هذا فيما قلنا: إن الحكم في غيره موقوف على الدليل فيه منعنا لا بهذا، مع ما بينا دليل ما نحن فيه ليس بشرط؛ ألا ترى أنه ذكر شرط الإيمان في المحصنات؟! ومن لم يصر شرطًا وقد صار في الكفارات ونحو ذلك؛ فمثله ما نحن فيه. ثم الفصل بين الأمرين يقع من وجوه: أحدها: أن تلك بحق الإبدال والاضطرار؛ دليله: زوال حكمه عند الارتفاع وفي هذا إلا ألا يرتفع لنكاح الحرة؛ فلذلك اختلف الأمران، ولو جعلنا الأمر به في حال أو الإشارة بالحل إليها دليلًا على النهي عن ذلك كان نهيا عن نكاح الإماء في حال طول الحرائر؛ فلا يحتمل أن يكون النهي مبطلا للفعل لأوجه: أحدها: أن المعنى الذي له يقع النهي كان معقولاً، وبمثله لا يحتمل الفساد، وذلك يخرج على وجهين: أحدهما: أن يرق ولده. والثاني: أن تخالط امرأته الرجال، وذلك بعض ما يشين الرجل. ثم كان نكاح الزانية مع النهي عن ذلك يجوز، ومع الأمر بطلاقها ومعلوم أن ذلك أعظم في الشين؛ إذ قد ظهر به ما يخافه في المملوكة، ويصير ولده مشتوما بأمه ما هو أوخش في العقول من كل رق وعبودة ويقال له: يا ابن الزانية، وذلك -أيضًا- تلبيس النسب وشبهه، ثم لم يجب به الفساد؛ فأمر المملوكة بالأحرى. وأيضا لم يختلف على نهي الحرمة عن نكاح العبيد، وله يفرق الأولياء، ويصرف حق نسب الآباء إلى الموالى؛ إذ معلوم أن الطعن عليهن في الخلاف قبح منه عليهم، ثم لم يمنع ذلك جواز النكاح؛ فمثله ما نحن فيه. وأيضًا إن الحرمة على وجهين: حرمة لنفس المنكوحة أو الاستمتاع وحرمة لحق النكاح، وكل محرمة لذاتها فهي لا تحل بملك اليمين ولا بملك النكاح، وما كانت الحرمة بحيث النكاح تحل، فإذا كانت الأمة تحل بملك اليمين ثبت أن حرمتها ليست لنفسها ولا للاستمتاع فهي تحل بملك اليمين، بل حلها في الأصل بملك النكاح أحق؛ إذ

ليس إلا للاستمتاع، فإذا حلت به فبالأحرى أن تحل بالنكاح، ثم قد يحرم للنكاح أشخاص ألا يحر من للأموال بحال، فكذا ما نحن فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ). يحتمل وجهين: يحتمل - واللَّه أعلم -: حقيقة إيمانكم، وأنتم لا تعلمون ذلك. ويحتمل - واللَّه أعلم -: بإيمانكم، وغيره لا يعلم حقيقة ذلك. وفيه لزوم العمل بالظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ). يحتمل: بعضكم من بعض في الدِّين. ويحتمل: بعضكم من نسب بعض؛ فهذا يدل على أن بعضهم من دين بعض، ومن نسب بعض؛ فليس لبعض على بعض فضل من جهة الدِّين والنسب؛ إذ نسبهم ودينهم واحد، وليس للحرة على الأمة فضل من هذا الوجه. وفي قوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) قيل: إن قوله (أُحْصِنَّ) تزوجن، وقيل أسلمن. فكيفما كان التأويل لم يصر الإحصان شرطا في لزوم ذلك العذاب؛ لأنها إذا كانت على غير هذا الوصف لزمها ذلك الحكم؛ دل أن وجوب ذلك الحكم في حال على وصف - لا يمنع وجوب الحكم في حال أخرى على غير الوصف الذي وصف في تلك الحال، وهذا بالمخالف لنا ألزم؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ - في قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ)، أن النهي وقع على جميع المشركات: كتابيات وغير كتابيات، ثم صار الكتابيات منسوخة بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ

أُوتُوا الْكِتَابَ)، ثم قال: إذا كان له طول محصنة كتابية لم يحل له نكاح الأمة المؤمنة، وقد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الأمة المؤمنة خير من مشركة، وهو يقول: بل المشركة خير من الأمة؛ فهذا يدل على اضطراره في قوله على مذهبنا ما قلنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية، على المشركات خاصة من غير الكتابيات عندنا؛ دليله: قوله - تعالى -: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ. . .)، ذكر المشركات وذكر الكتابيات؛ دل هذا أن المشركات في هذه الآية غير الكتابيات، وقد ذكرنا الوجه في ذلك في صدر السورة ما يغني عن ذكره في هذا الموضع. فإن كان ما ذكرنا - حل له أن يتزوج كتابية محصنة كانت أو أمة، وقد أقمنا الدليل على أن ليس في ذكر الإيمان فيهن دليل جعله شرطًا في جواز نكاحهن؛ على ما لم يكن في ذكر الإيمان، في المحصنات من المؤمنات دليل جعل الإيمان فيهن شرطًا. وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ)، أي: هو أعلم بحقيقة إيمانهن وأنتم لا تعلمون حقيقته، وإن كان أثبت لنا علم الظاهر بقوله - تعالى -: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)، أمرنا بالعمل بعلم الظاهر، لا بعلم الحقيقة بقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)؛ فهذا يدل على أن الإيمان هو عمل القلب، لا عمل اللسان؛ لأنه لو كان عمل اللسان لكان يعلم حقيقته كل أحد؛ فظهر أنه ما وصفنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) قيل فيه وجوه: بعضكم من بعض في الولايات في الدِّين، كقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). وقيل: بعضهم من بعض في النسب؛ إذ كل منهم من أولاد آدم. ويحتمل: بعضكم من بعض قبل الإسلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ)

أي: بإذن ساداتهن؛ سفى السادات أهلا لهن؛ دل أنهن من أهلهم. وفيه أن للمرأة أن تزوج نفسها إذا أذن لها وليها؛ الأن اللَّه - تعالى -، قال (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) فلو كان أهلهن هم الذين يُنكحونهن - لم يكن لطلب الإذن معنى. وفيه أن للمرأة ولاية النكاح؛ لأنه قال: (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ)، والمرأة إذا كانت لها جارية، لها أن تزوج من غيره، وهذا في النساء أولى لأن الرجل إذا كانت له جارية - يستمتع بها ولا يزوجها من غيره، والمرأة إذا كانت لها جارية هي التي احتاجت إلى تزويج جاريتها؛ لذلك كان في هذا أولى. وفيه أن ليس للعبد ولا للأمة أن يتزوج إلا بإذن السيد، وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أَيمَا عَبدٍ تَزَوجَ بِغَيرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ ". وقال بعض أهل العلم: قوله: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) إذا كن مؤمنات؛ على ما سبق من ذكر الإيمان بقوله: (مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ) لكن هذا وإن كان نهيًا عن نكاح الإماء إذا كن غير مؤمنات لم يدل ذلك على فساد نكاحهن إذا كن غير مؤمنات؛ ألا ترى أن النساء نُهِينَ عن تزويج أنفسهن من العبيد، وذلك مما يشينهن، ثم لم يمنع ذلك النهي عن التزويج منهم؛ فعلى ذلك لا يمنع شرط الإيمان فيهن والنهي عن نكاحهن - فساد النكاح ولا بطلانه، وكذلك الرجل نهي أن يتزوج كتابية حرة وهو واجد الحرة المؤمنة. ثم مع ما نهى عن نكاحها - إذا فعل ذلك جاز النكاح، فعلى ذلك الأول. وكذلك قوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ)، ذكر الصلاح فيهم، ثم إذا كانوا على غير ذلك الوصف جاز؛ فكذلك الأول. وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) ذكر الإحصان فيهن، ثم لم يصر الإحصان فيهن شرطًا في جواز النكاح؛ لأنهن إذا كن

غير محصنات يجوز نكاحهن؛ فعلى ذلك الأول، ولو كان الطَّوْل والقدرة مما يمنع جواز نكاح الإماء -وجواز نكاح الإماء بمعنى البدل- لكان إذا تزوج أمة ولم يكن له طول على نكاح الحرة في ذلك الوقت، ثم كان الطول على نكاح الحرة - يجيء أن يفسد النكاح؛ لأنه إذا منع الابتداء يمنع القرار في ملكه؛ فإذا لم يمنع دل أنه ليس على حكم البدل؛ إذ الأبدال ألا قرار لها ولا ثبات، عند وجود الأصول؛ دل أنه ليس عنه؛ ولكن على الاختيار والتأديب ألا يختار نكاح الإماء على الحرائر والمسافحات على المحصنات، ولا يختار المشركات على المؤمنات. فَإِنْ قِيلَ: إنكم تمنعون من نكاح الأمة على الحرة، ثم لا تفسخون نكاح الأمة إذا كانت عنده أمة فتزوج حرة. قيل له: إنما يمنع عن نكاح الأمة على الحرة لحق حرمة الجمع: كالجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، فأما إذا لم يكن ثَمَّ جمع لا يمنع، وهذا ليس بجمع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) بإذن أهلهن على ما ذكر الإذن في النكاح بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ). ويحتمل -أيضًا- أن يؤتى أجرها وإن لم يأذن له مولاها، إذا كانت الجارية ممن يحفظ مال سيدها ويتعاهده؛ إذ الناس يشترون المماليك لحفظ أموالهم وصون أملاكهم، نحو ما جاء من الوعيد عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُّكُم رَاعٍ، وَكُلُّكُم مَشئُولٌ عَنْ رَعيتهِ، حَتى العَبد عَنْ مَالِ سَيدِهِ ". فإذا كان ما وصفنا - لا بأس بأن يدفع الأجر والمهر إليها إذا كانت هي ممن تحفظ ماله وتصونه. ثم من الناس من استدل بقوله: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) على حقيقة الملك للمماليك، ويبيح لهم التمتع بالجواري، وبقوله - تعالى أيضًا -: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ

عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، لو لم يملكوهم حقيقة الملك - لم يكن لوعد الغنى لهم معنى؛ لأنه لا يقع لهم الغنى أبدا، وكانوا لا يملكون؛ دل أنهم يملكون حقيقة الملك وأما عندنا فإنهم لا يملكون حقيقة الملك؛ استدلالا بقوله - تعالى -: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ)، أخبر أن ليس لهم فيما رزقهم شركاء مما ملكت أيمانهم؛ دل أنهم لا يملكون حقيقة الملك. فإن قالوا: أليس يملكون التمتع في النكاح إذا ملكوا ما منع -أيضًا- أن يملكوا رقاب الأشياء إذا ملكوا؟ قيل: إن السادات لا يملكون من المماليك رقبة ما يتمتع به بالأسر؛ ألا ترى أن السيدة لا تملك من عبدها التمتع به؛ دل أن ملك ذلك للعبد خاصة؛ لذلك ملك ملك التمتع في النكاح. وأمَّا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، بغناء ساداتهم؛ إذ مقدار ما يطعمون ويشربون مما جعل لهم الانتفاع به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ما ذكرنا من الإذن من أهلهن، أو لما جعل النهي حفظ الأموال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِالْمَعْرُوفِ) قيل: مهر غير مهر البغي، وقيل: هو المعلوم. وقوله - تعالى -: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) وقد ذكرناه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) قيل: فإذا أسلمن. وقيل: (فَإِذَا أُحْصِنَّ): فإذا تزوجن. ويحتمل: (فَإِذَا أُحْصِنَّ): فإذا بلغن مبلغ النساء. وقيل: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) أي: عففن، وتأويله - واللَّه أعلم -: ما ذكره في أول

الآية. وقوله: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)، أنهن إذا تركن للتعفف، ولم يكرههن على البغي - فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب؛ فهن الحرائر؛ لأن عذاب المتزوجة إذا دخل بها زوجها - الرجمُ، ولا نصف للرجم، وإنما حد الأمة الجلد؛ فلا يجوز أن يكون المحصنات في هذا الموضع ذات الأزواج؛ لأن عذاب ذات الأزواج الرجم، ولا نصف له؛ دل أنه أراد بالإحصان: الإسلام. ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسعيد بن جبير، وجماعة من أهل العلم: أن لا حد على الأمة حتى تتزوج. وأما عندنا: فإن عليها الحد؛ لما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بجلد الأمة إذا زنت وإن لم تنزوج؛ فذلك حجة لقول من قال: إحصانها إسلامها، وهو ما رُويَ عن أبي هريرة، وزيد بن خالد، وشبل - رضوان اللَّه عليهم - قالوا: كنا عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسأله رجل عن الأمة تزني قبل أن تحصن؟ قال: " اجْلِدْهَا؛ فَإِنْ زَنَتْ فَاجْلِدْهَا. . . " ثم قال في الثالثة أو الرابعة: " فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ ". هذ الخبر يدل على أن الأمة إذا زنت تجلد وإن لم تتزوج. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي: وإن تصبروا ولا تتزوجوا الإماء فهو خير لكم؛ لأن أولادكم يصيرون عبيذا؛ فهذا يدل اعى أن قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) - كله على الاختيار، ليس على الحكم ألا يختار، ولا على أنه إذا فعل لا يجوز. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يحتمل وجهين:

(26)

يحتمل: (غَفُورٌ رَحِيمٌ)؛ حيث كفر عنكم ما ارتكبتم في الدنيا بالعذاب الذي يقام عليكم، ولم يجعل عذابكم في الآخرة؛ إذ عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، وذلك من رحمته. ويحتمل: (غَفُورٌ رَحِيمٌ) من رحمته أن يجعل الحدود في الدنيا زواجر عن العود إلى ارتكاب مثله من الأفعال. * * * قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) يحتمل قوله: يريد اللَّه أن يبين لكم ما تؤتون وما تنفقون، وما لكم وما عليكم، ويبين ما به صلاحكم ومعاشكم في أمر دينكم ودنياكم، لكن حقيقة المراد بالآية: إما أن يكون أراد جميع ما ذكر، أو معنى خاصا مما احتمله الكلام، وليس لنا القطع على ما أراد به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يحتمل وجوهًا: أي: يبين لكم سبيل الذين من قبلكم، أي: سبيل الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأهل الهدى والطاعة منهم؛ ليعلموا ما عملوا هم وينتهوا عما انتهوا، وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ): سبل الذين من قبلكم. ويحتمل: قوله: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: أمر الرسالة والنبوة؛ ليهديكم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو رسول؛ إذ أمر الرسالة والنبوة ليس ببديع، قد كان في الأمم السالفة رسل وأنبياء - عليهم السلام - فأمر رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته ليس ببديع ولا حادث؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ). ويحتمل قوله: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: يبين لكم أن كيف كان سنته في الذبن خلوا من قبل في إهلاك من عاند اللَّه ورسوله، واستئصال من استأصلهم بتكذيب

الرسل والأنبياء - عليهم السلام - والخلاف لهم؛ كقوله - تعالى -: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ)، وقوله - تعالى -: (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ). وقيل: (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) شرائع الذين من قبلكم من المحرمات والمحللات: من أهل التوراة، والإنجيل، والزبور، وسائر الكتب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتوُبَ عَليكُم) أي: يريد أن يتوب عليكم. وفي قوله - تعالى -أيضًا-: (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يحتمل: يهديكم تلك السنن، أي: يبينها لكم أنها كانت ماذا؟ ويحتمل: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) بمعنى: جعل تلك السنن هداية لكم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ قَبْلِكُمْ) يحتمل: سنته وسيرته في الذين من قبلكم؛ لتعتبروا بها. ويحتمل: سنتهم التي لزموها، وسيرتهم التي سلكوها بما لها من العواقب؛ لتتعظوا بها، واللَّه أعلم بحقيقة ما انصرف إليه مراد الآية، لكن فيما احتمله، فهاهنا موعظة بيناها فيه، وعلى ذلك معنى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) يحتمل: كل ما به لنا نفع، أو كل ما بنا إليه حاجة، أو كل ما علينا القيام به، أو يرجع ذلك إلى الخاص مما يريد بالآية الإخبار عنه، وأن الذي علينا النظر فيما قد يفضل البيان عنه، وفيما أنبأنا عن سنته فيمن تقدمنا مما نرجو به الهداية والشفاء؛ للقيام بما علينا في ذلك من الحق دون الشهادة عليه - جل ثناؤه - بالمراد فيها في مخرج الكناية دون التصريح من الموعود. وقوله - تعالى -: (لِيُبَيِّنَ) وأن يبين في مفهوم الخطاب فيما جرى به الذكر في هذه الآية واحد؛ إذ لو كان ذكر " أن " لسبق إلى الفهم غير الذي سبق في هذا على حق العباد من التفاهم، واللَّه أعلم. ثم كان معلومًا فيما أراد بقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ) أنه لو لم يبين ما أراد بهذا الوعد ولم يهد - أنه كان يلحقه الخلف في الوعد؛ فعلى ذلك فيمن قال: يريد اللَّه أن يتوب عليكم، ويريد اللَّه أن يخفف عنكم: لو لم يكن يخفف ويتوب على من أريد بقوله: يتوب ويخفف عنكم - يلحقه الخلف في الوعد، ثم يخالف وصف كافر في حال

(27)

أنه ممن تاب اللَّه عليه؛ ثبت أنه لم يدخل في قوله - سبحانه وتعالى -: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) فإذا ثبت أنه لم يدخل فيه وجب فيه أمران: أحدهما: أن الإرادة ليست بأمر؛ إذ قد أمر الكافر بالتوبة. والثاني: أن كل من لم يتب فهو ممن لم يرد اللَّه أن يتوب عليه، وهو في قوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ)، على أن اللَّه - تعالى - قال في المؤمنين: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)، وقال في الكفار: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ)، على التفريق بين الذي في علمه أن يختم مؤمنا، ومن في علمه أن يختم كافرا، على أن إرادة الهداية مع إرادة ألا يجعل له الحظ في الآخرة على الموعود - خلف، وإرادة من لا تدبير له في فعله، ولا يتصل به فعله - تمنٍّ في متعارف الأمر وتشهٍّ، ولا يجوز أن يضاف إلى اللَّه - تعالى - الإرادة من هذا الوجه؛ فكان له حق الإرادة وهي التي يوصف بها من فعله الاختيار ثبت أن لله - تعالى - في فعل العباد فعلا: بحيث فعله يوصف بالإرادة، وفي ذلك وجوب القول بخلق أفعال العباد. أو أن يكون المراد من تلك الإرادة - إذا لم تحتمل التمني، ولا الأمر - أن تكون الإرادة التي تنفي القهر والغلبة؛ فيلزم إذا ثبت نفي القهر - الوصفُ بالإرادة، وثبت أنه مريد لكل فعل نفي عنه القهر في وجوده، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ) بما يؤتي وينفي، عليم بما به معاشكم وصلاحكم، وما به فسادكم وفساد معاشكم، ونحوه. (حَكِيمٌ) وضع كل شيء موضعه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ... (27)

قالت المعتزلة: قد أراد اللَّه - تعالى - توبة من لا يتوب؛ فيقال لهم: ما التوبة

(28)

عندكم؟ أليس عندكم التوبة: التجاوز والدعاء؟ فإذا وعد أن يتوب ولم يفعل - فهل ترك ذلك لا بعجز أو ذلك إلا لعجز أو بداء به، أو ذلك الوصف له بالعجز أو الجهل، فنعوذ باللَّه من الزيغ عن الحق، والسرف في القول. وأما تأويله عندنا: واللَّه يريد أن يتوب عليكم في الذي علمه أنهم يتوبون، أو كان ذلك إخبارًا عن قوم أراد اللَّه أن يتوب عليهم فتابوا. وقال قوم: قوله: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي: يأمر أن يتوبوا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ) الآية. أي: من اختار الدنيا على الدِّين، والأولى على الآخرة؛ لهوى يتبعه، وشهوة تغلبه، لا لتقصير من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن البيان؛ بل لتركهم النظر والتأمل بالعواقب غلبت عليهم شهواتهم، واتبعوا أهواء أنفسهم: إما رياسة طلبوها، وإما سعة في الدنيا بغوها؛ فذلك الذي يمنعهم عن النظر في العاقبة، والتأمل في الآخرة؛ لذلك مالوا ميلا عظيمًا، وخسروا خسرانًا مبينًا، وضلوا ضلالاً بعيدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ... (28) يحتمل هذا: أنه خفف علينا، ولم يحمل ما حمل على الأمم السالفة من الإصر والشدائد والأثقال والمشقات، مما جعل

(29)

توبتهم قتلَ بعضهم بعضًا، وجعل توبتنا الندامة بالقلب، والرجوع عما ارتكبوا. أو أن يقال: خفف عنا؛ حيث لم يستأصلنا، ولم يهلكنا بالخلاف له وترك الطاعة، على ما استأصل أُولَئِكَ وأهلكهم. ويحتمل التخفيف عنا -أيضًا-: وهو ما خفف علينا من إقامة العبادات والطاعات، من نحو: الحج، والجهاد، وغيره، حتى جعل القيام بذلك أخف على الإنسان وأيسر من قيامه بأخف العبادات أوالطاعات، وأيسرها، وذلك من تخفيف اللَّه علينا وتيسيره؛ فضلا منه ورحمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) يحتمل: أن يكون أراد به الكافر؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا)، وكقوله - تعالى -: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا)، وقد قيل: كل موضع ذكر فيه الإنسان فهو في كافر من ضعفه يضيق صدره، ويمل نفسه بطول الترك في النعم حتى يضجر فيها. ويحتمل: أنه أراد به الكافر والمسلم، ووضعُه في ابتداء حاله أنه كان ضعيفًا؛ كقوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ). ويحتمل وصفه بالضعف له؛ لأنه ضعيف في نفسه، يمل من الطاعات والعبادات التي جعل اللَّه عليه، ليس كالملائكة؛ حيث وصفهم أنهم لا يفترون ولايستحسرون، (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)، ولا كذلك بنو آدم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ

تَكُونَ تِجَارَةً) الظاهر في الثنيا أنه من غير جنس المستثنى؛ لأنه استثنى التجارة عن تراضٍ من أكل المال بالباطل بينهم، وأكل المال بالباطل ليس من جنس التجارة، ولا التجارة من نوع أكل المال بالباطل، والثنيا في الأصل جعل تحصيل المراد في المجمل من اللفظ؛ فإذا لم يكن من نوعه كيف جاز؟! لكنه يحتمل - واللَّه أعلم - أن يكون على الابتداء والائتناف؛ كأنه قال: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولكن كلوا بتجارة عن تراض منكم؛ وعلى ذلك يخرج قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)، استثنى السلام، والسلام ليس من جنس اللغو، لكن معناه ما ذكرنا: لا يسمعون فيها لغوًا، ولكن يسمعون فيها سلامًا. ويحتمل أن يكون في الثنيا بيان تخصيص المراد في المطلق من الكلام؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ)، دل استثناؤه آل لوط على أنه أراد بقوم مجرمين قوم لوط خاصة؛ لأنه قد كان في قوم إبراهيم - عليه السلام - وفي غيرهم أقوام مجرمين؛ دل الثنيا على مراد الخصوص؛ فعلى ذلك يدل استثناؤه التجارة عن تراض منهم - على أنه أراد بأكل المال بالباطل تجارة عن غير تراض، وإن كان -في الحقيقة- يصير مال هذا بمال هذا، وهو أن يأخذ مال غيره فيتلفه؛ فيلزمه بدله؛ فيصير ما عوض من بدله بما أتلفه قصاصًا؛ فهو -في الحقيقة- تجارة. أو يحتمل: أن يكون أكل المال بالباطل بينهم ما لا يجوز ولا يطيب؛ لأن حرف البين لا يستعمل إلا فيما كان البدل من الجانبين؛ فإذا كان ما وصفنا محتملا - كان الثنيا من ذلك من وجه يطيب، ومن وجه لا يجوز ولا يطيب. وفيه دليل: أن التجارة هي جعل الشيء له ببدل، وترك الشيء بالشيء؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى)، ذكر الشرى ولم يكن منهم إلا ترك الهدى بالكفر، ثم سمى ذلك تجارة بقوله - تعالى -: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ). وفيه دلالة: أن البيع يتم بوقوع التراضي بين المتبايعين، وليس كما قال قوم: لا يتم البيع وإن تراضيا على ذلك حتى يتفرقا عن المكان؛ فكانوا تاركين - عندنا - لظاهر هذه الآية، فإن احتجوا بالخبر الذي روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الْمُتَبَايِعَانِ بِالخيَارِ مَا لَم

يتَفْرَّقَا " - لكن معناه عندنا: أن يقول الرجل للرجل: بعتك عبدي بكذا، فلصاحبه أن يقول: قبلت البيع، ما دام في مجلسه. أو يحتمل: أن يكون إذا قال: بعتك، كان له الرجوع قبل أن يقول الآخر: قبلت. على أن قوله - عليه السلام -: " مَا لَم يتَفْرَّقَا "، لا يوجب أن يكون تفرقًا عن المكان وتفرق الأبدان؛ ألا ترى أن اللَّه - سبحانه وتعالى - قال: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)، ولا يفهم المعنى من ذلك تفرق المكان والأبدان؛ ولكن وقع ذلك على القول والطلاق. على أن في الآية بيان تمام البيع بوجود التراضي بقوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ). ومما يدل على ذلك -أيضًا-: قوله - تعالى -: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)، فلو كان البيع لا يتم بالتراضي؛ فمتى يشهد: قبل التفرق أو بعد التفرق؟ إن أشهد قبل التفرق، فهل المقر صادق في أن لصاحبه عليه الثمن أو كاذب؟ إذ كان البيع لم يتم، وما ينفعه الإشهاد إن كان للمقر أن يبطل إقراره برد السلعة. وإن كان إنما يشهد بعد التفرق فقد يجوز أن يتلف المال بالتفرق قبل الإشهاد؛ فأين التحصين الذي أمر اللَّه تعالى؟! ومما يدل على تأويلنا في الخبر: ما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الْبَيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرقَا مِنَ بَيعِهِمَا، أَوْ يَكُونُ بَيّنَهُمَا خِيَارٌ "، وما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الْبَيعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرقَا، وَلَا يَحِل لِأَحَدٍ أَنْ يُعَجلَ فِرَاقَهُ خشية أَنْ يَستَقيلَهُ ". وقوله: " يستقيله " يدل على أن ليس له أن يرده إلا بأن يقيله صاحبه؛ ويدل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَالَم يَتَفْرقَا مِنْ بَيعِهِمَا " - على أن التفرق هو الفراغ من عقد البيع لا غيره. ومما يدل على أن الخيار ليس بواجب: قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن البيع عن صفقة أو خيار؛ فكان موافقًا لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: دل قوله - تعالى -: (لَا تَأكُلُوا. . .) إلى قوله: (تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) - على الإذن في الأكل إذا وجدت التجارة عن تراض من الناس، والتجارة معروفة عند جميع من له عقل، ومعروف أن تفرق

المتعاقدين بعد الفراغ من العقد لم يعرف -فيما هو عند الخلق- تجارة، ولكن التفرق بانقضاء ما له الاجتماع والفراغ منه بما ليس من معاقدة العقلاء الوقوف في مكان بلا حاجة؛ فليس التفرق مما يحتمل أن يظنه حكيم أو سفيه من التجارة، وقد أذن في الأكل، والأكل عبارة عن الأخذ وأكل أنواع المنافع بالباطل؛ فثبت أن قد ملك بالفراغ عن التجارة بغير الرضا، وأيد ذلك قوله: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) والتبايع الذي عليه الإشهاد هو التعاقد، لا التفرق، ومن البعيد أن يكلفوا الإشهاد على التبايع قبل وجوب الواجب من الحق الذي عليه الإشهاد؛ فثبت بذلك وجوب ما جعل البائع بوجوبه دون التفرق؛ وإذن ثبت الذي ذكرنا من أحكام القرآن مع الكفاية بالأمر الذي لا يجوز شذوذ حق لا يسلم عنه بشر عن علم جميع البشر، وكل أهل التبايع به يتعارفون الحق بينهم بالفراغ من العقود، ولا يجوز شذوذ العلم بحق ذلك محله؛ فيكون اتفاق الخلق على الجهل بالاعتقاد في أمر يعرفه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم أئمة الهدى، لا ينتهون عن ذلك، واللَّه أعلم. فإذا لزم ذا الولاء المروي من الخيار: أن كل متبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، حمل الخبر على ما فيه بعض العلم بحق القرآن، وما عليه أمر الخلق على اتساع لغير ذلك الوجه، بل لعله بغيره أولى، ثم يخرج على وجوه: على إضمار: حُقَّ على المتبايعين أن يكونا كذلك في حق الجعل، لا في حق العبادة عن واجب؛ دليله رواية عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه عنه - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " البَيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَم يتَفْرقَا ". أو لا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه؛ خشية أن يستقيله؛ ثبت أن المعنى بالخيار في حق الجعل لو طلب - كالفسخ في الاستقالة، واللَّه أعلم. والثاني: أن يريد به: ما داما في التبايع؛ دليل ذلك احتمال اللفظ في قوله - سبحانه -: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)، والإشهاد على التبايع، والتبايع هو فعل اثنين، وقد ثبت منهما مع الفراغ - الإشهاد على التبايع، وهذا أحق بوجوه:

أحدها: حق اللغة أنه اسم التفاعل، وهو اسم لفعلهما؛ فيستحقان ذلك في وقت كونهما فيه: كالتضارب، والتقاتل، ونحو ذلك، وبعد الفراغ التسمية تكون بحق الحكاية دون تحقيق الفعل. والثاني: بما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " البَيعَانِ بِالْخِيارِ مَا لَمْ يَتَفَرقَا مِنْ بَيْعِهِمَا، وَبَيْعُهُمَا مَعْرُوفْ "، واللَّه أعلم. والثالث: متفق القول من أهل العقل على رؤية وجوب البيع دون التفرق عن المكان، واللَّه أعلم. والرابع: أن يجعل ذلك الحد لإصلاح البياعات أنهما ما لم يتفرقا يملكان الاصطلاح، وإذا تفرقا لا، وهو أولى؛ إذ قد جعل التفرق التام شرطًا للفساد ومنع الإصلاح، وقد كان في بعض العقود مما يصلح بالقبض؛ فهو على الوجود قبل التفرق، ثم لا يصلح إذا وجد التفرق؛ فمثله مما كان الصلاح بالقول في الإصلاح؛ وعلى ذلك إذا قال أحد للآخر: اختر - انقطع خياره لو كان تفرقا من القول، وليس فيه زيادة على ما في قوله: بعت منك، في حق الإصلاح؛ فثبت أن التفرق لقطع الإصلاح، لا للإصلاح - واللَّه أعلم - قوله: إن للناس عرفًا في التبايع من وجهين: أحدهما: في التعاقد. والثاني: في التقابض؛ فيكون المعنى من الخبر فيما البيع عن تقابض، وهو بيع المداومة إذا ترك كل واحد منهما الآخر يفارقه على ما سلم وقبض كان ذلك بينهما، وجاز ذلك -أيضًا- بحق الآية في الإباحة عن تراض، واسم التجارة قد يقع على تبادل ليس فيه قول البيع؛ كقوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ)، وذلك مع قوله - سبحانه وتعالى -: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)، وفي ذلك أن البيع الموقوف إذا أجيز يباح الأكل؛ لما كان وقت الأكل قد وجدت التجارة عن تراض، وفي ذلك دليل وجوب خيار الرؤية؛ إذ قد جعل الرضا سببًا، وهو بما يجهل غير محق، وإنَّمَا يعلم بالرؤية. وفيه أنه بالقبض يمضي حق العقد؛ إذ التجارة للأكل، ولا يوصل إليه إلا بالقبض، فإذا فات، فات ما له التجارة؛ فيبطل، واللَّه أعلم. وفي قوله -أيضًا-: " تبايعا " وإن كان اسما لفعل اثنين، فلما يتصل صحة كلام كل

(30)

واحد منهما إذا كان الآخو حاضرا؛ فكأنهما اشتركا في صحته؛ فصارا به متبايعين، نحو قوله: حتى يتفرقا، والتفرق اسم لفعل اثنين، لكن أحدهما إذا فارق مكان البيع والآخر لم يفارقه - فقد وجد حق التفرق من أن ليس أحدهما بجنب الآخر؛ فكأنهما اشتركا في التفرق وإن لم يوجد الفعل من أحدهما، واللَّه أعلم. وقوله - جل وعز -: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يحتمل وجهين: أي: لا يقتل بعضكم بعضًا؛ فإنه إذا قتل آخر يقتل به؛ فكأنه هو الذي قتل نفسه؛ إذ لولا قتله إياه وإلا لم يقتل به. والثاني: أنه أضاف القتل إلى أنفسهم؛ لأنهم كلهم كنفس واحدة؛ إذ كلهم من جنس واحد، ومن جوهر واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) أي: من رحمته: أن جعل لكم فيما بينكم القصاص، وأخذ النفس بالنفس، والمال بالمال، وفي ذلك حياة أنفسكم، وإبقاء أموالكم. ومن رحمته -أيضًا-: أن جعلكم من جوهر واحد؛ إذ كل ذي جوهر يألف بجوهره، ويسكن إليه، واللَّه أعلم. ومن رحمته: أرسل إليكم الرسل، وأنزل عليكم الكتب، وأوضح لكم السبل. ومن رحمته: أن أمهل لكم، وستر عليكم، ودعاكم إلى المتاب. ومن رحمته: دفع عنكم الآفات، وأوسع لكم الرزق، وبالمؤمنين خاصة برحمته اهتدوا، وسلموا عن كل داء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا ... (30) عدوانًا لمجاوزته حدود اللَّه، وظلمًا على صاحبه. والعدوان هو التعدي والمجاوزة عن حدود اللَّه؛ كقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ). ويحتمل قوله: (وظلمًا) على نفسه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ

(31)

ظَلَمَ نَفْسَهُ)، وقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، وقوله - تعالى -: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). وهذا الوعيد - واللَّه أعلم - لما يفعل ذلك مستخفا بحدود اللَّه واستحلالا منه لذلك؛ وإلا لو كان ذلك على غير وجه الاستخفاف بها والاستحلال لها - لم يستوجب هذا الوعيد؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) إنما جاء هذا في قتلى العمد، ثم أبقى الأخوة فيما بينهما، وأخبر أن ذلك تخفيف منه ورحمة، وفيما كان الفعل منه فعل الاستخفاف والاستحلال لا يجوز أن يكون فيه منه رحمة، ويخلد في النار؛ وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى -: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)، إذا قتله مستحلا له مستخفا بتحريم اللَّه إياه؛ فاستوجب هذا الوعيد، وأما من فعل على غير الاستحلال والاستخفاف بحدوده فالحكم فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى، أيضًا -: (عُدْوَانًا وَظُلْمًا) يحتمل: الاستحلال؛ دليله قوله - عز وجل -: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) ثم قال - عز وحل -: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، وقال: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) فأبقى الأخوة التي كانت بقوله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؛ فثبت أن الأيمان بعدُ باق فأبقى له الرحمة والأخوة، وهاهنا زال؛ لذلك افترقت الآيتان. والثاني: أنه وعد اختلافهم، ولم يذكر الخلود، وجائز تعذيبه في الحكمة والتنازع في الخلود لا غير. والأصل في هذا ونحوه: أنه لم يتنازع أن يكون فعله الذي فيه الوعيد إن كان ثَمَّ خلود، فهو الذي يزيل عنه اسم الإيمان، ويبطل عنه حق فعله، وإنما التنازع في إبقاء اسم الإيمان في لزوم الوعيد؛ فهي فيمن لم يبق له الاسم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ... (31) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: كبائر الشرك؛ لأن كبائر الشرك أنواع، منها: الإشراك باللَّه، ومنها جحود الأنبياء صلى اللَّه عليهم وسلم، ومنها: الجحود ببعض الرسل، عليهم السلام، ومنها: جحود العبادات، واستحلال المحرمات، وتحريم المحللات، وغير ذلك، وكل ذلك

شرك باللَّه. فقيل أراد بالكبائر كبائر الشرك، فإذا اجتنب كبائر الشرك صارت ما دونها موعودا لها المغفرة بالمشيئة بقوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) وعد المغفرة لما دون الشرك، وقرنها بمشيئته؛ فهو في مشيئة اللَّه - تعالى -: إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، وباللَّه التوفيق. وقيل: أراد بالكبائر كبائر الإسلام. ثم يحتمل وجهين بعد هذا: يحتمل: أن تكون الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر. ويحتمل: أن تكون الصغائر مغفورة بالحسنات؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)، والتكفير إنما يكون بالحسنات؛ ألا ترى أنه قال: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، أخبر أن من السيئات ما يذهبها الحسنات. ويحتمل: أن يكون التكفير لها جميعًا وإن لم تجتنب؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)؛ ألا ترى أنه روي عن أنس - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " شَفَاعَتِي نَائِلَة لِأَهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتي ". وروي عن عليٍّ أبن أبي طالب، - رضي اللَّه عنه - أنه سمع امرأة تدعو: اللَّهُمَّ

اجعلني من أهل شفاعة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " مَهْ! فَقُولي: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الفَائِزِينَ؛ فَإِنَ شَفَاعَةَ مُحَمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الكَبَائِرِ " ثم قرأ: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. . .) الآية. ثم اختلف في كيفية الكبائر وماهيتها: فقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أوجب الحد فهو كبيرة: من نحو الزنا، والسرقة، والقذف، وغير ذلك. وقال آخرون: الإشراك باللَّه، وقتل النفس التي حرم اللَّه بغير حقها، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقول البهتان، والفرار من الزحف. وروي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن ذلك؛ فقال: " من أول السور إلى هنا من المحرمات، فهو من الكبائر.

وروي أنه قيل لابن عَبَّاسٍ: إن عبد اللَّه بن عمر، يقول: الكبائر تسع. فقال، ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: هن إلى التسعين أقرب، ولكن لا كبيرة مع توبة، ولا صغيرة مع إصرار. وروي عن الحسن قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَا تَقُولُونَ فِي الزنَا وَالسرِقَةِ وَشُربِ الْخَمْرِ؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: " هُنَّ فَوَاحِشُ، وَفِيهِنَّ عُقُوبَة " ثم قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا أُنْبَئُكُم بِأكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: " الْإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ " قال: وكان متكئًا فجلس، ثم قال: " أَلَا وَقَوْلُ الزورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُورِ " قاله ثلاثًا. وقوله - تعالى -: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) ذكر تكفير السيئات إذا اجتنب الكبائر، ولم يذكر الحكم إذا لم يجتنبها؛ فليس فيه أنه إذا لم يجتنب لا يكفر، فهو في مشيئة اللَّه: إن شاء [غفر] (¬1)، وإن شاء عذَّب؛ على ما ذكرنا: أن وجوب الحكم لا يوجب إيجاب ذلك الحكم في حال أخرى، حظرًا كان أو إحلالا، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) في الكتاب المطبوع هكذا [كفر] ولعل الصواب ما أثبتاه يؤيده ما بعده (عذَّب)، أو تكون [كفَّر] بتشديد الفاء. واللَّه أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).

(32)

ويقرأ في بعض القراءات: (إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه) (1) فإن ثبت هذا فهو يدل على التأويل الذي ذكرنا آنفًا: أنه أراد بالكبائر كبائر الشرك، واللَّه أعلم. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) قيل: الجنة. * * * قوله تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) الآية. قيل: لا يتمنى الرجل مال أخيه، ولا امرأته، ولا داره، ولا شيئا من الذي له؛ ولكن ليقل: اللهُمَّ ارزقني، تذكر النوع الذي رغبت؛ فاللَّه واجد ذلك، وهو الواسع العليم. وقيل: هو كذلك في التوراة. وقيل: إن أم سلمة قالت: يا رسول اللَّه، يغزو الرجال ولا نغزو، ويذكر الرجال ولا نذكر؛ فنزلت الآية: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ) إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ). ويحتمل: أن يكون هذا التمني في الديانة وفي الدنيا: أما في الديانة: هو أن يتمنى أحد أن يكون قدره مثل قدر آخر عند الناس من العلم، والزهد، وغير ذلك؛ فنهي أن يتمنى ذلك؛ إذ لم يبلغ هو ذلك المبلغ إلا باحتمال المكاره

والمشقة والجهد. وفي الدنيوية: هو أن يتمنى مال: أخيه، وزوجته، وخدمه. ويحتمل: أن يكون معنى التمني: ما ذكر في خبر أم سلمة؛ لأن في ذلك الكفران بنعم اللَّه؛ لأن النساء -وإن لم يُجْعَل عليهن القتال وغيره من الخيرات- رفع عنهن بعض المؤُنات؛ ففي التمني الكفرانُ بتلك النعم التي أنعم اللَّه - تعالى - عليهن. وفي قوله -أيضًا-: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ)، أي: الذي فضل اللَّه بعضكم على بعض؛ فهو - واللَّه أعلم - لما فيه السخط بحكمه، يريد الصرف إليه، أو لما فيه أنه إنما قصر فضله على ما رأى وألا يسع فضله له وللذي فضله، ولما النظر إلى ما أكرم به غيره بحق التمني -يلهى عن نعم اللَّه- تعالى عليه، أو لما يخرج ذلك مخرج العداوة، وحق نعم اللَّه على كل أحد - أن يُعرف التعظيم له، وكذلك قيل: فضلت على غيرك؛ لترحمه وتتفضل عليه؛ للتعظيم، والتمني أوخش من الحسد؛ لأن الحسد هو إرادة الصرف عنه، وفي التمني ذلك وإرادة الفضل له به عليه. (وَاسْأَلُوا اللَّهَ) - سبحانه وتعالى - (مِنْ فَضْلِهِ)، وكان فضله في الحقيقة هو ما له ألا يبذل، وذلك يخرج على فضل في الدِّين، أو فضل في الخلق والمروءة، فأما فيما يرجع إلى نعم الدنيا مما لا يسثعمله في أحد ذينك الوجهين - فهو في الظاهر نعمة، وفي الحقيقة بلية ومحنة؛ قال اللَّه - سبحانه وتعالى -: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ)، الآية، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. . .). وجائز أن تكون الآية في النهي، مع ما مكنوا من النعم ووفقوا للخيرات: فإن كان لما وفقوا للخيرات - فحق ذلك أن يشكر لله؛ بما أكرم به من حسنات، ويرغب في التوفيق لمثله. وإن كان في أمر النعم - فحقه أن يعينه بالدعاء؛ لتكون النعمة له نعمة، لا بلية

(33)

ونقمة، وترغب فيما يقربك إلى اللَّه في عاقبة. وقد ذكرنا أن أم سلمة تمنت بعض ما يقوم به الرجال من العبادات: نحو الجهاد وأشكاله؛ فنزل النهي عن ذلك، والترغيب في فضله في نوع ما تحتمل هي من الخيرات، دون الذي يفضل عليهن بالرفع عنهن، واللَّه أعلم. وفي قوله -أيضًا-: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ. . .) الآية - يحتمل أن يكون على ما خاطب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقوله - تعالى -: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ. . .)، الآية؛ فأخبر أن الذي أُعطي - لم يعط للكرامة؛ ولكن ليفتنهم به، والعقل يأبى الرغبة فيما يفتن به دون ما يكرم به، ثم بيَّن الذي هو أولى بالمشتهي من التمني، فقال: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) فرغب فيما له، وأمر بالسؤال من فضله؛ إذ لا يكون كسبه له إلا بفضله: كقوله - سبحانه وتعالى -: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا)، ثم قال اللَّه - عز وجل -: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا)، [فبين أن كسبه عليه إلا بفضل الله]، وبين أن الأولى به الإقبال على ما له عاقبته، والتضرع إلى اللَّه - تعالى - بالإكرام دون الذي عليه في ذلك؛ خوف المقت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) مِثْلَهُ؛ فإن فضله واسع، ولا يتمنى مال أخيه وداره. أو اسألوا اللَّه - تعالى - العبادة، ولا تتمن ألا يكون لأخيك ذلك، ويكون لك، ثم أخبر أن ما يكون للرجال إنما يكون بالاكتساب، وما يكون للنساء يكون بالاكتساب، يكون لكل ما اكتسب من الأجر وغيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ (33) احتمل هذا - واللَّه أعلم - أن يكون معطوفًا، مردودًا إلى قوله - سبحانه وتعالى -: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ) الآية، ذكر - هاهنا - ما يرث الرجال والنساء من الوالدين والأقربين، ولم يذكر ما يرث الوالدان من الأولاد والأقربون بعضهم من بعض: من نحو العم، وابن العم، وغيرهم من القرابات؛ فذكر - هاهنا - ليعلم أن للمولى من الميراث مما ترك الوالدان والأقربون ما لأُولَئِكَ من الوالدين والأقربين إذا لم يكن أُولَئِكَ أن جعل لهَؤُلَاءِ ما جعل لأُولَئِكَ، ولم يذكر -أيضًا- ما للوالدين من

الأولاد في قوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ. . .) الآية، ولكن ذكر في آية الوصية في قوله - تعالى -: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ)، ذكر الوصية للوالدين والأقربين؛ ولم يذكر للأولاد - واللَّه أعلم - أن الرجل قد يؤثر ولده على نفسه، وعلى غيرهم من الأقرباء، ولا كذلك الولد للوالد؛ فذكر الوصية للوالدين والأقربين لهذا المعنى؛ ليصل إليهم المعروف، وأمّا الأولاد فإنهم لا يؤثرون عليهم غيرهم؛ لذلك لم يذكرهم، واللَّه أعلم. وقيل في قوله: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا) أي: بينا، فيكون فيها بيان ما في الأولى من المواريث. ثم قيل في الموالي: إنهم هم العصبة، وقيل: هم أولياء الأب، أو الأخ، أو ابن الأخ، وغيرهم من العصبة. وقيل: هي الورثة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، وكله واحد. وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَنا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ، مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً فَمَالُهُ لَمَوالي العَصَبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً أَوْ ضيَاعًا فَأَنا وَليُّهُ؛ فَلَا دُعَاءَ لَهُ ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلْحِقُوا المَالَ بِالْفَرَائِضِ،

فَمَا أبْقَتِ السهَامُ فَلأِوْلَى رَجُل ذَكَرٍ ". وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " مَا أَحْرَزَ الوَالِدُ أَوْ الَوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ ". وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب: إذا كانت العصبة بعضهم أقرب بأم - فهم أحق بالمال. وأجمع أهل العلم على أن أهل السهام إذا استوفوا سهامهم وبقي من المال شيء - أنه لعصبة الميت، وهم الرجال من قرابته من قبل أبيه ومواليه، وأنه لا يكون أحد من النساء عصبة إلا الأخوات من الأب والأم، أو من الأب مع البنات، والمرأة المعتقة؛ فإن هاتين عصبة، وأجمعوا أن كل من اتصلت قرابته من قبل النساء بالميت فليس بعصبة، وأن المرأة إذا أعتقت عبدًا أو أمة فإنها عصبة المعتق بعد موت أمه، إلا ابن مسعود - رضي الله عنه - فإنه يجعل لذوي الأرحام دون الموالي. وأجمعوا أنه إذا اجتمع عصبتان فأقربهما أولى، وأقرب العصبة الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأب، ثم الجد وإن علا، والأخ من الأب والأم، ثم الأخ من الأب، ثم ابن الأخ من الأب والأم، ثم ابن الأخ من الأب، ثم العم من الأب والأم، ثم العم من الأب، ثم ابن العم من الأب والأم، ثم ابن العم من الأب، ثم مولى النعمة، ثم ابن مولى النعمة وإن سفل، فهَؤُلَاءِ كلهم عصبة الميت، وأقربهم أولاهم بما فضل من المال عن أصحاب السهام المذكور سهامهم، هو - واللَّه أعلم - موافق لما ذكرنا من دليل الآية والسنة، وما تواتر من الروايات عن الصحابة، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين. وفي قوله: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ)، يحتمل: ولكل من

الموالي جعلنا؛ على إضمار " نصيب " أو " حق " فيما ترك الوالدان والأقربون؛ فيكون تأويله قوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ)، فيكونون هم مواليه بحق الميراث على تأويل أنهم أولى بما تركوا، وعلى مثله قوله: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا)، ووليه من يلحقه في ملكه؛ يفسره قوله - تعالى -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ)، وجميع آيات المواريث، إلا أنه لم يذكر للوالدين في هذه الجملة ولا للزوجين، ولا يدخلون في اسم القرابة، ولا في اسم الأولاد وقد جاء بالإيجاب لهم الكتاب وأجمعت عليه الأمة على غير دعوى النسخ فيه من أحد؛ ليعلم أن التخصيص بالذكر فالحق لا يقطع حق غير، لكنه يكون الأمر موقوفًا على وجود دليله، واللَّه أعلم. على أن في الإيجاب للأقربين وللموالي كفاية عن ذكر من ذكر؛ إذ بهم تكون كل القرابة، وبالتناكح يكون النسل، وهو المجعول لذلك، وكذلك لا يسقط حق هَؤُلَاءِ بحال ولا يحجبون عن الكل بأحد، وقد جرى ذكر حقهم فيما نسخته هذه الآية من الوصية، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله - تعالى -: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) مَنْ يرجع الموالى إلى الذين ورثوه من تركة الأبوين والأقربين يجيز أن قد تجري المواريث فيما قد ورث نحو ما تجري فيما لم يكن ورث مرة؛ فرجع ذا إلى غير أولاد الأول وأقرباء الأول، أو أن يكون المقصود فيما ترك الوالدان والأقربون بما ذكر في أيهم نصيبًا مفروضًا أن يكون هذا فيما ترك الوالدان والأقربون مع أصحاب الفرائض؛ فتكون هذه الآية في بيان حق العصبات؛ إذ لم يذكر لهم دون أن يكون معهم أصحاب الفرائض يرثون بحق السهام، لا بحق الفضول؛ فتكون عمل الآيات في المواريث ثلاث: أحدها: في أصحاب الفرائض، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا). والثاني: حق في العصبات، وهو قوله - تعالى -: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ. . .) الآية. والثالث: في حق ذوي الأرحام، وهو قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ. . .)

ثم ألحق بهَؤُلَاءِ في حجاب الأبعدين - أهلَ العقد بقوله - عز وجل -: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) وإنما ذكر ذلك فيما يترك الميت، ولا وجه للعون والرفد منه أو النصر، مع ما ذكر نصيبهم في التركة، كما ذكر لأصحاب الفرائض، وعلى ذلك المرفوع لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيمن أسلم على يدي آخر أنه أحق الناس محياه ومماته، وكذلك روي عن عمر وعلي وعبد اللَّه مع ما كانت المواريث بهذا من قبل، فنسخ بقوله - تعالى -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)، فإذا ارتفع ذلك ذهب التناسخ فوجب لهم؛ إذ بيت المال يرث بولاية الإيمان جملة، ولهذا تلك الولاية وولاية أخرى؛ فهو أحق، واللَّه أعلم. ويخلف هَؤُلَاءِ من له رحم كما خلف ولاء العتاقة بما تقدم من النعمة بالإعتاق - حق العصبة من ذي النسب بقوله - عليه السلام -: " الولاء لحمة كلحمة النسب ". قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ). قيل: هو من الأيمان كان حلفٌ في الجاهلية يقول الرجل لآخر: ترثني وأرثك، وتعقل عني وأعقل عنك، وتنصرني وأنصرك. ويتحالفان على ذلك. وقد قرئ بالألف " عاقدت " فهو من المحالفة. ثم روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا حِلْفَ فِي الإسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ حَلَفٍ فِي الجَاهِليةِ لمْ يَزِدهُ الإسْلَامُ إِلَّا شِدةٌ "

وقيل: هو من ضرب اليمين في اليمين، وهو المبايعة؛ كان الرجل يعاقد الرجل ويبايعه في الجاهلية، فيموت؛ فيرثه. وقيل: إن أبا بكر - رضي اللَّه عنه - عاقد رجلا، فمات؛ فورثه؛ ولذلك خص المماليك بالذكر بهذا من قوله - تعالى -: (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) لأنهم يشترون للخدمة، والمرء إذا خدم نفسه إنما يخدمها بيمينه، فإذا كان تأويل الآية ما ذكروا، فهو منسوخ بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) وبما روينا من الخبر من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا حِلْفَ فِي الإسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ حَلَفٍ فِي الجَاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " ويحتمل أن تكون الآية فيمن أسلم على يدي آخر ووالاه؛ على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْل الكُفْرِ عَلَى يَدَي رَجُلٍ مِنَ الْمُسلِمِينَ فَهُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ ". وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا سأل عن رجل أسلم على يد رجل ويواليه؟ قال: هو مولاه؛ فإن أبى فلبيت المال. وروي عن مسروق قال: أتيت عبد اللَّه فقلت: إن رجلا كان عاملا علينا فخرج إلى الجبل، فمات، وترك ثلاثمائة درهم؟ فقال عبد اللَّه: هل ترك وارثًا أو لأحد منكم عليه عقد ولاء؟ قلت: لا؛ فجعل ماله لبيت المال. وكذا يقول أصحابنا - رحمهم اللَّه -: من مات وترك وارثًا فماله لوارثه، وإن لم يكن له وارث فللذي أسلم على يديه ووالاه؛ لما روينا من الخبر: " هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ "، وقوله: " محياه " في العقل، و " مماته " في الميراث، وما روينا عن الصحابة، رضوان اللَّه عليهم أجمعين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) قيل: هي الوصية إلى

(34)

تمام الثلث؛ لأن الميراث قد نسخ بالآية التي في الأحزاب بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) ثم قال: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا)، فهي الوصية إلى تمام الثلث؛ فإذا كانت الآية في الذي أسلم على يديه ووالاه وعاقده فهو ليس بمنسوخ. وقيل: (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من النصر والمعونة والمشورة، ولا ميراث. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) بما ذكر من الشرط والوفاء به، وباللَّه التوفيق. * * * قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) قال أهل التأويل: الآية نزلت في الأزواج؛ دليله قوله - تعالى -: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) والأزواج هم المأخوذون بنفقة أزواجهم، وفيه دليل وجوب نفقة المرأة على زوجها، وعلى ذلك إجماع أهل العلم. وقال بعض أهل العلم في قوله - تعالى -: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) - دليل ألا يجوز النكاح إلا بالولي، حيث أخبر أنهم القوامون عليهن دونهن. قيل له: إن كانت الآية في الأزواج وفي الأولياء على ما ذكرت ففيه دليل جواز النكاح بغير ولي لا بطلانه، وذلك قوله - تعالى -: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ

بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أخبر أنه فضل بعضهم على بعض، وذلك التفضيل تفضيل خلقة، وهو أن جعل الرجال من أهل المكاسب والتجارات، والقيام بأنواع الحرف، والتقلب في البلدان والمدائن، والنساء ليس كذلك؛ بل جعلهن ضعفاء عاجزات عن القيام بالمكاسب والحرف والتقلب في حاجاتهن؛ فالرجال هم القوامون عليهن. وَالُونَ أمورهن، وقاضون حوائجهن، قائمون على ذلك، ففرض على الرجال القيام بمصالحهن كما ذكرنا مع ما فرض ذلك على الرجال، يجوز إذا ولين بأنفسهن وقمن بحوائجهن من البياعات، والأشرية، وغير ذلك؛ فعلى ذلك النكاح، وإن كان الرجال هم القوَّام عليهن، فإنهن إذا ولين ذلك بأنفسهن وقمن - جاز ذلك كما جاز غيره، وكذا ما أمر الأولياء بالتزويج في قوله - تعالى -: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ. . .) الآية، ونهاهم عن العضل عن النكاح بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ. . .) الآية؛ لأن ذلك حق عليهم أن يفعلوا حتى يلين ذلك بأنفسهن؛ إذ لا بد من حضور مشهد الرجال ومجلسهم ليشهدوا على ذلك، فذلك على الأولياء القيام به. وكهذا ما جعل نفقتهن إذا لم يكن لهن مال على محارمهن؛ لأنهن لا يقمن بالمكاسب وأنواع الحرف والتجارات، والرجال يقومون، فجعل مؤنتهن عليهم؛ لضعفهن وعجزهن عن القيام بالمكاسب خلقة؛ ولهذا ما لم يجعل للذكور من المحارم بعضهم

على بعض النفقة؛ لما يقومون بالمكاسب؛ فإذا صار زَمِنًا وعجز عن المكاسب جعل نفقته على محارمه؛ لأنه صار في الخلقة كالمرأة، واللَّه أعلم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) قال: أمراء عليهن أن تطيعه فيما أمر اللَّه به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهلها، حافظة لماله، وفضله عليها بنفقته وسعته. وقيل: نزلت الآية في رجل لطم امرأته لطمة في وجهها؛ فنشزت عن فراش زوجها، واستعدت إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول اللَّه، لطمني زوجي فلان لطمة، وهذا أثر يده في وجهي؛ فقال لها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اقْتَصِّي مِنْهُ "، وكان القصاص بينهم يومئذٍ بين الرجال والنساء في اللطمة والشجة والضربة، ثم أبصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جبريل - عليه السلام - ينزل؛ فقال لها: " كُفي حَتى أَنْظُرَ مَا جَاءَ بِهِ جِبرِيْلُ فِي أَمْرِكِ "، فأتاه بهذه الآية: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أي: المسلّطون على آداب النساء في الحق. وقيل: تفضيلهم عليهن بالعقل والميراث، وفي الفيء، واللَّه أعلم. ثم قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَرَدْنَا أَمْرًا وَأَرَادَ اللهُ أَمْرًا، وَالذِي أَرَادَ اللهُ خَيرٌ مِمَّا أَرَدْنَا ". وقيل في قوله - تعالى -: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ): بما ساقوا من المهر

والنفقة. استدل الشافعي - رحمه اللَّه - بقوله - تعالى -:، (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ. . .) الآية، على أن النكاح لا يجوز إلا بالولي، فصرف تأويل الآية إليهم، وفيها: (وَبِمَا أَنفَقُوا) فيلزم الأولياء النفقة، وهو لا يقول به. وبعد: فإن الآية لو كانت في الأولياء فهو في كل أمر لهن إليهم حاجة؛ فيخرج ذلك مخرج الحق لهن في أن يتولوا لهن العقود كلها، ويقوموا في كفايتهن وكفالتهن، لا أنهن لو قمن بأنفسهن يبطل فعلهن؛ فمثله أمر النكاح. وأهل التأويل يحملون الآية على الأزواج، ومن تدبر الآية علم أنها فيما قال أهل التأويل دون الذي ذهب إليه الشافعي، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ). عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (قَانِتَاتٌ) يعني: مطيعات، والقانت: هو المطيع. ويحتمل: مطيعات لله تعالى: ويحتمل: مطيعات للأزواج. ويحتمل: (قَانِتَاتٌ) أي: قائمات بأداء ما فرض اللَّه عليهن من حقوقه وحقوق أز وا جهن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ). قيل: حافظات لما استودعهن اللَّه من حقه، وحافظات للغيب لغيب أزواجهن. وقيل: حافظات لأنفسهن -لغيبة أزواجهن- في فروجهن. ويحتمل: (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ) أي: لله في أموره ونواهيه، والقيام بحقوقه، وقانتات

وحافظات هو تفسير صالحات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) اختلف في تلاوته وتأويله؛ في حرف بعضهم بالنصب (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) وتأويله: بحفظ اللَّه، لكنه نصب لسقوط حرف الخفض، ومن رفعه جعل تأويله: بما استحفظهن اللَّه تعالى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ). قال بعض أهل الأدب: سمي العلم خوفًا؛ لأنه اضطر في العلم. وقال آخر -وهو الفراء-: الخائف: الظان؛ لأنه يرجو ويخاف. وأما الأصل في أنه سمي العلم خوفا؛ لغلبة شدة الخوف؛ فيعمل عمل العلم بالشيء على غير حقيقته؛ لأنه يعرف بالاجتهاد، وبأكثر الرأي والظن، وهكذا كل ما كان سبيل معرفته الاجتهاد - فإن غالب الظن وأكبر الرأي يعمل عمل اليقين في الحكم ديان لم يكن هنالك حقيقة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى -: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)، وألزمنا العمل بظاهر علمنا وإن لم نصل إلى حقيقة إيمانهن؛ فعلى ذلك إذا علم منها النشوز علم أكثر الظن وأغلبه يعمل عمل الذي ذكر في الآية من العظة وغيرها؛ لأن قوله - تعالى -: (تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) ليس على وجود النشوز منها للحال حقيقة؛ ولكن على غالب الظن؛ لأنها إذا كانت ناشزة كيف يعظها؛ وكيف يهجرها ويضربها؛ فدل أنه على غالب العلم؛ أولا ترى أنه من أكره على أن ينطق بكلام الكفر بقتل أو ضرب يخاف منه التلف - كان في حل وسعة أن ينطق به بعد أن يكون قلبه مطمئنا بالإيمان، وذلك إنما يعلم علم غالب الظن، وأكبر الرأي لا يعلم علم حقيقة، ثم أبيح له أن يعمل عمل حقيقة العلم؛ فكذلك الأول - واللَّه أعلم - نهى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - المرأة عن عصيان زوجها، وأمرها بطاعته في نفسها، كما أمره أن يحسن عشرتها، وهذا هو - والله أعلم - هو الحق الذي ذكره اللَّه - تعالى - في سورة البقرة مجملا بقوله - تعالى -: (وَلَهُنَّ .

مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وفسر الحق عليهن في هذه السورة وهو أن تطيعه في نفسها، وتحفظ غيبته؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا). وروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " حَق الزوجِ عَلَى امْرَأَتِهِ إنْ دَعَاهَا وَهِي عَلَى قَتَبٍ أَنْ تُطِيعَهُ ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعِظُوهُنَّ) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: عظوهن بكتاب اللَّه (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) أي رجعن إلى الفراش والطاعة، وإلا فاهجروهن، والهجران ألا يجامعها، ولا يضاجعها على فراشه، ويوليها الظهر، فإن قبلت وإلا فقد أذن اللَّه لك أن تضربها ضربًا غير مبرِّح، ولا تكسر لها عظمًا، فإن قبلت وإلا فقد حل لك منها الفداء. ويحتمل قوله - تعالى -: (فَعِظُوهُنَّ): يقول لها: كوني من الصالحات، ومن القانتات، ومن الحافظاتْ، ولا تكوني من كذا، على الرفق واللين؛ فإن هي تركت ذلك وإلا فاهجرها، والهجران يحتمل وجهين: يحتمل التخويف على الاعتزال منها، وترك المضاجعة والجماع. ويحتمل: أن يهجرها ولا يجامعها، لا على التخويف من ترك ذلك؛ فإن هي تركت ذلك وإلا ضربها عند ذلك الضرب الذي ذكرنا غير مبرِّح، ولا شائن، واللَّه أعلم. على الترتيب: يعظها أولا بما ذكرنا من الرفق بها واللين لعلها تطيعه وتترك ذلك، ثم إذا لم تطعه خوفها بالهجران؛ فلعل قلبها لا يحتمل الهجران وترك المضاجعة؛ فتطيعه؛ فإن هي أبت ذلك حينئذ هجرها، ولم يجامعها ولا يضاجعها؛ فإن هي أطاعته وإلا عند ذلك ضربها؛ فإن هي أطاعته وإلا فعند ذلك يرفعان إلى الحاكم، وهذا يجب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يعظه على الرفق واللين أولا، ولا يغلظه في القول؛ فإن هو قبل ذلك وإلا عند ذلك غلظ القول به؛ فإن قبل ذلك وإلا بسط يده فيه على ما أمر اللَّه - سبحانه وتعالى - الأزواج أن تعامل النساء من العظة، ثم الهجران، ثم الضرب، ثم الرفع إلى الحكمين.

وروي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللهِ "؛ فترك الناس ضربهن، فجاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: واللَّه لقد دبر النساء يا رسول اللَّه؛ فأمر بضربهن، قال: فأطاف بآل مُحَمَّد النساء كثيرًا يشتكين أزواجهن، فلما أصبح رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَقَدْ أَطَافَ الليلَةَ بآلِ مُحَمدٍ سَبعُونَ امْرَأَةً يَشْتَكِينَ الضربَ، واللهَ مَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خَيَارَكُمْ "، وقال: " خَيرُكُم خَيرُكُم لِأَهْلِهِ، وَأنا خَيرُكُم لِأَهْلي " وقال: " أَحْسَنُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأهْلِهِ ". قال: والموعظة كلام يلين القلوب القاسية، ويرغب الطبائع النافرة؛ فيكون ذلك تذكير عواقب الأمور ومبادئ الأحوال، واللَّه أعلم. وعلى ذلك يعظها زوجها بأن يذكرها نعم الربِّ - جل جلاله - وما جعل من الحق عليها، وما وعد في ذلك وأوعد.

ففي هذه الآيات دلالة لزوم الاجتهاد وتكليف ما لا يوصل إلى معرفة المكلف به إلا بالتدبر والعرض على الأمور المعتادة أو الأسباب المعقولة في جعلها أسبابًا للمصلحة، وسبلا للوقوف على ما في أصول تلك النوازل من الحكمة، ولا قوة إلا باللَّه. ثم جعل تأديبهن إلى الأزواج، لا إلى الأئمة؛ إذ عقوبة الأئمة تكون بالضرب أو الحبس وما يلحقها من المكروه فيما له أمر بالتأديب مع ما في ذلك من الستر، ويكون الغالب منه ما لا يجد لسبيل الإظهار عند الحاكم، ويكون في أوقات تضيق عن احتمال ذلك، ويكون ذلك أصلا لتأديب كل كافلِ أحدٍ من الأيتام والصغائر، وغير ذلك، والله أعلم. والأصل: أن اللَّه - تعالى - قال: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، فجعل التأديب من الوجه الذي فيه حفظ المجعول لنا - آية، ورعاية ما جعل بينهم من المودة والرحمة، والمنازعات والخصومات إلى الحكام يقطع تلك؛ فجعل لهم من ذلك قدر ما لا يقطع مثله من التأديب المعنى المجعول بينهم؛ ولذلك لم تأذن بالضرب المبرح، ولا أذن إلا عند انقطاع الحيل التي جعلت للألفة والمحبة، على أن في خفيف ذلك إظهار الإشفاق على ما اعترض من خوف انقطاع المودة والرحمة، وإبداء العتاب الذي هو آية النصح والرحمة؛ إذ ذلك مما يخاف في ترك ذلك تمام ما قد افتتح من السر والشفقة، واللَّه أعلم. وقيل في قوله - تعالى -: (وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ): بما ساقوا من المهر والنفقة. وقوله - تعالى -: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ)

يحتمل وجهين: أحدهما: أن يهجرها في حال مضاجعته إياها في ألا يكلمها، لا أن يترك مضاجعتها؛ إذ المضاجعة حق بينهما عليه في تركها ما عليها، لا يؤذيها بما يضر حقه ونفسه، والله أعلم. ويحتمل قوله: أي اهجروهن عن المضاجع ومضاجعة أخرى في حقها؛ فيكون حقها عليه في حال الموافقة وحفظ حدود اللَّه بينهما، لا في حال التضييع، واللَّه أعلم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يهجرها في ألا يجامعها، ولا يضاجعها على فراشه، ويوليها الظهر، لكنه على هذا يشتركان في التأديب؛ لأنه به يؤدب نفسه في ذلك إلى حاجته، لكن المعنى من ذلك ألا يجامعها لوقت علمه بشهوتها وحاجتها، وإنما ينظر شهوته دونها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) إن أطعنكم، أي: لا تطلبوا عليهن عللا. وقيل: لا تكلفوهن الحبَّ، وإنما جعل اللَّه الموعظة والهجران والضرر في المضاجع. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: فإن أطاعته فلا سبيل له عليها. ثم الضرب هو ما ذكرنا أنه يضربها ضربًا غير مبرح، وهو ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " عَلِّقْ سَوْطَكَ - أَوْ ضَعْ حَيثُ يَرَاهُ أَهْلُكَ، وَلَا تَضْرِبْهَا بِهِ "، قيل: وبم نضرب؟ قال: بنعليك ضربًا غير مبرح، يعني: غير مؤثر ولا شائن.

(35)

ويروى في خبر آخر: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنكُم أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَإِنَّ لَكُم عَلَيهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فِرَاشَكُم أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَربًا غَيرَ مُبَرِّح، وَلَهُنَّ عَلَيكُم رِزْقُهُن وَكُسوَتُهُن بِالْمَعْرُوفِ ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) هذا - واللَّه أعلم - تذكير من اللَّه عباده، وأمر منه إياهم: أنه مع علوه وسلطانه وعظمته وجلاله وقدرته، لا يؤاخذنا بأول عصيان نعصيه، ولا بأول عثرة نعثرها، مع قدرته على الأخذ على ذلك وإهلاكه إياهم، فأنتم لا تؤاخذوهن -أيضًا- بأول معصية يعصين فيكم، واللَّه أعلم. ويحتمل: ذكر هذه الآية وهو كذلك؛ ليذكر علوه وكبره؛ فيحفظ حده فيما جعل له من التأديب، ويذكر قدرته عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا (35)

كأن هذه المخاطبة - واللَّه أعلم - لغير الأزواج؛ لأنه قال: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) ولو كانت المخاطبة في ذلك للأزواج، لقال: فإن " خافا شقاق بينهما "، أو " إن خفتم شقاق بينكم ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ) الآية، خاطب بذلك الأزواج؛ لأنه قال: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) وذلك إلى الزوج؛ إذ للزوج إذا خاف نشوز امرأته أن يعظها أولا، فإن قبلت وإلا فبعد ذلك هجرها، ثم يضربها إن لم تقبل ذلك؛ فإن لم ينفع ذلك كله فبعد ذلك رفع الأمر إلى الحاكم أو الإمام فوجه الحكمين. وروي نحو ذلك عن عليٍّ بن أبي طالب - رضي اللَّه عنه - قال: يُبعَثُ الحكمان: حكمٌ من أهله وحكمٌ من أهلها، فيقول الحكم من أهلها: يا فلان، ما تنقم من زوجتك؟ فإذا قال: أنقم منها كذا وكذا، يقول: أرأيت إن نزعت عما تكره إلى ما تحب هل أنت تتقي اللَّه وتعاشرها بما يحق عليك من نفقتها وكسوتها؟ فإذا قال: نعم، قال الحكم من أهله: يا فلانة، ما تنقمين من زوجك؟ فإذا قالت: أنقم منه كذا وكذا، فيقول: مثل ذلك؛ فإن قالت: نعم، جمع اللَّه بينهما بالحكمين، بهما يجمع اللَّه، وبهما يفرق. ثم اختلف في الحكمين: هل يفرقان بينهما؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يفرقان بينهما إن شاءا، وإن شاءا جمعاهما. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين، فقيل لنا: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما. وأما عندنا: فإنهما لا يفرقان إلا برضا الزوجين؛ دليلنا ما روي أن رجلا وامرأته أتيا عليًّا - رضي اللَّه عنه - مع كل واحد منهما فئام من الناس؛ فقال علي - رضي الله عنه - ما شأن هذين؟ قالوا: بينهما شقاق، قال علي - رضي اللَّه عنه -: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، إن يريدا إصلاحًا يوفق اللَّه بينهما، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا

فرقتما، قالت المرأة: رضيت بكتاب اللَّه، قال الرجل: أما الفرقة فلا؛ فقال على - رضي اللَّه عنه -: كذبت، واللَّه لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت. أخبر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن فرقة الحكمين إنما تجب برضا الزوجين، فلو كانت فرقتهما تجوز بغير رضا الزوجين - لم ينظر إلى سخط الزوج في الفرقة، ولقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للحكمين: فرقا إن رأيتما ذلك، كره الزوج أو رضي. وفي قوله -أيضًا- (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) أي: علمتم؛ إذ حق ذلك أن يجتهد في الحال بينهما فيعلم على الغالب، وللغالب حق العلم في الأعمال، وحق الريب في الشهادة، فذكر باسم الخوف على ما فيه من علم العمل، على أن في ظاهر الآية التفرق في المنزل حتى يبعث عن أهل كل واحد منهما ولو كانا في منزل واحد، فحقه أن يجمع بين الحكمين، لا أن يبعثا بذلك؛ يدل على ظهور الخلاف والشقاق، واللَّه أعلم. قال: وأمر الحكمين بالإصلاح بين الزوجين، وهو الأمر الذي أمر بين جميع المؤمنين من قوله: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)، وقوله: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)، الآية، وقوله: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ) الآية، وذلك في حق التأليف وما به تمام الأخوة بقوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، لا بما يضر به أهله، ويوجب التفريق بينهم والتباغض، وعلى ذلك أمر الحكمين في النكاح، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا): هما الحكمان. وعن مجاهد مثله. وقال آخرون: قوله: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا): هما الزوجان. وفي الآية دليل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (إِنْ يُرِيدَا

إِصْلَاحًا) وليس فيها دليل أن فرقتهما جائزة بشيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ). يدل على أن الخلع إليهما دون الحكمين، وكان الحكمين يُوَجَّهَانِ؛ ليعرف مَنِ الظالم من الزوجين؟ يُستَظْهَرُ بهما على الظالم؛ لأن كل واحد منهما إذا شكى بين الناس من صاحبه - لا يعرف الظالم منهما من غير الظالم، فإن كان الزوج هو الظالم أُخِذَ على يده، وقيل: لا يحل لك أن تفعل هذا لتختلع منك، وأُمِرَ بالإنفاق عليها، وإن كانت هي الظالمة وكانت في غير منزله ناشزة - لم يؤمر بالإنفاق عليها، وقيل له: قد حلت الفدية، وكان في أخذها معذورًا بما ظهر للحكمين من نشوز المرأة، واللَّه الموفق. وفي قوله -أيضًا-: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا) لا يخلو من أمرين: إما أن يريد به الزوجين، أو الحكمين. ثم الإصلاح يكون مرة بالجمع، ومرة بالتفريق؛ فعلى الجمع تأويل التوفيق: الجمع بينهما، وعلى إرادة التفريق تأويله: التوفيق للإصلاح، وعلى التوفيق للإصلاح يدخل فيه الأمران، وفي ذلك أن الفرقة والاجتماع إليهما؛ إذ عليهما إرادة الإصلاح، وانصرف معنى الآية إلى الزوجين، وأيد ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا. . .)، إلى قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا. . .) الآية. ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. . .) الآية. فعلى ما ظهر منه النشوز صرف أمر التفرق إلى الزوجين، وكذلك قوله - تعالى -: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ. . .) إلى قوله - تعالى -: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)، فاشركهما في الابتداء الذي به الفراق، أو يريد به الحكمين؛ فيكون ذلك على الترغيب في طلب الإصلاح بينهما، وعلى إيثار العدل والصواب؛ كقوله تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. . .)، وقوله - تعالى -: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ. . .) الآية، فإذا أرادا الإصلاح يوفق اللَّه بينهما، له

وجهان: أي: بين الزوجين ببركة قيام الحكمين للَّهِ وابتغائهما الصلاح بينهما؛ فيوفق الزوجين لما له النكاح من: السكن، والرحمة، والمودة، والعفة. ويحتمل: (يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا): بين الحكمين في إصابة ما أرادا من الإصلاح. ثم العلم بإرادتهما الإصلاح لا يعلمه إلا اللَّه؛ فلا يحتمل أن يوجب لهما في الحكم التفريق، والذي جوابه وعد التوفيق لم يبين، فلذلك لم يكن لهما حق التفريق، إنما إليهما إعلام ما اتفقا عليه، ثم هما عملا لهما وعليهما، فيكون لهما الرضا بما رأيا وغير الرضا، وأصله وجهان: أحدهما: أنه استوجبا القيام بالتولية والتراضي من الزوجين أو بمن يخاف الشقاق بينهما: فإن قاما ببعث الناس، فقاما ببعث من لا يملك الفراق، فلا يستوجبان بهم ذلك، وإن قاما ببعث الزوجين فرضاؤهما بعثهما في ذلك لم يكن لهما غير الذي كان فيه الرضاء عليهما، واللَّه أعلم. والثاني: أنهما بعثا للعلم بالسبب الذي حملهما على الشقاق، ولعل السبب منهما؛ فلا يحتمل أن يلزمانه الطلاق بلا ذنب منه، فَيُمَكَّنُ به كل امرأة تريد مفارقة الزوج وإغرامه المهر، وإذا لم يحتمل ذلك لم يحتمل أن يكون لهما حق التفريق بهذا البعث مع ما بعثا لدفع الشقاق الهائج بينهما والرد إلى الصلاح الذي له كان النكاح، على أنه يمكن الأخذ على يدي الظالم منهما، والقهر على العود إلى ما فيه الصلاح بالتأديب - لم يجز أن يلزما الفراق وإن كرهاه، واللَّه أعلم. ثم الأصل: أنهما بالغان لا يلزمان النكاح إذا كرها ورأي القوم الصلاح إلى التناكح، على احتمال وجود الولايات في الأنكحة كانا ألا يلزما الطلاق إذا كرها على امتناعه عن وجوب الولايات به لغير الزوجين - أحرى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) مَنْ الظَالِمُ منهما؟ ومَنِ المظلومُ؟

(36)

وقيل: (عَلِيمًا خَبِيرًا) بنصيحتهما لهما، عليمًا بما أَسَرتِ المرأة إلى حكمها، والزوج إلى حكمه، خبيرًا بما اطلع كل واحد من الحكمين من صاحبه على ما أفشى به إليه أصدقه أم لم يصدقه؟ واللَّه أعلم. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " فأتوا حكمة من أهله وحكمة من أهلها ". * * * قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ) قيل: وَحِّدُوا اللَّه. وقيل: أطيعوا اللَّه. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) يحتمل: النهي عن الإشراك في العبادة والطاعة. ويحتمل: النهي عن الإشراك في الربوبية والألوهية. ويحتمل: النهي عن الإشراك في سلطانه، وغير ذلك؛ كل ذلك إشراك باللَّه، وباللَّه العصمة. قال بعض أهل اللغة: العبادة هي الطاعة التي معها الخضوع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: التوحيد، وأصلها: أن يجعل العبد نفسه لله عبدًا، لا يشرك فيها غيره من هوى أو ما كان من وجوه الإشراك. ثم له وجهان: أحدهما: في الاعتقاد. والثاني: في الاستعمال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أمر اللَّه - تعالى - بالإحسان إلى الوالدين، وأمر بالإحسان إلى ذي القربى،

واليتامى، والمساكين. . . إلى آخر ما ذكر، لكن المعنى الذي به أمر بالإحسان إلى هَؤُلَاءِ الأصناف والفرق مختلف: أما إحسان الوالدين: تَشَكُو لهما بما أحسنا إليه وربياه صغيرًا؛ كقوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ. . .) وقوله - تعالى -: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ. . .) الآية (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) يذكر حال صغره وضعفه أن كيف ربياه، ويشكر لهما على ذلك، ويحسن إليهما كما أحسنا إليه وربياه صغيرًا، وقال اللَّه، - عَزَّ وَجَلَّ -أيضًا-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا)، فإحسان الوالدين جزاء وتشكر لما أنعما هما عليه، وذلك يكون من جانب الولد؛ لأن مثله لا يلزم الوالدين لولده، وذلك فرض على الولد، حتى عد عقوق الوالدين من الكبائر؛ روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ باللَّهَ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ ". والواجب على الرجل أن يطيع والديه وكل واحد منهما؛ إلا أن يأمراه بمعصية، أو ينهياه عن أداء فريضة، أو تأخيرها عن وقتها، فإن طاعتهما - حينئذٍ - معصية لله، ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، أمره بمصاحبتهما بالمعروف إلا أن يأمراه بمعصية؛ ولهذا قال أصحابنا - رحمهم اللَّه -: لا ينبغي للرجل أن يقتل أباه الكافر إذا كان محاربًا؛ إلا أن يضطره الأب إلى ذلك؛ لأنه قال: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فمن المعروف في الدنيا ألا يقتله، ولا يشهر عليه السلاح. وقالوا أيضا: إن مات أحدهما تولى دفنه، وذلك من حسن الصحبة والمعروف. روي أن أبا طالب لما مات قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعليٍّ: " اذْهَبْ فَوَارِهِ ". ثم في هذه الآية تسوية بين الوالدين فيما أمر له من الإحسان إليهما، ولم يجعل للأب فضلا في ذلك على الأم؛ فذلك يدل على أن إسلام كل واحد من الأبوين إسلام للصغير؛ إذ كان الإجماع قائمًا في أن إسلام الأب إسلام لولده الصغار، وكذلك قول

رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " غَيرَ أنَّ أَبَويْهِ يُهَوِّدَانِهِ وُينَصِّرَانِهِ ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِذِي الْقُرْبَى) أمر بالإحسان إلى ذي القربي، ومعنى الأمر به - واللَّه أعلم - صلة يصل بعضهم بعضًا، وذلك من جانبين ما يلزم هذا أن يحسن إلى هذا لزم الآخر أن يحسن إليه، وذلك إبقاء للمودة فيما بينهم والمحبة، وذلك فرض -أيضًا- أن يصل بعضهم بعضا؛ لأن صلة القرابة فريضة. والأمر بالإحسان إلى اليتامى يحتمل وجهين: يحتمل: لما ليس لهم والد يقوم بكفايتهم على ما يقوم له والده، وأمر بذلك؛ لما يبر الرجل ولد آخر لمكان والديه، فإذا مات والده يمتنع عن ذلك، فأمر أن يحسنوا إليه بعد موت والده على ما كانوا يحسنون في حياته؛ لأنه في ذلك الوقت أحوج إليه؛ إذ لا شفقة لأحد عليه، وشفقة والده معدومة، واللَّه أعلم. ومعنى الأمر بالإحسان إلى المساكين يحتمل أيضا وجهين: يحتمل: شكر اللَّه على ما مَنَّ عليهم وأنعم بالإفضال على أُولَئِكَ؛ إذ لم يسبق منهم إلى اللَّه معنى يستوجبون ذلك دونهم، أمر بالإحسان إليهم؛ شكرًا لما أنعم عليهم وأحسن إليهم. والثاني: أنهم من جوهرهم وجنسهم في الخلقة؛ يحتاجون إلى ما يحتاج هَؤُلَاءِ من المأكل، والمشرب، والملبس، وغير ذلك، يأمرهم بالإحسان إليهم؛ شفقة منهم لهم؛ ليتقووا على أداء ما فرض اللَّه عليهم؛ إذ هم مثلهم في الخلقة والجوهر، واللَّه أعلم. وهذا الإحسان في اليتامى والمساكين من جانب ليس من جانبين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَابْنِ السَّبِيلِ) أمر اللَّه بالإحسان إلى ابن السبيل؛ للوجهين اللذين وصفتهما في المساكين، واللَّه أعلم. وقيل في اليتامى: إنه أمر الأوصياء بالقيام على ما لهم وحفظهم؛ رحمة لهم، وباللين لهم. وقوله: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى)

وهم ذوو قرابة، وله حقان: حق الجوار، وحق الرحم، كذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الجِيرَانُ ثَلَاثَة: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِد، وَجَار لَهُ حَقَّانِ، وَجَار لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: فَأما الذِي لَهُ حُقُوق ثَلَاثَة: حَق القَرَابَةِ، وَحَق الإسْلَامِ، وَحَق الجِوَارِ، وَالَّذِى لَهُ حَقَّانِ: حَق الإسْلَامِ، وحَق الجِوَارِ، وَالذِي لَهُ حَق وَاحِدْ هُوَ حَق الجِوَارِ خَاصَّةً ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْجَارِ الْجُنُبِ) خص اللَّه - سبحانه وتعالى - الْجَارِ الْجُنُبِ دون غيره من الجيران غير الملازقين، وكان ذلك دليلًا على أن الحقوق التي تلزم بالجوار إنما تلزم في الجيران الملازقين؛ لأنهم الجيران بالملك، يمس ملك بعضهم بعضًا، ويلصق به؛ كما في الرحم يمس أنفس بعضهم لبعض، ولهذا قال أبو حنيفة - رضي اللَّه عنه -: إنه إذا أوصى لجيرانه، فالوصية للملازقين دون غيرهم؛ لأنهم هم الذين يلزم لبعضهم على بعض حقوق يقومون بأدائها في حال حياتهم، فإذا ماتوا فأوصوا إنما أوصوا بأداء ما كان بينهم، وكذلك قال في الوصية لذوي قرابته؛ إنها لقرابته الذين يفرض عليهم صلتهم إذا كانوا أحياء، فإذا مات فأوصى فإنما يوصي بأداء ما كان يؤدي في حال حياته، وذلك مما عليه الأداء؛ وفيه دليل على أن الشفعة الواجبة للجار إنما تكون للجار الجنب الملازق دون غيره من

الجيران، وقد ذكر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حق الجار، وأمر بمسامحته. وعن ابن عمر - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَا زَالَ جِبرِيلُ يُوصِيني بالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنهُ سَيُوَرِّثُهُ " وفي بعض الأخبار: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر، فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ "، وفي بعضها: " مَا آمَنَ مَنْ أَمْسَى شَبعَانًا وَجَارهُ جَائِعٌ ". وإذا بيع بجنبه دارٌ أو أرضٌ، فله أن يأخذها بالشفعة؛ لما روي عن عمرو بن

الشريد، عن أبي رافع، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ " وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: قلت: يا رسول اللَّه، أرض ليس لأحد فيها شرك إلا الجوار؟ قال: " الجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ مَا كَانَ ". وعن رافع بن خديج قال: عَرَضَ عَلَيَّ سَعدٌ بيتًا له، فقال: خذه؛ فإني قد أعطيت به أكثر مما تعطيني؛ ولكنك أحق به؛ لأني سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " الجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ ". وعن أبي الزبير، عن جابر - رضي اللَّه عنه -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة بالجوار. وعنه -أيضًا- قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الجَارُ أَحَق بِسَقبةِ جَارِهِ إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا واحدًا يَنْتَظِرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا ". وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " يُنْتَظَرُ بِهَا وإنْ كَانَ غَائِبًا " يدل على أنه لا ينتظر بها أكثر من ذلك؛ وفي ذلك دليل على أن الشفيع إن أمسك عن طلب الشفعة، وقد علم بالبيع - بطلت شفعته، ومما يدل على ذلك -أيضًا- أن الشفعة إنما جعلت للجار - واللَّه أعلم - بما يخاف عليه من سوء جوار المشتري، والضرر الذي عسى أن يلحقه منه، فلو جعلنا الشفيع على شفعته أبدًا لم يؤمن أن يبني المشترى في الدار، وينفق فيها نفقة عظيمة، ثم يجيء الشفيع فيطلب الشفعة؛ فيقال للمشتري: سلم الدار وارفع بناءك، وفي ذلك ضرر عليه بيِّن.

وعن علي وعبد اللَّه قالا: قضى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة بالجوار. وعن شريح قال: كتب إليَّ عمر - رضي اللَّه عنه -: أن اقض للجار بالشفعة. وإلى هذا ذهب أصحابنا - رحمهم اللَّه - في إيجاب الشفعة للجار. وأنكر قوم أن تكون الشفعة إلا فيما لم يقسم من الدور والأرضين، واحتجوا في ذلك بما روي عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة قالا: " قضى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة ". وكذلك روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمثله. لكن تأويل الحديث عندنا - واللَّه أعلم -: أن قوله: " قضى بالشفعة فيما لم يقسم " قول الراوي؛ لأنه لم يحك عنه أنه قال: لا شفعة فيما قسم، فيحتمل أن يكون علم ذلك فحكاه، ولم يعلم بما روأه الآخرون بإيجاب الشفعة فيما قد قسم. وأمَّا قوله: " فإذا وقعت الحدود، فلا شفعة "، فليس فيه بيان حكاية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقد يجوز أن يكون ذلك من الراوي، أو أن قال ذلك إنما قال في القسمة، لا شفعة في القسمة عندنا. ثم قد جعل اللَّه - تعالى - للجيران بعضهم على بعض حقوقًا باتصال أملاكهم، حتى قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ دَارَهُ فَلْيَستَأذِنْ جَارَهُ " فإذا أراد البائع اختيار الجار الذي لا حق له على الجار الذي له حق، جعل له إبطال ذلك؛ إذ ليس غرضه من البيع إلا الثمن؛ وهو وقد يوجد ذلك من الجار؛ ولهذا ما توجب الشفعة في الهبات والصدقات مما يجوز أن يقصد بها أسبابا وأحوالا لا يوجد ذلك في الجار، وأما البيع فالمقصود فيه الثمن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - أيضًا: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) والْجُنُبِ: البعيد، بيّن - واللَّه أعلم - ليعلم أن الحق الذي ذكر للجار من الإحسان إليه ليس هو بحق القرابة، بل هو بحق الجوار، فأمر بالإحسان إلى من له جوار بالملك نحو ما أمر بالإحسان إلى من له جوار بالنسب، ثم كان الحق قد يفترض بجوار النسب بمال مع ما كانت الصلة مفروضة فيمن مس ملكُهُ ملكَهُ في الملك وجوبه فيما وقع التَّمَاسُّ بالبدن

في البدن. على أن الآية فيما أمر بالإحسان إلى جميع من ذكر قد يصير ذلك حقا يلزم بحال، فمثله حق الجوار، وذلك لا يعرف غير حق الشفعة، وقد جاءت به الآثار، وثوارث المسلمون في ذلك الطلب والاحتيال في الصرف والمنع؛ فبان أن الحق به ظاهر لا يحتمل الخفاء، مع ما لا يشك من القوام عن ذلك إلا وعنده حظ من العلم فيه لا يوجد مثله بشيء من الحقوق في غير أملاك المحقين، هذا البيان والظهور ثبت أن أمره كان معروفًا في الأمة حتى جرى به التوارث. ثم هذا النوع من العلم لا يحتمل انتشاره ونيله بالرأي؛ فصار كسنة ظاهرة، لها حق التواتر مع ما يستغنى عن روايته، واللَّه أعلم. ثم اعلم أن الناس على اختلافهم متفقون على وجوب حق الشفعة بحق الشرك فيما يحتمل القسمة، وأما أن يجب بحق القسمة، فيجب ذلك في كل محتمل القسمة، وذلك مما يأباه الجميع، أو يجب بما جعل من حق الجوار الذي جاء به الكتاب، وجرت به السنة، أو بما جعل من تأذي بعض الجيران ببعض، والأمر بالمعروف في الخلق من الاستخبار عن أحوال الجيران قبل تأمل الدور وتفاوت القيم باختلاف الجيران بما في ذلك من المؤن والمضار، وأي هذين كان فالشفعة واجبة بالجوار؛ لأنهما أمران لا يسلم عنهما على ثبات الجوار؛ فيجب به الشفعة مع ما أمكن الجمع بين الآثار بما لا يحتمل تسمية الشريك جارًا من حيث الشرك لوجهين: أحدهما: قوله - تعالى -: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ)، لم يجعل الأرض من حيث الأرض متجاورة حتى أثبت لها القطع؛ فأوجب بالقطع التجاور مع ما كان الجوار في اللغة اسمًا للتقارب والالتصاق، لا لتداخل معروف، ذلك عند من تأبى نفسه مكابرة المعارف. والوجه الآخر: ما لا يسمي الشركاء في عين العرصات جيرانًا، ثبت أن ذلك ليس من

أسماء الشرك؛ فلا وجه لصرف الخبر باسم الجوار إلى الشرك مع ما قد جاء ما يقطع من السؤال عن أرض ليس لأحد فيها شرك إلا الجوار أنه قال: " الجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ. . . ". ومما جاء: " الجَارُ أَحَق بِشُفْعَةِ جَارِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبَا " إذا كان طريقهما واحدًا؛ فيجب بما ذكرت صرفه عن الشريك إلى وجه يوافق خبر الجار، وله أوجه ثلاثة: أحدها: أن قوله: " قضى بالشفعة لشريك لم يقسم " غير مقابل لخبر الجوار؛ إذ هو أحق في القولين: وما روي من القول: " إِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ " فقد يحتمل أن يكون خبرًا عن هذا الفعل ألا شفعة في صرف الطريق وإظهار الحدود؛ إذ القسمة في معنى البيع في الأمور حتى منع الاقتسام في كل ما لا يحتمل التفاضل إلا بما يجوز به، فقيل: لا شفعة في هذا، واللَّه أعلم. والثاني: أن يكون إذا كان هذا فلا شفعة لهم مع من لم تقع بينهم الحدود، ولا صرفت بينهم الطرق، واللَّه أعلم. والثالث: إذا وقعت الحدود فتباينت، وصرفت الطرق فتباعدت؛ إذ فيما لم يتباينا ثم حد ليس واحد من الأمرين، وإذا احتمل خبر الشرك ما ذكرنا، ثبت أمر الشفعة بالجوار والشرك جميعًا على الترتيب، ولا قوة إلا باللَّه. ولو كان الجنب اسمه لبعيد الجيران بالنسب استحق بما كان الذي به الجوار يلتصقان، ويكون كل واحد منهما بجنب الآخر؛ إذ لا يسمى كل بعيد به، ففيه وجهان: أحدهما: الحق بالاتصال. والثاني: بيان ما به يكون الجوار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) اختلف فيه: قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هي المرأة. وقال عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه عنه - كذلك أيضًا هي المرأة.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: هو الرفيق في السفر، وكذلك قول مجاهد. فإن كان الصاحب بالجنب هو المرأة، فالأمر بالإحسان من جانب، وإن كان هو الرفيق في السفر فمن جانبين، ما يلزم هذا يلزم الآخر مثله بحق المصاحبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) يحتمل الأمر وجهين: بالإحسان إلى المماليك شكرًا لما أنعم عليهم مما جعل لهم من الخولة من جوهرهم وأمثالهم في الخلقة أذلاء تحت أيديهم يستخدمونهم ويستعملونهم في حوائجهم. أو لما هم أمثالهم في الحاجة من المطعم، والمشرب، والملبس، وهم مقهورون في أيديهم، وقد يترك الرجل النظر لمن هو مقهور في يده؛ أمر بالنظر إليهم، واللَّه أعلم. وقد جاءت الآثار في ذلك عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت عامة وصية رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ". وعن جابر بن عبد اللَّه قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوصي بالمملوك خيرًا، ويقول: " وَأَطْعِمُوهُم مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُم مِمَّا تَلْبَسُونَ ". وعن علي - رضي اللَّه عنه - قال سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيماننا.

(37)

وعن أم سلمة - رضي اللَّه عنها - قالت: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في مرضه: " الصلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم " فجعل يتكلم وما يقبض بها لسانه. وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لِلْمَملُوكِ طَعَامُهُ وَكسوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ ". وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان آخر وصية رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين حضرته الوفاة: الصلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكم "، ثم جعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يغرغر بها في صدره، ولا يفصح بها لسانه. وعن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول في المماليك: " هُم إِخْوَانُكُم، وَلَكِن اللهَ خَوَّلَهُم إِياكُم، فَأطْعِمُوهُم مِما تَأكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُم مما تَلْبَسُونَ ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) الآية. قيل: المختال: هو المتكبر. وقيل: هو من الخداع. وقيل: هو الذي يمشي مرحًا؛ وهو واحد، يتكبر على عبادة اللَّه - تعالى - أو يتكبر على عباد اللَّه - تعالى - ويخدعهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)؛ لأنه لا يحب الاختيال، وكذا في كل ما ذكر: لا يحب ذا ويحب ذا؛ كقوله: (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) والتائبين، ولا يحب الظالمين؛ لأنه يحب الطهارة والتوبة، ولا يحب الظلم ولا الكفر، فإذا لم يحب هذا، لم يحب فاعله لفعله وإذا أحب هذا، أحب فاعله لفعله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ... (37)

يحتمل أن تكون الآية تفسيرًا لما تقدم من قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) ووصف لهم؛ إذ لا يتكلم بمثله إلا عن تَقَدُّمِهِ. ويحتمل على الابتداء؛ كقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ. . .) الآية. ثم يحتمل وجوهًا: يحتمل قوله: يبخلون بما عندهم من الأموال، ويأمرون الناس به، وهكذا دأب كل بخيل أنه يبخل ويأمر به غيره. ويحتمل: يبخلون بما عندهم من العلوم والأحكام، لم يُعَلِّمُوا غيرهم، ويأمرون الناس بذلك. ويحتمل قوله: يبخلون بإظهار نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويأمرون الناس به؛ ألا ترى أنه قال: (وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي: يكتمون نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته. ويحتمل قوله: (وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي: يكتمون، من العلوم والحكمة. ويحتمل: ما ذكرنا: أنهم يكتمون ويبخلون بما آتاهم اللَّه من فضله من الأموال، ولا ينفقونها، وفي ترك الإنفاق والتصدق كتمان ما أنعم اللَّه عليهم، وعلى ذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ أَتَاهُ اللهُ نِعْمَة فَلْتُرَى عَلَيهِ " لعله أراد بقوله: " تُرَى عَلَيهِ " أن ينفقها على نفسه ويتصدق بها ويلبسها. وجائز أن يكون أراد - واللَّه أعلم - الإنفاق والتصدق على غيرهم، فعلى ذلك كتمان ما آتاهم اللَّه من الأموال إذا تركوا الإنفاق على غيرهم؛ لأن من كانت له الأموال لا يترك الإنفاق على نفسه.

(38)

وقيل في قوله: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) نزلت في كعب بن الأشرف كتم نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكتب إلى الرؤساء من اليهود في الآفاق يأمرهم بكتمانه. وأيضًا، في قوله: (يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ): أي: بما أنعم اللَّه عليهم من الأموال، أو بما بين لهم من صفات الرسول - عليه أفضل الصلوات - أو بما أمروا به من العبادات، حملهم على الكفر أحد هذه الأوجه الثلاثة؛ أو كانوا استحلوا أحدها، فكفروا بذلك، لزمهم الذي ذكر في القرآن، واللَّه أعلم. وكتمانهم يرجع إلى كتمان النعت والحقوق والعبادات في أنفسهم؛ لئلا يعرفوا بالعدول عليهم عما في كتبهم، وذلك تحريفهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) ظاهر، قد ذكرناه في غير موضع. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ. . .) الآية: أي، سرا وقيل: إنها نزلت في المنافقين: كانوا ينفقون مراءاة، ويصلون مراءاة كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين بذلك، وكانوا لا يؤمنون باللَّه ولا باليوم الآخر سرًّا. وقيل: إنها نزلت في الذين يسعون في معاداة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويخرجون معه ينفقون أموالهم مراءاة للناس، يطلبون بذلك الرياسة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) يحتمل أن يكون هذا في الدنيا كقوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ. . .) الآية

(39)

ويحتمل في الآخرة؛ كقوله - تعالى -: (فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)، فهذا - واللَّه أعلم - لأن كلّا منهم كان يقبح الشيطان ويأنف عنه، ويحشن الملائكة ويحمدهم، حتى ضرب مثل القبح من الأشياء بالشياطين؛ كقوله: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ)، وضرب مثل الحسن بالملائكة، وذلك لمعرفتهم بقبح الشياطين وحسن الملائكة؛ وذلك إنما عرفوا بالخبر؛ لأنهم لم يعاينوا ملكا عرفوا حسنه بالمعاينة، ولا شاهدوا شيطانًا عرفوا قبحه بالمشاهدة، ولكنهم عرفوا ذلك بالخبر؛ ففيه دليل إثبات النبوة؛ لأنهم ما عرفوا ذلك إلا بهم، دل استقباح الجميع الشياطين واستنكارهم، واستحسانهم الملائكة واستعظامهم من غير أن شهدوا من أحد من الفريقين - على قبول الأخبار؛ إذ عن الألسن نطقوا به؛ وعلى إثبات الرسالة؛ إذ هم جاءوا بالآثار عمن شهدهم وأنشأهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... (39) هذا - واللَّه أعلم - صلة قوله: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) وفمعنى قوله: فماذا عليهم لو آمنوا باللَّه واليوم الآخر - واللَّه أعلم - وذلك أنهم كانوا ينفقون مراءاة طلب الرياسة وإبقائها؛ فقال: لو آمنوا باللَّه واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم اللَّه تبقى لهم تلك الرياسة، ويكون لهم الذكر؛ بل لو آمنوا كان ذلك في الإيمان أكثر ذكرًا، وأعظم قدرًا ومنزلة؛ ألا ترى أنه من أسلم منهم من الأئمة من نحو ابن سلام وغيره كان لهم ذكر في الإسلام وبعد موتهم من غير حاجة وقعت بهم إليهم في حق شرائع الإسلام، ومن مات منهم على الكفر لم يذكر أبدًا، فأخبر اللَّه - سبحانه وتعالى - أن ليس في الإيمان باللَّه واتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذهاب شيء مما يخافون ذهابه من الرياسة والمنافع التي يطمعون في وصولها إليهم، وغير ذلك؛ حيث قالوا: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا)، فقال: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي: لم يكن مما خافوا باتباع الهدى قليلًا ولا كثيرًا.

(40)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا) يحتمل وجهين: يحتمل: أنه كان على علم منه بما يفعلون من فعل الكفر والشر ونحوه من خلق إبليس، لا عن جهل ولا غفلة، ليس كصنيع ملوك الأرض أنهم إذا فعلوا فعلا ثم استقبل الخلاف فإنما يكون ذلك لفعله منهم وجهل بالعواقب، فاللَّه - سبحانه وتعالى - كان لم يزل عالمًا بهم، لكنه تركهم على ذلك لما لا يلحقه الضرر بالعصيان، ولا النفع بالطاعة، بل حاصل الضرر والنفع يرجع إليهم. والثاني: يخرج مخرج التحذير لهم والتنبيه؛ لأن من علم أن آخر يعلم بصنيعه كان أحذر وأخوف ممن يعلم أنه ليس عليه حافظ ولا رقيب، وعلى هذا يخرج قوله: (كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)، ليكونوا على حذر من ذلك. وقيل: (وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا) أنهم لن يؤمنوا. وفي قوله -أيضًا-: (وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا) أي: أنشأهم على العلم بما يفعلون؛ يبين أنه أنشأهم؛ ليعلم الخلائق أن مخالفتهم إياه لا تضره؛ إذ كل من يضره الخلاف لا يتولى ابتداءه إلا على الغفلة ببعضه من الضرر يلحقه بالخلاف. والثاني: على التحذير وقت الفعل بتذكير المراقب عليه على ما عليه الأمر المعتاد من الانتهاء عن أمور تهواها النفس بالمراقب عليه. ويحتمل: كان على إرادة نفي حدثية العلم، أو أخبر بعلمه بفعلهم وما لهم من الجزاء، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) وقوله - تعالى -: (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) و (نَقِيرًا)، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). ذكر هذا - واللَّه أعلم - لئلا يظن جاهل إذا رأي ألم الأطفال والصغار وما يحل بهم أن ذلك ظلم منه لهم، لكن ذلك - واللَّه أعلم - ليعلم أن الصحة والسلامة إفضال من اللَّه -

تعالى - لهم، لا لحق ألهم عليه في، ذلك؛ إذ له أن يخلق كيف شاء: صحيحًا، وسقيمًا، ثم من ظلم آخر في الشاهد إنما يظلم لإحدى خلتين: إما لجهل بالعدل والحق، وإما لحاجة تمسه يدفع ذلك عن نفسه، فيحمله على الظلم، فاللَّه - سبحانه وتعالى - غني بذاته، عالم، لم يزل يتعالى عن أن تمسه حاجة؛ أو يخفى عليه شيء مع ما كان معنى الظلم في الشاهد هو التنازل مما ليس له بغير إذن من له وكل الخلائق من كل الوجوه له؛ فلا معنى ثَمَّ للظلم. ثم قيل في الذرة: إنها نملة، وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " مثقال نملة ". وقيل: مثقال حبة، وهو على التمثيل، ليس على التحقيق، ذكر لصغر جثته أنه لا يظلم ذلك المقدار، فكيف ما فوق ذلك؟!، لا أن مثله يحتمل أن يكون، لكن لو كان فهو بتكوينه، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) هذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: من ارتكب كبيرة يخلد في النار ومعه حسنات كثيرة، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) وهي الجنة، وهذا لسوء ظنهم باللَّه، وإياسهم من رحمته. عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِنَّ اللَّه - تعالى - لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حسَنَة يُثابُ عَلَيهَا إِمَّا رِزْقٌ فِي الدنْيَا، وَإِمَّا جَزَاءٌ فِي الآخِرَةِ ". وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يَقُولُ اللهُ - تَعَالَى -: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرةٍ مِنْ إِحْسَانٍ " قال أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:

(41)

فمن شك في ذلك فليقرأ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ... (41) يقول: بالنبي، يعني: بنبيها وجئنا بك يا مُحَمَّد على هَؤُلَاءِ شهيدًا عليهم، يعني: على أمته، شهيدًا بالتصديق لهم؛ لأنهم يشهدون على الأمم للرسل أنهم بلغوا ما أرسلوا به لما هو دليل صدقهم، وقامت براهينهم بالرسالة صارت شهادة على هَؤُلَاءِ؛ أي: لهَؤُلَاءِ؛ على هذا التأويل؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)، أي: لها ويحتمل عليهم لو كذبوا وزلوا. وقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) يعني: نبيها، (وَجِئْنَا بِكَ) يا محمد على أمتك شهيدًا على تبليغ الرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ... (42) قيل فيه بوجوه: إذا ميز اللَّه أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، قال للوحش والطير والسباع: " كُوِني تُرَابًا "؛ فتكون ترابًا، فعند ذلك يتمنون أن يكونوا ترابًا مثل الوحش فسويت بهم الأرض. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يجحد أهل الشرك يوم القيامة أنهم ما كانوا مشركين، فينطق اللَّه - تعالى - جوارحهم؛ فتشهد عليهم؛ فيودون أنهم كانوا ترابًا؛ كقوله: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)، وقوله - تعالى -: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ)؛ فذلك قوله - سبحانه وتعالى -: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) ليتنا لم نبعث

(43)

ولم نحيا، ويقرأ " تُسَوَّى " و " تَسَوَّى " " وتَسَّوى "، و " [وتُسْوَى "، و " تستوى "، و " تُسْوَى] " (¬1) وفي حرف حفصة: " لو تستوى بهم الأرض ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا). قيل: لما أنطق اللَّه - تعالى - جوارحهم وشهدت عليهم حين أنكروا أن يكونوا مشركين بقوله - تعالى -: (إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) - لم يستطيعوا أن يكتموا اللَّه حديثًا. ويحتمل: على الاستئناف: لا يكتمون اللَّه حديثًا. ويحتمل: أن يكونوا يودّوا في الآخرة ويتمنوا أن لم يكونوا كتموا في الدنيا حديثًا. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) واختلف في قوله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) قيل: لا تدنوا مكان الصلاة وأنتم سكارى، وكذلك الجنب لا يدنو مكان الصلاة؛ وهو قول عن ابن مسعود، رضي اللَّه عنه. ¬

_ (¬1) قال السمين: وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم «تُسَوَّى» بضم التاء وتخفيف السين مبنياً للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي: تَسَوَّى بفتحِها والتخفيفِ، ونافع وابن عامر بالتثقيل. فأما القراءة الأولى فمعناها: أنهم يَوَدُّون أن اللَّه تعالى يُسَوِّي بهم الأرض: إمَّا على أن الأرض تنشق وتبتلعهم، وتكون الباء بمعنى «على»، وإمَّا على أنهم يَوَدُّون أن لو صاروا تراباً كالبهائم، والأصل: يَوَّدون أن اللَّه يُسَوِّيهم بالأرض، فَقُلِب إلى هذا كقولهم: «أدخلت القَلَنْسوة في رأسي»، وإمَّا على أنهم يودُّون لو يُدْفَنون فيها، وهو كمعنى القولِ الأول، وقيل: لو تُعْدَلُ بهم الأرض أي: يُؤْخَذُ ما عليها منهم فديةً. وأمَّا القراءة الثانية فأصلُها «تَتَسَوَّى» بتاءين، فحذفت إحداهما. وفي الثالثة حُذِفت أحداهما. ومعنى القراءتين ظاهرِ مِمَّا تقدَّم، فإن الأقوال الجارية في القراءةِ الأولى جاريةٌ في القراءتين الأُخْرَيَيْن، غايةُ ما في الباب أنه نَسَب الفعلَ إلى الأرض ظاهراً. اهـ (الدر المصون 3/ 686).

وقيل: قوله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) نهي عن الصلاة في حال السكر؛ روي أن رجلًا صنع طعامًا فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، وسعد بن أبي وقاص، فأكلوا، وسقاهم خمرًا، وذلك قبل أن تحرم؛ فحضرت صلاة المغرب، فأمهم رجل منهم فقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون)، بطرح اللاءات؛ فنزل قوله - تعالى -: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى). وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَا يُصَلِّيَنَ أَحَدُكُم وَهُوَ لَا يَعْقِلُ صَلَاتَهُ ". وفي الآية دلالة: أن في الصلاة قولاً فرضًا، نهي عن قربانها في حال السكر؛ مخافة تركه، أو نهي عن قربانها في حال السكر؛ خوفا أن يدخل فيها قولا ليس منها؛ وفي ذلك دليل فساد الصلاة بالكلام عمدًا كان أو خطأ؛ لأن السكران لا يفعل ذلك على العمد، ولكن على الخطأ، والأصل في هذا: أنه لم ينهه عن فعل الصلاة في حال السكر لنفس الصلاة، ولكن فيه نهي عن السكر، وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا صَلَاةَ للْعَبدِ الَآبِقِ، وَلَا لِلْمَرأَةِ الناشِزَةِ " ليس النهي فيه عن الصلاة، ولكن النهي عن الإباق والنشوز نفسه، وهكذا كل عبادة نهي عنها بأسباب تتقدم، فالنهي إنما يكون عن تلك الأسباب، لا عن العبادة التي أمر بها؛ لأن الإباق والنشوز والسكر ليسوا بالذي يعملون في إسقاط ذلك الفرض وتلك العبادة. وفي الآية دلالة أن السكران مخاطب بقوله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) نهي

عن قربان الصلاة في حال السكر، فالنهي إنما وقع في حال السكر، فإذا كان مخاطبًا عمل طلاقه ونفذت عقوده؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)، فلو لم يكن عليهم ذكر في حال السكر لم يكن ليصدهم عن ذكر اللَّه معنى ولا ذكر عليهم، دل أنه مخاطب، ولهذا ما قال أبو يوسف - رحمه اللَّه -: إنه إذا ارتد عن الإسلام يكون ارتداده ارتدادًا؛ ولما نفذ طلاقه وسائر عقوده وفسوخه، فعلى ذلك الارتداد. وعلى قول أبي حنيفة - رحمه اللَّه - لا يصير مرتدًّا؛ استحسانًا، ليس كسائر العقود والفسوخ؛ لأن سائر العقود يتعلق جوازها باللسان، وإن كان رضا القلب شرطًا فيها، وأما الإيمان والكفر فإنما يكون بالقلب، وإن كانت العبادة باللسان تكون شرطًا فيما بين الخلق، فإذا كان كذلك فإذا سكر يُذْهِبُ السكرُ القلبَ؛ فجعل كأنه لم ينطق به، وإما كان سائر العقود تعلقها باللسان، فإذا نطق به جاز، واللَّه أعلم. ثم اختلف في قوله - تعالى -: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ. . .) منهم من حمل على مكان الصلاة؛ إذ الصلاة فعل، والفعل لا يقرب. ومنهم من حمل على الفعل؛ أي: لا تصلوا. وأي الوجهين أريد به فالآخر داخل فيه؛ لأنه إذا نهي عن حضور مكانها لحرمته فهي أعلى في الحرمة، وأحق في المنع؛ وأيد ذلك قوله - سبحانه وتعالى -: (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) والعلم بالقول يحتاج إليه في حق الفعل؛ لئلا يترك المفروض من الذكر فيفسد، أو يدخل المحرم فيه فيفسد، وفي ذلك دلالة أحد الوجهين، وفي حق العموم الوجهان جميعًا، وهو على الخطأ يقول؛ فثبت أن الخطأ من القول في الصلاة مفسدًا؛ إذ لو كان لا يفسد لم يكن سوى النهي، وفي التأخير نهي أيضًا، واللَّه أعلم. ولو أريد به الصلاة فإنما المكان لأجلها، فلا وجه للحضور دون إمكان الفعل للفعل،

واللَّه أعلم. وعلى ذلك أمر الجنب، واستثناء عابري السبيل؛ ليكون على فعل الصلاة بالتيمم؛ فيكون في الآية دلالة التيمم للجنب، أو المكان فيباح الدخول فيه على العبور فيه بالتيمم أيضًا، فعلى ذلك عندنا الدخول للاغتسال فيه؛ إذ كان فيه بالتيمم، واللَّه أعلم. وإذا أبيح للجنب على المنع عن دخول المسجد إلا بالتيمم؛ فثبت أن التيمم قد جعل له الطهارة، فله الصلاة به لعذر، واللَّه أعلم. ثم في المروي دلالة عمن أَمَّ في المغرب بـ (قُل يَا أَيُّهَا الكافرون) على طرح اللاءات في حال السكر حتى نزل قوله - تعالى -: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) - أن كلام الكفر في حال السكر لا يكفر صاحبه؛ إذ خاطبهم باسم الإيمان؛ فلذلك لم يكن عند أبي حنيفة - رحمه اللَّه - كافرًا، على أن المخطئ لما يجري على لسانه كلمة الكفر لا يصير كافرًا في الحكم، والسكران يجري على لسانه على الخطأ؛ دليله ما لا يذكره، وما كان من عقد القلب فهو لا ينسى، وبخاصة المذاهب كلها يختار عن فكر الأسباب، وعن اختيار الأحق من الأمور عنده إما لحجة، أو شبهة، أو شهوة، من نحو الإلف بالتقليد، وحسن الظن، والذي يكون على ما ذكرت لا يحتمل السهو عنه حتى لا يخطر بباله لو أراد بدعوة عن قريب ثبت أنه كان عن خطأ، وقد جاء برفع الخطأ. وأصله: أن اللسان معبر عن الاعتقاد في أمر الدِّين، وبخاصة في الكفر الذي يكون بالقلب خاصة بلا استعمال اللسان؛ فإذا كان مخطئا فهو أمر اللسان دون القلب الذي اللسان عنه معبر، ومن عبر الكفر باللسان ووصفه لا يكفر إلا بأن يكون يُعَبّرُ عن نفسه أنه اعتقده، فلذلك كان على ما بينا، على أنه قد يجري بتلاوة القرآن على اللسان بالغلط ما يكفر عليه بالتعمد؛ فلا يجوز أن يجعل تلاوته للتعظيم، والإيمان به كفرًا، ثبت بذلك رفع حكم الكفر عمن أخطأ في إجرائه على اللسان، فمثله السكران؛ إذ هو مخطيء، واللَّه أعلم. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله - تعالى -: (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ): عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: هو أن يكون مسافرًا ولا يجد

الماء فيتيمم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: هو المسافر. وقيل: (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) نهي الجنب أن يدخل المسجد ومكان الصلاة إلا عابري سبيل، إلا مجتازًا. ومن تأول الآية على المرور في المسجد فهو غير بعيد؛ يقول: إنما كره للجنب أن يستوطن المسجد، فأما المار لأمر يعرض له، فقد رخص له؛ ألا ترى أن الجنب رخص له أن يقرأ بعض الآية، ولا يجوز أن يتمها، فمروره في المساجد إذا لم يجلس فيه كقراءته بعض الآية إذا لم يتمها، وعلى ذلك أمر الجنب. واستثناء عابري السبيل يكون على فعل الصلاة بالتيمم؛ فيكون في الآية دلالة التيمم للجنب، أو المكان؛ فيباح الدخول فيه على العبور فيه بالتيمم أيضًا؛ فعلى ذلك عندنا الدخول للاغتسال فيه إذا كان منه بالتيمم، واللَّه أعلم. وإذا أبيح للجنب دخول المسجد بالتيمم؛ فثبت أن التيمم قد جعل له الطهارة، فله الصلاة به لعذر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) الآية. أباح اللَّه - تعالى - للمريض المقيم أن يتيمم، والآية ذكرت المرض عامَّا، وأجمعوا أن المريض الذي لا يخاف أن يضر به الماء لا يتيمم، وإنما أجازوا أن يتيمم إذا خاف ضرر

الماء إن هو توضأ به؛ فدل أن اللَّه - تعالى - لما أباح للمريض التيمم لم يبح باسم المرض، ولكنه لمعنى في المرض؛ دليله ما ذكر أنه لم يبح لكل مريض، وإنما أبيح لمريض دون مريض. وفيه دليل لقول أبي حنيفة - رضي اللَّه عنه - حيث أباح للمقيم الجنب التيمم إذا خاف على نفسه الهلاك؛ ألا ترى أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أباح للسفر التيمم، ولم يبحه باسم السفر، ولكنه أباح لمعنى فيه: وهو إذا كان بمكان إعذار والماء؛ ألا ترى أنه لا يباح له التيمم في الأمصار، وإن كان اسم السفر موجودًا؛ لعدم معنى السفر؛ فعلى ذلك إباحة التيمم للمريض إباحة لمعنى في المرض؛ ألا ترى أنه ذكر مجيئه من الغائط، والغائط هو المكان المطمئن الذي يقضي فيه الحاجة، ولا كل من جاء من ذلك المكان يلزمه الوضوء والتيمم؛ دل أنه لمعنى فيه، فعلى ذلك الأول. وروي أن جريحًا غسل فمات، فبلغ الخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: " قَتَلَوهُ، فَإِنَّمَا يَكْفِيهِم كَفٌّ مِنْ تُرَابٍ "، وكذلك غسل محدود فمات، فقال: " قَتَلوه، إِنَّمَا يَكْفِيهِ كَفٌّ مِنْ تُرَابٍ " ونحو هذا، فإذا ثبت أن المراد من المرض والسفر والغائط المعنى الذي فيه لا لعين المرض والسفر والغائط؛ لما ذكرنا؛ دل أن كل مريض يباح له التيمم، وإنما يباح لمريض دون مريض، وكذلك لم يبح لكل أسفر وإنما يباح، لسفر دون سفر، ومكان دون مكان، وهو المكان الذي يعدم الماء فيه ويفقد. فعلى ذلك المراد من قوله: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)

عين اللمس وهو الجماع، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: الملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، والجماع - نكاح، ولكن اللَّه - تعالى - كنى. وعن الحسن، وعبيد بن عمير، وعطاء، قالوا: الملامسة: الجماع. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في ذكر المرض والسفر والغائط والملامسة إذا كان المراد من ذكرها غيرها؟ قيل: الحكمة في ذكرها هو أن المرض في أغلب أحواله يُعْجِزُ المرءَ عن إصابة الماء، وكذلك السفر في أغلب أحواله يُعْجِز صاحبَهُ عن الماء، فخرج الذكر على أغلب الأحوال، وكذلك من جاء من الغائط؛ الأغلب أنه إنما يجيء عن قضاء الحاجة؛ لأنهم كانوا لا يخرجون إلا لقضاء الحاجة، وكذلك الملامسة من الزوجين، الأغلب فيها قضاء الوطر والحاجة، فعلى الأغلب خرج الذكر وإن احتمل غيره، وهذا يدل على أن الاحتجاج بالظواهر والعموم بحق المخرج باطل؛ لما لا يجوز لأحد أن يحتج بظاهر هذه الآية أن يقول: على كل مريض، أو على كل مسافر إلا كذا. ثم اللمس إن أريد به الجماع، فهو ممكن لوجهين: أحدهما: البلية بالقبلة، واللمس باليدين من الزوجين ظاهرًا لا يحتمل ألَّا يعرف به الرسول والأئمة من فعل العوام، فلو كان الوصف فيه لازمًا لا يحتمل ترك إظهار البيان حتى يلزم أكثر الأمة المنكر في فعل الصلاة، واللَّه أعلم. والثاني: أن يكون الأمر بالمعروف في كل لمس ومس جرى الذكر به بين الذكور والإناث فهو بحق الكناية عن الجماع، وكذلك سائر الحروف المحتملة للكناية عنه؛ من نحو: المباشرة، والغشيان، ونحو ذلك، وبه قال كل من أجاز التيمم للجنب في حق الصلاة من الصحابة - رضوان اللَّه تعالى عليهم - واللَّه أعلم.

وإن أريد به غير الجماع مما قد يحتمل وجوهًا، فهو لا يجمع الكل، ولكن يرجع إلى خاص، وهو الذي في الغالب أن يكون ثم خروج وإن لم يكن، وهي المباشرة الفاحشة؛ دليله ذكر المرض والسفر على غير اقتران الحكم بنفسه؛ إذ هو اسمان لوجوه، فانصرفا إلى غاية ما له وقعت الرخصة من العجز والعدم، فمثله أمر الوضوء في الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) قيل: التيمم: القصد؛ يقال: تيممت الصعيد وأممته، لغتان. وقوله: (فَتَيَمَّمُوا): تعمدوا صعيدًا طيبًا، فإذا كان التيمم القصد والتعمد إلى الصعيد - لم يجز إلا بالنية؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر بالقصد إليه والتعمد، وذلك أمر بالنية؛ لأن القصد نية. وفي حرف حفصة وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " فأموا صعيدًا طيبًا " أي: اقصدوا قصده، والصعيد، قيل: هو وجه الأرض، وسمي: صعيدًا؛ لما يصعد عليها. وقيل: الصعيد هو الأرض التي تنبت؛ ألا تري أنه رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " جُعِلَتْ لي الأَرْضُ مَسجِدًا وَطَهُورًا، إِلا السَّبَخَةَ وَالمَقْبَرَةَ " وقيل: إنها ملعونة؛ ولهذا قال أبو يوسف - رحمه اللَّه -: إن التيمم لا يجوز من الأرض السبخة؛ لأنها ليست

بطيب، والطيب ما ينبت، وأما أبو حنيفة - رضي اللَّه عنه - فإنه قال: الطيب: هو الطاهر الحلال، له أن يتيمم به إذا عدم الماء، الطيب: اسم ما أحل في كل نوع، من المقصود فيه، والمقصود في التيمم التطهر، فهو الطهور والطاهر، وأيده الخبر الذي ذكر من جعل الأرض طهورًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) الأمر يقع بمسح الأيدي على الذراعين دون الكفين؛ دليله أمر الوضوء أنه يُغْسَلُ الذراعان وقت غسلهما بلا غسل كفين؛ إذ قد تقدم غسلهما، فالذراعان دخلتا في المسح بذكر اليد، وكذلك في الوضوء؛ لأن الكفين يغسلان قبل غسل الوجه، فالأمر بغسل اليد يقع على الذراعين وما وراء ذلك. وعن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي الجهيم قال: أقبل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من غائط أو بول، فسلمت عليه، فلم يرد عليَّ السلام، فضرب باليد الحائط ضربة فمسح بها وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها يديه إلى المرفقين، ثم رد السلام. وهكذا يقول أصحابنا - رحمهم اللَّه - بالضربتين: ضربة للوجه، وضربة للذراعين. الأصل: أنه إذا قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في الوضوء: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ): أنه في وقت الأمر يفعل الغسل إلى المرافق غير مخاطب بغسل الكفين على حق غسل الذراع؛ إذ

(44)

قد أمضى غسل فرضها، من قبل؛ فصارت الآية كأنها في غسل الذراع بالأمر بغسل اليد، وعرف بذلك غسل الكف لا بها، فمثله أمر التيمم؛ فصارت الآية كأنها في حق الذراع، ودخل الكف في ذلك بالخبر على أن أمر الطهارة فيما أضيفت إلى عضو أو بدن لم يحد لم يدخل كالمضاف إليه في الاشتراك بقضاء حقهما، نحو الجنابة، والوجه، والرأس، فكذلك أمر اليد في التيمم، لكن قصر عن التمام، بدلالة بيان السنة وعموم الفتيا، وما لا يشك في قضاء حكم الوضوء، وليس هو في بعض اليد فلا يجعل فيما ليس هو فيه بدله؛ إذ حقه التقصير عن كمال وظيفة الأصل، لا الزيادة عليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا) لما مضى من الذنوب (غَفُورًا) لما يستقبل. والعفو: الصفح والمحو، والغفر: الستر، هو يعفو عنه، ويستر على صاحبه. أو يعفو من التجاوز؛ فيختلف اللفظ على إرادة معنى واحد. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا) يقول: أعطوا حظًّا من علم الكتاب، وهم علماؤهم، يشترون الضلالة بعلم الكتاب. ويحتمل: يشترون الضلالة بالهدى، وكذلك قيل في حرف حفصة على ما ذكر في

(45)

غير هذه الآية: (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى)، وذلك أنهم كانوا آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث، فلما لم يبعث على هواهم، كفروا به؛ كقوله - تعالى -: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ). ويحتمل: يشترون ضلالة غيرهم بالتحريف، والرشاء، ونحو ذلك؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، وقوله: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا). (أَلَمْ تَرَ) حرف التعجب عن أمر قد بلغه؛ فيخرج مخرج التذكير، أو لم يبلغه؛ فيخرج مخرج التعليم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) يحتمل وجهين: (وَيُرِيدُونَ) أي: يتمنون أن تضلوا السبيل؛ لتدوم لهم الرياسة والسياسة؛ إذ كانت لهم الرياسة على من كان على دينهم، ولم يكن لهم ذلك على من لم يكن على دينهم؛ فتمنوا أن يكونوا على دينهم؛ لتكون لهم الرياسة عليهم. وقيل: (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي: يأمرونهم ويدعونهم إلى دينهم؛ لما ذكرنا من طلب المنافع، وإبقاء الرياسة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ... (45) كأنهم - واللَّه أعلم - يطلبون موالاة المؤمنين، ويظهرون لهم الموافقة، فنهي اللَّه - تعالى - المؤمنين عن موالاتهم؛ كقوله - تعالى -: (لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا). . .)، إلى قوله - سبحانه وتعالى -: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ. . .) الآية، فأخبر اللَّه - تعالى - المؤمنين أنه أعلم بأعدائكم منكم. ويحتمل أن يكون المؤمنون استنصروهم، واستعانوا بهم في أمر، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم أعداؤكم، وهو أعلم بهم منكم. ثم قال: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) أي: كفى به وَلِيًّا ومعينًا، وكفي به ناصرًا. ويحتمل قوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) مما أعطاكم من أعطاكم؛ أي: لا ولي أفضل من اللَّه - تعالى - ولا ناصرًا أفضل منه، منه البراهين والحجج، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ... (46) وفي حرف ابن

مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا)، (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) على الاستئناف، والابتداء خبر، وفي حرف غيره: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) - معناه واللَّه أعلم: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من الذين هادوا، لا ذكر للنصارى في ذلك. وفي حرف ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - ذكر النصارى في الذين أوتوا نصيبًا. وفي حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " من الذين هادوا من يحرف الكلم عن مواضعه ". ثم تحريف الكلم يحتمل وجهين: يحتمل: تغيير المعاني وتبديل التأويل على جهالهم؛ كقوله - تعالى -: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ. . .) الآية. ويحتمل: تغيير اللفظ والكتابة نفسها؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) قيل: سمعنا قولك، وعصينا أمرك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) قيل: اسمع قولنا غير مسمع، أي: غير مجيب. وقيل: اسمع قولنا غير مسمع لا سمعت؛ على السب. وقوله: (وَعَصَيْنَا) الإسرار به منهم أظهره اللَّه - تعالى - عليهم؛ ليكون آية للرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَاعِنَا) قيل: يقولون لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: راعنا سمعك.

وقيل: (وَرَاعِنَا): أرعنا حقوقنا؛ وهو من الرعاية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) أي: تحريفًا، والتحريف ما ذكرنا؛ كقوله - تعالى -: (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ. . .) الآية. وقيل في قوله - تعالى -: (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي: اسمع يا مُحَمَّد منا قولنا غير مسمع منك قولك، ولا مقبول ما تقول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) أي: لو قالوا: سمعنا قولك، وأطعنا أمرك، وانظرنا فلا تعجل علينا ننظر. وقيل في قوله: (وَانْظُرْنَا): أفهمنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) مما قالوا: سمعنا قولك وعصينا أمرك، لكان خيرًا لهم في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا: فدوام الرياسة التي خافوا فوتها لو أطاعوه واتبعوه؛ إذ قد مَن آمن منهم وأطاعوا نبيه فلم تذهب عنهم الرياسة والذكر في الدنيا؛ بل ازداد لهم شرفًا وذكرًا في الحياة وبعد الممات، وأمَّا في الآخرة فثواب دائم غير زائل أبدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأقوَمَ) أي: أعدل وأصوب لما ذكرنا. (وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ) واللعن: هو الطرد، طردهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من رحمته ودينه، لما علم منهم أنهم لا يؤمنون باختيارهم الكفر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) قيل: والقليل من أسلم؛ من نحو ابن سلام وأصحابه وغيرهم. وقيل: قوله - تعالى -: (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) منهم، أو لا يؤمنون إلا بالقليل من

(47)

الكتب والأنبياء، عليهم السلام؛ كقوله - تعالى -: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ). * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) دلت هذه الآية أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب؛ ولا ممن أوتوا الكتاب؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) أي: موافقا لما معكم وليس عند المجوس كتاب حتى يكون المنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مصدقًا لما معهم. ثم قوله: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) أي: موافقًا لما معكم، وإنَّمَا كان موافقًا لما معهم بالمعاني المدرجة فيه والأحكام، لا بالنظم واللسان؛ لأنه معلوم أن ما معهم من الكتاب مخالف للقرآن نظمًا ولسانًا، وكذلك سائر كتب اللَّه - تعالى - موافق بعضها بعضًا معاني وأحكامًا، وإن كانت مختلفة في النظم واللسان؛ دل أنها من عند اللَّه - تعالى - نزلت؛ إذ لو كانت من عند غير اللَّه كانت مختلفة؛ ألا ترى أنه قال: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، ففيه دليل لقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث أجاز الصلاة بالقراءة الفارسية؛ لأن تغير النظم واختلاف اللسان لم يوجب تغير المعاني واختلاف الأحكام، حيث أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه موافق لما معهم، وهو في اللسان والنظم مختلف، والمعنى موافق.

ثم يحتمل قوله: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) بصفته، ونعته، ونبوته، ومبعثه، وزمانه، فيه فيما معكم، لا يخالف في شيء من ذلك. ويحتمل: أنه هو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذي آمنتم به قبل أن يبعث، فكيف كفرتم باللَّه؟! واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا. . .) الآية. قيل: لما نزلت هذه لآية قدم عبد اللَّه بن سلام على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأسلم، وقال: يا رسول اللَّه، ما كنت أرى أني أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. وقيل: طمسها: أن تعمى أبصارها، وردها على أدبارها. وقيل: طمس الوجوه: أن تعمى، وترد عن بصرتها، وذلك أنهم كانوا مؤمنين بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مستيقنين بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه نبي اللَّه، يجدونه في كتبهم، يقول: حققوا إيمانكم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبكتابه من قبل أن نضلكم عن هداكم؛ فتصيروا ضُلَّالًا؛ فلا تعلمون ما كنتم تعملون. ويحتمل أن تكون الآية خرجت على الوعيد، وهي على التمثيل، لا على التحقيق. ويحتمل: على التحقيق؛ كقوله - تعالى -: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) ويحتمل أن يكون هذا في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا) يحتمل الحقيقة؛ فيرجع إلى يوم القيامة، فيذهب عنه جميع محاسن الوجه. أو نطمس وجوه الحق عنه بمعاندته، فيبصر الحق بغير صورته والباطل بغير صورته بعد أن كانوا رأوا كل شيء بصورته في كتبهم المنزلة، واللَّه أعلم. أو نطمس وجوههم عند أتباعهم الذين لأجلهم غيروا وحرفوا بما يطلعهم على خيانتهم، ويظهر لهم تبديلهم، وقد فعل بحمد اللَّه تعالى. وقد يحتمل الوعيد: أن يفعل بهم إن لم يؤمنوا حقيقة ذلك؛ كفعله بأصحاب السبت، تغير الجوهر، ثم لعل أُولَئِكَ قد أسلموا، أو نزل بهم ولم يذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)

(48)

أي: كان بأمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مفعولا، كما يقال: الجنة رحمة اللَّه، والمطر رحمة اللَّه، أي: برحمة اللَّه، فعلى ذلك معنى قوله - سبحانه -: (أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) أي: بأمر الله كان مفعولا. ويحتمل قوله: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)، أي: عذاب اللَّه نازلا بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (48) أجمع الناس أن اللَّه، يغفر الذنوب كلها: الشرك وما دونه إذا انتهى وتاب بقوله - تعالى -: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) دل أن إطماع المغفرة لما دون الشرك لمن لم ينته عنه. وقال الخوارج: الكبائر كلها إشراك باللَّه، فمن ارتكبها دخل تحت قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)، والمسألة بيننا وبينهم في ذلك، فيقال لهم: المعنى الذي صار به مشركا عندكم بارتكابه الكبيرة ذلك المعنى موجود في ارتكابه الصغائر؛ فيجيء أن يكون كافرًا، فإذا لم يصر بذلك كافرًا لم يصر بارتكابه الكبائر كافرًا. وقالت المعتزلة: صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر. وقال أبو بكر الأصم: ظهر الوعيد في الكبائر، وشرط المغفرة لما دون الشرك بقوله - تعالى -: (لِمَنْ يَشَاءُ) فهو للصغائر؛ كقوله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) أخبر أن من السيئات ما يكفر، ومنها ما لا يكفر، فهو للصغائر. وأمَّا عندنا: فإن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أطمع المؤمنين المغفرة ما دون الشرك، ولو كان لا يجوز في العقل المغفرة لكان لا يطمع؛ لأنه لا يجوز أن يطمع ما لا يجوز في العقل، فإذا أطمع دل أنه يجوز في العقل المغفرة لما دون الشرك، ثم له المشيئة: إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم. وأما إطماع المغفرة في الشرك: فإنه لا يجوز في العقل؛ لأن من اعتقد دينا إنما يعتقده

للأبد، وليس كل من ارتكب ذنبًا يرتكبه للأبد؛ بل إنما يرتكبه لقضاء شهوة تغلبه، فهو يندم على إثره؛ لذلك قلنا: يجوز في العقل إطماع المغفرة لما دون الشرك، ولا يجوز للشرك، وباللَّه التوفيق. ووجه آخر: أن الوعيد الذي ذكرته يحتمل الاستحلال، والاستخفاف بالأمر والنهي، فلا يتزل بما أطمع بهذه الآية من المغفرة؛ فيزال الطمع والرجاء بالوعيد المتوجه وجهين أو يوقف فيهم؛ فأما القطع في أحد الوجهين بالمحتمل ومنع القطع بالآخر للاحتمال فهو تحكم، ولا قوة إلا باللَّه. ووجه آخر: أن الآية في التفصيل بين المحتمل للغفران والذي لا يحتمل، فإذا صرفت إلى الصغائر فيبطل تخصيص اسم الشرك، ويلتبس على السامع محله، وليس أمر الوعيد فيما جاء بموضع التفصيل، بل الذي جاء بحق التفصيل ذكر الغفران بالتكفير، والتكفير يكون مقابلة الجزاء من حسنات أو عقوبات؛ كقوله - تعالى -: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. . .) الآية، واللَّه الموفق. ووجه آخر: قال اللَّه،- عَزَّ وَجَلَّ -: (لِمَنْ يَشَاءُ) وهذا كناية عن الأنفس المغفورات، لا عن الآثام التي تغفر، لم يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس، وفي آيات الوعيد تحقيق في الذين جاء بهم، وفيما جاء عامًّا؛ فبان لا صرف في ذلك، فهو أولى، واللَّه الموفق. وبعد، فإنه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: (لِمَنْ يَشَاءُ) والصغائر عندكم مغفورة بالحكمة لا بالوعد، والآية في التعريف، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - تعالى - أيضًا: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فمعلوم: أنه فيما يلزمه حتى يختم به، لا فيما يتوب عنه؛ أيد ذلك قوله: (إِن يَنتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ. . .) الآية، وغير واحدة من الآيات التي جاءت في الكفرة لما آمنوا، واللَّه أعلم؛ فصار كأنه قال: لا يغفر أن يشرك به إذا لم يتب عنه، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وإن لم يتب منه، فلو كان شيئًا مما دونه لا يحتمل في الحكمة المغفرة لضمه إلى الممتنع عن الاحتمال، لا أن ألحقه بالمحتمل له فيما كان معلومًا أن القصد فيه إلى بيان ما فيه الرجاء والإياس، وأيد ذلك

(49)

قوله - تعالى -: (لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، فلو كان يلزم الإياس لما دونه ليجب الوصف له بالكفر؛ إذ الإياس لهم بالكفر وفي تحقيقه تحقيقُهُ، فأي الوجهين لزم تبعه الآخر في حق الإياس، لا في وجود فعله؛ إذ قد يوجد فعل الرجاء في الكفرة، ثبت أن ذلك في الحكم والتحقيق، لا في وجود الفعل، وباللَّه التوفيق. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) قيل: هم اليهود، جاءوا بأبنائهم أطفالا، فقالوا: يا مُحَمَّد، هل على أولادنا هَؤُلَاءِ من ذنب؟ قال: " لا "، قالوا: فوالذي يُحْلَفُ به ما نحن إلا كهيئهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كُفِّرَ عنا بالليل، وما عملنا بالليل إلا كُفِّرَ عنا بالنهار، فذلك التزكية منهم. وقيل: تزكيتهم أنفسهم بقولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، لا ذنوب لنا. ويحتمل: أن تكون تزكيتهم أنفسهم ما قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، وكان أكثر الأنبياء - عليهم السلام - إنما بعثوا من بني إسرائيل، وكانوا يزكون أنفسهم بذلك، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم كانوا مفضلين على غيرهم، لكن لما فضل غيرهم عليهم صار أُولَئِكَ المفضلون دونهم وذلك، قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) يفضل من يشاء، أو يبرئ من يشاء من الذنوب. ثم التزكية تذم؛ أن يزكي أحد نفسه؛ لأن التزكية هي التنزيه من العيوب كلها والذنوب، وذلك مما لا يسلم أحد منها، ولا يبرأ، ولا يستحق مخلوق، وذلك معنى النهي: (فَلَا

تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ)، إذ تخرج التزكية مخرج التكبر، وذلك لجهله بنفسه لما لا يرى غيره شكل نفسه ولا مثله فيتكبر عليه، ولو عرف أنه مثله وشكله ما تكبر على أحد قط، ولا زكي نفسه. وقول الرجل: أنا مؤمن، ليس ذلك منه تزكية، إنما هو إخبار عن شيء أكرم به، والتزكية هي التي يرى ذلك من نفسه. وقوله -أيضًا-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) ليس في إظهار الإيمان تزكية؛ لما لا يخلو من أن تظهر لمن أبى مشاركتك فيه، فعليك الإظهار بحق الدعوة إليه؛ لتدعوه إلى ما تدين به، أو هو يشاركك فيه، والتزكية -في الحقيقة- فيما يوجب تقديمك، وليس في هذا. وأيضًا: إن القول بالإيمان ليس بمقدر عن معنى العبادة، أو سبب فيه علو من حيث ذلك، إنما هو خبر عن أمر هو في اللغة تصديق، والتصديق بأمر هو كذلك ليس بالذي يعد في الرتب، بل على كل ذلك، ولا أحد إلا وقد يؤمن بأشياء ويصدق، فليس في القول به منقبة، وكذلك ما من أحد إلا وعليه التكذيب بأمور، فلا بالتكذيب في الإطلاق لوم، ولا بالتصديق بالإطلاق مدح؛ إذ كل في ذلك، لكن الذم في تكذيب يكذب به، فيكون من حيث كذبك ذممت، ثم تتفاوت على تفاوت درجات الكذب. ثم التصديق لو كان ثم مدح فهو بصدقه أيضًا، ولا أحد يخرج الصدق كله؛ فيصير المرء بوصفه نفسه صادقًا في شيء تزكية ومدحًا، ولا قوة إلا باللَّه. على أن للإيمان حدًّا، وكل عبادة ذات حد، فلا امتداح ممن قد أداها بالإخبار عن الأداء، وبخاصة الفرائض منها، نحو من يقول: قد صليت الظهر، أو أديت زكاة مالي،

(50)

أو حججت، أو نحو ذلك، وفيما يقول: هو بر، أو تقى، أو حبيب اللَّه - تعالى - أو نحو ذلك مما يرجع ذلك إلى ما لا يعرف حده من الخيرات، فهو بذلك يرتفع على الأمثال، ويفتخر عليهم، فيما لو كان صادقًا كان في ذلك منه إغفال عن حق ذلك، ولو كان كاذبًا كان ذلك جائزًا فيه، ممقوتًا بالكذب، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الفتيل: ما فتلت بين أصبعيك. والنقير: ما يكون وسط النواة. وقيل: النقير والقطمير: قشر النواة. وقيل: الفتيل -أيضًا-: ما يكون وسط النواة. وقيل: النقير: الذي يكون في ظهر النواة، وهو على التمثيل. وقيل في حرف حفصة: (ألم تر إلى الذين قالوا إنا نزكي أنفسنا بل اللَّه يزكي من يشاء). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) الآية ظاهرة. وقوله - عَزَّ وَجَلٍَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ... (51) قيل: أعطوا حظًّا من الكتاب، وهم علماؤهم. (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) اختلف فيه: قيل: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن. وقيل: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: الجبت: الشيطان بكلام الحبشة،

(52)

والطاغوت: كهان العرب. وقيل: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الشيطان. وقيل: الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف. يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن سفههم بإيمانهم بهَؤُلَاءِ وحسدهم محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ويحذر المؤمنين من صنيعهم؛ لأن هَؤُلَاءِ كانوا علماءهم مؤمنين بالجبت أوالطاغوت، (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا). قيل في القصة: إن هَؤُلَاءِ أتوا مكة؛ ليحالفوا قريشًا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أجله، ففعلوا، فدخل أبو سفيان البيت في مثل عدتهم، فكانوا بين أستار الكعبة، فتحالفوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى أصحابه - رضي الله عنهم -: لتكونن كلمتنا واحدة ولا يخذل بعضنا بعضا، ففعلوا، ثم قال أبو سفيان: ويحكم يا معشر اليهود، أينا أقرب إلى الهدى وإلى الحق، أنحن أم مُحَمَّد وأصحابه؟ فإنا نعمر هذا المسجد، ونحجب هذه الكعبة، ونسقي الحاج، ونفادي الأسير، أفنحن أفضل أم مُحَمَّد وأصحابه؟ قالت اليهود: لا، بل أنتم؛ فذلك قوله - تعالى -: (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا). وفي حرف حفصة: (ويقولون للذين أشركوا هَؤُلَاءِ أهدى من الذين آمنوا سبيلا). ثم قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) واللعن يكون على وجوه: اللعن: هو العذاب. وقيل: (لَعَنَهُمُ اللَّه): عذبهم اللَّه.

(53)

واللعين: هو الممنوع عن الإحسان والإفضال. وقيل: هو الطريد، أي: طردوا من رحمة اللَّه وإفضاله وإحسانه. قال: الطاغوت: هو اسم اشتق من الطغيان: كالرحموت والرهبوت، من الرحمة والرهبة، ونحو ذلك، سمي به كل من انتهي في الطغيان غايته، حتى استحل أن يُعْبَدَ هو دون اللَّه، فهو طاغوت، وعلى ذلك تأويل قوله - تعالى -: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) أي: بعبادة كل من عبد دون اللًه. وقيل: هم مردة أهل الكتاب. وقيل: هو الشيطان. وقيل: الصنم، وذلك كله يرجع إلى ما ذكرت. وقيل في ذلك: كاهن، وقد سمي جبتًا. وقيل في الجبت: السحر، فإن كان الجبت السحر فهو على ما قال: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ... ) الآيات، وأي شيء مما ذكرت قد كانوا آمنوا بذلك، فعيرهم اللَّه - تعالى - وسَفَّهَ أحلامهم بالإيمان بمن ذكرت، ومظاهرتهم على ما لهم من الأتباع [على رسول رب العزة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد علمهم بموافقته - عليه السلام -] (¬1) رُسُلهُم وتصديقه بكتبهم؛ وعلمهم بعدول أُولَئِكَ عن هذه الرتبة؛ بغيا وحسدًا، وكان في إظهار ذلك عليهم بيان الرسالة، وإعلام أتباعهم تحريفهم كتب الرسل، وإبداء ما في قلوبهم من الحسد؛ لتزول الشبهة عن الأتباع، وتظهر المعاندة في المتبوعين، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) اختلف فيه: قيل: لو كان لهم نصيب من الملك فإذن لا يؤتون الناس نقيرًا من بخلهم، وقلة خيرهم. ¬

_ (¬1) هكذا في الكتاب المطبوع [على رسول اللَّه رب والعزة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد علمهم بموافقته - عليه السلام -] ولابد من حذف لفظ الجلالة أو جملة (رب العزة). واللَّه أعلم.

(54)

وقيل: لهم نصيب من الملك من الشرف والأموال والرياسة فيما بينهم، لكن ألا يأتون الناس، نقيرًا، فكيف يتبعونهم؟!. وقيل: قوله - سبحانه -: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) أي: ليس لهم نصيب من الملك فكيف يؤتون الناس شيئًا؟! إنما الملك لله - عز وجل - هو الذي يؤتى الملك من يشاء؛ كقوله - تعالى -: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ. . . .) الآية، إنما يستفاد ذلك باللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا بأحد دونه، واللَّه - تعالى - أعلم. * * * قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) يقول: بل يحسدون محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ما آتاه اللَّه من فضله من الكتاب والنبوة؛ يقول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ردا عليهم: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، فلم يحسدوه، فكيف يحسدون محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما آتاه اللَّه - تعالى - من الكتاب والنبوة، وهو من أولاد إبراهيم، عليه السلام؟! فهذا - واللَّه أعلم - معناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) قيل: أراد الملائكة والجنود. وقيل: هو ملك سليمان بن داود، وداود كان من آل إبراهيم، عليه السلام.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) يعني: محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - (عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني: من كثرة النساء، لكن ذلك ليس بحسد، إنما هو طعن طعنوه، وعيب عابوه؛ لأن الحسد هو أن يرى لآخر شيئًا ليس له؛ فيتمنى أن يكون ذلك له دونه، وقد كان لهم نساء، لكنه إن كان ذلك فهو طعن طعنوه، وعيب عابوه على كثرة النساء، ويقولون: لو كان نبيًّا لشغلته النبوة عن النساء، ويقولون: يحرم على الناس أكثر من أربع، ويتزوج تسعًا وعشرًا؛ فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ردَّا عليهم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ. . .) وكان لداود تسع وتسعون امرأة، وما قيل -أيضًا- إن لسليمان - عليه السلام - ثلاثمائة سرية وسبعمائة حرائر. إن ثبت ذلك: فكثرة النساء له لا تمنع ثبوت الرسالة والنبوة، وإنما تمنع كثرة النساء لأحد شيئين: إما لخوف الجور، وإما للعجز عن القيام بإيفاء حقهن. فالأنبياء - عليهم السلام - يؤمن ناحيتهم الجور، وكانوا يقومون بإيفاء حقهن مع ما كان قيام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة لتسع أو لعشر من النساء من آيات النبوة؛ لأنه كان معروفًا بالعبادة لله ليلًا، وبالصيام له نهارًا، وتحمل الجوع وأنواع المشقة تباعًا، ومعلوم في الخلق أن من كان هذا سبيله لم يقدر على وفاء حق امرأة واحدة؛ فضلًا أن يقوم لإيفاء حق العشر وأكثر؛ فدل أنه باللَّه قدر على ذلك، وعلى ذلك قيام داود - عليه السلام - لمائة من النساء، وقيام سليمان - عليه السلام - لألف منهن، فذلك من آيات النبوة؛ لما ذكرنا: أنه ليس في وسع أحد سواهم القيام بذلك.

وكذلك في قيام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لإظهار هذا الدِّين من غير اتباع كان له، أو ملك، أو فضل سعة - دليل أنه كان بنصر اللَّه أظهر، ويعوذه به جميع هذا الخلق على دينه. وفي قوله -أيضًا-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ. . .) الآية تحتمل وجهين: أحدهما: المحاجة: أن كيف يحسدون محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأتباعه من آل إبراهيم وأولاده بما خصهم به من فضله، ولم يزل ذلك في آل إبراهيم، ولم يكونوا حسدوهم. وعلى هذا قوله - تعالى -: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) أي: بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو بكتابه الذي أنزل عليه. والثاني: أن يكون على التصبير على أذاهم الذي كان منهم بالحسد مما كان هذا فيمن تقدمه من آل إبراهيم، ومن فضله، ومن الحساد لهم في ذلك، والمؤذين لهم، فصبروا، ولم يكافئوهم؛ نحو قوله - تعالى -: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ): أي: بإبراهيم - عليه السلام - أو بما أنزل إليه، أو آله، واللَّه أعلم. الأصل في اختلاف التأويل الآية واحدة فيما يجب في ذلك من الحق أنه على أقسام: أحدها: أنه يتسع الكل. ويحتمل: دخول الكل في المراد. ويحتمل: إرادة البعض؛ فإن كان ذلك مما يجب العمل به يلزم طلب الدليل على الموقع للمراد، فإن وجد من طريق الإحاطة شهد عليه بالمراد، وإن لم يوجد عمل به على حسب الإذن في العمل به بالاجتهاد من غير الشهادة عليه أنه المقصود لا غير، واللَّه أعلم. وإن كان ذلك مما لا يجب العمل به وإنما حقه الشهادة، يشهد به على ما هو في الحكمة وجوب تلك الشهادة من غير أن يقضي على الآية بقصد ذلك إذا كانت بحيث تتسع له ولغيره؛ نحو القول بأنه سميع عليم على إثر أمورهم من أدلة الخصوص، لو

كانت تحتمل الخصوص، وفي الحكمة أنه سامع كل صوت، وعليم بكل شيء، فبه يشهد، ولا يقال في ذلك: إنه أراد ذا من الخاص، نحو قوله - تعالى -: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، قال قوم: لا يقع الطلاق حتى يوقع؛ لأنه ذكر أنه سميع ولو أوقع الطلاق بغير قول، لم يكن لذكر السميع في هذا الموضع فائدة. وقال قوم: (سَمِيعٌ) لإيلائه؛ إذ هو قسم ينطق به، (عَلِيمٌ) لعزمه، وقد ذكر (سَمِيعٌ عَلِيمٌ)؛ فيجب توجيه كل حرف إلى وجه، ليفيد حقيقة ذلك في هذا الموضع، ولو كان لا يقع دون القول لكان كل أمره مسموعًا؛ ليلتقي القول بأنه سميع عن القول بأنه عليم. وفي جملة العقد من طريق الحكمة أنه سميع بكل صوت، عليم بكل شيء، لكن في النوازل يتوجه وجهين لا يجب القطع عليه في الإرادة إلا أن يجيء ما يوجب الإحاطة، وقد عمل به الخلق على الاختلاف، واللَّه أعلم. ووجه آخر من التأويل: أنه يحتمل وجوهًا لا يسع للكل في حق العمل أو في حق الشهادة، لكنها لأحد الحقين، فإن كان ذلك في حق العمل يجب طلب دليله، ويكون الدليل على وجهين: أحدهما: أن يوجب على حق العمل والشهادة جميعًا. والآخر: أن يوجب على حق العمل خاصة، وقد بينا ذلك. وإن كان في حق الشهادة فيجب الوقف في تحقيق المراد، والتسليم لله حتى يظهر، وذلك في حق إضافة الاستواء إلى اللَّه - تعالى - على العرش، والقول بالرؤية من حيث يثبت ما به يرى على الإشارة إليه، لا بالإحاطة، ونحو ذلك من الأمور، واللَّه أعلم. ووجه آخر: أن يكون احتمال وجوهها إنما يكون بمقدمات، فيختلف على اختلاف تلك المقدمات، فلا يجوز تأويل تلك إلا بمعرفة المقدمة، إذا لم يكن فيها غير معرفة الموقع من المقدمة؛ نحو قوله - تعالى -: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)، لم يكن لأحد تأويل واحد من الوجهين حتى يعلم بالسمع أنه فيم كان مشغولا. وقوله - تعالى -: (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)، لم يكن لأحد طلب مراد قائله أو تأويل مراده، ولا يظفر به إلا بالوحي، ولا قوة إلا باللَّه.

والقول في حقه إلى أن يتبين ما كان في حق الشهادة، فلازم الوقف فيه حتى يظهر، وما كان في حق العمل، فإن كان في نوع ما يحتمل الاحتياط فحقه القيام به حتى يظهر دليل التوسيع، ودليل التوسيع على الوجهين اللذين ذكرت، وإن كان فيما لا يحتمل الاحتياط فحقه التوقف حتى يظهر واللَّه أعلم. ولا يخلو شيء إلا أحد الوجهين به حاجة من دليل يكون له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) أي: غير الجلود النضيجة؛ كقوله - تعالى -: (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)، أي: تجدد ما قد فني، وكذلك أعيد ما قد كان من الجلود قبل النضج جديدًا في رأي العين من حيث صار الأول نضيجًا، لا أن كان هذا غير الأول، بل هو الأول غير نضيج؛ إذ ذلك نعت الأول، وتعذيب ما كان ارتكب المعصية؛ لأن التعذيب -في الحقيقة- على غير الذي أثم فيه. وقال قائلون: الجلود والعظام ونحو ذلك لم تكن عصت ولا أطاعت، بل استعملت قهرًا وجبرًا، لا أنها عملت طوعًا، لكن الذي به عملت والذي استعملها في الجسد به يتلذذ ويتألم، فهو المعذب والمثاب بما صدر من الجسد؛ ألا ترى أن أجساد أهل الجنة تزداد الحسن والجمال، وجعل لأهلها حدا لا يزداد ولا ينتقص، وأجساد أهل النار مشوهة قبيحة؛ ليكون لهم في التقبيح عقوبة، وللأول بالتحسين ثواب، فكانت فيها أحوال للجزاء لم تكن للأعمال، فثبت أن المثاب والمعاقب ما ذكرت، لكنه يتألم ويتلذذ، فجعلت على ما بها تمام اللذة والألم من الأجساد لا على إعادة أنفس تلك الأجساد، بل على التجديد، كما ذكره في القرآن، وكذلك المقطوع على بعض الأعضاء في حال الكفر إذا أسلم يبعث سليمًا، لا كذلك، ومثله في حال الإسلام لو أريد لم يرفع عنه ألم ذلك؛ فدل الذي ذكرت على حق تجدد الثاني على ما شاء اللَّه والذي به كان المأثم والبر على ما قد كان، واللَّه أعلم. وللمذهب الأول أن الجزاء هو لما يختم عليه؛ إذ لو كان إسلام لتمنى لنفسه أحسن الأحوال، وأسلم البنية ليستعملها بالخير، فأوجب ذلك إبطال جميع السيئات كانت بجوارح ذهبت أو بقيت، وكذلك من اختار الكفر فقد آثره، واختار أن يكون على ذلك،

وإن سلمت جوارحه وتمت فلزمه حكم احتياط جميع ما تقدم بكل فائت منه وباق، وفي الأول استوجب جعل جميع ما تقدم منه بالفائت والباقي حسنات لما ندم عن الكل بكل الجوارح، فلحق حكم تبديل السيئات بالحسنات في الكل؛ فيكون على حكم إعادة الأولى بحق التجديد في المعنى - واللَّه أعلم - نحو قوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، وقوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ. . .) الآية. وفي الإعادة كقوله - تعالى -: (من يُعِيدُنَا. . . .) الآية، وقوله - عز وجل -: (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. . .) الآية، وغير ذلك من آيات البعث، واللَّه أعلم. وقال قائلون: الواجب من العقوبة للكفر، وغيره بحكم التبع له، وكذلك الثواب الواجب منه للإيمان، ولغيره بحكم التبع، بل به قام، والأول به سقطت عنه مشيئة العفو، فصار الذي به الجزاء خاصًّا، وغيره بحكم التبع يزداد وينتقص؛ فعلى ذلك أمر الجزاء والتجديد والإعادة، وكل ذلك للذي هو بحق التبع، والاتباع في الشاهد بتجدد أعين الأفعال، ولا يدوم، والاعتقاد في الأمرين يدوم، فعلى ذلك أمر الجزاء ولذلك، واللَّه الموفق. ولهذا الوجه ما يبطل الخلود لما سوى الكفر؛ إذ في ذلك إبطال الجزاء الدائم من حيث الأفعال، وإدامة الجزاء المنقطع من حيث الأفعال، فيكون فيه زيادة في العقوبة على المثل، واللَّه يقول: (فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)، واللَّه الموفق. ثم اختلف في المبعوث أنه يبعث بجسده أو يبعث الروحاني منه، سمته بعض الفلاسفة نفسًا، وبعضهم جوهرًا روحانيًّا، وبعضهم بسيطًا، فإن كل جسد فيه روحاني في حياته ومنافعه؛ وجسده له كالمانع عن جميع ما يحتمل من الأمور؛ إذ الجوهر الروحاني لطيف، ينفذ في الأشياء، ويتخلل إلا بالحابس، يبين ذلك أمر النائم أن النفس تخرج لقوله - تعالى -: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)، أو هي مما يسكن الجوارح وينقطع عنها هم الجسدية يرجع إلى حصة جوهره فيرأها تطوف في البلاد النائية،

وفي الأمكنة العلوية، حتى لا تصفها أرض ولا سماء تأتي بالأخبار عنها كأنها شاهدة، أما ما كان ذلك عملها بالجوهر حيث يكون من النفاذ إذا لم تحبس، أو هي بالجوهر تخرج فتعمل ذلك وهي تسمع وتبصر وتعقل في المنام كأنها بالجسد كذلك؛ فدل أن العمل في حال اليقظة وما له الجزاء لها، فعلى ذلك أمر الجزاء، وعلى ذلك جميع الجواهر التي بها الأغذية والحياة ليست بأعين تلك الأشياء، ولكن بما جعل في سريتها من الروحاني، وهي القوى التي تظهر في البدن إلى كل أجزاء البدن، فتقوى وتصح فيه بحياة روحه، وتزول عنه الآفات، وكذلك عن السمع والبصر والعقل حل شيء ثم تلقي فعله؛ فعلى ذلك أمر المعاد من الجزاء فهو على ذلك، وكذلك الثواب يكون من كل موعود مما يعرف في الشاهد بجسده ويرجع إلى السرية التي هي روح لذلك فيكون هو الثواب؛ لما هو بحكم روح في الجسد؛ ألا ترى أنه لا يبقى في الآخرة بالأكل الأجساد التي تلقى، وهي الأثقال التي تفضل في الجسد، ويخرج عنها جميع ما فيها من الأقوية والروح، فثبت أن الأمر يرجع إلى ما ذكرت، وهذا معنى قوله - عليه السلام -: " مَا لَا عَينٌ رَأَتْ، وَلَا أذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " لأن ذلك الجوهر لا تراه العين، ولا تسمعه الأذن في الشاهد، ولا يخطر على القلب، وتكون لذة ذلك روحانيًّا، لا هذه لذة الحياة بحياتها السمع والبصر، وكل باطن في الجواهر ولذة الأجساد إنما يكون باللهاة في الطعم، وبالعين في اللون، وهذا النوع، فيذهب هذا، ويكون الأول، وعلى ذلك تذهب العبادات الجسدانية، وتبقى الروحانية من الحمد، والثناء، والتعظيم، والهيبة، والمعرفة، ونحو ذلك يبقى أبدًا، بل يزداد؛ لما يذهب عنها الحواجب من الجسداني، وعلى ذلك يبطل تقدير الرؤية، وإبطاله مما عليه أمر الشاهد لذهاب ما به كونها في الشاهد، ورجوع الأمر إلى ما يحاط به على سقوط الحواجب، واللَّه أعلم. اختلف من ذكرت في أمر البعث:

فمنهم من لا يرى على ما في الجسد من الروحاني فناء، والبعث هو إسقاط الأجساد وخروج ما فيها من الروحاني بصورها. ومنهم من يقول: تفنى وتعاد على حالها، ومعلوم أن ذكر الجديد لا يحتمل بلا ذهاب الأصل، وذكر الإعادة بلا فوته، وقال: (مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وجعل إنشاء الأولى دلالة للأخرى، وليس ثَمَّ أخرى، بل هي الأولى، والأولى هي -على ما يزعمون- غير معروفة عند المنكرين؛ فيحتج عليهم بها، بل يجب أن يعرفوا الأولى أولا، ثم يساعدوا على نفي البعث، ويلزموا الإظهار. والدهرية ومنكري البعث يقولون في جميع العالم بالظهور بعد الكون، وبالكون في الأصول بالقوة، ثم الظهور بالفعل، فكيف ينكرون البعث ليحتج عليهم بالخلق الأول؟! واللَّه أعلم. وقال قوم بالبعث بالأجساد على ما كانت، لكنها كانت في الدنيا منشأة للفناء، مشتمل عليها آثار الفناء، ويحيط بها أعلام الهلاك، ومن آفات كلها وسواتر تحجبن عن أعمال لطائف الجواهر، وعن إدرإك الروحانيين، وإلا فهي كما وصفهم إلله - تعالى - أنه خلقهم في أحسن تقويم، وكرمهم بأقوم جوهر، وأكمل أسر، وأنقى خلقة، فإذا وقعت عليهم الآفات، وأعيدوا للبقاء؛ فيزول عنهم جميع الظلمات التي هن حواجب وسواتر لهم على الإحاطة بحقائق الأضياء وبواطنها، وعلى شكلهم تنشأ الأجساد المجعولة أجزاء لهم، فيلحقون بجميع اللطائف جسدا بما فيها من الجوهر الروحاني وتصير هذه في اللطف كذلك الجوهر، وهي لما تنقل إلى ألطف من ذلك، وأنور لهم كالأرواح؛

فيفضلون على الروحانيين بأجساد فيها معانيها من اللطافة، والنفاذ في الأمور التي هي كالروحانيين في التمثيل وما فيهم حق الروحانيين ألطف من ذلك بارتفاع آثار الفناء عنها، وخروجها من أن يعمل فيها الفساد، وعلى ذلك أجساد الجزاء، فإنها تخرج عن الآفات، وتمنع عن الفساد، وتصير أجسادها في الطيب والضياء كالروحاني، وما فيها من الروحاني يبقى فيها على كل حال لا يفنى، والأصل فيه أن الجزاء بحق الشهوات واللذات، لا بحق الأغذية وحياة أجساد المستنفعين بها، فتكون هي بجسدها وسريتها واحدة، وبقاء الأجساد لها أحق من بقاء الروحاني في هذا العالم من طريق الاعتبار؛ لأن الذي له حق الروحاني في الشاهد به البقاء والغذاء والحياة لا يدفع بها الآفات العارضة في الأرواح من جهة القوالب التي تضعف وتقوى، وفي الآخرة لا تعرض الآفات التي يحتاج فيها إلى الأغذية، وإنَّمَا ينال عنها الشهوات واللذات، وإنما يكون ذلك من حق الأجساد في الشاهد؛ لذلك كانت أحق أن تكون في الآخرة، ثم هذا القول أوفق بما جاء به من حجج السمع وما عليه الاعتبار. فأما حجج السمع: فإن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ. . .) الآية، وقال: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا. . .) الآية وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية، وغير ذلك مما حاج به منكري البعث، والإشكال كان لهم في الأجساد، وفيها جرت المحاجاة؛ لذلك كانت هي أولى في الاعتبار مع ما كانت الأشياء اللطيفة التي لا تمس ولا تحس في التجديد لم يكن بحيث احتمال الإنكار لوجودهم في كل حال؛ نحو العقول تذهب بأسباب ثم تعود، وكذلك العلوم والسمع والبصر، ونحو ذلك، ثم الحسيات اللطائف: نحو الليل، والنهار، والنور، والظلمة، والظل، ونحو ذلك يرون الفناء والعود في كل حين لا ينكرون هذا النوع؛ ليحاجوا بالذي ذكر وبهذا؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق، واللَّه أعلم. والاعتبار أن اللَّه - سبحانه وتعالى - أنشأ هذا الخلق على ما يتلذذون ويتألمون؛ ليكون ذلك علمًا للترغيب والترهيب بالموعود، وما يحل من الآفات وأضدادها في الروحاني في

(56)

الجسد يكون له سرور وحزن، لا يتألم ويتلذذ، وقد جرى الوعد بالمؤلم والملذ. وكذلك حكمة خلق الجسد على ذلك بما يحقق العلم بالمرغب والمرهب من الموعود، على أن السرور والغموم ليسا بحيث يرغب فيهما أو يزهد إلا من حيث يألم الجسد ويتلذذ، بل كل يكون فيه الأمران؛ ليسر ويحزن؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق من طريق التقدير على ما جرى به حق السمع والعقل، واللَّه أعلم بحقيقة ذلك، وبيده الملك، يكرم من شاء بما شاء؛ فضلًا منه، ويهين من شاء؛ بما شاء عدلًا منه، والله الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) بما أنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من اليهود (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) قال: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) يعني: بالكتاب الذي أعطى إبراهيم (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ): عن الكتاب، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقيل: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) يعني: إبراهيم (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) يعني: عن إبراهيم، عليه السلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) كأن جهنم - واللَّه أعلم - معظم النار وجميع دركاتها، والسعير هو التهابها ووقودها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44). ويحتمل قوله: (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) أي: عذابًا، واللَّه أعلم. (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ) أي: بالتهاب جهنم التهابًا؛ إذ السعير: الالتهاب، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا) يحتمل الآيات: أعلام الدِّين وآثاره.

ويحتمل الآيات: آيات الربوبية له. ويحتمل الآيات: أعلام رسالة الرسول عفًيِلى؛ فيكون الكفر بها كفرًا باللَّه. وقوله - تعالى -: (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا) قيل: (نُصْلِيهِمْ): ندخلهم، وقيل: (نُصْلِيهِمْ): نشويهم؛ يقال: شاة مصلية، أي: مشوية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا): كلما احترقت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها، أي: جددنا لهم جلودًا غيرها؛ ليزدادوا التهابًا وإيقادًا من غير أن يسكن ألم العذاب، فهو من حيث التجديد غير؛ لأن الأولى قد احترقت ونضجت، ومن حيث العين نفسها هي الأولى، ألا ترى ما يقال: تبدل فلان، فإنما يقال من حيث تغيره من لون إلى لون، لا أن كانت تحولت نفسه وتبدل من حال إلى حال؛ فعلى ذلك قوله: (بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) هي من حيث العين أنها تلك بعينها واحد، وعلى ذلك البعث بعد الموت، والإنشاء هو من حيث التجديد غير، حيث تفانوا وذهبت آثارهم، ومن حيث الإعادة إلى الحالة الأولى هم بأنفسهم ليسوا بغير، وعلى ذلك قد سمي البعث خلقًا جديدًا، وإن كان بعث الأولى في المعنى. ثم تكلموا في قوله - تعالى -: (بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) قالوا: كيف كان أن يعذب جلودًا لا مأثم فيها، وإنَّمَا المأثم في الجلود التي احترقت ونضجت، وقالوا: أيدنا فيمن قطع يده وهو كافر، ثم أسلم، فمات على الإسلام، ما حال اليد المقطوعة، تعذب في النار، أو تكون مع النفس في الجنة؟ وفيمن قطعت يده وهو مسلم، ثم كفر، فمات على كفره، تلحق النفس أو تكون في الجنة؟ فالجواب لهذا كله: أن الجوارح والأعضاء ليست تعمل ما تعمل بالاختيار والطوع، ولكنها كالمكرهات والمقهورات في العمل؛ ألا ترى أن الإكراه عليها يوجب تحويل الفعل منها إلى المكره، فيجعل كأن المكره هو الذي قد فعل ذلك في حق الضمان؛ فهذا يدل أن هذه الجوارح كالمكرهات والمقهورات لحقت النفس حيث كانت. ثم معلوم: أن من أسلم في آخر عمره يتمنى سلامة جوارحه التي كانت ذهبت عنه؛

(57)

ليعمل بها في طلب مرضاة ربه - تعالى - وكذلك من كفر بعد الإسلام يتمنى سلامة جوارحه؛ ليستعملها فيما اختار من الدِّين، فإذا كان كذلك لحقت النفس حيث كانت في طاعتها ومعصيتها. وقالت فرقة من الملحدة: إن الثواب في الآخرة لا يكون لهذه النفس التي تأكل، وتشرب، وتعمل كل ما تعمل، ولكن إنما يكون للروحاني الذي جوهرها جوهر النور، لكن هذه النفس ممتحنة في الدنيا بالأكل والشرب، مشوبة بالآفات والعيوب، فإذا صفت عن الآفات، ونزهت عن العيوب التي بها امتحنت - صارت أهلًا للثواب العظيم، ومحلًا للجزاء الجزيل، وباللَّه العصمة والنجاة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) أما ذوق الطعام والشراب يكون بالفم؛ ليعرف طعمه ولذته، وأما ذوق العذاب فإنما يكون بكل جارحة منه؛ ليجد ألم ذلك في جميع الجوارح، واللَّه أعلم. والذوق في العرف جُعِلَ ليعرف الطعم، يلقب به كل شيء يعرف؛ يقال: لفلان ذوق في أمر كذا: أي بصر ومعرفة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) قيل: العزيز: هو ما يتعزز وجوده في الشاهد. وقيل: هو عزيز لا يعجز، فهو عزيز لما لا يوجد في الأفهام، ولا يدرك بالأوهام. وقيل: العزيز: المنتقم، وقد ذكرناه في غير موضع. وقوله - عز وجل -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ (57) من الآفات والعيوب، لسن كأزواج الدنيا ونسائها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) لا تنسخه الشمس، ولا أذى فيه؛ لأن الشمس فيها منافع للناس وأذى، وكذلك القمر فيه أذى، وإن كان فيه منافع، والظلمة كذلك فيها منافع وأذى، وأما الظل نفسه فليس فيه أذى على كل حال، فإن كان فهو للزمان، لا للظل بنفسه، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يدخلهم الظل الذي ليس فيه أذى الشمس، ولا أذى الظلمة، ولا أذى الزمان، ليس كظل الدنيا

(58)

مشوبًا بأذى غيره، واللَّه أعلم. وذلك تأويل الظليل أن يظله عن جميع المؤذيات، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) قيل: لما فتح اللَّه مكة على يدي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا رسول اللَّه، لو جعلت السقاية والحجابة فينا؛ فأخذ مفاتيح الكعبة من ولد شيبة فدفعها إلى العباس؛ فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية؛ فأخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مفاتيح الكعبة فردها إلى ولد شيبة، ثم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَم، إِن اللهَ - تَعَالَى - أَحَبَّ أَنْ يرزأ ولا يرزأ شيئًا ". وقيل: إنها نزلت في الأمراء في الفيء الذين استأمنهم على جمعها وقسمتها، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمتها. والآية يجب أن تكون نازلة في كل أمانة اؤتمن المرء فيها، من نحو ما كان فيما كان بينه وبين ربه، وما كان فيها بين الخلق. أما ما كان فيما بينه وبين ربه، من نحو العبادات التي أمر المرء بأدائها، ومن نحو تعليم العلم الذي رزقه اللَّه - تعالى - كقوله - سبحانه وتعالى -: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية، وكقوله - تعالى -: (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْ. . .) الآية، وكقوله - تعالى -: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) كل ذلك أمانة تدخل في قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، وكذلك كل أمانة يؤتمن المرء عليها تدخل في ذلك. ذكر أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَيهَا، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ".

ومن قال: نزلت في الأمراء، استدل بقوله - تعالى -: (أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)؛ لأن الحكم إلى الأمراء. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) قال: هي مبهمة، المؤمن والكافر سواء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) من الحكومة بالعدل، وأداء الأمانات إلى أهلها. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) يحتمل: مجيبًا لمن دعا له وسأل؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، يجيب لمن استجاب له، وأدى الأمانة. ويحتمل: (سَمِيعًا بَصِيرًا) أي: لا يخفى عليه شيء. واختلف أهل العلم في العارية إذا ضاعت:

قال أصحابنا - رحمهم اللَّه -: لا شيء عليه. وقال غيرهم: عليه الضمان. ولأصحابنا - رحمهم اللَّه - في ذلك عدة حجج: أحدها: أن المستعير إن لبس القميص، أو ركب الدابة، أو حمل عليها ما أذن له في حمله عليها، وأصابها في ذلك نقصان في قيمتها -فلا شيء عليه، فإذا لم يكن عليه ضمان فيما وقع بها من الضرر والنقص بفعله، ولبسه، وركوبه- فلا يجب عليه ضمان ما هلك منها بغير فعله. والثاني: ما روي عن ابن الحنفية، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: العارية ليس بتبعة، ولا مضمونة، إنما هي معروف، إلا أن يخالف فيضمن. وروي عن الحسن قال: إذا خالف صاحب العارية ضمن. واحتج من خالف أصحابنا في ذلك بحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " عَلَى اليَدِ مَا أَخَذَتْ حَتى تَرُدَّهُ " فالحديث يحتمل معنيين: أحدهما: أن يقال: معناه على اليد أن ترد ما أخذت إذا كان قائمًا عليها رده؛ ألا ترى أن الوديعة لا تضمن إذا تلفت، وعليه أن يردها إذا كانت قائمة، فالعارية مثلها.

والثاني: أن يحتمل معنى ذلك في الغصب وأشباهه؛ فعلى الغاصب أن يرده قائما أو تالفًا، ولا يدخل في عموم الخبر العارية؛ ألا ترى أن الوديعة لم تدخل فيها، وإن كان فيه أخذ. واحتجوا أيضًا - بحديث صفوان: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان يوم حنين درعًا، فقال: أغصب يا مُحَمَّد؟ فقال: " بَل عَارِية مَضْمُونَة ". وروي في خبر آخر: أن صفوان هرب من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يريد حنينًا، فقال: " يَا صَفْوَانُ، هَلْ عِنْدَكَ مِنْ سِلَاح؟ " قال: عارية أو غصبًا؟ قال: " بَلْ عَارِيةٌ " فأعاره، ولم يذكر فيه الضمان، فهو عندنا -إن ثبت خبر صفوان-: مضمونة الرد على المستعير، ورد العارية ليس كالوديعة؛ لأن الوديعة ما لم يطلب صاحبها لم ترد. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يؤيد قولنا، وهو قوله: " العَارِيةُ مُؤَداة ".

(59)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، فمن ولي أمرًا أو حكمًا فيما بين الناس فقد ولي الأمانة، يجب أن يؤديها إلى أهلها، وعلى ذلك جاءت الآثار: روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَا مِنْ أَحَدٍ يَكُونُ عَلَى شَيءٍ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ -قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ- فَلَا يَعْدِلُ فِيهِم إِلا أَكَبَّهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي النَّارِ ". وفي خبر آخر: " أَيُّمَا امْرِئٍ وَليَ مِنْ أَمْرِ الناسِ شَيئًا ثُمَّ لَم يُحِطْهُم مِثْلَ مَا يَحُوطُ بِهِ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ لَم يُرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ ". وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِليَّ وَأَقْرَبِهِم مَجْلِسًا مِني يَوْمَ القِيَامَةِ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وإن أَبْغَضَ النَّاسِ إِليَّ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَشَدَّهُم عَذَابًا: إِمَامٌ جَائرٌ ". * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فَإِنْ قِيلَ: كيف خص اللَّه - تعالى - المؤمنين بالخطاب بالطاعة له وطاعة الرسول والأمر بها يعم المؤمن والكافر جميعًا؟. قيل فيه بوجوه ثلاثة:

أحدها: أن من عادة الملوك أنهم إذا خاطبوا بشيء إنما يخاطبون أهل الشرف والمجد، ومن كان أسمع لخطابهم، وأعظم لقولهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) وقال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا)، يخاطبون أبدًا أهل الشرف والمجد، ومن هو أقبل لقولهم، وأطوع لأمرطم؛ فعلى ذلك خاطب اللَّه - تعالى - المؤمنين وأمرهم أن يطيعوه ويطيعوا رسوله، وإن كان الخطاب بذلك يعمهم. والثاني: يحتمل أن يكون الخطاب بذلك للمؤمنين خاصة؛ لأن الكافر إنما يخاطب باعتقاد الطاعة له أولا، فإن أجاب إلى ذلك فعند ذلك يخاطب بغيره، والمؤمن قد اعتقد طاعة ربه، وطاعة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لذلك خرج الخطاب منه للمؤمنين خاصة، واللَّه أعلم. ويحتمل: أن يكون تخصيص الخطاب للمؤمنين؛ لما أمر بطاعه أولي الأمر؛ ليعلم أنه إنما أمر بطاعة أولي الأمر إذا كانوا مؤمنين، واللَّه أعلم. ثم فيه دلالة جواز الطاعة لغير اللَّه؛ لأن كل من عمل بأمر آخر فقد أطاعه، هو الائتمار للآمر. وأما العبادة فهي إخلاص الشيء بكليته لله - عَزَّ وَجَلَّ - حقيقة؛ إذ الأشياء كلها لله بكليتها حقيقة، ليست لأحد سواه؛ لذلك لم يجز أن يعبد غير اللَّه - تعالى - وقد يجوز أن يطاع غيره؛ لما ذكرنا أن الطاعة هي الائتمار بالأمر، وليس العبادة؛ لذلك افترقا. ثم طاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تكون طاعة لله؛ لأنه بأمره يطاع، وفي طاعتهم له طاعته. ثم قيل: قوله - تعالى -: (أَطِيعُوا اللَّهَ) في فرائضه، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في سنته. وقيل: (أَطِيعُوا اللَّهَ) فيما أمركم ونهاكم في كتابه، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما أمركم ونهاكم في سنته.

ثم اختلف في أولي الأمر: قيل هم الأمراء على السرايا. وقيل: هم العلماء والفقهاء. وقيل: هم أهل الخير. ويحتمل: أولي الأمر: الذين يُوَلَّوْنَ السرايا. فكيفما ما كان ومن كان، ففيه الدلالة ألا يولى إلا من له العلم والبصر في ذلك، أمراء السرايا كانوا أو غيرهم؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر بطاعتهم، ولا يؤمر بطاعة أحد إلا بعلم وبصر يكون له في ذلك. والآية التي تقدمت، وهو قوله - تعالى -: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) يدل على أن أولي الأمر الأمراء؛ لأنه - تعالى - أمر الحكام في الآية الأولى بالعدل، وأمر الرعية بالسمع لهم والطاعة فيما يحكمون ويأمرون، واللَّه أعلم. ألا ترى أنه روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا َأَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإنْ أُمِّرَ عَلَيكُم حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا مَا أَقَامَ فِيكُم كِتَابَ اللهَ ".

وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عَلَى الْمَرءِ الْمُسْلِمِ السمعُ وَالطاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعصِيةٍ، فَمَنْ أُمِرَ بِمَعصِيَةٍ فَلَا سَمعَ عَلَيهِ وَلَا طَاعَةَ ". وبعد: هذه الآية والتي تليها تدل على أن أولي الأمر هم الفقهاء، وهو قوله - تعالى -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، والتنازع يكون بين العلماء؛ فكأنه - واللَّه أعلم - أمر في آية أولي الأمر بطاعتهم، وأمر أولي الفقه برد ما يختلفون فيه إلى كتاب اللَّه - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والآية تحتمل المعنيين - واللَّه أعلم -: أن على العامة طاعة أمرائهم في أحكامهم، وعليهم اتباع علمائهم في فتواهم؛ يبين ذلك قول اللَّه - تعالى -: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ. . .) الآية، فلو لم يجب على قومهم قبول قول علمائهم ما وجب عليهم إنذار قومهم. وفي هذه الآية دليل على إبطال قول الرافضة في الإمامة؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فليس يخلو أولو الأمر من أحد ثلاثة أوجه: إما أن يكون الأمراء، أو الفقهاء، أو الإمام الذي تدعيه الرافضة، فإن كان المعنى في أولي الأمر: الفقهاء أو الأمراء، ففيه إبطال قول الرافضة: إنه الإمام الذي يصفونه، ومحال أن يكون ذلك هو الإمام الذي يذكرونه؛ لأنه قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، وذلك الإمام عندهم طاعته مفترضة، وهم بين أظهر المتنازعين عندهم، ومخالفته كفر في مذهبهم، فلو كان ذلك كذلك، لقال - واللَّه أعلم -: " فردوه إلى الإمام؛ فإن من خالفه فقد كفر "، ولكنه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر برد المتنازع إلى كتاب اللَّه - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فدل على أن قول أحد لا يقوم في الحجة مقام قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) قيل: (إِلَى اللَّهِ)، أي: إلى كتاب اللَّه، أو إلى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا كان حيًّا، فلما مات، فإلى سنته.

واستدل قوم بهذه الآية على إبطال الاجتهاد، وترك القول إلا بما يوجد في كتاب اللَّه - تعالى - أو في سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، نصًّا، ويقولون: فَنَكِلُ أمره إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - ورسوله - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - وليس ذلك عندنا. والآية تحتمل وجهين: أحدهما: أن يحمل تأويلها على أن التنازع إذا كان في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وجب أن يرد إليه - عليه الصلاة والسلام - ويُسأل عن ذلك، ولا يُستعمل في الحادثة الاجتهاد ولا النظر. فأما ما كان من التنازع بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: فإن حكم الحادثة يطلب في كتاب اللَّه، أو في سنة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو في إجماع المسلمين، فإن وجد الحكم في أحدهم بينا وإلا قيل بالاجتهاد. والوجه الثاني: أن يكون المجتهد إذا ما اجتهد فيه إلى كتاب اللَّه - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيقول: وجدت في الكتاب أو في السنة كذا وكذا، وهذه الحادثة تشبه هذا الحكم، فحكمها حكمه، ويكون رادًّا لحكم الحادثة إلى كتاب اللَّه - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو شبهها بما وجده من الحكم فيهما. وإذا كان ما وصفنا من تأويل الآية محتملًا؛ فلا حجة لهم علينا في ذلك، واللَّه المستعان. وفي الآية دلالة جعل الإجماع حجة، وهو قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. . .) الآية، أنه إنما أمر بالرد إلى اللَّه والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند التنازع؛ لم يأمر عند الإجماع؛ دل أنه إذا كان ثَمَّ إجماع لا تنازع فيه، لم يجب الرد إلى ما أودع في الكتاب وفي السنة. وفي الآية دلالة أنه يدرك بالطلب المودع فيه؛ لأنه لو لم يدرك، أو ليس ذلك فيه، لم

يكن للرد إلى ذلك معنى؛ ألا ترى أنه قال اللَّه - سبحانه وتعالى -: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، فإنما يستنبط ما فيه؛ فدل أن حكم الحوادث، مذكور في هذين: في الكتاب، والسنة؛ إذ لو لم يكن الفرج عند النظر والطلب، لكان لا يفيد الأمر بالرد إليهما معنى. ثم لا توجد نصوص في كل ما يتلى، ثبت أنه مطلوب، وهو يدل على لزوم البحث في استخراج المودع من المنصوص، واللَّه أعلم. وفي قوله -أيضًا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. . .) الآية - تخصيص المؤمنين على اشتراك الجميع في اللزوم؛ يخرج على أوجه: أحدها: على مخاطبة الأشراف والنجباء، وعلى ذلك أمر الملوك في الأمور، يريدون اشتراك الرعية وأهل المملكة في ذلك؛ كقوله - سبحانه -: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ)، وقال سليمان - عليه السلام -: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ)، وقال فرعون للملأ: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ. . .)، ونحو ذلك، فمثله الذي نحن فيه، واللَّه أعلم. والثاني: أنهم مما قد عرفوا الأمور والمناهي؛ فقيل لهم: (أَطِيعُوا اللَّهَ) وما ذكر، واعلموا أنهم فيمن أمروا به ونهوا عنه، ولم يكن من الكفرة علم بالذي يوجهون الأمر إليهم؛ فلذلك خص من ذكر، واللَّه أعلم. والثالث: أن الكفرة قد أنكرت المعبود والرسول، فجرى الخطاب فيمن ثبتت لهم المعرفة بذلك، مع ما يحتمل: أن يكون هذا الخطاب في الشرائع، وهي غير لازمة للكفرة؛ فلذلك كان على ما ذكرت. والرابع: ما أدخل في الخطاب أولي الأمر منا، ولا يلزمهم طاعتهم؛ لذلك خص المؤمنين، وكان المقصود بالآية بيان طاعة أولي الأمر منا، وإلا كانت طاعة اللَّه - تعالى - وطاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما كان إيمانهم قد ثبت، ولكن جمعت طاعة من ذكر؛ ليعلم أن قد يكون بطاعة أولي الأمر طاعة اللَّه، واللَّه الموفق.

ومما يبين الذي ذكرت أن كل من عرف الإله، عرف أن عليه طاعته بما عرف اسمه الذي سمت العرب كل معبود: إلهًا، فمن عرف منهم الإله عرف أنه معبود، ثم من عرف ما له عنده من الأيادي، وعليه من النعم علم أن عليه شكره وطاعته به. ثم من عرف الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، عرف أن طاعته هي طاعة اللَّه؛ لأنه إليه يدعو، وعن أمره ونهيه يأمر وينهى؛ إذ هو رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منه إلى الخلق، وليس من عرف اللَّه وعرف الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعرف أن عليه طاعة أولي الأمر بما لم يرو عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فبين اللَّه - تعالى - ذلك في هذه الآية؛ ليعلموا أن طاعتهم هي طاعة اللَّه وطاعة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك هو الدليل على جعل الإجماع حجة، وأن متبعهم هو مطيع للَّهِ - تعالى - إذ صير اللَّه - تعالى - طاعتهم طاعته، وهم في ذلك الإجماع. وعلى ما ذكرت من شأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخرج قوله - تعالى -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. . .)، وقوله - تعالى -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ) الآية، صير الواجد حرجًا مما قضى واجدًا حرجًا من قضاء اللَّه - تعالى - في نفي حكم الإيمان؛ وعلى ذلك قوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ، أي: ليكون عليهم طاعته بأمر اللَّه - تعالى - إذ هي طاعة اللَّه أولا؛ لتكون طاعته طاعة اللَّه بإذنه وبأمره، واللَّه الموفق. ثم اختلف في أولي الأمر، ومعلوم أنهم هم الذين إليهم يرجع تدبير أمور الدِّين، وعن آرائهم يصْدرُ وهم الذين تضمنتهم آية أرجو أن يكون فيها الكفاية في تعريف المقصود بها، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، فجعل أولي الأمر مَنْ عندهم علم الاستنباط، وشهد لهم بالعلم فيما رد إليهم؛ فثبت أنهم الفقهاء المعروفون بالاستنباط ورعاية أمور الدِّين، وفي هذا -أيضًا- دلالة على إصابتهم فيما أجمعوا عليه؛ إذ شهد لهم في الجملة بالعلم؛ وعلى ذلك قوله - تعالى -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. . .) الآية، وقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. . .) الآية. ثم كانت الشهادات والأمر والنهي للعلماء بهما؛ ثبت أن الأمر في ذلك ينصرف إلى العلماء، وأنهم إذا اجتمعوا على شيء بالأمر أو بالنهي، يكون إجماعًا؛ لأن ذلك كذلك عند اللَّه - تعالى - وتجوز شهادتهم على جميع العوام ومن تأخرهم، ومن ذلك في الأمور

التي تجري بها البلية والعمل بها في العامة، مما لا يحتمل خفاء مثله، على ما ذكرت من الخاص أن ذلك كان عند أُولَئِكَ الخاص على ذلك؛ إذا لم يغيروا ولا شهدوا في ذلك بغيره، وأمراء السرايا لو كانوا أهل البصر في الأمر مع العلم بالشرع والفتيا يلزم فيهم ذلك؛ لأنهم صيروا في الباب أهل الأمر. وأيد الأول أنهم العلماء -: قوله - تعالى -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) ومعلوم أن على العوام لذي الإشكال والحاجة الرد إلى أولي الأمر بما ذكرت من الآية، فثبت أن هذا في تنازع العلماء، وهو يوضح إبطال قول الروافض في جعل أولي الأمر إمامهم، وإبطال قول من يجعل أولي الأمر كل أمير أو نحوه، وإنَّمَا هم العلماء في كل نوع، حتى يمكن فيهم التنازع، وإمامهم واحد لا معنى للتنازع فيهم، والتنازع إنما بكون عن تدبر وبحث ونظر، ولا معنى في ذلك للعوام الذين لا يعرفون الأصول والفروع، واللَّه الموفق. ثم اختلف في تأويل قوله - تعالى -: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ): فقال قوم: كأنه قيل: كِلُوا الأمر فيه إلى اللَّه - تعالى - والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا تجتهدوا فيه؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)، تعالى، ولأن الاختلاف كان على تأويل الكتاب والسنة، فكيف يطلب من بعد فيهما، وبعد الطلب حدث التنازع؟!. وقال قوم: الاختلاف يقع في التأويل بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) إلى ظاهر ذلك، ولا تتأولوا فتختلفوا؛ إذ الأول كان على التأويل. وقال قوم: هذا كان في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يظهر في ذلك نص الحكم والحق في ذلك؛ فيكون الأمر الذي يتنازع فيه أولو الأمر لم يجز لأحد العمل إلا بالبيان، ولهم وجه الوصول إلى البيان في الحقيقة، فأمروا بذلك مع ما كان يجوز أن يكون التنازع في وقت لم يفرغ من بيان جميع ما بالخلق إليه حاجة بالكفاية؛ إذ كان ذلك الوقت وقت حدوث الشرائع، ووقت احتمال التناسخ وتبديل الأحكام، فإن وقع التنازع بين المجتهدين فلهم مع إشكال التنازع شبهة احتمال أن أصله لم ينزل، وأن الذي يتضمن حكمه من المنصوص لم يبلغهم في ذلك، فيجب في ذلك الرد إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - بالرد إلى

رسوله مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وأما بعده فقد فرغ من جميع أصول الحوادث التي يعلم اللَّه - سبحانه وتعالى - أنها تقع بيان كفاية؛ إذ لو لم يبين ذلك القدر لبقي تنازع لا ارتفاع له، ولا يجوز الحكم، ولكان لا يعلم الحادث الذي له أصل يطلب أولاً، وفي ذلك تمكين المعنى الذي يخرج إلى الرسالة مع ما قد تكلم جميع الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - ومن بعدهم إلى اليوم في الحوادث من غير أن يظهر يهن أحد قول بأن هذا هو ما لم ينزل له الأصل، فصار ذلك إجماعًا في بيان أصول كل حادث؛ فيجب طلبه في الأصول، واللَّه أعلم. والأصل: أنه فيما يوكل إلى أحد يوكل إلى من يعلم الحكم ويملك إظهاره، فلو كان للتنازع يجب الرد إلى اللَّه - تعالى - وترك الحكم في ذلك بالاجتهاد؛ فإذًا يبطل أن يكون في الرد إليه علم بحكمه إلا للوقت الذي لا يحتاج إلى الحكم؛ وهو يوم القيامة؛ على أنه معلوم لو كان يرده إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكان لا يدعهم على ما هم عليه من التنازع الذي هو أصل كل شين وفساد؛ فعلى ذلك فيما يرد إلى اللَّه، سبحانه وتعالى. وإذا علم - عَزَّ وَجَلَّ - بجميع النوازل وبجميع ما بالخلق إليه حاجة فصارت النوازل كلها مردودات إليه؛ فيجب أن يكون حكم فيها؛ إذ قال اللَّه، - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحُكمُهُ إلَى اللَّهِ)، تعالى، وإذا لم يحكم فيها لم يصر الحكم إليه، بل لا حكم فيه إلى اللَّه - تعالى - فلما وجب بالذي ذكرت أن يكون ذلك مما تضمنه البيان - لزم الاجتهاد. ثم لو كان الحق عند التنازع الظاهر دون أن يطلب -على أصح التأويلات- دليل، لكان لا يجوز التنازع أن يقع؛ لأن الظاهر قد كان في أيديهم وهو حجة لا يحتمل أن يتركه أحد إلا بالدليل لو كان حجة، وكان قد قام الدليل على لزوم العدول عن الظاهر بتأويل جميع أولي الأمر في ذلك؛ فثبت أن دليل ذلك مطلوب يوجد، ويتفقون عليه إذا أنصفوا، وأنعموا النظر، وأعرضوا عن حسن الظن، ففريق من الأئمة على أن الذي يقوله هَؤُلَاءِ يقتضي أحكام الحوادث كلها بيقين؛ فثبت أن أحكامهم مودعات في المنصوص؛ فصرن متعلقات بالمعاني، لا بالظواهر. ثم الأصل: أن العمل بالظواهر في محتمل المعاني ومختلف التأويلات مما فيه التنازع

في الأمة، وللتنازع أمر بالرد؛ فبعيد أن يرد إلى ما لم يثبت صحته، بل في الظاهر وجه في ظاهر الاسم باللسان، والظاهر من التفاهم في المعتاد؛ نحو القول بأن اغسلوا وجوهكم، أنه بأي شيء غسل يستحق اسم الغسل في اللغة، لكن لما يغسل به عادة في الاستعمال إلى ذلك ينصرف الخطاب، ويصير الظاهر في المعتاد به أولى من الظاهر في اللسان، ويكون في ذلك منع الذي ذكر حتى يوضحه دليل، أو يعلم أنه المعتاد؛ فيكون ذلك دليلًا، واللَّه أعلم. ثم لا يحتمل التنازع فيما فيه المعتاد من التفاهم والعدول عنه إلا بدليل؛ فيجب القول لمن عدل إن كان عنده دليل؛ فيكون بما يوجب العمل منع، واللَّه أعلم. ثم قيل في قوله - تعالى -: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بأوجه ثلاثة: (أَطِيعُوا اللَّهَ) - تعالى - فيما أمر، والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما بلغ، وأطيعوا اللَّه فيما فرض، والرسول فيما سَنَّ، وأطيعوا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيما أنزل ونص، والرسول فيما بَيَّنَ. والأصل في معهود اللسان: أن الطاعة تكون في الائتمار، فرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مطاع في جميع ما أمر، لازم طاعته في ذلك وأمره -إذا ثبت أنه أمره- هو أمر اللَّه - تعالى - وطاعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - طاعة اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وله يجب به ظهور الخصوص والعموم والتناسخ جميعًا، وبه تبين الفرض والأدب وكل نوع، وما يظهر، فباللَّه - تعالى - ظهر على لسانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: كتابًا كان، أو تنزيلا كان، أو تأويلاً، فالتقسيم بين الذي لله - عَزَّ وَجَلَّ - والذي لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوجب الشبهة، وَتَوَهُّم الاختلاف، جل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يبعث رسولا يخالفه، وباللَّه المعونة والتوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي: ذلك الرد خير إلى ما ذكر. ويحتمل: (ذَلِكَ خَيْرٌ) أي: الائتلاف فيما أمكن فيه خير من الاختلاف وأحمد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي: عاقبة.

(60)

وقيل: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي: خبرًا. وفي حرف حفصة: " ذلك خير وأحسن ثوابًا ". وعن ابن عَبَّاسٍ: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) قال: القرآن أحسن تأويلا. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. . .) الآية. ذكر في القصة: أن رجلين تنازعا: أحدهما منافق، والآخر يهودي، فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف، وقال اليهودي: اذهب بنا إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فاختصما إلى نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقضى لليهودي على المنافق، فلما خرجا قال المنافق: انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب نختصم إليه، فأقبل معه اليهودي إلى عمر - رضي اللَّه عنه - فقال اليهودي: يا عمر، إنا اختصمنا إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقضى لي عليه، فزعم أنه لا يرضى بقضائه، وهو يزعم أنه يرضى بقضائك، فاقض بيننا، فقال عمر - رضي اللَّه عنه - للمنافق: كذلك؟ قال: نعم، فقال: رويدكما أخرج إليكما، فدخل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - البيت، فاشتمل على السيف، ثم خرج فضرب به عنق المنافق، فأنزل اللَّه - تعالى -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) والطاغوت، قيل: هو كعب بن الأشرف.

(61)

وقيل: (الطَّاغُوتِ): هو اسم الكاهن. وقيل: (الطَّاغُوتِ): الكافر. والطاغوت: هو كل معبود دون اللَّه - تعالى - وعلى هذا التأويل خرج قوله - سبحانه وتعالى -: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ. . .) أي: جاء أهل النفاق يحلفون باللَّه: أنه لم يرد بالتحاكم إلى ذلك إلا إحسانًا وتوفيقًا. وفي الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك أن قوله - سبحانه وتعالى -: (يُرِيدُونَ أن يَتَحَاكمُوَا) قصدوا أن يتحاكموا ولم يتحاكموا بعد، فأخبرهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بذلك؛ فعلموا أنه إنما علم ذلك باللَّه، لكنهم لشدة تعنتهم وتمردهم لم يتبعوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) أي: أمروا أن يكفروا بالطاغوت؛ كقوله - تعالى -: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) أي: يزين لهم الشيطان ليضلوا ضلالاً بعيدًا؛ أي: لا يعودون إلى الهدى أبدًا، فيه إخبار أنهم يموتون على ذلك، فكذلك كان، وهو في موضع الإياس عن الهدى. وقيل: بعيدا عن الحق. وقيل: طويلا، وهو واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ... (61) أي: إذا قيل لهم: تعالوا إلى حكم ما أنزل اللَّه في كتابه، وإلى الرسول، وإلى أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسنته - (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) والصدود: هو الإعراض في اللغة، والصد: الصرف. وقال الكسائي: يقرأ: " يَصِدُّونَ " بكسر الصاد، و " يَصُدُّونَ " بضم الصاد.

(62)

وفي حرف حفصة: " وإذا دعوت الكافرين والمنافقين إلى ما أنزل اللَّه رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) يحتمل هذا ما ذكر في القصة الأولى: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما قتل ذلك الرجل المنافق جاء المنافقون إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يحلفون باللَّه ما أراد ذلك الرجل إلا (إِحْسَانًا) أي: تخفيفا وتيسيرًا عليك؛ ليرفع عنك المؤنة، (وَتَوْفِيقًا) إلى الخير والصواب. وقيل: نزلت في المنافقين في بناء مسجد ضرار؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى).

(63)

ويحتمل قوله - تعالى -: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) الآية) في كل مصيبة تصيبهم، وكل نكبة تلحقهم أن كانوا يأتون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيعتذرون كما (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ. . .) الآية؛ لأنهم كانوا يميلون إلى حيثما كانوا يطمعون من المنافع من الغنيمة وغيرها، إن رأوا النكبة والدبرة على المؤمنين مالوا إلى هَؤُلَاءِ، ويظهرون الموافقة لهم؛ طمعًا منهم، ويقولون: إنا معكم، وإن كانت النكبة والدبرة على الكافرين يظهرون الموافقة لهم؛ كقوله - تعالى -: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، هذا كان دأبهم وعادتهم أبدًا. وقوله - تعالى -: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) قيل فيه بوجوه: قيل: إلا تخفيفًا وتيسيرًا عليك. وقيل: قالوا: تحاكمنا إليه على أنه إن وفق، وإلا رجعنا إليك. وفيه دلالة بطلان تحكيم الكافر والتحاكم إليه، وذلك حجة لأصحابنا - رحمهم اللَّه - واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ... (63) من النفاق والخلاف غير ما حلفوا، (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)، ولا تعاقبهم في هذه المرة، (وَقُلْ لَهُمْ): إن فعلتم مثل هذا ثانية عاقبتكم. ويحتمل: أن يكون على الوعيد، أي: لا تعاقبهم؛ فإن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو معاقبهم. وقوله - تعالى -: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) قيل: أي: تخفيفًا وتيسيرًا عليك، على أنه إن وفق للصواب وإلا رجعنا إليك؛ إحسانًا وتوفيقًا؛ لما لعل التحاكم إليهم يحملهم على الرجوع إلى دين الإسلام.

(64)

وقيل: (إِحْسَانًا): يحسنون إلينا ويبروننا بفضول أموالهم. وقيل: (وَتَوْفِيقًا): بفضول أموالهم. وقيل: (وَتَوْفِيقًا): أي: صوابًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) قيل: أوعدهم وعيدًا؛ حتى إذا عادوا إلى مثله يعاقبون. وقيل: ألزمهم الحجة في ذلك وأبلغها إليهم؛ حتى إذا عادوا عاقبتهم. * * * قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. . .) الآية. يحتمل قوله - تعالى -: (بِإِذْنِ اللَّهِ) وجوهًا: قيل: (لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بمشيئة اللَّه. وقيل: (لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بأمر اللَّه. وقيل: (لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بعلم اللَّه. ومن قال: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، بمشيئة اللَّه؛ أي: من أطاع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما يطيعه بمشيئته، وكذلك من عصاه إنما يعصيه بمشيئته، من أطاعه أو عصاه فإنما ذلك كله بمشيئة اللَّه. ومن تأول: (إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) العلم، يقول: إنه يعلم من يطيعه ومن يعصيه، أي: كل ذلك إنما يكون بعلمه، لا عن غفلة منه وسهو، كصنيع ملوك الأرض أن ما يستقبلهم من العصيان والخلاف إنما يستقبلهم الغفلة، منهم وسهو بالعواقب، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - إذا بعث رسلا بعث على علم منه بالطاعة لهم وبالمعصية، لكنه

بعثهم لما لا ينفعه طاعة أحد؛ ولا يضره معصية أحد، فإنما ضر ذلك عليهم، ونفعه لهم. ثم قالت المعتزلة في قوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ): أخبر أنه ما أرسل الرسل إلا لتطاع، ومن الرسل من لم يطع؛ كيف لا تبينتم أن من الفعل ما قد أراد - عَزَّ وَجَلَّ - أن يفعل، وأن يكون، ولكن لم يكن على ما أخبر أنه ما أرسل من رسول إلا ليطاع. ثم من قد كان من الرسل ولم يطع. قيل: هو ما ذكر في آخره: (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بمشيئة اللَّه، فمن شاء من الرسل أن يطاع فقد أطيع، ومن شاء ألا يطاع، فلم يطع، وكذلك من علم أنه يطاع فأرسله ليطاع فأطيع، ومن علم أنه لا يطاع فلم يطع، ومن أرسل أن يطاع بأمر ليكون عليه الأمر فذلك مستقيم، ومن أرسل ليطاع بالأمر فلا يجوز ألا يطاع. وقوله -أيضًا-: (لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) قيل فيه: بأمر اللَّه، وقد مرّ بيانه. وقيل: ليطاع بمشيئة اللَّه؛ فيطيعه كل من شاء اللَّه. وقيل: بعلم اللَّه، فهو فيمن يعلم أنه يطيعه؛ إذ لا يجوز أن يعلم الطاعة ممن لا يكون. والمعتزلة في هذا: أنه أخبر أنه أرسل ليطاع، ولم يطعه الكل ما يبعد أن يكون أراد ليطاع وإن كان لا يطيعه الكل. فقلنا: إذا قال: (لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، والإذن يتوجه إلى ما ذكرت؛ فعلى ما ذكرت كان ليطاع ممن يطيعه لا غير؛ فحصل الأمر على الدعوى، وهو كقوله - تعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، ومعلوم أن الصغار منهم لا يعبدون، فخرج الخبر إلى الخصوص بالوجود، لا أن كان في كل أمر؛ فعلى ذلك أمر الإرادة فيمن وجد، لا أنه في كل على أنه فيه بعلم، وهو يرجع إلى بعض دون الكل، فمثله الإذن على إرادة المشيئة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي: علموا أن حاصل ظلمهم راجع إليهم؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير

(65)

موضعه، وهم وضعوا أنفسهم في غير موضعها، فإذا لم يعرفوا أنفسهم لم يعرفوا خالقها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ) أي: جاءوك مسلمين، تائبين عن التحاكم إلى غيرك، راضين بقضائك، نادمين على ما كان منهم، (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) أي: تشفع لهم الرسول، (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) أي: قابلا لتوبتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ... (65) قيل: قوله: (فَلَا) صلة، وكذلك في كل قسم أقسم به؛ كقوله تعالى: (لَآ أُقسِمُ بِهَذَا البلَدِ)، (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)، ونحوه، كله صلة، كأنه قال: أقسم وربك لا يؤمنون. وقيل: قوله: (فَلَا وَرَبِّكَ) ليس هو على الصلة، ولكن يقال ذلك على نفي ما تقدم من الكلام وإنكاره؛ كقول الرجل: لا واللَّه، هو ابتداء الكلام، ولكن على نفي ما تقدم من الكلام، فعلى ذلك هذا. وفيه دلالة تفضيل رسولنا، مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غيره من البشر؛ لأن الإضافة إذا خرجت إلى واحد تخرج مخرج التعظيم لذلك الواحد، والتخصيص له، وإذا كانت إلى

جماعة تعظيمًا له؛ كقوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)، وقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ونحوه. وقوله - تعالى -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حاكمًا وإن لم يحكموه، ليس معناه - واللَّه أعلم -: (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي: حتى يرضوا بحكمك وقضائك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي: اختلفوا بينهم وتنازعوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) قيل ضيقًا. وقيل: شكا مما قضيت بينهم أنه حق. وقيل: إثمًا. ثم في الآية دلالة أن الإيمان يكون بالقلب؛ لأنه قال - تعالى -: (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي: في قلوبهم؛ ألا ترى أنه قال اللَّه - تعالى - في آية أخرى: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا)، ذكر ضيق الصدر، وذكر ضيق الأنفس، وهو واحد؛ ألا ترى أنه قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -، في آية أخرى: (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)، فهذه الآيات ترد على الكرامية قولهم؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) وهم يقولون: بل يؤمنون، فيقال لهم: أنتم أعلم أم اللَّه؟!. ثم قيل: إن الآية نزلت في اليهودي والمنافق اللذين تنازعا، فتحاكما إلى الطاغوت.

وقيل: نزلت في شأن رجل من الأنصار والزبير بن العوام كان بينهما تشاجر في الماء، فارتفعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال للزبير: " اسْقِ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ "، فغضب ذلك الرجل؛ فنزلت الآية (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. . . .) الآية. ولا ندري كيف كانت القصة؟ وفيم كانت؟. ثم روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في بعض الأخبار أنه قال: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ، وَوَلَدِهِ، وَمَالِهِ، وَالنَّاسِ جَمِيعًا ". وقيل في قوله - تعالى -: (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي: في قلوبهم (حَرَجًا) أي: شكًّا (مِمَّا قَضَيْتَ) أنه هو الحق (وَيُسَلِّمُوا) ولقضائك لهم وعليهم (تَسْلِيمًا). وفي قوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ) قيل: تأويله: أنه ما أرسل رسولا في الأمم السالفة إلا ليطيعوه، فكيف تركتم أنتم طاعة الرسول الذي أرسل إليكم. وقوله - تعالى -: (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) ما أرسل اللَّه رسولا إلا وقد أمرهم أن يطيعوه، لكن منهم من قد أطاعه، ومنهم من لم يطع. * * * قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ

(66)

مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ. . .) الآية. قال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو كانت علينا نزلت يا رسول اللَّه، لبدأت بنفسي وأهل بيتي، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ذَاكَ لفَضْلِ يَقِينِكَ عَلَى يَقِينِ النَّاسِ، وَإِيمَانِكَ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ ". وعن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال رجل من الأنصار: واللَّه، لو كانت علينا لقتلنا أنفسنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لَلْإِيمَانُ أَثْبَت فِي صُدُورِ الرجَالِ مِنَ الأَنْصَارِ مِنَ الجِبَالِ الرَّوَاسِي ". وقيل: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ. . .) الآية: هم يهود [يعني والعرب] (¬1) كما أمر أصحاب موسى، عليه السلام. وقيل: قال عمر - رضي اللَّه عنه - ونفر معه: واللَّه لو فعل ربنا لفعلنا، فالحمد للَّهِ الذي لم يجعل بنا ذلك، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَلْإيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الجِبَال الرَّوَاسِي ". ¬

_ (¬1) في المطبوع هكذا [تغنا العرب]. والتصويب من الدر المنثور كما أشار إليه محقق الكتاب. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

(67)

ثم اختلف في قتل الأنفس: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو أن يقتل كلٌّ نفسَهُ. وقال آخرون: هو أن يأمر أن يقتل بعض بعضًا، وأما قتلُ كلٌّ نفسَهُ فإنه لا يحتمل لوجهين: أحدهما: وذلك أنه عبادة شديدة مما لا يحتمل أحد؛ كقوله - تعالى -: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، أخبر أنه لا يكلف ما لا طاقة له. والثاني: أن فيه قطع النسل وحصول الخلق للإفناء خاصة، وذلك مما لا حكمة في خلق الخلق للإفناء خاصة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)، قيل: هو عبد اللَّه بن مسعود، وعمار، وفلان، وفلان - رضي اللَّه عنهم - ولا ندري أيصح أم لا؟ ولو كان قوله - تعالى -: (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) قتل بعض بعضا فذلك ما أمروا به بمجاهدة العدو، والإخراج من المنزل، والهجرة، ثم أخبر أنهم لا يفعلون ذلك إلا قليل منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) يحتمل هذا وجهين: لو فعلوا ما يؤمرون به من الإسلام والطاعة لكان خيرًا لهم من ذلك. ويحتمل: لو أنهم فعلوا ما يؤمرون به من القتل لو كتب عليهم، لكان خيرًا لهم في الآخرة، (وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) قيل: حقيقة. وقيل: تحقيقًا في الدنيا. وقيل: ما يوعظون به من القرآن (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) في دينهم (وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) يعني: تصديقًا بأمر اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) يحتمل وجهين:

(68)

الأجر العظيم في الآخرة. ويحتمل: في الدنيا؛ كقوله: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى). وقوله: (وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) فهو الهادي للعباد إلى الطريق المستقيم. وقيل: تثبيتا لهم في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ... (69) قيل في بعض القصة: إن رجلاً جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فبكى، ثم قال: والذي لا إله غيره لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي وولدي وأهلي، وإني لأذكرك، فلولا أني أجيء فأنظر إليك، لرأيت أني سأموت، وذكرت موتي وموتك، ومنزلتك في الجنة ترفع مع النبيين، فإني وإن أُدخلت الجنة كنت دون ذلك، وذكرت فراقي إياك عند الموت، فبكيت لذلك. فما أجاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شيئا؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. . .) الآية، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَبْشِر يَا أبَا فُلَانٍ، أَنْتَ مَعِي فِي الجَنَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ " وروي، أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خرج ذات يوم على بعض أصحابه، فرأى بوجوههم كآبة

وجزعًا، قال: فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَا لَكُم؟ وَمَا غَيَّرَ وُجُوهَكُم وَلَوْنَكُمْ؟ " فقالوا: يا رسول اللَّه، ما بنا من مرض ولا وجع، غير أنَّا إذا لم نرك ولم نلقك اشتقنا إليك، واستوحشنا وحشة شديدة حتى نلقاك، فهذا الذي ترى من أجل ذلك، ونذكر الآخرة فنخاف ألا نراك هناك؛ فأنزل اللَّه - تعالى - (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ. . .) الآية. ويحتمل: أن لم يكن في واحد من ذلك، ولكن في وجوه آخر. أحدها: أن اليهود، وغيرهم من الكفرة، والذين آذوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأفرطوا في تعنتهم وتمردهم في ترك إجابتهم إياه، وطاعتهم له - ظنوا أنهم وإن أسلموا وأطاعوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يقبل ذلك منهم توبتهم، ولم ينزلوا منزلة من لم يؤذه، ولم يترك طاعته، فأخبر - عز وجل -: أنه إذا أطاع اللَّه والرسول فيكون: (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) كأن لم يترك طاعته أبدًا - واللَّه أعلم - كما قال - تعالى -: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). ويحتمل: أن يكون ذلك لما سمعوا أن لكل أحد في الجنة مثل الدنيا فظنوا ألا يكون لهم الاجتماع والالتقاء؛ لبعد بعضهم من بعض، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن يكون لهم الاجتماع؛ لأن ذلك لهم في الدنيا من أعظم النعم وأجلها. ويحتمل: أن يكون على الابتداء: أن من أطاع اللَّه - تعالى - والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيكون (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)، في دار واحدة، لا يكونون في غيرها؛ فهذه الوجوه كأنها أشبه - واللَّه أعلم - إذ هم بالطاعة أجابوا، واللَّه أعلم. ثم اختلف في (وَالصِّدِّيقِينَ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: أتباع الأنبياء - عليهم السلام -

(70)

وخلفاؤهم في كل أمر من التعليم، والدعاء لهم إلى كل خير وطاعة. وقيل: الصِّدِّيق: هو الذي يصدق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أول دعوة دعاه إلى دين اللَّه - تعالى - وفي أول ما عاينه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالشُّهَدَاءِ) قيل: الشهيد: الذي قتل في سبيل اللَّه. وقيل: الشهيد: هو القائم بدينه. وقيل: الصديقون والشهداء والصالحون كله واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) دلت الآية على أن الجزاء إفضال من اللَّه - تعالى - إذ قد سبق من عنده الإنعام والإفضال عليهم؛ فيخرج طاعتهم له مخرج الشكر له، لا أن عليه ذلك وأن الجنة لا يدخل فيها إلا برحمته وفضله. وقوله: -أيضًا- (ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ) أي: ذلك الإنعام الذي أنعم عليهم فضل من اللَّه. ويحتمل قوله: (ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ) أي: ما أحسن من الرفقة بينهم؛ فذلك فضل منه. والآية ترد على أصحاب الأصلح؛ لأن تلك الأفعال إنما صارت قربة للَّهِ بإنعام من الله وإفضاله وتوفيقه، وبه استوجبوا الثواب. وقوله - تعالى أيضًا -: (ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ) بعد العلم بأن الفضل هو بذل ما لم يكن عليه، وبذل ما عليه هو الوفاء، لا الفضل في متعارف اللسان والمعتاد. ثم لا يخلو من أن يرجع منه إلى الخيرات التي اكتسبوها؛ فيبطل به قول المعتزلة بما لا يخلو من أن كان منه ذلك الفضل أو مثله إلى الكافر أولى، فإن كان منه لم يكن للامتنان منه بالذي كان منه وجه يستحقه، وقد كان منه إلى غيره، فلم ينل تلك الدرجة، ولا بلغ تلك الرتبة؛ فبان أنه لا بذلك بلغ من بلغ، فيكون منه فيما لم يكن. وأيضًا: إنه لو لم يكن معه ذلك عنهم لم يكن البذل فضلا لما ذكرت؛ ثبت أن ليس الحق عليه كل ما به الأصلح في الدِّين؛ لما يزيل معنى الفضل، وإن لم يكن إعطاء الكافر مثله فهو عندهم محاباة منه على المؤمن، وقد منع بعض ما عليه في الأصلح، وذلك عندهم بخل، جل اللَّه عما وصفوه.

(71)

وإن كان ذلك في الثواب دل أن له أن يثيب حتى يصير ما أثاب عليه فضلا، ولا يحتمل ألا يرضى بطاعة العبد واتباع رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فثبت أن الرضا ليس هو المراد، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) قيل: عليمًا بالآخرة وثوابها. وقيل: (وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) بما وعد من الخير في الآخرة لهَؤُلَاءِ الأصناف. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: الصديقون هم الذين أدركوا الرسل - عليهم السلام - وصدَّقوهم. وعن أبي ذر - رضي اللَّه عنه - قال: الصديقون هم المؤمنون. وقيل الصديقون: السابقون، الذين سبقوا إلى تصديق النبيين، أنعم اللَّه عليهم بالتصديق، والشهداء: هم الذين أنعم اللَّه عليهم بالشهادة. والصالحون: هم المؤمنون أهل الجنة. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) قيل: خذوا عدتكم من السلاح. وقيل: قوله: (خُذُوا حِذْرَكُمْ) من جميع ما يحترز به العدو؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. . .) الآية، وكقوله -

تعالى -: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً)، أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالاستعداد للعدو، والإعداد له، وألا يوكل الأمر في ذلك إلى اللَّه دون الإعداد للعدو. وقيل: لقاؤه، وإن كان يقدر على نصر أوليائه وقهر عدوه من غير الأمر بالقتال معهم؛ إذ في ذلك محنة امتحنهم بها؛ فعلى ذلك أمرهم بالإعداد للعدو، وأخذ الحذر لهم، وذلك أسباب تعد قبل لقائهم إياه. وفيه دلالة تعلم آداب الحرب قبل لقاء العدو؛ ليحترس منه. وفيه دلالة إباحة الكسب؛ لأنه فرض عليهم الجهاد، وأمر بالإعداد له؛ ليحترس من العدو، ولا يوصل إلى ذلك إلا بالكسب، واللَّه أعلم. وفي قوله -أيضًا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي: ما تحذرون به عدوكم، وما تحذرونه وجوه: منها: الأسلحة، ومنها: البنيان، ومنها: النّكْر عند الالتقاء، والثبات، وذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كما قال: (فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)، وفي هذا الأمر بالإعداد للعدو قبل اللقاء، وأيد ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً)، وكذلك قوله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)، فيكون الأمر بالإعداد قبل وقت الحاجة دليل جواز الكسب لحاجات تجددت، وأن الاستعداد للحاجات ليس برغبة في الدنيا؛ إذ لم يكن الإعداد فشل ولا ترك التوكل، على أن الجوع وحاجات النفس تعين وتلقي العدو، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) قيل: الثبات: هو السرايا (أَوِ

انْفِرُوا جَمِيعًا) يعني: عسكرًا. وقيل: (ثُبَاتٍ) يعني: فرقًا، (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا): مجموعًا. وقيل: (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ) أي: عصبًا، (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا). وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: زحفًا. وقيل الثبات: الأثبات، والثبة في كلام العرب الجمع الكثير، ومعناه: انفروا كثيرًا أو قليلا، وفي ذلك دلالة الأمر بالخروج إلى العدو فرادى وجماعة، وفرقًا وجماعة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ) أي: إذا استنفرتم فانفروا ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) ومعلوم أن عليهم الدفع، فيحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (انْفِرُوا) إذا أَزُّوا؛ أي: على ما استنفرتم من جميع أو بعض؛ فيكون في ذلك دلالة قيام البعض عن الكل على غير الإشارة إلى ذلك، وقد يجب فرض في مجهول على كل القيام حتى يعلم الكفاية بمن خرج، وهو كفرائض تعرف لا تعرف بعينها، أو حرمات تظهر لا يعرف المحرم بعينه، فعلى من حرم عليه الإيفاء والقيام بجميع الفرائض؛ ليخرج عما عليه، ثم إذا غلب عليهم في التدبير الكفاية بمن خرج سقط عن الباقين، ولو لم يكن يسقط لم يكن للإمام استنفار البعض؛ يدل على ذلك قوله - تعالى -: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ. . .) الآية، وقوله - تعالى -: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)، وأصله أنه فرض لعله لا يجوز بقاؤه، وقد زالت العلة، على أن خروج الجميع من جهة إبداء للعورة من

(72)

جهات؛ فلذلك لم يحتمل تكليفه بخروج الجميع من جهة استنفر منها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ... (72) قوله: (مِنْكُمْ) يحتمل وجوهًا: يحتمل: في الظاهر منكم. ويحتمل: في الحكم منكم. ويحتمل: في الدعوى؛ لأنهم كانوا يدعون أنهم منا، ويظهرون الموافقة للمؤمنين، وإن كانوا -في الحقيقة- لم يكونوا. وقوله - تعالى - (لَيُبَطِّئَنَّ) قيل: إن المنافقين كانوا يبطئون الناس عن الجهاد ويتخلفون؛ كقوله - تعالى -: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا)، كانوا يسرون ذلك ويضمرونه، فأطلع اللَّه - عز وجل - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ذلك؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى. وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ. . .) على التقديم والتأخير يسر ويفرح، إذا أصابتكم مصيبة كأن لم يكن بينكم وبينه مودة؛ لأن كل من كان بينه وبين آخر مودة إذا أصابته نكبة يحزن عليه ويتألم، فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن هَؤُلَاءِ المنافقين إذا أصابت المؤمنين نكبة يسرون بذلك ولا يحزنون، كأن لم يكن بينهم مودة ولا صحبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ... (73) يعني: الغنيمة والفتح،

يقولون: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) أي: يأخذ من الغنيمة نصيبًا وافرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا) هذا قول المكذب الشامت: (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ. . .) الآية، هو قول الحاسد؛ وهو قول قتادة. وقوله - تعالى -: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) يعني: ليتخلفن عن النفير: (فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) يعني: شدة وبلاء من العيش والعدو، (قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا) فيصيبني ما أصابهم: (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) دل أن فرض الجهاد فرض كفاية

يسقط بقيام البعض عن الباقين؛ لأنه قال: (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) أمر بنفير

(74)

الثبات، فلو كان لا يسقط بقيامهم عن الباقين لم يكن للأمر به معنى، وتأويله - واللَّه أعلم -: إذا قيل لكم، انفروا، فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا. * * * قوله تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ) كأنه - واللَّه أعلم - نهى المنافقين بالخروج إلى الغزو كقوله - تعالى -: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا)، وأمر المؤمنين أن يخرجوا لذلك؛ لأنه قال اللَّه - تعالى -: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ) والمؤمنون هم الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قيل: في إظهار دين اللَّه. وقيل: في طاعة اللَّه - تعالى - ونصر أوليائه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) في الآية دلالة أن من بذل نفسه وماله للَّهِ - تعالى - غاية ما يجب أن يبذل استوجب العوض قبله، وإن لم يتلف نفسه فيه ولا أحدث؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ)، جعل لمن يتلف نفسه فيه الثواب والعوض الذي تلفت نفسه فيه؛ لأنه اذا غلب لم تتلفت نفسه فيه، وكذلك قوله - سبحانه وتعالى -: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)، جعل لمن قتل ولم يقتل فيه العوض؛ فهذا يدل على مسائل لنا: من ذلك أن المرأة إذا سلمت نفسها إلى زوجها في الوقت الذي كان عليها التسليم استوجب كمال الصداق وإن لم يقبض الزوج منها.

(75)

ومن ذلك: البائع -أيضًا- إذا سلم المبيع إلى المشترى كان مُسَلِّمًا وإن لم يقبض المشترى. وكذلك من صلى صلاة الظهر في منزله، ثم خرج إلى الجمعة يصير رافضًا للظهر؛ لأن عليه الخروج إليها؛ فيصير بالخروج إليها كالمباشر لها، وإن لم يباشر؛ على سبيل ما جعل الباذل لنفسه للَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - والمسلم إليه، وإنها أخذت منه في استيجاب العوض الذي وعد له؛ فعلى ذلك يجب أن يجعل تسليم ما ذكرنا إلى المحق كأخذ المحق منه، وإن لم يأخذ، وليس كالقيام إلى الخامسة، ولا كالمتوجه إلى عرفات قبل فراغه من العمرة؛ لأن على هَؤُلَاءِ الفراغ مما كانوا فيه، ثم التوجه إلى عرفات والقيام إلى الخامسة؛ فلم يصح ذلك. وأما المرأة والبائع ومؤدى الظهر في منزله عليهم التسليم والبذل؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وفي الآية أن اللَّه - تعالى - عامل عباده معاملة أهل الفضل والإحسان كان لا حق له، لا معاملة ذي الحق، وإن كانت الأنفس والأموال كلها له في الحقيقة؛ حيث فرض عليهم الجهاد، وجعل لهم بذلك عوضا؛ كقوله - تعالى -: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ)، من المؤمنين كثيرًا من لا حق له فيها، وهي له في الحقيقة، ووعد لهم على ذلك عوضًا وأجرًا عظيمًا. وقوله - تعالى -: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... (75) وقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. . .) الآية، مثل هذا لا يقال إلا لتفريط سبق منهم، ثم لم يزل اسم الإيمان منهم بذلك، وكان الجهاد فرضا عليهم؛ فهذا ينقض على من يخرج مرتكب الكبيرة من الإيمان. وقوله - تعالى -: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللَّه وفي المستضعفين؟!.

وكذلك رُويَ عن الكسائي. وفيه دلالة: أن على المسلمين أن يستنقذوا أسراهم من أيدي الكفرة إذا أسروا بأي وجه ما قدروا عليه: بالأموال، والقتال، وغير ذلك، وذلك فرض عليهم، وحق ألا يتركوهم في أيديهم؛ لأنه قال اللَّه - تعالى -: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا. . .) الآية. وفي الآية دلالة أن إسلام الصغار إسلام، وكفرهم كفر إذا عقلوا؛ لأنه قال اللَّه - تعالى -: (وَالْوِلْدَانِ) الكبار من الرجال والنساء لا يسمون: ولدانا، إنما يسمون الصغار منهم؛ لأنه عاتبهم بتركهم في أيدي الكفرة، فلو كانوا على حكم أولاد الكفرة لم يكن للتعيير والعتاب وجه بتركهم في أيديهم؛ إذ لم يعاتبوا بترك ولدان الكفرة في أيديهم؛ فدل أنه إنما لحقهم العتاب لإسلامهم، وكذلك قوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ. . .) الآية، ثم استثنى المستضعفين، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً)، فلو لم يكن إسلام الولدان إسلامًا، ولا كفرهم كفرًا، لم يكن لاستثنائهم من أُولَئِكَ وإخراجهم من الوعيد الذي ذكر - معنى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا. . .) سألوا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يخرجهم من القرية، وهم علموا أنه لا يتولى نحوه السماء، ولكن على أيدي قوم يعينهم على ذلك، وهم علموا أن للَّهِ - تعالى - في ذلك صنعًا، والمعتزلة لم يعلموا،

(76)

وذلك ينقض قولهم، وباللَّه التوفيق. وقوله: (الظَّالِمِ أَهْلُهَا) قيل: المشرك أهلها: كل ظالم منعهم عن الخروج إلى دار الإسلام والهجرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) في ديننا، ونصيرًا يمنعنا عن المشركين، ويقال: مانعًا يمنع عنا المشركين، وقد ذكرنا الولي والنصير في غير موضع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... (76) وسبيل اللَّه: ذكرنا الذي يأمر خلقه بالسلوك فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) قال ابن عَبَّاسٍ: الطاغوت: هو الشيطان في هذا الموضع؛ لأنه هو الذي يدعو ويأمر بالسلوك في سبيله. وفي الآية دلالة ألا يؤمر الكفار بالجهاد، ولا بالصلاة، ولا بالزكاة، ولا بغيرها من العبادات؛ لأنه أخبر أنهم لو قاتلوا إنما يقاتلون في سبيل الشيطان، وكذلك إذا صلوا، صلوا له، وكذلك سائر العبادات، ولكن يؤمرون أولا بإتيان ما لو فعلوا من العبادات كانت في سبيل اللَّه، وهو الإيمان، وهذا ينقض قول من يقول: إن الكافر مأمور مكلف بالصلاة، والزكاة، وغيرها من العبادات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ) هذا يدل على أن الطاغوت هو الشيطان هاهنا، وكل ما عبد دون اللَّه فهو طاغوت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) يحتمل قوله: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ): أي: كيد أولياء الشيطان (كَانَ ضَعِيفًا) إذا كان اللَّه ناصركم؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ). ويحتمل أن كيد الشيطان كان ضعيفًا؛ لأنه لا يعمل سوى الدعاء والأمر يدعوهم إلى سبيله؛ فذلك لضعفه لا يباشر القتال ولا الضرب، إنما هو إشارة منه ودعاء؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ). * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)

(77)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ... (77) اختلف فيه؛ قيل: نزلت الآية في بني إسرائيل، وهي الآية التي ذكرها اللَّه - تعالى - في سورة البقرة: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى. . .) إلى قوله: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ). وقيل: إنها نزلت في المؤمنين من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استأذنوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قتال كفار مكة سرا؛ لكثرة ما يلقون من الأذى منهم؛ فنزل قوله - تعالى -: (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) أي: لم أؤمر بالقتال، فنهاهم عن ذلك، فلما كتب عليهم القتال وأمروا به كرهوا ذلك؛ فدل قوله - تعالى -: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ. . .) الآية. وقيل: إنها نزلت في المنافقين الذين كانوا يقاتلون مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ) أي: يخشون الناس - يعني المنافقين كخشية المؤمنين اللَّه أو أشد خشية؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ). وإن كانت في المؤمنين؛ فتأويله: يخشون الناس في القتال كخشية اللَّه في الموت أو أشد خشية؛ لأنه أهيب وأسرع نفاذًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ. . .) الآية. تكلموا في ذلك: فمنهم من جعله خبرًا عن أمر بني إسرائيل الذين قالوا لنبي لهم: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا. . .) الآية، أنهم إذا أمروا بالكف عن مقاتلته تمنوا الإذن في ذلك، وسألوا نبيهم - عليه السلام - عن ذلك، ثم فيهم من أعرض عن الطاعة، وقد كان أهل الإيمان يتمنون الإذن في ذلك؛ كقوله - تعالى -: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ)، فوعظوا بمن ذكرت؛ ليقبلوا العافية، ولا يتمنوا محنة فيها شدة؛ فيبعثهم على ما بعث

أُولَئِكَ. وروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَا تَتَمَنوا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا رَبَّكُم العَافِيَةَ، وَإذَا لَقِيتُمُوهُم فَثُورُوا فِي وُجُوهِهِم " (¬1) أو كان في علم اللَّه - سبحانه وتعالى - أن يأمرهم، فَأُخْبِرُوا بالذين قتلوا وحل بهم؛ لئلا يفعلوا مثل فعلهم، واللَّه أعلم. وخشيتهم كخشية اللَّه؛ كقوله - تعالى -: (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ. . .) إلى تمام القصة. وقد قيل: الآية نزلت فيما سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأجيبوا في ذلك، ثم خاطبهم الذي ذكر. لكن اختلف في ذلك: فمنهم من يقول: كان ذلك في المصدقين؛ لكن اشتد عليهم الأمر، وذلك نحو ما كان منهم يوم حنين وأحد ونحو ذلك، حتى أغاثهم اللَّه - تعالى - وفرج عنهم بِمنِّه، وعلى ذلك قوله - تعالى -: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ)، أي: ما فيه الموت من الجهاد، وعلى ذلك: (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً)، فلما عاينوا السبب الذي فيه هلاكهم، وتبلغ عند ذلك الخشية غايتها؛ نحو قرب الموت وشدة المرض؛ يكون المرء يخشى منه الموت ما لا يخشى لولا تلك الحال؛ لأنه يرى الموت من المرض، وإن كان الذي يظهر عليه من خشية الموت في تلك الحال أشد، فهو -في الحقيقة- خشية من اللَّه - تعالى - أن يكون جعل ذلك سبب الموت، وأنه حضره وقرب منه؛ فيكون في ظاهر الأمر كمن يخشى من تلك الأحوال، وقد جعل لما جبل عليه الخلق في مثله معروف مثله؛ أعني: أن المريض عند الموت لما يغلب عليه الإياس من حياته، وإن كان الذي يصيبه يستوي عليه أحواله، فعلى ذلك أمر الأول. وعلى ذلك فيما طبع عليه الخلق من طمأنينة القلب عند ملك أسباب الرزق والقدرة ¬_______ (¬1) أخرجه البخاري (15/ 141) كتاب التمني: باب كراهية تمني لقاء العدو (7237)، ومسلم (3/ 1362) كتاب الجهاد والسير: باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء (1742)، عن عبد اللَّه بن أبي أوفي بلفظ " يا أيها الناس: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا اللَّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف "، واللفظ لمسلم.

عليه ما لم يكن في غيرها، وإن كان من حيث قدرة اللَّه - تعالى - واحد؛ فتكون تلك الخشية جبلية طبيعية، لا اختيارية، أو سخط بحكم الرب، وهو كالذي جاء من قوله - تعالى -: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. . .) الآية. وقوله - على ذلك -: (رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ. . .) الآية، يحتمل وجهين: أحدهما: الخبر عما في طباعهم، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. . .) الآية، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ " وإنما ذلك على الطبع فذلك الطبع كالسائل عن ذلك، وربما يضيفون القول والسؤال على اعتبار الأحوال إلى ما لا يطيق له، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. ويحتمل: أن يكون قولا منهم عن وجه الحكمة لهم بالأمر فيما علم أنهم يبلغون بالقتل والجبن إلى حال لا يقومون للعدو، ولا يملكون أنفسهم في ذلك الوقت؛ فأخبر اللَّه - عز وجل - أن الذي حملهم على ذلك رغبتهم في التمتع بالدنيا، ولو صوروا متاع الآخرة في قلوبهم لذهب عنهم ذلك، ويثبتون للعدو، ولا يبالون للعدو بما يحل بهم، ولا يخشون لذلك، وكأنه وعد لهم أن متاع الآخرة لكم على هذا الفعل لو صبرتم خير لكم، وما وعد لكم عليه خير من متاع الدنيا. وأيضا: أن يقال: إن هذا وإن عظم هوله على الطبع، فإنه إذا كان للَّهِ بحق العبادة لهو أيسر وأهون من الموت على صاحبه إذا حضر؛ إذ يريهم اللَّه متاع الآخرة أو بعض ما فيه الكرامة؛ فيصير ذلك متاع الآخرة لهم وقت الموت فهو خير من تمتعهم في الدنيا ثم الموت، ولا ذلك منه، كما قيل في تأويل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهَ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لقَاءَهُ " إن المؤمن يرى ما له من الكرامة؛ فيحب الموت أن يعجل به؛ ليصل إلى ذلك، والكافر يرى سخطه فيكرهه، وعلى هذا تأويل القول في الدنيا أنها:، " سِجْنُ الْمُؤْمِن وَجَنَّة الْكَافِرِ " أن تكون كذلك في ذلك الوقت، واللَّه أعلم.

وتأويل آخر: أن تكون الآية في المنافقين: أنه يظهر عليهم النفاق وقت المحنة بالجهاد دون غيره من العبادات، قال اللَّه - تعالى -: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ. . .) الآية، بين ما نزل بالمنافقين، وكذلك قوله - تعالى -: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ. . .) الآيات، - واللَّه أعلم - فيمن نزلت الآية، لكنها معلوم أن فيها ترغيبًا فيما عند اللَّه، وتزهيدًا في الدنيا، ودعاء إلى الرضا بحكم اللَّه - تعالى - فيما خف وثقل، واللَّه المستعان. وعلى التأويل الآخر: جميع ما ذكر ظاهر في المنافقين، مذكور ذلك في الآيات التي ذكرتها، وفيهم قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ. . .) الآية، وغير ذلك مما دل على إنكارهم، وفضل خوفهم في ذلك، واللَّه أعلم. فإن قال قائل: كيف قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) وقد هلك به أكثر البشر؟ قيل: قد يخرج على وجوه - واللَّه أعلم -: أحدها: أنه يضعف كيده على من تعوذ باللَّه - تعالى - كقوله - تعالى -: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ. . .) الآية، وإنما يقوى على من جنح له، ومال إلى ما دعاه إليه؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ. . .) الآية إلى قوله - تعالى -: (ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ). والثاني: أن يكون ضعيفا على المقبل على ربه، والذاكر له في أحواله، والمفوض أمره إلى ربه، فأما من تولاه وأقبل على إشارته فهو الذي جعل له السلطان على نفسه بما آثره في شهواته، ومال به هواه، وهو كقوله - تعالى -: (لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية، وقد سماه اللَّه - تعالى -: (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ)، بما يخنس بذكر اللَّه - تعالى - ويوسوس عند الغفلة عن اللَّه، فكان سلطانه به، واللَّه الموفق. والثالث: أنه لا يملك الجبر والقهر ولا اكتساب الضرر في الأبدان والأموال، فهو ضعيف، واللَّه أعلم. والرابع - واللَّه أعلم -: أن يكون كان ضعيفا، أي: صار ضعيفا عند نصر اللَّه ومعونته، واللَّه أعلم. ويحتمل: كان ضعيفا لو ظهر، حتى يعلم أنه شيطان، لكن قوى بما لا يعلم المغرور أنه كيده وتغريره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ)

قيل: في حرف حفصة: " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، قالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال، فلما كتب عليهم القتال إذا هم يخشون الناس كخشية اللَّه " كأن في الآية إضمارًا، يبين ذلك حرف حفصة، وإلا لم يكن في ظاهر الآية خبر حتى يكون قوله - تعالى -: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ. . .) الآية - جوابًا له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ. . .) فإن كانت الآية في المنافقين، فهو على الإنكار قالوا ذلك، وإن كانت في المؤمنين فهو يخرج على طلب الحكمة في فرض القتال عليهم، طلبوا أي حكمة في فرض القتال علينا؟ وقد تطلب الحكمة في الأشياء، ولا عيب يدخل في ذلك، وأصله: أن كل آمر - في الظاهر - من هو فوقه فذلك سؤال له في الحقيقة لا أمر؛ فيخرج سؤاله مخرج الخضوع والتضرع له، ومن أمر من دونه فهو في الحقيقة ليس بسؤال، فهو يخرج على الأمر والنهي، وهو الأمر الظاهر في الناس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) معناه - واللَّه أعلم -: إنا لم نخلقكم للدنيا وللمتاع فيها، إنما خلقناكم للآخرة وللمقام فيها، فلو خلقتكم للدنيا ثم كتبت عليكم القتال - لكان ذلك عبثًا خارجًا عن الحكمة، ولكن خلقناكم للآخرة وللمقام فيها. ويحتمل قوله - تعالى -: (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) وقوله - تعالى -: (وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ. . .) إلى آخره، أن لم يقولوا ذلك قولا، ولكن كان ذلك خطرًا في قلوبهم، فأخبرهم نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عما أضمروا؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك باللَّه - تعالى - ليدلهم على نبوته ورسالته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) فنموت حتف أنفنا ولا نقتل، قتلا؛ فَيُسَرُّ بذلك الأعداء؛ كقوله: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وفي القتل فتنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذكرنا: أنهم لم يخلقوا لمتاع الدنيا، ولكن إنما خلقوا لمتاع الآخرة. والثاني: أن متاع الدنيا قليل من متاع الآخرة، كقوله - سبحانه وتعالى -: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)، وكقوله - تعالى -: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207).

(79)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى) لأن متاع الآخرة دائم غير منقطع، ومتاع الدنيا زائل منقطع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) قد ذكرناه. * * * قوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) قيل: لما استشهد من استشهد يوم أحد، قال المنافقون: لو كان إخواننا عندنا ما ماتوا وما قتلوا؛ قال اللَّه - تبارك وتعالى -: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ). ويحتمل: أن يكون جوابًا لما سبق من القول قولهم: (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) يقول: من كتب عليه الموت ينزل به لا محالة، قاتل أو لم يقاتل؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ. . .). ويحتمل: أن يكون قوله - تعالى -: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ): إذا كان الموت نازلا بكم لا محالة فالقتل أنفع لكم؛ إذ تستوجبون بالقتل الثواب الجزيل، ولا يكون ذلك لكم إذا متم حتف أنفكم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ). قال الفراء: الْمُشَيَّد والمَشِيد واحد، غير أن الْمُشَيَّد -بالتشديد- فيما يكثر الفعل، والمَشِيد فيما لا يكثر الفعل. وقيل: الْمُشَيَّد: هو المجصَّص، والشيد: هو الجِصّ.

(79)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي: حصينة. وقيل: قصور محصنة طوال. وقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) معلوم أنهم لم يريدوا بالحسنة والسيئة حسنة في الدِّين وسيئة في دينهم، ولكن إنما أرادوا بالحسنة والسيئة في الدنيا من المنافع والبلايا والشدائد؛ وذلك أنهم ما كانوا يحزنون لما يصيبهم من السيئة في الدِّين، ولا كانوا يفرحون بالحسنة والخير في الدِّين، ولكن فرحهم بما كانوا يصيبون في الدنيا من الخصب والسعة، وحزنهم بما يصيبهم من الضيق والشدة، وكانوا يتطيرون برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهكذا كان دأب الكفرة من قبل، كانوا يتطيرون بالأنبياء والرسل - عليهم السلام - كقوله - عَزَّ وَجَلَّ - إخبارًا عن قوم موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ)، وكقوله - تعالى -: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)، وقال اللَّه - عز وجل -: (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)؛ فعلى ذلك قولهم: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)؛ تطيرًا منهم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال - تعالى -: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: بتقديره كان وقضائه، فضلا؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، وجزاءً؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي: ما أصابهم إنما أصابهم بسوء صنيعهم برسل اللَّه صلى اللَّه عليهم وسلم وتكذيبهم إياهم؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) أي: لا يفقهون ما لهم وما عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ... (79) وروي

في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " وأنا قدرتها عليك " يحتمل: أن يكون قوله - تعالى -: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) يرجع إلى ما ذكرت من السعة والعافية ونحوها (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) من البلاء، والشدة (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي: من جناية نفسك؛ جزاء. وفي الأول قال: (فَمِنَ اللَّهِ) في ذلك بعينه بحق الجزاء، وفي الثاني: (فَمِنْ نَفْسِكَ) بحق الجناية على الآية التي ذكرت من قوله - تعالى -: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ). ويحتمل: أن تكون الآية الأولى في أمر الدنيا، والأخرى في أمر الدِّين؛ إذ اختلفت الإضافة في هذه واتفقت في الأولى؛ إذ الأولى على ما عليه أمر المحنة من قوله - تعالى -: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وقوله - تعالى -: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، جعل اللَّه - تعالى - بمختلف أحوال للعباد لا منفع لهم في ذلك، وكذلك قوله - تعالى -: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ. . .) الآية، وقوله - تعالى -: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ. . .) الآية. والثانية: في حق الأفعال، فيضاف إلى اللَّه ما صلح منها؛ شكرًا وحمدًا بما أنعم الله عليه، وذلك قوله - تعالى -: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ)، وقوله:

(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، وقوله: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ. . .) الآية، وقوله - تعالى -: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، وقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ. . .) الآية، وغير ذلك؛ فيضاف إليه بما منه في ذلك من الفضل والنعمة؛ شكرًا، والثاني في زله وضلاله لا تجوز الإضافة إليه لما شبه الاعتذار، ولا عذر لأحد في ذلك، ويقبح في الإضافة، وذلك نحو القول بأنه: رب السماوات والأرض، ولا يقال: هو رب الخنازير والأقذار، ونحو ذلك؛ لما يقبح في السمع، وإن كان من حيث الخلق والتقدير واحدًا، فمثله أمر الأفعال، واللَّه الموفق. ونفي الإضافة عنه لا يدل على نفي أن يكون خلقه؛ لما بينا من الأشياء؛ الإضافة إليه كالتخصيحص، فلا يقال: يا خالق القردة والخنازير، ويا إله الأقذار والخبائث، ويا رب الشرور والمصائب، وإن كان كل ذلك داخلا في أسماء الجملة، ومحقق منه تقديرها وخلقها، وكذلك الفواحش والكبائر، واللَّه أعلم. والثاني: الخيرات والأعمال الزاكية قد تضاف إليه، لا من وجه التخليق عند الجميع، بل عندنا: من جهة الإفضال بالتوفيق والإنشاء، وعند المعتزلة: من جهة الأمر والترغيب؛ فعلى ذلك نفي الإضافة فيما لم يضف إليه لهذا، وأيدَتْ هذا قراءة عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " وأنا قدرتها عليك ". فإن قال قائل: ذلك لا يقع على الأفعال؛ لقوله: (مَا أَصَابَكَ)، ولو كان عليها كان يقول: ما أصبت، ثم كان له جوابان: أحدهما: أن الإجابة اسم مشترك، ما يصيبه هو يصيب ذلك، فسواء لو أضيف إليه أو أضيف هو إليه، واللَّه أعلم. والثاني: أن ذلك يخرج مخرج الجزاء أيضًا إذا كان على ما يقوله؛ فيكون على ما يصيبه من جزاء حسنة أو سيئة، وإذ لم يجعل لله في حسنه فضلا لم يحتمل الإضافة إليه مع ما قد بينا من إضافات أعمال الخير إليه، ودفع الشر لما ليس في فعله من اللَّه إفضال عليه به

إنعام، وكان في فعل الخير ذلك، لا بالأمر والنهي؛ إذ هما يستويان في كل واحد، والله أعلم. ثم أوضح ذلك خبر عبد اللَّه، فطعنه قوم لمخالفة المصحف المعروف، قلنا: ليس بذي خلاف، إنما هو بيان المطلق، وقد يقبل خبر الآحاد في مثله، واللَّه أعلم. وقيل: خبر عبد اللَّه من خبر الآحاد، ولعله ليس قبل مصحفه كلمة ترُوى عنه العامة لا تحتمل التبديل، وأما خبره عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ لا يجوز اختراع القراءة مرفوع، وخبر الفرد فيه يقبل، فيما لا خلاف فيه، وإن كان فيه تأويل الظاهر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا). قيل في حرف حفصة: " وأرسلناك إلى الناس رسولا "، (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) قيل: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي: بأنك رسول اللَّه. وقيل: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) على ما يضمرون في قلوبهم. وقيل: فلا شاهد أفضل من اللَّه بأنك رسوله وفي قوله -أيضًا-: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) وجوه: أحدها: إن جحدوا تبليغك في الدنيا، أو يقولوا: لم تعلم رسالتك. والثاني: أن يكون بالآيات التي جعلها اللَّه - تعالى - لرسالتك تحقق، وشهادة اللَّه لك بالرسالة شهيدًا، لك، أو مبينا، أو حجة. والثالث: أن يكون جعل علم الأنبياء والرسل - عليهم السلام - وتبليغهم الخبر إليهم شهادته وكفي به شهيدا على ما أضاف بيعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إليه، ونصر أوليائه إليه، قال اللَّه - تعالى -: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ). ويحتمل: شهيدًا مبينًا، أو حكمًا مبينًا، فمعناه: فيبين لهم بالمعاينة ما كان بينه بالدلالة والآيات، وحكمًا فاصلا بين المحق والمبطل؛ فيخرج الوجهان جميعًا مخرج الإعراض عن المحاجة بما ظهر من العناد والمكابرة، وتفويض الأمر إلى اللَّه وإخبار عن الفراغ مما كان عليه فيهم من حق البلاغ، ولا قوة إلا باللَّه. * * * قوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ

(80)

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ... (80) لأن اللَّه - تعالى - أمر بطاعة الرسول، فإذا أطاع رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقد أطاع اللَّه - تعالى - لأنه اتبع أمره؛ ألا ترى أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)، وحتى جعل طاعة الرسول من شرط الإيمان بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآية. والثاني: أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما يأمر بطاعة اللَّه، فإن أطاع رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وائتمر بأمره فقد أطاع اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأنه هو الآمر بطاعة اللَّه، وباللَّه التوفيق. وقيل: لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يأمر بأمر اللَّه - تعالى - لذلك كانت طاعته طاعة اللَّه، وذكر في بعض الأخبار أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال في المدينة: " مَنْ أَحَبَّني فَقَدْ أَحَبَّ اللهَ - تعالى - وَمَنْ أَطَاعَني فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ " فعيره المنافقون في ذلك فأنزل اللَّه - تعالى - تصديقًا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا). وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ أَطَاعَ اللهَ فَقَدْ ذَكَرَ وَإِنْ قَلَّتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتلَاوَتُهُ الْقُرْآنَ، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ نَسِيَ اللهَ - تَعَالَى - وإنْ كَثُرَ صِيَامُهُ وَصَلَاتُهُ وَتِلَاوَتُهُ القُرْآنَ "، فطاعة اللَّه - تعالى - إنما تكون في اتباع أمره، وانتهاء مناهيه، وكذلك حبه إنما يكون في اتباع أمره ونواهيه؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ).

وقوله -أيضًا- (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) ظاهر مكشوف، حقيقته أنه يطيعه لطاعة اللَّه؛ إذ الأمر يطيعه على أنه يدعوه إلى طاعته، وطاعته إجابته له بما يطيع اللَّه به، وحكمته أنه لم يجعل مسلك الطاعة عبادة وإن كانت هي لله عبادة، ولا تجوز عبادة الرسول؛ فصير اللَّه - تعالى - طاعته عبادة لله - تعالى - فأعلم: أن الطاعة قد تكون غير مستحقة لاسم العبادة؛ إذ قد يسمى لا من ذلك الوجه، ولذلك جاز القول بمطاع في الخلق، ولا يجوز بمعبود، واللَّه أعلم. وأيضا: فيه شهادة له بالعصمة في كل ما دعا إليه وأمر به، وإلزام للخلق بالشهادة له بالصدق في ذلك والقيام به، أكد بقوله - تعالى -: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ. . .)، وبقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. . .) الآيتين جميعًا، وذلك الإباء على لزوم طاعته أخوف مخالفة العذاب الأليم، وأزال عن الواجد في نفسه من قضائه الحرج الإيمان، ثم ليست طاعته في فعله خاصة، أو قول ما يقوله، ولكنها بوجهين: أحدهما: اعتقاد كل فعل وقول على ما عليه عنده من خصوص، أو عموم، أو إلزام، أو آداب، أو إباحة، أو ترغيب. والثاني: في الوفاء بالذي منه المراد فيه من أن يفعل كفعله أو يتقي ذلك، أو يستعمله في حق الإباحة، أو ما أراد من محله فيه، يعرف موقع كل من ذلك بالأدلة، ولا قوة إلا باللَّه. وقول من يقول: لا يلزم طاعته في فعله أو يلزم، كلام بهذا الإطلاق لا معنى له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) في أعمالهم وأفعالهم، فإنما عليهم ما عملوا وعليكم ما عملتم، ما تسأل أنت عن أعمالهم، ولا يسألون عما فعلتم، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) يطلع على سرائرهم، إنما عليك أن تعاملهم على الظاهر، واللَّه أعلم.

(81)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ... (81) وقيل: إن المنافقين قد أظهروا التصديق للَّهِ - تعالى - ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإذا دخلوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قالوا: يا رسول اللَّه، أمرك طاعة، فمُرْنا بما شئت نفعله، فإذا أمرهم بأمر ونهاهم عنه خالفوا أمره، وغيروا ما أمرهم أبهأ ونهاهم عنه؛ فأنزل اللَّه - تعالى - على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) إلى قوله - تعالى -: (بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) قوله: (بَيَّتَ) قيل: غير ما أمرهم به. وقيل: (بَيَّتَ) ألف. وقيل: (بَيَّتَ) أي: قدروا بالليل القول وألفوا، وكل كلام وقول مقدر بالليل مؤلف فيه، يقال: بَيَّتَ، ومعناه - واللَّه أعلم -: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -[ ... ] فهذا - واللَّه أعلم - معنى قوله: (بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) وإلا ظاهر هذا ليس على ما قاله أهل التفسير، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ) أي: اللَّه - تعالى - يأمر بإثبات ما يبيتون من القول الكذب والمغير من القول؛ ليلزمهم الحجة؛ لأنهم كانوا يسرون ذلك ويضمرونه لا يظهرون إظهارًا ليجزيهم جزاء ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) يحتمل: أعرض عنهم ولا تكافئهم على هذا. ويحتمل: أعرض عنهم، ولا تتكلف إظهار سرهم، ولا تطلع عليه، إنما ذلك إلَيَّ؛ لأطلعكم على ما يسرون؛ ليعلموا أنك إنما عرفت ذلك باللَّه ففيه دلالة إثبات الرسالة،

(82)

فتوكل على اللَّه، وثق به، ولا تخافهم، فإن اللَّه - تعالى - يدفع عنك شرهم وكيدهم. ويحتمل: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) في جزائه؛ فإن اللَّه هو يتولى جزاء تكذيبهم إياك، والله أعلم. (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) فيما ذكرنا. أي: كفى به مانعًا، فلا أحد أمنع منه. وقيل: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)، مما يبيتون وحافظًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يكون التبييت إلا بالليل، يؤلفون الشيء ويقدرونه بالليل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) لو كان الحكم لظاهر المخرج على ما يقوله قوم - لكان القرآن خرج مختلفًا متناقضًا؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ - في الآية: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .) الآية، ويقول في آية أخرى: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، لو كان على ظاهر المخرج فهو مختلف، وكذلك قوله - تعالى -: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) في إحداهما حظر وفي الأخرى إباحة، فلو كان على ظاهر المخرج والعموم - لكان مختلفًا متناقضًا، ويجد أهل الإلحاد أوضح طعن فيه وأيسر سبيل إلى القول بأنه غير منزل من عند الرحمن؛ إذ به وصفه أنه لو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا. وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ. . .) الآية، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، ثم وجد أكثر ما فيه الحكم متفرقًا إلى غير المخرج، ومحصلا على غير مجرى اللفظ من العموم والخصوص؛ فدل به أن الحكم لا كذلك، ولكن المعنى المودع فيه والمدرج، لا يوصل إلى ذلك إلا بالتدبر والتفكر فيه، وإلى هذا ندب اللَّه عباده؛ ليتدبروا فيه؛ ليفهموا

مضمونه، وليعملوا به. ثم يحتمل بعد هذا وجهان: أحدهما: قوله - تعالى -: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) أي: لو كان هذا القرآن من عند غير اللَّه، لكان لا يُوَافَقُ بما يخبرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولكن يخبرهم مخالفا لذلك؛ لأن الكهنة، الذين كانوا يدعون الخبر عن غيب، لا يخرج خبرهم موافقا، بل كان بعضه مخالف لبعض مناقض له، فلما خرج هذا ما يخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من سرائرهم موافقًا له، دل أنه خبر عن اللَّه تعالى. والثاني: أنهم كانوا يقولون: (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ)، (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، ونحوه، فأخبر اللَّه - تعالى - أنه لو كان من عند غير اللَّه لكان لا يوافق لما عندهم من الكتب، بل كان مختلفا متناقضا، فلما خرج هذا القرآن مستويا، موافقًا لسائر الكتب؛ كقوله - تعالى -: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ)، (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، دل أنه من عند اللَّه نزل. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن هذا القرآن نزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أوقات متفرقة متباعدة على نوازل مختلفة، فلو كان من عند غير اللَّه نزل - لخرج مختلفًا، مناقضًا بعضه بعضًا؛ لأن حكيمًا من البشر لو تكلم بكلمات في أوقات متباعدة - لخرج كلامه متناقضًا مختلفًا، إلا أن يستعين بكلام رب العالمين، ويعرضه عليه؛ فعند ذلك لا تناقض، فلما خرج هذا - مع تباعد الأوقات - غير مختلف ولا متناقض، دل أنه من عند اللَّه - تعالى - نزل، وباللَّه التوفيق. وفيه الاحتجاج على الْمُلْحِدَة؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ. . .) إلى قوله: (اخْتِلَافًا كَثِيرًا) فلو وجدوا لأظهروا ذلك، وقوله - تعالى -: (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ولو قدروا على ذلك لأتوا به؛ دل ترك إتيانهم ذلك: أنهم لم يقدروا على إتيان مثله، ولو وجدوه مختلفًا لأظهروه، ولو كان من كلام البشر -على ما قالوا- لأتوا به؛ لأنهم من البشر؛ فظهر أنه منزل من عند اللَّه، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وقوله: (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)، دلالة بينة على وجهين:

أحدهما: أن المقصود منه يدرك بالتأمل والتدبر؛ إذ به جرى الأمر والترغيب قبل وقت العمل، بل ألزم القيام بما يعقل بالتدبر. ثم فيه وجهان: أحدهما: أن الأمر ليس على مخرج الكلام عند أهل اللسان، ولا على حق الأيسر في اللغة؛ إذ حق مثله أن يرغب في معرفة الموقع عند أهل اللسان من المخرج، ويوجه إليه لا يدَّبَّر فيه، واللَّه أعلم. ومعلوم -أيضًا- أن التدبر فيه حظ الحكماء وأهل البصر، لا حظ العوام، وما يعرف من حيث اللسان فهو حظ الفريقين، ثبت أن على العوام اتباع الخواص فيما فهموا هم والاقتداء بهم، واللَّه أعلم. والثاني: أنه جعل وجه معرفة الاختلاف والاتفاق بالتدبر فيه لا يقرع الكلام السمع، وإذا ثبت ذلك لم يلزم العمل بشيء من الظاهر حتى يعرف الموقع أنه على ذلك بالتدبر؛ لئلا يلحق المتمسك به النقيض بالتدبر، واللَّه أعلم. والوجه الثاني: بما تضمنت الاختلاف أن ارتفاع الاختلاف جعله حجة على أنه عن اللَّه؛ إذ علم اللَّه -مما جبل عليه الخلق- أنه لا أحد يملك بحق الاختراع لا عن علم السماع ينتهي إليه عن اللَّه بخبر الصادقين، يملك تأليف الكلام ونظم مثله غير متناقض، ولا مختلف ينفي بنفي الاختلاف ما قرن به من الكهنة؛ إذ كذلك كلام الكهنة يخرج مختلفًا، وما قرن من تعليم البشر وأساطير الأولين، والسحر، ونحو ذلك؛ إذ كل ذلك يخرج على الاختلاف، وفي ذلك بيان حظر جعل المخرج بحق اللسان من الاسم حجة ودليلا؛ لما يوجد من ذلك الوجه اختلافا كثيرا، ولو كان من ذلك الوجه الاحتجاج - لوجد الاختلاف، ومن رام أن يجعل القرآن - لولا بيان الخبر - موقعه على جهة قد يقع فيه الاختلاف دونه - فهو وصف القرآن مع اجتماع الخبر بنفي الاختلاف، وأما ما هو في نفسه مختلف، فمثله لكل كاهن وبشر أريد تثبيت التناقض فيه أمكن لمن يذب عنه إن كان عنه مترجم معبر يجب ضم تأويله إليه، فيبطل أن يكون على أحد، ووجود اختلاف في

(83)

مكان، ويكون احتجاج العدين عبثا، جل عن ذلك. ثم ما ذكر يحتمل الأحكام والحدود، والأوامر والنواهي، وذلك يوجب أن التناسخ والخصوص والعموم لا يكون مختلفًا. ويحتمل: الإخبار، والوعد والوعيد، ونحو ذلك، وأعني بالإخبار: عن الغيب، وعما كان أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن شرك المنافقين، وعما إليه مرجع الأمور، وعما كان عنهم، ونحو ذلك مما خرج كذلك، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " وإذا جاءهم نبأ من خوف أو أمن أذاعوه " وكذلك في حرف حفصة. قال الكسائي: هما لغتان، أذعت به وأذعته: إذا أفشيته. وقيل: سمعوا به وأفشوه. وقيل: أفشوه وأشاعوه. ثم اختلف فيمن نزلت: قال الحسن: نزلت في المؤمنين؛ وذلك أنهم إذا سمعوا خبرًا من أخبار السرايا والعساكر - مما يسرون ويفرحون - أفشوه في الناس؛ فرحًا منهم، وإذا

سمعوا ما يحزنهم ويهمهم أظهروه في الناس؛ حزنا وغما، ثم استثنى إلا قليلا منهم لا يذيعون ولا يفشون بالخبر، فلو سكتوا وردوا الخبر إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حتى يخبر النبي ما كان من الأمر، أو ردوه إلى أولي الأمر حتى يكونوا هم الذين يخبرون به - كان أولى، وهو على التقديم والتأخير. وقال أبو بكر الكسائي: نزلت الآية في المنافقين؛ وذلك أن المنافقين إذا سمعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخبر عن نصر المسلمين أذاعوا إلى الأعداء بذلك ليستعدوا على ذلك، وإذا سمعوا أن الأعداء قد اجتمعوا وأعدوا للحرب أخبروا بذلك ضعفة أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليمتنعوا عن الخروج إليهم؛ فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) حتى كان هو مخبرهم عن ذلك، أو ردوا إلى أولي الأمر منهم؛ ليخبروا بذلك، واللَّه أعلم. ثم اختلف في (إِلَى أُولِي الْأَمْرِ): قيل: هم أمراء السرايا. وقيل: هم العلماء الفقهاء (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). الذين يطلبون علمه بقوله. وقيل: (أُولِي الْأَمْرِ) - هاهنا - مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، رضي اللَّه عنهم.

(لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي: يستخرجونه من كتاب اللَّه تعالى. وقيل: (أُولِي الْأَمْرِ) ولاة الأمر الذين يستنبطونه، والذين أذاعوا به: قوم إما منافقون وإما مؤمنون، على ما ذكرنا، إنما هو: أذاعوا به إلا قليلا منهم (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ. . .) الآية على قول بعض. وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) واختلف فيه: قيل: فَضْلُ اللَّه: رسولنا، مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ورحمته: القرآن؛ تأويله: لولا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والقرآن لاتبعوا الشيطان إلا قليلا منهم لم يتبعوه، ولكن آمنوا بالعقل. وقيل: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) في الأمر والنهي عن الإذاعة والإفشاء، وإلا لأذاعوه واتبعوا الشيطان في إذاعتهم به (إِلَّا قَلِيلًا) منهم فإنهم لا يذيعون به. وعن الضحاك قال: هم أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان إلا طائفة منهم لم يحدثوا بها أنفسهم. وقال آخرون: هم المنافقون، كانوا إذا بلغهم أن اللَّه - تعالى - أظهر المسلمين على المشركين وفتح عليهم - صغروه وحقروه، وإذا بلغهم أن المسلمين نُكِبُوا نكبة - شنعوه وعظموه. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: (إِلَّا قَلِيلًا) يقول: لعلموا الأمر الذي يريدون، والخبر كله، (إِلَّا قَلِيلًا) يقول: لم يخف عليهم إلا قليلا من ذلك الأمر؛ (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ. . .) الآية. وعن الحسن قال: هم الذين استثنى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - حين قال إبليس - لعنه اللَّه -

(84)

(لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)، وحيث قال: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). وقال غيرهم ما ذكرنا على التقديم والتأخير: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا منهم، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ... (84) قوله: (لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) يحتمل وجهين: أي: ليس عليك حسابهم ولا جزاء تخلفهم، إنما حساب ذلك عليهم؛ كقوله - عز وجل -: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ). والثاني: (لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) أي: تكلف أنت بالقتال والجهاد، وإن تخلف هَؤُلَاءِ عن الخروج معك؛ يؤيد ذلك ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: هذا حين استنفر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أصحابه - رضي الله عنهم - بوعد أبي سفيان بدرا الصغرى، فخذله الناس؛ فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية؛ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَأخْرُجَن إِلَى بَدْرٍ وَإِنْ لَم يتبِعْنِي أَحَدٌ مِنْكُم "، فاتبعه أقل الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وقالوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل. وفيه دليل وعد النصر له والفتح، والنكبة على الأعداء؛ لأنه تكلف الخروج وحده؛ فلو لم يكن وعد النصر له - لم يؤمر بالخروج؛ ألا ترى أنه قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، و " عسى " من اللَّه - تعالى - واجب. وفي قوله - تعالى -: (عَسَى اللَّهُ) وعد نصره وإن خرج وحده؛ إذ الـ " عسى " هو من اللَّه واجب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: و (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) يحتمل وجوهًا: يحتمل: حرض المؤمنين بالثواب لهم وكريم المآب على ذلك. ويحتمل قوله - تعالى -: و (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ)؛ لما في القتال معهم إظهار دين اللَّه - الإسلام - وفي ترك المجاهدة والقتال معهم نصر العدو عليهم، وإظهار دينهم، أمر - عز وجل - رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليرغبهم في مجاهدة أعدائهم.

(85)

والثالث: وحرض المؤمنين على المجاهدة والقتال معهم؛ وعدًا بالنصر لهم، والفتح، والغنيمة، واللَّه أعلم. وقوله - عز وجل -: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا). والـ " عسى " من اللَّه واجب؛ وعد اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يكف عنهم بأس الذين كفروا. وتجوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا). قيل: وقوله: (أَشَدُّ بَأْسًا)؛ لما يدفع بأس المشركين عنكم، ولا يقدرون هم دفع بأس اللَّه عن أنفسهم؛ فبأس اللَّه أشد. وقوله - سبحانه -: (وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا)، قيل: التنكيل: هو العذاب الذي يكون للآخر فيه زجر ومنع. وقيل: حين قال له: (لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ)؛ ولو لم يتبعك أحد من الناس - لكف الله عنك بأس المشركين. وقيل: البأس: هو عذاب الدنيا، والتنكيل والنكال: هو عذاب الآخرة؛ كأنه يخوفهم ببأسه؛ لتخلفهم عن العدو ومخافة بأسهم وعذابهم؛ فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -، أن بأس اللَّه وعذابه أشد من بأس الأعداء، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ... (85) قوله تعالى: وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) لم يذكر ما تلك الشفاعة التي يشفع؛ فيحتمل الشفاعة الحسنة: هي الدعاء له بالمغفرة والرحمة، وهو لذلك مستوجب؛ فيكون له بذلك نصيب. والشفاعة السيئة: هي الدعاء عليه باللعن والمقت، وهو لذلك غير مستوجب؛ فيكون له بذلك نصيب. وقيل: هو كقول العرب: " الدالّ على الخير كفاعله "، من دل آخر على الخير؛ فله في ذلك نصيب، وكذلك من دل آخر على الشر. ويحتمل: الشفاعة الحسنة: في مظلمة، يسعى في دفع مظلمة عن أخيه المسلم، وهي

شفاعة حسنة؛ فله في ذلك نصيب. ويحتمل: الشفاعة السيئة: هي أن يسعى في فساد أمر يلحقه من ذلك نقمة ومظلمة؛ فله في ذلك إثم. وقيل: الشفاعة الحسنة: هي التي ينتفع بها وعمل بها، هي بينك وبينه، هما فيها شريكان، والشفاعة السيئة، هي التي تضر به، هما فيها شريكان. ويحتمل: أن تكون الشفاعة الحسنة: كل صانع معروف، وكل آمر به، والشفاعة السيئة: كل صانع منكر، وآمر به؛ فهما شريكان في ذلك: الآمر والفاعل جميعًا. ويحتمل ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " كُل مَعْروفٍ صَدَقَة، وَالدَّال عَلَى الْخَيرِ كَفَاعِلِهِ، وَاللهُ يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللَهْفَانِ ". وعن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا صَدَقَةَ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ اللسَانِ "؛ قيل: وما صدقة اللسان يا رسول اللَّه؟ قال: " الشفَاعَةُ تُجْرِيهَا إِلَى أَخِيكَ، وترفع عنه ثقل الكريهة وتحقن بها الدم ". والكفل والنصيب واحد. وقيل: الكفل: الجزاء، وهو واحد. وقيل: الكفل: الإثم، ولكن ليس إثمه خاصة؛ ألا ترى أنه قال: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ).

والشفاعة من أعظم ما احتيج إليها؛ إذ قد جاء القرآن بها، والآثار ممن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والشفاعة في المعهود من الأمر تكون عند زلات يُستَوجَبُ بها المقت والعقوبة؛ فيعفى عن مرتكبها بشفاعة الأخيار وأهل الرضا بهم، ثم كانت الصغائر منا لا يجوز التعذيب عليها عند القائلين بالخلود بالكبائر، والكبائر مما يعفى عنها بالشفاعة؛ فإذن يبطل عظيم ما جاء من القرآن والآثار في الامتنان، ويسقط ما جبل عليه أهل العلم باللَّه وبرحمته، ويبطل رجاء المسلمين بشفاعة الرسل - عليهم السلام - ولا قوة إلا باللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشفاعة تخرج على وجهين: الأول: على ذكر محاسن أحد عند آخر؛ ليقرر له عنده المنزلة والرتبة. والثاني: أن يدعو له؛ فالأول هو الذي يحتمل توجيه الشفاعة إليه، والثاني قد بين بقوله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ. . .) إلى قوله: (العَظِيمُ)، وقوله - تعالى -: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)، والخوف يدل على وجهين: الشفاعة؛ لأن المرتضى هو ذو منزلة وقدْر، وهو ممن تضمنته آية شفاعة الملائكة؛ فيقال: الوجه الأول في الآخرة لا معنى له؛ لوجهين: أحدهما: أنه في تقرير الأمر عند من يجهله، واللَّه - جل ثناؤه - هو العليم بحقيقة ذلك، بل غيره مما يجوز عليهم خفاء الحقائق؛ كقوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا. . .) الآية، وقال عيسى - عليه السلام -: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ. . .) الآية؛ وكان في ذلك أن الحقائق في ذلك عند اللَّه، وهم تبرءوا عن العلم بذلك، وأقروا بأن اللَّه هو المنفرد بعلم ذلك، وباللَّه التوفيق. والثاني: أن ثمة كتبًا يقرأ فيها أعمال بني آدم وما سبق منهم من صغير وكبير؛ فهي الكافية في التقدير إن كان في حق الاحتجاج، وإن كان في حق الإعلام - فعلم اللَّه بهم مغنٍ عن ذلك، ولا قوة إلا باللَّه. وأما الدعاء: فكذلك نقول بالدعاء لمن له ذلك الوصف، ويشفع له فيما كان في ذلك منه من المآثم والذنوب، لا أنه إذا كان كل أفعالهم ذلك، فيشفع لهم؛ لأنه لا يجوز في الحكمة تعذيبهم، على ما ذكر من الأفعال، بل لهم عليها أعظم الثواب، وأرفع المأوى.

وطلب الشفاعة والمغفرة لمثله يصح من وجوه: أحدها: أن ذلك لا يجوز في الحكمة؛ فكأنهم طلبوا منه ألا يجور ولا يسفه، وذلك لأفسق الخلق يخرج مخرج السفيه، فضلا عن أن يتضرع إلى اللَّه به، جل الكريم الحليم عن هذا الوصف. والثاني: أن يخلق في مثله؛ إذ هو مثاب غير معاقب، يلقى ذلك منه بالشكر والحمد، وفي الدعاء كتمان ذلك وكفرانه، ومحال الإذن في مثله، وباللَّه التوفيق. والثالث: أن ذلك في الموعود له بالجنة والمبشر بها؛ فطلب مثله يوجب الجهالة بذلك، لا أن يكون الوقت لم يبين، يكون ذلك في الاستعجال، وهو قولنا في أصحاب الكبائر: إنهم لو عُذبوا بقدر الذنوب - لكان ذلك في الحكمة عدلا؛ فيشفع لسائلهم بالفضل والإحسان دون العدل والاستيفاء، ولا قوة إلا باللَّه. والأصل: أنها مقادير للعقوبات، وإنما يعرف من يعرف مقادير الأجرام، وليس مِنَ الخلائق مَنْ يحتمل تركيبه احتمال العلم بمقاديرها؛ إذ لا أحد يبلغ في معرفة تعظيم اللَّه كُنْه عظمته؛ ليعرفوا قدر الخلاف لأمره - جل وعلا - وما كان هذا سبيله - فحق القول الاتباع أن اللَّه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها. ثم معلوم أن لا سيئة أعظم من الكفر، وجعل مثلها من الجزاء: الخلود في النار، ممن ألزم ذلك لما دونه وصف اللَّه - تعالى - أنه يجزي بالسيئة أكثر من مثلها، واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبرنا أنه لا يجزي ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً. . .) يكون فيما بين المرء والرب: يشفع إليه بالمغفرة لأحد والتجاوز عن المذنب؛ ليكون له نصيب منها. ويحتمل: أن يكون اللَّه - تعالى - برحمته يرحمه على أخيه بالشفاعة إليه - بالتجاوز عنه والمغفرة. ويحتمل: أن يكون اللَّه - تعالى - إذا غفر له يجعل له في شفيعه شفاعة؛ يهبه له كما وهب الأول له، وفي السيئة فيما يلعنه، أو يدعو اللَّه عليه بالهلاك عن غير استحقاق، أو عليه في بقائه ضرر يكون له نصيب منها يلعن لآخر، أو أحدًا يلعنه ويدعو عليه به أن يعاقبه

بإساءته إلى أخيه في طلب الهلاك له بلا معنى له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - أيضًا: (مَنْ يَشْفَعْ. . .) الآية، يحتمل فيما بينه وبين ربه يشفع له: بخير إليه من عفو وتجاوز، أو يسوء إليه من لعنه أو هلاكه، والنصيب منها بوجهين: أحدهما: المغفرة في الأول هي برحمته أخاه وإشفاقه عليه، أو يعطي المشفوع له الشفاعة؛ فيكون ذلك له نصيبا منها، وفي الثاني: يجزيه بإساءته إلى من لعنه ودعا عليه بالهلاك بلا استحقاق نفس الأول، أو واحدًا بمثله فيه، واللَّه أعلم. ويحتمل: فيما بينه وبين الناس، ثم يكون ذلك بوجوه: أحدها: بما يشفع إلى من بين أخاه وآخر سواء في دفع ذلك وحلت التحية أو الألفة، أو إلى ضد ذلك يشفع في إقالة عثرة، أو ينم بينهما؛ لإلقاء عداوة، أو يشفع إليه بالدلالة على ملهوف في إغاثة، أو مظلوم في نكبة، أو يصنع معروفا أو نكبة، يبعث ذلك على خير أو شر، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا). قيل: هو الحافظ، وهو قول ابن عَبَّاسٍ. وقيل: (مُقِيتًا): حسيبًا، وقيل: شهيدًا، وقيل: (مُقِيتًا) أي: مقتدرًا، مجازيًا بالحسنة والسيئة. وروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنِ اسْتَأْكَلَ بِمُسْلِمٍ أكلَةً - أَطْعَمَهُ اللهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِياءٍ - أَقَامَهُ اللهُ - تَعَالَى - مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ - تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ - يَفْضَحْهُ فِي بَيتِهِ ". وعن الفَرَّاء والكسائي قالا: الْمُقِيت: المقتدر؛ من " أَقاتَ، يُقِيت إِقاتة ".

(86)

وقيل: الْمُقِيت مشتقة من الْقُوتِ؛ يقول: رِزْق كل دابة على اللهَ تعالى - حتى تستوفي أكلها ورزقها. وقيل: مُقِيتًا: راحما يكلؤهم ويرزقهم. وقال أبو بكر الكسائي: وهو مأخوذ من الكتب السابقة، ليس هو بلساننا؛ فنحن لا نتأوله؛ فلعله على خلاف ما نتأوله، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) ذكر التحية، ولم يذكر ما تلك التحية، واسم التحية يقع على أشياء: من نحو ما جعل الصلاة لتحية المسجد، والطواف تحية البيت، وغير ذلك مما يكثر عددها، لكن أهل التأويل أجمعوا على صرف هذه التحية إلى السلام دون غيرها من التحية التي ذكرنا؛ ألا ترى أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ رُدُّوهَا)؟! ولو كان غيرها أراد - لم يقل: (أَوْ رُدُّوهَا)؛ لأن غيرها من التحية لا يرد؛ إذ في الرد ترك القبول، ولم يؤمر بذلك؛ دل أنه أراد بالتحية: السلام، ويدل على ذلك آيات من كتاب اللَّه - تعالى -: قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)؛ فجعل تحية الملائكة للمؤمنين السلام؛ كقوله - تعالى -: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ)، وجعل تحية أهل الجنة السلام؛ كقوله - تعالى -: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)، وكقوله - تعالى -: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ)، وتحية الملائكة بعضهم على بعض: بالسلام؛ ألا ترى أنه قال اللَّه - تعالى -:، (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. . .) الآية

فعلى ذلك يمكن أن يكون المراد من قوله - تعالى -: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ): السلام، وجعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - السلام علمًا وشعارًا فيما بين المسلمين، وأمانًا يؤمن بعضهم بعضًا من شره؛ ألا ترى أن أهل الريبة لا يسلِّمون ولا يردون السلام، وإن كانوا لا يعرفون تفسيره ولا معناه؟! ولكن على الطبع جعل ذلك لهم. والسلام: قيل: هو اسم من أسماء اللَّه - تعالى - فهو يحتمل وجوهًا: يحتمل: سلام مسَلَّم طاهر عن الأشباه والأشكال، وسلام عدل منزه عن العيوب كلها، والجور والظلم. وقوله: " رحمت اللَّه "، أي: برحمته ينجو مَنْ نجا، وسعد من سعد: " وبركاته ": به ينال كل خير، وهو اسم كل خير؛ ألا ترى أنه جعل التحليل من الصلاة بالسلام بقوله: " السلام عليكم ورحمة اللَّه "؛ على ما جعل تحريمها باسم اللَّه؛ فعلى ذلك جعل الافتتاح بما به جعل الختم. ثم اختلف في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا): فقيل: حيوا بأحسن منها للمسلمين، أو ردوها على أهل الكتاب. وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نهينا أن نزيد على أهل الكتاب على: عليك، وعليكم. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: السلام: اسم من أسماء اللَّه وصفاته في الأرض، فأفشوه بينكم؛ فإن الرجل إذا سلَّم كتبت له عشر حسنات، فإن هم ردوها عليه كتب لهم مثله.

وقيل: قوله - تعالى -: (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا) بالزيادة، (أَوْ رُدُّوهَا): بمثلها. وروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه جاءه رجل فقال: السلام عليكم، يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عَلَيكُم وَرَحْمَةُ اللَّهِ "، ثم جاءه آخر فقال: السلام عليكم، يا رسول اللَّه ورحمة اللَّه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عَلَيكُم وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ "، ثم جاءه آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، فقال: " عَلَيكُم "؛ فقيل له: إنك زدت في الأول والثاني؟ فقال: " إِنَّ الْأَولَ وَالثانِي قَدْ أَبْقَيَا لي زِيادَةً، وَهَذَا لَم يُبقِ لي زيادةً ". وقيل: إنه روي أنه سلَّم عليه رجل فقال: السلام عليكم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عَشرٌ " يعني: عشر حسنات، وسلَّم عليه آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه؛ فقال: عِشرُونَ "، وقال آخر: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته؛ فقال: " ثَلاثُونَ ". ومنتهى السلام قوله: " وبركاته "، لا يزاد عليه؛ كقوله: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ). فَإِنْ قِيلَ: يسلم في الصلاة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، ولا يقول في التحليل من الصلاة: وبركاته؟ قيل: لوجهين: أحدهما: تفضيلا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: إبقاء لهم في الرد زيادة. ويسلِّم الراكب على الماشي، والماشي على القائم، والقائم على القاعد: روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يُسَلِّمُ الراكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالماشي عَلَى القَائِمِ، وَالْقَائِمُ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالصغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْقَليلُ عَلَى الكَثِيرِ ".

وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِذَا انْتَهَى أَحَدُكم إِلَى المَجْلِسِ فَلْيُسَلم، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِس، وَإِنْ قَامَ وَالْقَوْمُ جُلُوسٌ فَلْيُسَلم؛ فَلَيسَتِ الْأُولَى بِأحَق مِنَ الْأُخْرَى ". وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيرِنَا فَلَيسَ مِنَّا "، وقال: " لَا تُسَلمُوا تَسليمَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ تَسليمَ النَّصَارَى بِالْأَكُفِّ، وَتَسليمَ الْيَهُودِ بِالإشارَةِ ". ويكره أن يبتدئ أهل الكتاب بالتسليم، ولكن إذا بدءوا هم - يردّ؛ وعلى ذلك جاءت الآثار: روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَبدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالتَّسليمِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُم فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُم إِلَى أَضْيَقِهَا ". وعن أبي نضرة الغفاري - رضي اللَّه عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لهم يومًا: " إِنى رَاكِبٌ إِلَى يَهُودَ؛ فَإِنْ سَلَمُوا عَلَيكُم فَقُولوُا: وَعَلَيكُم ". ثم قيل في تفسير: " السلام عليكم " بوجوه: قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: اللَّه شهيد عليكم. وقيل: اللَّه قائم عليكم، وهو كقول اللَّه - تعالى -: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ) برًّا وفاجرًا، يرزقهم، ويحفظهم، ويستجيب لهم.

(87)

وقيل: هو الدعاء لهم بالمغفرة والسلامة، وهو ما ذكرنا بدءًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا). قيل: شهيدا. وقيل: حفيطا. وقيل: كافيًا مقتدرًا؛ يقال: أَحْسَبَني هذا، أي: كفاني. وقال الكسائي: مشتقة من الحساب؛ كقوله - تعالى -: (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) أي: حاسبًا؛ كالأمير والآمر، والقدير والقادر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) هذا - واللَّه أعلم - لما ألزم اللَّه، وأجرى على ألسنتهم أنه اللَّه، وأنه خالق السماوات والأرض، وأنه خالقهم؛ كقوله - تعالى -: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ): أخبر أن الذي سميتموه " اللَّه " وقلتم: إنه خالق السماوات والأرض - هو واحد، لا إله غيره، ولا رب سواه، هو واحد، لا شريك معه ولا نِد، وأن الأصنام التي تعبدونها دون اللَّه قد تعلمون أنها لا تنفعكم إن عبدتموها، ولا تضركم إن تركتم عبادتها، وباللَّه التوفيق. وقوله: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قيل فيه بوجهين: قيل: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)؛ كقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) وقيل: ليجمعنكم في القبور إلى يوم القيامة ثم يبعثكم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) معناه - واللَّه أعلم -: أنكم تقبلون الحديث بعضكم من بعض، وإن حديثكم يكون صدقًا ويكون كذبا؛ فكيف لا تقبلون حديث اللَّه وخبره في البعث وما أخبر في القرآن، وحديثه لا يحتمل الكذب؟! هذا - واللَّه أعلم - تأويله. * * * قوله تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ

(88)

اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) اختلف في قصة الآية: قيل: إن ناسًا من أهل مكة قدموا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - المدينةَ، فأسلموا، وأقاموا بها ما شاء اللَّه أن يقيموا، ثم ندموا على الهجرة والإقامة فيها، وأرادوا الرجعة إلى مكة واجتووا المدنية؛ فخرجوا يتحولون مَنْقَلَةً مَنْقَلَةً، حتى تباعدوا من المدينة، فلحقوا بمكة، فكتبوا كتابًا، ثم بعثوا به مع رسول من قبلهم إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقدم به الرسول عليه بالمدينة، فإذا فيه: " إنا على الذي فارقناك عليه من التصديق باللَّه وبرسوله، اشتقنا إلى أرضنا، واجتوينا المدينة ". ثم إنهم خرجوا من مكة متوجهين إلى الشام للتجارة، فبلغ ذلك المسلمين وهم عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: فما يمنعنا أن نخرج إلى هَؤُلَاءِ الذين رغبوا عن ديننا، وتركوا هجرتنا، فنقتلهم ونأخذ ما معهم؟! فقال فريق منهم: كيف تقتلون قومًا على دينكم؟! ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ساكت لا ينهى واحدًا من الفريقين؛ حتى نزل قوله - تعالى -: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ): يبين اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لرسوله أمرهم وما صاروا إليه. وقيل: تخلَّف رجال عن أُحُدٍ، فكان أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيهم فئتين: فرقة تقول: اعف عنهم، وفرقة تقول: نقتلهم؛ فنزلت الآية: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ). وقيل: إن قومًا كانوا يتحدثون، فاختصموا في أهل مكة: فقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كفار، وقال آخرون: إنهم قد أكلوا ذبائحكم، وصلوا صلاتكم، وأجابوا دعوتكم؛ فهم معكم، وقال غيرهم: تركوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتخلفوا عنه. فأكثروا في ذلك؛ فنزل قوله - تعالى -: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ. . .) الآية، فلا ندري كيف كانت القصة، ولكن فيه النهي عن الاختلاف والتنازع بينهم؛ كأنه قال - واللَّه أعلم -: كيف تختلفون في قوم ظهر نفاقهم؟

وكيف لا تسألون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن حالهم وهو بين أظهركم؟! كقوله - تعالى -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. . .) الآية، وظهور نفاقهم يحتمل الخبر منه نصًّا أنهم منافقون. ويحتمل الظهور بالاستدلال على أفعالهم، وقد يوقف على حال المرء بفعله أنه كافر أو مؤمن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) قال الكسائي: فيه لغتان؛ يقال: أركسته في أمر كذا وكذا وركسته، وارتكس الرجل: إذا وقع فيه ورجع إليه. وقيل في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحفصة - رضي اللَّه عنها -: " واللَّه ركسهم بما كسبوا ". ثم قيل: أركسهم: أي ردهم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) قال: أوقعهم. ثم يحتمل قوله - تعالى -: (أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) وجهين: ما أظهروا بما كان في قلوبهم من النفاق والخلاف لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ كقوله - تعالى -: (بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ). ويحتمل: ابتداء كسب كسبوا بعد ما أسلموا، أي: كفروا وارتدوا عن الإسلام بعد ما صح إسلامهم. وفي إضافة ارتكاسهم إلى اللَّه دلالة خلق فعلهم وحرمان أمر يملكه، واللَّه أعلم بما كسبوا من إحداث شرك، أو بكسبهم بالقلوب وقت إظهارهم الإيمان في أن ظهر عليهم بلحوقهم إخوانهم من الكفرة، أو لما جعل اللَّه من أعلام النفاق التي ظهرت بغرض الجهاد والعبادات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ). تأويله - واللَّه أعلم -: أتريدون أن تهدوا وقد أراد اللَّه أن يضلُّوا؛ لما علم اللَّه منهم أنهم لا يهتدون؛ باختيارهم الكفر.

(89)

ويحتمل: إنكم لا تقدرون على هداهم إذا لم يهدهم اللَّه؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وفي قوله -أيضًا-: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا) قيل: أن يُسَمَّوْا مهتدين، وقد أظهر اللَّه - تعالى - ضلالهم؛ صلة لقوله - تعالى -: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) وحذرهم عن الاختلاف في التسمية بعد البيان. وقيل: أن تجعلوهم مهتدين، وقد جعلهم ضالين على نحو قوله - تعالى -: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآية، أَيَّدَنَا تَمَامُ الآية، وأوضح الأول قوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) يقول: من أضله اللَّه عن الهدى فلن تجد له سبيلا يهتدي به، وقيل: دينا، وقيل: مخرجا، وهو واحد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ... (89) قيل: ود الذين تركوا، الهجرة، فرجعوا إلى أهلهم ومنازلهم، الذين لهم قال اللَّه: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) - أن تكفروا كما كفروا، أي: تتركون الهجرة وترجعون كما رجعوا منهم؛ فتكونون أنتم وهم سواء؛ شرعًا في الكفر، فسماهم اللَّه كفارًا، وأمرهم بالبراءة منهم؛ فقال: (فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ) بالهجرة الأولى؛ كقوله - تعالى -: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ)، وقال اللَّه - تعالى -: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)، وكقوله - تعالى -: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ)، نهاهم أن يتخذوا أولياء حتى يهاجروا هجرة ثانية إلى المدينة، ويثبتون على ذلك. هذا على قول من قال: إنهم كانوا هاجروا ثم لحقوا بمكة.

وأما في قول من قال: إنهم كانوا في أهلهم تكلموا بالإسلام فيها ولم يهاجروا - فمعنى هذا: لا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا كما هاجر غيرهم. وقيل: المهاجرون على طبقات: منهم: من هاجر، وأقام، وسمع، وأطاع، وثبت على ذلك. ومنهم: من هاجر، ثم خرج من غير إذن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلحق بأهله وأبطل هجرته التي هاجر، وإيمانَهُ الذي آمن. ومنهم: من تكلم بالإسلام، وأقام بأهله، ولم يهاجر، وبه قوة على الهجرة؛ كان كذلك. ومنهم: من تكلم بالإسلام ولم يكن له قوة على الهجرة؛ كانوا مستضعفين، وهو - واللَّه أعلم - ما قال اللَّه: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) الآية. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: " كنت أنا وأمي من المستضعفين ". والذين آمنوا ولم يهاجروا ولهم قوة الهجرة ما قال اللَّه - تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ). وفي قوله - تعالى -: (فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا) - يحتمل: من أظهر الموافقة من المنافقين للكفرة، ولحق بهم. ويحتمل: من قد آمن ولم يهاجر؛ فيكون الأول على ولاية الدِّين، والثاني: على ولاية الميراث؛ كقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ). ومن يتأول الآية على إظهار الكفر دون الخروج من المدينة - فمهاجرته تخرج على وجهين: أحدهما: أن يكون قد انضم فيها إلى معاني الكفرة فيما يترك صحبتهم. والثاني: أن يهاجر الأعلام المجعولة لأهل النفاق، مما يظهر ذلك فيما امتحنوا به من الأفعال؛ فيظهر خلاف ذلك؛ كقوله: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ). وقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا)

(90)

وأبوا الهجرة. (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) لأنهم صاروا حربًا لنا؛ حيث تركوا الهجرة وأبطلوا إيمانهم الذي تكلموا به (وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) لما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) يخرج على وجهين: أحدهما: في لحوق قوم من مظهري الإيمان أنهم لو لحقوا بمن لا ميثاق بينكم وبينهم ولا عهد؛ فاقتلوهم حتى يتوبوا ويهاجروا، ولو لحقوا بأهل الميثاق - لا تدعوا الولاية التي كانت بينكم وبينهم. والثاني: أن تكون الآية في قوم من الأعداء وأهل الحرب: لو انضموا إلى أهل الميثاق وأهل العهد فلا تقاتلوهم؛ فيكون الأمر عقيب موادعة تجري بين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبين قوم في دورهم، على أن لا تمانع بينهم لأهل الاتصال في الزيادة والاجتماع إلى المدة المجعولة للعهد، ممن إذا خيف منهم: ينبذ إليهم العهد، ويوفي إليهم المدة إذا وفوا - والله أعلم - كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ. . .)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ). * * * قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: استثنى الذين خرجوا من دار الهجرة مرتدين إلى قومهم، وكان بينهم وبين المؤمنين عهد وميثاق، وقال: وفيهم نزل قوله - تعالى -: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، كأنه قال - واللَّه أعلم -: إن وصل هَؤُلَاءِ إلى أُولَئِكَ الذين بينكم وبينهم عهد وميثاق - فلا تقاتلوهم.

وقيل: كان هذا في حي من العرب بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمان وعهد، وكانت الموادعة على أن من أتاهم من المسلمين فهو آمن، ومن جاء منهم إلى المؤمنين فهو آمن، يقول - واللَّه أعلم -: إن وصل هَؤُلَاءِ أو غيرهم إلى أهل عهدهم - أو قال: عهدكم - فإن لهم مثل الذي لأُولَئِكَ من العهد وترك القتال. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: لما صد مشركو مكة نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن البيت - جاء رجل - يقال كذا من بعض القبائل - لينظر ما أمر مُحَمَّد وقريش؛ فرآهم قد حالوا بين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبين البيت، فقال: يا معشر قريش، هلكتم؛ أتردون قومًا عمار ضفروا رءوسهم عن البيت، واللَّه لا نشرككم في هذا؛ فصالح رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ووادعه ألا يكونوا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا يكونوا عليه، ومن لجأ إليه فهو آمن. فلا ندري كيف كانت القصة في ذلك، غير أن فيه دليلا أن من اتصل بأهل العهد وكان على رأيهم - فهو بمنزلتهم، لا نقاتلهم. ومن قولنا: إن الإمام إذا وادع أهل بلدة من بلدان أهل الحرب، فمن دخل فيها أو اتصل بهم فهم آمنون مثلهم؛ لا يحل قتالهم، ولا أسرهم، حتى ينبذ إليهم عهدهم، وإذا أمَّن قومًا منهم في دار الإسلام ووادعهم، ثم انضم إليهم آخرون، فدخلوا معهم دار الإسلام - له قتالهم وأسوهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) قيل: أي: ضيقة صدورهم، وهكذا قال الكسائي: كل من ضاق صدره عن فعل أو كلام؛ فقد حصر، فهذا - واللَّه أعلم - ما ذكرنا: أن الموادعة ألا يعين بعضهم بعضًا في القتال، ولا يعينوا عليهم عدوهم، فنهاهم اللَّه عن قتالهم؛ لما أخبر أن قلوبهم تضيق على أن يقاتلوكم مع قومهم أو أن يقاتلوا قومهم معكم. وفي قوله - تعالى - أيضًا: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) يحتمل: أن يكون حكم هذا الحرف ما ضَمَّنه الحرف الأول؛ فيكون ذلك الشيء عمن ذكرت إذا كان هذا صفته -

(91)

أن يضيق صدره عن مقاتلة المؤمنين والكافرين جميعًا: إما بالطبع، أو بوفاء العهد، أو بالنظر في الأمر؛ ليتبين له الحق، وهو متردد في الأمر؛ بما يجد المعروفين بالكتب التي احتج بها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مختلفين فيه على ما عقولهم مرتقب بهم، أو تخلف عن الإحاطة بحق الحق إلا بعد طول النظر، واللَّه أعلم؛ فيكون معنى قوله: (أَوْ جَاءُوكُمْ) بمعنى: وجاءوكم. ويحتمل: في قوم سوى ما ذكرت من الذين يصلون، لكن في أُولَئِكَ المعاهدين نفسه الذين أبت أنفسهم نقض العهد بينهم وبين المؤمنين، وعزموا على الوفاء به، وأبت أنفسهم -أيضًا- معونة المؤمنين على قومهم بالموافقة بالمذهب والدِّين، وعلى ذلك وصف جميع المعاهدين الذين عزموا على الوفاء بالعهد، وذلك في حق الآيات التي ذكرنا، ثم بين الذين يناقضون العهد، أو المنافقين الذين متى سئلوا عن الكون على رسول اللَّه والعون لأعدائه - الأمر فيهم؛ وذلك كقوله تعالى: (يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ). إلى قوله: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا)، وتكون هذه الآية فيهم؛ كقوله - تعالى -: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ. . .) الآية؛ فيكون في هذه الآية الإذن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) أي: نزع من قلوبهم الرعب والخوف؛ فقاتلوكم، ولم يطلبوا منكم الصلح والموادعة. (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) يعني: طلبوا الصلح، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه. وقيل: قالوا: إنا على دينكم، وأظهروا الإسلام. (فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا). أي: حجة وسلطان القتال، أمر اللَّه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالكف عن هَؤُلَاءِ. ثم قال: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ... (91) قيل: كان رجال تكلموا بالإسلام متعوذين؛ ليأمنوا في المسلمين إذا لقوهم، ويأمنوا

في قومهم بكفرهم؛ فأمر اللَّه بقتالهم، إلا أن يعتزلوا عن قتالهم. وقيل: قوله - تعالى -: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) غيرهم ممن لا يفي لكم ما كان بينكم وبينهم من العهد (يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) يقول: يريدون أن يأمنوا فيكم؛ فلا تتعرضوا لهم، ويأمنوا في قومهم بكفرهم؛ فلا يتعرضوا لهم. ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن صنيعهم وحالهم، فقال: (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) يعني: الشرك. (أُرْكِسُوا فِيهَا) أي: كلما دُعوا إلى الشرك فرجعوا فيها، فهَؤُلَاءِ أمر اللَّه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقتالهم، وعرفه صفتهم، إن لم يعتزلوا ولم يكفوا أيديهم عن قتالكم. (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) أي: جعلنا لكم عليهم سلطان القتل وحجته. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ويكفوا أيديكم عن أن يقاتلوكم " وفي حرفه: " ركسوا فيها ". وفي حرف حفصة: " ركسوا فيها " وفي حرفها: " أن يقاتلوكم ويقاتلوا قومهم ". ثم يحتمل نسخ هذه الآية بقوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ). وقوله - تعالى -: (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)؛ لأن الفرض في القتال أول ما كان فرض أنه يقاتل من قاتلنا وبدأنا، ثم إن اللَّه - تعالى - قال: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ).

(92)

قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) اختلف فيه: عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً): أي: لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا بغير حق عمدا، إلا خطئًا فيما لا يملكه. وقيل: (إِلَّا) بموضع الواو، كأنه قال: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا متعمدًا ولا خطأ، وذلك. جائز في اللغة. وقيل: وما كان ينبغي لمؤمن أن يترك قتله إذا قتل آخر عمدا إلا خطأ، فإنه يترك قتله ولا يقتل به؛ وهو قول أبي بكر الكسائي. وقيل: وما كان ينبغي لمؤمن أن يترك حكم قتله إلا خطأ. قال أبو بكر الكسائي: حكم القتل ما ذكرنا من القصاص والقود، أو كلام نحو هذا. ويحتمل قوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا) قط بعد ما سبق من اللَّه بيانه في غير آي من القرآن، نحو قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) وقوله - تعالى -: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، وقوله - تعالى -: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا)، وغيرها من الآيات. (إِلَّا خَطَأً) فإنه لم يسبق منه الحكم فيه إلا في هذه الآية. وقيل: وليس لمؤمن أن يقتل مؤمنًا على كل حال إلا أن يقتله مخطئًا؛ فعليه ما في القرآن. وهو قريب مما ذكرنا.

ثم الخطأ - عندنا - على وجهين: خطأ قصد، وخطأ دين. فخطأ القصد: هو أن يقصد أحدًا فيصيب غيره. وخطأ الدِّين: هو أن يعرفه مشركًا كافرًا من قبل حلال الدم؛ فيقتله على ما عرفه من قبل، وهو للحال مسلم. فَإِنْ قِيلَ: كيف لزمه في قتل الخطأ ما لزمه من الكفارة؛ وقد أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنه لا يؤاخذه له، وأن لا حرج عليه في ذلك؛ بقوله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)، وقال في آية أخرى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)، وغيرها من الآيات. قيل: إن الفعل فعل مأثم، وإن كان لم يوجد منه القصد فيه، فما أُوجِبَ إنما أُوجِبَ؛ لما الفعل فعل مأثم. والثاني: يجوز أن يكون اللَّه يكلفنا بترك القتل والفعل في حال السهو والغفلة، ألا قرى أف قال: (لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)، والخطأ نقيض الصواب؛ فلا يجوز أن يؤمر بطلب الصواب ولا ينهى عن إتيان ضده؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا تَنْسَ

نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا. . .) الآية. ثم اختلف في المعنى الذي أوجب عليه رقبة مؤمنة. قيل: لأنه أتلف نفسًا خلقها اللَّه - تعالى - لعبادته؛ فأوجب مكانها نفسًا مؤمنة؛ لتعبد اللَّه على ما عبدت تلك. لكن التأويل لو كان هذا لكان يجب في العمد ما وجب في الخطأ؛ لأنه وجد ذلك المعنى، لكن أوجب لا لذلك المعنى - واللَّه أعلم - ولكن تغليظًا وتشديدًا عليه لما أتلف نفسًا محظورًا لم يؤذن له في ذلك؛ لئلا يقدم على مثله، ولله أن يوجب على من شاء بما شاء لما شاء، من غير أن يقال: لم؟ وكيف؟ وأين؟ والثاني: أوجب عليه رقبة مؤمنة؛ لأنه أبقى له نفسًا مؤمنة؛ فعلى ما أبقى له نفسًا مؤمنة أوجب عليه مثلها رقبة مؤمنة. وفي قوله - تعالى أيضًا -: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) واختلف في تأويل (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ)؛ فمنهم من يقول بإضمار: وما كان بمتروك لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ. ويخرج معنى " بمتروك " على وجهين: أحدهما: ما قاله " أبو بكر الملقب بالأصم: أي بمتروك له في القصاص إلا أن يقتله خطأ. ولكن هذا يوجب منع العفو لما به الترك، ومعلوم أنه أمر رغب فيه؛ حتى دعا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولي القتيل إلى العفو، ثم إلى أخذ الدية، ثم لما أبت نفسه عن ذلك أذن له في القصاص؛ ويدل على ذلك قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ. . .) الآية، وقوله: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا. . .)، إلى قوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. . .) الآية، إلا أن يرجع في قوله: " بمتروك له " إلى الوجوب، أي: لا يدفع عنه إيجاب القصاص إلا من قتل مؤمنًا خطأ؛ فإنه ليس عليه القصاص.

والثاني: أنه ما كان بمتروك له من التأنيب والتوبيخ والتعيير بسوء صنيعه بأخيه وتعديه حد اللَّه وبمعونة ولي القتيل؛ إذ قال: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)، فحق ذلك على الناس أن يظهروا له النكير عليه، ويقوموا بالنصر لوليه - واللَّه أعلم - إلا أن يكون خطأ؛ فلا يتلقونه بشيء مما ذكرت، بل يقومون بالشفاعة له، والمعونة في احتمال ما لزمه؛ ولذلك جعل - واللَّه أعلم - أمر العقل على ما به من إبقاء الألفة، ودفع الضغينة، واجتماع التالم في المصيبة. ومنهم من يقول في تأويل الآية: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ) أي: حرام عليه ذلك الفعل بما حرم اللَّه، وبما بينهما من الأخوة في الدِّين، وبما هو شقيقه وجنسه، يتألم بما يتألم به الآخر، ويتأذى بما يتأذى الآخر، والنفس عن مثله تنتهي، والطبع ينفر، فما كان له بعد هذا أن يقتل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا خَطَأً) قيل فيه بوجوه: أحدها: أن يقع ذلك منه على الخطأ؛ فيكون على ما لا يلحقه اللائمة التي ذكرنا، ولا وصف التعدي الذي وصفنا. والثاني: أن يكون الأمر في موضع الابتداء؛ لما بين له من الحكم بمعنى: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنَا ألبتَّة، لكن من قتل مؤمنَا خطأ فتحرير رقبة؛ كقوله: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)، بمعنى: لا يسمعون فيها لغوَا ألبتَّة، لكن الذي يسمعون: يسمعون سلامًا. وقيل: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً): إلا ألا يعلمه أنه مؤمن، وكان عرفه كافرًا، له قتله بما روي من الإذن في البيات وقتل عيون الكفرة بما سبق من ظهور كفرهم، وإن احتمل إيمانهم فيما بين الوقتين؛ فيكون بمعنى: حرام عليهم إلا مَنْ هذا وصفُهُ. ويجوز: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) أي: أليس، لمؤمن ذلك قط إلا أن يقتل خطأ؛ فإنه ليس فيمن يقال كان له أو لا؛ لما يقع به إلا أن يفعله هو في التحقيق؛ إذ حقيقة الفعل أن يقع بإرادة ويخرج عليها، وهذا لا يقع بها، ولا يخرج

عليها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فلم يذكر في القاتل أنه مؤمن عند ذكر قتله، لكنه رجع إليه بوجهين: أحدهما: أن الآية في بيان قتل يكون من المؤمن، وعليها جرى تفسير الحكم عند الوقوع. والثاني: قوله: (تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ) والتوبة بالتحرير تكون للمؤمن لا غيره، والله أعلم. على أنه حق الشرع من العبادات؛ فلا يحتمل قصد الكافر به، وأيد ذلك المذكور من الصيام، وهو لا يقوم إلا بالإيمان، ثم جعل الإيمان شرطا من حيث الذكر، وتأكده بأوجه ثلاثة: أحدها: بالتأكيد، يذكر كل قتيل على اختلاف أهل القتيل، وفي ذلك دليل أن ذلك جعل عليه لمكان أمر يدخل على دينه مما عليه من الحق أن يحفظ حرمته، وبحرمته يتقي قتل من ذكر؛ إذ حرم دينه عليه؛ فيصير في قتله مُضَيعًا، فالزم ما ذكرت في كل أنواع القتيل لرجوع أمر ذلك كله إلى تضييع من حق دينه؛ ولذلك قيل: (تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ) وذلك يخرج على وجهين: أحدهما: أن تحقيق معنى التوبة في فعل اللَّه، وذلك يخرج على وجهين: أحدهما: على ما تجاوز منه؛ إذ لم يأخذه بالخطأ؛ فيكون بحق جعل ذلك شكرا من العبد بما لم يؤاخذه بالخطأ؛ فيكون معنى التوبة منه أنه لم يؤاخذه بالخطأ، لا إن في الإعتاق ذلك، والإعتاق للشكر له فيما لم يكن أخذه، وقد يجوز أن يؤاخذه لما بالجهد في التحفظ قد يؤمن ذلك، فلما لم يكلفه وتجاوز عما كان على الخطأ؛ يأمر بالشكر لذلك. والثاني: قبولا منه ذلك في حق التوبة عن غير القتل من الزلات؛ فيكون فيه قيام بما أمر توخيه في حكمة العفو عن مثله، بجعل ذلك من العبد مقبولا بحق التوبة من الزلات. أو نُسب إلى التوبة منه إذا كان على التوفيق لفعله، وذلك تسمية اللَّه " توابًا " على التوفيق والتجاوز، واللَّه أعلم. والثاني: يرجع إلى فعل العبد؛ فتكون توبة من اللَّه على عبده القاتل بأن يتوب بإعتاق

رقبة مؤمنة، وذلك يخرج على وجهين: أحدهما: أن يكون الفعل فعل مأثم، ولله - تعالى - مؤاخذته عليه؛ لأنه بالجهد يمكن اتقاء ذلك؛ ولذلك تعبد بقوله: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) وإذا كان كذلك؛ فيكون ذلك منه توبة إلى اللَّه؛ ليحفظ عن مثله في أمر الدِّين. والثاني: أن يكون عليه حفظ دينه عما يقع فيه من التضييع الذي يبلى بإنساء الشيطان، أو بفرط غفلة، أو نحو ذلك؛ فيلزم جبر ذلك بما ذكر وإن لم يعلم؛ إذ قد يجوز وقوع النقصان في ذي الحرمات من وجه لا إثم يلحقه نحو المذكور في المتأذي، وفي أمر السهو في ذلك: فيؤمر به؛ لينجبر ذلك، وذلك نحو ما قد يفسد بأمور من وجه لا يعلم به، فكذلك أمر النقصان؛ فيؤمر بالتوبة إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن ذلك بما يمتحن اللَّه به من الأمور - واللَّه أعلم - مع ما قد يتصل بالقتل ما له حكم الخطأ يأثم المرء عليه ويحرج؛ فجائز أن يرجع حرف التوبة من اللَّه إلى ذلك، وهو سمى خطأ العمد. والثاني: مما يدل على جعل الإيمان شرطًا: أنه جعل لما وقع في حق الدِّين من التضييع إذا تعلقت الحرمة بالدِّين من الوجه الذي بينا، ولا فرق بين عبادة يشار إليها يقع فيها تضييع في حد منها يبرئ تلك بكفارة وبين جملة من العبادات يعتقدها الإنسان وضمن الوفاء بما يقع في حد منها تضييع أن مقدار حدها من الفرض لا يعلمه إلا من يعلم حد التضييع من الأصل، ولا يعلم حده غير الذي جعل الحدود؛ فيكون في ذلك بيان المبرئ، وبدونه لعله لا ينجبر؛ فألزم بالاحتياط ذلك، وعلى ذلك أمر الحدود للإجرام. والثالث: متفق القول على موقع الشرط أنه بحق اللزوم، وعلى ذلك شرط في التتابع في الصيام له هذا المعنى والأول جميعًا، وعلى هذا الاتفاق جعل قوم أمر هذا أصلا لغيره من الكفارات، ونحن لا نجعلها؛ لوجهين:

أَحَدُهما: لما لم يجعل ذكر التتابع في هذا أصلا لكل ما لم يذكر فيه التتابع. والثاني: لما بينا من محل كل من أصل ذلك أنه إنما يعلم من علم ما حد ذا من الأصل؟ ومعلوم الاختلاف في الكل؛ لذلك لم يجب هذا، لكن يطلق المطلق ويقيد المقيد بالذكر، وأيد ذلك أن اللَّه - تعالى - قد ذكر في كل قتل، ولو كان بالذي يحتمل درك الحد بالتدبير لكان ترك الذكر في هذا لإفهام الحكم في نوع المذكور أقرب منه في غير نوعه، فبين - واللَّه أعلم - لوجهين: أحدهما: للتنبيه على لزوم الرجوع في هذا إلى الذكر. والثاني: للتنبيه أنه لم يجعل لمكان القتيل، لكن لما وقع في الدِّين من التضييع. وجائز أن يكون شرط الإيمان بما سبق منه تضييع حد من الحدود الذي اقتضى إيجابه عليه الإيمان، فأمر بإعتاق من يسلم له الرقبة؛ لحفظ ما ألزمه حق الإيمان من الشغل عنه بحق الرق فيه لغيره. ويجوز أن يكون إنما أبقيت به نفسه وهي مؤمنة لله تعالى، فأمر أن يشكر لله - تعالى - بإبقاء نفس مؤمنة؛ إذ بالعتق إحياء. وعلى ما ذكر من اختلاف الحدود وما له حدود في حق الشرع لم يقس الطعام على الصيام عند العجز عنه، على ما قضى به في حق الظهار والفطر، مع ما في الظهار حق لها لم يكن له التأخير إلى القدرة عليه أو ملك الرقبة، وليس هاهنا، وأمر الفطر هو في بعض صيام قد جعل لأصله من الطعام عوضًا عرف حده بقوله - تعالى -: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ. . .) الآية، فعلى ذلك أمر عوض التعدي فيه، وليس في أمر القتل ذلك. ودلت الآية بذكر الإيمان على أن له حدا يعرف موقعه، ثم الذي يبين فيها آية التصديق خاصة ما جمع بين المؤمن الذي يحتمل أن يكون منه سائر الشرائع، والذي لا يحتمل سوى نفس الإيمان: وهو المؤمن الذي من قوم عدو لنا؛ إذ قد يؤمن في دار الحرب بما في العقل دليله، ولا يعلم به غيره من العبادات التي لها حق الشرائع. وقد يجوز أن يكون في الإبلاع في وصف ما يكفر به إبلاع في التحذير عن الغفلة التي لديها خوف وقوع ما ذكر، وعلى ما ذكرت من تضييع حق ألزمه دينه لزم التعوذ كل

واحد منهم الكفارة على التمام؛ لما انفرد كل بما لزمه من الحق بدينه في التضييع؛ وعلى هذا قولهم في المحرمين يقتلون الصيد: إن كل واحد منهم جنى على إحرامه الذي لم يتصل إحرامه بإحرام غيره، على أن النفس إذ هي لا تحتمل التجزئة؛ لم يتجزأ المجعول لها، وعلى ذلك أمر القصاص، والدية، لم تجب في الحقيقة للنفس؛ إذ هي قد تجب لما دونها فيما يحتمل التجزئة أكثر مما يجب للنفس، وإذا بلغت النفس فسقط بعض ما له منها حكم الوجوب، ولما هي ترجع إلى غير الجاني. ومحال أخذ الكل ممن يرجع إليه بالكل بما يكون في طلب التخفيف الإجحاف وإهلاك الخلق، ولما كان حق النفس من حيث القتل في المال يختلف، ومن حيث القصاص والكفارة لا تثبت أن المرجع في هذين إلى أحوال في نفس القاتلين من دين يضيع حقه أو امتناع عن احتمال التجزئة أو إحياء أريد بالموضوع، ولو لم يجعل في الجماعة لذهب فائدة الإحياء؛ إذ الوجود بالآحاد غير فيبطل الإحياء في أبلغ أحوال الحاجة إليه، ثم إذا رجع أمر الكفارة إلى من تولى قتله وقد سبق عليه أمر الدية، كقوله - تعالى -: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) بمعنى: عليه تحرير ما ذكر، وقد أوجب عليه، وعلى ذلك جميع ما في القرآن من الأمر على إثر الأسباب. ثم نسق على ذلك بقوله: (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) فحقها أن تكون عليه والخبر الوارد عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أمر العقل الذي توارثته الأمة إلى يومنا هذا، بل الأمم، حتى كان قد ظهر عن أمر الرسل السالفة بحق التواتر في المؤمنين بهم والمنكرين لهم؛ فكان ذلك بحق التعاون؛ ولذلك قال أصحابنا - رحمهم اللَّه - في الذين لا عاقلة لهم: تجب الدية في أموالهم. وعلى ذلك فيما يظهر بأقاويلهم دون البينات وهو الحق؛ إذ فيما يجب فيه القصاص أنفسهم تتلف، فعلى ذلك الدية. والأصل في ذلك: أن معنى القصاص معقول أيد الذي ذكره اللَّه - تعالى - في القرآن من قوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)، فلا معنى لصرف ذلك إلى غير المتولي؛ لما يذهب الحياة. وجائز شرع ذلك بحق العقل؛ لينزجر الناس به، ولتسلم لهم الحياة التي هي ألذ الأشياء؛ إذ بها تعرف اللذات كلها، وذلك المعنى ليس نفس القتيل أحق من غيره من أن

يجعل القصاص لحقه، بل الأولى أن يجعل لا محالة للردع والزجر؛ مع ما كان معلومًا أن نفس القتيل لا تنتفع بالقصاص، بل إنما نفعها في أن يبقى؛ لخوف القصاص ممن يروم قتله؛ إشفاقًا على نفسه، وليس ذلك المعنى في أمر الدية بشيء، وإنما تُوجَبُ بعد الوفاة، ولم تجب من وجه يتولد منه الغضاضة والعداوة التي لديها سفك الدماء على حق تخصيص الدماء لما هي تجب بالخطأ من وجه يعلم عذر من منه ذلك، لكن اللَّه - تعالى - بفضله بما جعل للمتصلين معونة في حياته، وشرفا في كثرة الأقوام، ونباهة في الدنيا، مع ما يقع بها التناصر والتدافع الذي بمثله الدوام والقوام؛ فيعظم في مثله مصيبة العقل وبخاصة من وجه لعله تسبق إليهم الأفعال في التلبيس على أهله بالخطأ، وأن ذلك ليس بحق؛ فيخاف وقوع الشر بينهم والعداوة التي تولد الفساد؛ فجعل اللَّه - بمنهِ وفضله - لهم ما تطيب بمثله أنفسهم، ويسكن المعنى الذي يخاف من حدوث الشر بينهم، مع ما له جعل ما للخلق له ابتداء المحنة بما ذكر بلا سبب يسبق، فهو بالسبب أحق، وإذا جعل بهذا من الوجه الذي له حق الابتداء، فله وضع ذلك في أموالهم، مَنَّ بإبقاء نفس القاتل لهم ما ذكرت من المنافع على ما جعل في ذلك، وإن لم يرجع منفعة الواجب في ذلك إلى القتيل بما لا يعلم أنه يقتل؛ ليجعل ذلك لوجه يتزود به لمعاده، وإن حرم ذلك في دنياه؛ فيصير المجعول في ذلك فيمن لهم وعليهم بالذي ذكرت من دفع الفساد، والقيام بحق الإحسان. ثم الأصل في إتلاف الأموال: أن منافعها عند القيام ومضارها عند الإتلاف ترجع إلى أربابها خاصة، والأنفس يرجع ما لها في ذلك إلى العشائر والمتصلين؛ فعلى ذلك المجعول فيها مع ما كانت الأموال تملك؛ فيصير من ضمنه كأنه اشتراه، وكل مشترى بالتسليم إليه الخروج منه؛ فلا يحتمل أن يضمن من لم يكن منه الجناية لما يسقط لو ضمن بعقد التسليم، ولا على ذلك أمر جنابات الأنفس؛ فجائز في حق الشرع الموضوع

على غير من يتولى الخروج؛ إذ على غير التسليم إلى أحد يستوجب بدله. ثم وقوع الخطأ يكون من وجهين: أحدهما: من جهة دينه: نحو أن ظنه القاتل كافرًا بما كان عرفه كذلك، أو بما عليه سيماء الكفرة. ومن جهة نفسه في أن يرمي غيره فيصيبه. والحكم في وجهي الخطأ واحد. والخطأ الثالث، وهو الذي لم يقتضه حق هذه الآية، وهو عند الضرب قد يقع ذلك فيما أخطأ الدِّين وفيما تعمد أو النفس جميعًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) لم يبين من أهله؛ وقال في موضع آخر: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا)، ولم يبين من وليه؟ فكأن الأهل والولي هم ورثته، على ما جاء في الخبر: أنه ورَّث امرأة أَشْيَم من دية زوجها، وإن كانت الدية لأهل العصبة منهم من قتل، ولأن هذه الدية إنما وجبت لمكان ما لهم من المنافع من القتيل في حال حياته، دون غيرهم فإذا قتل فذهب منافعه

عنهم، أوجب ذلك لهم؛ لأنهم هم المنتفعون في حياته دون غيرهم. وقيل: إن القتل يوجب الضغائن فيما بين أولياء القتيل وأولياء القاتل؛ فيحمل ذلك على الفساد والإهلاك، فإذًا وجبت هذه الدية لتطيب أنفسهم بذلك، ولا يحمل ذلك على الضغائن والحقد. وقيل: أوجبت هذه الدية؛ لئلا يدعي الخطأ؛ فيسقط القصاص عن نفسه بدعوى الخطأ؛ فأوجب الدية لما إذا ادعى الخطأ - أخذ بالدية، وقد ذكرنا أن الخطأ على وجهين: وهو أن يقصد شيئًا، فيصيب إنسانًا، فهو خطأ؛ لأنه أصاب غير الذي قصده بالضربة. والثاني: خطأ الدين، وهو إن عرفه كافرًا، فقتله على ذلك، قاصدا له، فهو خطأ. وللخطأ وجه آخر: وهو أن يضرب الرجلُ الرجل قاصدًا لذلك؛ بغير حديدة، فإن كان الذي ضربه به حجرًا صغيرًا، أو عصًا صغيرة، فحكمه حكم الخطأ، وإن كان حجرًا كبيرًا مثله يَقْتُل، أو عصًا عظيمة - فإن أصحابنا - رحمهم اللَّه - اختلفوا في ذلك. قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا قود في ذلك، وعلى عاقلته الدية مغلظة. وقال مُحَمَّد - رحمه اللَّه -: يقتل به إذا كان مِنْ مِثْلِهِ لَا يُنْجَى. وقد رُوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يبين أن العمد ما كان بحديد؛ فهو حجة لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - في الحجر العظيم؛ ودليل على أن القصد بالضرب قد يكون خطأ. وروي عن النعمان بن بشير، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " كُلُّ شَيءٍ خَطَأٌ إِلا الحَديدَ والسيفَ " وسنذكر هذه المسألة في باب شبه العمد، إن شاء اللَّه تعالى. ثم أجمع أهل العلم على أن الرقبة على القاتل، لا على العاقلة، وأما الدية فلم يذكر

على من تجب؟ فقال أكثر السلف: الدية تجب على العاقلة، وعلى ذلك تواترت الآثار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقال بعض الناس: الدية -أيضًا- على القاتل كالرقبة؛ فيقال له: إن الصيام بدل عن الدية، أو عن العتق؛ فإن قال: لا، بل بدل عن العتق؛ قيل له: فذلك يدل على أن الذي يجب على القاتل هو العتق؛ الذي إن لم يجده صام مكانه، ويدل على أن الدية ليست عليه. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه جعل الدية على العاقلة: عن مقسم عن ابن عَبَّاسٍ قال: كتب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كتابًا بين المهاجرين والأنصار: أن يعقلوا معاقلهم، ويفدوا غائبهم بالمعروف، والإصلاح بين المسلمين. وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قضى في الجنين: عبدًا أو أمة على العاقلة. والتي ضربت ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها، فقضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بديتها على عصبة القاتلة، وفيما في بطنها غرة، فقال أعرابي: يا نبي اللَّه، أتغرمني من لا طعم، ولا شرب، ولا صاح ولا استهل، فمثل ذلك يطلّ. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرابِ؟! اغْرَمْ؛ فَإِنَّ الديَةَ عَلَى العَاقِلَةِ، والميراثَ لِأهْلِ الفَرائِضِ " وعمود الفسطاط مما يقتل مثله،

ولم يوجب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على التي ضربت ضرتها به فقتلتها القصاصَ؛ فذلك حجة لأبي حنيفة - رضي اللَّه عنه - في قوله: إن الخشبة العظيمة والصغيرة سواء، ولا قصاص فيه، والأخبار فيه كثيرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضا -: (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) ذكر - واللَّه أعلم - مسلمة إلى أهله؛ على الحث والترغيب في التسليم، والنهي عن التعاسر الذي عنه توهم حدوث الشر والفساد الذي يوقع مثله جعل العوض في قتل الخطأ، وعلى ذلك قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ)، وقد بينا من يسلم، ثم بين التسليم إلى أهل القتيل، ولم يبين مَنْ أهله؟ وقد أجمع السلفُ على أن أهله: ورثته، والأصل في ذلك: أن الدية جُعلت بدلا لنفس القتيل؛ فتصير متروكة عنه، وعلى ذلك لو كانت منه الوصايا أو عليه دين ينفذ منها، فصارت فيما قال اللَّه - تعالى -: (وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ. . .)، الآيات التي فيها بيان من يرث من بعد الوصية والدَّين، فذلك لهم؛ فيصير أهله بعد وفاته من ينتفع بتركته؛ إذ كذلك وصف الأهل في الحياة أنه يرجع إلى المتصلين به، وبمنافعه مع ما كان اسم الأهل في الزوجة غير ممتنع استعماله على كل حال؛ فيجب دخولها في ذلك، وغيرها من الورثة أحق، وقد روي في مثل ذلك مرفوعًا في توريث امرأة أَشْيَم الضَّبَّابي، وعمل به عمر بحضرة الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - والذين لهم سائر الولايات سوى ولاية الميراث مع ولاية الميراث أحق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) فالثنيا من الدية؛ لأنه لا حق لأحد في العتق حتى يحتمل التصدق، وهو كقوله - تعالى - في القصاص: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)، وذكر التصدق على ما عليه الترغيب في الديون من قوله: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ). ثم الأصل: أن التصدق من المعروف إلى ذوي الحاجات، والعقل إنما وضع أصله على الأغنياء، لكن يخرج على وجهين: أحدهما: أن الآية جاءت بذكر القاتل، ووجود الدية المسلمة كلها لكل قاتل عسير؛ فكان الترغيب على ذلك.

والثاني: أنه معروف في الديون، وكذلك حكم الصدقات؛ إذ لا يقع له الثواب في الدنيا ربما يقع لغير المعروفين؛ فيكون فعلهم - في الحقيقة - للَّهِ، لا لابتغاء الجزاء، فسمي صدقة؛ إذ هو اسم لما يقع من المعروف للَّهِ مع ما يتمكن في ذلك أن العقل ليس شرطه الغناء الذي له يجب الزكوات، وغير ذلك النوع من الغناء لا يخرج أهله عن احتمال الصدقة، بل جعل على أهل الديوان، وهم الذين أموالهم هي التي تخرج بحق العطايا يؤخذ لوقت الخروج، لا بعد الوقوع بالملك، وتمام شرط الغناء له، وفي هذا صرف الثنيا إلى الذي يلي من الكلام دون الذي تقدم، وحمله على بعض الكلام دون الكلام؛ ليعلم أن موقع الفهم عن الحكم على ما يقتضيه حق الحكمة دون الذي ينتهي إليه حق اللسان، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ). عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يكون الرجل مؤمنًا وأهله كفار في دار الحرب، فيقتله مسلم، فلا دية عليه، ولكن عليه عتق رقبة مؤمنة. وعنه -أيضًا- قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومَهُ فيقيم فيهم، ثم يمر بهم الجيش من المسلمين؛ فيصاب فيمن يصاب؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: كيف يكون للمؤمن المقيم في دار الحرب دية؛ وأولياؤه حرب لنا؟ فهل يجوز أن تعطى لهم الدية ونحن نغتنم أموالهم؟ فَإِنْ قِيلَ: تكون الدية لبيت المال، قيل له: إنما يجوز أن تكون لبيت المال من لو كان حيًّا - كان له في بيت المال حق، فأما المسلم المقيم في دار الحرب فلا حق له في بيت المال؛ لأن حكمنا لا يجري على داره، فكيف يستحق بيت المال ديته؟! وبعد: فإن المسلم في دارهم لم يصر بالإسلام محرزا نفسه وماله؛ لأن دار الحرب ليست بدار يحرز بها الدماء والأموال، فإذا كان كذلك فلم يكن للأنفس والأموال هنالك بدل؛ لذلك لم تجب الدية، ألا ترى أنَّ من أتلف مال ذلك المسلم لم يغرم

بَدَلَهُ؟ فعلى ذلك لم يغرم بدل نفسه؛ لأن حرمتهما سواء في دار الإسلام. ثم اختلف في تأويل قوله -أيضًا-: (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. . .) الآية، على الاتفاق أن لا دية فيه لكن الاختلاف في أنه: من يخرج على ثلاثة أوجه: أحدها: أن ذلك فيما يقتل على الإغارة، نحو أن يغار على أهل الحرب وفيهم مسلم: فإنه لا دية فيه؛ لما أبيحت الإغارة؛ فيجب على هذا أمران: أحدهما: أن يكون دفع الكفارة في ذلك أحق من دفع الدية، ومن حيث كانت الكفارة حق اللَّه بمعنى العبادة أو القربة، فإذا وقعت الإباحة من عنده فهي في السقوط أحق من الدية التي هي حق العباد، ولم يرد ممن هي له الإباحة، فلما أوجبت هي فالدية أحق أن ثجب، فإذ لم تجب بأن أنه ليس على ما قدروا. والثاني: أن يكون لو كان كذلك، فيجيء أن يكون ذلك فيمن كان من قوم عدو لنا أو لا سواء جُعل من حيث الإغارة، بل إذا صارت الإغارة مباحة، وإن كان فيهم مسلم ذهب حق النفس من الأمرين جميعًا: من الدية، والكفارة، وكذلك الجواب في قوم تترسوا بالمؤمنين أنه إذا أبيح الرمي فيستوي الأمران جميعًا من الدية والكفارة. وعلى ذلك اختلف فيمن له القصاص فيما دون النفس؛ فمات من الاقتصاص: أن لا كفارة في ذلك، وقد اختلف في الدية، وعلى ذلك من يقتله ممن لا يحتمل العلم، وما أوجب من العقل في الوجود بلا دية يوجب أن تكون الدية أحق في الإيجاب من الكفارة؛ فإذ لم تجب بأن أن ليس دفع الدية لما ظنوا. والقول الثاني: ذهبوا إلى القتيل الذي قومه أهل الحرب أنه لا تجب فيه الدية؛ يقوله: (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ). ويؤيد ذلك قوله: (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) وأهله عدو لا يحتمل التسليم إليهم بما لنا أخذ أموالهم؛ فيصير بذلك لنا، وأما الكفارة فهي بين العبد وبين اللَّه، فتلزمه؛ إذ هي في حق التوبة والكفارة؛ لما في ذلك من معنى الإثم؛ فيدخل على ذلك -أيضًا- أمران: أحدهما: إبطال الدية عن كل نفس لا وارث لها إذا قتل من أهل دار الإسلام في دار الإسلام؛ إذ لا أهل لها، وعدم الأهل أكثر من كون الأهل وهم أعداء له، بل يغرم الذي قتله وقومه لبيت المال، فعلى ذلك الأول لو كان يجب، ولكن لم يجب لا لهذا؛ إذ قد

رأينا الوجوب مع ما هو أعظم في العدة من هَؤُلَاءِ، وأيد ذلك الإيجاب في المؤمن الذي قومه من أهل الميثاق، أو الكافر الذي هو من أهل الميثاق، والعداوة لم تكن انقطعت بالميثاق. والوجه الثاني: أنه لا توارث يجري بين المسلم وأهل الكفر ليبطل حق الدية بوجوبها لهم، بل يتحول الميراث بالإسلام إلى أهل الإسلام، وإن لم يكن له خصوص أهل، وعلى ذلك جميع تركته؛ فبان أنه لا لهذا لم يوجب. والقول الثالث: أن الآية فيمن أسلم في دار الحرب ولم يخرج إلينا حتى يقتله مؤمن خطأ أن عليه تحرير رقبة، ولا دية فيه؛ فيكون المعنى (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ): هو من قوم في الظاهر عند القاتل لم يخرجوا بعد عن إظهار المعاداة، ثم يكون قتله الخطأ من وجهين: أحدهما: بما كان عرف كفره، ولم يظهر انتقاله عما كان عليه في الظاهر، لا بخروجه إلى دار الإسلام ولا سيما يظهر، وذلك ظاهر الوجود، وفي مثله نزل قوله - تعالى -: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا. . .) الآية، وقد أخبر أنهم كانوا كذلك يكتمون دينهم حتى مَن اللَّه عليهم بالإظهار؛ فيكون هذا بين أظهرهم على الأمر الأول، ولا على ذلك شأن المسلمين الذين دخلوا تلك الدار بالأمان، ولا يحتمل أن يلحقه هذا النوع من قتل الخطأ؛ فلزم في نفسه البدل على كل حال. والثاني: أن يرمي غيره فيصيبه على ما يكون خطأ أهل هذه الدار، ولم تجب له الدية؛ لما يقع فيه الخطأ من الوجه الذي على الآمر يفعل على ما بينت؛ فلا يحتمل أن يجعل لنفسه بدل. والأصل في ذلك: أن دإر الحرب هي دار الحرب، وفي الحرب سفك الدماء وإتلاف الأموال؛ فلا يقع بها إحراز الدماء والأموال؛ فلذلك لم يجب فيها البدل، وليس كدار

الإسلام؛ لأنها دار سلم وأمن حتى جعلت تحرز بها الدماء والأموال على ما كان أنفس الأعداء إذا دخلت بالميثاق إلينا استوجبت حق الأعراض ولزوم البدل، وإن كانوا من قوم عدو لنا؛ إذ هي الدار دار سلم وإحراز، ولا يشبه الذي أسلم، ولم يخرج، الذي خرج من هذه الدار مسلمًا لما كان يخرج بأمان، وفي الأمان لزوم حفظ الأمر الأول، وليس في الأول ذلك على أن أحد الأمرين في ابتداء الإيجاب، والآخر في البقاء على ما وجب، ومعلوم تفاضل هذين في الأصول، واختلاف الأمر بينهما، وقد كان في إبقاء بعض ما يستوجب بالدِّين لترك الهجرة؛ كقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، وقد نسخت تلك الهجرة، ولم تنسخ الهجرة إلى دار الإسلام، وإن نسخت إلى المدينة، فلم يكن لنا من ولايتهم من شيء، وإنما حق بذل الأنفس لمن يبقى عنه من الأولياء والأهل، وقد بقي ذلك؛ فلذلك لم يجب. وعلى هذا يخرج قولنا فيه: لو قتل عمدًا ألَّا يجب القصاص ولا الدية؛ لأن الله تعالى - قال: (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا)، وقد بقي فيما نحن فيه الولاية؛ لذلك بطل السلطان، وفي بطلانه بطلان البدل، ويجوز معه بقاء الحق الذي بينه وبين اللَّه؛ لثبات تلك الحرمة. ووجه آخر في تأويل: قوله: (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) أي: في قوم مظهري العداوة؛ دليل ذلك: أنه وإن خرج إلى هذه الدار فهم قومه، لكنه ليس يرجع إلى مؤمن آمن وهو يعد فيهم أن لا شيء، فإذا خرج إن عاد وإلا فله حكم نازله لم يقتضه حق الآية؛ فيجب فيه الذي يجب على حسب الدليل الموجب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك القتيل معاهد؛ من قوم بيننا وبينهم ميثاق؛ فاحتج

بعض أصحابنا - رحمهم اللَّه - بهذه الآية الكريمة، في إيجاب الدية في قتل المعاهد: دية مسلمة، وهي مثل دية المسلم؛ لأن اللَّه - تعالى - قال فيهما جميعًا: (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ). . .) فهما سواء. وقد روي ذلك عن ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه. والآية تحتمل غير هذا؛ لأن اللَّه - تعالى - قال في أول الآية: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً. . .) إلى قوله: (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ. . .) فيحتمل: أن يكون معناه: وإن كان المقتول المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فاكتفى بذكر الإيمان في القتيلين الأولين عن إعادة ذكر الإيمان في القتيل الثالث، ولم يكتف بذكر الإيمان في القتيل الأول عن إعادته في الثاني؛ لأنه لو قال اللَّه - تعالى -:، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)، ولم يزد على هذا - كنا نوجب الدية في قتل كل مؤمن؛ فذكر الإيمان في الثاني للتفريق بينهما. وأما ذكر الإيمان في الثاني أغنى عن ذكره في الثالث؛ لأنه لا تفرقة بينهما؛ لذلك كان ما ذكرنا. وعن الحسن: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) قال: مؤمن. واستدل من ذهب إلى أن المقتول مسلم بأن اللَّه - تعالى - قال: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) ولا تجب الكفارة على قاتل المعاهد إذا لم تكن ذمة، ألا ترى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فدى قتيلي عمرو بن أمية، وكان لهما عهد، ولم يبلغنا أنه أمر بالكفارة، فيقال: إن الكفارة واجبة على قاتل المعاهد المستأمن بظاهر الآية بقوله: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ). وقال أيضا: ومما يدل أن المقتول معاهد: أنه لو كان مسلمًا لم يجب لأهله من

المعاهدين الدية؛ لأنهم لا يرثونه، وإنما يرثونه إذا كان معاهدًا، وهذا يؤيد قول أصحابنا - رحمهم اللَّه - في وجوب كمال دية المسلم على قاتل المعاهد. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه ودى ذميًّا دية مسلم، وحديث عمرو بن أمية: أنه كان ببعض الطريق، فأقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان معهما عهد من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يعلم به عمرو، وقد علم أنهما من بني عامر، فلما ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه أصاب منهما ثأره من بني عامر، فلما قدم عمرو على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. فوداهما رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ومعلوم أن الدية كانت تامة وإن لم تسم؛ لأن العرب كانت لا ترضى أن تنتقص دياتها عن ديات المسلمين. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جعل دية العامِرِيَّينِ دية الْحُرَّيْنِ المسلمين. وعن ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - قال: دية أهل الكتاب مثل دية المسلم. فَإِنْ قِيلَ: روي عن عمر - رضي اللَّه عنه - قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. عن عثمان - رضي اللَّه عنه - مثله. قيل: يحتمل هذا ما روي عن عمر: أنه قوَّم الإبل فبلغت قيمتها أربعة آلاف درهم، ثم قومها ثانيًا فبلغت ستة آلاف، إلى أن بلغت عشرة آلاف، أو ما ذكر، فيحتمل أنه لما قوَّمها فبلغت أربعة آلاف كان ذلك في دية يهودي أو نصراني؛ فظن الراوي أنه إنما أوجب أربعة آلاف؛ لأنه دية النصراني أو اليهودي، فروي على ذلك مع ما رُوي عن عمر وعثمان

- رضوان اللَّه عليهم أجمعين - بعشرة آلاف. وروي أن أبا بكر وعمر وعثمان - رضي اللَّه عنهم - قالوا: دية المعاهد دية الحر المسلم، فهذا يوهن قولهما الأول. أو يحتمل أن يكون على الاصطلاح: فَإِنْ قِيلَ: روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " دِيَةُ الكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ " قيل: إن كلا الفريقين تركوا العمل بهذا الخبر؛ لأن من يقول بأربعة آلاف لم يأخذ به؛ لأن أربعة آلاف ثلث دية المسلم، على قوله؛ لأن دية المسلم الحر اثنا عشر ألفا عنده. ومن يقول بعشرة آلاف لم يأخذ به؛ فقد أجمعوا على ترك العمل به؛ وذلك لما لم يثبت عندهم - واللَّه أعلم - مع ما وصفنا في باب: قتل المسلم بالكافر ما يدل على أن ذلك واجب، فإذن وجب قتل المسلم بالذي وجب أن تكون ديتهما سواء، ألا ترى أن الكفارة على قاتلهما سواء. وقوله -أيضًا-: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ). . . اختلف في تأويل هذا الحرف من وجهين: أحدهما: أن الآية في المؤمنين خاصة، لكنهم على أقسام ثلاثة: أحدها: على النشوء على الإيمان. والآخر: على إحداث الإيمان في دار الحرب من أهل الحرب. والثالث: على إحداث الإيمان من أهل الميثاق في دار العهد. والآخر من وجهي الآية: بيان جميع ما يجب في نفسه حق إذا قتل خطأ من مؤمن قد أحرز دمه بالإيمان، أو بالإيمان والدار، أو بالعهد، وفي ذلك إنما قطع الحق عن كثير ممن ينهى عن قتلهم إذا لم تتضمنهم هذه الآية، من نحو نساء أهل الحرب والذراري، فلم

تجب الدية بما لم تحرز دماؤهم بدار الحرب، ولم تجب الكفارة بارتفاع الميثاق، وإن كنا لا نقتلهم. فإن كان تأويل الآية هذا - فكان في الآية -أيضًا- على تخصيص القتيل المؤمن من أهل الحرب أن لا دية فيه، وعنها كان فَهْمُ الإجماع أن اللَّه لو أراد الجمع بين القتيل لكان يخرج الأمر على الإبلاغ على ما في الكفارة وما فيها من صفة الإيمان، أو على الإيجاز والتدريج فيها بالمعنى، فالذكر في قتيل واحد كان، فلما ذكر في قتيلين ولم يذكر في الواحد - دل أنه على التفريق، وأيد ذلك أمر الصيام أنه ذكر مرة، والحكم به يأتي على الكل، أوعلى ذلك، حق الدية مع ما بين الذي هو وصفه. وإن كان تأويل الآية الأولى فأوجب في المعاهد بالمروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه قضى في عامريَّينِ دخلا بأمانٍ فَقُتِلَا - بدية حُرَّينِ مسلمَين، وفي ذلك بيان أن الدية لم تكن وجبت بالنهي عن القتل؛ إذ هو في الذراري والنساء قائم، ولم تجب، لكن بالعهد، فإذا كان على الاتفاق في الدِّين والنهي فرق بينهما بالعهد؛ فعلى ذلك أمر المسلمين على الاتفاق في الدِّين والنهي يفرق بينهما بمكان العهد والإحراز. وأيد التأويل الثاني شرط الإيمان في قوله - تعالى -: (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فلولا أن الذكر يقتضي القتيل من العدو، لم يكن ليحتاج إلى ذكر المؤمن، وقد سبق بيان المقصود في ابتداء الآية في النهي والثنيا جميعًا، فإذا لم يذكر في أهل الميثاق فصار متروكًا على ما يقتضيه، وأيد ذلك الذي هو وصفه أن ذكر النوعين يدل على التفريق إذ ليس على حق الاقتضاء بالمعنى، ولا على حق الإبلاغ في البيان، وجميع الكل يخرج على ذانك النوعين في حق الحكمة؛ لذلك صار إلى حق التفريق. ثم الظاهر قد يضمن الخطاب بأمرين: أحدهما: في حق هتك الحرمة. والآخر: في حق العوض من غير تفريق في وزن الملفوظ، وجاء البيان للواجد،

وهي دية المؤمن؛ فيصير كأن البيان في الآية، ومعلوم أنه لو كان - لكان يأخذ الكل، إلا أن يجيء التفريق على ما ذكر من أمر الصيام وحق التوبة، وأن ذكر الآحاد في حق بيان التضمين كذلك في الكل الدية على حد واحد مع ما استوى أمر الكفارة فيما له حق البيان التام أو بيان الكفاية، فعلى ذلك الأول، وأيد ذلك وجهان: أحدهما: أن الدية بمبلغها كانت في الجاهلية فأقرت على ذلك في الإسلام، وكذلك حق القسامة، وكانت كذلك في أهل الكفر عند الأمان، فعلى ذلك اليوم، أو يلزم الذي عرف حتى يظهر؛ ولذلك - واللَّه أعلم - لم يجز في الأمر البيان؛ لأنه كان على معروف، وأيد ذلك جميع الأمور المنقسمة، من نحو الحدود بين العبيد والأحرار في التفريق، والديات بين الذكور والإناث؛ أنه يجب ذلك الانقسام في أهل الكفر، فعلى ذلك حد الجملة والنصف. والثاني: خبر ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - في العامريَّين، وعلى ذلك جاء عن عمر، وعلى - رضي اللَّه عنهما - وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهو في الوقت الذي بلغت قيمة الإبل أربعة آلاف، وسنذكر ذلك. ثم الأصل: أن البدل حق المتلف، والإسلام والكفر أمران يرجعان إلى الدِّين والمذاهب، والناس لا يملكون الزيادة والنقصان من الأبدال لأنفسهم؛ لأنه لا بهم جعلت الدية، لكن بالشرع؛ فبه يُعرف التفريق والجمع، فما لم يثبت التفريق والمعنى في كل نفس من المنافع وإليها ما في غيرها لزم الجمع حتى يجيء علم التفريق. والأصل: أن البدل أمر يرجع إلى منافع تقع للمجني عليه مكان ما ذهب منه، أو لغيره فيما يدخل عليهم من النقصان بفوت نفسه، ثم كل أمر مجعول للمنافع فالنظر فيها إلى قدر المنافع عند أهلها، وأهل الذمة أحق بالزيادة؛ لتعجيل المنفعة لهم في الدنيا؛ إذ لا حظ لهم في الآخرة. وقد زعم الشافعي أن العبد لو بيع على أنه كافر فوجده مسلمًا أنه عيب يرد منه؛ فيصير الإسلام عيبًا في قيمته؛ فلا يجيء أن يكون الحر منهم أقل قيمة من الحر منا، ومحل الدِّين ما ذكرت، فهذا - وإن كان القول به منه شنيعًا - لا يجوز أن يحتج به، فهو في موضع التنبيه، وقوله يلزمه، كقوله - سبحانه وتعالى -: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، فحاجهم بالذي عند أئمتهم، فعلى ذلك يحاجُّ بالذي عنده، ولا قوة

إلا باللَّه. وقد حاج بنفي الإلهية بما لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر، وإن كان وجود ما انتفي لا يوجب القول به. ثم القتل على أقسام ثلاثة: عمد، وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يتعمد نفس القتيل. والثاني: أن يتعمد دينه فيقتل لأجل دينه. وخطأ، وهو -أيضًا- على قسمين: أحدهما: أن يقع بأحد الجناية عن غير قصده. والثاني: أن يقع له على قصده، لكن على ظن لزومه الدِّين الذي استوجب القتل به. وبين الخطأ والعمد قتل آخر سمي: خطأ العمد، أو شبه العمد: مما لم يبين حكمه في منصوص القرآن، ولا هو مما يحتمل معرفة حقيقته بالعيان؛ لأنه ليس في العين جناية تقع من حيث الوقوع إلا عن عمد أو خطأ؛ فصار ذلك معروفا حكمه بالشرع، وللَّه أن يشرع في حقيقة الخطأ والعمد شرعا واحدا؛ على ما عليه أمر شرعه في جميع الأمور، وقد جاء الخبر فيه، واتفاق الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - على إيجاب الدية في ذلك، وليس في ذلك ذكر الكفارة، فلما ثبت إلحاقه بالذي هو خطأ في الحكم قيس عليه أمر الكفارة؛ مع ما كان لذلك أوجه تقدر:

أحدها: أن في العمد ما هو لنفسه كفارة وهو القصاص، وقد دفع ذلك في شبه العمد، والدية تلزم العاقلة، فلا بد من وضع كفارة في ذلك؛ كالذي ذكر في الخطأ فيه. والثاني: أنه ذكر في الكفارة توبة من اللَّه، والتوبة من اللَّه تخرج على أوجه ثلاثة: على التوفيق لفعله. أو على التجاوز لما كان من الزلة. أو على جعل ذلك الفعل منه توبة عن زلته. وأي هذه الوجوه الثلاثة كان ففي ذلك معنى يحق وصف التوبة؛ فيكون في ذلك مما قد يتوجه إلى عمد يلحق وصف الزلة، أو أمر تجوز الكلفة به؛ فيقع العدول عنه؛ إذ قال: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)، فإن جعل في ذا توبة فهو في وجه فيه جناح؛ فيدخل في ذلك قتل فيه جناح، ويكون له حكم الخطأ يبينه الخبر. والثالث: اتفاق أهل الفتوى على القول به، وأيضًا أن الذي يقع الخطأ فيه لدينه فقد تعمد قتله، وأوجبت عليه الكفارة، فقد وجدت كفارة مع تعمد فيما لا بدل لنفسه، فإذا كان شبه العمد يجب فيه البدل فهو لوجوب الكفارة أحق. وأما العمد الذي فيه القصاص ففيه أوجه ثلاثة: أحدها: أن اللَّه - تعالى - بين ما فيه من الحق على نحو ما بين في الخطأ، وإنما يجب طلب العلم بالحكم فيما لم يُبَيَّن منصوصًا من النوازل التي يعلم أن للَّهِ - تعالى - فيها حكمًا؛ إذ لم ينص عليه، فقد جعله مبينا بالتضمن لا بالتصريح، فإذا بين سقطت الحاجة وبطل الاجتهاد والتعرف به، وعلى مثل ذلك يجاب لقتل الصيد عمدا أن الحكم فيه لم يبين بالتصريح، فهو متروك للتضمين. والثاني: أن الكفارة في حق الزجر عنه، والتكفير لفعله، وفي السيف ذلك والزيادة فيه؛ فلذلك لم يضم إليه غيره. ثم معلوم أن الكفارة إنما جُعلت بما معه الإبقاء حتى يصوم شهرين، وفيما فيه القصاص لا مهلة له يستوجب به بقاء النفس؛ لتقوم بالكفارة؛ فلذلك لم تجب.

والثالث: الاتفاق أن الذي يقتص لا يلزمه الكفارة، فمن وجب له حكم العمد لم تجب عليه الكفارة، ولو أوجبنا الكفارة على القاتل جعلناها حقا لله من حيث النفس لا من حيث معنى في الجناية له تجب، وذلك المعنى في نفس القاتل والقتيل سواء؛ فيكون ولي القتيل آخذًا الذي له وقع القصاص والذي ليس له القصاص، لكن له الكفارة فتلزمه، فإذ لم تجب، بأن أنها تجب بحال في النفس والجناية، فلم تجب فيما عدمت تلك الحالة. والأصل: أنها لم تجعل للحظر ولا لنفس الحرمة؛ إذ قد يوجد قتل نفس محظورة ولم تجعل فيها الكفارة، نحو الذراري والنساء من أهل الشرك، بل لو كان كذلك كان الخطأ من أبعد ما يجعل له الكفارة؛ فثبت أنها لم تجعل لذلك، ومن يقس - يقس بذلك؛ فبطل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يجزئ إلا من صام وصلى. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: الرقبة المؤمنة: كل مولود ولد في الإسلام، صغيرًا كان أو كبيرًا. والأشبه أن يجزئ الصغير من المسلمين، ألا ترى أنهم أجمعوا أن على قاتل الصغير من المؤمنين مثل ما كان على قاتل الكبير منهم؟! فيجب أن يجزئ الصغير من المؤمنين على ما يجزئ عنه الكبير منهم؛ إذ كان حكم الصغير من المؤمنين حكم الكبير منهم. ومما يدل على ذلك -أيضًا- أن حكم الصغير من المؤمنين، وميراثه، وتزويجه، وطلاق الرجل الزوجة الصغيرة - حكم الكبير، فهم مؤمنون في الحكم وإن كانوا صغارًا، ولكن لسنا نذكر عن أصحابنا رواية منصوصة في جوازه، والقياس ما ذكرنا، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) وصف اللَّه - تعالى - الشهرين بالتتابع، ووصف الرقبة بالإيمان، فهو - واللَّه أعلم - يحتمل أن يكون على التغليظ والتشديد؛ لما يجوز أن يجاوز جرم حكم الخطأ جرم غيره من الأشياء، نحو أن يقتله بعصًا، أو بسوط، ونحوه، قاصدًا له، ولا شك أن جرمه أعظم من جرم غيره من الأفعال التي توجب الكفارة من الأيمان والظهار وغيره؛ فغلظ فيه ما لم

يغلظ في غيره بالإيمان في الرقبة والتتابع في الصيام، وهذا كما يقولون: إن ضرب التعزير أشد من ضرب حد الزنا وحد شرب الخمر وغيره؛ لأن جرم فعل التعزير ربما يبلغ جرم الزنا أو يجاوز، وهو أن يخنق آخر مرة أو مرتين، لا شك أن حرمته أعظم من حرمة من قذف آخر، أو شرب قطرة من خمر؛ فغلظ فيه وشدد؛ لما ذكرنا، فعلى ذلك شرط الإيمان في العتاق في كفارة القتل، والتتابع في الصوم؛ تغليظًا وتشديدًا للمعنى الذي ذكرنا، وهو أن يقتله قتل شبه العمد؛ أي: عمد القصد، خطأ الحكم، ألا ترى أنه غلظ في الدية في شبه العمد ولم يغلظ في غيره. وروي أعن ابن عمر - رضي اللَّه عنه -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " قتيلُ السَّوطِ والعَصَا فيه الديةُ مُغلَّظة ". وعن النعمان بن بشير - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُّ شَيء خَطَأٌ إِلا السيفَ وَالْحَدِيدَ، وَلِكُل خَطَأ أَرْشٌ ". ذكر اللَّه - تعالى - قتل الخطأ والعمد، فبين حكمهما، ولم يذكر غيرهما في كتابه، لكنا عرفنا قبلُ شبه العمد والحكم فيه بما روينا من خبر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وحديث النعمان عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " أَلَا إِنَّ قَتيلَ خَطَإ الْعَمدِ قَتِيلُ السوْطِ والعَصَا، ففيه الدية مُغَلَّظة: ثَلاثُونَ جَذَعةً، وثَلاثُونَ حِقَّةً، وَأَرْبَعُونَ ما بَينَ ثَنيَّةٍ إِلَىْ بَازِل عَامِهَا، كلُّها خَلِفَة ". واختلف الصحابة: - رضوان اللَّه عليهم أجمعين -: روي عن عمر - رضي اللَّه عنه - ما ذكرنا من الخبر المرفوع أثلاثًا. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قريبًا منه أثلاثا. وعن أبي موسى الأشعري والمغيرة ما روينا من الخبر المرفوع أثلاثًا. وعن ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - في شبه العمد أرباعًا: خمسة وعشرين حقة، وخمسة وعشرين جذعة، وخمسة وعشرين بنات لبون، وخمسة وعشرين بنات مخاض.

ثم لا يحتمل أن يكون الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - قالوا ذلك رأيًا من أنفسهم؛ لأن هذا باب ما لا يوقف إلا بالسمع والخبر من اللَّه - تعالى - فيجعل كأنهم جميعًا سمعوا ذلك من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في وقت واحد؛ فدل أنه في وقتين مختلفين، فهو على التناسخ، فلم يظهر الأول منهما من الآخر؛ فأوجب الأخف باليقين، ولم يوجب الأغلظ بالشك، وهذا قول أبي حنيفة - رحمه اللَّه - حيث قال في شبه العمد بالأرباع، وأما مُحَمَّد - رحمه اللَّه - فإنه ذهب إلى ظاهر الخبر المرفوع بالأثلاث. ثم اختلف أصحابنا - رحمهم اللَّه - فيمن رمى آخر في بحر فغرق فمات: قال أبو حنيفة - رحمه اللَّه -: لا يُقتل به. وقال فيمن أحرق آخر بالنار: قُتل به، وكان يفرق بينهما بوجهين:

أحدهما: أن يكون الرامي في الماء حسب أنه يحسن أن يسبح، وذلك موجود في كثير من الناس؛ فصار ذلك شبهة يزول بها القصاص عن الرامي، وأما الذي رمى صاحبه في النار ليس له أن يدعى مثل تلك الشبهة؛ لذلك لم يزل عنه القصاص. والثاني: أن النار جارحة؛ ألا ترى أنها تستعمل في موضع السلاح، ويحارب بها؟! وهي من أشد السلاح، ولا كذلك الماء؛ لذلك افترقا. ثم القول في مبلغ الدية من الإبل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه ودى رجلا بمائة من الإبل ورُوي أن الكتاب الذي كتبه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم في العقول في النفس مائة من الإبل. وما روينا من خبر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خطب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " ألا إنَّ قَتيلَ خَطَإ العَمْد فيه الديةُ مُغَلَّطظةَ مِائة مِنَ الإبِلِ ". ثم القول في أسنان الإبل في الدية ما رُويَ عن عبد اللَّه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " دِيةُ الخَطَإ أخْماسٌ، وكذلك رُوي عن عبد اللَّه بالأخماس، وعن عمر - رضي اللَّه عنه - كذلك.

وعلي بن أبي طالب في الخطأ أرباع. وكان أبو حنيفة يذهب إلى ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإلى ما روي عن عمر وعبد اللَّه - رضي اللَّه عنهما - ويجعل دية الخطأ أخماسًا من الإبل، وفي شبه العمد أرباعا؛ لما ذكرنا، ومُحَمَّد - رحمه اللَّه - يذهب إلى ما رُويَ عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالأرباع في الخطأ، وفي شبه العمد بالأثلاث؛ بالخبر المرفوع، والوجه فيه ما ذكرنا. ثم المسألة في مبلغ الدية من الورق، رُوي في بعض الأخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قضى بالدية اثني عشر ألفًا. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جعل الدية اثني عشر ألفًا. وروي عن عبيدة السلماني قال: وضع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الديات: فوضع على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورِق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشياة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. ثم رُويَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قَوِّموا الإبل؛ فقوَّموها أوقية، ثم غلت

الإبل؛ فقال: قوِّموا؛ فقُوِّمت أوقية ونصفًا، ثم غلت؛ حتى قُوِّمت عشرة آلاف درهم. فلو علم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قضى بالدراهم، لم يحتج إلى أن يقوِّموا الإبل، ومحال أن يخفى على عمر وغيره من الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - سنةُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حتى يضطروا إلى تقويم الإبل؛ فدل أن الخبر في اثني عشر غير ثابت. ثم الاختلاف أن الدية من الدنانير ألف دينار؛ فوجب أن تكون الدية من الورِق عشرة آلاف؛ لأنه رُوي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه جعل قيمة كل دينار عشرة. ورُوي أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن تؤخذ الجزية من أهل الورق أربعين درهمًا، ومن أهل الذهب أربعة دنانير. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم. دل ما ذكرنا من قول الصحابة أن قيمة كل دينار عشرة دراهم؛ فلما أجمعوا في أن الدية من الذهب ألف دينار - وجب أن تكون من الورق عشرة آلاف؛ ألا ترى أنه يؤخذ في الزكاة من مائتي درهم خمسة دراهم، وفي عشرين دينارًا: نصف دينار؟! دل على أن الدية عشرة آلاف. ثم يحتمل الخبر -إن ثبت- أن الدية اثنا عشر ألفًا، وزن ستة؛ لأن الدية كان أصلها الإبل، فقومت الإبل دراهم؛ فبلغت اثني عشر ألفًا من وزن ستة، ثم رُدَّت الأوزان إلى وزن سبعة؛ فكانت اثني عشر ألفا، وكسر وزن سبعة، ألقوا الكسر؛ لأن القيم لا تُعرف منصوصًا؛ وإنما تُعرف بالاجتهاد، وقد تزداد وتنقص، ويكون بين القيمتين الشيء اليسير؛

فتركوا ذلك الكسر؛ لما وصفنا، ولأنه لم يكن في الدية في أصلها كسر، وهذا وجه محتمل؛ فأخذ أصحابنا - رحمهم اللَّه - بآخر التقديرين؛ لأن الأوزان استقرت على وزن سبعة، وبطل وزن ستة، ولا شك أن وزن سبعة هي الآخرة؛ لاستقرارها في الناس على ذلك، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) قد ذكرنا معنى التتابع في ذلك. وفي قوله - تعالى -: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) عند الجميع من جميع من ذكر من القائلين في هذه الآية، ثم قوله - تعالى -: (تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ). قال بعض أهل العلم: ندامة من اللَّه - تعالى - وقد يندم الرجل على أفعل يفعله، خطأ. لكن عندنا على حقيقة التوبة؛ لأن الفعل فعلُ مأثم وإن كان خطأ، ولأنه يجوز أن يكلف الإنسان وينهى في حال الخطأ؛ لما لا يتأمل في ذلك ولا ينظر؛ لئلا يترك التأمل في ذلك والنظر؛ فتكون التوبة على الحقيقة؛ لما ذكرنا. وفي قوله أيضًا: (تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ) قد بينا الوجه في ذلك. وقال بعض أهل التأويل: التوبة - في الحقيقة: هي الندامة على الأمر، وكل من يتولد من فعله قتل أحد؛ فهو يندم على ذلك الفعل الذي حدث منه الذي ذكر، ويحزن عليه؛ فيكون - على هذا التقدير - معنى التوبة من اللَّه: إلقاء ذلك الحزن في قلبه، أو رجوعه بالتأسف إلى اللَّه بالإعتاق والصيام، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) لمن قتله خطأ ولم يقصد، ومن قصده، أو (عَلِيما) بما حكم عليكم من الدية والكفارة، أو (عَلِيما) بآجالكم، (حَكيما) في قضائه وحكمه؛ حيث وضع كل شيء موضعه، واللَّه أعلم به. وقوله - تعالى -: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) يخرج ذلك عند ذكر هذه الآية، وهو كذلك بذاته على أوجه: أحدها: أنه عليم بالذي عليه خرج حقيقة فعل ذلك القاتل من القصد وغير القصد، وهو حكيم بما حكم علينا الذي ذكر بظاهر أحوال القتيل، وإن لم يُعْرف حقيقة الأمر في ذلك؛

(93)

إذ الذي له حكم العمد والخطأ لا يظهر لغيره. والثاني: وكان اللَّه لم يزل عليمًا بالذي يكون من عباده، وبالذي به المصالح بينهم؛ فحكم بما فيه المصالح، فيما علم من وقوع الجنايات. والثالث: يبين أنه لا عن جهل يقع الخلاف لأمره ولما لم يرض به من خلقه، ولا عن خطأ في التدبير، أي: عليم بالذي يكون من الخلق، لا عن جهل بهم خرج أمرهم، وحكيم في التدبير، أي: لا يلحقه الخطأ في تدبير الخلائق، على ما يكون منهم من الفساد والشر؛ إذ بمثله من غيره يعلم الخطأ والجهل؛ لما في ذلك ضرر يقع به، واللَّه يتعالى عن هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ... (93) قيل في بعض القصة: إن رجلا قتل آخر عمدا؛ فلما علم أنه يُقتل به ارتد عن الإسلام، ولحق بدار الحرب؛ فنزل الوعيد. وهذا - واللَّه أعلم - كقوله تعالى: (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) كانوا يمنعون الزكاة لما كان عندهم أن الزكاة تنقص المال؛ فجحدوا بها رأسًا، وكقوله: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46). فتركوا الزكاة والصلاة؛ لما يلحقهم بذلك مؤن وأشغال، يشغلهم ذلك كله عما تهوى أنفسهم؛ فانكروا رأسًا؛ لأنهم إن صلوا وأدوا الزكاة لا يكون ذلك صلاة وزكاة؛ إذ كانوا يكذبون بيوم الدِّين؛ فعلى ذلك قاتل المسلم عمدًا إذا علم أنه مقتول به ترك دينه؛ فصار من أهل النار خالدًا مخلدًا فيها. ويحتمل قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) لدينه يقتله عمدا، غير غالط فيه ولا جاهل، عالما بذلك، وإلى قتله لدينه قاصدًا، ومن كان هذه صفته فقد كفر، ووجب له هذا الوعيد الذي ذكره في كتابه الكريم، إلا أن يجدد إيمانا؛ فإن اللَّه - تعالى - يقبل إيمانه وتوبته. والرابع: أن يكون الوعيد الذي ذكره في كتابه ذلك جزاء، ولله الإفضال عليه بالعفو والمجاوزة؛ إذ ذلك جزاؤه إن لم يكن له حسنات يقابل به، فإما إذا كانت له

حسنات يقابل به، يبدل اللَّه بفضله - سيئاته حسنات، كقوله - تعالى -: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ). ثم الدليل أن الآية فيمن قتل مسلمًا لدينه، قاصدا لنفسه دون دينه - قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)، وإنما يكتب عليهم إذا كان القتل قتل عمد، وأبقى لهم بعد القتل اسم الإيمان، ثم قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)؛ فأبقى لهم اسم الإخوة، ثم قال: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) أطمعه في رحمته - عَزَّ وَجَلَّ - وبعيد أن يكون له مع هذا خلود في النار؛ فدلت الآية على بقاء اسم الإيمان، وعلى رجاء الرحمة، وهما معنيان ينقضان قول المعتزلة؛ حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار، ولأنه - تعالى - قال: (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) ولم يقل: يجزيه، وله أن يتفضل بالعفو عنه، على ما وصفنا، وبالله التوفيق والنجاة. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في تأويل الآية ما يؤيد ما قلنا: روي عنه أنه قال في قوله: (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ)، قال: هي جزاؤه، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " كَانَ فِيمَنْ قَبلَكُم رَجُل قَتلَ تسعًا وَتِسعِينَ نَفْسا، فسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ؟ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ؛ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِني قَتَلْتُ تِسعَة وَتِسعِينَ نَفْسًا بِغَيرِ حَق؛ فَهَلْ لِي مِنْ تَوبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ، ثُمَّ سَألَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَ عَلَى رَجُلٍ، فَأتاهُ فَقَالَ: إِني قَتَلْتُ مِائةَ نَفْسٍ بِغَيرِ حَق؛ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؛ قَالَ: نَعَم، وَمَنْ يَحُولُ بَينَكَ وَبَيّنَ التوبَةِ؟! انْطَلِقْ إِلَى أَرضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ فِيهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدْهُ مَعَهُم؛ فَانْطَلَقَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ نِصْفَ الطرِيقِ أَتَاهُ الْمَوتُ، فَاخْتَصَمَ مَلَائِكَةُ الرحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الَعَذابِ، فَأتاهُم مَلَكٌ، فَجَعَلُوهُ حَكَمًا بَينَهُم، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَينَ الْأَرضينِ، أَيهُمَا كَانَ أَدْنَى وَأَقْرَبَ فَهُوَ لَهُ؛ فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى لِلْأَرْضِ التِي أَرَادَ؛ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرحْمَةِ ".

(94)

أفلا ترى أنه لما كان كافرًا، فقتل مائة نفس، فقبلت توبته، ولو كان مسلمًا كانت مظالم المقتولين في عنقه باقية؛ فهذا الحديث يدل - واللَّه أعلم - على أن التأويل ما ذكرنا، وباللَّه التوفيق. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا. . .) الآية. قيل: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث سرية إلى دار الحرب، فسمعوا سرية لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تريدهم؛ فهربوا، وأقام رجل؛ لإسلامه؛ فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من العدو من حرب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فألجأ غنمه إلى كهف، ثم قام دونها، فسمع التكبير؛ فهبط إليهم وهو يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فأتاه رجل من هَؤُلَاءِ، فقتله واستاق غنمه وما معه، ثم رجعوا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأخبروه الخبر؛ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَقتَلْتُمُوهُ؛ إِرَادَةَ مَا مَعَهُ، وهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلا اللهُ؟! " فقالوا: إنه قال ذلك، متعوذا؛ فقال: " هَلَّا شَقَقْتُم عَنْ قَلْبِهِ؟! ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث سرية، فلقيهم رجل، فسلم عليهم وحياهم بتحية الإسلام، فحمل عليه رجل من السرية فقتله؛ فلامه أصحابه وقالوا: أقتلت رجلا حيانا بتحية الإسلام؟! فلما قدموا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبره بالذي صنع؛ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِني مُسلِم؟! " فقال: يا رسول اللَّه، إنما قالها متعوذًا؛ قال: " فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِه فَتَعْلَمَ ذلك؟! "؛ فنزل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا).

فلا ندري كيفما كانت القصة؟ ولكن فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة، والنهي عن الإقدام عندها، وهكذا الواجب على المؤمن الوقف عند اعتراض الشبهة في كل فعل وكل خبر؛ لأن اللَّه - تعالى - أمر بالتثبت في الأفعال بقوله: (فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)، وقال في الخبر: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)، أمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة، كما أمر في الأفعال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ). وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة؛ لأنه نهاهم أن يقولوا لمن قال: إني مسلم: لست مؤمنا، وهم يقولون: صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، وهو يقول ألف مرة على المثل: إني مسلم، فإذا نهى أن يقولوا: ليس بمؤمن؛ أمرهم أن يقولوا: هو مؤمن؛ فيقال لهم: (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)، على ما قيل لأُولَئِكَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) قيل: الغنيمة: (فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) هذا يحتمل وجهين: يحتمل قوله: (فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) أي: أجر عظيم وجزاء كثير. ويحتمل: (فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) يعطيها لكم في غير هذا، كقوله - تعالى - (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. . .) الآية. اختلف فيه: قيل: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) ضلالا كفارا؛ (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) بالإسلام والهجرة، وهداكم به. وقيل: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تخفون إيمانكم من المشركين وتكتمونه؛ (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) بإظهار الإسلام وإبدائه. وقيل: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تأمنون في قومكم من المؤمنين بـ " لا إله إلا اللَّه "، ولا تخيفوا من قالها؛ (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) بالهجرة. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) كفارًا تقاتلون على الدنيا

(95)

وعرضها. وقوله - تعا لي -: (فَتَبَيَّنُوا) عاد إلى الأول، وأمر بالتثبت عند الشبهة؛ ألا تري أنه روي في الخبر أنه قال: " الْمُؤْمِنُ وَقَّافٌ وَزَّانٌ): وَقَّافٌ يقف عن الشبهة، ووَزَّانٌ يزن الأعمال فيختار أفضلها. * * * قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) قال الحسن: كان هذا في الوقت الذي كان الجهاد تطوعًا؛ لأنه لو كان فرضا لكان لا معنى لقوله: لا يستوي كذا من كذا، وهما غير مستويين: أحدهما فرض عليه، والآخر لا. قيل له: هذا الذي ذكرت لا يدل على أن الجهاد ليس بفرض في ذلك الوقت؛ ألا ترى أنه قال: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ)، وقال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) جمع بين متضادين، ثم قال: (لَا يَسْتَوُونَ)؛ فعلى ذلك هذا، وهو أولى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ): استثنى أهل الضرر مجملا في هذه الآية، وبين أمرهم وما زال عنهم من فرض الجهاد في آية أخرى، وهو قوله - تعالى -: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)، وقوله عز

وجل: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى. . .) الآية، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم، وأزالوا الحرج عمن كان في مثل حال هَؤُلَاءِ الذين وصفهم اللَّه - تعالى - وعَذَرَهم في تخلفهم عن الجهاد. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما ذكر اللَّه - تعالى - فضيلة المجاهدين على القاعدين رغبهم في الجهاد بقوله: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. . .) الآية - أتاه عبد اللَّه بن أم مكتوم الأعمى، فقال: يا رسول اللَّه، ذكر اللَّه فضيلة المجاهدين على القاعدين، وحالنا ما ترى، ونحن نشتهي الجهاد؛ فنزل: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فجعل لهم من الأجر ما للمجاهدين؛ لزمانتهم. وعلى ذلك أكثر أهل التفسير. وقال الكسائي: (الضَّرَر) مصدر الضرير والمضرور، والضرير: الأعمى، يقال: ضُرَّ بَصَرُهُ، فهو ضرير ومضرور: إذا عمي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) القاعد والمجاهد (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) قيل: هذا الفضل للمجاهد على القاعد الذي قعد لا لعذر، جعل له الأجر العظيم. وقوله: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً) على القاعد الذي قعد لعذر؛ لأنه جعل فضيلته عليه بدرجة، وفي الثاني جعل

(97)

فضيلته عليه بدرجات. لكن قوله: " درجة "، و " درجات " عندنا: واحد؛ ألا ترى أنه - تعالى - قال: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)، ليس هو شيئًا واحدًا؛ ولكنه أشياء، والذي قعد لعذر يستوي في الأجر مع الذي خرج؛ إذا كان يتمنى أن يخرج إن قدر؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان لا معنى للاستثناء. وفي الآية دلالة أن فرض الجهاد - فرضُ كفاية: يسقط عن الباقين بقيام بعضهم، وإن كان الخطاب يعمهم في ذلك، وهو قوله - تعالى -: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)، وفرض الخروج لطلب العلم فرضُ كفاية: إذا خرج بعضهم لطلبه يسقط عن الباقين ذلك؛ فعلى ذلك فرض الجهاد، وإن كان ذلك خلاف ما عاتب اللَّه - تعالى - عليه الثلاثة الذين خلفوا في سورة " براءة "؛ لأن أُولَئِكَ تخلفوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد قال اللَّه - تعالى - (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) فإنما عاتب أُولَئِكَ لتخلفهم عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ... (97) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت هذه الآية في قوم من المنافقين خرجوا مع المشركين إلى بدر، فلما التقى المسلمون والمشركون، أبصروا قلة المسلمين - وهم مع المشركين على المؤمنين، فقالوا: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ). وأظهروا النفاق، فقتلوا، عامتهم؛ ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، فقالت لهم الملائكة: (قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ). وقيل: إنها نزلت في نفر أسلموا بمكة مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم أقاموا عن الهجرة، وخرجوا مع المشركين إلى القتال، فلما رأوا قلة المؤمنين شكوا في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ)، فقتلوا، فقالت الملائكة: فيم كنتم؟ قالوا: كذا. وقيل: نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، وكانت الهجرة يومئذ مفترضة؛

(98)

فكفروا بترك الهجرة، وهو كقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)، فلا ندري كيف كانت القصة، وليس لنا إلى معرفة القصة؟ حاجة بعد أن يُعرف ما أصابهم بماذا أصابهم؟. وقوله: (قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) هذا يتوجه وجوهًا: إحدها: مع من كنتم: مع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كنتم وأصحابه أو مع أعدائهم؟ والثاني: (فِيمَ كُنْتُمْ) أي: في دين مَنْ كنتم: في دين مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو في دين أعدائه؟ والثالث: " قالوا " بمعنى: " يقولون " أي: يقولون لهم في الآخرة: (فِيمَ كُنْتُمْ)؟ (قَالوُا): كنا كذا. وقولهم: (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ): هذا ليس جوابًا لقوله: (فِيمَ كُنْتُمْ)؟ جوابه أن يقال: كنا في كذا، ولكنه كأنه على الإضمار، قالوا لهم: ما الذي منعكم عن الخروج والهجرة إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ قالوا عند ذلك: (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ): اعتذروا؛ أن كانوا مستضعفين في الأرض. وظاهر هذا: أنْ مُنِعْنا عن الخروج إلى الهجرة، وحالَ المشركون بيننا وبين إظهار الإسلام. فقالوا: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) يعني: المدينة واسعة، آمنة لكم من العدو، فتخرجوا إليها، فتقلبوا بين أظهرهم، فهذا - واللَّه أعلم - كأنهم اعتذروا في التخلف عن ذلك؛ لما كانوا يتقلبون بين أظهر الكفرة ويتعيشون فيهم، فقالوا: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) قطعوا عليهم. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنهم إن منعوكم عن الإسلام ظاهرًا وحالوا بينكم وبين إظهاره؛ ألستم تقدرون على ادِّيَان الإسلام سرا، لا يعلمون هم بذلك؟! (فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا). أخبر أنْ لا عذر لهم في ذلك. وفي قوله - تعالى -: (فِيمَ كُنْتُمْ) دلالة إحياء الموتى في القبر والسؤال فيه عما عملوا في الدنيا واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ... (98)

(99)

بين اللَّه - تعالى - أهل العذر في ذلك؛ حيث قال: (لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا). قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كنت أنا وأمي من المستضعفين. (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ... (99) و (عسى) من اللَّه واجب؛ كأنه يقول: فأُولَئِكَ يعفو اللَّه عنهم. * * * قوله تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) قيل: المراغم: المذهب والملجأ، وسعة في الرزق، أي: يجد في الأرض، وفي غير الأرض التي هم فيها - ما ذكر. وقيل: المراغم: المتزحزح، أي: يجد متزحزحًا عما يكره وبراحًا. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: المراغم: التحول من أرض إلى أرض، والسعة في الرزق. وقيل: من الضلالة إلى الهدى، ومن العيلة إلى الغنى. وقيل: المراغم: المهرب. وقيل: لما نزلت هذه الآية سمعها رجل وهو شيخ كبير -وقيل: إنه مريض- فقال: واللَّه ما أنا ممن استثنى اللَّه؛ وإني لأجد حيلة، واللَّه لا أبيت الليلة بمكة؛ فخرجوا به يحملونه حتى أتوا به التنعيم، فأدركه الموت بها؛ فصفق يمينه على شماله، ثم قال: اللَّهُمَّ

(101)

هذه لك وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعت عليه رسولك. ومات؛ فنزل فيه: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي: وجب أجره. وقيل: إنه لما سمع الرجل أن الملائكة ضربت وجوه أُولَئِكَ وأدبارهم، وقد أدنف للموت؛ فقال: أخرجوني؛ فاحتمل بينه وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلما انتهي إلى عقبة، فتوفي بها؛ فأنزل اللَّه هذه الآية، واللَّه أعلم بذلك. وفي قوله: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) - دلالة أن إسلام الولدان إذا عقلوا إسلامهم - إسلام، وكفرهم كفر؛ لأنه تعالى استثناهم وعذرهم في ترك الهجرة؛ فلو لم يكن إسلامهم إسلامًا، ولا كفرهم كفرًا - لكان مقامهم هنالك وخروجهم منها سواءً، ولا معنى للاستثناء في ذلك؛ إذا لم يكن عليهم خروج، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ. . .) الآية. أباح اللَّه - تعالى - القصر من الصلاة؛ إذا ضرب في الأرض إذا خاف أن يفتنه الكفار، ولم يبين القصر في ماذا؟ فيحتمل: القصر قصرًا من الركعات؛ على ما قال أصحابنا - رحمهم اللَّه تعالى - ويحتمل: القصر من الركوع والسجود والقيام بالإيماء؛ كقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا)، رخص للخائف الصلاة بالإيماء. ويحتمل: القصر قصر الاقتداء، وذلك -أيضًا- مباح عند الخوف. ثم تأول قوم أن الصلاة كانت ركعتين، فزيدت في صلاة الحضر، وأقرت في صلاة السفر، ورخص في القصر من ركعتي السفر في حال الخوف، وقالوا: صلاة الخوف ركعة.

ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: فرض اللَّه - تعالى - صلاة الحضر أربعًا، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة، على لسان نبيكم. وكذلك رُويَ عن جابر بن عبد اللَّه - رضي اللَّه عنه - قال: صلاة الخوف ركعة، ركعة. وقال آخرون: إنما رخص اللَّه - تعالى - في قصر الصلاة من أربع إذا كان الخوف، فردها إلى ركعتين رخصة. وقالوا ثَمَّ: إن رسول اللَّه أعلمنا أن اللَّه - تعالى - تصدق علينا أن نقصر في حال الأمن؛ فثبت بالسنة أن القصر في غير الخوف جائز؛ كما أجازه اللَّه في حال الخوف. والقصر -في قول هَؤُلَاءِ- أن تُرَدَّ الأربع إلى ركعتين، والقصر في قول الأولين أن يرد الركعتان في حال الخوف إلى ركعة. وقال غيرهم: القصر إنما كان في حال الخوف كما قال اللَّه تعالى. فأما الآن: فإن المسافر إذا صلى ركعتين، فليس ذلك بقصر؛ ولكنه إتمام بقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث قال: صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم. وروي أن رجلا سأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قوله - تعالى -: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، قال: وقد أمن الناس اليوم؟!. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عجبتُ مما عجبتَ منه؛ فسألت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " صَدَقة تَصَدَّقَ اللهُ تَعَالَى بِهَا، عَلَيكُم فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ "؛ فيحتمل أن يكون قوله: " صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر " - يريد به أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما قال: " صَدَقَة تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيكُم "؛ صار الفرض ركعتين وارتفع القصر، وصارت الركعتان تمامًا غير قصر؛ إذ كانتا هما

الفرض بعد الصدقة التي تصدق اللَّه بها علينا؛ فكل واحد من الخبرين موافق لصاحبه؛ أعني خبر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، يسافر من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا اللَّه، يصلي ركعتين. وهذا يؤيد حديث عمر - رضي اللَّه عنه -: " صَدَقَة تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيكُم "؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يصلي وهو آمن ركعتين مع شرط اللَّه الخوف؛ إلا وقد رفع اللَّه شرط الخوف عن المسافر. وقال قوم: إن التقصير في السفر، والحضر هو الإتمام. واحتجوا بقول اللَّه - تعالى -: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) قال: فرفع الحرج عن المقصر، ولو كان التقصير حتمًا لكان قال: وعليكم جناح ألا تقصروا من الصلاة إن خفتم ولكن الأمر ليس كما توهموا؛ وذلك أنا قد ذكرنا أن النص في القصر إنما جاء في حال الخوف، وأما حال الأمن فلا نص فيما يوجب القصر؛ وإنما جاز القصر من الصلاة في حال الأمن؛ لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " صَدَقَة تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيكُم "، وتقصيره في حال الأمن، ومحال أن يتصدق اللَّه بالركعتين علينا. ويقول قائل: فرضها قائم؛ فأين موضع الصدقة؟! إذ لو كان الأمر على ما ذكرنا فما معنى قول عمر - رضي اللَّه عنه -: " إن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر؛ على لسان نبيكم "؛ لأنه - واللَّه أعلم - جعل الصدقة من اللَّه بذلك مزيلة للفرض في الركعتين بعد الركعتين؛ فبقيت الركعتان تمامًا، إذا كانتا فرض المسافر؟ مع ما روي أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سافر أسفارًا كثيرة، فلم يرو عنه أحد أنه أتم الصلاة في شيء من الأحوال في سفره، وكلٌّ روي أنه - عليه السلام - كان يصلي ركعتين ركعتين؛ فلو كانت الفريضة أربعًا، والقصر رخصة - لأتم في وقت؛ وقصر في وقت، ألا ترى أن الإفطار في السفر لما كان رخصة غير حتم - أفطر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أوقات وصام في أوقات؛ فدل ذلك أن فرض المسافر ركعتان غير قصر. وروي عن ابن عمر - رضي اللَّه عنه - قال: صليت مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر الصديق - رضي اللَّه عنه - ركعتين، ومع عمر - رضي اللَّه عنه - ركعتين،

ومع عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صدرًا من خلافته، ثم صلى أربعًا، وما صلى أربعًا؛ يحتمل أن يكون عزم على الإقامة. وكذلك روي عن الزهري قال: بلغني أنه إنما صلى أربعًا؛ لأنه أزمع أن يقيم بعد الحج. وعن عمران بن حصين قال: " سافرنا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فكان يصلي ركعتين، ركعتين حتى يرجع إلى المدينة، وأقام بمكة ثماني عشرة يومًا، لا يصلي إلا ركعتين، وقال لأهل مكة: " صَلُّوا أَرْبَعًا؛ فَإِنَّا قَومٌ سَفْرٌ ". وخالف بعض أهل العلم هذا الحديث؛ لأنهم يقولون: إذا أقام ببلد في غير حرب أربعا يتم بعد ذلك، وإن لم يكن عزم على المقام بذلك البلد. وروي عن عمر بن الخطاب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ حَتى يئول إِلَى أهْلِهِ أَوْ يَمُوت ". ورُوي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن الصلاة في السفر، قال: ركعتان ركعتان؛ من خالف السنة كفر. واستدل قوم بقوله - تعالى -: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) أن القصر رخصة، وأن الأفضل إتمام الصلاة؛ إذ " لا جناح " تستعمل في موضع التخفيف، لا في موضع الأمر؛ على نحو الصيام بقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا

يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وهذا حرف لا يستعمل في موضع الأمر والإيجاب، واللَّه أعلم. وسلَّم قوم لهم هذا المعنى في الآية، وردوا القصر إلى أقصر للخوف، يلحق عند الضرب في الأرض، وإذن كان على وجهين: أحدهما: في بيان المراد في قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا)، أنه: ليس على تمام المعروف من الصلاة؛ لكن على القصر على الحد الذي ينتهي إليه الخوف من أمر القبلة، أو ترك القيام والركوع والسجود، وإلى الإيماء والقعود، واللَّه أعلم. والثاني: ما في قوله: (وَإذَا كُنتَ فِيهِم. . .) الآية، وإنما يذكر ذلك في أحوال لهم الانفراد وهو أحوال السفر، ومعلوم أن ذلك في حق قصر الاقتداء فكأنه قال: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) في الاقتداء به، وإن قصرتم في الاقتداء عن تمام حقه من الجماعة، وكذلك إصابة الكل أفضل؛ فبين أن ارتفاع ذلك لا يمنعكم الاقتداء، ولا يلزمكم نصب إمام آخر؛ لثؤدوا جميع الصلاة في الجماعة، وأيد الوجهين قوله - تعالى -: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا). . . إلى قوله تعالى: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ)؛ فالقصر في السفر على ما عليه، ليس للخوف؛ وأيد ذلك ما التبس على عمر - رضي اللَّه عنه - حتى سأل عن ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " صَدَقَة تَصَدقَ اللَّه بِهَا عَلَيكُم فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ "، بمعنى: حكم حَكَمَ اللَّه عليكم في أن لم يفرض عليكم في السفر غير ركعتين، هو من جميع المذكور عن اللَّه من العفو؛ فهو في الإسقاط، وأيد ذلك ما كان يقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد ذلك: " صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ". فعلم أن ذلك ليس في حق الآية؛ لكن في ابتداء الشرع، وعلى ذلك المروي بأن الصلاة كانت في الأصل ركعتين، فزيدت في الحضر وأقرت في السفر، وإلى هذين التأويلين يتوجه قول أصحابنا، رحمهم اللَّه. وقد تحتمل الآية قصر الصلاة.

(102)

ثم قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) يرجع إلى وجهين: أحدهما: إلى ترك الركعتين، وإن لم يتم السفر بعد الخروج له، وليس كسائر الأعذار، نحو الحيض، إذا لم يتم أنه يلزم إعادة المتروك، والإغماء، ونحو ذلك، وأمر الصوم في السفر بعد الخروج له ليس كسائر الأعذار؛ فلا يعاد. والثاني: ليس عليكم جناح في السفر، وإن كان ذلك اختيارا منكم لترك صلاة الحضر، أو ليس عليكم ما على المقيم من الجناح إن لم يتم، فإذا رجع الجناح إلى ذلك بقي الأمر بالقصر، وإن خرج بحد الخبر؛ إذ قد يكون خبرًا في المخرج أمرا في الحقيقة نحو قوله - تعالى -: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ. . .) الآيات، ونحو ذلك كقوله - تعالى -: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أنه لما صار: " لا جناح " راجعا إلى ما كان ثَمَّ من الأصنام أو الفعل؛ بقي حق الأمر بالطواف، وإن كان في مخرج الخبر، وصار من اللوازم، دليل ذلك الأمر الوارد في الآية والظاهر من فعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الأسفار. ولا يحتمل أن يكون [. . .] يضيع من الجميع، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ. . .) الآية. اختلف أهل العلم في صلاة الخوف: قال بعض أهل العلم: يجعل الإمام القوم طائفتين، يصلي بالطائفة الأولى،

ركعة، ويصف الطائفة الأخرى مصاف العدو، فإذا صلى بهم ركعة؛ فيقومون ويصلون الركعة الثانية وحدانًا. ثم ينصرفون ويقومون مقامهم بإزاء العدو، وترجع الطائفة التي كانت مصاف العدو فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ثم يسلم بهم الإمام، فيقومون ويقضون الركعة الأولى وحدانًا. ويقولون: لأنه ليس في الآية إتيان الطائفة الأولى وعودها إلى الإمام؛ لذلك لا يفعل. وقالوا -أيضًا- بأن القيام بعد الفراغ من الصلاة مصاف العدو أطمع وأرجى من القيام قبل الفراغ منها. وقيل: بل القيام مصاف العدو، وهم في الصلاة أطمع وأرجى من القيام في غير الصلاة. وأما أصحابنا - رحمهم اللَّه - فإنهم ذهبوا إلى ما روي في الأخبار. روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلاةَ الخوف: فصلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهو العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم، مقبلين على العدو، وجاء أُولَئِكَ، فصلى بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ركعة ثم سلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم قضى هَؤُلَاءِ ركعة، وهَؤُلَاءِ ركعة. وعن عبد اللَّه قال: صلى بنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، فقاموا صفين: فقام صف خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفٌّ مستقبل العدو، وصلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالصف الذي يلونه ركعة، ثم قاموا فذهبوا وقاموا مقام أُولَئِكَ، واستقبل هَؤُلَاءِ العدو، وجاء أُولَئِكَ فقاموا مقام هَؤُلَاءِ، فصلى بهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ركعة، ثم سلم، فقاموا يصلون لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، فذهبوا فقاموا مقام أُولَئِكَ مستقبلين العدو، وجاء أُولَئِكَ إلى مقامهم، فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا.

وروى ابن عَبَّاسٍ وزيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان - رضي اللَّه عنهم - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نحو ذلك، فاتفق على هذه الرواية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هَؤُلَاءِ الجماعة من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -: ابن مسعود، وابن عمر، وابن عَبَّاسٍ، وزيد بن ثابت، وحذيفة؛ كلهم يقولون: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلى بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهو العدو، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعة، وإن واحدًا منهم لم يقض بقية صلاته حتى فرغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من صلاته كلها، فصلى المؤتمون ما بقي عليهم من صلاتهم؛ وهذا نظرًا لما عليه المسلمون جميعًا فيما سبقهم الإمام: لا يقضونه حتى يفرغ الإمام من صلاته، ثم يقضون ما فاتهم، والأخبار التي جاءت بخلاف ذلك يحتمل أن تكون في الوقت الذي كانوا يقضون الفائتة قبل فراغ الإمام من صلاته، ثم نسخ ذلك بما توارث الأمة القضاء بعد الفراغ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) اختلف فيه. قيل: هم الطائفة التي بإزاء العدو، يأخذون السلاح؛ ليكون أهيب للحرب والقتال. وقيل: هم الطائفة الذي يصلون، يأخذون السلاح حتى إذا استقبلهم العدو والحرب يقدرون على ذلك. وقيل: إذا وقع بينهم الحرب فلهم تأخير الصلاة إلى وقت انقطاع الحرب بينهم. وقال الحسن: يصلي الإمام بكل طائفة تمام الصلاة؛ لأنه ذكر في الخبر أنه كان يصلي بكل طائفة سجدة، والسجدة هي اسم التمام، وهذا جائز في اللغة. لكن عندنا ما ذكرنا من الأخبار عن الصحابة: عن عمر، وابن عَبَّاسٍ، وغيرهما - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - حيث قالوا: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الفطر والأضحى

ركعتان، وصلاة الخوف ركعة تمام غير قصر، وما روينا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سجد بالصف الأول، ولم يسجد معه الصف الثاني، فلما رفع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأسه من السجدتين سجدهما أهل الصف الثاني؛ فهذا يدل على أن الأمر ما وصفنا. وإذا كان العدو مواجَهةَ القبلة فالإمام بالخيار: إن شاء جعل القوم صفين: صفا أمامه بإزاء العدو، وصفًّا معه يصلي بهم؛ هكذا روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه فعل ذلك بالمسلمين: وروى جابر بن عبد اللَّه أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم والعدو في القبلة، فصلى بطائفة ركعة، وجاءت الأخرى فصلى بها أخرى. وإن شاء جعل القوم كلهم خلفه صفين فيصلي بهم، فإذا انتهوا إلى السجود، سجد الصف الأول، والصف الثاني يحرس العدو، فلما فرغ هَؤُلَاءِ من السجود سجد الآخرون، ثم كذلك يفعل بهم في الثانية، وهذا -أيضًا- روي أنه فعل؛ فيختار أيهما شاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ) أي: ليكونوا مصاف العدو يحرسونهم من العدو. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) يحتمل قوله - تعالى -: (حِذْرَهُمْ)، أي: يأخذون ما يستترون به ويحرسون العدو، من نحو الترس، والدرع، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَسْلِحَتَهُمْ): ما يقاتل به من السلاح ويحارب. ويحتمل ما يتحصن به من الحصن، من نحو الجبال وغيرها. وفيه الأمر بتعلم آداب الحرب والقتال، وأخذ الأهبة والإعداد للعدو دون أن يَكِلُوا الأمر إلى ذلك؛ ولكن يكلوا الأمر إلى ما وعد اللَّه لهم من النصر بقوله - تعالى -: (وَمَا

النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وبقوله: (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) وقوله - تعالى -: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ)، وقوله: (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا)، وغيره من الآيات، فيها الدلالة على تعلم آداب الحرب وأخذ الأهبة فيه؛ حيث أمرهم - عَزَّ وَجَلَّ - بمجاهدة العدو في غير آي من القرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ. . .) الآية. هذا يعلم بالطبع أن كل أحد يطلب الفرصة على عدوه والغفلة منه، هذا معروف في طباع الخلق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ): ما يحارب به ويقاتل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمْتِعَتِكُمْ) - يحتمل: أمتعتكم: ما يحرس به العدو ويستتر به منه، أي: يطلبون الغفلة عن الأسلحة والأمتعة. ويحتمل: الأمتعة أن يريد بها غيرها، من: الثياب وغيرها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) في الآية دلالة أن اللَّه - تعالى - لم يرد بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ. . .)، - بَذْلَها للقتل؛ حيث رخص لهم وضع الأسلحة وأخذ الحذر عندما بُلُوا بالمطر والمرض؛ لأنه لو كان المراد بشراء الأنفس منهم بذلها للقتل - لكان لا يرفع ذلك عندما يخافون على أنفسهم من الهلاك؛ إذ الحرض وخوف الهلاك لا يرفع ذلك في الأحوال كلها إذا كان الأمر بذلك أمرًا بالقتل والهلاك؛ ألا ترى أن من وجب عليه الرجم لم يرفع عنه بالمرضِ الرجم؛ لأن في الرجم هلاكه، فلما رفع عنهم القتال في حال المرض، أو في الحال الذي يخاف الهلاك - دل أنه لم يرد بشراء الأنفس بذلها للقتل؛ ولكن أراد - واللَّه أعلم - إظهار دين اللَّه، ونصر أهل دينه؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)، جعل الثواب والأجر عند الغلبة على عدوه مثل ما جعل عند القتل، ولو كان الأمر بذلك أمرًا بالقتل خاصة - لا يستوجب الأجر والثواب بغيره؛ دل أنه ما ذكرنا؛ ألا ترى أنه قال: (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا): جعل الوعد للقاتل ما جعل

(103)

للمقتول. هذا كله يدل أن الأمر بذلك ليس على القتل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) قد ذكرنا أن الأمر بأخذ الحذر يحتمل وجهين: أحدهما: فيه الأمر بتعلم آداب الحرب وأسباب القتال، وألا يكلوا الأمر إلى ذلك خاصة؛ لكن إلى ما وعد لهم من النصر والظفر على عدوهم بعد أخذ الأهبة؛ ألا ترى أنه قال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. . .) الآية، وقال - تعالى -: (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ. . .) الآية. والثاني: يحتمل أن يأمرهم بأخذ ما يدفعون به سلاح العدو عن أنفسهم ويتقون به، نحو الترس، أو الدرع، أو البنيان، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) أي: أعد لهم من العذاب ما يهانون به، نصروا أو غلبوا، وأعد لكم من الثواب ما تشرفون وتفوزون به، نصرتم أو غلبتم؛ فما لكم لا تقاتلون؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ... (103) قيل: يحتمل وجهين: يحتمل: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ)، أي: إذا فرغتم منها، فاذكروا اللَّه على كل حال، تستعينون به بالنصر على عدوكم، كقوله - تعالى - (فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) أمر بالثبات عند لقاء العدو؛ وذكر اللَّه؛ استعانة منه على عدوهم؛ فعلى ذلك الأول. ويحتمل: أن يكون معناه: إذا أردتم أن تقضوا الصلاة فاذكروا اللَّه كثيرًا في أي حال كنتم: في حال القيام، والركوع، والسجود؛ كقوله: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ. . .) معناه - واللَّه أعلم -: إذا كنت فيهم فأردت أن تقيم لهم الصلاة فافعل كذا؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) وهذا - واللَّه أعلم - مقابل قوله: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ

إِنْ خِفْتُمْ. . .) الآية، وقد ذكرنا أن القصر يحتمل وجوهًا: يحتمل: القصر للضرب في الأرض، وهو القصر في عدد الركعات. ويحتمل القصر للمرض والخوف، فهو قصر الإيماء، فنحن نأخذ بذلك كله على اختلاف الأحوال؛ فعلى ذلك قوله: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) يحتمل الوجوه التي ذكرنا، أي: اذا اطماننتم صرتم أصحاء؛ فصلوا كذا صلاة الأصحاء. ويحتمل: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ): أمنتم من الخوف؛ فصلوا كذا. ويحتمل -أيضًا-: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) إذا رجعتم وأقمتم، فصلوا صلاة المقيمين أربعًا؛ فهذا - واللَّه أعلم - على ما ذكرنا مقابل قوله: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) أي: مفروضا، وهو قول ابن عَبَّاسٍ. وقيل: (كِتَابًا مَوْقُوتًا) أي: لها وقت كوقت الحج، وهو قول ابن مسعود، رضي اللَّه عنه. وقيل: (كِتَابًا مَوْقُوتًا): محدودا، فنحن نقول بهذا كله، نقول: إنها مفروضة، موقوتة، محدودة؛ على ما قيل، واللَّه أعلم. والآية ترد على من يقول بأن على الكافر الصلاة؛ لأنه أخبر أنها كانت على المؤمنين كتابًا موقوتا، وهم يقولون: على الكافرين والمؤمنين، لكنها كتبت على المؤمنين فعلا، وعلى الكافرين قولا؛ هذا - واللَّه أعلم - معنى قوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)، أي: فعلها على المؤمنين كتابا موقوتا. ثم يحتمل قوله: (كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) أي: لم تزل هي كانت كتابًا موقوتًا على الأمم السالفة، لا أن هذه الأمة خصت بها؛ كقول إبراهيم - عليه السلام -: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، وكقول عيسى - عليه السلام -: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. . .)، وكقول موسى - عليه السلام -: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ).

ويحتمل قوله - تعالى -: (كانَتْ)، أي: الصلوات صارت (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) بعد أن لم تكن. وكل ذلك محتمل، ولكن لا نشهد على اللَّه أنه أراد كذا، وكذلك في قوله - تعالى -: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ). وقوله - تعالى -: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) نتأول فيه ونعمل فيه بالوجوه كلها على اختلاف الأحوال؛ لاحتماله الوجوه التي ذكرنا؛ فلا نقطع القول فيه، ولا نشهد على اللَّه أنه أراد كذا، وهكذا السبيل في جميع المجتهدات أن نعمل بها، ولا نشهد على اللَّه أنه أراد ذا أو أمر بذا، وباللَّه التوفيق. ذكر اللَّه - تعالى - ما بَيَّنَ فرض الصلاة ووجوبها في غير موضع من كتابه، منها الآية التي ذكرناها، ومنها قوله - تعالى -: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)، وقوله - تعالى -: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)، ولم تدل هذه الآيات على كيفية الصلاة وعددها؛ إنما دلت على وجوبها ولزوم فرضها، ودلت آيات أخر على عددها وجمل أوقاتها؛ قال اللَّه - سبحانه وتعالى -: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)، فهذه ثلاثة أوقات ذكر اللَّه - تعالى - فيهن ثلاث صلوات، روي عن مجاهد، عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سالته عن قول اللَّه - تعالى - (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. . .)؛ قال: إذا زالت الشمس عن بطن السماء، لصلاة: الظهر (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) وقال: بذا صلاة المغرب. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: دلوكها: زيغها بعد نصف النهار، وهو وقت الظهر. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: دلوكها: زوالها.

وعن عبد اللَّه قال: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قال: زوالها وقد روي عن ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ قالا: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ): غروبها. فأيَّ التأويلين كان دلوك الشمس فقد أوجب فيه صلاة، وصلاة عند غسق الليل، وصلاة عند الفجر؛ فهذه ثلاث صلوات. قال اللَّه - تعالى -: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)؛ فأحد طرفي النهار يجب فيه صلاة الفجر، وقد ذكر في هذه الآية، والطرف الآخر قبل غروب الشمس؛ فهذه أربعة، وهي العصر. وروي عن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الصلوات الخمس مجموعة في هذه الآية: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ. . .)، قال: صلاة الفجر، والطرف الآخر: الظهر والعصر: (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ. . .)، المغرب والعشاء. فأي التأويلين كان فإن صلاة العصر مذكورة في هذه الآية. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ)، المغرب والعشاء، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ): الفجر، (وَعَشِيًّا) العصر، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ): الظهر. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - أيضًا: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)؛ قال: الصلاة المكتوبة. دلت هذه الآيات - واللَّه أعلم - أن اللَّه - تعالى - فرض على عباده في كل يوم وليلة

خمس صلوات، وبيِّن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كيف فرضت الصلاة؟ ومتى فرضت؟. وروي عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " خَمْسُ صَلَوَاتٍ كتبهَا اللهُ - تعالى - عَلَى العِبَادِ، فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ لَم يُضَيعْ مِنْ حَقهِنَّ شَيئا اسْتِخْفَافًا بِحَقهِنَّ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللهَ عَهْدًا أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَم يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيسَ لَهُ عِنْدَ اللهَ عَهْدٌ: إِنْ شَاءَ عَذبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ ". وعن أبي معبد، عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين بعث مُعاذًا إلى اليمن قال: " إِنَكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ الكِتَابِ، فَادْعُهُم إِلَى شَهادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَني رَسُولُ اللَّهَ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأعْلِمْهُم أَن اللَّهَ - سُبحَانَهُ وَتَعَالَى - فَرَضَ عَلَيهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُل يَوْمٍ وَلَيلَةٍ ". وعلى ذلك اتفاق الأمة لا اختلاف بينهم، إلا أن قومًا زعموا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أوجب بعد ذلك الوتر؛ بقوله: " إِنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً، ألَا وَهِيَ الوَتْرُ ". وليس في الكتاب ذكر ولا دليل وجوبه؛ فتركنا الكلام فيها، لكن أبا حنيفة - رضي اللَّه عنه - سلك فيها مسلك المكتوبة؛ احتياطا. * * * قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ

(104)

بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ... (104) في الآية دلالة فرضية الجهاد؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنهم يألمون ويتوجعون بما يصيبهم من الجراحات كما تألمون أنتم وتتوجعون بها؛ فلو كان نفلا لكان يرفع عنهم الجهاد عند الألم والتوجع؛ على ما يرفع سائر النوافل عند الألم والتوجع؛ فدل أنه فرض، لكنه فرض كفاية، وفرض الكفاية يسقط بقيام البعض عن الباقين. وقد ذكرنا فيما تقدم الوجه فيه. وقوله - تعالى -: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ)، فمعناه - واللَّه أعلم - أي: لا عذر لكم في تألمكم أن تهنوا في ابتغائهم؛ (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ) ولا أيضعفون في ذلك، و (وَتَرْجُونَ) أنتم العاقبة من الثواب الجزيل (مَا لَا يَرْجُونَ)، ثم هم لا يضعفون؛ فكيف تضعفون أنتم في ذلك؟! وكل أمر لا عاقبة له فهو عبث، وليس لأمرهم عاقبة؛ فهو عبث، ولأمركم عاقبة محمودة؛ فأنتم أولى في ذلك. ودل قوله: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) - على تأكد فرضية الجهاد؛ إذ لم ياذن لهم في التخلف عن ذلك، على ما فيه من التالم، وخوف هلاك النفس في ذلك، ثم بين ما يخفف لمثله بحمل المكروه على الطبع له، وقد يختار له مباشرة الأتعاب في النفس من عواقب تنقطع وتزول؛ فكيف فيما ألا انقطاع، له من رجاء الثواب بذلك التألم؟! واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا). بتألمكم، أي: عن علم بالتألم أمركم بذلك، لا عن جهل. وقد ذكرنا ذلك في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ... (105) قوله: (بِالْحَقِّ) يتوجه وجوهًا: بحق اللَّه عليكم، أنزل إليك الكتاب. ويحتمل: بحق بعض على بعض أنزل إليك الكتاب؛ لتحكم بين الناس.

ويحتمل قوله: (بِالْحَقِّ)، أي: بالمحنة يمتحنهم بها؛ إذ في عقل كل أحد ذلك، وإهمال كل ذي لبٍّ لا يؤمر ولا ينهى - خروج عن الحكمة. أو أن يقال: (بِالْحَقِّ)، أي: بالعواقب؛ لتكون لهم العاقبة. وقوله - تعالى -: (بِالْحَقِّ) أي: بالحق الذي للَّهِ، أو لبعض على بعض، أو لأمر كانت، وهو البعث؛ لِيُعَدَّ له، ويتزودوا بالذي يحمد عليه فاعله؛ إذ الحق صفة لكل ما يحمد عليه فاعله، والباطل لما يذم. وقد يحتمل بالعدل والصدق على الأمر من التغيير والتبديل، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ). قيل: إن في الآية دلالة جواز الاجتهاد؛ لأنه قال: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) دل قوله (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) أن ثمة معنى يدرك بالنظر والتأمل؛ لأنه لو كان يحكم بالكل بالكتاب، لكان لا معنى لقوله: (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ). ولكن يقول له: لتحكم بين الناس بالكتاب؛ دل أنه يحكم بما يريه اللَّه بالتدبر فيه والتأمل، لكن اجتهاده كالنص؛ لأنه لا يخطئه؛ لأنه أخبر أنه يريه ذلك؛ فلا يحتمل أن يريه غير الصواب، وأما غيره من المجتهدين فيجوز أن يكون صوابًا، ويجوز أن يكون خطأ؛ لأنه لا ينكر أن يكون الشيطان هو الذي أراه ذلك فيكون خطأ؛ فلا يجوز أن يشهد عليه بالصواب ما لم يظهر، وأما اجتهاده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو كله يكون صوابًا؛ لأن اللَّه - تعالى - هو الذي أراه ذلك؛ فنشهد أنه صواب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) قال أكثر أهل التفسير: إنه هَمَّ أن يُقَوِّي سارقًا - يقال له: طُعْمَة - ويصدقه في قوله؛ فنزل قوله: (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)؛ فلو لم يقولوا ذلك كان أوفق وأحسن، فإن كان ما قالوا، فذلك لم يظهر منه الخيانة عنده؛ إذ ذكر في القصة أنه وجد السرقة في دار غيره. فلئن كان ذلك إنما كان لما ذكرنا. وأما النهي عن أن يكون للخاثنين خصيما: نهي وإن كان يعلم أنه لا يكون لما عصمه اللَّه؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْركِينَ)، (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، إن كان عصمه من أن يكون منهم، والعصمة إنما تنفع إذا كان

(106)

ثمة أمر ونهي، فأما إذا لم يكن ثمة لا أمر ولا نهي فلا معنى للعصمة والتوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وقوله - تعالى -: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ)، ليس هو قول الناس: نستغفر اللَّه، ولكن كأنه قال: كونوا على الحال التي تكون أعمالكم مكفرة للذنوب؛ ألا ترى إلى قول هود لقومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ. . .) الآية. وقال نوح - عليه السلام - لقومه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. . .) الآية، لم يريدوا أن يقولوا: نستغفر اللَّه قولا حسب؛ ولكن أرادوا أن يكونوا على الحال التي تكون أعمالهم مكفرة لذنوبهم؛ لأنهم لو قالوا بلسانهم ألف مرة: نستغفر اللَّه، لكان لا ينفعهم ذلك؛ فعلى ذلك قوله: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) وحقيقة الاستغفار وجهان: أحدهما: الانتهاء عما أوجب العقوبة؛ لقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) وعلى ذلك معنى قول من ذكر. والثاني: طلب الستر بالعفو والتجاوز. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ... (107) هو ما ذكرنا أن العصمة لا تنفع؛ إذا لم يكن أمر ونهي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ): لا أحد يقصد قصد خيانة نفسه، ولكن لما رجع في العاقبة ضرر الخيانة إلى أنفسهم، صاروا كأنهم اختانوا أنفسهم كقوله: (وَمَا يَخْدَعُون إِلا أنفُسَهُم)، لا أحد يقصد قصد خداع نفسه؛ لكن لما رجع في العاقبة حاصل الخداع إليهم - صاروا كأنهم خدعوا أنفسهم؛ فعلى ذلك الأول، والله أعلم. قوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) يحتمل وجهين: يحتمل: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ)، أي: يحتشمون من الناس أن يعلموا بصنيعهم، ولا يحتشمون من اللَّه، على علم منهم أنه لا يخفى عليه شيء. ويحتمل: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ)، أي: يسترون سرهم من الناس.

وكذلك رُويَ في حرف حفصة: ولا يستترون من اللَّه، ولكن اللَّه يطلع الناس على ما يسرون. (وَهُوَ مَعَهُم)، أي: لايخفي عليه شيء. وقوله: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) - على وجهين: أحدهما: على نفي القدرة وإثباتها: أن لهم ذلك في الإخفاء من الناس، وليس لهم في الإخفاء عن اللَّه. والثاني: على قلة المبالاة: يعلم باطلاع اللَّه - تعالى - عليهم، وتركهم مراقبة اللَّه في الأمور، واجتهادهم في ذلك عن الخلق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) يقول: من العمل والفرية على اليهودي، بالسرقة. وقيل: يبيتون: أي يؤلفون القول فيما بينهم، فيقولون: يأتي به النبي، فيقول له كذا وكذا؛ ليدفعوا عن صاحبهم الخيانة والتهمة، وهو طُعْمَة؛ على ما قيل في القصة: إنه سرق درع رجل فرماها في دار يهودي. وقيل: إنه خبأها في دار يهودي، فلما طلب منه حلف باللَّه أنه ما سرق. وقيل: التبييت: هو التقدير بالليل، وقد ذكرناه في قوله: (بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) هو على الوعيد؛ أي: عن علم منه يفعلون هذا، لا عن غفلة؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)، لكنه يؤخره إلى يوم على علم منه ذلك، وعلى الإعلام أن اللَّه لم يزل عالمًا بما يكون منهم، وعلى ذلك امتحنهم، وباللَّه التوفيق.

(109)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (109) قيل: يعني: أصحاب طعمة؛ أي: لو خاصمتم عنهم يا هَؤُلَاءِ في الدنيا (فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَ) أي: لا أحد يخاصم عنهم يوم القيامة. (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) يخاصم عنهم يوم القيامة. وقيل: كفيلا، أي: في الدفع عنهم؛ كقوله - تعالى -: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ)، أي: في دفعها وإرادة أن يدحضوا بالباطل. وقيل: رقيبا. وقيل: كفيلا. والوكيل: هو القائم بحفظ الأمور، والقاضي للحوائج، والمزيح للعلل. * * * قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) هما سواء، أي: من عمل سوءًا فقد ظلم نفسه، ومن ظلم نفسه فقد عمل سوءا. ويحتمل ما قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من يعمل سوءًا إلى الناس، أو يظلم نفسه فيما بينه وبين اللَّه. ثم روي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أرجى آية في القرآن هذه قوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. . .) الآية. وروي عنه -أيضًا- قال: أربع آيات من كتاب اللَّه - تعالى - أحب إليَّ من حمر النعم وسُودِها -: قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)، إِلَى آخره، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)،

(111)

وقوله - تعالى -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ. . .) الآية، وقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. . .) الآية. وعن علقمة والأسود قالا: قال عبد اللَّه: إن في كتاب اللَّه لآيتين، ما أصاب عبد ذنبها فقرأهما، ثم استغفر اللَّه إلا غفر له: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. . .) إلى آخر الآية، وقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ)، وقوله - تعالى -أيضًا-: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا) يحتمل كل واحد منهما أنه الآخر؛ كرر على التأكيد فيما جرى له الذكر. ويحتمل التفريق: أن يكون سوءًا إلى الناس وخطيئة إليهم، أو يظلم نفسه: بما يأثم بما بينه وبين اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ... (111) لأن حاصله يرجع إليه؛ فكأنه كسب على نفسه. وقوله: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ... (112) يحتمل: أن يكون قوله: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا) واحدًا: الخطيئة هي الإثم، والإثم هو الخطيئة. وقيل: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) سرقته الدرع (أَوْ إِثْمًا): يقول بيمينه الكاذبة: أنه لم يسرقها، وإنما سرقها فلان اليهودي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا) قيل: لما طلب في داره رماها في دار اليهودي، ثم حلف باطلا وزورًا: أنه لم يسرقها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا). يقول: كذبا على آخر بما لم يفعل. والبهتان: هو أن يبهت الرجل الرجل كذبًا بما لم يفعل، (وَإِثْمًا مُبِينًا): بيمينه الكاذبة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ... (113) قال أكثر أهل التأويل: نزلت هذه الآية في شأن طعمة الذي سرق درع جار له

بالذي سبق ذكره، وقالوا: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)، أي: يخطئوك، وليس هو الإضلال في الدِّين، ولكن إن كان كما قالوا فهو تخطئة الحكم. ويحتمل قوله: (أَنْ يُضِلُّوكَ)، أي: يجهلوك في حكم السرقة. ويجوز أن يكون جاهلا في سرقته؛ لمَّا لم يدر أنه سرق، وكان يصدقه في الحكم أنه لم يسرق؛ لأنه إنما كان يعلم الأشياء بالوحي، ثم أعلم أنه قد سرق. ويحتمل: أن تكون الآية في الكفار كلهم؛ لأن الكفرة والمنافقين لم يزل كانوا يريدون أن يضلوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الهدى، ويصرفوه عنه؛ كقوله - تعالى -: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)، وكقوله - تعالى -: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا). ثم يحتمل قوله - تعالى -: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ)؛ حيث عصمك بالنبوة؛ وإلا لأضلوك عن سبيل اللَّه: الهدى، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ) أي: بالعصمة، (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا). والثاني: ولولا فضل اللَّه عليك ورحمته؛ حيث أعلمك بالحكم في ذلك، وبصّرك به بالوحي، وصرفك عن تصديق ذلك الخائن، إن ثبت ما قالوا؛ وإلا لهموا أن يخطئوك ويجهلوك فيه. ثم في الآية نقض قول المعتزلة؛ لأنه مَنَّ على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه عصمه، وهم يقولون: كان عليه أن يعصمه، وهو كان يستحق ذلك قبله. فلو كان عليه ذلك لم يكن للامتنان عليه بذلك معنى؛ إذ فعلَ ما كان عليه أن يفعل؛ على زعمهم، ومن فعل فعلا عليه ذلك - لم يقل إنه تفضَّلَ؛ دل أنه ليس كما قالوا، وباللَّه التوفيق والعصمة. وقوله -أيضًا-: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) يخرج على وجهين: أحدهما: يكفهم عما هموا. والثاني: يعصمه عما راموا فيه أن يظفروا منه بعد أن أظهروا ما طلبوا. وقوله: (يُضِلُّوكَ): يجهلوك الحكم بالتلبيس وأنواع التمويه يرجع ذلك إلى نازلة.

(114)

والثاني: أن يكون بالإضلال عن السبيل والحيل في الصرف عن الحق، وهذا هو الذي لم يزل أعداء اللَّه يقصدون برسول اللَّه وبجميع أهل الخير؛ فكفهم بوجهين، يتوجه كل وجه إلى وجهين: أحدهما: ظواهر الأسباب من الوحي والآيات، وكذا في كفهم مرة بالقتال والأسباب الظاهرة، ومرة باللطف والعصمة، وسمى ذلك فضلا ورحمة؛ ليعرف أن ذلك فضله لا حقًّا قبله؛ إذ ليس بذل الحقوق يُعَد في الفضائل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لا أحد يقصد قصد إضلال نفسه؛ لكن لما رجع حاصل ذلك الإضلال إلى أنفسهم كأنهم أضلوا أنفسهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ). أمَّن رسوله عن ضرر أُولَئِكَ؛ كقوله - تعالى -: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) قد ذكرناه في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من الحلال والحرام والأحكام كلها، وغير ذلك؛ كقوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)، فهو كذلك كان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) فيما علمك من الأحكام، وعصمك بالنبوة والرسالة، وصرف عنك ضرر الأعداء واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ). اختلف في النجوى:

(115)

قيل: النجوى: القوم؛ كقوله: (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى)، أي: رجال. وقيل: النجوى: هي الإسرار؛ كقوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ. . .) الآية. ثم استثنى: (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ. . .) الآية. فإن كان التأويل من النجوى هو فعل النجوى خاصة، فكأنه قال: لا خير في كثير من نجواهم إلا الأمر بالصدقة، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس. وإن كان تأويل النجوى هو القوم، فكأنه قال: واللَّه أعلم: " لاخير في كثير منهم إلى من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس؛ وكان هذا أقرب. ومعنى الثنيا من الكثير فيما يرجع إلى القوم؛ فكأنه قال: لا خير في كثير منهم إلا من يرجع أمره إلى ما ذكر؛ فيصير إلى خير. وقد يحتمل: أن قومًا منهم يرجع نجواهم إلى خير، وهم أقلهم، ومن الفعل، على أن الفعل ربما يكون فعل خير، وإن كانوا أهل النفاق والكفر، لكن بين أنه غير مقبول إلا أن يبتغي به مرضاة اللَّه، وذلك لا يكون إلا أن يؤمنوا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ... (115) قيل: لما تبين خيانته لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استحيا أن يقيم بالمدينة؛ فارتد، ولحق بمكة كافرًا؛ فنزل قوله - تعالى -: (وَمَن يشَاقِقِ الرَّسُولَ) يقول: يخالف الرسول (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ). وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى)، يقول: من بعد ما كان كافرًا تبين له الإسلام وأسلم. وقال: لما أبان أمر طُعْمَة، وعلم أنه سرق الدرع - أنزل اللَّه - تعالى -: (وَالسَّارِقُ

(116)

وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)؛ قيل له: يا طعمة، إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قاطِعُك؛ فخرج هاربًا إلى مكة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني: غير دين المؤمنين. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ويسلك غير سبيل المؤمنين ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) أي: نتركه وما تولى من ولاية الشيطان. وقيل: ندعه وما اختار من الدِّين غير دين المؤمنين. (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ)، أي: ندخله جهنم في الآخرة. وقيل: قوله: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى)، أي: نوله في الآخرة ما تولى في الدنيا. (وَسَاءَتْ مَصِيرًا) يقول: بئس المصير صار إليه. وقوله - تعالى -: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) أنه تولى الشيطان؛ فجعله اللَّه وليًّا؛ كقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا)، وغير ذلك، ويكون نخذله فيما اختاره، ونكون نجزه جزاء توليه، ويكون بخلق توليه منه جورًا باطلا، مهلكًا له، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. . .) الآية. في الآية دليل ألا يصير بكل ذنب مشركًا؛ على ما قاله الخوارج لما قسم الكتاب، ولا

يحتمل إضمار التوبة؛ لأن الشرك مما: يُغفر بالتوبة؛ فبطل قولهم. وفيه بطلان قول من يبطل المغفرة في الكبائر بلا توبة؛ لأن اللَّه - تعالى - جعل لنفسه مشيئة المغفرة، وذلك فيما في الحكمة دفعه سفه؛ فلزم الذي ذكرنا الفريقين جميعًا. ثم الذي ينقض قول الخوارج الذين يكفرون بارتكاب الصغائر - ما بلى بها الأنبياء والأولياء؛ وما يكفر صاحبه - يُسقط النبوة والولاية، ومن كان وصف إيمانه بالأنبياء - عليهم السلام - هذا؛ فهو كافر بهم. وعلى المعتزلة في ذلك أن اللَّه وصف الأنبياء - عليهم السلام - بالدعاء له تضرعًا وخيفة، وخوفًا وطمعًا، وبكائهم على ما كان منهم من الزلات وتضرعهم إليه؛ حتى أجيبوا في دعائهم، ولو لم يكن ذنوبهم بحيث يحتمل التعذيب عليها في الحكمة، لكان في ذلك تعدى الحد والوصف بالجور والتعوذ به، وذلك أعظم من الزلات. فهذا ينقض قول المعتزلة في إثبات المغفرة في الصغائر، وإخراج فعل التعذيب عن الحكمة، وقول الخوارج بإزالة اسم الإيمان بها، ولا عصمة إلا باللَّه. ثم قوله: (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) - يحتمل: الشرك في الاعتقاد، وهو أن يشرك غيره في ربوبيته وألوهيته، وبين أن يشرك غيره في عبادته؛ ألا ترى أنه قال: - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، ثم قال اللَّه - تعالى - في آخره: (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا): جعل الإشراك في الألوهية والربوبية، والإشراكَ في العبادة واحدًا؛ كله شرك باللَّه، وباللَّه التوفيق. ثم قوله: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) لا يحتمل ما قالت المعتزلة: إنه وعد المغفرة فيما يشاء، ثم بين ذلك في الصغائر بقوله - تعالى -: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)، وقد ثبت الوعيد في الكبائر؛ بقي الوعد بحقه لم يزل بالذي ذكر لاحتماله. وقيل: قوله: (لِمَنْ يَشَاءُ) كناية عن الأنفس المغفورات، لا عن الآثام والأجرام التي تغفر، لم يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس؛ لأنه لم يقل: ما شاء، ولكن قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِمَنْ يَشَاءُ)؛ فذلك كناية عن الأنفس. وفي آيات الوعيد تحقيق في الذين جاء بهم، وفيما جاء على ما قيل: لا صرف في

(117)

ذلك؛ فهو أولى. وبعد: فإنه قال: (لِمَنْ يَشَاءُ)، والصغائر عندهم مغفورة بالحكمة لا بالوعد، والآية في التعريف، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا ... (117) عن الحسن قال: الإناث: الأموات التي لا روح فيها وكذلك روي عن ابن عباس، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقيل قوله - تعالى -: (إِلَّا إِنَاثًا): هم الملائكة؛ لأنهم يقولون: الملائكة بنات اللَّه في السماء؛ فعبدوها؛ فإنهم إنما عبدوا الإناث عندهم وفي زعمهم. وقيل: إناثًا من الوثن؛ وكذلك روي في حرف عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها كانت تقرأ: " إن يدعون من دونه إلا أوثانا "، وهو الصنم؛ سمي إناثًا لما صوروها بصور الإناث، وحلَّوْها، وقلدوها قلائد، وزينوها بزيهم، ثم يعبدونها لم يعبدوها على ما كان في الأصل؛ فسمي بذلك. وقيل، سمي إناثًا؛ لأنهم كانوا يسمون ما يعبدون من الأصنام والأوثان: اللات، والعزى، ومناة؛ فأسماؤهن أسماء إناث، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا): أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم وإن كانوا يفرون من الشيطان ويأنفونه - فإنهم بعبادتهم

(118)

الأصنام؛ والأوثان يعبدون الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي يدعوهم إلى عبادتهم الأصنام؛ فكأنهم عبدوه؛ ألا ترى أن إبراهيم - عليه السلام - قال: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ): جعل عبادة الصنم عبادة للشيطان؛ حيث قال له: (لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)؛ فدل أن عبادتهم الأوثان عبادة للشيطان، وباللَّه العصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَرِيدًا)، قال ابن عَبَّاسٍ: المريد: هو العاتي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَنَهُ اللَّهُ ... (118) اللعنة: هي الإبعاد من رحمة اللَّه، فسمي: ملعونًا؛ لأنه مبعد من رحمة اللَّه، مطرود منها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا). إنه - لعنه اللَّه - وإن قطع القول فيه: لأتخذن من كذا، قطعا - فهو ظن في الحقيقة؛ ألا ترى أنه قال - تعالى - في آية أخرى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ)؛ دل أن ما قاله، قاله ظنًّا، لكنه خرج مقطوعًا محققًا، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَصِيبًا مَفْرُوضًا)، أي: مبينا معلومًا، والنصيب المفروض هو ما ذكر: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ. . . إلى آخر ما ذكر (مَفْرُوضًا)، أي: مبينًا: من يطيعه ومن لا يطيعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ... (119) قيل: هذا إخبار عن اللَّه - تعالى - عبادَهُ عن صنيع اللعين؛ ليكونوا على حذر منه. ثم قوله: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) - ليس على حقيقة الإضلال؛ لأنه لا يقدر أن يضل أحدًا، لكنه يدعو إلى الضلال ويزين عليهم طريقه، ويلبس عليهم طريق الهدى؛ فذلك معنى إضافة الإضلال إليه؛ وإلا لم يملك إضلال أحد في الحقيقة؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ. . .) الآية. ثم إذا ضلوا بدعائه إلى ذلك وتزيينه عليهم سبيله - يمنيهم عند ذلك؛ حتى يتمنوا أشياء؛ كقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ. . .) الآية، وكقوله - تعالى -

(وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ)، ونحو ذلك من الأماني، وذلك مما يمنيهم الشيطان، لعنة اللَّه عليه. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ)، يعني: عن الدِّين، (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) أن يصيبوا خيرًا لا محالة؛ ليأمنوا. وفي حرف ابن مسعود: " ولأعدنهم ولأمنينهم ولأحرمنَّ عليهم الأنعام ولآمرنهم فليبدلن خلقك ولآمرنهم فليبتكن ". وقوله: (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ) فجعلوها نحرًا للأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) يحتمل هذا وجهين، سوى ما قال أهل التأويل: أحدهما: أن اللَّه - تعالى - خلق هذا الخلق؛ ليأمرهم بالتوحيد، وليجعلوا عبادتهم له، لا يعبدون دون اللَّه غيره؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ. . .) الآية؛ فهو دعاهم أن يجعلوا عبادتهم لغير اللَّه، وهو ما قيل في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)، قيل: لدين اللَّه؛ فعلى ذلك يحتمل قوله: (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ)، أي: عن الذي كان خَفقُهُ إياهم لذلك، واللَّه أعلم. والثاني: أنه - عَزَّ وَجَلَّ - خلق الأنعام والبهائم لمنافعهم، وسخرها لهم، فهم حرَّموها على أنفسهم، وجعلوها للأوثان والأصنام: كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام؛ منعوا منافعها التي خلقها لهم عن أنفسهم، وذلك تغيير ما خلق اللَّه لهم، واللَّه - تعالى - أعلم. وأما أهل التأويل فإنهم قالوا غير الذي ذكرنا: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ): الإخصاء، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه. وقال آخرون: هو دين اللَّه.

(120)

وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال -أيضًا-: دين اللَّه. وقيل: هو ما جاء من النهي عن الواشرة، والنامصة، والمتفلجة، والواصلة، والواشمة. ولا يحتمل أن يكون خطر بباله يومئذ أنه أراد بتغيير خلق اللَّه ما قالوا من الإخصاء، أو المثلة، والواشرة، والنامصة؛ لأنه إنما قال ذلك يوم طلب من ربه النظِرة إلى يوم البعث، ولا يحتمل أن يكون له علم ألا يحل هذا أو النهي عن مثله؛ إذ قد يجوز أن ترد الشريعة في مثله؛ لذلك بعد هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ). أي: يطيعه ويجيبه إلى ما دعاه، ويعبده دون اللَّه. (فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينً). في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا فذهاب المنافع عنهم التي جعلوها للأصنام والأوثان، وفي الآخرة العقوبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعِدُهُمْ ... (120) إما فقرًا وإما سعة

(121)

(وَيُمَنِّيهِمْ) هو ما ذكرنا من الأماني وقضاء الشهوات في الدنيا (وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) والغرور: هو أن يرى شيئًا يظهر خلافه. (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) الآية ظاهرة، قيل: مفرَّا، وقيل: ملجأ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ... (122) قد ذكرنا هذا فيما تقدم: أن الإيمان هو التصديق، والأعمال الصالحات غير التصديق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) تأويل هذا - واللَّه أعلم - أن يقال: إنكم ممن تقبلون الأخبار والقول من الناس، ثم لا أحد أصدق قولاً من اللَّه - تعالى - ولا أنجز وعدا منه؛ كيف لا تقبلون قوله وخبره أنه بَعْثٌ، وجنة، ونار، وتكذبون قول إبليس أن لا جنة، ولا نار، ولا بعث؟!. * * * قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الأمر ليس بالأماني؛ ولكن إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فهو - واللَّه أعلم - يحتمل أن يكون في المنزلة والقدر عند اللَّه؛ لأنهم قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، وقالوا: (قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، وغير ذلك من الأماني. وأهل التأويل يذهبون إلى غير هذا، وقالوا: إن كل فريق منهم كانوا يقولون: إن ديننا خير من دينكم، ونحن أفضل من هَؤُلَاءِ؛ فنزل: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ). وذلك بعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، يعني: [شِرْكًا] يجز به؛ يدل على ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا

(124)

وَلَا نَصِيرًا)، وذلك وصف الكافر ألا يكون له ولى يتولى حفظه، ولا نصير ينصره؛ ألا ترى أنه قال: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ)؛ ذكر الذين يعملون الصالحات - وهم مؤمنون - أن يدخلوا الجنة؛ فهذا -أيضًا- يدل أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) أراد به الشرك. وقال آخرون: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، أي: كل سوء يدخل فيه المسلم والكافر؛ ألا ترى أنه رُوي عن أبي بكر الصديق - رضي اللَّه عنه - لما نزلت هذه الآية، قال: يا رسول اللَّه، كيف الفلاح بعد هذا وكل شيء عملناه جزينا به؟! قال: " غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ! أَلَستَ تَحْزَنُ؟ أَلَستَ تَنْصَبُ؟ ألَستَ تَمْرَضُ؟ أَلَستَ يُصَيبُكَ الْأَذَى؟ فَهَذَا مَا تُجْزَوْنَ بِهِ، يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدنْيَا، وَالكَافِرُ فِي الْآخِرَةِ "، فإن كان التأويل هذا؛ فقوله: (وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا): هو في الكافر؛ أي: لا يجد له وليا ولا نصيرا إذا لم يرجع عن كفره ومات عليه، وأما إذا رجع عن ذلك، وتاب، ومات على الإيمان؛ فإنه يجد له وليا ونصيرا: ينصره اللَّه - تعالى - وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ... (124) في الآية دليل أن الأعمال الصالحات غير الإيمان؛ لأنه قال - تعالى -: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ. . . وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، ولو كان إيمانًا؛ فيصير كأنه قال: ومن يعمل الإيمان وهو مؤمن؛ فدل - بما ذكرنا - أنها غير الإيمان، وفيه دلالة -أيضًا- أن الأعمال الصالحة إنما تنفع إذا كان ثمة إيمان؛ لأنه شرط فيه الإيمان بقوله - تعالى -: (وَهُوَُ مُؤْمِنٌ)؛ دل أن الأعمال الصالحة لا تنفع إذا لم يكن ثمة إيمان، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) قد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ... (125) يحتمل وجهين:

يحتمل من أحسن دينا من المسلمين ممن يعمل جميع عمله موافقا لدينه - ممن لم يعمل؟! بل الذي عمل بجميع عمله موافقا لدينه - أحسن دينا من الذي لم يعملِ شيئا، وهو كما روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، قال: " لَوْ وُزنَ إِيمَانُ أبِي بَكْرٍ الصديقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإيمان جميع أمتي، لرجح إيمانه " وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قويٌّ في دينه، ضعيفٌ في بدنه "؛ ألا ترى أنه خرج لمقاتلة أهل الردة وحده؟! وذلك لقوته في الدِّين وصلابته فيه، لا لزيادة الإيمان، ولا لنقصان إيمان في غيره، واللَّه أعلم. والثاني: مقابلة سائر الأديان، أي: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله - ممن لم يسلم وجهه لله. . . إلى آخر ما ذكر، واللَّه أعلم. ثم قوله - تعالى -: (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)، عن الحسن قال: أسلم جميع جهة أمره إلى اللَّه، أي: جميع ما يعمل إنما يعمل للَّهِ، لا يعمل لغير [اللَّه]. وقيل: (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)، أي: أخلص نفسه لله، ولا يجعل لأحد فيها شركا؛ كقوله - تعالى -: (وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)، الآية، أي: يسلم نفسه له، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ مُحْسِنٌ) - يحتمل وجهين: يحتمل: قوله: (وَهُوَ مُحْسِنٌ): يحسن ما يعمل، أي: جميع ما يعمل؛ لعلمٍ له فيه. ويحتمل قوله: (وَهُوَ مُحْسِنٌ): من الإحسان، وهو أن يزيد العمل على المفروض عليه: يؤدي المفروض عليه، ويزيد على ذلك أيضًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) الملة: قيل: هي الدِّين. وقيل: الملة: السنة، وكأن السنة أقرب؛ لأن دين الأنبياء - صلى اللَّه عليهم وسلم - كلهم واحد، لا يختلف دين إبراهيم - عليه السلام - ودين غيره من الأنبياء، عليهم السلام.

وأما السنن والشرائع فيجوز أن تختلف؛ ألا تري أنه رُويَ في الخبر: " ملة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفي بعضها: " سنة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: جعل السنة تفسير الملة؛ فالملة بالسنة أشبه. ثم خص ملة إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأن سننه كانت توافق سنن نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَنِيفًا) قيل: مخلصًا. وقيل: سمي حنيفًا، أي: مائلا إلى الحق؛ ولذلك سمي الأحنف: أحنفًا؛ لميل أحد قدميه إلى الأخرى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) ذكر في بعض الأخبار أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أوحى إلى إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أن لي خليلا في الأرض؛ فقال: يا رب، من هو؟ قال: فأوحى اللَّه - تعالى - إليه: لِمَ؟ أي: لم تسألني عنه؟ قال: حتى أحبه وأتخذه خليلا كما اتخذته خليلا، أو كلام نحو هذا؛ فقال: أنت يا إبراهيم. وأصل الخلة: المنزلة، والرفعة، والكرامة، يقول: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، أي: جعل له عنده منزلة وكرامة لم يجعل مثلها لأحد من الخلائق؛ لما ابتلاه اللَّه ببلايا، وامتحنه بمحن لم يبتل أحدًا بمثلها، فصبر عليها، من ذلك: ما أُلقي في النار، فصبر، ولم يستعن بأحد سواه، وما ابتلي بذبح ولده، فأضجعه، وما أمر أن يترك أهله وولده الطفل في جبال مكة: لا ماء هنالك، ولا زرع، ولا نبات؛ ففعل، ومن ذلك أمر المهاجرة. . . مما يكثر ذلك؛ فجائز تخصيصه بالخلة لذلك، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون ذلك كرامة أكرمه اللَّه بها؛ لأن أهل الأديان كلهم ينتسبون إليه، ويدَّعون أنهم على دينه، وعلى ذلك يخرج قوله: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ

مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. قيل: خص هو بهذين الوجهين اللذين ذكرتهما في الخلة. وقيل: إنه اتخذه خليلا؛ لأنه كان يعطي ولا يأخذ، وكان يحب الضيف، وكان لا يأكل وحده وإن بقي طويلا، واللَّه أعلم بذلك. وأصل الخلة ما ذكرنا من الكرامة والمنزلة؛ لأن من يحب آخر يبره ويكرمه، ومن لا يحبه يعادهِ، ويظهر له الجفاء، ولا قوة إلا باللَّه. واختلف في المعنى الذي وصف إبراهيم - عليه السلام - بالخلة أنه خليل اللَّه: فقد قيل: بما سخت نفسه في بذل كل لذة من لذات الدنيا لله، وله تَبَوِّء في مكان إتيان الأضياف وأبناء السبيل، وكان لا يأكل وحده، وكانت عادته التقديم بكل ما يتهيأ له عند نزول الأضياف عليه، والابتداء بذلك قبل كل أمر، والقيام للأضياف مع عظم منزلته؛ أيد ذلك أمر الملائكة الذين جاءوه بالبشارة، واللَّه أعلم. وقيل: إنما امتحنه اللَّه بأمور فصبر عليها؛ نحو النار أُلقى فيها لله، وذبح الولد، والهجرة مرتين، وبذل الأهل والولد للَّهِ، حيث لا ضرع، ولا زرع، ولا ماء، وغير ذلك مما أكرمه اللَّه - تعالى - بالثناء عليه: بوفاء ما امتحن، وإتمام ما ابتلي من قوله: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)، وفي قوله - تعالى -: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ). ويحاج فرعونه وجميع قومه، ويجادلهم فيمن يعبدونهم، فغلبهم، وألزمهم حجة اللَّه، وغير ذلك من وجوه المحن. وقيل: بما به كان بدء البيت الذي جعله اللَّه قيامًا للناس، ومأمنًا للخلق، ومثابًا لهم ومنسكًا؛ فعظم شأنه فيما بالخلق إليه حاجته في أمر الدِّين؛ وعلى ذلك أكرمه اللَّه - تعالى - بميل القلوب إليه، وإظهار التدين بدينه من جميع أصناف أهل الأديان، واللَّه

أعلم. وقيل: إنما هو: لله خصائص في أهل الخيرة من الرسل وأولي العزم منهم: اختصهم بأسماء عرفن في الفضائل والكرامات، نحو القول بكليم اللَّه، وروح اللَّه، وذبيح اللَّه، وحبيب اللَّه؛ فعلى ذلك كان لإبراهيم - عليه السلام - خصوصية في الاسم؛ فسماه الله خليلا؛ فنحن نقول - وباللَّه التوفيق -: ونحن نعلم بأن اللَّه - تعالى - لا يسميه بالذي ذكر عبثًا باطلا؛ ولكنه سماه به تعظيمًا لقدره، وإظهارًا لكرامته، وبيانًا لمنزلته عنده لما شاء من الوجوه التي لعلها لم يطلع عليها من الخلق، ولا يحتمل أن يدرك ذلك إلا بالوحي؛ فحق ذلك علينا تعظيمه ومعرفته بالذي اختصه اللَّه واصطفاه، دون تكلف المعنى الذي له كان ذلك، مع ما لا وجه ولا معنى صار حقيق ذلك وأكرم به، إلا بمعنى أكرمه اللَّه وأكرمه بفضل اللَّه ورحمته؛ فلله أن يبتدئه بالخلة ثم يكرمه بأنواع الكرامات التي هي آثار الخلة، وأن يكرمه بأنواع الكرامات التي لديها تقع كرامات الخلة ويصلح، ولله المنُّ في ذلك والفضل، وعلينا الحمد لله والشكر؛ بما أكرمنا من معرفة كرام خلقه، وجعل قلوبنا عامرة بمودتهم حتى صاروا - بفضل اللَّه ورحمته - أحب إلينا من أمسِّ الخلق بنا، بل من أنفسنا، ولا قوة إلا باللَّه. ثم ليس للنصارى ادعاء البنوة للَّهِ من حيث الكرامة على الاعتبار بالخلة؛ لأن اللَّه - سبحانه وتعالى - عظم أمر الأولاد حتى جعله كالشرك، ولا كذلك أمر الخلة، ولأن أمر الأولاد حقه المجانسة، والخلة حقه الموافقة. ثم أصل الأولاد: الشهوة والحاجة، والخلة: الطاعة والتعظيم، مما يرجع أحد الوجهين إلى شهوة الولد وحاجته، والآخر إلى تعظيم يكون من ذلك العبد وتبجيله والطاعة له والخضوع. ثم الأصل: أن المعنى الذي تقتضيه الخلة قد يجوز أن يظفر كلٌّ بالطاعة، وإن كان الاسم له في حق النهاية؛ نحو قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ. . .) الآية وقوله - تعالى -: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)، والمحبة قريبة من الخلة، ومحال أن يحق معنى الأولاد والبنوة بشيء من الطاعة؛ لذلك اختلف الأمران، واللَّه أعلم.

(126)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (126) تأويل هذه الآية - واللَّه أعلم - أنه وإن أكرمهم وأعظم منزلتهم عنده وأعلاها - فإنهم لم يأنفوا عن عبادته، ولم يخرجوا أنفسهم من أن يكونوا عبيدًا؛ بل كلما ازداد لهم عند اللَّه - واللَّه أعلم - منزلة وقدر - كانوا أخضع له وأطوع؛ كقوله - تعالى -: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)، وفي موضع آخر: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) أي: أحاط بكل شيء علمه، وهو يخرج على الوعيد، أي: عن علم منه خلقهم لا عن جهل بصنيعهم كملوك الأرض، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - أيضًا: (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) وبصيرًا، وعليما، ونحو ذلك، يخرج على التوعيد والتخويف؛ ليكونوا مراقبين له، حذرين؛ كمن يعلم في الأمور أن عليه رقيبًا، واللَّه أعلم. ويخرج على الابتلاء: أنه أمر من يكتب الأعمال لا للخفاء عليه، لكن بما إذ لا يمتحن لحاجة به؛ ولكن لمصلحة عباده، فيمتحن بما شاء، فامتحن أُولَئِكَ الكتبة بما يكونون أبدًا متيقنين ناظرين، لا يغفلون عن ذلك؛ طاعة منهم لله. والثاني: أن يكون العلم بمن يكتب عليه كل أمره -فيما جُبل عليه البشر- أذكر له وأشد في التنبيه؛ فجرى حكم اللَّه في ذلك؛ إذ أمر المحنة موضوع على المصلحة، وذلك أبلغ في الوجود، واللَّه أعلم. ويخرج على أن اللَّه - تعالى - كان بذلك محيطًا؛ ليعلموا أنهم لا يتركون سُدى، بل يحصى عليهم للجزاء، واللَّه أعلم. وجملة ذلك: أن اللَّه - تعالى - قال كان كذا؛ ليعلم أنه لا عن جهل خلق الخلق وبعث الرسل، وأنشأ الآيات، مما عليه أمر الخلق أنهم كيف يعاملون من ذكرت، وذلك خارج على حد الحكمة، وإن كان لا يعرفون في بعث الرسل إلى من يكذبهم، ولا تقوية الأعداء على ما به قهر الأولياء، ولا الأمر والنهي لمن يعلم أنه لا يأتمر ولا ينتهي - كبيرَ حكمة، وبما كان ذلك من اللَّه فهو خارج على حد الحكمة؛ إذ ذلك كله من الخلق يقع لحاجة أو

(127)

لمنفعة ترجع إليهم؛ فإذا ناقض .. خرج الفعل من الحكمة. فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - يمتحن عباده، ويبعث الرسل - عليهم السلام - لحاجة بالمبعوث إليهم وبالممتحنين، ولمنافع ترجع إليهم؛ فيكون ذلك منه كهدايا؛ فمن لا يقبلها فنفسه يضر ولحقها يبخس، لا أن يرجع إليه ذلك؛ فزال ذلك المعنى الذي له خرج الفعل من الخلق عن حد الحكمة؛ فلزم القول بموافقة الحكمة والمصلحة، ولا قوة إلا باللَّه. * * * قوله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ. . .) الآية. ذكر الاستفتاء في النساء، وليس فيه بيان عما وقع به السؤال؛ إذ قد يجوز أن يكون في الجواب بيان المراد في السؤال، وإن لم يكن في السؤال بيان؛ نحو قوله - تعالى -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ)؛ دل الأمر باعتزال النساء في المحيض - على أن السؤال عن المحيض إنما كان عن الاعتزال، وإن لم يكن في السؤال بيان المراد؛ وكذلك قوله - تعالى -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ. . .) الآية؛ دل قوله: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ) وعلى أن - السؤال إنما كان عن مخالطة اليتامى، وكقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)؛ دل قوله: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) وعلى أن السؤال عن الخمر والميسر - ما ذكر في الجواب من الإثم، وإن لم يكن في السؤال بيان ذلك. ثم قوله - تعالى -: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) ليس في السؤال ولا في الجواب بيان ما وقع به السؤال؛ فيحتمل أن يكون السؤال في أمورهن جميعًا: في الميراث وغير ذلك من الحقوق، ثم ذكر واحدًا فواحدًا؛ كقوله - تعالى -: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ)، كقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا

وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) الآية، هذا في الميراث. وأما في الحقوق فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). ويحتمل غيرها من الحقوق سوى حقوق النكاح، فترك البيان في الجواب؛ لما ذكر واحدًا فواحدًا في غيرها من الآي؛ إذ الجواب خرج مخرج العدة أنه يفعل بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُفتِيكُمْ)، وقد فعل هذا، واللَّه أعلم. ويحتمل غير هذا: وهو أن يترك البيان في السؤال والجواب؛ لنوازل يعرفها أهلها، لم يحتج إلى بيان ما وقع به السؤال؛ لمعرفة أهلها به. ويحتمل ما قاله أهل التأويل: وهو أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد؛ وإنما كانوا يورثون المقاتلة من الرجال والذين يحرزون الغنائم، فلما بين اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - للنساء وللصغار نصيبًا في الأموال، وفرض لهم حقًّا، سألوا عند ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ)، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - وذكر القصة هكذا، واللَّه أعلم. ويحتمل: أن يكون السؤال وقع عن يتامى النساء؛ ألا ترى أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) الآية. قيل: كانت اليتيمة في حجر الرجل ذات مال؛ يرغب عن أن يتزوجها لدمامتهما، ويمنعها عن الأزواج؛ رغبة في مالها، وهكذا روي عن عائشة، رضي اللَّه عنها. وعلى ذلك يخرج قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. . .) الآية. وقوله: (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ) هذا - واللَّه أعلم - كأنه معطوف، على قوله: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ)، والمستضعضون من الولدان، على ما ذكرنا من الميراث والحقوق. (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) في إبقاء حقوقهم وأداء ما لهم عليكم.

(128)

(وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) فيجزيكم به، أو كان به عليما: من يفعل الخير ومن لا يفعل الخير، واللَّه أعلم. وعن الحسن في قوله: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ)، أي: ترغبون عن نكاحهن. وعن ابن سيرين: لا يرغب في نكاحها؛ لدمامتها، ولا يزوجها غيره؛ رغبة في مالها. وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى -: (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ. . .) الآية، وقوله - تعالى -: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى. . .) الآية. وني قوله - تعالى -: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) دلالة أن للولي أن يزوج اليتيمة الصغيرة؛ لأنه لو لم يكن له ذلك - لم يكن للعتاب على ترك تزويجهن من غيرهم معنى. فَإِنْ قِيلَ: اسم اليتيم يقع على الصغيرة والكبيرة جميعًا؛ فلعل المراد من اليتيمة: الكبيرة هاهنا، قيل: هو كذلك، غير أن الغالب يقع على الصغائر منهن، واللَّه أعلم. وفيه دلالة؛ أن الكاح قد يقوم بالواحد؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ)؛ فلو لم يكن له أن يتزوجها - لم يكن لهذا العتاب معنى؛ دل أن له أن ينكح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا ... ) قيل: خافت، أي: علمت من بعلها نشوزا. وقيل: الخوف - هاهنا - خوف لا غير، فمن قال بالخوف فهو حمل على أن يظهر لها منه جفاء؛ يجفوها لدمامتها أو لكبرها، ويسيء صحبتها؛ لترضى بالفراق عنه؛ ليتزوج غيرها، وهو الخوف حقيقة. وهكذا روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: [إنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ خشيت أن يطلقها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فجعلت يومها لعائشة - رضي اللَّه عنها - فأنزل اللَّه - تعالى] (¬1): (وَإنِ ¬

_ (¬1) الثابث في البخاري وغيره أنها وهبت ليلتها لعائشة - رضي اللَّه عنهما - لا أنها خشيت أن يطلقها رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - وهذا نص الحديث في البخاري - رحمه اللَّه -: 5212 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ» وكيف يصح ذلك والنبي - صلى اللَّه عليه وسلم - لم يكن ملزمًا بالعدل في القسمة بين أزواجه لقوله تعالى (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ). اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا. . .) الآية. ثم قال: فهذا الصلح الذي أمر اللَّه. فجعل الخوف - هاهنا - خشية. وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: هي المرأة تكون عند الرجل دميمة، ولا يحبها زوجها؛ فتقول: لا تطلقني، وأنت في حِلٍّ من شأني. وقيل: (خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا) أي: علمت، والعلم هو أن يكون للرجل امرأتان: إحداهما كبيرة أو دميمة، والأخرى شابة، يميل قلبه إلى الشابة منهما، ويكره صحبة الكبيرة منهما، ويستثقل المقام معها، وأراد فراقها؛ فتقول: لا تفارقني، واجعل أيامي لضرتي، أو يصالحها على أن يكون عند الشابة أكثر من عند الكبيرة، وهو ما روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: هي المرأة تكون عند الرجل دميمة، ولا يحبها أزوجها؛ فتقول: لا تطلقني، وأنت في حِلٍّ من شأني. فالخوف هو ما يظهر لها من نشوزه قبل تزوج أخرى - بأعلام، والعلم هو ما يظهر من ترك مضاجعته إياها، وسوء صحبته معها. وعلى هذين الوجهين رُوي عن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - عن بعضهم: يكون عند الرجل امرأتان: إحداهما كبيرة، والأخرى شابة؛ فيؤثر الشابة على الكبيرة؛ فيجري بينهما صلح على أن يمسكها ولا يفارقها على الرضا منها بإبطال حقها أو بدونه، وهو ما روينا من خبر ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن سودة - رضي اللَّه عنها - جعلت أيامها لعائشة - رضي اللَّه عنها - خشية أن يفارقها. وكذلك رُوي عن عمر، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتاه رجل يستفتيه في امرأة خافت من بعلها نشوزًا؛ قال: هي المرأة تكون عند الرجل؛ فتنبو عيناه من دمامتها أو كبرها، أو فقرها، أو سوء خلقها؛ فيكون فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئًا حل له، وإن جعلت من أيامها شيئًا لغيرها فلا حرج.

دلت هذه الأحاديث التي ذكرنا على أن الرجل إذا كان له نسوة أن يسوي بينهن، فيقيم عند كل واحدة يومًا، إلا أن يصطلحا على غير ذلك، والصلح خير، كما قال اللَّه، عز وجل. وبين قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ... ) أن على الرجل -وإن عدل بين نسائه في قسمة الأيام- ألا يخلي إحداهن من الوطء، واللَّه أعلم. ولا يكون وطؤه كله لغيرها، وتكون الأخرى كالمعلقة التي ليست بأيم ولا ذات زوج، لكنها إذا رضيت بإبطال حقها أو بدون حقها فإنه لا حرج على الزوج في ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) يحتمل: أن يكون رفع الحرج عن الزوج خاصة، وإن كان الفعل مضافًا إليهما؛ إذ ليس للمرأة لْي ترك حقها حرج، وكذلك قوله - تعالى -: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ليس على المرأة جناح في الافتداء؛ لأنها تفتدي بمالها، ولها أن تُمَلِّكَ على مالها من شاءت؛ فكأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: فلا جناح عليه في أخذ ما افتدت، أو في إبطال حقها إذا رضيت. ويحتمل: أن يكون على ما ذكر، وهو أن لا حرج على المرأة المقام معه وإن استثقل الزوج ذلك ويكره صحبتها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ). عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: شحت المرأة بنصيبها من زوجها أن تدعه للأخرى، وشح الرجل بنصيبه من الأخرى. وقيل: الشح: الحرص، وهو أن يحرص كل على حقه. وكان الشح والحرص واحد، وإن كان أحدهما في المنع، والآخر في الطلب؛ لأن البخل يحمله على الحرص، والحرص يحمله على المنع، وكل واحد منهما يكون سببًا للآخر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا) في أن تعطوهن أكثر من حقهن، وتتقوا في ألا تبخسوا من حقهن شيئًا.

(129)

ويحتمل: (وَإِنْ تُحْسِنُوا) في إبقاء حقهن، والتسوية بينهن، وتتقوا الجور والميل، وتفضيل بعض على بعض. ويحتمل: (وَإِنْ تُحْسِنُوا) في اتباع ما أمركم اللَّه من طاعته، وتتقوا عما نهاكم اللَّه من معاصيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) على الترغيب والوعيد، وقد ذكرنا معناه في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ... (129) عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ) في إيفاء الحق أن يستوي في قلوبكم الحب (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على العدل؛ لا تقدرون عليه في ذلك. (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ). إلى التي تحب في النفقة والقسم؛ فتأتي الشابة التي تعجبك، وتدع الأخرى بغير قسم ولا نفقة. روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: اللَّهُمَّ أما قلبي فلا أملك، ولكن أرجو أن أعدل فيما سوى ذلك. والعدل - هاهنا - التسوية؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ليس هو ضد الجور؛ ولكن التسوية: يسوون بين ربهم وبين الأصنام في العبادة. وعن عبيدة قال: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) في الحب. وروي عن أبي قلابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يعدل بين نسائه في القسمة ويقول: " اللَّهُمَّ هذه قِسمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا تَمْلِكُ أَنْتَ وَلَا أَمْلِكُ.

(130)

وأصل ذلك: أن في كل ما كان المرء مدفوعا مضطرًّا - فإنه غير مكلف في ذلك، وفي كل ما كان باختيار منه وإيثار غير عليه - فإنه مكلف في ذلك، والحب مما يدفع المرء فيه ويضطر، ولا صنع له فيه، لم يكلف التسوية فيما يكون مدفوعًا فيه مضطرا؛ لأنه لا يملك التسوية، وعلى هذا يخرج قولنا: إن الكافر مكلف بالإيمان في حال الكفر؛ لشغله به، واختاره فعل الكفر، ليس كالمضطر، وقد ذكرنا - فيما تقدم -: أن الاستطاعة تكون على ضربين: استطاعة أحوال وأسباب، واستطاعة أفعال، والاستطاعة التي هي استطاعة الأحوال والأسباب من نحو الصحة والسلامة وغيرهما يجوز فبل ومع وبعد، وأما استطاعة الأفعال فإنها لا تكون إلا مع الفعل، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ): في النفقة والقسمة، معناه: لا يحملنكم شدة الحب والميل بالقلب أن تتركوا الإنفاق عليها وإيفاء الحق، أعني: حق القسم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) ليست بأيم ولا ذات بعل، ليست هي بأيم تتكلف هي مؤنتها كما تتكلف الأيم، ولا ذات بعل يتحمل البعل مؤنتها. وفي حرف أبي بن كعب: " فتذروها كالمسجونة "، وهو ما ذكرنا: لا ينفق هو عليها، ولا يطلقها؛ لتتزوج زوجًا آخر، فهي كالمحبوسة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) هو ما ذكرنا في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) هذا ينقض قول من يقول: إنه لم يكن رحيمًا ثم صار رحيمًا؛ لأنه أخبر أنه كان رحيمًا، وهو يقول: صار رحيما، وباللَّه العصمة. ثم المسألة: بأن المرأة إذا جعلت أيامها لضرتها، كان لها أن ترجع وتفسخ ذلك؛ لأنها جعلت لها ما لم يجب بعدُ ولم يلزم؛ فكان كمن أبرأ آخر عن حق لم يجب بعد، فإن إبراءه - باطل، له أن يعود إليه، فيأخذه به إذا وجب؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ... (130)

أي: الزوجان إن تفرقا؛ لما لم يقدر الزوج على التسوية بينهن (يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ): المرأة تتزوج آخر، والرجل بامرأة أخرى. ويحتمل: (كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) أن كل واحد منهما -وإن كان غنيا بالآخر في حال النكاح- فاللَّه قادر على أن يغني كل واحد منهما بعد الافتراق، كما كان يرزق قبل الفراق. وفيه دليل قطع طمع الارتزاق من غير اللَّه، وإن جاز أن يجعل غيره سببًا في ذلك؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ)؛ ليعلم كلٌّ أن غناه لم يكن بالآخر؛ حيث وعد لهما الغناء، وكذلك في قوله - تعالى -: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ. . .) إلى قوله - تعالى -: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) - دليل قطع طمع الارتزاق بعضهم من بعض في النكاح؛ لما وعد لهم الغناء إذا كانوا فقراء. وفيه دليل وقوع الفرقة بينهما بالمرأة، بالمكنى من الكلام؛ لمشاركتهما فيه، وإن كان الزوج هو المنفرد بالفراق؛ لما أضاف الفعل إليهما بقوله: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ) وكذلك قوله - تعالى -: (فَارقُوهُنَّ)، و (سَرِّحُوهُنَّ)، واللَّه أعلم. وفيه دليل لزوم النفقة في العدة؛ لأنه ذكر الافتراق، والفراق إنما يكون بانقضاء العدة، ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن غناء كل واحد منهما بالآخر قبل الفراق؛ دل أن للمرأة غناء بالزوج ما دامت بالعدة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) قيل: واسعًا: جودًا. وقيل: واسعًا: يوسع على كل منهما رزقه، (حَكِيمًا) حكم على الزوج: إمساكًا بمعروف أو تسريحًا بإحسان. وقيل: حكيمًا؛ حيث حكم فرقتهما. وأصل الحكيم: أن يضع كل شيء موضعه. * * * قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)

(131)

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ... (131) وصى الخلق كلهم: (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)، ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ. . .). قيل: وصينا: أمرنا. وقيل: وصينا: فرضنا على الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم: (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)، قيل: أي أمرناهم أن يوحدوا اللَّه ويتقوا الشرك. وقال مقاتل: (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)، أي: وحدوا اللَّه. وقيل: قوله - تعالى -: (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)، أي: أطيعوه فيما أمركم ونهاكم عنه. ويحتمل: (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)، أي: اتقوا عذاب اللَّه ونقمته، ولا تعبدوا غيره دونه (وَإن تَكْفُرُوا). ولم تتقوا فيما أمركم اللَّه ونهاكم. (فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ذكر هذا على أثر قوله: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)؛ ليعلموا أنه لم يأمرهم بذلك لحاجة له في عبادتهم، ولم يأمر لمنفعة نفسه؛ إذ من له ملك ما في السماوات وما في الأرض لا يحتاج إلى آخر ينتفع به؛ ولكن ليعلموا أنه - تعالى - إنما أمرهم بذلك لحاجتهم في ذلك، ولمنفعة أنفسهم؛ ألا ترى أنه قال - عز وجل -: (وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) غنيًّا عن عبادتكم له وطاعتكم إياه، وحميدًا في سلطانه، ويكون غنيًّا عن خلقه في الأزل، حميدًا في فعله، وذلك الحميد في الفعل يخرج على إتقان الفعل وإحكامه، أو على إحسانه إلى خلقه، وإنعامه عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) هو ما ذكرنا من غنائه عن عبادة خلقه وطاعتهم له.

(133)

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ... (133) تأويله واللَّه أعلم -: أي من له ما في السماوات وما في الأرض يقدر أن يذهبكم، أي: يهلككم، ويأتي بآخرين أخير منكم، وأخوف وأطوع لله منكم، لكنه لا يفعل؛ لأنه غني عن عبادتكم وطاعتكم، لم يخلقكم في الابتداء لحاجته في عبادتكم أو لمنفعة له؛ ولكن لحاجة أنفسكم ومنافعكم، واللَّه أعلم. ثم يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ): في قوم خاص، كما كان في الأمم الخالية من الإهلاك عند المعاندة والمكابرة. ويحتمل في الكل (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ)، أي: يهلككم: الكل، ويأت بآخرين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا) أي: كان اللَّه على الإهلاك والإبدال قديرًا، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ... (134) قال بعض أهل التأويل: من كان يريد بعمله الذي يعمله عرَض الدنيا، ولا يريد به اللَّه - آتاه اللَّه ما أحب من عرض الدنيا، أو دفع عنه ما أحب في الدنيا؛ فليس له في الآخرة من ثواب؛ لأنه عمل لغير اللَّه، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)، ومن أراد بعمله الذي يعمله في الدنيا، ثواب الآخرة - آتاه اللَّه - تعالى - من عرض الدنيا ما أحب، ودفع عنه، وجزاه في الآخرة الجنة؛ بعمله في الدنيا، واللَّه أعلم. وتحتمل الآية -غير هذا- وجوهًا كأنها أشبه من هذا: أحدها: أنهم كانوا يتخذون من دون اللَّه آلهة يعبدونها؛ طلبًا للرياسة والعز والشرف؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)، فأخبر أن العز والشرف ليس في ذلك؛ ولكن عند اللَّه عز الدنيا والآخرة. والثاني: أنهم كانوا يعبدون الأوثان والأصنام، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) ويقولون:، (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)؛ فأخبر أن ليس في عبادتكم هذه الأوثان دون اللَّه - لكم زلفى، ولا ثواب، ولكن اعبد اللَّه؛ فعنده الدنيا والآخرة.

(135)

والثالث: يحتمل: أن يكونوا عبدوا هذه الأصنام؛ لمنافع يتأملون بذلك في الدنيا والسعة في الدنيا؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ. . .) الآية؛ فعلى ذلك قوله - عز وجل -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) لا عند من تطلبون. ويحتمل أن تكون الآية في أهل المراءاة والنفاق، الذين يراءون بأعمالهم الصالحة في الدنيا؛ يريدون ثواب الدنيا لا غير، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا). لمقالتكم (بَصِيرًا). بما تريدون وتعملون، وهو وعيد. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ. . .) الآية. عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت: من قريب أو بعيد، ولو على نفسه فأقر بها، وكذلك قال عامة أهل التأويل قوله: (قَوَّامِينَ): قوالين لله، ولكن يكون في كل عمل وكل قول يلزم أن يقوم لله، ويجعل الشهادة له؛ فإذا فعل هكذا - لا يمنعه عن القيام بها قربُ أحد ولا بعده، ولا ما يحصل على نفسه أو والديه، وكذلك قال اللَّه - تعالى - في آية أخرى: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) فإذا جعلها للَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لم يجعلها للمخلوق، أمكن له القيام بها،

وإن كان على نفسه أو من ذكرتم ما يمنع القيام بها فهو مختلف: أما على نفسه؛ لنفع يطمع أو لدفع ضرر يدفع بذلك، وأما على الوالدين بالاحتشام يحتشم منهما؛ فيمتنع عن أداء ما عليه، وأما القرابة: بطلب الغناء لهم ودفع الفقر عنهم؛ فأخبر أنه أولى بهم؛ فلا يمنعك غناء أحد منهم ولا فقره - القيامَ بها، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - في تأويل هذه الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) قيل فيه بوجهين: قيل: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) وتعملوا لغير اللَّه. وقيل: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى)؛ كراهة أن تعدلوا. ويحتمل: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا): عن الحق من الصرف بالعدول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) فيه لغتان: " تلُوا " بواو واحدة، من الولاية؛ يقول: كونوا عاملين للَّهِ، وقائلين له، مؤدين الشهادة له، وإن كنتم وليتم ذلك. وقيل: " تَلْوُوا " بواوين، من التحريف؛ يقول: لا تتبعوا الهوى، ولا تحرفوا الشهادة، ولا تعرضوا عنها وتكتموها. وفي حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " إن يكونوا غنيا أو فقيرًا فاللَّه أولى بهما ". وعن قتادة - رضي اللَّه عنه -: فاللَّه أولى بهما، يقول: اللَّه أولى بغنيكم وفقيركم؛ فلا يمنعكم غناء غنى أن تشهد عليه لحق علمته، ولا أمر ثبت لفقير أن تشهد عليه بحق علمته. وفي حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا)، وهو من الولاية التي ذكرنا.

(136)

وقيل: وإن تلووا: من التحريف وطلب الإبطال. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا بين الناس "، وهو من العدل؛ على ما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الصرف والعدول عن الحق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) خرج على الوعيد، على كل ما ذكر: من منع الشهادة، والقيام للَّهِ بها، وتحريف ما لزمهم، وباللَّه العصمة. وبمثل ذلك رُوي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخرِ فَلْيُقِم شَهَادَتَهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّه وَالْيَومِ الْآخِرِ فَلَا يَجْحَدْ حَقًّا هُوَ عَلَيهِ، وَلْيؤُده عفوًا، وَلَا يُلْجئْهُ إِلَى سُلْطَانٍ، وَلَا إِلَى خُصُومَةٍ لِيَقْطَعَ بِهَا حَقَّهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ خَاصَمَ إِلَيَّ فَقَضَيتُ لَهُ عَلَى أَخِيهِ بِحَق لَيسَ هُوَ لَهُ عَلَيهِ - فَلَا يَأْخُذنَّهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعةً مِنْ جَهَنَّمَ ". وروي في خبر آخر: " يَا ابْنَ آدَمَ، أَقِمِ الشهَادَةَ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ، أَوْ عَلَى قَرَابَتِكَ، أَوْ شَرَفِ قَوْمِكَ؛ فَإِنَّمَا الشَهَادَةُ للَّهَ وَلَيسَتْ للنَّاسِ، إِنَّ اللهَ رَضِي بِالْعَدْل والإقْسَاطِ لِنَفْسِهِ، وَالْعَدْلُ مِيزَانُ اللهِ فِي الأَرْضِ: يَرُدُّ عَلَى الْمَظْلُومِ مِنَ الظَالِمِ، وَعَلَى الضَّعِيفِ مِنَ الشَدِيدِ، وَعَلَى الْمُحِقِّ مِنَ الْمُبطِلِ، وَبِالْحَق يُصَدقُ اللهُ الصادِقَ، وَيُكَذبُ اللهُ الكَاذِبَ، وًيرُدُّ المُعْتَدِي وُيوَبِّخُهُ، وَبِالْعَدْلِ أَصْلَحَ اللهُ النَّاسَ ". * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ). يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) - وجوهًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا)، فيما مضى من الوقت، آمِنوا في حادث الوقت. ويحتمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا آمِنُوا)، أي: اثبتوا عليه. ويحتمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا) بألسنتكم، (آمِنُوا) بقلوبكم؛ كقوله - تعالى -: (آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).

ويحتمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) عند رؤية البأس والعذاب، (آمِنُوا) في الحقيقة؛ كقوله - تعالى -: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ). ويحتمل وجهًا آخر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ببعض الرسل، (آمِنُوا) بالرسل كلهم كما آمن المؤمنون؛ كقوله - تعالى -: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)، وهم كانوا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ). ويحتمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث، (آمِنُوا) به إذا بعث؛ لأنهم كانوا يؤمنون به قبل أن يبعث، فلما بعث تركوا الإيمان به؛ كقوله - تعالى -: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ). (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) يعني: محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. (وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ). أي: آمنوا بالكتاب الذي نزل على رسوله، وهو مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. (وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ). أي: آمنوا -أيضًا- بالكتب السماوية التي أنزلها اللَّه، تعالى. ثم الإيمان باللَّه حقيقة - إيمانٌ بجميع الرسل والكتب؛ لأن كل نبي كان يدعو إلى الإيمان بجميع ذلك، وكذلك في كل كتاب من الكتب السماوية دعاء إلى الإيمان بجملتهم؛ ألا ترى أن الكفر بواحد منهم - كفرٌ باللَّه وبجميع الرسل والكتب وما ذكر، وباللَّه العصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .) والآية. يحتمل هذا وجهين: يحتمل: ومن يكفر بجميع ما ذكر؛ (فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا)، وهو على التأكيد. ويحتمل: ومن يكفر باللَّه أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر؛ فقد كان ما ذكر؛ لأن الكفر بواحد من ذلك كفْرٌ بالكل، حتى لو أنكر آية من آيات اللَّه - تعالى - كفر باللَّه، وبالكتب وبالرسل كلها، واللَّه الموفق. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)

(137)

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ. . . (137) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت الآية في الذين قال اللَّه - تعالى - في سورة آل عمران: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ). وقيل: إنها نزلت في الذين آمنوا بموسى - عليه السلام - ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعُزَير، ثم كفروا بعده، ثم آمنوا بعيسى - عليه السلام - وبالإنجيل، ثم كفروا من بعده، ثم ازدادوا كفرًا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالقرآن الكريم. وهو الأولى. وقيل غير هذا، لكن ليس بنا إلى أنها فيهم نزلت حاجة، ولكن فيه دليل أنها في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا ولا يتوبون؛ لأنه قال: (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) أخبر أنه لا يغفر لهم، وهو كقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)؛ لما علم اللَّه أنهم لا يتوبون؛ وإلا لو آمنوا وتابوا قبلت توبتهم؛ فعلى ذلك الأول؛ لما علم اللَّه أنهم لا يتوبون، ويموتون على ذلك - أخبر أنه لا يغفر لهم. وفيه دليل أنه تقبل توبة المرتد إذا تاب، ليس -كما قال بعض الناس- أنه لا تقبل توبة المرتد؛ لأنه أثبت لهم الإيمان بعد الكفر والارتداد بقوله: (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا

ثُمَّ آمَنُوا) ثم كذا؛ فدل أنه إذا تاب يقبل منه. وقال أصحابنا: يستتاب المرتد ثلاثًا؛ فإن أسلم وإلا قتل. روي عن علي بن أبي طالب - رضي اللَّه عنه - قال: يستتاب المرتد ثلاثًا. ثم تلا هذه الآية. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كذلك. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قدم عليه رجل من الجيش، فقال: هل حدث لكم حدث؟ فقال: إن رجلا من المسلمين ارتد ولحق بالمشركين فأخذناه. فقال: ما صنعتم به؟ قالوا: قتلناه. قال: هلا أدخلتموه بيتًا، وأغلقتم عليه بابا، وأطعمتموه كل يوم رغيفًا، واستتبتموه ثلاثًا؛ فإن تاب وإلا قتلتموه. ثم قال: اللَّهُم إني لم أشهد، ولم آمر، ولم أرضَ حين بلغني. وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا ارتد ثلاثًا، ثم تاب في كل مرة - فإنه يحبس في الثالثة إذا تاب؛ حتى يظهر منه خشوع التوبة، وذلك أثر الثبات على توبته؛ فإن ظهر ذلك، فحينئذ يخلى سبيله؛ لما يحتمل أن تكون توبته فرارًا من القتل؛ فيحبس حتى تظهر حقيقة توبته؛ لأنه أظهر الفسق، والفاسق يحبس حتى يظهر خشوع التوبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) لا يحتمل أن يكون أراد بقوله: (وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) - البيان؛ على ما قاله قوم؛ لأنه قد تولى لهم البيان، لكنهم تعاندوا ولم يهتدوا؛ فدل أن ثم معنى منه سوى البيان لم

(138)

يعطهم؛ لما علم أنهم لا يهتدون أبدًا، وهو التوفيق، فهذا يرد على من لا يجعل الهدى إلا بيانًا؛ إذ قد بين لهم ذلك. * * * قوله تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ) بكذا. البشارة المطلقة المرسلة لا تكون إلا بالخير خاصة، وأما إذا كانت مقيدة مفسرة فإنها تجوز في الشر؛ كقوله - تعالى -: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ) كذا، وكذلك قوله - تعالى -: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وفي القرآن كثير، ما ذكرها في الشر إلا مفسرة مقيدة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ) - يدل هذا على أن الآية الأولى في أهل النفاق والمراءاة، علي ما ذكرنا من التأويل؛ لأنه لم يسبق فيما تقدم ذكر لهم سوى قوله - تعالى -: (آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولَهِ). ويحتمل على الابتداء والانتناف على غير ذكر تقدم، وذلك جائز في القرآن كثير. ثم فسر المنافقين فقال: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ثم يحتمل قوله - تعالى -: (يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) قولا وفعلا: أما القول: كقولهم: (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)، وغيره من الآيات. وأما الفعل: فكانوا يمنعون المؤمنين أن يغزوهم؛ كقوله - تعالى -: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ)، وكقوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)، وكقوله - تعالى -: (فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)، كانوا يمنعون أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين عن أن يغزوهم ويقاتلوهم؛ فهم - وإن كانوا يُرُون

(140)

من أنفسهم الموافقةَ للمؤمنين في الظاهر -فإنهم كانوا في الحقيقة- معهم؛ فهذا - واللَّه أعلم - تأويل قوله: (يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ). قيل: قوله - تعالى -: (أَيَبْتَغُونَ) على طرح الألف وأنها زائدة، أي: يبتغون بذلك من عندهم العزة. ثم يحتمل قوله - تعالى -: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) وجهين: يحتمل: العزة: المنعة والنصرة، وكانوا يطلبون بذلك النصرة والقدرة عند الكافرين. ويحتمل: ليتعززوا بذلك. والأصل: أن حرف الاستفهام كله من اللَّه - له حق الإيجاب، على ما يقتضي جوابه من حقيقة الاستفهام؛ إذ اللَّه عالم لا يخفى عليه شيء يستفهم، جل عن ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أي: والنصرة والقدرة، كله للَّهِ، من عنده يكون، وبه يتعزز في الدنيا والآخرة، ليس من عند أُولَئِكَ الذين يطلبون منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا ... (140) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) - هو ما ذكر في سورة الأنعام، وهو قوله - تعالى -: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)، ثم قال: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)؛ لأنه نهاهم - عَزَّ وَجَلَّ - عن القعود معهم إذا خاضوا في طعن القرآن وآيات اللَّه؛ فأخبر أن ليس لهم من حسابهم من شيء إذا قعدوا. ثم قال في هذه الآية: (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ): نهاهم - عَزَّ وَجَلَّ - عن القعود معهم، وأخبر أنهم إذا فعلوا ذلك يكونوا مثلهم؛ فهو - واللَّه أعلم - على النسخ: نسخ هذا الأول. ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)

(141)

في المشركين، لم يلحقهم من العقوبة والمآثم؛ لأنهم لا يقدرون على منع المشركين عن الاستهزاء بآيات اللَّه والطعن فيها، ويقدرون على منع المنافقين عن ذلك؛ فشاركوهم في العقوبة فيما يقدرون على منعهم فلم يمنعوا، ورفع عنهم ذلك فيما لا يقدرون على دفعه. وفيه دلالة أن من بلي بمنكر له قدرة التغيير على أهله، فلم يغير - أن يشاركهم في ذلك، أو إذا لم يكن له قدرة التغيير عليهم فلم يفارقهم، لكن أقام معهم - شاركهم أيضا في العقوبة؛ الواجب على كل من بُلي بذلك، وله قدرة التغيير عليهم - فعل، أي: أنكر عليهم وغيَّره، وإلا فارقهم؛ وإلا يُخاف أن يشاركهم في العقوبة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) الآية. لأنهم كانوا معهم في السر والحقيقة، وإن كانوا يظهرون للمؤمنين الموافقة باللسان؛ فهذا يدل على أن الحقائق في العواقب هو ما يسر المرء ويضمر، ليس ما يظهر؛ لأن المنافقين كانوا مع المؤمنين في الظاهر في جميع الأحكام: في الأنكحة، والعقود كلها، وإظهار الإيمان لهم باللسان، لكنهم إذا أضمروا خلاف ما أظهروا - لم ينفعهم ذلك؛ دل أن الحقائق في العواقب ما يسر ويضمر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ... (141) يحتمل وجهين: يحتمل: يتربصون الغنيمة والنصر، فإن كان الفتح للمؤمنين قالوا: (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الإيمان والأحكام كلها؛ يطلبون الغنيمة والاشتراك فيها؛ كقوله - تعالى -: (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) الآية، وإذا كانت الدبرة والبوار على المؤمنين للكافرين يقولون: (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بقولهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)، وكقوله - تعالى -: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا) الآية: كانوا بين المسلمين كعيون لهم؛ يخبرونهم عن عوراتهم، ويطلعونهم على مقصود المؤمنين؛ فذلك مَنْعُهم من المؤمنين واستحواذهم عليهم، واللَّه أعلم. ويحتمل: (يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ)، يعني: أمر مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه عندهم بألا يدوم ذلك،

بل ينقطع عن قريب، واللَّه أعلم. ويحتمل: (يَتَرَبَّصُونَ) ما ذكر من قوله - تعالى -: (وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ)، ثم خرج تأويله في قوله: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ)، ثم خص ذلك بقوله - تعالى -: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ) الآية؛ فبين أنهم يتربصون بهم انقلاب الأمر ورجوعه إلى أعداء اللَّه؛ فمتى ظهرت لهم العواقب - أظهروا الذي له كان دينهم في الحقيقة - أنه كان لسعة الدنيا ونعيمها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ. . .)، وقوله - تعالى -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) الآية. يحتمل هذا -أيضًا- وجهين: يحتمل: لن يجعل اللَّه للكافرين على المؤمنين سبيلا في الحجج في الدنيا، أي: ليس للكافرين الحجة على المؤمنين في الدنيا من شيء، إلا أن يموه عليه، ويفتعل به ويعجز المؤمن في إقامة الحجة عليه، ودفع تمويهاته؛ وإلا ليس للكافر حجة يقيمها على المؤمن في الدنيا. ويحتمل: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) في الآخرة، على دفع شهادتهم التي شهدوا عليهم؛ لأن أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يشهدون عليهم؛ كقوله - تعالى -: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، ثم لا سبيل لهم على دفع شهادتهم التي شهدوا عليهم، وردها، واللَّه أعلم. وأيضًا: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا): في الحجة، أو في الشهادة، أو عند اللَّه في الخصومة، وإنما دعوا إلى كتبهم إذا أجابوا اللَّه فيما دعاهم إلى الإيمان بالكتب والرسل - عليهم السلام - أو في النصر؛ فيرجع أمره إلى العواقب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) الاستحواذ: الغلبة. وقيل: الاستيلاء.

(142)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ألم نخبركم بعورة مُحَمَّد وأصحابه ونطلعكم على سرهم، ونكتب به إليكم؟!. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ألم نحط من وراءكم؟!. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ألم نستحوذ عليكم ومنعناكم من المؤمنين؟! ". قال الكسائي: هذا في كلام العرب كثير ظاهر، ومعنى (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ) - إنا استحوذنا ومنعناكم، وهو ظريف. وأصل الاستحواذ الغلبة والقهر، وهو ما ذكرنا أنهم يُجبنونَ أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقولون: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وحكم اللَّه بينهم - واللَّه أعلم - هو أن يُنزل المؤمنين الجنة، والمنافقين النار. (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) في الحجة؛ على ما ذكرنا، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال: حجة. وقيل: ظهورًا عليهم، لكن الأول أشبه. ويحتمل ما ذكرنا من الشهادة - أنه جعل يوم القيامة للمؤمنين الشهادة عليهم، ولم يجعل لهم إلى دفعها وردها على أنفسهم سبيلا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) وقوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ). يحتمل قوله - تعالى -: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ)، أي: يخادعون أولياء اللَّه أو دينه، فأضيف إليه؛ فهو جائز، وفي القرآن كثير؛ كقوله - تعالى -: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، أي: إن تنصروا دين اللَّه أو أوليائه ينصركم، وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ خَادِعُهُمْ)، أي: يجزيهم جزاء خداعهم المؤمنين؛ فسمي: خداعًا - وإن لم يكن في الحقيقة خداعًا؛ لأنه جزاء الخداع، وهو كما سمى جزاء السيئة:

سيئة، وإن لم تكن الثانية -في الحقيقة- سيئة، وكذلك سمى جزاء الاعتداء: اعتداء، وإن لم يكن الثاني اعتداء؛ فعلى ذلك سمى هذا: خداعًا؛ لأنه جزاء الخداع، واللغة غير ممتنعة عن تسمية الشيء باسم سببه؛ على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. ثم اختلف في جهة الخداع؛ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: يعطى المنافقين على الصراط نورًا كما يعطى المؤمنين؛ فإذا مضوا به على الصراط طفِئ نورهم، ويبقى نور المؤمنين يمضون بنورهم؛ فينادون المؤمنين: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)، فنجوز به؛ فتناديهم الملائكة: (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا)، وقد علموا أنهم لا يستطيعون الرجوع؛ فذلك قوله: (وَهُوَ خَادِعُهُمْ) وكذلك قال الحسن، ثم قال: فتلك خديعة اللَّه إياهم. وقال آخرون: يفتح لهم باب من أبواب الجنة؛ فإذا رأوا ذلك قصدوا ذلك الباب، فلما دنوا منه أغلق دونهم، فذلك الخداع، واللَّه أعلم. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنهم شاركوا المؤمنين في هذه الدنيا ومنافعها، والتمتع والتقلب فيها؛ فظنوا أنهم يشاركونهم في منافع الآخرة والتمتع بها؛ فيحرمون ذلك، فذلك الخديعة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ. . .) الآية. جعل اللَّه - تعالى - للمنافق أعلاما في قوله وفعله يعلم بها المنافق: أما في القول: ما قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)، وقوله: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ)، وقوله - تعالى -: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا. . .) الآية. وأما في الفعل فهو قوله - تعالى -: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)، وقوله: (وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا)، أي القتال، وقوله - تعالى -: (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. . .) الآية، ومثله كثير في القرآن، مما جعل ذلك علامة لهم، وهو كقوله - تعالى -: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ. . .) الآية، وكقوله - تعالى -: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. . .) الآية، يراءون في جميع أفعالهم - الناس.

وفي حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " يراءون الناس واللَّه يعلم ما في قلوبهم ولا يذكرون اللَّه إلا قليلا ". عن الحسن في قوله - تعالى -: (وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) - فقال: أما واللَّه لو كان ذلك القليل منهم للَّهِ لقبله، ولكن ذلك القليل رياء. وقيل: لو كان ذلك القليل لله يريدون به وجهه، فقبله - لكان كثيرًا، ولكن لا يقبله؛ فهو لا شيء. وقد يتكلم بالقليل واليسير على إرادة النفي من الأصل، واللَّه أعلم. وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أحْسَنَ الصلَاةَ حَيثُ يَرَاهُ النَّاسُ، وَأَسَاءَهَا حَيثُ يَخْلُو - فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ يَسْتَهِينُ بِهَا رَبَّهُ ". وروي في علامة المنافق أخبار: روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِن للمُنَافِقِ عَلَامَاتٍ، يُعرَفُونَ بِهَا: تَحِيتُهُم لَعْنَة، وَطَعَامُهُم نُهْبة، وَغَنيمَتُهُم غُلُوا، لَا يَقْرَبُونَ المَسَاجِدَ إِلا هَجْرًا، وَلَا يَأتُونَ الصلَاةَ إِلأ دُبُرًا ". وعن عبد اللَّه بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أَرْبعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وِإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ "، وروي: ثلاث. ورُوي عن عبد اللَّه قال: اعتبروا المنافق بثلاث: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وِإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذا عاهد غدر. ثم قرأ الآيات: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ. . .) الآية. وعن وهب قال: من خصال المنافق: أن يحب الحمد، ويكره الذم.

(143)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ... (143) قال أكثر أهل التأويل: ليسوا بمسلمين مخلصين ولا مشركين مصرحين. وهو -أيضًا- قول قتادة. وقال مقاتل: ليسوا مع اليهود فيظهرون ولايتهم لهم، وليسوا مع المؤمنين في التصديق مع الولاية. ويحتمل غير هذا: وهو أنه لم يظهر لكل واحد من الفريقين منهم الموافقة لهم والكون معهم؛ بل ظهر منهم الخلاف عند كل فريق؛ لأنهم كانوا أصحاب طمع، عُبَّادَ أنفسهم، يكونون حيث رأوا السعة معهم؛ فلا إلى هَؤُلَاءِ في حقيقة الدِّين عند أنفسهم، ولا إلى هَؤُلَاءِ، فذلك - واللَّه أعلم - تأويله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) قيل: حجة؛ على ما قيل في الأول. وقيل: (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا)، يعني: هدى وطريقًا مستقيمًا، واللَّه أعلم. وعن الحسن: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا)؛ ما دام كافرًا؛ فإذا تاب ورجع عن ذلك فله السبيل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... (144) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت في المنافقين الذين اتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين؛ سماهم اللَّه - تعالى - مؤمنين بإقرارهم بالإيمان علانية، وتوليهم الكافرين سرا، أو أن يقال: سموا مؤمنين؛ لما كانوا ينتسبون إلى المؤمنين؛ فسموا بذلك. وقيل: نزلت في المؤمنين، نهاهم أن يتخذوا المنافقين أولياء بإظهارهم الإيمان علانية، وأمرهم أن يتخذوا المؤمنين أولياء. ثم وجه النهي في الولاية واتخاذهم أولياء يكون من وجوه:

يحتمل: النهي عن ولايتهم ولاية الدِّين، أي: لا تثقوا بهم، ولا تصدقوهم، ولا تأمنوهم في الدِّين؛ فإنهم يريدون أن يصرفوكم عن دينكم؛ كقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) الآية. ويحتمل: النهي عن اتخاذهم أولياء في أمر الدنيا؛ كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا. . .) الآية. نهي - عز وجل - المؤمنين أن يجعلوا المنافقين موضع سرهم في أمر من أمور الحرب وغيره. والثالث: في كل أمر، أي: لا تصادقوهم، ولا تجالسوهم، ولا تأمنوهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) أي: تجعلون للَّهِ عليكم سلطانًا مبينًا. قيل: عذرًا مبينًا. وقيل: حجة بينة يحتج بها عليكم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) فهو - واللَّه أعلم - الإرادة، وهي صفة كل فاعل في الحقيقة، وحرف الاستفهام من اللَّه إيجاب؛ فكأنه قال: قد جعلتم لله في تعذيبكم حجة بينة يعقلها الكل؛ إذ ذلك يكون - وهو اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين - حجة ظاهرة في لزوم المقت. وجائز أن تكون الإضافة إلى اللَّه ترجع إلى أولياء اللَّه؛ نحو الأمر بنصر اللَّه، والقول بمخادعة اللَّه، وكان ذلك منهم حجة بينة عليهم لأولياء اللَّه: أنهم لا يتخذون الشيطان وليا، وأولياء: عبادة غير اللَّه اتخذوه، ولا قوة إلا باللَّه. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)

(145)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ... (145) الدرك: بالجزم والفتح - لغتان، وهما واحد؛ يقال: للجنة درجات وغرفات، وللنار دركات بعضها أسفل من بعض. وقيل: كلما كان أسفل - كان العذاب فيها أشد؛ ألا ترى أنه أخبر عنهم بقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)، فلو لم يكن من أسفل منهم في الدركات أشد عذابًا - لم يكن لقولهم: (نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ)، معنى؛ فدل أن كل ما كان أسفل من الدركات - كان في العذاب أشد، واللَّه أعلم. وذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذكر [عبد المطلب وهشام بن المغيرة] (¬1) فقال: " هُما مِنْ أَدْنَى أَهْلِ النًارِ عَذَابًا، وَهُمَا فِي ضَحْضاع مِنَ النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا، وَأَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: فِي رِجْلَيهِ نَعْلَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلي بِهِمَا دِمَاغُهُ ". وعن ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -: قال: الأدراك: توابيت من حديد تصمت عليهم في أسفل النار. وقيل: إن العذاب في النار واحد في الظاهر، وهو مختلف في الحقيقة؛ وأيد ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ)، لكن بعضهم لا يشعر بعذاب غيرهم؛ كقوله: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ)، سألوا ربهم أن يجعل لهم ضعفًا من العذاب؛ جزاء ما أضلوا، فأخبر أن لكل ضعفًا من الأئمة. ثم لتخصيص المنافقين في الدرك الأسفل من النار دون سائر الكفرة وجوه ثلاثة: أحدها: أنهم كانوا يسعون في إفساد ضعفة المسلمين، ويشككونهم في دينهم، ويتكلفون في إخراجهم من الإيمان، وكان ذلك دأبهم وعادتهم؛ فاستوجبوا بذلك - ¬

_ (¬1) المشهور أنه أبو طالب لا عبد المطلب، ولعله تصحيف. واللَّه أعلم. وهذا نص الحديث في مسلم: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ». اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

(146)

ذلك العذاب؛ جزاء لإفسادهم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون ذلك لهم؛ لأنهم كانوا عيونًا للكفرة، وطلائع لهم، يخبرون بذلك عن أخبارهم وسرائرهم، ويطلعون على عوراتهم، فذلك سعى في أمر دينهم ودنياهم بالفساد؛ كقوله: (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) الآية. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنهم لم يكونوا في الأحوال كلها أهل دين يقيمون عليه في حال الرخاء والضيق؛ ولكن كانوا مع السعة والرخاء حيث كان، ولا كذلك سائر الكفرة، بل كانوا في حال الرخاء والشدة على دين واحد: يعبدون الأصنام، وأُولَئِكَ مع المؤمنين في حال إذا كانت السعة معهم، ومع الكافرين في حال إذا كانت السعة معهم، لا يقرون على شيء واحد، مترددون بين ذلك؛ كما قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ): الآية، والكفرة عبدوا من عبدوا؛ على رجاء التقريب إلى اللَّه، وأمر اللَّه - تعالى - لهم بذلك؛ ليكونوا لهم شفعاء عند اللَّه، وأهل النفاق لم يكونوا يعبدون غير بطونهم ومن معه شهواتهم؛ فلذلك ازداد عذابهم على عذاب غيرهم، ولما جَمَعُوا إلى الكفر باللَّه - المخادعة والتغرير وإغراء الأعداء واستعلاءهم، ولما قد أشركوا الفرق كلهم في اللذات وفي طلب الشهوات؛ فعاد إليهم ما استحق كل منهم من العقوبة، وبما بذلك شاركوا في كل المعاصي، أو سبيلها إعطاء الأنفس الشهوات مع ما فيهم تغرير ضعفة المؤمنين، والتلبيس عليهم، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا ... (146) عن ابن عَبَّاسٍ قال: (تَابُوا) من النفاق، و (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم، و (وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ)، ويقول: وثقوا باللَّه. وقيل: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ). يقول: من المؤمنين، أي: صاروا كسائر المؤمنين. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأُبَي: " إلا الذين تابوا، ثم آمنوا باللَّه والرسول والكتاب الذي أنزل إليه من ربه وما أنزل إلى النبيين من قبل، ثم أخلصوا دينهم

(147)

لله واعتصموا به، أُولَئِكَ مع المؤمنين، وسوف يؤتى اللَّه المؤمنين أجرًا عظيمًا ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) قال: لم يراءوا، وكانت سريرتهم كعلانيتهم أو أفضل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ... (147) تأويله - واللَّه أعلم - أن ليس لله - عَزَّ وَجَلَّ - حاجة في تعذيبه إياكم إن صدقتم وآمنتم، ولكن الحكمة توجب تعذيب من كفر به؛ وإلا ليس له حاجة في تعذيبكم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون هذا في قوم أفرطوا في التكذيب ومعاندة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فظنوا أنهم إن آمنوا به وصدقوه - لم يغفر لهم ما كان منهم من الإفراط في التكذيب، والتمرد وفي المعاندة؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه لا يعذبهم إن آمنوا به - بما كان منهم من الكذب والعناد؛ كقوله - تعالى -: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، واللَّه أعلم. ثم الشكر فيما بين الخلق - يكون على الجزاء والمكافأة؛ كقوله: " من لم يشكر الناس لم يشكر اللَّه ". وأما فيما بينهم بين ربهم: فهو على غير الجزاء والمكافأة؛ إذ ليس في وسعهم القيام بأداء شكر أصغر نعمة أنعمها عليهم عُمْرَهم؛ فدل أنه ليس يخرج الأمر على ما به أمر المكافأة؛ ولكنه يخرج على وجوه: الأول: على معرفة النعم أنها منه. والثاني: على معرفة التقصير والاعتراف بالعجز - عن أداء شكرها. والثالث: ألا يستعملها إلا في طاعة ربه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) يقبل الإيمان بعد الجحود والتكذيب؛ إذا تاب. وقيل: (شَاكِرًا) أي: يقبل القليل من العمل إذا كان خالصًا، ليس كملوك الأرض لا يقبلون اليسير من الأشياء.

(148)

وقيل: (شَاكِرًا): يقبل اليسير من العمل، ويعطي الجزيل من الثواب، وذلك هو الوصف في الغاية من الكرم، واللَّه أعلم. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ما يعبأ اللَّه بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان اللَّه شاكرًا لأعمالكم الحسنة عليمًا بها " وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ). اختلف في تأويله وتلاوته: قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) من الدعاء إلا من ظلم؛ فإنه لا بأس أن يدعوا إذا كان مظلومًا. وقال آخرون: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) هو الشتم؛ أخبر أنه لا يحب ذلك لأحد من الناس، ثم استثنى (إلا مَنْ ظُلِمَ) واعْتُدِيَ عليه؛ فإن رد عليه مثل ذلك، فلا حرج عليه. وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) أن يشتم الرجل المسلم في وجهه، إلا أن يشتمه فيرد كما قال، وذلك قول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)، وإن يعفو فهو أفضل. وقرأ بعضهم: " إِلَّا مَنْ ظَلَمَ " (¬1) بالنصب، فهو يحتمل: إلا من ظلم؛ فإن له الجهر ¬

_ (¬1) قال السمين: وقرأ جماعة كثيرة منهم ابن عباس وابن عمر وابن جبير والحسن: «ظَلَمَ» مبنياً للفاعل، وهو استثناء منقطع، فهو في محل نصب على أصل الاستثناء المنقطع. اهـ (الدر المصون. 4/ 135).

بالسوء من القول، وإن لم يكن له ذلك؛ وهو كقوله - تعالى -: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)؛ فإنهم -وإن لم يكن لهم حجة عليكم- فإنهم يحتجون عليكم؛ فعلى ذلك الظالم، وإن لم يكن له الجهر بالسوء من القول فإنه يفعل ذلك، واللَّه أعلم. ومن قرأ: (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ): بالرفع -فتأويله ما ذكرنا- واللَّه أعلم -: أنه لا يبيح لأحد الجهر بالسوء من القول إلا المظلوم؛ فإنه يباح له أن يدعو على ظالمه، وينتصر منه. والثاني: ما قيل: من سبَّ آخر، فإنه لايباح له ولا يؤذن أن يرد عليه مثله وينتصر منه. وقيل: نزلت الآية في أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شتمه رجل بمكة، فسكت عنه ما شاء اللَّه، ثم انتصر؛ فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتركه. وعن الحسن قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا؛ فَهُوَ عَلى البَادِئ حَتَّى يَعْتديَ المَظْلومُ ". وقال: " ألا لا تَسْتَبُّوا، فَإِنْ كُنْتُم فَاعِلينَ لَا مَحَالَةَ، فَعَلِمَ الرَّجُلُ مِنْ صَاحِبِهِ - فَلْيَقُلْ: إِنَكَ لَجَبَّارْ، وَإِنَكَ لَبَخِيلٌ ". وأصل هذا الاستثناء أن الأول - وإن لم يكن من نوع ما استثنى - فهو جزاؤه، وجزاء الشيء يسمى باسمه؛ كما سمى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جزاء السيئة: سيئة؛ بقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)، وسمي جزاء الاعتداء: اعتداء، وإن لم يكن الثاني اعتداء ولا سيئة؛ فعلى ذلك استثنى (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)، وإن لم يكن من نوعه؛ لأنه جزاء الظلم والاعتداء، واللَّه أعلم. وقيل: إن الآية نزلت في الضيف ينزل بالرجل فلا يضيفه، ولا يحسن إليه؛ فجعل له أن يأخذه بلسانه، وإلى هذا يذهب أكثر المتأولين، لكنه بعيد.

(149)

وفي قوله: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) دليل على أنه ليس في إباحة الشيء في حال - يوجب حظره في حال أخرى؛ لأنه نهي عن الجهر بالسوء من القول، ثم لم يدل ذلك على أنه لا ينهى عن ذلك في غير حال الجهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا). بجهر السوء، (عَلِيمَا به. ثم قال: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ ... (149) يحتمل - واللَّه أعلم - أن العفو والتجاوز خير عند اللَّه من الانتصار؛ فيحتمل هذا وجهين: يحتمل: أن يكون على الترغيب: رغبهم - عَزَّ وَجَلَّ - بالعفو عن السوء والمظلمة، فكما أنه يعفو عن خلقه، ويتجاوز عنهم مع قدرته على الانتقام - فاعفوا أنتم عن ظالمكم أيضًا، وإن أنتم قدرتم على الانتصار والانتقام منهم، فيكون لكم بذلك عند الله الثواب. ويحتمل: أن يأمرهم بالعفو عن مظالمهم؛ ليعفو - عَزَّ وَجَلَّ - عن مظالمهم التي فيما بينهم وبين ربهم؛ وعلى ذلك يخرج قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) - واللَّه أعلم - فإن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو صاحبكم المسيء إليكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّه أجدر وأحرى أن يعفو عنك إذا عفوت عن أخيك في الدنيا، وهو على ذلك أقدر. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ) يحتمل وجهين: يحتمل قوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ. . .) أي: يريدون، أن يفرقوا بين اللَّه ورسله؛ فيكون قوله: (يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ): في الدهرية؛ لأنهم

(151)

يكفرون باللَّه، ولا يؤمنون به، ويقولون بقدم العالم، فذلك فيهم، وقوله: (وَرُسُلِهِ) يكون في الذين يؤمنون بِاللَّهِ ويكفرون بالرسل كلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ): في الذين كفروا ببعض الرسل وآمنوا ببعض الرسل، ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض. ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عنهم جميعًا -مع اختلاف مذاهبهم- أنهم كفار، وحقق الكفر فيهم بقوله - تعالى -: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ... (151) ويحتمل أن يكون فيمن آمن ببعض الرسل وكفر ببعض الرسل؛ فيكون الكفر ببعض الرسل كفرًا باللَّه، وبجميع رسله، وبجميع كتبه؛ لأن كل واحد من الرسل يدعو الخلق كلهم إلى الإيمان باللَّه، والإيمان بجميع الرسل والكتب، وإذا كفر بواحد منهم - كفر بِاللَّهِ وبالرسل جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) أي: ويتخذون غير ذلك سبيلا؛ على طرح إرادة " أن "، أي: يتخذون بين ذلك، أي: بين إيمان ببعض الرسل، وكفر ببعض الرسل - دينًا؛ فذلك لا ينفعهم إذا كفروا ببعض الرسل. وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). يحتمل وجهين: يحتمل: أُولَئِكَ هو الكافرون الذين حق عليهم الكفر باللَّه. والثاني: يكفرون ببعض الرسل؛ أنهم - وإن كفروا ببعض الرسل - فقد حق عليهم الكفر بالله تعالى؛ لأن الكفر بواحد من الرسل كفر باللَّه وبالرسل جميعًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا). قوله: (مُهِينًا): يهانون فيه. ثم نعت المؤمنين فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ... (152) يعني: من الرسل، وقالوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ)

(153)

إلى آخر ما ذكر. وفي الآية دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم لا يسمون صاحب الكبيرة مؤمنًا، وهو قد آمن باللَّه ورسله ولم يفرق بين أحد من رسله؛ فدخل في قوله - تعالى -: (أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) وهم يقولون: لا يؤتيهم أجورهم. (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا). أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه لم يزل غفورًا رحيمًا، وهم يقولون: لم يكن غفورا رحيما ولكن صار غفورا رحيمًا، وباللَّه العصمة. * * * قوله تعالى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ). قيل في أحد التأويلين: كان يريد كل أحد منهم أن يأتي إلى كل رجل منهم بكتاب: أن محمدًا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو كقوله - سبحانه وتعالى -: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً)، وكقوله - تعالى -: (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ). وقيل: سألوا أن يأتيهم بكتاب جملة مثل التوراة؛ مثل قولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)، كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة؛ لأنهم يقولون: إن هذا القرآن من اختراع مُحَمَّد واختلاقه؛ لأنه لو كان من عند اللَّه نزل، لنزل جملة كما نزلت التوراة جملة غير متفرقة؛ فأخبر أنهم: (سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً)، وقد سألوا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مثل سؤال أُولَئِكَ موسى، وهو قوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، يعزي - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويصبره على أذاهم، يقول - واللَّه أعلم -: إنهم سألوا آيات على رسالته، فأتى بها، فلم يؤمنوا به، يخبر

(154)

أن سؤالهم سؤال تعنت، لا سؤال استرشاد؛ لأن سؤالهم لو كان سؤال استرشاد - لكان إذا أُتُوا بها قبلوها؛ ولذلك أخذهم العذاب بقوله - تعالى -: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)؛ لأنهم كانوا يسألون سؤال تعنت، لا سؤال رشد. وفي الآية دلالة أن المسئول لا يلزمه الدليل على شهوة السائل وإرادته؛ ولكن يلزمه أن يأتي بما هو دليل في نفسه. وفيه دلالة له -أيضًا- أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب؛ لأنه لما قال: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ. .) - لم يخطر ببال أحد أنه أراد المجوس بقوله: (أَهْلُ الْكِتَابِ)، واللَّه أعلم. فبطل قول من قال: بأنهم من أهل الكتاب، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) الصاعقة: هي العذاب الذي فيه الهلاك، وقد ذكرناه فيما تقدم، وإنما أخذهم العذاب بكفرهم بموسى بعد ما أتاهم موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بآيات الرسالة، لا بسؤالهم الرؤية؛ لأنه لو كان ما أخذهم من العذاب إنما أخذ بسؤال الرؤية، لكان موسى بذلك أولى؛ حيث قال: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)؛ فدل أن العذاب إنما أخذهم بتعنتهم وبكفرهم بعد ظهور الآيات لهم أنه رسول اللَّه، وذلك قوله - تعالى -: (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) يخبر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن شدة تعنتهم في تكذيب الرسل، وكثرة تمردهم وسفههم؛ ليصبر على أذى قومه، ولا يظن أنه أول مكذَّب من الرسل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا) قيل: السلطان المبين يحتمل الآيات التي أراهم، ما يعقل كل أحد -إن لم يعاند ولا كابر- أنها سماوية؛ إذ هي كانت خارجة عن الأمر المعتاد بين الخلق، من نحو: اليد البيضاء، والعصا، وفرق البحر، وغير ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ... (154) حين لم يقبلوا التوراة؛ فعند ذلك قبلوا، ثم أخذ عليهم الميثاق بذلك، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ). عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ)، يقول: لا

(155)

تعملوا في السبت عملا من الدنيا، وتفرغوا فيه للعبادة. وفي حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " وقلنا لهم لا تَعدّوا في السبت ": وقال أبو معاذ: ويقرأ: " لا تَعَدَّوْا في السبت "؛ على معنى لا تتعدوا، تلقى إحدى، التائين، وإن شئت: تعتدوا، لم تدغم التاء في الدال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا). هو ما ذكر، قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: من أرسل اللَّه إليه رسولا فأقر به - فقد أوجب على نفسه ميثاقًا غليظًا. وقال مقاتل: الميثاق الغليظ: هو إقرارهم بما عهد اللَّه إليهم في التوراة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ ... (155) قال الكسائي: " ما " - هاهنا - صلة: فبنقضهم ميثاقهم. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " وكفرهم بآيات اللَّه من بعد ما تبينت ". وقال مقاتل: فبنقضهم إقرارهم بما في التوراة، وبكفرهم بآيات اللَّه، يعني: بالإنجيل والقرآن، وهم اليهود. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) يحتمل على حقيقة القتل، ويحتمل على القصد والهم في ذلك، وقد هموا بقتل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - غير مرة. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال كانوا يقتلون الأنبياء، وأما الرسل - عليهم السلام - فكانوا معصومين، لم يقتل رسول قط؛ ألا ترى أنه قال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ). قيل فيه بوجهين: أحدهما: أنهم قالوا: قلوبنا أوعية للعلم، لا تسمع شيئًا إلا حفظته؛ فالقرآن في هذا الوجه غلف. والثاني: قالوا: قلوبنا في أَكِنَّة مما تقول، لا تعقل ما تقول؛ فالقراءة في هذا الوجه

(156)

غلف فيه. ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ). يحتمل أن يكون هذا جوابًا وردًا على قولهم: إن قلوبنا أوعية للعلم، لا تسمع شيئا إلا وعته؛ أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه طبع على قلوبهم بكفرهم؛ فلا يفقهون شيئا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا). قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قذفوها بالزنا، وهو قولهم: (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا). وقيل في قوله - تعالى -: (وَبِكُفْرِهِمْ) أي: كفرهم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالقرآن، وقولهم على مريم ما قالوا: (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا). (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ ... (157) قيل: سمي مسيحًا؛ لأن جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مسحه بالبركة؛ فهو كالممسوح الفعيل، بمعنى: المفعول، وذلك جائز في اللغة. وقيل: المسيح، بمعنى: ماسح؛ لأنه كان يمسح المريض والأبرص والأكمه فيبرأ؛ فسمي لذلك مسيحًا، وذلك جائز الفعيل بمعنى فاعل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ. . .) الآية. لبعض الناس تعلق بهذه الآية بوجهين: أحدهما: في احتمال الغلط والخطأ في المشاهدات والمعاينات. والثاني: في احتمال المتواتر من الأخبار الغلط والكذب؛ وذلك أنه قيل في القصة: إن اليهود طلبت عيسى - عليه السلام - ليقتلوه، فحاصروه في بيت ومعه نفر غير أصحابه من الحواريين، فأدركهم المساء؛ فباتوا يحرسونه؛ فأوحى اللَّه - تعالى - إلى عيسى - عليه

السلام -: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)؛ فأخبر أصحابه، وقال: أيكم يحب أن يلقى عليه شبهي فيقتل، ويجعله اللَّه يوم القيامة معي وفي درجتي؟ فقال رجل منهم: أنا يا رسول اللَّه؛ فألقى اللَّه - تعالى - عليه شبهه ورفع عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلما أصبح القوم أخذوا الذي ألقى اللَّهُ عليه شبهه؛ فقتلوه، وصلبوه. وقيل: إنه أُلقي شبهه على رجل من اليهود. وقيل: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما هموا بقتله التجأ إلى بيت، فدخل فيه، فإذا هم قد جاءوا في طلبه، فدخل رجل منهم البيت ليقتله، فأبطأ عليهم؛ فظنوا أنه قد قتله، فلما خرج وقد أُلقي شبهه عليه؛ فقتلوه، وقالوا لما قتلوا ذلك الرجل، وعندهم أنه عيسى؛ لما كان به شبهه، ثم لم يكن ذلك عيسى فلا يمنع أيضًا أن ما يشاهد ويعاين أنه -في الحقيقة- على غير ذلك، كما شاهد أُولَئِكَ القوم وعاينوا، وعندهم أنه عيسى، ثم لم يكن، واللَّه أعلم. ثم الخبر -أيضًا- قد تواتر فيهم بقتل عيسى، فكان كذبًا ما يمنع -أيضًا- أن الأخبار المتواترة يجوز أن تخرج كذبًا وغلطًا. قيل: أما الخبر بقتله إنما انتشر عن ستة أو سبعة؛ على ما ذكر في القصة، والخبر الذي كان انتشاره بذلك القدر من العدد، هو من أخبار الآحاد عندنا. وأما قوله - تعالى -: (وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ). يجوز أن يكون ذلك التشبيه تشبيه خبر أنه قتل من إلقاء الشبه على غيره، وقتله حقيقة؛ وذلك أنه ذكر في بعض القصة: أنهم لما طلبوه في ذلك البيت فلم يجدوه، ولم يكن غاب أحد منهم - قالوا: قتلناه؛ لأنهم قالوا: إنه دخل البيت، فدخلوه على أثره، فلم يجدوه - كان ذلك إنباء عن عظيم آيات رسالته؛ فلم يحبوا أن يقولوا ذلك، فقالوا:

(158)

قتلناه، كذبًا؛ فذلك تشبيه لهم، واللَّه أعلم. فإن احتمل هذا - لم يكن ما قالوا من تخطئة العين لهم درك، ولو كان ما قال أهل التأويل من إلقاء شبهه عليه؛ فذلك من آيات رسالته، أراد اللَّه أن تكون آياته قائمة بعد غيبته عنهم، وفي حال إقامته بينهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) قيل: لفي شك، من قتل عيسى - عليه السلام - قتل أو لم يقتل؛ وقيل: (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) في عيسى، أي: على الشك يقولون ذلك. قال اللَّه - تعالى -: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ). أي: ليس لهم بذلك إلا اتباع الظن: إلا قولا منهم بظنهم في غير يقين. (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا). أي: ما قتلوا ظنهم يقينًا؛ (بَل رفَعَهُ اللَّهُ). وقيل: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) أي: يقينًا ما قتلوه. (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) قيل: عزيزا حين حال بينهم وبين عيسى أن يقتلوه ويصلوا إليه. (حَكِيمًا). حكم أن يرفعه اللَّه حيَّا. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) في أن رسله يكونون معصومين، وهو قوله - تعالى -: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172). وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ... (159) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: (قَبْلَ مَوْتِهِ) هو أي: قبل موت عيسى، إذا نزل من السماء - آمنوا به أجمعين، وبه يقول الحسن. وقال الكلبي: إن اللَّه - تعالى - إذا أنزل عيسى - عليه السلام - عند مخرج الدجال، فقتل الدجال - يؤمن به بقية أهل الكتاب؛ فلا يبقى يهودي ولا نصراني إلا أسلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل موت الكتابي؛ لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى، عليه السلام. وكذلك رُوي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى - عليه السلام -، قيل: وإن ضرب بالسيف؟ قال: وإن ضرب بالسيف. وقال: هي في حرف أُبَي: " إلا ليؤمنن به قبل موتهم ". لكن التأويل إن كان هو الثاني؛ فهو في رؤسائهم الذين كانت لهم الرياسة، فلم يؤمنوا؛ خوفًا على ذهاب تلك الرياسة والمنافع التي كانت لهم، فلما حضرهم الموت أيقنوا بذهاب ذلك عنهم؛ فعند ذلك يؤمنون، وهو - واللَّه أعلم - كقوله - تعالى -: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ. . .) الآية، لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت؛ كقوله - تعالى -: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)؛ لأنه إيمانُ دفع العذاب والاضطرار؛ كقوله - تعالى -: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. . .) الآية؛ فكان إيمانهم إيمان دفع العذاب عن أنفسهم، لا إيمان حقيقة؛ لأنه لو كان إيمان حقيقة لقبل، ولكن إيمان دفع العذاب؛ كقول فرعون حين أدركه الغرق: (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ)، فلم يقبل منه ذلك؛ لأنه إيمان دفع العذاب، وإيمان الاضطرار، لا إيمان حقيقة؛ فعلى ذلك الأول، وباللَّه التوفيق. وقيل في حرف ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -: " وإن من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به قبل موته ". وفي حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " وإن كل أهل الكتاب لما ليؤمنن به قبل موته ". وقيل: (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ) قيل: باللَّه. وقيل: بعيسى.

(160)

وقيل: بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ذلك أن عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا نزل يدعو الناس إلى الإيمان بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) قيل: إنه يكون عليهم شهيدًا بأنه قد بلغ رسالة ربه إليهم، وأقر على نفسه بالعبودية. وقيل: الشهيد: الحافظ. وقيل: " ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا ". وقيل: يكون مُحَمَّد عليهم شهيدًا، وهذا كله محتمل، واللَّه أعلم ما أراد. * * * قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) وقوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) لولا آية أخرى سوى هذه؛ وإلا صرفنا قوله - سبحانه وتعالى -: (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ) على المنع، دون حقيقة التحريم؛ لأنهم أهل كفر؛ فلا يبالون ما يتناولون من المحرم والمحلل، ولا يمتنعون عن التناول من ذلك؛ فإذا كان ما ذكرنا - فيجيء أن يعود تأويل الآية إلى المنع؛ كقوله - تعالى -: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ)، فليس هو على التحريم؛ ولكن على المنع؛ أي: منعناه؛ فلم يأخذ من لبن المراضع دون لبن أمه؛ فعلى ذلك يجب أن يكون الأول.

(161)

ثم المنع لهم يكون من وجهين: أحدهما: منع من جهة منع الإنزال؛ لقلة الأمطار والقحط؛ كسني يوسف - عليه السلام - وسني مكة، على ما كان لهم من القحط. والثاني: منع من جهة الخلق: ألا يعطوا شيئًا، لا بيعًا ولا شراء ولا معروفًا. ولكن في آية أخرى بيان أن قوله: (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) - أنه على التحريم، ليس على المنع، وهو قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ): أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن ذلك جزاء بغيهم؛ فدل ما ذكرنا في الآية أن ذلك على حقيقة التحريم؛ لما يحتمل أن يكونوا لا يستحلون ما ذكر في الآية، ولكن كانوا يتناولون الربا على غير الاستحلال؛ فحرم ذلك عليهم. وفي قوله - تعالى -: (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) دلالة لأصحابنا - رحمهم اللَّه - في قولهم: إن من قد أَقَرَّ، فقال: هذا الشيء لفلان اشتريته منه - أنه له، ولا يؤخذ منه؛ وإلا في ظاهر قوله: هذا الشيء لفلان اشتريته منه - أنه إذا اشتراه منه لا يكون لفلان؛ فيكون ذلك منه إقرارًا له، لكنه على الإضمار؛ كأنه قال: هذا الشيء كان لفلان اشتريته منه. وكذلك قوله: (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أي: كانت أحلت لهم، وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحرف ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: " حرمنا عليهم طيبات كانت أحلت لهم ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) أي: بصدهم الناس عن سبيل اللَّه كثيرًا، يحتمل هذا وجهين: يحتمل: أنهم صدوا من يستجهلون ويستسفهون عن سبيل اللَّه: كانوا يدلون على الباطل وعلى غير سبيل اللَّه، فذلك الصد محتمل. ويحتمل: أنهم كانوا يصدون عن سبيل اللَّه بالقتال والحرب. وقوله: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ... (161)

دل أن الربا لم يزل محرمًا على الأمم كلها كما حرم على هذه الأمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) يحتمل هذا وجهين: يحتمل أكل أموالهم بالباطل: هو الرشوة؛ كقوله - تعالى -: (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ)، قيل: هو الرشوة. وقيل: ما كانوا ينالون من أموال الأتباع والسفلة؛ بتحريفهم التوراة لهم، وهو قول ابن عباس، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا). الآية ظاهرة.

(162)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ... (162) استثنى الراسخين في العلم منهم. والرسخ: هو ثبات الشيء في القلب؛ يقال: رسخ العلم في القلب، ورسخ الإيمان في القلب. وقوله: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) [رُويَ عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: هذا خطأ من الكاتب؛ هو: " المقيمون الصلاة، والمؤتون الزكاة "] (¬1). وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة ". وقال الكسائي: وجه قراءتنا: (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ ¬

_ (¬1) هذه الرواية لا تثبت ولا تصح، وهي من وضع الزنادقة. واللَّه أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).

الصَّلَاةَ) يقول: يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ويؤمنون بإقامة الصلاة؛ كما قال - عَزَّ وَجَلَّ - في سورة البقرة (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)، معناه: ولكن البر الإيمان بِاللَّهِ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) يعني: الرسل.

(163)

وفي حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " لكن الراسخون في العلم يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك المقيمين الصلاة المؤتين الزكاة والمؤمنون باللَّه واليوم الآخر سوف نؤتيهم أجرًا عظيمًا "، وكذلك في حرف أبي: (المُقِيمِينَ الصَّلاةَ) بالنصب. * * * قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) قيل فيه بوجوه: قيل: قوله: (كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ) الكاف صلة زائدة، ومعناه: إنا أوحينا إليك ما أوحينا إلى نوح ومن ذكر من بعده، أي: لا يختلف ما أنزل إليك وما أنزل إلى غيرك من الرسل؛ وهو كقوله - تعالى - (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)، (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى). وقيل: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) من الحجج والآيات " كما أوحينا إلى نوح " ومن ذكر من الحجج والآيات على صدق ما ادعوا، أي: قد أعطاك اللَّه، من الحجج والآيات ما يدل على رسالتك ونبوتك؛ كما أعطى أُولَئِكَ من الحجج والآيات على صدق ما ادعوا من الرسالة والنبوة، ثم لم يؤمنوا. وقيل: إن اليهود قالوا: إن محمدًا لو كان رسولا - لكان يؤتى كتابًا جملة، كما أوتي موسى كتابًا جملة من غير وحي؛ فقال اللَّه - تعالى -: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) وحيًا من غير أن أوتي كل منهم كتابًا جملة كما أوتي موسى، ثم كان أُولَئِكَ رسلاً؛ فعلى ذلك مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رسول وإن لم يؤت كتابًا كما أوتي موسى، ولله أن يفعل ذلك: يؤتي من شاء كتابًا جملة مرة، ومن شاء يوحي إليه بالتفاريق، واللَّه أعلم

(164)

بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. . .) ومن ذكر. يحتمل ذكر إبراهيم ومن ذكر من أولاده بعد قوله: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ) - على التخصيص لإبراهيم ومن ذكر؛ لأنه ذكر النبيين من بعد نوح؛ فدخلوا فيه، ثم خصهم بالذكر؛ تفضيلأ وتخصيصًا لهم. ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ): الرسل الذين كانوا بعد نوح قبل إبراهيم، ثم ابتدأ الكلام فقال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ. . .) ومن ذكر. وفي حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح، وكما أوحينا إلى الرسل من بعدهم، وكما أوحينا إلى إبراهيم "؛ فهذا يدل على ما ذكرنا من ابتداء الذكر لهم، واللَّه أعلم. والآية ترد على القرامطة مذهبهم؛ لأنهم يقولون: الرسل ستة، سابعهم قائم الزمان؛ لأنه ذكر في الآية من الرسل أكثر من عشرة؛ فظهر كذبهم بذلك، ومخايلهم التي سول لهم الشيطان وزين في قلوبهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ... (164) ذكر في بعض القصة: أن اليهود قالوا: ما بال موسى لم يذكر فيمن ذكر من الأنبياء؟ فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) هَؤُلَاءِ بمكة في " الأنعام " وفي غيرها؛ لأنه قيل: إن هذه السورة مدنية. ثم في قوله: (وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) دلائل من وجوه: أحدها: أن معرفة الرسل بأجمعهم واحدًا بعد واحد - ليس من شرط الإيمان بعد أن يؤمن بهم جميعًا؛ لأنه أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن من الرسل من لم يقصصهم عليه، ولو كان معرفتهم من شرط الإيمان لقصهم عليه جميعًا، لا يحتمل ترك ذلك؛ دل أنه ليس ذلك من شرط الإيمان، واللَّه أعلم. والثاني: أن الإيمان ليس هو المعرفة، ولكنه التصديق؛ لأنه لم يؤخذ عليه عدم معرفة الرسل، وأخذ بتصديقهم والإيمان بهم جملة.

(165)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: خلق اللَّه كلامًا وصوتًا، وألقى ذلك في مسامعه. وقال آخرون: كتب له كتابا فكلمه بذلك؛ فذلك معنى قوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) لا أن كلمه بكلامه، ولا ندري كيف كان؟ سوى أنا نعلم أنه أحدث صوتًا لم يكن، فأسمع موسى ذلك كيف شاء، وما شاء، وممن شاء؛ لأن كلامه الذي هو موصوف به في الأزل لا يوصف بالحروف، ولا بالهجاء، ولا بالصوت، ولا بشيء مما يوصف به كلام الخلق بحال. وما يقال: هذا كلام اللَّه - إنما يُقال على الموافقة والمجاز؛ كقوله: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، ولا سبيل له أن يسمع كلام اللَّه الذي هو موصوف به بالأزل؛ ولكنه على الموافقة والمجاز يقال ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) يخرج هذا - واللَّه أعلم - مخرج التخصيص له؛ إذ ما من رسول إلا وقد كان له خصوصية، والكلام خصوصية لموسى - عليه السلام - إذ كلمه من غير أن كان ثمة سفير ورسول، وكان لسائر الرسل وحيًا يوحي إليهم؛ أي: دليل برسول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) دل المصدر على تحقيق الكلام؛ إذ المصادر مما يؤكد حقائق ما له المصادر في موضوع اللغة، وأيد ذلك الأمر المشهور من تسمية موسى: كليم اللَّه، وما جرى على ألسن الخلق من القول بأن اللَّه كلم موسى؛ فثبت أنه كان له فيما كلمه خصوصية لم يشركه فيها غيره من الرسل، وعلى حق الوحي لمانزال الكتب له شركاء في ذلك من الرسل؛ فثبت أن لما وصف به موسى خصوصية بايَنَ بها غيره؛ على ما ذكره من خصوصية كثير من الرسل بأسماء أو نعوت أوجبت لهم الفضيلة بها، وإن كان حمل ما يحتمل تلك الخصوصية - قد يتوجه إلى ما قد يشترك في ذلك جملة الرسل؛ فعلى ذلك أمر تكليم موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ... (165) أخبر أنه بعث الرسل بالبشارة في العاقبة لمن أطاعه، والإنذار لمن عصاه؛ فهذا ليعلم أن كل أمر لا عاقبة له فهو عبث، ليس من الحكمة، وأن الذي دعا الرسلُ الخلق إليه إنما دعوا لأمر له عاقبة؛ إذ في عقل كل أحد أن كل أمر لا عاقبة له ليس بحكمة؛ فهذا - والله

(166)

أعلم - معنى قوله: (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) مبشرين، لمن أطاع اللَّه بالجنة، ومنذرين لمن عصاه بالنار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ). يحتمل هذا وجهين: يحتمل: لئلا يكون للناس على اللَّه - تعالى - الاحتجاج بأنه لم يرسل الرسل إلينا، وإن لم يكن لهم في - الحقيقة - عند اللَّه - تعالى - ذلك؛ فيقولوا: (لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى). ويحتمل قوله - تعالى -: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) حقيقة الحجة، لكن ذلك إنما يكون في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها السمع لا العقل، وأما الدِّين فإن سبيل لزومه بالعقل؛ فلا يكون لهم في ذلك على اللَّه حجة؛ إذ في خلقة كل أحد من الدلائل ما لو تأمل وتفكر فيها لدلته على هيبته، وعلى وحدانيته وربوبيته؛ لكن بعث الرسل لقطع الاحتجاج لهم عنه، وإن لم تكن لهم الحجة. وإن كان على حقيقة الحجة فهو في العبادات والشرائع؛ فبعث الرسل على قطع الحجة لهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) أي: لا يعجزه شيء عن إعزاز من أراد أن يعزه، ولا على إذلال من أراد إذلاله. (حَكِيمًا): يعرف وضع كل شيء موضعه. وقد ذكرنا تأويله في غير موضع. وتوبه - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ... (166) قيل فيه بوجهين: قيل: يشهد اللَّه يوم القيامة -والملائكة يشهدون أيضًا- أن هذا القرآن الذي أنزل إليك إنما أنزل من عند اللَّه، لا كما يقولون: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ)، كما قالوا. وقيل: قوله: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ) أي: يبين بالآيات والحجج التي يعجز الخلائق عن إتيان مثلها، وتلزمهم الإقرار بأنه إنما أنزل من عند اللَّه، واللَّه أعلم.

(167)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) يحتمل وجهين: أنزله بالآيات والحجج ما يعلم أنها آيات الربوبية والحجج السماوية. ويحتمل: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي: أنزله على علم منه بمن يقبل ومن لا يقبل، ليس كما يبعث ملوك الأرض بعضهم إلى بعض رسائل وهدايا لا يعلمون قبولها ولا ردها، ولا علم لهم بمن يقبلها وبمن يردها، ولو كان لهم بذلك علم ما أرسلوا الرسل، ولا بعثوا الهدايا؛ إذا علموا أنهم لا يقبلون؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه على علم منه أنزل بمن يقبل وبمن يرد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي: شاهدًا على ما ذكرنا من شهادته يوم القيامة على أحد التأويلين أنه أنزله. ويحتمل قوله: (شَهِيدًا) أي: مبينًا، أي: كفى باللَّه مبينًا بالآيات والحجج. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: لما أنزل اللَّه: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) إلى قوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. . .) الآية - قالت قريش: من يشهد لك أن ما تقول حق؟ فأنزل اللَّه - تعالى -: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)، وأنزل (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) الآية. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: كفروا بآيات اللَّه. (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا) أي: قد تاهوا وتحيروا تحيرًا طويلا. ويحتمل: (قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا) أي: هلكوا هلاكًا لا نجاة لهم، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع.

(168)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا ... (168) أي: كفروا بآيات اللَّه وحججه، وظلموا أمر اللَّه وتركوه. ويحتمل قوله - تعالى -: (وَظَلَمُوا) حيث جعلوا أنفسهم لغير اللَّه، وجعلوا العبادة لمن دونه، وهو إنما خلقهم؛ ليجعلوا عبادتهم له، فقد وضعوا أنفسهم في غير موضعها؛ لذلك وصفهم بالظلم؛ لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. ويحتمل: ظلموا أنفسهم، وإن كانوا لا يقصدون ظلم أنفسهم؛ فإن حاصل ذلك يرجع إلى أنفسهم؛ فكأنهم ظلموا أنفسهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ ... (169) كأنه على الإضمار بألا يهديهم في الآخرة طريقًا إلا طريق جهنم. ويحتمل ما قال أهل التأويل، قالوا: لا يهديهم طريق الإسلام إلا طريق جهنم: طريق الكفر والشرك هما طريقا جهنم في الدنيا، والإسلام هو طريق الجنة في الدنيا. وهذه الآية والآية الأولى في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا، ويموتون على ذلك؛ حيث أخبر أنه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يغفر لهم، ولا يهديهم. (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا). ظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ ... (170) يحتمل قوله: (بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ): بالحق الذي للَّهِ عليكم. ويحتمل: (بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) بالحق الذي لبعضكم على بعض، قد جاءكم الرسول من اللَّه ببيان ذلك كله. ويحتمل قوله: (قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) الحق الذي هو ضد الباطل ونقيضه، وفرق بينهما، وأزال الشبه؛ إن لم تعاندوا ولم تكابروا. (فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ). لأن الذي كان يمنعهم عن الإيمان باللَّه حب الرياسة، وخوف زوال المنافع التي كانت لهم؛ فقال: (فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ)؛ لأن ذلك لكم في الدنيا، والآخرة دائم لا يزول؛ فذلك خير لكم من الذي يكون في وقت ثم يزول عنكم عن سريع.

(171)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية. يخبر - واللَّه أعلم - أن ما يأمر خلقه وينهى ليس يأمر وينهى لحاجة له أو لمنفعة؛ ولكن يأمر وينهى لحاجة الخلق ومنافعهم؛ إذ من له ما في السماوات وما في الأرض وملكهما - لا يقع له حاجة ولا منفعة، وهو غنى بذاته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) عليمًا: عن علم بأحوالكم خلقكم، لا عن جهل، وعليمًا بما به صلاحكم وفسادكم. (حِكيما): حيث وضع كل شيء موضعه. ويحتمل قوله - تعالى - (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وجهًا آخر، وهو: الذي تكفرونه، يقْدر أن يخلق خلقًا آخر سواكم يطيعونه؛ إذ له ما في السماوات وما في الأرض، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) والغلو في الدِّين: هو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم، وكذلك الاعتداء: هو المجاوزة عن الحد الذي أحد لهم، في الفعل وفي النطق جميعا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تفسير الغلو ما ذكر: (وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)؛ فالقول على الله بما لا يليق به غلو. وقيل: لا تغلوا: أي لا تَعَمَّقُوا في دينكم، ولا تَشَدَّدُوا؛ فيحملكم ذلك على الافتراء على اللَّه، والقول بما لا يحل ولا يليق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ). أي: الصدق. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) يقول: لا تقولوا لله - تعالى - ولد ولا صاحبة. وفي حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " ولا تقولوا: اللَّه ثالث ثلاثة؛ إنما هو إله واحد). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ) الخطاب بقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) في حقيقة المعنى - للخلق كلهم؛ لأن على كل الخلائق ألا يغلوا في دينهم، وهو في الظاهر في أهل الكتاب، والمقصود منه النصارى دون غيرهم من أهل الكتاب؛ حتى يعلم أن ليس في مخرج عموم اللفظ دليل عموم المراد، ولا في مخرج خصوصه دليل خصوصه؛ ولكن قد يراد بعموم اللفظ: الخصوص، وبخصوص اللفظ: العموم؛ فيبطل به قول من يعتقد بعموم اللفظ عموم المراد، وبخصوص اللفظ خصوصه. ثم افترقت النصارى على ثلاث فرق في عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد اتفاقهم على أنه ابن مريم: قال بعضهم: هو إله، ومنهم من يقول: هو ابن الإله، ومنهم من يقول: هو ثالث ثلاثة: الرب، والمسيح، وأمه؛ فأكذبهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في قولهم، وأخبر أنه رسول اللَّه ابن مريم، ولو كان هو إلهًا لكانت أمه أحق أن تكون إلهًا؛ لأن أمه كانت قبل عيسى - عليه السلام - ومن كان قبلُ، أحق بذلك ممن يكون من بعد، ولأن من اتخذ الولد إنما يتخذ من جوهره، لا يتخذ من غير جوهره؛ فلو كان ممن يجوز أن يتخذ ولدًا - لم يتخذ من جوهر البشر؛ كقوله - تعالى -: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: كلمته: أن قال له: كن؛ فكان. لكن الخلائق كلهم في هذا كعيسى؛ لأن كل الخلائق إنما كانوا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: كن؛ فكان؛ فليس لعيسى - عليه السلام - في

ذلك خصوصية. وأصله أنه سمي كلمة اللَّه لما ألقاها إلى مريم، ولا ندري أية كلمة كانت؛ وإنما خلقه بكلمته التي ألقاها إليها؛ فسمي بذلك، كما خلق آدم من تراب؛ فنسب إليه، وحواء خلقها من ضلع آدم؛ فنسبها إليه، وسائر الخلائق خلقهم من النطفة؛ فنسبهم إليها؛ فعلى ذلك عيسى، لما خلقه بكلمة ألقاها إليها - نسب إليه، لكن في آدم وغيره من الخلائق ذكر فيهم التغيير من حال إلى حال، ولم يذكر ذلك في عيسى؛ فيحتمل أن يكون له الخصوصية بذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرُوحٌ مِنْهُ) كقوله - تعالى -: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) فسمي لذلك روحًا؛ لما به كان يحيي الموتى؛ ألا ترى أنه سمى القرآن روحًا، وهو قوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا)، سماه روحًا؛ لما به يحيي القلوب، كما يحيي الأبدان بالأرواح. وقيل: (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي: أحياه اللَّه وجعله روحًا. وقيل: (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي: رسولا منه. وقيل: (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي: أمر منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ. . .) لأن الرسل كلهم لم يدعوكم إلى الذي أنتم عليه أنه ثالث ثلاثة؛ إنما دعاكم الرسل أنه اللَّه إله واحد لا شريك له ولا ولد. (انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ). بما ذكرنا بالآية الأولى. وقوله: (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ) بالرفع، أي: لا تقولوا: هو ثلاثة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) نزه نفسه عن عظيم ما قالوا فيه بأن له ولدًا، ثم أخبر أن له ما في السماوات وما في الأرض؛ وإنَّمَا يُتَّخَذُ الولد لإحدى خصال ثلاث: إما لحاجة تمسه؛ فيدفعها به عن نفسه، أو لوحشة تصيبه؛ فيستأنس به، أو لخوف غلبة العدو؛ فيستنصر به ويقهره، أو لما يخاف

(172)

الهلاك؛ فيتخذ الولد ليرث ملكه. فإذا كان اللَّه - سبحانه - يتعالى عن أن تمسه حاجة أو تصيبه وحشة، أو لملكه زوال - يتعالى عن أن يتخذ ولدًا وهو عبده. (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا). قيل: حافظًا. وقيل: شهيدًا. وقيل: الوكيل: هو القائم في الأمور كلها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ... (172) تكلم الناس في هذه الآية: قال الحسن: فيه دليل تفضيل الملائكة على البشر؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)؛ لأن الثاني يخرج مخرج التأكيد للأول، وأبدًا إنما يذكر ما به يؤكد؛ إذا كان أفضل منه وأرفع، لا يكون التأكيد بمثله ولا بما دونه؛ كما يقال: لا يقدر أن يحمل هذه الخشبة واحد ولا عشرة، ولا يعمل هذا العمل واحد ولا عدد؛ فهو على التأكيد يقال؛ فعلى ذلك الأول: خرج ذكر الملائكة على أثر ذكر المسيح؛ على التأكيد، وأبدًا إنما يقع التأكيد بما هو أكبر، لا بما دونه. والثاني: قال: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وقال - عز وجل -: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)، وقالوا: فكيف يستوي حال من يعصي مع حال من لا يعصي؟! وحال من لا يفتر عن عبادته طَرْفَةَ عَيْنٍ مع حال من يرتكب المناهي؟! والثالث: ما قال اللَّه - تعالى - حكاية عن إبليس؛ حيث قال لآدم وحواء - عليهما السلام - (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ). لو لم يكن للملائكة فضل عندهم ومنزلة -ليس ذلك للبشر- لم يكن إبليس بالذي يغرهما بذلك الملك والوعد لهما أنهما يصيران مَلَكَينِ، ولا كان آدم وحواء باللَّذين يغتران بذلك - دل أن الملك أفضل من البشر. والرابع: أن الأنبياء - صلى اللَّه عليهم وسلم - ما استغفروا لأحد، إلا بدءوا بالاستغفار لأنفسهم ثم لغيرهم من المؤمنين؛ كقول نوح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ. . .) الآية.

وكقول إبراهيم - عليه السلام - (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، وما أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالاستغفار؛ فقال: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) الآية، وقال: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، وما أمر بذلك، وما فعلوا ذلك؛ إلا ما يحتمل ذلك فيهم. والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم؛ ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر؛ كقوله: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)، وإلى هذا ذهب بعض الناس: بتفضيلهم الملائكة على البشر.

وقال آخرون بتفضيل البشر على الملائكة، ولا يجب أن يتكلم في تفضيل البشر على الإطلاق على الملائكة؛ لأنهم يعملون بالفساد وبكل فسق، إلا أن يتكلم في تفضيل أهل الفضل من البشر والمعروف منهم بذلك - على الملائكة؛ فذلك يحتمل أن يتكلم فيه. ويذهب من قال بتفضيل من ذكرنا من البشر على الملائكة - إلى أنه: ليس في قوله تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) - دلالة على أن الملائكة كلهم أفضل منهم؛ لأنه إنما ذكر " المقربون "، لم يذكر الملائكة مطلقًا؛ فيجوز

(173)

أن يكون لمن ذكر فضل على البشر، وكلامنا في تفضيل الجوهر على الجوهر، ولأن البشر ركب فيهم من الشهوات والأماني التي تدعوهم إلى ما فيه الخلاف لله والمعصية له، وجعل لهم أعداء أمروا بالمجاهدة معهم، من نحو: أنفسهم، والشياطين الذين سلطوا عليهم، ولا كذلك الملائكة؛ فمن حفظ نفسه، وصانها، وأخلصها من بين الأعداء، وقمع ما ركب فيهم من الشهوات، والحاجات الداعية إلى الخلاف لله والمعصية له - كان أفضل ممن لا يشغله شيء من ذلك، واللَّه أعلم. وما ذكر من اغترار آدم وحَواء بقول إبليس: (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ) لا يحتمل أن يكون آدم لما خلقه من جوهر البشر، وأخبر أنه جعله خليفة في الأرض أنه يتناول ما نهي عنه؛ ليصير من جوهر الملائكة، ولكنه - واللَّه أعلم - رأي أن الملائكة طبعوا على حب العبادة لله، ولم يركب فيهم من الشهوات والحاجات التي تشغل المرء عن العبادة لله والطاعة له - فأحب أن يطبع بطبعهم؛ ليقوم بعبادة اللَّه كما قاموا هم، والله أعلم. والتكلم في مثل هذا فضل؛ ذلك إلى اللَّه تعالى، وإليه التخيّر والإفضال. ثم تأويل قوله عَزَّ وَجَلَّ - واللَّه أعلم -: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ): وذلك أنهم كانوا يعبدون الملائكة دون اللَّه، ويعبدون المسيح دونه؛ فأخبر أن أُولَئِكَ الذين تعبدونهم أنتم لم يستنكفوا عن عبادتي؛ فكيف تستنكفون أنتم؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا) فهو - واللَّه أعلم - على الإضمار؛ كأنه قال: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، ومن لم يستنكف عن عبادته ولم يستكبر؛ فسيحشرهم إليه جميعًا. ثم بين جزاء من لم يستنكف عن عبادته ومن لم يستكبر، ومن استنكف واستكبر، فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ. . . (173) الآية، (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا. . .) الآية؛ وإلا لم يكن في الذين استنكفوا مؤمن؛ بل كانوا كلهم كفارًا؛ بالاستنكاف والاستكبار عن عبادته. والاستنكاف والاستكبار واحد في الحقيقة، وقال الكساني: وإنما جمع بينهما؛ لاختلاف اللفظين، وهذا من حسن كلام العرب: كقول العرب: كيف حالك؟ وبالك؟ والحال والبال واحد، ومثله في القرآن والشعر كثير. لكن الاستنكاف -والأنفة- لا يضاف إلى اللَّه تعالى، والاستكبار يضاف، فهما من هذا المعنى مختلفان، وأما في الحقيقة فهما واحد، واللَّه أعلم.

(174)

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) والبرهان: هو الحجة توضح وتظهر الحق من الباطل. وقيل: بيان من ربكم، وهما واحد. قَالَ بَعْضُهُمْ: هو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقال آخرون: هو القرآن؛ فأيهما كان فهو حجة وبيان، يلزم الحق -ويبين- من لم يعاند. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) يبصر به الحق من الباطل، وبه يعرف: وهو القرآن، سماه: نورًا؛ لما به يبصر الحق، وإن لم يكن هو بنفسه نورًا؛ كالنهار: سماه مبصرًا؛ لما به يبصر، وإن لم يكن هو كذلك. وقال قتادة: (نُورًا مُبِينًا): هو هذا القرآن، وفيه بيانه ونوره وهداه، وعصمة لمن اعتصم به. * * * قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ). جعل الاعتصام به ما به ينال رحمته وفضله. والاعتصام: هو أن يلتجأ إليه في كل الأمور، وبه يوكل، لا يلتجأ بمن دونه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) كأنه - واللَّه أعلم - على التقديم والتأخير: " فأما الذين آمنوا باللَّه واعتصموا به، ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا؛ فسيدخلهم في رحمة منه "، يعني: الجنة " وفضل "؛ كقوله تعالى: (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ). * * * قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:، (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ). ذكر الاستفتاء، ولم يذكر: فيم استفتوا؟ لكن في الجواب بيان أن الاستفتاء فيم كان، وقال: (قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ). والكلالة: ما ذكر: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي. . .) إلى آخر ما ذكر.

قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فِيَّ نزلت الآية. ورُويَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة، ثم طعن في صدري بأصبعه، فقال: " ألا يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيفِ التي في آخِرِ سُورَةِ النسَاءِ؟! "، وفيه دلالة أن قد يترك بيان ما يدرك بالاجتهاد والنظر، ولا يبين؛ ليجتهد، ويدرك بالنظر؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سأل غير مرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولم يبينه، وأشار إلى الآية التي فيها ذكر ما سأل عنه؛ لينظر ويجتهد؛ ليدرك. وفيه دليل جواز تأخير البيان؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سأله غير مرة، ولم يبينه حتى أمره بالنظر في الآية، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يكن عرف قبل ذلك؛ فدل على جواز تأخير البيان. وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الكلالة: من ليس له ولد ولا والد، وكذلك قال عمر - رضي اللَّه عنه - وقال: إِنِّي لأستحي من اللَّه أن أرد شيئا قاله أبو بكر. وسئل ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الكلالة؟ فقال: من لا ولد له ولا والد. وروي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: مرضت؛ فأتاني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعودني وأبو

بكر الصديق معه؛ فوجدني قد أغمى عليَّ؛ فصبَّ وضوءه عليَّ؛ فأفقت؛ فقلت: يا رسول اللَّه، كيف أصنع في مالي؟ وكان لي تسع أخوات؛ فلم يجبني حتى نزل قوله - تعالى -: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ. . .) إلى آخر ما ذكر، قال جابر - رضي اللَّه عنه -: فِيَّ نزلت الآية. قال بعض الناس: إذا مات الرجل؛ وترك ابنة وأختًا - فلا شيء للأخت؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) والابنة ولد؛ فلا ميراث للأخت وللأخ مع الابنة؛ لأنها ولد؛ فيقال: إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل للابنة النصف؛ إذا لم يكن معها ابن؛ بقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)؛ فإذا مات وترك ابنة وأختًا فللابنة النصف، وذلك النصف الباقي إذا لم يُعْطَ للأخت - يرد إلى الابنة؛ فيكون لها كل الميراث، وقد جعل اللَّه - تعالى - ميراثها إذا لم يكن معها ولدٌ ذَكَرٌ - النصف، أو لا يرد إلى الابنة؛ فيجب أن ينظر أيهما أحق بذلك النصف الباقي؛ فجاء في بعض الأخبار: أن الأخوات مع البنات عَصَبَة؛ لذلك كانت الأخت أَوْلَى بذلك النصف الباقي، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) ذكر للاثنتين الثلثين، ولم يذكر ما للثلاث فصاعدًا منهن، وذكر في الابنة الواحدة النصف في أول السورة بقوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ولم يذكر ما للبنتين؛ ولكن ذكر الثلاث فصاعدًا بقوله تعالى: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) فترك بيان الحق في الابنتين؛ لبيانه في الأختين، وترك البيان للأخوات؛ لبيانه في البنات؛ ففيه دليل القياس: حيث اكتفى ببيان البعض عن الآخر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) دل قوله تعالى: (إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً) أن اسم الإخوة يجميع الإناث والذكور جميعًا؛ لأنه ذكر إخوة، ثم فسر الرجال والنساء؛ فهو دليل لنا في قوله تعالى: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ

فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) وإنهم يحجبون الأم عن الثلث، ذكورًا كانوا أو إناثًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) قيل: ألا تضلوا. قال الكسائي: العرب تقول للرجل: أطعمتك أن تجوع، وأغنيتك أن تفتقر؛ على معنى ألا تجوع ولا تفتقر، وفي القرآن كثير مثل هذا. ثم قوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) قيل: ألا تضلوا في قسمة المواريث. وقيل: ألا تخطئوا. وقيل: ألا تخلطوا، وهو واحد. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). وعيد، وباللَّه الحول والقوة، واللَّه المستعان. * * *

سورة المائدة

سُورَةُ الْمَائِدَة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أجمع أهل التأويل على أن العقود - هاهنا - هي العهود، ثم العهود على قسمين:

عهود فيما بين الخلق، أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بوفائها. وعهود فيما بينهم وبين ربهم، وهي المواثيق التي أخذ عليهم، من نحو: الفرائض التي فرض اللَّه عليهم، والنذور التي يتولون هم إيجابها، وغير ذلك، أمر عَزَّ وَجَلَّ بوفائها. وأما العهود التي فيما بينهم من نحو: الأيمان وغيرها، أمر بوفاء ذلك إذَا لم يكن فيها معصيَة الرب؛ كقوله تعالى: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا. . .) الآية، أمر هاهنا بوفاء الأيمان، ونهى عن تركها ونقضها، ثم جاء في الخبر أنه قال: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَي غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الذِي هُوَ خَيرٌ، وَلْيُكَفرْ عن يَمِينَهُ ". أمر فيما فيه معصية بفسخها، وأمر بوفاء ما لم يكن فيه معصية، ونهي عن

نقضها بقوله تعالى: (وَلَا تنقُضُوا. . .) الآية. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ): وهي العهود، وهو ما أحل وما حرم، وما فرض وما حد، في القرآن كله، وهو ما ذكرنا. وقيل: إن العقود التي أمر اللَّه - تعالى - بوفائها هي العهود التي أخذ اللَّه - تعالى - على أهل الكتاب: أن يؤمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويأخذوا بشرائعه، ويعملوا بما جاء به، وهو كقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)، وكقوله: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي). فالخطاب لهم على هذا التأويل؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هي الوحوش، وهو قول الفراء؛ ألا ترى أنه قال: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)؟!.

وقال الحسن: هي الإبل والبقر والغنم. وقال آخرون: البهيمة: كل مركوب. لكن عندنا: كل مأكول من الغنم، والوحش، والصيد، وغيره، وإن لم يذكر. دليله، ما استثنى: (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)؛ كأنه قال: أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد إلا ما يتلى عليكم من (الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ) الآية، (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) دل قوله: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) على أن الصيد فيه كالمذكور، وإن لم يذكر؛ لأنه استثنى الصيد منه، وأبدًا: إنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان فيه ذلك، وأما إذا لم يكن؛ فلا معنى للاستثناء، فإذا استثنى الصيد دل الاستثناء على أن الصيد فيه، وإن لم يذكر. ودل قوله - تعالى -: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)، على أن النهي كان عن الاصطياد في حال الإحرام لا عن أكله؛ لأن للمحرم أن يأكل صيدًا صاده حلالٌ. ودل قوله: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) على أن الصيد قد دخل في قوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) على ما ذكرنا فيما تقدم: أن البيان في الجواب يدل على كونه في السؤال، وإن لم يكن مذكورًا في السؤال؛ فعلى ذلك تدل الثنيا من الصيد على كونه فيه، واللَّه أعلم. ويحتمل (بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) الثمانية الأزواج التي ذكرها في سورة الأنعام: (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ. . . إلى آخر ما ذكر. والآية تدل على أن الذي أحل من البهائم - الأنعام منها - ثمانية؛ دل عليه قوله: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) ثم قال: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)؛ ففصل بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير؛ فالخيل والبغال والحمير، خلقها للركوب، والأنعام للأكل. وقوله: (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) كأنه قال: أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد، (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ): يحتمل: يتلى على الوعد، أي: يتلى عليكم من بعد ما ذكر على أثره: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ. . .) إلى آخره، ويحتمل: (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) وهو ما ذكر.

(2)

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إلا ما يتلى عليكم فيها "، في سورة الأنعام: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا. . .) إلى آخره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) وهذا - واللَّه أعلم - أي: إلى اللَّه الحكم، يحكم بما شاء من التحريم والتحليل، فيما شاء، على ما شاء، ليس إليكم التحكم عليه، وهذا ينقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: يريد طاعة كل أحد، ولو أراد ذلك لحكم؛ لأنه أخبر أنه يحكم ما يريد، ولا جائز أن يريد ولا يحكم؛ فدل أنه: لم يرد؛ لأنه لو أراد لحكم، وباللَّه العصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ... (2) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان المشركون يحجون البيت الحرام، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، وينحرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ)، يعني: لا تستحلوا قتالاً فيه، (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ. . .) الآية. وقال غيره: قوله: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ)، يعني: المناسك، لا تستحلوا ترك شعائر اللَّه، والشعائر هن المناسك؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - سمي كل منسك من الحج شعائر اللَّه؟! كقوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)، وقال: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)، كل هذا من شعائر اللَّه، وهن معالم اللَّه في الحج. وقيل: شعائر اللَّه: فرائض اللَّه؛ كأنه قال: لا تستحلوا ترك ما فرض اللَّه عليكم. وقال الحسن: (شَعَائِرِ اللَّهِ): قال: دين اللَّه، وهو واحد. وقيل في قوله: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ. . .) حتى بلغ [(وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ)]، فقال: حواجز أبقاها اللَّه بين الناس في الجاهلية؛ فكان الرجل لو جر

جريرة وارتكب كبيرة، ثم لجأ إلى حرم اللَّه - تعالى - لمْ يُتنَاول ولم يُطْلب، ولو لقي قاتلَ أبيه في الأشهر الحرم لم يَتَعَرَّضْ له، وكان الرجل لو لقي الهدى مقلدًا -وهو يأكل العصب من الجوع- لم يعرض له، ولم يقربه؛ فإذا أراد البيت يقلّد قلادة من شعر؛ فحرمته ومنعته من الناس حتى يأتي أهله. ويحتمل قوله - تعالى -: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ)، أي: لا تستحلوا ما أشعركم الله حرمته، وهو من الأعلام، ويحتمل أن يكون أراد به مشاعر الحرام الذي ذكرنا. وقال: لا تحلُّوا الحرام ولا الشهر الحرام، ولا الهدي ولا القلائد. وهذه أمور كانت من قبل فَنُسِخَتْ بقوله - تعالى -: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. . .) الآية. وعن الشعبي أنه قال: لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية؛ نسخها: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)، وقوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. . .) الآية. وقالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: " إنها آخر ما أنزل؛ فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) فهو هو كقوله - تعالى -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)، وقد ذكرنا أن اللِّه - عَزَّ وَجَلَّ - أطلق الحرم في الشهر الحرام بعد ما كان محظورًا بقوله - تعالى -: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). وأما قوله: (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ).

فهو ما ذكرنا من صنيعهم في الجاهلية فيما ذكرنا، وفيه دليل لقول أصحابنا - رحمهم اللَّه - حيث قالوا: إن الغنم لا تقلد، والإبل والبقر تقلد؛ لأنه ذكر الهدي والقلائد؛ فدل أن من الهدي ما يقلد، ومنه ما لا يقلد. (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ). أي: قاصدين البيت الحرام. (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا). قيل: إن المشركين كانوا يقصدون البيت الحرام يلتمسون فضل اللَّه ورضوانه؛ بما يصلح لهم دنياهم؛ كقوله - تعالى -: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ). وقد يجوز أن يكونوا لما التمسوا عند أنفسهم رضوان اللَّه - أمر اللَّه المؤمنين بالكف عنهم، وإن كانوا قد غلطوا في توجيه العبادة؛ فجعلوها لغير اللَّه؛ كقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا).

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا). دل هذا على أن النهي في قوله: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) أي: أخذ الصيد واصطياده في الإحرام، لا أكله، وهو إباحة ما حُظر عليهم بالإحرام، وإن كان ظاهره أمرًا، ومعناه: فإذا حللتم لكم أن تصطادوا. وأصله: أن كل أمر خرج على أثر محظور فهو أمر إباحة وإطلاق ذلك المحظور المحرم، لا أمر إلزام وإيجاب؛ من نحو قوله - تعالى -: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)، ثم قال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، وهو المحظور المتقدم، وقوله - تعالى -: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ)، ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا)، أمر إطلاق وإباحة ما حُظر عليهم، ومثله كثير في القرآن مما يكثر ذكره. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ): " ولا تاموا "، وكذلك في حرفه؛ " فأموا صعيدًا طيبًا ". وقيل في قوله - تعالى -: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا): حجهم؛ فلا يقبل عنهم حتى يسلموا؛ فنهى اللَّه - تعالى - رسوله عن قتالهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الآية نزلت في رجل من أهل اليمامة يقال له: شريح، وذلك أنه أتى المدينة، فدخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: أنت مُحَمَّد النبي؟ فقال: " نَعَم "، فقال: إلام تدعو؟ قال: " أَدْعُوا إِلَى أَنْ تَشهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأني مُحَمدٌ، رَسُولُ اللَّه "، فقال شريح: يا مُحَمَّد، هذا شرط شديد، وإن لي أمراء خلفي أرجع إليهم؛ فأعرض عليهم ما اشترطت عليَّ، وأستأمرهم في ذلك، فإن أقبلوا أقبلت، وإن أدبروا أدبرت فكنت معهم، ثم انصرف خارجًا من عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلما خرج، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لقَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي بِعَقِبَي غَادِرٍ، وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ بِوَجْهٍ كَافِرٍ، وَمَا الرجُلُ بِمُسلِمٍ " فمرَّ شريح

بسرح لأهل المدينة فساقها منهم. فلما كان من العام الثاني قدم شريح إلى مكة، ومعه تجارة عظيمة في حجاج، وكانت العرب في الجاهلية يُغِير بعضهم على بعض، فإذا كان أشهر الحرم، أمن الناس كلهم بعضهم بعضًا، فمن أراد أن يسافر قلد بعيره من الشعر أو الوبر؛ فيأمن بذلك الهدي حيثما ذهب، فلما سمع أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بحج شريح، وقدومه إلى مكة، أرادوا أن يغيروا على شريح؛ فيأخذوا ما معه، ويقتلوهم؛ كما أغار شريح على سرح أهل المدينة قبل ذلك؛ فاستأمروا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك؛ فنزلت الآية فيهم: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ. . .) إلى آخره؛ فلا ندري كيف كانت القصة؟ وليس بنا إلى معرفة القصة حاجة، إلا القدر الذي ذكر اللَّه في ذلك. وقوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)، وقال تعالى في موضع آخر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) الآية، وقال في آية أخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا) الآية. ذكر في بعضها الاعتداء ونهى عنه، وهو المجاوزة عن الحد الذي حُد لهم. وذكر في بعضها العدل، وأمر به، ونهى عن الظلم والجور. ثم الأسبابُ التي تحملهم وتبعثهم على الاعتداء والظلم، وتمنع القيام بالشهادة والعدل - ثلاثة:

أحدها: ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - البغض والعداوة، بقوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)، وقال: (عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا)، وقال: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا)، أمرهم بالقيام بالشهادة، وأخبر ألا يمنعكم الولاية والقرب القيام بالشهادة، أو طَمَعُ غِنًى أو خَوْفُ فَقْرٍ. هذه الوجوه التي ذكرنا تمنع الناس القيام بالشهادة، وتبعثهم على الجور والاعتداء؛ فنهاهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يحملهم بغض قوم، أو عداوة أحد على الجور والاعتداء. أو تمنعهم الشفقة، أو القرب، أو طمع غنى أحد، أو خوف فقر - القيامَ بالشهادة وما عليهم من الحق. وأمر أن يجعلوه كله لله بقوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)، فإذا كان كله للَّهِ، قدر أن يعدل في الحكم، وترك مجاوزة الحد الذي حد له، وقدر على القيام بالشهادة، وما ذكر، وما يمنع شيء من ذلك القيام به، من نحو ما ذكر: من البغض والعداوة، والقرب والشفقة، أو طمع الغنى وخوف الفقر؛ إذا جعل الحكم لله عدل فيه، ومنعه عن الجور فيه والاعتداء، وكذلك الشهادة إذا جعلها لله قام بأدائها، ولو على نفسه، أو ما ذكر لم يمنعه شيء عن القيام بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى): كان البر هو اسم كل خير، والتقوى: هي ترك كل شر. (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). ألا ترى أنه ذكر بإزاء البر: الإثمَ، وبإزاء التقوى: العدوانَ؛ فهذا يبين أن البرَّ: اسم

لكل خير، والتقوى: هي الانتهاء عن كل شر. ويجوز أن يكون ما ذكر في الآية الأولى وأمر به، وهو قوله: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ. . .) إلى قوله: (الْبَيْتَ الْحَرَامَ) يقول: عاونوهم على ما يأتون به من ذلك؛ فإنهم إلى البر يقصدون عند أنفسهم، وإن لم يكن فعلهم برًّا؛ لعبادتهم غير اللَّه تعالى. وإنما أمروا بمعاونتهم، وترك التعرض لهم -إن ثبت ما ذكر في القصة-: إذا أحرموا، أو قلدوا، أو قصدوا البيت الحرام في الوقت الذي جاز أن يعاهدوا فيه؛ كما يجوز لنا معاهدة أهل الكتاب على ألا نعرض لكنائسهم وبِيَعِهِم، وإن كانوا يعصون اللَّه فيها؛ لأنهم يدينون بذلك، ويقصدون به البر عند أنفسهم. فلما أمر بنقض عهود مشركي العرب، أمر بمنعهم من دخول المسجد، وأن يقتلوا حيث وجدوا، وإلى هذا المعنى ذهب أصحابنا - رحمهم اللَّه، واللَّه أعلم - في فَرقهم بين شهادة أهل الذمة على أمثالهم، وشهادة فُساق المسلمين؛ لأن أهل الذمة متدينون

بكفرهم، والفساق غير متدينين بفسقهم. وكذلك فرقهم بين ما يغلب عليه المشركون من أموال المسلمين، وبين ما يغلب عليه الفساق من أموال المسلمين. وكذلك سبيل الدماء التي يصيبها المحاربون من أهل البغي من أهل العدل، لا تشبه ما يصيبه الفساق منها؛ لأن أمر المتدين بدين خطأ مخالف في الحكم أمر المقر بالذنب فيه؛ ألا ترى أنه يجوز أن يُطْلَقَ لمن يعاقدونه من أهل الكتاب الصلاة في كنائسهم، وإن كان ذلك عندنا معصية حراما، ولا يجوز أن يُطْلَقَ المعصية لفساق المسلمين بحال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ): أي: نقمة اللَّه وعذابه: في ترك ما أمركم به، وارتكاب ما نهاكم عنه. (إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - في قوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ): أي: لا يحملنكم بغض قوم؛ لصدهم إياكم عن البيت الحرام؛ فتأثموا فيهم: أن تعتدوا؛ فتقتلوهم، وتأخذوا أموالهم. وقال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) البر: ما أمرت به، والتقوى: الكف عما نهيت عنه. وقال: والعدوان: هو المجاوزة عن حد اللَّه الذي حده لعباده. وقوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يؤثمنكم بغض قوم أن تعتدوا. وقال آخرون: لا يحملنكم. وفيه لغتان: (يُجْرِمَنَّكُم) برفع الياء، وبنصبها: (يَجْرِمَنَّكُمْ)، وهو ما ذكرنا.

(3)

قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ): هو على الإضمار - واللَّه أعلم - كأنه قال: حرم عليكم أكل الميتة والدم وأكل لحم الخنزير. . . إلى آخر ما ذكر؛ ألا ترى أنه قال: يجوز الانتفاع بصوف الميتة وبعظمها؛ دل أنه على الإضمار: إضمار " أكل "، وأما الانتفاع بجلدها لا يجوز إلا بعد الدباغ؛

لأن الجلد ربما يشوى مع اللحم فيؤكل؛ فهو حرام كاللحم، إلا أن يدبغ. ثم في الآية دليل الامتحان من وجهين: أحدهما: إباحة التناول من جوهر، وامتحن بحرمة الخنزير والدم لم يحله بسبب ولا بغير سبب، وامتحن بحل الآخر بسبب، وحَرَّم بسبب. والثاني: امتحن بسبب حل تنفر الطباع عنه؛ لأن كل ذي روح يتألم بالذبح واستخراج الروح منه، وجعل طبيعة كل أحد مما ينفر عنه لم يتألم به؛ لتطيب أنفسهم بذلك، ثم جعل ما يخرج من الأرض كله حلالاً بلا سبب يكتسبون، إلا ما لا يقدرون على التناول منه؛ لخوف الهلاك؛ لأنه موات لا تنفر الطبائع عنه، ثم جعل أسباب الحل أسبابًا يكتسبون مما لا يعمل في استخراج ذلك الدم المحرم منه حل أكله، وإذا لم يعمل في استخراج ذلك الدم؛ فهلك فيه - أفسده؛ لأنه أتلف فيه ما هو محرم فأفسده؛ فاستخراج ذلك الدم مما يطيب ذلك، ويمنع عن الفساد، إلا في طول الوقت، والذي هلك فيه الدم يفسد في قليل الوقت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ): قال الكسائي: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ): أي: ذكر وسمي عليه غير اسم اللَّه، مشتقة من استهلال الصبي، ومنه أهك الهلال، وأهل المهل بالحج إذا لبى.

قال قتادة: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة؛ حتى إذا ماتت أكلوها. والكافر - في الحقيقة - يهل لغير اللَّه؛ لأنه لا يعرف اللَّه حقيقة، لكنه أجيز ذبائح الكتابي؛ لأنه يسمي عليها اسم اللَّه تعالى. (وَالْمَوْقُوذَةُ): كانوا يضربون بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها. (وَالْمُتَرَدِّيَةُ): كانت تردى في بئر أو من جبل؛ فتموت. (وَالنَّطِيحَةُ): كان الكبشان يتناطحان؛ فيموت أحدهما، فيأكلونه. (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ): كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئًا من هذا وأكل منه، أكلوا ما بقي؛ فقال اللَّه - تعالى -: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ). ثم روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ) فما أَدْرَكْتَ من هذا كُلِّه يتحرك له الذنَبُ، أو يَطْرف له العينُ - فاذبحْ، واذكر اسم اللَّه عليه؛ فهو حلال.

وروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا طرفت بعينها، أو ركضت برجلها أو حركت ذنبها - فهي ذكية. وكذلك روي عن أبي الزبير أنه سمع عبيد بن عمير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول كذلك، وكانه روي - مرفوعًا - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كذلك. وهذا - واللَّه أعلم - إذا خنقها أو أوقذها - يغمى عليها، فإذا ذبحت، فحركت ذنبها، أو طرفت عينها، أو ركضت برجلها - أفاقت؛ فاستدل بذلك على حياتها. وليس هذا كشاة ينزع الذئب أو السبع ما في بطنها، وصارت بحال لا تتحامل، إنها وإن تحركت أو طرفت بعينها فإنها لا تؤكل. وأصله: أن كل ما لو قطع العروق فتركت فماتت، تكون ميتة، فإذا أدركها في تلك الحال فذكاها، كانت ذكية، وكل ما لو صار بحال لو ماتت كانت ذكية، فإذا أدركه في تلك الحال فذكاه، كانت ميتة. (وَالْمُتَرَدِّيَةُ): الممتنعة عن الذبح، في المذبح، إذا ذبح من غير المذبح يجوز أكله. وروي عن رافع بن خديج قال: أصبنا إبلا وغنمًا، فَنَدَّ منها بعير؛ فرماه رجل بسهم؛ فحبسه؛ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّ لِهَذِهِ الإبِلِ أَوابِدَ كآوابِدِ الوَحشِ، فَإِذَا كَانَ غَلَبَكُم شَيءٌ مِنْهَا، فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال - في البعير يتردى في البئر - إذا لم يُقْدَرْ على منحره؛ فهو بمنزلة الصيد ينحره من حيث أدرك. وسئل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن بعير تردى في بئر، فصار أعلاه أسفله؛

فقال: قطعوه أعضاء وكلوه. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كذلك روي أنه سئل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقيل: هل تكون الذكاة إلا في الحلق واللبَّة؛ فقال: أَمَا إِنَها لَوْ طُعِنَتْ فِي فَخِذِهَا، أَجْزَى عَنْكَ ". وَإِذَا ذكي بِغَيرِ السكين من نحْوِ المروة والقصبة مما يقطع - يجوز. روي أن عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول اللَّه، أُرْسِلُ كلبي فيأخذ الصيد، وليس معي ما أذكيه به؛ فأذبحه بالمروة أو القصبة؛ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَمْرِ الدَّمَ بمَا شِئْتَ، واذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيهِ ". وكذلك روي عن علي أبن أبي طالب - رضي اللَّه عنه -. وروي أن رجلًا أشاط دم جزور بجدل؛ فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إِذَا أَنْهرتَ الدَّمَ

فَكُلْ ". وعن حذيفة - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اذبح بكل ما أفرى الأوداج وأهرق الدم ما خلا السِّنَّ والظُّفُرَ ". وإلى هذا يذهب أصحابنا - رحمهم اللَّه - في ذلك، ويرون كل ما أنْهرَ الدم: من حجر، أو مروة، أو نحو ذلك - مذكى ويؤكل، ويحملون قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِلَّا السِّنَّ والظُّفُرَ " على أنهما إذا كانا غير منزوعين؛ لأن ذلك خنق، وليس بذبح؛ يفسر ذلك قول ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - حيث قال: إن ذلك خنق، وفي الخبر بيان؛ لأنه قال: " كُل مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الأوْدَاجَ، مَا خَلا السِّنَّ وَالظُّفُرَ؛ فَإِنَّهُمَا مُدَى الحَبَشَةِ "، وهم

إنما كانوا يذبحون بسن أو ظفر غير منزوعة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ). أي: للنصب، قيل: كانوا يذبحون للأوثان والأصنام التي يعبدونها؛ يتقربون بذلك إليها؛ كما كان أهل الإسلام يتقربون بالذبائح يذبحونها إلى اللَّه؛ فحرم اللَّه - عز وجل - ما كانوا يذبحون للنصب (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)؛ لما ذكرنا أن الأمر به خرج مخرج قبول النعمة والشكر له فيما أنعم عليهم من عظيم النعم؛ فإذا أهلوا به لغير اللَّه - أي: لغير وجه اللَّه لم يقبلوا نعمه، ووجهوا الشكر إلى غيره؛ فحرم لذلك، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ). قيل: سهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها. وقيل: الأزلام: هي القداح، كانوا يقتسمون بها الأمور: فكان الرجل إذا أراد سفرًا أخذ قِدحًا، فقال: " هذا يأمره بالخروج "، فإن هو خرج فهو مصيب في سفره خيرا، ويأخذ قِدحًا آخر؛ فيقول: " هذا يأمره بالمكث "، فإن هو خرج فليس بمصيب خيرًا في سفره. والمنيح بينهما؛ فنهي اللَّه عن ذلك، وأنبا أن ذلك فسق؛ بقوله: (ذَلِكُمْ فِسْقٌ).

وعن الحسن قال: كانوا يعمدون إلى قداح فيكتبون على أحدها: " مُرْني "، وعلى الآخر: " انْهَنِي "، ثم يحيلونها إذا أرادوا السفر: فإن خرج عليه " مرني " مضى في وجهه، وإن خرج الذي عليه " انهني " لم يخرج. قال أبو بكر الكيساني: إن في النهي عن العمل بالأزلام دليل النهي عن العمل بالنجوم، فإذا نهي عن العمل بقول المقتسمين ينهى -أيضًا- عن العمل بقول المنجِّمة؛ لأنهم يقولون عين ما يقول أُولَئِكَ ويعملون به، لكن المنجمة ليسوا يقولون: إن نجم كذا يأمركم كذا، ونجم كذا ينهى عن كذا؛ على ما كان يفعل أُولَئِكَ. ويجوز أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل في النجوم أعلامًا ومعاني يدركون بها، ويستخرجون أشياء تحتمل ذلك؛ ويكون على ما يستخرج أهل الاجتهاد بالاجتهاد أشياء من معنى النصوص، وأحكامًا لم تذكر في المنصوص؛ فعلى ذلك المنجمة يجوز أن يستخرجوا أشياء من النجوم بدلائل ومعان تكون في النجوم، ولا عيب عليهم في ذلك ولا لائمة، إنما اللائمة عليهم فيما يحكمون على اللَّه ويشهدون عليه. قَالَ الْقُتَبِيُّ: الأزلام: القداح، واحدها: زَلَم وزُلَم، بها: أن يضرب، فأخذ الاستقسام من القسم - وهو النصيب - كأنه طلب النصيب. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: استقسمت، أي: ضربت بالقداح؛ قال: كأنه من القسم. وقال أبو عبيد: إنما سمي: استقسامًا؛ لأنهم كانوا يطلبون قسم الرزق وطلب

الحوائج بها؛ فكانوا يسألونها أن تقسم لهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمْ فِسْقٌ): يحتمل قوله: (فِسْقٌ): أي: العمل بالأزلام، والشهادة على اللَّه أنه أمر بذلك - فِسق، وعلى هذا من يستجيز العمل بالقرعة؛ لأنه يقول: يقرع فمن خرجت قرعته يحكم له، فإنما يحكم له بأمر القرعة؛ كأن القرعة تأمره بالحكم لهذا بهذا، وتنهاه عن الحكم لهذا بهذا، فهو بالأزلام والقداح التي نهى اللَّه عن العمل بذلك أشبه، وبها أمثل من غيره. ويحتمل قوله - تعالى -: (ذَلِكُمْ فِسْقٌ): أي: التناول مما ذكر من المحرمات: من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير اللَّه به، وما ذبح على النصب، وما ذكر في أول السورة من الاصطياد في الإحرام والتناول منه؛ ذلك كله فسق، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ): إنهم كانوا يطمعون دخول أهل الإسلام في دينهم وعودهم إليهم، فأيأسهم اللَّه - سبحانه وتعالى - عن ذلك؛ فقال: اليوم يض الذين كفروا من ترككم دين الإسلام؛ فلا تخشوهم واخشون؛ آمنهم عن ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) الآية: قال أبو عبيد: كان دينهم إلى ذلك اليوم ناقصًا؛ فحينئذ كمل دينهم؛ فعلى زعمه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يدعو الناس إلى دين ناقص، ومن مات من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من المهاجرين والأنصار - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - ماتوا على دين ناقص، ويحشرون يوم القيامة على دين ناقص، وأي قول أفحش من هذا وأسمج؟!. وقال آخر من أصحابه: كان الدِّين كاملاً إلى ذلك الوقت، فلمَّا بعث اللَّه بالفرائض، وافترض عليهم - صار الدِّين ناقصًا إلى أن يؤدوا الفرائض وما افترض عليهم؛ فعند ذلك يكمل؛ فهذا القول -أيضًا- في الوحشة والسماجة والقبح مثل الأول.

ويقال لأبي عبيد: قل -أيضًا- بأنه لم يكن رضي لهم بالإسلام دينًا قبل ذلك فعند ذلك رضي. والأصل في تأويل الآية وجوه: أحدها: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ): أي: برسوله، وببعثه أكملت لكم دينكم، وبه أتممت عليكم نعمتي. ويحتمل قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ): أي: اليوم أظهرت لكم دينكم، ولم يكن قبل ذلك ظاهرًا، حتى قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " نُصِرتُ بِالرعْب مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ "، وقال: " أَلا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ "؛ وذلك لظهوره ولغلبة أَهل الإسلام عليهم، وإن لم يكن هذا قبل ذلك. ويحتمل قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)؛ لما آمنهم من العدو والعود إلى دين أُولَئِكَ، وإياس أُولَئِكَ عن رجوعهم إلى دين الكفرة، وأي نعمة أتم وأكمل من الأمن من العدو؛ ويقول الرجل: اليوم تم ملكي وكمل؛ إذا هلك عدوه؛ لأمنه من عدوه، وإن كان لم يوصف ملكه قبل ذلك بالنقصان؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقيل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، أي: أمر دينكم بما أمروا بأمور وشرائع لم يكونوا أمروا بها قبل ذلك، وهذا جائز. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا): أي: أكرمتكم بالدِّين المرضي وهو الإسلام؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ): قيل: المخمصة: المجاعة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: رجل خميص، أي: جائع. وقال غيره: هو من ضيق البطن. وهو واحد؛ لأنه من الجوع ما يضيق البطن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ):

(4)

قَالَ بَعْضُهُمْ: (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ): أي: غير مُتَعَمد لإثم، وهو قول ابن عَبَّاسٍ. وقال الكسائي: (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ): غير متمايل، والجنف: الميل، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ -أيضًا-: الجنف: الميل. ثم قوله: (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) يحتمل وجهين: قيل: غير مستحل أكل الميتة في حال الاضطرار، وحرم عليه التناول من الصيد. وقيل: غير متلذذ ولا مشتهٍ، يتناول على التكره منه، لا على التلذذ والشهوة. وقيل -أيضًا-: إنه لا يتناول إلا في حال الاضطرار؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) تفسير قوله: (اضْطُرَّ)؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، أي: من رحمته أن جعل لكم التناول من المحرم، ورخص لكم؛ إذ له أن يترككم تموتون جوعًا؛ كقوله - تعالى -: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. . .) الآية. * * * قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ): ليس في السؤال بيان: مم كان سؤالهم؟ ولكن في الجواب بيان المراد من سؤالهم، فقال: (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)؛ دل قوله - تعالى -: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ): أن سؤالهم كان عن الطيبات، مما يصطاد من الجوارح. ثم اختلف في قوله - تعالى -: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: (الطَّيِّبَاتُ): هن المحللات، لكنه بعيد؛ لأنه كأنه قال: " أحل لكم المحللات "؛ على هذا التأويل. لكنه يحتمل وجهين غير هذا: أحدهما: أن أحل لكم بأسباب تطيب بها أنفسكم من نحو: الذبح، والطبخ،

والخبز، وغيره. لم يحل لكم ما يكره به أنفسكم التناول منه غير مطبوخ، ولا مذبوح، ولا مشوي، ولكن أحل لكم بأسباب طابت بها أنفسكم التناول منه، واللَّه أعلم. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن أحل لكم ما يستطيب به طباعكم لا ما تنكره طباعكم وتنفر عنه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ): كأنهم سألوا رسول اللَّه، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عما يحل من الجوارح؛ فذكر ذلك لهم، مع ما ذكر في بعض القصة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما أمر بقتل الكلاب، فأتاه أناس، فقالوا: ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزل قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) الآية. وقيل: سميت: جوارح؛ لما يكتسب بها، والجوارح: هن الكواسب؛ قال اللَّه - تعالى -: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ)، قيل: اكتسبوا، وجرح: كسب. وقال أبو عبيد: سميت: جوارح؛ لأنها صوائد، وهو ما ذكرنا من الكسب، يقال: فلان جارحٌ أهله، أي: كاسبهم. وقال غيره: سميت: جوارح؛ لأنها تجرح، وهو من الجراحة، فإذا لم يَجْرح، لم يحل صيده. واحتج مُحَمَّد - رحمه اللَّه - بهذا المعنى في صيد الكلب إذا قَتَلَ، ولم يَجْرَح في مسألة من كتاب الزيادات، ومما يدل على صحة ذلك ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن المعراض؛ فقال: " مَا أَصَبتَ بَعَرْضِهِ فَلَا تَأكُلْ؛ فَهُوَ وَقِيذٌ، وَمَا أَصَبتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ. . .) الآية. قَالَ بَعْضُهُمْ: (مُكَلِّبِينَ) هن الكلاب يكالبن الصيد. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: المكلبون: أصحاب الكلاب، وكذلك قال الفراء والكسائي: المكلبون: هم أصحاب الكلاب. والمكلب: الكلب المعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُعَلِّمُونَهُنَّ): قال الحسن وأبو بكر: تضرونهن، يقال: كلب مضراة على طلب الصيد، وهما يبيحان الصيد وإن أكل منه الكلب؛ فعلى قولهما يصح تأويل الإضراء؛ إذ يبيحان التناول، وإن أكل منه. وقال: تؤدبونهن؛ ليمسكوا الصيد لكم، وهو عندنا على حقيقة التعليم؛ تُعَلّم ليمسكوا الصيد لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) يتوجه وجهين: أحدهما: (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ)، أي: مما جعل بينكم، بحيث احتمال تعليم هَؤُلَاءِ، ولم يجعل غيركم من الخلائق محتملاً لذلك ولا أهلاً. ويحتمل قوله - تعالى -: (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ): أن قال لكم: علموهن بكذا، وافعلوا كذا، فكيفما كان، ففيه دليلُ جَعْلِ العلم شرطا فيه. ثم تخصيص الكلاب بالذكر دون غيرها من الأشياء، وإن كانت الكلاب وغيرها سواء إذا عُلِّمَتْ؛ لخبث الكلاب ومخالطتها الناس، حتى جاء النهي عن اقتنائها، وجاء الأمر بقتلها في وقت لم يجئ بمثله في سائر السباع؛ ليعلم أن ما كسب هَؤُلَاءِ مع خبثها إذا كن معلمين، يحتمل التناول منه، فغيرها مما لم يجئ فيه ذلك أحرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ).

إنما أباح أكل ما أمسك علينا، ولم يبح مما أمسك على نفسه؛ لأن الكلب وغيره من السباع من طباعهم إذا أخذوا الصيد يأخذون لأنفسهم ولا يصبرون على ألا يتناولوا منه، فإذا أخذ الصيد ولم يتناول منه؛ دل أنه إنما أمسك لصاحبه، وإذا تناول منه لم يمسك لصاحبه؛ لأن الباقي لا يدري أنه أمسكه لصاحبه أو أمسكه لنفسه لوقت آخر لما شبع، وعلى ذلك جاءت الآثار. روي عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول اللَّه، إنا قوم نَتَصَيدُ بهذه الكلاب والبزاة، فهل يحل لنا منها؛ فقال: " يَحِلُّ لَكُم (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) مِما عَلَّمْتُمْ مِنْ كَلْب أَوْ بَازٍ، فَذَكَرتَ عَلَيهِ اسْمَ اللَّهَ " قلت: وإن قتل؟ قال: " إِذَا قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْهُ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَيكَ، وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ "، فقلت: يا رسول اللَّه، أرأيت إن خالطت كلابنا كلابًا أخرى؟ قال: " إِذَا خَالَطَ كَلْبُكَ كِلَابًا فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ إِنَّمَا ذَكَرتَ اسْمَ اللَّهَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَم تَذْكُرهُ عَلَى كَلْبِ غَيرِكَ ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - أنه قال: إذا أكل الكلب من الصيد، فليس بمعلم. وعنه -أيضًا- قال: إذا أكل الكلب من الصيد فلا تأكل، وإذا أكل الصقر فكل؛ لأن الكلب تستطيع أن تضربه والصقر لا. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل واضربه. وقد ذكرنا من الأخبار ما يدل على أن الكلب إذا كان غير معلم لم يؤكل صيده، من خبر عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول اللَّه، إنا قوم نصيد بهذه الكلاب؟ فقال: " إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعلَّمَةَ، وَذَكَرتَ اسْمَ اللَّهَ عَلَيهَا، فَكُلْ مَما أَمْسَكْنَ عَلَيكَ، وَإِنْ قَتَلْنَ، إِلا أَنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ، فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأكُلْ "، وعلى هذا يخرج قولنا: إنه إذا أكل من دمه يؤكل؛ لأنه لو أمسكه علينا كنا لا نأكله، وذلك من غاية تعليمه؛ لأنه تناول الخبيث،

وأمسك الطيب على صاحبه. ولو كان صيد الكلب إذا أكل منه حلالا، لكان المعلَّم وغير المعلَّم سواء، وكان ما أمسك على نفسه وعلى صاحبه سواء؛ لأن كل الكلاب تطلب الصيد إذا أرسلت عليه، وتمسكه حتى يموت، وتأكل منه إلا المعلم، فما معنى تخصيص اللَّه - تعالى - المعلم منها والممسك على صاحبه، لو كان الأمر على ما قال مخالفنا. وقد روي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن عُلِّمَ الكلبُ حتى صار لا يأكل من صيد، ثم أكل من صيد يصيد - لم يجز أن يؤكل من صيده الأول إذا كان باقيًا. ومذهبه عندنا - واللَّه أعلم -: أن صيد الكلب لا يؤكل حتى يكون معلمًا، وإن أمسك في أول ما برسل فلم يأكل، فإذا أمسك مرارًا ثم أكل، دَلنا أكله على أن إمساكه عن الأكل لم يكن لأنه معلم؛ إذ قد يمسك غير المعلم للشبع، ولو كان معلمًا ما أكله؛ فاستدل بأكله في الرابعة على أن إمساكه في الثالثة كان على غير حقيقة تعليم، وهذا عندنا في صيد يقرب بعضه من بعض، فأما إذا كثر إمساكه، ثم ترك إرساله مدة، يجوز أن ينسى فيها ما علم، ثم أرسل فأكل - فليس فيها رواية عنه، ويجوز أن يقال: يؤكل ما بقي من صيده الأول، ويفرق بين المسألتين بأن الثاني قد نسى، والأول يبعد من النسيان؛ لتقارب ما بين الصيدين؛ فلا وجه إلا أن يجعل غير مستحكم التعليم في الصيد المتقدم. وقد ذكرنا - فيما تقدم -: أن الصقر والبازي من الجوارح، واستدللنا على ذلك بما أوضحناه؛ فدل ذلك على أن صيد ما ليس بمعلم من الطير لا يؤكل إلا أن يدرك ذكاته. ثم يكون تعليم البازي والصقر بإجابته صاحبه ورجوعه إليه، وتعليم الكلاب ترك الأكل

(5)

منه؛ لأن البازي ونحوه مستوحش عن الناس ينفر طبعه عنهم؛ فدل إلفه الناس وإجابة أصحابهم على التعلم وإن أكل منه، ولا يحتمل أن يكون بالتناول منه يخرج عن حد التعليم؛ لأنه إنما يعلم بالأكل من الصيد، وأما الكلب: فإنه يألف الناس ولا يستوحش، ومن طبعه اكل إذا أخذ الصيد؛ فدل إمساكه عن التناول منه على أنه معلم. وقد روي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن عَبَّاسٍ ما يدل على تأييد ما ذكرنا، قالا: إذا أكل الصقر فكل، وإن أكل الكلب فلا تأكل. وعن سلمان كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). يحتمل قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ)؛ فلا تستحلوا ما لم يذكر اسم اللَّه عليه؛ فإنها ميتة. ويحتمل: اتقوا اللَّه في ترك ما أمر ونهى كله. (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، يحتمل السرعة: كناية عن الشدة. وقوله تعالى (سَرِيعُ الْحِسَابِ): شديد العقاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ... (5) يحتمل قوله: (الْيَوْمَ) حرف افتتاح يفتتح به الكلام، لا إشارة إلى وقت مخصوص؛ على ما ذكرنا في قوله - تعالى -: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، وقد يتكَلم باليوم لا على إشارة وقت مشار إليه. وهو - واللَّه أعلم - ما حرم عليهم من الثمانية الأزواج التي ذكر اللَّه - تعالى - في سورة الأنعام، وهو قوله: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ. . .) إلى آخر ما ذكر. ثم قال: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا. . .) الآية، وما حرموا هم على أنفسهم من: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، وغيرها من المحرمات التي كانت، فأحل اللَّه ذلك لهم؛ فقال: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)، وكانت محرمة عليهم قبل ذلك، لكن أهل التأويل صرفوا الآية إلى الذبائح، لم يصرفوا إلى ما ذكرنا، وقد ذكرنا المعنى الذي به صارت الذبائح طيبات فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ):

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ)، أي: ذبائحهم حل لكم، وذبائحكم حل لهم. إلى هذا حمل أهل التأويل، فَإِنْ قِيلَ: أليس جعل ذبائحنا محللة لهم وذبائحهم محللة لنا، ثم تحل ذبائحنا لهم ولغيرهم؟ كيف لا حل ذبائحهم وذبائح غيرهم، وهو ذبائح المجوس؟ قيل: حل الذبائح شرعي، وليس للمجوس كتاب آمنوا به؛ فتحل ذبائحهم، وأما أهل الكتاب، فإنهم آمنوا بما في الكتاب، حله وحرمته؛ لذلك افترقا، واللَّه أعلم. والآية على قول أصحاب العموم توجب حل جميع طعام أهل الكتاب لنا وحل جميع طعامنا لهم؛ لأنه قال: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)؛ فعلى قولهم لكل واحد من الفريقين أن يتناول طعام الفريق الآخر؛ دل على أن مخرج عموم اللفظ لا يوجب الحكم عافَا للفظ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ): اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالْمُحْصَنَاتُ) أراد به الحرائر. وقال آخرون: أراد به العفائف منهن غير زانيات؛ كقوله - تعالى -: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً)، نهى عن نكاح الزانيات، ورغب في نكاح العفائف، وهذا أشبه من الأول؛ لأنه قال في آخر الآية: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ)؛ دل هذا على أنه أراد بالمحصنات: العفائف منهن لا الحرائر، ودلت الآية على حل نكاح الحرائر من الكتابيات، وعلى ذلك اتفاق أهل العلم، لكن يكره ذلك. روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كره تزوجهن، فهذا عندنا على غير تحريم

منه لتزويجهن، ولكن رأى تزويج المسلمات أفضل وأحسن؛ لمشاركتها المسلم في دينها. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كراهة ذلك؛ وذلك لأن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تزوج يهودية؛ فكتب إليه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يأمره بطلاقها، ويقول: " كفى بذلك فتنة للمسلمات "، فهذا -أيضًا- لا على سبيل التحريم، ولكن لما ذكر من الفتنة: فتنة المسلمات، فأصحابنا - رحمهم اللَّه - يكرهون أيضًا تزويج الكتابيات ولا يحرمونه. واختلف أهل العلم في تزويج إمائهن: فتأول قوم قول اللَّه - تعالى -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) على الحرائر، وتأوله آخرون على العفائف. وقد ذكرنا أن صرف التأويل إلى العفائف أشبه؛ بدلالة قوله: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) ومع ما لو كانت المحصنات هاهنا هن الحرائر، لم يكن فيه حظر نكاح إماء الكتابيات؛ لأنه إباحة نكاح الحرائر من الكتابيات، وليس في إباحة شيء في حال حظر غيره فيه، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم، فالمجوسية ليست عندنا من أهل الكتاب؛ والدليل على ذلك قول اللَّه - تعالى -: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا) فأخبر اللَّه - تعالى - أن أهل الكتاب طائفتان؛ فلا يجوز أن يجعلوا ثلاث طوائف، وذلك خلاف ما دل عليه القرآن؛ ألا ترى أنه لو قال رجل: " إنما لي عليك يا فلان، درهمان "، لم يكن له أن يدعي عليه أكثر من ذلك، ولو قال: " إنما لقيت اليوم رجلين "، وقد لقي ثلاثة، كان كاذبًا؛ لأن قوله: " إنما لقيت رجلين "، كقوله: لقيت اليوم رجلين، ولا يجوز مثل هذا في أخبار اللَّه؛ لأنه الصادق في خبره عَزَّ وَجَلَّ. فَإِنْ قِيلَ: هذا شيء حكاه اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن المشركين، وقد يجوز أن يكونوا

غلطوا، فحكي اللَّه - تعالى - عنهم ما قالوا. قيل له: لم يحك اللَّه - تعالى - هذا القول عن المشركين، ولكن قطع بالقرآن عذرهم، فقال: (أُنْزِلَ الْكِتَابُ)؛ لئلا يقولوا: (إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ)، فهذا كلام اللَّه واحتجاجه على المشركين، وليس بحكاية عنهم. ومن الدليل على أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب ما قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو في مجلس بين القبر والمنبر: ما أدري كيف أصنع بالمجوس، وليسوا بأهل الكتاب؟ "، فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " سُنُوا بِالمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ ". صرح عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بأنهم ليسوا أهل الكتاب،

ولم ينكر عبد الرحمن ذلك عليه، ولا أحد من الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - فلو كانوا أهل الكتاب لقال: " هم أهل الكتاب "، لم يقل: " سُنُّوا بِهِم سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ ". وكذلك روي عن الحسن بن مُحَمَّد أنه قال: كتب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى مجوس هجر، فقال: " أَدْعُوكم إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّه، وَأَني رَسُولُ اللَّه فَإِنْ أَسْلَمْتُم فَلَكُم مَا لَنَا وَعَلَيكُم مَا عَلَينَا، وَمَنْ أَبَى فعَلَيهِ الْجِزيَةُ، غَيرَ آكِلي ذَبَائِحِهِمِ، وَلَا نَاكِحِي نِسَائِهِم ". وإلى هذا ذهب أصحابنا - رحمهم اللَّه - في قولهم: إن المجوس ليسوا بأهل كتاب. وأما نصارى بني تغلب: فإن عليًّا - رضي اللَّه عنه - قال: لا تحل ذبائح نصارى العرب؛ فإنهم ليسوا بأهل كتاب، وقرأ: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ). وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تؤكل، وقرأ: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. . .). والآية الأولى تدل على أنهم أهل كتاب؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد جعلهم منهم بقوله: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ)، فحكمهم حكمهم؛ إذ أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم منهم. ومما يدل على ذلك -أيضًا- قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " لَا يَخْتَلِجَنَّ فِي صَدْرِكَ

طَعَامٌ ضًارَعت فِيهِ النَّصْرَانِية "؛ لأنه عم فيه النصارى؛ فدخل فيه عربهم وعجمهم؛ لأنهم دانوا بدينهم، وكل من دان بدين قوم فهو منهم. ومن الدليل على أن العرب إذا دانوا بدين أهل الكتاب فهم من أهل الكتاب -: أن العجم لما أسلموا صار حكمهم حكم عرب أهل الإسلام؛ فإن ارتد أحد منهم، وسأل أن تؤخذ منه الجزية؛ كما كانت تؤخذ في الابتداء من المجوس - لم يُجَبْ إلى ذلك، وقيل له: إما أن تسلم، وإما أن تقتل، فهو بمنزلة عربي مسلم لو ارتد عن الإسلام، فلما كان حكم العجمي إذا دان بدين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حكم العرب - وجب أن يكون حكم العربي إذا دان بدين العجم من أهل الكتاب أن يجعل حكمه حكمهم، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ): ذكر إيتاء أجورهن، وقد يحللن لنا إذا لم نؤت أجورهن؛ دل أن ذكر الحكم في حال لا يوجب حظره في حال أخرى؛ فهو دليل لنا في جواز نكاح الإماء من أهل الكتاب، وإن ذكر في الآية المحصنات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. . .) الآية. أي: ومن يكفر بالذي عليه الإيمان به، وهو الْمُؤْمَنُ به، أي: اللَّه؛ لأنه لا يكفر بالإيمان، ولكن يؤمن به، وهو كقوله: (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، أي: الموقَن به؛ فعلى ذلك الأول معناه: ومن يكفر بالذي عليه الإيمان به، وهو الْمُؤْمَنُ به (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وباللَّه العصمة والهداية. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا

(6)

فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ): لو حملت الآية على ظاهرها لكان لا سبيل لأحد على القيام بأداء ما فرض اللَّه عليه من الصلاة؛ لأنه كلما قام إلى الصلاة يلزمه الوضوء؛ فلا يزال يبقى فيه، لكنها على الإضمار؛ كأنه قال: " إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق؛ وإلا فظاهر الآية يوجب ما ذكرنا، لكن الحدث مضمر فيه. ومن الناس من يوجب الوضوء لكل صلاة بظاهر هذه الآية، وقد جاء عن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - الفعل بذلك: روي عن أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي اللَّه عنهم - أنهم توضئوا لكل صلاة. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نحو ذلك، وروى أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى الظهر، ثم قعد في الرحبة، فلما حضرت العصر دعا بكوز من ماء، فغسل يديه ووجهه وذراعيه ورجليه، وشرب فضله، وقال: " هكذا رأيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل "، وقال: " هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَم يُحْدِثْ ".

وروي عن عبيد بن عمير، أنه كان يتوضأ لكل صلاة، وتأول هذه الآية. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكة، صلى الصلوات كلها بوضوء واحد؛ فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يا رسول اللَّه، إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله؟ فقال: " إِني عَمدًا فَعَلْتُهُ يَا عُمَرُ ". وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْلَا أَنْ أَشُق عَلَى أمَّتي لَأَمَرتُ فِي كُل صَلَاة الوُضُوءَ، وَمَعَ كُلً وُضُوء السوَاكَ ". وكل ما روي من الأخبار بالوضوء لكل صلاة، هو على الفضل عندنا والاستحباب لا على الحتم؛ ألا ترى أنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد، وقال: " إِني عَمْدًا فعَلْتُهُ "؛ دل ذلك على ما ذكرنا. وقد يحتمل تأويل الآية معنى آخر: ما روي عن بعض الصحابة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

كان إذا أراق ماء نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى يأتي أهله فيتوضأ وضوءه للصلاة؛ فقلنا له في ذلك؛ حتى نزلت آية الرخصة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ)؛ فهذا يدل أن معنى الآية على الإضمار: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم. وروي في تأويل الآية: إذا قمتم من المضجع إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم. وقد رويت الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن الصحابة بإيجاب الوضوء من النوم؛ فكان ذلك شاهدا لهذا التأويل: روي عن ابن عَبَّاسٍ عن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه كان ينام، ثم يصلي الصبح ولا يتوضأ؛ فسُئل عن ذلك؟ فقال: " إِني لَستُ كَأَحَدٍ مِنْكُم؛ إِنَهُ يَنَامُ عَينَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي، وَلَوْ أحْدَثْتُ لَعَلِمْتُ ". وروي عن صفوان بن عسال قال: إذا كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في سفر يأمرنا ألا ننزع خفافنا إذا أدخلناهما طاهرتين، ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم، إلا من جنابة ". فهذه الأحاديث توجب الوضوء من النوم مجملاً، وجاء حديث آخر مفسرا بإيجاب الوضوء إذا نام مضطجعًا: روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - قال: " لَيسَ عَلَى مَنْ نَامَ قَاعِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضْطَجِعَ، فَإِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرَخَتْ مَفَاصِلُهُ ".

فهذا يفسر الأخبار التي جاءت مجملة. وقد جاءت الأخبار أنه إذا نام في الصلاة قائمًا أو قاعدًا أو ساجدًا، فلا وضوء عليه؛ فيدل ذلك على أن النوم في الصلاة ليس بحدث. وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا يجب الوضوء حتى يضع جنبه وينام. فهذا يؤيد ما قلنا مع ما اجتمع أهل العلم في أن الوضوء ليس بواجب على من قام إلى الصلاة وهو غير محدث؛ فكان التأويل ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الخطاب من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بغسل الوجه: ما يعرف أهله الوجه؛ فالتكلم فيه والتحديد أنه من كذا إلى كذا فضل تكلم. والأمر بالغسل يرجع إلى ما ظهر وعرف أهله أنه وجه، وكذلك الأمر بمسح الرأس، يرجع إلى ما عرف أهله أنه رأس، وليس كالأذنين؛ لأن معرفة الأذنين أنهما من الرأس سمعي؛ لأنهما لا تعرفان أنهما من الرأس إلا بالسمع، وكذلك الأمر بغسل اليد، وغسل الرجل، يقع على ما يعرف الناس، وعرف الناس اليد إلى الإبط، والرجل إلى الركبة؛ فخرج ذكر المرافق في غسل الأيدي على إخراج ما وراء المرافق، وكذلك ذكر الكعب في الرجل؛ لإخراج ما وراء الكعب؛ لأن اسم اليد على الإطلاق يقع من أطراف الأصابع إلى الإبط. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قرءوا بالنصب، وقرءوا بالخفض:

قَالَ بَعْضُهُمْ: من قرأ بالنصب، فهو يرجع إلى الغسل؛ نسقًا على الوجه، وبالخفض يرجع إلى المسح: مسح الخفاف؛ نسقًا على مسح الرأس، لكن هذا بعيد؛ لأنه تناقض: لا يجوز أن يأمر بالغسل والمسح جميعًا. ومعنى الخفض؛ لقرب جواره بقوله - تعالى -: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ)، وقد يجوز ذلك؛ نحو قوله تعالى: (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23). فمن قرأ بالخفض إنما قال: لقرب الجوار بالخفض؛ فعلى ذلك الأول، ثم الحكمة في الأمر بغسل هذه الأعضاء؛ ليذكرهم تطهير باطنهم. والمعنى في غسل هذه الأعضاء الظاهرة - واللَّه أعلم - لمعنيين: أحدهما: أما اليد شكرًا لما بها يتناول ويقبض. وأما الرجل؛ لما بها يمشي، وبها يصل إليه. والوجه؛ لأنه مجمع الحواس التي بها يعرف عظيم نعم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من نحو: البصر، والفم، وغيرهما من الحواس التي يكون بها التلذذ والتشهي. أو أمر بذلك؛ تكفيرًا لما ارتكب بهذه الحواس من الإجرام؛ لأنه بها يُرتكب جُلُّ الآثام، وبها يوصل إليها من: المشي، والقبض، وغير ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) قيل: اغتسلوا: تأخذ الجنابة الظواهر من البدن وبواطنه، والحدث لا يأخذ إلا الظواهر من الأطراف؛ لأن السبب الذي يوجب الجنابة لا يكون إلا باستعمال جميع ما فيه من القوة؛ ألا ترى أنه به يضعف إذا أكثره وبتركه. يقوى؟! فعلى ذلك أخذ جميع البدن ظاهره وباطنه. وأما الحدث: فإن سببه يكون بظواهر هذه الأطراف، من نحو: الأكل والشرب، والحدث ليس باستعمال كل البدن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ. . .) الآية ذكر المرض والسفر والمجيء من الغائط، والملامسة، ثم الحكم لم يتعلق باسم المرض ولا باسم السفر؛ ولكن باسم الغائط، ولكن كان متعلقًا لمعنى فيه؛ ففيه دلالة جواز القياس؛ لأنه ذكر الغائط والمجيء منه، والغائط: هو المكان الذي تقضى فيه الحاجات، والمراد منه: المعنى وهو قضاء الحاجات؛ فهذا أصل لنا أن النص إذا ورد لمعنى، فوجد ذلك المعنى في غيره - وجب ذلك الحكم في ذلك الغير، فإذا عدم الماء

في المكان الذي يعدم، وإن لم يكن سفرا - يجوز التيمم فيه؛ وكذلك إذا خاف الضرر من الماء - جاز له التيمم، وإن لم يكن مريضا؛ لأنه ليس أباح ذلك للمريض باسم المرض ولا باسم السفر؛ ولكن لمعنى فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ): قد ذكرنا فيما تقدم أن الملامسة: هي الجماع؛ كذلك روي عن عليٍّ وابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - وقال ابن عَبَّاسٍ: " الملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والغشيان كله جماع، ولكن اللَّه كريم يكني ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا). جعل الطهارة بالماء والتراب؛ لأنه بهما معاش الخلق، وبهما قوام الأبدان، حتى جعل جميع أغذية الخلق وجل مصالحهم منهما؛ فعلى ذلك جعل قيام هذه العبادات بهما، واللَّه أعلم. ثم الحكمة في وجوب الطهارة وجهان: أحدهما: ما ذكرنا: أن يذكرهم طهارة الباطن. والثاني: تكفيرًا لما ارتكبوا بهذه الجوارح من الإجرام، أو شكرًا لما أنعم عليهم من المنافع التي جعل لهم فيها من القبض والبسط، والتناول والأخذ والمشي، وغير ذلك مما يكثر. ثم الحكمة في جعل الطهارة في أطراف البدن للتزين والتنظيف؛ لأنه يقدم على الملك الجبار، ويقوم بين يديه ويناجيه، ومن أتى ملكًا من ملوك الأرض يتكلف التنظيف والتزيين، ثم يدخل عليه؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا): قال عبد اللَّه بن مسعود وعمر - رضي اللَّه عنهما -

الملامسة: ما دون الجماع "، وقالا: " إن الجنب لا يتيمم، وإن لم يجد الماء شهرًا ". وإنما قالا: " إنه لا يتيمم "؛ لما قالا: " إن اللمس ما دون الجماع "؛ فلم يدخل الجنب في هذه الآية، فأوجبوا عليه الغسل بقوله - تعالى -: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا)، وجعلا قول اللَّه - تعالى -: (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) على مرور الجنب في المسجد، ولم يجعله على أنه يصلي إذا كان مسافرًا ولم يجد الماء بالتيمم، فهذا الذي منع عبداللَّه أن يطلق للجنب أن يصلي بالتيمم على كل حال. فأما علي وابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - فإنهما جعلا اللمس الذي ذكره اللَّه - تعالى - في هذه الآية الجماع، وقالا: " كنى اللَّه - تعالى - عن الجماع بالمسيس والغشيان والمباشرة، وجعل قول اللَّه - تعالى -: (إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) في المسافر الذي لم يجد الماء وهو جنب. وقد روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه أذن للجنب من الجماع أن يتيمم: إذا لم يجد

الماء؛ فكان ذلك حجة على من منع الجنب من التيمم. ثم قول الشافعي قول ثالث خارج عن قول الصحابة والسلف جميعا - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - لأنه يزعم " أن اللمس هو الجماع وما دونه، فذلك ابتداع في الآية قولاً وتفسيرًا؛ خالف فيه ما روي في تفسيرها عن الصحابة جملة والسلف؛ لذلك كان مخطئًا مبتدعًا، وأصله أن اللَّه - تعالى - ذكر الوضوء وأمر به في الآية، وهو قوله - تعالى -: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ. . .) الآية: ولم يذكر الحدث، وأمر بالاغتسال من الجنابة، وهو قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) ولم يذكر من أي جنابة؟ ثم ذكر الحدث في قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ)؛ فعلى ذلك قوله - تعالى -: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) كان بيانًا لما تقدم من الأمر بالاغتسال من الجنابة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)، قيل: اقصدوا صعيدا طيبًا، والصعيد: هو وجه الأرض. وقوله: (طَيِّبًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: الطيب: ما يُنبت من الزرع وغيره. وقال آخرون: الطيب - هاهنا - هو الطاهر؛ روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " جُعِلَتْ لي الأَرْضُ مَسجِدًا وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِيَ الصلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيتُ ": أخبر أن الأرض

(7)

جعلت له مسجدًا وطهورًا؛ فكان قوله: " طهورًا " تفسيرًا لقوله: " طيبًا "، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) قد ذكرنا فيما تقدم أن التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) يحتمل هذا وجهين: يحتمل ما يريد أن يضيق عليكم ليأمركم بحمل الماء إلى حيثما كنتم في الأسفار وغيره؛ ولكن جعل لكم التيمم، ورخص لكم أن تؤدوا ما فرض عليكم به، ولم يكلفكم حمل الماء في الأسفار وغيره، واللَّه أعلم. ووجه آخر: ما أراد اللَّه بما تعبدكم من أنواع العبادات أن يجعل عليكم من حرج؛ ولكن أراد ما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) يحتمل يريد ليطهركم به: بالتوحيد والإيمان به وبالرسل جميعًا. ويحتمل قوله: (يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) من الذنوب والآثام التي ارتكبوها؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ). ويحتمل: التطهير من الأحداث والجنابات كما قال أهل التأويل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) تمام ما ذكرنا من التوحيد والإيمان والهداية لدينه، والتكفير مما ارتكبوا، ويجوز أن يكون هذا في قوم علم اللَّه أنهم يموتون على الإيمان؛ حيث أخبر أنه يتم نعمته عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... (7) أمر - واللَّه أعلم - بشكر ما أنعم عليهم من أنواع النعم. (وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ) يحتمل الميثاق: ميثاق الخلقة وشهادتها؛ إذ خِلْقَةُ كُل أحد تشهد على وحدانيته وربوبيته. ويحتمل الميثاق الذي ذكر: ميثاق قول قالوه وقبلوا ما دعوا إليه. وقوله: (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) قَالَ بَعْضُهُمْ: أجبنا دعوتك، وأطعنا أمرك. وقال آخرون: سمعنا قولك، وأطعنا أمرك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ)

(8)

في ترك ما أمركم ربكم، وارتكاب ما نهاكم. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وهو على الوعيد. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ. . .) الآية يحتمل أن تكون الآية في الشهادة نفسها؛ كأنه قال: أن قوموا شهداء لله، واجعلوا الشهادة له، فإذا فعلوا هكذا لا يمنعهم بغض أحد وعداوته، ولا رضا أحد وولايته - القيام بها. ندبهم اللَّه أن يقوموا في الشهادة لله والحكم له: يحكم للعدو كما يحكم للولي، ويقوم في الشهادة للعدو كما يقوم للولي، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون في بيان الحق والحجج وتعليم الأحكام والشرائع؛ كأنه يقول - والله أعلم -: قوموا في بيان الحجج والحق وتعليم الأحكام للَّهِ، لا يمنعكم بغض قوم ولا رضاهم على ألا تبينوا الحق لهم، ولا تعلموا الحجج والأحكام لهم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ)، أي: لا يحملنكم (شَنَئَانُ قَوْمٍ)، أي: بغض قوم (عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) فيهم؛ فإنما العدل لله في الرضا والسخط، (اعْدِلُوا)، يقول: قولوا العدل بالحق؛ فإنه أقرب للتقوى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) أي: اعدلوا هو التقوى؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي: رحمة اللَّه للمحسنين؛ لأن العدل ليس إلا التقوى. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في ترك ما أمركم به، وارتكاب ما نهاكم عنه. (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

(9)

وتضمرون من العدل والجور، خرج على الوعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... (9) قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه الآية هي صلة ما تقدم في قوله - سبحانه وتعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ. . .) إلى آخر ما ذكر. فإذا فعلوا، وقاموا في الشهادة والعدل في الحكم، كان لهم ما ذكر من الوعد، واللَّه أعلم. ولكن يحتمل هي على الابتداء - والله أعلم - كأنه قال: وعد اللَّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات وعدًا، ثم بين ما في ذلك الوعد، فقال: لهم مغفرة وأجر عظيم: يستر على ذنوبهم، ويتجاوز عنها، وأجر عظيم: الجنة، قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لهم مغفرة في الدنيا لذنوبهم، وأجر عظيم في الآخرة: الجنة "، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) قيل: كفروا بآيات اللَّه وكذبوا بآياته، يعني: محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والقرآن، (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ). وقيل: (كَفَرُوا) بتوحيد اللَّه، (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): بالقرآن بأنه ليس من اللَّه تعالى، وهما واحد؛ وهذا يدل أن الآية على الابتداء خرجت، ليس على الصلة على ما قالوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... (11) يحتمل أن تكون هذه المنة التي ذكر اللَّه - تعالى - في هذه الآية من كف أيدي الأعداء عنهم، بعدما بسطوا إليهم أيديهم في جملة المؤمنين؛ لأن المؤمنين كانوا في ابتداء الأمر مختفين فيما بين الكفرة، لا يقدرون على إظهار الإسلام وإعلانه، وقد هموا قتل المؤمنين غير مرة، وفيما كف أيديهم عنهم منة عظيمة علينا وعليهم وعلى جميع المسلمين. ويحتمل أن يكون في قوم خاص قد أحاطوا بهم، وبسطوا أيديهم إليهم، وهموا بقتلهم؛ فكف اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضله أيديهم عنهم، وأنقذهم من أيديهم. ثم اختلف فيه: عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: " هَمَّ بنو قريظة أن يبسطوا إليهم أيديهم بالقتل؛

(12)

فكفَّ اللَّه - تعالى - أيديهم عنهم بالمنع ". وقيل: نزلت في اليهود: دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حائطا لهم في النخل، وأصحابه وراء الجدار، واستعانهم في مغرم دية غرمها، ثم قام من عندهم، فائتمروا بينهم بقتله، فخرج يمشي القهقرى معترضًا ينظر من خيفتهم، ثم دعا أصحابه إليه رجلًا رجلًا، حتى تناهوا إليه. فلا ندري كيفما كانت القصة؟ وليس لنا إلى معرفة القصة حاجة بعد أن نعرف منَّة اللَّه - تعالى - التي منَّ علينا بكف الأعداء عنهم، ونشكر له على ذلك. وفي هذه الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر عما كان منهم من غير أن يشهد ذلك؛ ليعلم أنه باللَّه علم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي: على اللَّه يكل المؤمن في كل أمره، وبه يثق. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا)

هذا - واللَّه أعلم - تعليم من اللَّه - تعالى - هذه الأمة وإنباء منه أنه قد أخذ العهود والمواثيق على الأمم السالفة، كما أخذ منكم؛ لأنه ذكر أنه: قد أخذ من هَؤُلَاءِ الميثاق بقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ. . .) الآية، ثم أعلمهم بما وعد لهم من الثواب إن وفوا بتلك العهود والمواثيق التي أخذت عليهم، وبما أوعد لهم من العقاب إن نقضوا العهود التي أخذ عليهم؛ ليكونوا على حذر من نقضها، وليقيموا على وفائها. أو أن يقال: إنه إنما ذكر ما أخذ على أُولَئِكَ من العهود والمواثيق؛ ليكون ذلك آية من آيات رسالة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه إخبار عن الأمم السالفة، وهو لم يشهدها ولا حضرها؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك بِاللَّهِ. ثم تحتمل تلك العهود والمواثيق التي أخذت عليهم: ما ذكر على أثرها وسياقها، وهو قوله - تعالى -: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ. . .) إلى آخر ما ذكر. ويحتمل ما قال ابن عَبَّاسٍ: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) في التوارة: ألا تشركوا به شيئا، وبالإيمان بِاللَّهِ وملائكته وكتبه ورسله، وإحلال ما أحل اللَّه، وتحريم ما حرم اللَّه، وحسن مؤازرتهم. (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا)، يعني: ملكًا، وهم الذين بعثهم موسى إلى بيت المقدس؛ ليعلموا له علمها. ويحتمل: أن يكونوا اختاروا من بينهم أُولَئِكَ، فسألوا موسى أن يجعلهم عليهم قدوة يقتدون بهم ويعلمونهم الدِّين والأحكام، ويأخذ عليهم المواثيق والعهود؛ فيكون ما أخذ على أُولَئِكَ من المواثيق والعهود عليهم، واللَّه أعلم. ثم اختلف في النقيب: قَالَ بَعْضُهُمْ: النقيب: هو الملك، وهو قول ابن عَبَّاسٍ. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: النقيب: هو المنظور إليه، والمصدور عن رأيه، وهو من وجوه القوم، وجمعه: النقباء، مثل العرفاء.

وقال أبو عبيد: النقيب: الأمير والضامن على القوم. وقال الكسائي والفراء يقال منه: نقبت عليه، أنقب، نقابة، وهو فوق العريف؛ يقال من العريف: عرفت عليهم عرافة، وهم النقباء والعرفاء. والمناكب، واحدهم: منكب، وهم كالعون يكون مع العريف. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: النقيب: الكفيل على القوم، والنقابة والنكابة: شبيهة بالعرافة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: قال للنقباء: إني معكم في النصر والدفع عنكم، (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ. . .) إلى آخر ما ذكر، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ويحتمل أن يكون هذا الوعد لكل من قام بوفاء ذلك: النقباء وغير النقباء، وما ذكر من الوعيد في الآية التي هي على أثر هذه على كل من نقض ذلك العهد: النقيب وغير النقيب. ثم قوله: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ) يحتمل وجهين: يحتمل: أنه أراد بالصلاة: الخضوع والثناء له، وبالزكاة: تزكية النفس وطهارتها، وذلك في العقل على كل أحد القيام به في كل وقت. ويحتمل: أن يكون أراد بالصلاة والزكاة: الصلاة المعروفة المعهودة، والزكاة المعروفة؛ ففيه دليل وجوب الصلاة والزكاة على الأمم السالفة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) يحتمل: أن تؤمنوا برسلي جميعًا، ولا تفرقوا بينهم: أن تكفروا ببعض وتؤمنوا ببعض؛ كقولهم: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ). (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: وعزرتموهم، قالا: وعظمتموهم، والتعزير: التعظيم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نصرتموهم.

(13)

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " وعزرتموهم: أعنتموهم "، يعني: الأنبياء، عليهم السلام. (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) أي: صادقا من كل أنفسكم، ابتغى به وجه اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) أي: محتسبًا طيبة بها نفسه. ويحتمل قوله: (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، أي: اجعلوا عند اللَّه لأنفسكم أيادي ومحاسنَ؛ تستوجبون بذلك الثواب الجزيل، ثم قال: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) وعد لهم تكفير ما ارتكبوا من المآثم إذا قاموا بوفاء ما أخذ اللَّه عليهم من المواثيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: فمن كفر بعد ذلك، أي: بعد المواثيق والعهود التي أخذ عليهم. ويحتمل قوله: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ)، أي: من كفر، (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)، أي: أخطأ قصد السبيل. وقوله - تعالى -: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ ... (13) أي: فبنقضهم، قيل: ما زائدة، فبنقضهم ميثاقهم. (لَعَنَّاهُمْ) يحتمل: (لَعَنَّاهُمْ)، أي: طردناهم، والملعون: هو المطرود عن كل خير. ويحتمل (لَعَنَّاهُمْ)، أي دعونا عليهم باللعن. (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) بما نزع منها الرحمة والرأفة؛ إذا نقضوا العهود وتركوا أمر اللَّه؛ لأن اللَّه - تعالى -

(14)

أخبر أنه جعل في قلوب الذين اتبعوا أمر اللَّه وأطاعوا رسوله الرحمة والرأفة بقوله - تعالى -: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)؛ فإذا نزعت الرحمة من قلوبهم صارت قاسية يابسة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) يحتمل أن يكونوا يغيرون تأويله ويقولون: هذا من عند اللَّه. ويحتمل التحريف: تحريف النظم والمتلو، ومحوه، ويكتبون غيره. (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) قيل: ضيعوا كتاب اللَّه بين أظهرهم، ونقضوا عهده الذي عهد إليهم، وتركوا أمره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)، أي: وعظوا به، وقيل: تركوا نصيبًا مما أمروا به في كتابهم من اتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) إخبار عن تمردهم في المعاندة، وكونهم في الخيانة، وإياس عن إيمانهم، ثم استثنى فقال: (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) وهم الذين أسلموا منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) ولا تكافئهم لما آذوك. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: هو منسوخ بآية القتال في سورة براءة، وهو قوله - تعالى -: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .) الآية. ويحتمل (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) إلى أن تؤمر بالقتال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ... (14) عن الحسن قال: قال للنصارى: (كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ)؛ فقالوا: بل نكون

نصارى؛ فذلك قوله: (إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ): ما من أحد يعقل إلا وقد أخذ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عليه العهد والميثاق، وقد أخذ الميثاق على المؤمنين بقوله - تعالى -: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ. . .) الآية، وأخذ الميثاق على اليهود بقوله: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. . .) الآية، وأخبر -أيضًا- أنه قد أخذ الميثاق على النصارى في هذه الآية بقوله - تعالى -: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ)، وقد تقدم ذكر الميثاق ومعناه في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) يحتمل هذا وجهين: يحتمل: أي تركوا حظهم مما أمروا به من التوحيد باللَّه، والإيمان بالرسل كلهم، والتمسك بكتاب اللَّه - سبحانه وتعالى - والوفاء بالعهود التي عهد إليهم، فتركوا ذلك كله وضيعوا. ويحتمل: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)، أي: لم يحفظوا ما وعظوا به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قيل: (فَأَغْرَيْنَا): ألقينا بينهم العداوة والبغضاء، قال الحسن: من حكم اللَّه - تعالى - أن يلقي بينهم العداوة والبغضاء، وأن يجعل قلوبهم قاسية، ومن حكمه أن يكون بين المسلمين رأفة ورحمة. وقال بعض المعتزلة: قوله - تعالى -: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ)، أي: خذلناهم، وتركناهم. لكن هذا كله منهم احتيال، وفرار عما يلزمهم من سوء القول وقبحه؛ فيقال لهم: إن شئتم جعلتم خذلانا، وإن شئتم تركًا، اجعلوا ما شئتم، ولكن هل كان من اللَّه في ذلك صنع، أو أضاف ذلك إلى نفسه، ولا صنع له في ذلك، وذلك الحرف على غير إثبات الفعل فيه أو شيء، حرف ذم لا يجوز أن يضيف ذلك إلى نفسه ولا فعل له في ذلك ولا صنع؛ فدل أن له فيه صنعًا، وهو ما ذكرنا أن خلق ذلك منهم؛ وكذلك فيما أضاف إلى نفسه من جعل الرأفة والرحمة في قلوب المؤمنين؛ فلو لم يكن له في ذلك صنع لكان لا يضيف ذلك إلى نفسه، وذلك الحرف حرف الحمد والمدح؛ فدل أن له صنعًا، وهو أن خلق الرأفة والرحمة في قلوب المؤمنين، وخلق القساوة والعداوة في

(15)

قلوب أُولَئِكَ الكفرة، وباللَّه التوفيق. وفي الآية دلالة إثبات رسالة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وأخبر ألا تزال تطلع على خائنة منهم، وكان كما قال، على علم منهم أنه لا يطلع على أما في، قلوبهم من الخيانة والقساوة وغير ذلك من الأمور؛ فدل أنه علم بِاللَّهِ ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ) في الآخرة. (بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) في الدِّينا، وهو قول ابن عَبَّاسٍ. * * * قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) الآية. قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا)، ولم يقل: فلان بن فلان؛ ليعلم أن الرسل - عليهم السلام - ليسوا يعرفون بالأسامي والأنساب؛ ولكن إنما يعرفون بالآيات المعجزة والبراهين النيرة. وفيه دليل أن من آمن بالرسل كلهم ولم يعرف أسماءهم أنه يكون مؤمنًا، ولم يؤخذ علينا معرفة أسامي الرسل؛ إنما أخذ علينا الإيمان بهم جملة؛ ألا ترى أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يذكر في الكتاب الأنبياء والرسل جميعًا واحدًا فواحدًا، ولا ذكر أسماءهم؛ إنما ذكر بعضًا منهم؟! أفترى أن من لم يعرف أسماءهم لم يكن مؤمنًا؟! هذا بعيد. وفيه دلالة إثبات رسالة أسيدنا، مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه قال: (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ)، وهم إذا كتموا ذلك وأخفوه - أعني: الرؤساء - ولم يخبروا أحدًا أنهم كتموا ذلك وأخفوه، حتى يبلغ الخبر إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اختلف إلى أحد منهم، أو نظر في كتابهم قط؛ ليعلم ما كتموا، فلما بين لهم ما قد

كتموا وأخفوا من الناس؛ دل ذلك لهم أنه إنما علم ذلك باللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) اختلف في تأويله وقراءته: قَالَ بَعْضُهُمْ: " نبين " بالنون " ونعفوا عن كثير "، أي: اللَّه يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو اللَّه - تعالى - عن كثير إذا آمنوا ورجعوا عما كانوا يخفون ويكتمون. وقال آخرون: يبين لهم كثيرا، أي: جميع ما كانوا يخفون، ويعفو عن جميع ذلك. وأمَّا عندنا فقوله: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) بالياء، أي: رسول اللَّه يبين لهم كثيرا، ويعفو عن كثير، على قدر ما أذن له البيان لهم؛ لأن الرسل إنما يأتون بالبراهين والحجج على قدر ما أذن لهم، لا بكل ما لهم من الآيات؛ ألا ترى أن سحرة فرعون لما ألقوا حبالهم وعصيهم فصارت حيات، لم يلق موسى عصاه حتى أذن اللَّه له في ذلك؟! وهو قوله - تعالى -: (وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117). إنما أتى بالآية بعد ما أذن له بذلك؛ فعلى ذلك قوله: (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا) إنما يبين على قدر ما أذن له بالبيان والحجة، واللَّه أعلم. وقوله: (مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ): يحتمل مما كنتم تخفون من الكتاب: من الشرائع والأحكام، ويحتمل: كتموا ما في الكتاب من نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته الكريمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ) عن الحسن: النور والكتاب واحد، وكذلك ما قال في قوله: (الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) هما واحد. وقال غيره: النور: هو مُحَمَّد، والكتاب: هو القرآن، سماه: نورًا؛ لما يوضح ويضيء كل شيء على ما هو عليه حقيقة؛ وعلى ذلك يخرج قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ نُورُ

(16)

السَّمَاوَاتِ والأرضِ. . .) الآية، أي: به يتضح كل شيء على ما هو عليه في الحقيقة، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ... (16) يحتمل قوله: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ)، أي: بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويحتمل: بالقرآن، أي: به يهدي اللَّه (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ)، يحتمل: رضاه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبُلَ السَّلَامِ) السلام: قيل: هو اللَّه؛ كقوله - تعالى -: (السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) أي: به يهدي سبل السلام، سمي سبلا؛ لأن سبيل اللَّه - وإن كان كثيرا في الظاهر - فهو في الحقيقة واحد، وسمي سبل الشيطان سبلاً وقال: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ. . .) الآية؛ لأن سبله متفرقة مختلفة، ليست ترجع إلى واحد، وأما سبل اللَّه - وإن كانت سبلاً في الظاهر - فهي ترجع إلى واحد، وهو الهدى والصراط المستقيم. * * * * * * قوله تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ) كفروا كفر مكابرة ومعاندة، لا كفر شبهة وجهل؛ لأنهم أقروا أنه ابن مريم، ثم يقولون: إنه إله، فإذا كان هو ابن مريم وأمُّه أكبر منه؛ فمن البعيد أن يكون من هو أصغر منه إلهًا لمن هو أكبر منه وربًّا؛ وإلا الكفر قد يكون بدون ذلك القول، لكن التأويل هو ما ذكرنا: أنهم كفروا كفر معاندة ومكابرة مع إقرارهم أنه ابن مريم؛ حيث جعلوا الأصغر إله الأكبر وربًّا له.

(18)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) أي: لا أحد يملك من دون اللَّه شيئًا، إن أراد إهلاك (الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ. . .) الآية، أي: لو كان إلهًا -كما تقولون- لكان يملك دفع الإهلاك عن نفسه وعن أمه ومن عبدهما في الأرض. وقيل: فمن يملك أن يمنع من اللَّه شيئًا من عذابه إن أراد أن يهلك المسيح بعذاب، وأمُّه ومن في الأرض جميعًا بعذاب أو بموت؟! وهما واحد. ثم عطم نفسه عن قولهم ونزهها حين قالوا: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)، فقال: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: كلهم عبيده وإماؤه، يخلق ما يشاء من بشر وغير بشر. (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي: قادر على خلق الخلق من بشر ومن غير بشر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ... (18) يحتمل أن يكون هذا القول لم يكن من الفريقين جميعًا، ولكن كان من أحد الفريقين هذا، ومن الفريق الآخر غيره، وكان كقوله - تعالى -: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) كأن هذا القول: كان كل فريق نفى دخول الفريق الآخر الجنة، لا أن قالوا جميعًا: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى). ويحتمل: أن كان من النصارى (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ)؛ لما ذكر في بعض القصة أن عيسى - عليه السلام - قال لقومه: " أدعوكم إلى أبي وأبيكم الذي في السماء "؛ فقالوا عند ذلك: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ)، وكان من اليهود: " نحن أحباء اللَّه ". ويحتمل: أن يكون هذا القول كان منهما جميعًا، قال كل واحد من الفريقين: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). وقيل: إنهم قالوا ذلك في المنزلة والقدر عند اللَّه تعالى، أي: لهم عند اللَّه من المنزلة والقدر كقدر الولد عند والده ومنزلته عنده، ولا يعذبنا، فقال: قل يا مُحَمَّد: (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) إن كان ما تقولون حقا فلم يعذبكم؟! حيث جعل منكم القردة والخنازير، ولا أحد من

(19)

الخلق يحتمل قلبه أن يكون ولده أو صديقه قردا أو خنزيرا. أو يقال: لا أحد يحتمل قلبه تعذيب ولده وحبه -بذنب يذنبه- بالنار، وقد أقررتم أنكم تعذبون في الآخرة قدر ما عبد آباؤكم العجل. ثم قال: (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) أي: من اتخذ ولدًا وحبًّا أن يتخذ من شكله ومن جنسه؛ فاللَّه - تعالى - إنما خلقكم من بشر؛ كغيركم من الخلق، وأنتم وهم في ذلك سواء، فكيف خصصتم أنفسكم بذلك؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) دليل أن من رفع أحدًا من الرسل فوق قدره في الكفر كمن حط عن قدره ومرتبته. وقوله: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) أي: من تاب وأسلم. (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) من دام على الكفر، ومات عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) أي: كلهم عبيده وإماؤه وخلقه؛ يعظم نفسه عن قولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، ولا أحد يتخذ عبده ولده ولا حبًّا؛ فأنتم إذا أقررتم أنكم عبيده. كيف ادعيتم البنوة والمحبة؟! واللَّه أعلم. وفي الآية دلالة إثبات رسالة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم قالوا قولا فيما بينهم، ثم أخبرهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بذلك؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) يحتمل قوله - تعالى -: (يُبَيِّنُ لَكُمْ) ما كنتم تكتمون من نعته وصفته، ويحرفون؛ كقوله - تعالى -: (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ). ويحتمل: (يُبَيِّنُ لَكُمْ) مما لكم وعليكم من الأحكام والشرائع، ويحتمل:

(يُبَيِّنُ لَكُمْ) ما كان عليه الأنبياء والرسل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) قيل: على انقطاع من الرسل من لدن إسرائيل إلى عيسى - عليه السلام - لأنه قيل: إنه كان رسول على أثر رسول: لم يكن بين رسولين انقطاع؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه بعث محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على حين فترة من الرسل. وقيل: (عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) ليس على انقطاع منهم؛ ولكن على ضعف أمور الرسل ودروس آثارهم، وهو من الفتور، يقال: فتر يفتر فتورًا. يخبر - واللَّه أعلم - أنه إنما بعث الرسول بعدما درس آثار الرسل، وضعف أمورهم، ووقع فيما بينهم اختلاف للضعف؛ ليبين لهم ما ذكر: (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ). يقطع احتجاجهم بذلك، وإن لم يكن لهم في الحقيقة احتجاج، وهو كما قال: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)، وكقوله: (أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ). بشير بالجنة لمن أطاع، ونذير بالنار لمن عصاه. (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يحتمل: (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من بعث الرسل على فترة منهم، وإحياء ما درس من آثار الرسل، وما ضعف من رسومهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)

(20)

قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... (20) يحتمل قوله: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ): ما ذكر من بعث الرسل والأنبياء - عليهم السلام - على فترة منهم، ويحتمل: ما ذكر على أثره، وهو قوله: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)؛ كأنه يقول: اشكروا نعمتي التي أنعمت عليكم من جعل الأنبياء فيكم، ولم يكن ذلك لأمة من الخلق، وجعلكم ملوكًا تستنصرون من الأعداء؛ لأن الملوك في بني إسرائيل هم الذين كانوا يتولون القتال وأمر الحرب مع الأعداء؛ كقوله: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فأخبر أنه جعل فيهم الأنبياء يعلمونهم أمور الدنيا والآخرة، ويحتاج غيرهم إلى معرفة ذلك، وإنَّمَا يعرفون ذلك بهم، وجعل فيهم ملوكًا يستنصرون من الأعداء ويقهرونهم؛ فيعزون ويشرفون في الدنيا والآخرة. وقوله: (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) يحتمل: ما ذكر من جعل الأنبياء والملوك فيهم، ويحتمل: ما رزقهم في التيه من المنِّ والسلوى وغيره من النعم. وقيل في قوله: (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا)، أي: جعلكم بحيث تملكون أنفسكم، وكنتم قبل ذلك يستعبدكم فرعون، ويتخذكم خولاً لنفسه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ... (21) وقيل: قوله: (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، أي: كتب اللَّه عليكم قتال أهل تلك الأرض؛ ليسلموا، وهو كقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)، يعني: الكفر؛ فعلى ذلك قوله - تعالى -: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) قتال أهلها؛ ليسلموا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكُمْ)، أي: عليكم، وهذا جائز في اللغة؛ كقوله: (وَإِن

(22)

أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، أي: فعليها. وقيل: قوله: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) فَتْحَهَا، إن أطعتم أمر اللَّه فيما أمركم به، وانتهيتم عما نهاكم عنه، وأجبتم رسوله إلى ما دعاكم إليه، أي: إذا فعلتم ذلك يفتح اللَّه تلك الأرض، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ)، قيل: هي الشام، وقيل: غيرها، ثم سماها مرة مقدسة، ومرة: مباركة، وهو كقوله: (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)، ثم يحتمل قوله: (بَارَكْنَا حَوْلَهُ) بكثرة الثمار والفواكه، وسعة عيشها، وكثرة ريعها. ويحتمل: أن سماها مباركة؛ لما كانت معدن العباد والزهاد ومنزهة عن الشرك وجميع الفواحش والمناكير، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ) هذا - واللَّه أعلم - كناية عن الرجوع عن الدِّين؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا)، وإنما صار ذلك كناية عن الرجوع عن الدِّين - واللَّه أعلم - لما ذكرنا في أحد التأويلين: أنه كتب عليهم قتال أهل تلك الأرض، فتركوا أمر اللَّه وطاعته. ويحتمل: أن وعد اللَّه لهم فتح تلك الأرض، فلم يصدقوا رسوله فيما أخبر عن اللَّه من الفتح لهم؛ فكفروا بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) يحتمل: أن يكون ذلك لهم في الآخرة، ويحتمل: في الدنيا منهزمين. ويحتمل قوله - تعالى -: (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ) أي: لا ترجعوا وراءكم، ولكن ادخلوها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) يحتمل: أن يكون هذا - واللَّه أعلم - لما رأوا فرعون مع قربه وكثرة جنوده، مع ادعاء ما ادعى من الربوبية لنفسه - لعنة اللَّه عليه وعلى آله - لم يقدر على فتح تلك

(23)

الأرض، وعجز عن غلبة أهلها وقهرهم وجعلهم تحت يديه - فرأى هَؤُلَاءِ ألا يقدرون على ذلك مع ضعفهم في أنفسهم، وقلة عددهم؛ وقصور أسبابهم؛ لذلك امتنعوا عن الدخول فيها إلا بعد خروج من فيها من الجبارين عنها؛ خوفًا منهم على أنفسهم، لكن موسى - عليه السلام - كان وعد لهم الفتح والنصرة مع ضعفهم وقلة عددهم، إذا دخلوا فيها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ... (23) اختلف في الرجلين اللذين قالا ذلك لهم: قال قائلون: كان ذانك الرجلان من أُولَئِكَ الذين بعثهم موسى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - إلى أهل تلك الأرض، وأمرهم بالدخول فيها، وهما ممن قد أنعم اللَّه عليهما من تصديق ما وعد لهم موسى من الفتح والنصرة، فقال: (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) صدقوا موسى بما وعد لهم من الفتح. وقال قائلون: كان ذانك الرجلان اللذان قالا ذلك لهم هما من أهل تلك الأرض؛ لأنهم إذ سمعوا أن موسى قصد نحوهم خافوا من ذلك؛ فذلك معنى قوله: (مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) بالإسلام؛ فقالا: (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ)؛ لما علموا من خوف أهلها من موسى ومن معه وفزعهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي: مصدقين بوعد موسى بالفتح لكم والنصر. ويحتمل: وعلى اللَّه فتوكلوا إن كنتم مسلمين؛ فان كل من توكل على اللَّه ووثق به، نصره اللَّه، وجعله غالبًا على عدوه، واللَّه أعلم. وقوله: (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ): كان المراد من الباب ليس نفس الباب؛ ولكن جهة

(24)

من الجهات التي يكون الدخول عليهم من تلك الجهة أرفق وأهون؛ كأنه قال: ادخلوا عليهم جهة كذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ... (24) من تعرض لرسول من الرسل بمثل ما تعرض هَؤُلَاءِ لموسى: (يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا) - يكفر؛ لأن موسى - عليه السلام - قد وعد لهم النصر والفتح إذا دخلوها، فقالوا: (لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا) لم يصدقوا موسى - عليه السلام - فيما وعد لهم من الفتح والنصر، ومن كذب رسولا من الرسل بشيء مخبر؛ فهو كافر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا. . .) الآية: دل قوله - تعالى -: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا) على أن الأمر بالدخول فيها أمر بالقتال مع الأعداء، حين قال: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، وأن المكتوب عليهم القتال معهم؛ لأنهم قالوا: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا)، واللَّه أعلم. ثم قيل في قوله - تعالى -: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا) بوجهين: قيل: اذهب أنت وربك فقاتل وحدك، وليعينك ربك وينصرك؛ لأنك تقول: إن اللَّه قد وعدك فتحها والنصر عليهم، فالواحد والجماعة فيه سواء، إذا كان اللَّه ناصرك ومعينك. والثاني: اذهب أنت وأخوك بربك فقاتلا؛ لأنهما كانا جميعًا مأمورين بتبليغ الرسالة؛ لأنهما إذا قاتلا إنما قاتلا بربهما، وتجوز الإضافة إليه والنسبة لما كان يفعل به؛ كقوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)، وقوله - تعالى -: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) هم المباشرون للقتل والرمي في الحقيقة، لكنه أضيف

(25)

إليه؛ لما بنصره ومعونته قتلوا ورموا؛ فعلى ذلك الأول - واللَّه أعلم - أضيف إليه؛ لما بمعونته ونصره يقاتلون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) أي: ليس يريد به القعود نفسه، ولكن - واللَّه أعلم - إنا هاهنا منتظرون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ... (25) يحتمل وجهين: يحتمل: أني لا أملك في الإجابة والطاعة لك إلا نفسي وأخي -أيضًا- لما عرفت بالعصمة التي أعطيت له أن يجيبني ويطيعني في ذلك، وأما هَؤُلَاءِ: فإني لا أملك إجابتهم ولا طاعتهم، (فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ). ويحتمل: (إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) لا يملك -أيضًا- إلا نفسه؛ على الإضمار؛ لأنهما كانا جميعًا رسولين مأمورين بتبليغ الرسالة بقوله - تعالى -: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) قال قائلون: إنما طلب موسى - عليه السلام - الفرقة بينه وبين الذين أبوا الدخول فيها، وقالوا: (لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا). وقال قائلون: إنما طلب موسى الفرقة بينهم وبين الجبابرة الذين كانوا في الأرض، التي أمروا بالدخول فيها والقتال معهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ... (26) قوله تعالى: (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ): من الحرمان والمنع، هو - واللَّه أعلم - ليس على التحريم؛ كقوله - تعالى -: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) ليس هو من التحريم الذي هو تحريم حكم، ولكن من المنع والحرمان؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وقال قائلون: محرمة عليهم أبدًا لم يدخلوها حتى ماتوا، لكن ولد لهم أولاد؛ فلما ماتوا هم دخل أولادهم؛ لأنهم قالوا: (لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا).

وقال قائلون: قوله تعالى: (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ): أي: التوبة محرمة عليهم، لن يتوبوا أبدًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ): فالمدة هاهنا للتيه - واللَّه أعلم - لا لقوله تعالى: (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ). ثم اختلف في التيه: قال قائلون: لم يكن موسى وهارون - عليهما السلام - معهم في التيه؛ لأن ذلك لهم من اللَّه كان عقوبة، ولا يحتمل أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يعذب رسوله بذنب قومه؛ لأنه لم يعذب قومًا بتكذيب الرسول قط إلا من بعد ما أخرج الرسول من بين أظهرهم؛ فعلى ذلك لا يحتمل أن يكون موسى يعذب بعصيان قومه، والله أعلم. وقال آخرون: كان موسى معهم في تلك الأرض مقيمًا فيها، ولكن الحيرة والتيه كانت لقومه، قيل: كانوا يرتحلون ثم ينزلون من حيث أصبحوا أربعين سنة، وكان ماؤهم في الحجر الذي كان مع موسى - عليه السلام - فكان إذا نزل ضربه موسى بعصاه، (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا)، لكل سبط عين، ولم يكن حل بموسى مما كان حل بقومه قليل ولا كثير؛ إنما أمر بالمقام فيها؛ فأقام من غير أن كان به حيرة. * * * قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

(27)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا ... (27) قال الحسن وغيره: لم يكونا ابني آدم من صلبه، ولكن كانا رجلين من بني إسرائيل قربا قربانا؛ فتقبل قربان أحدهما، ولم يتقبل قربان الآخر، وإن نسبهما إلى آدم؛ لأن كل البشر ولد آدم ينسب إليه، كقوله - تعالى -: (يَا بَنِي آدَمَ) افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا، ليس يريد به ولد آدم لصلبه، ولكن البشر كله؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وأمَّا ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - والكلبي وغيرهما من أهل التأويل: فإنهم قالوا: " إنهما كانا ابني آدم لصلبه: أحدهما يسمى قابيل، والآخر هابيل، وكان لكل واحد منهما أخت ولدت معه في بطن واحد، وكانت إحداهما جميلة، والأخرى دميمة، فأراد كل واحد منهما نكاح الجميلة منهما، فتنازعا في ذلك؛ فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى نقرب قربانا، فإن تقبل قربانك فأنت أحق بها، وإن تقبل قرباني فأنا أحق بها، فقربا قربانهما، فقبل قربان هابيل، ولم يتقبل قربان قابيل؛ فحسده؛ فهمَّ أن يقتله؛ فذلك قوله - تعالى -: (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، ولكن لا ندري كيف كانت، وفيما كانت القصة؟ وكانا ابني آدم لصلبه، أو لم يكونا، وليس لنا إلى معرفة هذا حاجة، إنما الحاجة في هذا إلى معرفة ما فيه من الحكمة والعلم؛ ليعلم ذلك ويعمل به، فهو - واللَّه أعلم - ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - فيما تقدم من قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ)، وقال في آية أخرى: (يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)، فكان هذا - أعني: نبأ ابني آدم - كان في كتبهم، فأمر - عز وجل - رسوله أن يتلو عليهم ذلك على ما كان، ويبين لهم ما في كتبهم؛ لأنه قال: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) و (يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) ليعلموا أنه إنما علم ذلك باللَّه، لا بأحد من البشر؛ لأنه إنما بعث عند دروس آثار الرسل، وانقطاع العلوم، فبين لهم واحدًا بعد واحد، ففيه دليل إثبات رسالة

(28)

سيدنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وسورة المائدة كان أكهثرها نزلت في مخاطبة أهل الكتاب؛ لأنه يقول في غير موضع: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) و (يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) يدعوهم إلى الإيمان بالرسل، ونزل سورة الأنعام في مخاطبة أهل الشرك؛ لأن فيها دعاء إلى التوحيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ): يحتمل وجهين: يحتمل: (بِالْحَقِّ) على ما نزل. ويحتمل: (بِالْحَقِّ) المعلوم المعروف على ما كانوا؛ ليعلموا أنه باللَّه علم، وأنه علم سماوي. وقوله - عز وجل -: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ): هذا يحتمل وجهين: يحتمل: إنما يتقبل اللَّه قربان من اتقى الشرك، لا يتقبل قربان من لم يتق، وإلى هذا يذهب الحسن، وقال: كانا رجلين من بني إسرائيل: أحدهما مؤمن، والآخر منافق، فتنازعا في شيء فقربا ليعلم المحق منهما، فتقبل من المؤمن ولم يتقبل من الآخر. وقال أبو بكر الأصم: كانا رجلين مصدقين؛ لأن الكافر لا يقرب القربان، لكن أحدهما كان أتقى قلبًا فتقبل قربانه، والآخر لا فلم يتقبل قربانه، والتقوى شرط في قبول القرابين وغيرها من القرب؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، وقوله: والكافر لا يقرب القربان، يقال: قد يقرب لما يدعي من الدِّين أن الذي هو عليه حق؛ ليظهر المحق منهم؛ ألا ترى أنهم يَدَّعُون أن فيهم من هو أحق بالرسالة من محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وغير ذلك من أباطيل قالوها، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ... (28) قال بعض الناس: إن الواجب علينا أن نفعل مثل فعل أُولَئِكَ، لا ينبغي لمن أراد أحد قتله أن يقتله، ولكن يمتنع عن ذلك على ما امتنع أحد ابني آدم؛ حيث قال له: (لَأَقْتُلَنَّكَ)، فقال له الآخر: (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ)، واحتجوا في ذلك

بأخبار رويت: روي عن أبي موسى الأشعري، كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إِذَا تَوَاجَهَ المُسْلِمَانِ بِسَيفَيهِمَا قَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَهُمَا فِي النَّارِ "، فقيل: يا رسول اللَّه، أرأيت المقتول؟! فقال: " إِنَهُ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ صَاحِبَهُ ". وعن سعد بن مالك قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ عَبدًا للَّهِ، وَلَا تقْتُل أَحَدًا مِنْ أَهْلِ القِبلَةِ فَافْعَلْ ". وعن الحسن - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ ابْنَي آدَمَ ضَرَبَا لِهَذِهِ الأُمةِ مَثلاً، فَخُذُوا بِالْخَير مِنْهُمَا ". وعن أبي ذر - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كَيفَ يَا أَبَا ذَرِّ إِذَا كَانَتْ بِالمَدِينَةِ قَتْل بغَيرِ حِجَارَةٍ؟ " قال: قلت: ألبس سلاحي، قال: " شَارَكْتَ الْقَومَ إِذَنْ " قال: قلت: كيف أصنع يا رسول اللَّه؟ قال: " إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبهَرَكَ شُعَاعُ السيفِ فَأَلْقِ نَاحِيَةَ ثَوْبِكَ عَلَى وَجْهِكَ، يَبُوءُ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِهِ " يحتجون بمثل هذه الأخبار. وقال آخرون: له أن يقاتل إذا لم يتعظ صاحبه باللَّه، وأراد قتله، فهو في سعة من قتل من يريد أن يبتدئه بالقتل؛ استدلالاً بما أمر اللَّه - تعالى - بقتال أهل البغي؛ كقوله - تعالى -: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) فصار الحكم في أمتنا ما أمرهم اللَّه به من قتال البغاة؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)، على أن قتال المشركين كان محظورًا في أول مبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقبل ذلك بأوقات، وقالوا: فغير منكر أن يكون الوقت الذي ذكره اللَّه في هذه الآية كان قتال المشركين وتجريد السيف فيه محظورًا، فأذن اللَّه في قتالهم وقتال أهل البغي، فصار الحكم في أمتنا ما أمر اللَّه به من قتال البغاة والمشركين، واللَّه أعلم. وأما ما احتجوا به من الأخبار التي رويت من اقتتال المسلمين وأشباهها: فإن ذلك، -

(29)

واللَّه أعلم - ما احتجوا به من الأخبار التي رويت في حال الفتن، وقتال الفئتين اللتين لا إمام فيهما يستحق الإمامة؛ لحمية أو أمر جاهلية أو عصبية، فهما على خطأ، فالصواب في مثله ما ذكر من الأخبار. وأما إذا كان للناس إمام هدى: فقد عقدوا له البيعة، فخرجت عليه خارجة ظالمة، فقتالهم واجب؛ اتباعًا لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن حارب معه من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أهْلَ البغي والخوارج، فأما قتال الخوارج: فهو كالإجماع؛ لأن جميع الطوائف قد حاربوهم، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إلى هذا يذهب من رأى قتل من يهم بقتله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ... (29) أن ترجع بإثمي بقتلك إياي، وإثمك الذي عملته قبل قتلي. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (بِإِثْمِي): أن تقتلني، (وَإِثْمِكَ): ما أضمرت في نفسك من الحسد والعداوة. وقال الحسن: ترجع (بِإِثْمِي) بقتلك إياي، (وَإِثْمِكَ) يعني: الكفر الذي كان عليه؛ لأنه يقول: كان أحدهما كافرًا فقتل صاحبه؛ فيرجع بالكفر، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ): يجوز أن يتكلم بالإرادة على غير تحقيق الفعل؛ كقول القائل: أريد أن أسقط من السطح، وهو لا يريد سقوطه منه؛ وكقوله: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ) والجدار لا فعل له، فإذا جاز إضافة الإرادة إلى من لا فعل يكون منه؛ دل أنه ليس على حقيقة الفعل، ولكن على ما يقع أنه يكون كذلك، ويئول أمره إلى ذلك. أو أراد أن يبوء بإثمه لما علم منه أنه يقتله لا محالة، ويعصي ربه، أراد أن يبوء بإثمه؛ وذلك جائز، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ... (30) قَالَ الْقُتَبِيُّ: أي شايعته،

(31)

وانقادت له. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ): أي: أمرته وزينت له. وقال مجاهد: أي: شجعته وأعانته، وكله يرجع إلى واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وقال في آية أخرى: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ): يحتمل وجهين: يحتمل: أصبح تائبًا؛ لأن الندامة توبة، وذلك أن من أذنب ذنبًا فندم عليه كان ذلك منه توبة، فإن لم يكن توبة فتأويل قوله: (فَأَصْبَحَ) أي: يصبح في الآخرة من النادمين؛ وهو كقوله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: يقول في الآخرة لا أن قال له؛ فعلى ذلك قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ): أي: يصبح من النادمين في الآخرة - واللَّه أعلم - ويصبح من الخاسرين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ... (31) استدل من قال بأن القصة كانت في بني آدم لصلبه: يقول: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ)؛ لأن القصة لو كانت في بني إسرائيل لم يكن ليجهل دفن الميت؛ إذ قد رأى ذلك غير مرة وعاينه؛ فدل أنه كان في أول ميت جهل السنة فيه. وقال من قال: إنهما كانا رجلين من بني إسرائيل؛ إذ قد يجوز أن يخفى على المرء شيء علمه قبل ذلك وعاينه إذا اشتد به الخوف ونزل به الهول؛ كقوله - تعالى -: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا)، وقد كان لهم علم بذلك، لكن ذهب عنهم - واللَّه أعلم - لشدة هول ذلك اليوم، وخوفه؛ فعلى ذلك الأول، يجوز خفاء دفن الموتى بعدما علمه؛ لشدة الهول، واللَّه أعلم. ثم اختلف فيما أخبر عن بحث الغراب في الأرض: قال الحسن - رضي اللَّه عنه -: كان الغراب يبحث التراب على ذلك الميت؛ ليرى ذلك القاتل، لا أنه كان يبحث التراب

(32)

على غراب آخر، على ما ذكر في القصة أن غرابًا قتل آخر، ثم جعل يبحث التراب عليه؛ لأنه ذكر السوأة، وليس للغراب سوأة -والسوأة: العورة- وذلك ليريه كيف يوارى سوأة أخيه لم يذكر السوأة في الغراب، إنما ذكرها في أخيه؛ من أجل أن يريه أن كيف يوارى سوأته، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي) أي: أعجزت في الحيلة أن أكون مثل هذا الغراب، فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ... (32) أي: من استحل قتل نفس، يحتمل وجوهًا: يحتمل قوله - تعالى -: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) أي: من استحل قتل نفس حَرَّمَ اللَّه قتلها بغير حق، فكأنما استحل قتل الناس جميعًا؛ لأنه يكفر باستحلاله قتل نفس محرم قتلها، فكان كاستحلال قتل الناس جميعًا؛ لأن من كفر بآية من كتاب اللَّه يصير كافرًا بالكل؛ فعلى ذلك الأول، إذا استحل قتل نفس محرمة يصير كأنه استحل قتل الأنفس كلها. ويحتمل: أن يكون هذا في أول قتيل قتل لم يكن قبل ذلك أحد، فلما قتل هذا قتيلا جعل الناس يقتلون بعد ذلك بعضهم بعضًا، وكان ذلك منه سنة استن الناس به؛ فهو كما روي في الخبر أن: " مَنْ سَنَّ سُنَّة سَيئةً فَلَهُ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مِنْ غَيرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ وِزْرِهِم شَيئًا "؛ فيشترك هذا القاتل في وزر كل قتيل قتل إلى يوم

القيامة بغير حق. وتحتمل الآية وجهًا آخر، وهو ما قيل: إنه يجب عليه من القتل مثل ما أنه لو قتل الناس جميعًا، ومن أحياها أعطاه من الأجر مثل ما لو أنه أحيا الناس جميعًا، إذا أحياها فلم يقتلها وعفا عنها. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من أجل ابن آدم حين قتل أخاه كتبنا على بني إسرائيل: (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) بلا نفس وجب عليها القصاص (أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ) يقول: الشرك في الأرض، (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) يقول: يعذب عليها؛ كما أنه لو قتل الناس جميعًا لهم، وهو مثل الأول. وعن عبد اللَّه بن عمرو قرأ: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. . .) الآية قال: " لم يكن يؤخذ في بني إسرائيل أرش، إنما كان قصاصا بقصاص " يقول: من قتل نفسا، أو أفسد في الأرض جزاؤه كانما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فعلى نحو ذلك. ويحتمل قوله - تعالى -: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا): أي: من استنقذ أحدًا من مهلكة فكأنما استنقذ الناس جميعًا في الآخرة. وقيل: ومن أحياها بالعفو - أُجِرَ في إحيائها كما يؤجر من أحيا الناس جميعًا؛ إذ على الناس معونة ذلك، فإذا عفا عنها فكأنما عفا عن الناس جميعًا. قال الحسن: ومن أحياها في الأجر، أما واللَّه من يستطيع أن يحييها إذا جاء أجلها؟! ولكنه أقيد فعفا. ووجه آخر: أنه يلزم الناس جميعا دفع ذلك عن نفسه ومعونته له، فإذا قتلها أو سعى عليها بالفساد فكأنما سعى بذلك على الناس كافة؛ فعلى ذلك من أحياها فكأنما سعى في إحياء الناس جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)

(33)

في الآية تصبير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على تكذيب الكفرة إياه، وأنه ليس بأول مكذَّب في الحق، بل كانت الرسل من قبل يكذبون فيما يأتون من الآيات والحجج والبيان. * * * قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا. . .) الآية قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية نزلت في أهل الكفر، وبيان الحكم فيهم؛ وهو قول الحسن وأبي بكر الأصم، وقالا: لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر محاربة اللَّه ورسوله، وذكر السعي في الأرض بالفساد، وكل كافر قد حارب اللَّه ورسوله، وسعى في الأرض بالفساد - فللإمام أن يقتلهم بأي أنواع القتل شاء، ما دام الحرب فيما بينهم قائمًا، فإذا أثخنوا في الأرض - بترك ذلك - يَمُنَّ اللَّه عليهم إن شاء. وأما المسلم إذا قطع الطريق: فإنه لا يقال: إنه حارب اللَّه ورسوله؛ فدل أنها نزلت في أهل الكفر؛ للكفر، لا لقطع الطريق. وقال آخرون: نزلت في المشركين إذا قطعوا الطريق فأما المسلمون إذا قطعوا الطريق،

فإنما هم سراق تقطع أيديهم فقط. وقال غيرهم: نزلت الآية بالحكم في المشركين إذا قطعوا الطريق وأخافوه، لكن يتحرى ذلك الحكم في المسلمين، إذا قطعوا الطريق على الناس وأخافوهم. روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " وادع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي، فجاء أناس يريدون الإسلام، فقطع الطريق عليهم؛ فنزل جبريل - عليه السلام - على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالحد فيهم: أن من قتل وأخذ المال - صُلب، ومن قَتَل ولم يأخذ المال - قُتِلَ، ومن أخذ المال ولم يقتل - قطعت يده ورجله من خلاف، ومن جاء مسلمًا - هدم الإسلام ما كان في الشرك "؛ فدل حديث ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أن الآية نزلت في الموادعين غير المحاربين. روي عن أنس قال: " إن أناسًا من عُكْل أو عُرَينة أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فشكوا إليه الجهد، فبعث معهم بلقاح وراعيا، وقال لهم: " اشْرَبُوا أَلْبَانَهَا، وَتَدَاوَوْا بِأبْوَالِهَا "، فلما أن صَحُّوا قتلوا راعي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واستاقوا الإبل، وارتدوا عن الإسلام؛ فبعث في آثارهم، فأتى بهم بعد ما ترجل بهم النهار، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وقطع ألسنتهم، وتركوا بالمكان حتى ماتوا؛ فنزلت الآية ". وروي عن علي - رضي اللَّه عنه - ما يخالف هذا؛ روي: " أن حارثة بن بدر حارب اللَّه ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، وتاب من قبل أن يقدر عليه، فكتب علي بن أبي طالب إلى عامله بالبصرة: أن حارثة قد تاب قبل أن يقدر عليه؛ فلا تتعرض له إلا بالخير " ألا ترى أن حارثة قد أطلق فيه أنه حارب اللَّه ورسوله وكان مؤمنًا؟! فهذا

يدل على أن الحكم الذي أجري على قطاع الطريق الكفرة يجري ذلك الحكم في المسلمين، إذا كان منهم ما كان من المشركين من قطع الطريق على الناس وإخافته عليهم. وقد يتوهم أن الآية نزلت في أهل الحرب، وقد أبيح لنا قتل من ظفرنا به منهم كيف شئنا، وإن لم يفسدوا في الأرض ولم يقطعوا الطريق؛ وهذا يدل أن الآية نزلت بالحكم في أهل الكفر وأهل الإسلام جميعًا، إذا سعوا في الأرض بالفساد، ومن الدليل على ذلك: أن اللَّه - تعالى - قال: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)، وأجمعوا أن الكافر إذا قتل مسلمًا، وأظهر في الأرض الفساد، فقدرنا عليه وأسرناه، ثم أسلم - أنه يزول عنه القتل والقطع والطلب؛ فدل ذلك على أن الآية نزلت بالحكم في المسلمين؛ لأنه يختلف حكمه إذا تابوا من قبل أن يقدر عليهم، أو بعد قدرتنا عليهم، ولم ينزل فيمن يستوي حكمه في الحالين جميعًا، إذا تابوا بعد القدرة، فالحكم ثابت عليهم، فأما الذي روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من فعله بالعرنيين: فإنهم كانوا أسلموا، ثم ارتدوا. واحتج من ذكرنا قوله من المتأخرين بأن الآية نزلت فيهم - بحديث أنس من فعله بالعرنيين. وقد روي عن بعض المتقدمين أن الآية نزلت بعد قتل العرنيين من نحو ابن سيرين وغيره؛ فالواجب على من ادعى أن الآية نزلت في العرنيين أن يبين دعواه. وكان أصحابنا - رحمهم اللَّه - يذهبون إلى ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ويرون أن يؤخذ المحارب إذا تاب قبل أن يقدر عليه بما أصاب من دم ومال، على سبيل القصاص، ولا يصلب ولا تقطع يده ورجله فيما أصاب من مال؛ فكأنهم ذهبوا إلى أن يزال الحد الذي للَّهِ على المحارب بتوبته قبل أن يقدر عليه، وهو ما كان إلى الإمام إقامته، ولا أمر للولي فيه. وأما الحقوق التي هي للعباد: فإن التوبة لا تعمل في إبطالها، ولكل ذي حق أن يأخذ بحقه لا حق للإمام؛ لأن الحق صار للولي دون الإمام. وفي قوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) دلالة على أن السارق إذا رد السرقة قبل أن يقدر عليه أن لا قطع عليه؛ وكذلك روي عن بعض المتقدمين أنهم قالوا: ليس على تائب قطع.

ودل قوله: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) على أن السارق في المصر ليلاً أو نهارًا لا يكون محاربًا، وإنما هو سارق تقطع يده دون رجله؛ لأنه ذكر السعي في الأرض بالفساد، والسارق في المصر لا يقال: سعى في الأرض؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ)، لم يرد الضرب في المصر، ولكن أراد الأسفار؛ فعلى ذلك الأول. وأما الكلام في القتل والصلب والقطع: فروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " إذا حارب وقتل وأخذ المال - قطعت يده ورجله من خلاف وصلب، فإن قتل ولم يأخذ المال - قتل، وإن أخذ المال ولم يقتل - قطعت يده ورجله من خلاف ". وتأول الآية: (الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .) الآية: على أن الواجب على المحارب من العقوبة له على قدر جنايته، ويزاد في عقوبته بقدر زيادته في جرمه. وتأول غيره الآية: على أنها نزلت في المحارب الذي يصيب المال والنفس، وإذا أصاب الأمرين كان للإمام أن يقتله كيف شاء: إن شاء قتله بالسيف قتلاً، وإن شاء قطع يده ورجله ثم يتركه حتى يموت، وإن شاء صلبه حيًّا، وإن أبطأ عليه الموت طعن بالرماح حتى يموت؛ وإلى هذا كان يذهب أبو حنيفة، رحمه اللَّه. وأما أبو يوسف ومُحَمَّد - رحمهما اللَّه - قالا: إذا صلب لم تقطع يده ورجله؛ لأنه لا يجوز أن يجمع عليه الأمرين، وإنما جعل اللَّه له أحدهما بظاهر قوله: (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ)، وجعلا عقوبته مختلفة على قدر جنايته، إن قيل: فما معنى التخيير فيه؟ قيل: معناه - واللَّه أعلم - أن يقتل بالسيف، أو يقتل بالصلب، أو يقتل بقطع اليد والرجل. وأصله: أن حرف التخيير إذا كان في متفق الأسباب يخرج مخرج التخيير، من نحو: التخيير في كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة المتأذي؛ لأن سبب وجوبه

واحد. وإذا كان في مختلف الأسباب فيخرج مخرج بيان الحكم لكل في نفسه؛ كقوله - تعالى -: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) لا يحتمل التخيير، ولكنه على بيان الحكم لكل في نفسه؛ لأن سبب وجوبه مختلف، فتأويله: إما أن تعذب من ظلم، وتتخذ الحسن فيمن آمن باللَّه؛ ألا ترى أنه قال: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى). وقول من جعل الحكم فيمن جمع القتل وقطع الطريق أقرب إلى التأويل - واللَّه أعلم - ممن لم يجمع؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .) الآية، فمن حارب وأفسد في الأرض فقد أتى بالأمرين جميعا؛ لأن محاربته أن يقتل، وإفساده في الأرض بقطع الطريق، فإذا جمع هو بين الأمرين يجمع بين عقوبتين. وأصله أن أمر قطاع الطريق محمول على فضل تغليظ، من نحو ما يجمع بين قطع اليد والرجل في أخذ المال، وذلك لا يجمع في أخذ المال في المصر، ومن نحو الصلب، وذلك لم يجعل في غيره من القتل في المصر؛ فدل أنه محمول على فضل تغليظ، فجاز أن يجمع بين ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ): قَالَ بَعْضُهُمْ: " وينفوا من الأرض " على إسقاط الألف، ويكون في القتل والصلب نفيه إذا قتل وأخذ المال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نفيه أن يطلب فلا يقدر عليه. وعن الحسن قال: يطلب حتى يخرج من أرض الإسلام، وذلك إلى الإمام. وأصله ما ذكرنا: أنه إذا قدر عليه وقد قتل وأخذ المال يقتل؛ وفي القتل نفيه، وإذا لم يقتل ولم يأخذ المال حبس إن قدر عليه؛ وفي الحبس نفيه، وإن لم يقدر عليه يطلب حتى يبرح عن الطريق، واللَّه أعلم. وقول أبي عبيد؛ حيث قال: إنه يصلب بعد القتل؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نهى عن

(34)

المثلة، فيقال له: المثلة يراد بها على ما قال مُحَمَّد بن الحسن - رحمه اللَّه - ولأن الصلب جعل عقوبته، والميت لا يعاقب، ولو جاز أن يصلب بعد القتل لجاز لغيره أن يقول: تقطع يده ورجله بعد القتل؛ فذلك بعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ... (34) قد ذكرنا فيما تقدم أن قطاع الطريق إذا تابوا قبل أن يقدر عليهم، سقط عنهم الحدود التي هي للَّهِ نعالى، لا يؤاخذون بها، وليس كغيرها من الحدود التي تلزم في غير المحاربة - أن التوبة لا تعمل في إسقاطها - لوجهين: أحدهما: أن التوبة من غير المحارب لا تظهر حقيقة، فإذا لم تظهر - لم تعمل في إسقاط ما وجب، وفي المحارب تظهر؛ لأنه في بدي نفسه إذا ترك المحاربة والسعي في الأرض بالفساد، وظهرت منه التوبة فلم يؤاخذ به، وفي سائر الحدود لا يظهر منه ترك ما كان يرتكب؛ لذلك افترقا. والثاني: أنه لو لم يقبل منه ذلك لتمادى في السعي في الأرض بالفساد في حق المسلمين من الضرر أكثر مما لو أخذوهم بذلك، فاستحسنوا قبول ذلك منهم، ودرئ ما وجب عليهم من الحدود التي هي لله تعالى. وأما الحقوق التي هي للعباد: فذلك إلى الأولياء: إن شاءوا أخذوهم بذلك، وإن شاءوا تركوا، واللَّه أعلم. وأما قوله: " من جاء مسلمًا هدم الإسلام ما كان في الشرك "، معناه: إذا جاء تائبًا؛

(35)

لأن الحدود جعلت زواجر، والإسلام يزيد في الزجر والتغليظ؛ فلا يجوز أن يكون ما كان سببًا للتغليظ سببًا لإسقاطه؛ دل أن المعنى منه: من جاء مسلمًا تائبا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) يحتمل أن تكون الآية صلة ما مضى من الآيات؛ من ذلك قوله - تعالى -: (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، أخبر أنه إنما يتقرب بقربانه المتقي، وقال: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .) الآية، ثم قال تعالى: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ): أي: ابتغوا بتقوى اللَّه عن معاصيه القربة والوسيلة. و (الْوَسِيلَة): القربة وكذلك الزلفة، يقال: توسل إليَّ بكذا، أي: تقرَّب؛ وهو قول الْقُتَبِيّ، وقوله: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ): أي: قربت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ. . .) الآية. يحتمل هذا وجهين: أحدهما: جاهدوا أنفسكم في صرفها عن معاصيه إلى طاعته؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا). ويحتمل: أن جاهدوا مع أنفسكم وأموالكم أعداء اللَّه في نصرة دينه، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ... (36) كان الذي يمنعهم عن الإسلام والإيمان باللَّه وبالرسل قضاء شهواتهم، وطلب العزة والشرف بالأموال، فأخبر: (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ)؛ في صرف العذاب عن أنفسهم (مَا تُقُبِّلَ

(37)

مِنْهُمْ)، ولا ينفعهم ذلك، يذكر هذا - واللَّه أعلم - ليصرفوا أنفسهم عن معاصي اللَّه، والخلاف له بأدنى شيء يطلبون من الأموال والشهوات، وأخبر أنه لو كان لهم ما في الأرض ومثله معه ليفتدوا بعذاب يوم القيامة، ما نفعهم ذلك، وما تقبل منهم. والحكمة في ذكر هذا - واللَّه أعلم - ليعلموا أن الآخرة ليست بدار تقبل فيها الرشا كما تقبل في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) دل هذا على أن من العذاب ما لا ألم فيه من نحو الحبس والقيد، فأخبر أن عذاب الآخرة أليم كله، ليس كعذاب الدنيا: منه ما يكونُ، أليمًا ومنه ما لا يكون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا ... (37) يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ): أي: يطلبون ويسألون الخروج منها من غير عمل الخروج نفسه. ويحتمل قوله - تعالى -: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) ولكن يردون ويعادون إلى مكانهم؛ كقوله - تعالى -: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا) أي: يجتهدون في الخروج منها (أُعِيدُوا فِيهَا)؛ فيه دليل أنهم يعملون عمل الخروج؛ ولكن يردون ويعادون فيها. * * * قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) وقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا. . .) الآية عام في السراق، خاص في السرقة؛ لأنه يدخل جميع أهل الخطاب في ذلك، وإن

كان يجوز أن يدرأ الحد عن بعض السراق، إذا سرقوا من محارمهم، أو ممن له تأويل الملك في ماله أو شبهة التناول منه؛ لأنه إذا سرق ممن ليس له ذلك التأويل ولا تلك الشبهة - قطع؛ فدل أنها عامة في السراق؛ وعلى هذا يخرج قول ابن عَبَّاسٍ؛ حيث سئل عن قوله - تعالى -: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) أخاص هو أم عام؟ فقال: " لا؛ بل عام " أي: عام في السراق؛ ألا ترى أنه قال في خبر آخر؛ حيث سئل عن ذلك فقال: " ما كان من الرجال والنساء قطع ". وأما قولنا: " خاص في السرقة "؛ لأنه لا يحتمل قلب أحد قطع اليد في الشيء التافه الخسيس الذي إذا أخذ أمنه، دل أن الخطاب بذلك من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - رجع إلى سرقة دون سرقة، لا إلى كل ما يقع عليه اسم السرقة؛ وكذلك الخطاب بقطع اليد رجع إلى بعض اليد، وهو الكف، وإن كان اسم اليد يقع من الأصابع إلى الإبط؛ لأن الناس مع اختلافهم - اتفقوا على أن اليد لا تقطع من الإبط ولا من المرفق، لكنهم اختلفوا فيما دون ذلك: فعلى قول بعضهم: تقطع الأصابع دون الكف، وعندنا: أنه تقطع الأصابع بالكف؛ لأنه بها يُقْبَضُ الشيءُ وُيؤْخذ؛ فمخرج الخطاب بالقطع عام، والمراد منه: رجع إلى بعض اليد دون بعض. وكذلك قوله تعالى: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) مخرج الخطاب بالقطع عام، ليس فيه

بيان من يتولى القطع، فالمراد منه: رجع إلى الولاة؛ فهذا كله يدل على أن ليس في مخرج عموم اللفظ دليل عموم المراد، ولا في مخرج خصوص اللفظ دليل خصوصه؛ بل يعرف ذلك كله بدليل: يقوم العموم بدليل العموم، والخصوص بدليل الخصوص؛ فهذا ينقض قول من يقول: إنه على العموم حتى يقوم دليل الخصوص، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ لنا: أيش الحكمة في إقامة الحد في السرقة على ما به تكتسب السرقة وهو اليد، ولم يقم الحد في سائر الحدود فيما به كان اكتسابها؛ من نحو القصاص والزنا وغيره، أنه إذا قتل آخر لم تقطع يده وبها كان اكتساب القتل؛ وكذلك الزنا لم يقم الحد على ما به كان الزنا، بل أقيم على غير ما به كان ذلك الفعل، وفي السرقة أقيم على ما به كان ذلك خاصة؟! قيل - واللَّه أعلم - لخلتين: إما لقصور في الاستيفاء من الحق، أو لخوف الزيادة في الاستيفاء على الحق؛ لأنه إذا قتل: لو قطعت يده بقيت له النفس، وقد تلفت نفس الآخر، فكان في ذلك قصور في استيفاء الحق. وفي الزنا: لو أقيم به على الذي به كان اكتساب الفعل لخيف تلف نفسه به؛ فكان في ذلك استيفاء الزيادة على الحق. وأما السرقة: فإنه أمكن استيفاء الحق مما كان به اكتسابها، على غير قصور يقع في الاستيفاء، ولا خوف الزيادة في الاستيفاء؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في قطع يد قيمتها ألوف بسرقة عشرة، وذلك مما لا يمثاله في الظاهر، وقد أخبر ألا يجزي إلا مثلها، كيف جزي هذا بأضعاف ذلك؟ قيل: لهذا جوابان: أحدهما: أن جزاء الدنيا محنة يمتحن بها المرء، ولله أن يمتحن عباده بأنواع المحن ابتداء على غير جعل ذلك جزاء لكسب يكتسب، فمن له الامتحان بأنواع المحن على غير جعلها جزاء لشيء - كان له الامتحان بأن يجعل ما يساوي ألوفا جزاء فلس أو حبة، وبالله العصمة والنجاة. والثاني: أن ليس القطع في السرقة جزاء ما أخذ من المال؛ ولكنه جزاء ما هتك من

الحرمة؛ ألا ترى أنه قال: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا)، ولم يقل: جزاء بما أخذا من الأموال؟! فيجوز أن يبلغ جزاء تلك الحرمة قطع اليد، وإن قصر علم البشر عن ذلك؛ لأن مقادير العقوبات إنما يعرف من يعرف مقادير الإجرام، وليس أحد من الخلائق يحتمل علمه مبلغ مقادير الإجرام، فإذا لم يحتمل علمهم مبلغ مقاديرها لم يحتمل معرفة مقادير عقوباتها، فإذا كان كذلك فحق القول فيه الاتباع والتسليم - بعد العلم في الاتباع - أن اللَّه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها، وباللَّه التوفيق. ثم الكلام في قطع اليمين ما روي في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " فاقطعوا أيمانهما ". وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال: " إذا سرق الرجل قطعت يده اليمنى "، وعلى ذلك اتفاق الأمة. ثم المسألة في مقدار السرقة، وليس في الآية ذكر مقدارها، واختلف أهل العلم في ذلك: فقَالَ بَعْضُهُمْ: تقطع في ربع دينار فصاعدًا. وقال أصحابنا: لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم فصاعدًا أو دينار. وقد روي من الأخبار ما احتج به كل فريق منهم: روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقطع في ربع دينار فصاعدًا. وعنها أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " تُقْطَعُ يَدُ السارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا ".

وعروة بن الزبير يقول: كانت عائشة - رضي اللَّه عنها - تحدث عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَا تُقْطَعُ اليَدُ إِلا فِي المِجَنِّ أَوْ فِي ثَمَنِهِ " وتزعم أن قيمة المجن أربعة دراهم؛ فدل قول عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يقطع اليد إلا في ثمن المجن - أن قولها: " إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يقطع اليد إلا في ربع دينار " أن ثمن المجن كان عندها ربع دينار أو لا يكون كذلك؛ وعلى ذلك ما روي عن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما -: " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم ". في الخبر أنه قطع في مجن، وأما التقويم فإنما هو من عند عبد اللَّه. وعن أنس بن مالك - رضي اللَّه عنهما - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن، فقيل: يا أبا حمزة، كم كانت قيمته؟ قال: دون خمسة دراهم؛ هذا يدل على أن التقويم كان من

أنس، فكان ذلك كتقويم ابن عمر وعائشة، رضي اللَّه عنهم. وليس في التقويم حجة في واحد من المقومين؛ لمخالفة كل واحد منهم صاحبه، وإنما قوموه من قِبَلِ أنفسهم. فأما إن كان في مِجَنَّينِ مختلفين: فهو على التناسخ، وأما إن كان في مجن واحد في وقتين مختلفين: فإن كان في وقتين مختلفين، لم يكن لمخالفنا فيه حجة؛ لما يحتمل الزيادة والنقصان على اختلاف الأوقات، وإن كان في مجنين مختلفين فهو على التناسخ فلم يظهر؛ فلا يقدم على القطع بالشك. ثم الأخبار التي تمنع القطع بدون العشرة: ما روي عن عمرو بن شعيب قال: " دخلت على سعيد بن المسيب، فقلت له: إن أصحابك: عروة، ومُحَمَّد بن مسلم، وفلان - رجل آخر - يقولون: ثمن المجن خمسة دراهم أو ثلاثة؟ فقال: أما هذا فقد مضت السنة فيه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عشرة دراهم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: ثمن المجن في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عشرة دراهم. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه كان لا يقطع اليد إلا في ثمن المجن، وهو يومئذ يساوي عشرة دراهم ". فلما اختلف المقومون في قيمة المجن رجعنا إلى ما روي عن سعيد بن المسيب؛

(39)

حيث قال: " مضت السنة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعشرة دراهم " وإن كان مرسلاً؛ إذ لا معارض له، ويؤيد هذا ما روي عن نجباء الصحابة من نحو: عمر، وعثمان، وعلي، وعبد اللَّه بن مسعود، رضي اللَّه عنهم. وروي أن عمر أتى بسارق فأمر بقطعه؛ قال عثمان - رضي اللَّه عنه -: " سرقته لا تساوي عشرة دراهم "؛ فأمر بها فقومت ثمانية دراهم، فلم يقطعه. وعن ابن مسعود قال: " لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم ". وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم ". وروي عن عائشة قالت: " لم تكن اليد تقطع على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الشيء التافه "، فأخذ أصحابنا - رحمهم اللَّه - بهذه الأخبار، ولم يروا قطع اليد بدون العشرة؛ لأنهم مع اختلافهم اتفقوا على أن اليد تقطع في سرقة عشرة دراهم، واختلفوا في وجوب القطع فيما دون العشرة وهو حد قد روي؛ للإشكال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ. . .) الآية: يحتمل قوله: (نَكَالًا مِنَ اللَّهِ)، أي عظة وزجرًا من اللَّه لغيره؛ لأن من عاين آخر قطعت يده في سرقة - اتعظ به، وزجره ذلك على الإقدام عليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ... (39) يحتمل: (تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ) أي: تاب عن الشرك، وأصلح ما كان يفسده

ويرتكبه في حال شركه. (فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وعد له المغفرة والرحمة؛ إذا تاب عن الشرك، وأصلح ما كان يفسده ويرتكبه في حال الشرك، حتى لم يؤاخذ بشيء مما كان يرتكبه في حال الشرك ويتعاطاه إذا أسلم؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، والمسلم في حال الإسلام إذا ارتكب حدودا وتعاطاها، ثم تاب - أخذ بها؛ لوجهين: أحدهما: أن الكافر لو أُخِذَ بعدما أسلم بما كان ارتكب في حال الكفر وتعاطاه؛ فذلك يمنعه عن الإسلام ويزجره؛ فإذا كان كذلك فكان في إقامة ذلك والأخذ بها من الفساد أكثر من الصلاح. وأما المسلم إذا لم يؤخذ بما ارتكب وتعاطى بعد التوبة - يدخل في ذلك من الفساد ما يفحش؛ وذلك أنه كلما أريد أن يقام عليه الحد تاب فسقط ذلك عنه، ثم عاد ثانيًا، ثم ثالثا. . . إلى ما لا يتناهى، فعمل في الأرض بكل الفساد من غير أن لحقه ضرر؛ لذلك أخذ به بعد التوبة، والكافر لا، واللَّه أعلم. والثاني: أن الكافر ما يرتكب ويتعاطى في حال الكفر - إنما يرتكبه تدينًا يدين به؛ فإذا رجع عن ذلك الدِّين ودان بدين آخر ما يكون ذلك حرامًا في دينه الذي تمسك به - ترك ما كان يرتكب في دينه الأول تدينًا؛ فيظهر ذلك منه؛ فلم يقم عليه؛ لما يظهر منه ترك ما تعاطى قبل ذلك. وأما المسلم: فليس يتعاطى ما يتعاطى تدينًا يدين به؛ ولكنه يتعاطاه شهوة، وذلك مما لا يظهر منه التوبة حقيقة؛ لذلك اختلفا، واللَّه أعلم. وفيه دليل جواز تأخر البيان؛ لأنه قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً)، ولا يحتمل أن يبين له جميع شرائط السرقة التي يجب فيها القطع وقت قرع الخطاب السمع؛ فدل أنه إنما يبين له على قدر الحاجة بعد السؤال والبحث عنها، واللَّه أعلم. وكان جميع ما ذكر من العقوبات إنما نزل في أهل الكفر؛ لأنهم هم الذين كانوا

(40)

يتعاطون ذلك دون المسلمين، وترك عامة العبادات في المسلمين؛ لأنهم هم الذين يرغبون فيها: من ذلك قوله - تعالى -: (الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .) الآية، وما ذكر في ابني آدم. وقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا. . .) الآية: ذكر عن ابن عَبَّاسٍ أنه قال: " نزلت في طعمة بن أبيرق؛ سرق درع جاره؛ فنزلت الآية "، وعلى ذلك قال عامة أهل التأويل، ثم صار ذلك الحكم في المسلمين إذا ارتكبوا تلك الأجرام، وفيه دليل جواز القياس، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ... (40) ذكر هذا - واللَّه أعلم - على أثر قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)، وعلى أثر قوله: (الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .) الآية -: أن له ملك السماوات والأرض، وله أن يعذب من يشاء بعد التوبة وقبل التوبة، ويغفر لمن يشاء، ولا يعذب بعد التوبة؛ وذلك أن المحارب إذا تاب قبل أن يقدر عليه لم يقم عليه الحد الذي وجب في حال المحاربة، والسارق إذا تاب قبل أن يقدر عليه أخذ به. أخبر أن له أن يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء. وفيه نقض على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: الصغيرة مغفورة ليس له أن يعذب عليها، والكبيرة يخلد صاحبها في النار ليس له أن يعفو عنها. فلو كان على ما قالوا لذهب معنى التخيير بقوله - تعالى -: (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) إذا ما عفا: عفا ما عليه أن يعفو، وكذلك ما عذب: عذب ما عليه أن يعذب؛ فيذهب فائدة التخيير، وقد أخبر أنه (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ). * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ

(41)

يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. . .) الآية يحتمل وجوهًا: أحدها: ألا يحزنك كفر من كفر منهم. ليس على النهي عن ذلك؛ ولكن ألا يحمل على نفسه بكفرهم ما يمنعه عن القيام بأمره، كقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، وكقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، ونحو ذلك من الآيات مما يشتد به الحزن بكفرهم؛ لشدة رغبته في إسلامهم. ويحتمل قوله - تعالى -: (لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي: لا يحزنك تمرد هَؤُلَاءِ وتكذيبهم إياك؛ فإن اللَّه ناصرك ومظفرك ويظفر لك عليهم. ويحتمل: لا يحزنك صنيع هَؤُلَاءِ الكفرة وسوء عملهم؛ فإنك لا تؤاخذ بصنيعهم؛ كقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)، وكقوله - تعالى -: (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ). وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) دلالة تفضيل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غيره من الأنبياء والرسل؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - في جميع ما خاطب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)، و (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ولم يُخَاطَبْ باسمه، وسائر الأنبياء - عليهم السلام - إنما خاطبهم باسمائهم: (يا موسَى)، و (يا إبَراهِيمُ)، و (يَا نُوحُ)، وجميع من خاطب منهم أو ذكر إنما ذُكِرَ بأسمائهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) قال: قالوا: (آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ)، ولم يقل: آمنوا بأفواههم؛ ليعلم أن القول به ليس هو من شرط الإيمان؛ إنما الإيمان هو تصديق القلب، لكن يعبر به اللسان عن قلبه؛ ألا ترى أنه قال: (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)، والإيمان: هو التصديق في اللغة؛ لأن ضده التكذيب؛ فيجب أن يكون ضد التكذيب: التصديق. والتصديق يكون بالقلب؛ حيث قال - عز وجل -: (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)، لكن اللسان يعبر عن ضميره، فهو ترجمان القلب فيما بين الخلق؛ فهذا يدل أيضا على أن الإيمان ليس هو المعرفة؛ لأن الإيمان لو كان معرفة لكان يجب أن يكون ضده جهلا؛ فلما كان ضد الإيمان تكذيبا وجب أن يكون ضد التكذيب: التصديق، والتصديق والإيمان في اللغة سواء؛ ولأن المعرفة قد تقع في القلب على غير اكتساب فعل وإنَّمَا والتصديق لا يكون إلا باكتساب ترك مضادته وهو التكذيب؛ لذلك قلنا: إن الإيمان ليس هو المعرفة، ولكنه تصديق. ثم اختلف في هَؤُلَاءِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هم المنافقون الذين كانوا يظهرون الإيمان باللسان، وقلوبهم كافرة. وقال آخرون: هم اليهود والمنافقون (الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) هذا يدل أن قوله - تعالى -: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ) في المنافقين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) يحتمل: سماعون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خبره، (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) خبره بالكذب، ومعناه - واللَّه أعلم -: أنهم كانوا يستمعون إلى رسول اللَّه - - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خبره، وما يقول لهم، ثم يأتون الذين لم يأتوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيخبرونهم خلاف خبره وغير ما سمعوا منه. وقيل: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: إن في التوراة كذا من الأحكام والشرائع؛ فإذا سمع هَؤُلَاءِ منه ذلك أتوا أُولَئِكَ الذين لم يأتوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيقولون: إنه كاذب، وليس

في التوراة ما يقول هو، ونحو ذا. وقيل: إنهم كانوا طلائع الكفرة وعيونًا لهم، فإذا أتى لهم منهم خبر يخبرون ضعفة أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خلاف ما أتاهم؛ نحو قولهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)، كانوا يخشونهم؛ لئلا يغزوهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) يحتمل التحريف وجهين: يحتمل: تبديل الكتابة من الأصل؛ كقوله - تعالى -: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، ويحتمل تغيير المعنى في العبارة على غير تبديل الكتاب، يغيرون على السفلة، والذين لا يعرفون غير ما فهموا منه. وقوله: (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا) يعنون بـ " هذا ": ما حرفوه وغيروه. (فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: نزلت الآية في رجل وامرأة من اليهود زنيا، وكان حكم اللَّه في التوراة في الزنا: الرجم، وكانوا يرجمون الوضيع منهم إذا زنا، ولا يرجمون الشريف - وكانا في شرف وموضع، وكانا قد أحصنا، فكرهت اليهود رجمهما، وفي كتابهم الرجم، وكانوا أرادوا أن يرتفع الرجم من بينهم، وأن يكون حدهم الجلد؛ فذلك قوله - تعالى -: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا) - يعنون: الجلد - (فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا)، فكتبوا بذلك إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسألوا عن ذلك، فقالوا: يا مُحَمَّد، أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا: ما حَدُّهُمَا؟ وهل تجد فيهما الرجم فيما أنزل اللَّه - تعالى - عليك؛ فقال لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وَهَلْ تَرضَونَ بِقَضَائِي فِي ذَلِكَ؟ " قالوا: نعم؛ فنزل

جبريل - عليه السلام - بالرجم، وقال له: إن أبوا أن يأخذوا به، فاسألهم عن رجل منهم يقال له: " ابن صوريا " - وصفه له - فاجعله بينك وبينهم، فقال لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " نَعَمْ، أَجِدُ فِيمَا أَنْزلَ اللهُ عَلَيَّ: أَن الزانِيَةَ وَالزانِي إِذَا أُحْصِنَا وَفَجَرَا؛ فَإِنَّ عَلَيهِمَا الرجْمَ "، فنفروا عن ذلك؛ فقال لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَتَعْرِفُونَ رَجُلاً شَابًّا صِفَتُهُ كَذَا، يُقَالُ لَهُ: ابنُ صُوريا؟ " قالوا: نعم، قال: " فَأَيُّ رَجُلٍ هُوَ فِيكُم؟ " قالوا: هو أعلم يهودي على وجه الأرض بما أنزل اللَّه على موسى، قال: " فَأَرْسِلُوا إِلَيهِ " ففعلوا؛ فأتاهم ابن صوريا، فقال له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَنْتَ ابْنُ صُوريا؟ " قال: نعم، قال: " وَأَنْتَ أَعْلَمُ اليَهُودِ؟ "، قال: كذلك يزعمون، قال: " اجْعَلُوهُ بَيّنِي وَبَينَكُم " قالوا: نعم، رضينا به إذا رضيت، قال: فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " فَإِني أَنْشُدُكَ باللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَوْرَاةَ عَلَى مُوسَى: هَلْ تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمُ الَّذِي أَتَاكم بِهِ مُوسَى فِي التوْرَاةِ: الرجْمَ عَلَى مَنْ أُحْصِنَ؟ "، قال ابن صوريا: نعم والذي ذكرتني، ولولا خشية أن تحرقني النار إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك. ففي هذا وجوه من الدلائل: أحدها: أنه سألهم عما كتموا من الأحكام والحقوق التي بينهم وبين اللَّه تعالى؛ ليظهر خيانتهم وكذبهم فيما كتموا من نعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته؛ ليعلموا أنه إنما عوف ذلك باللَّه، وفيه إثبات رسالته. والثاني: أنهم طلبوا منه الرخصة والتخفيف في الحد؛ لأنهم عرفوا أنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكنهم كابروا في الإنكار بعدما عرفوا أنه رسول اللَّه حقًّا. وفيه دلالة جواز شهادة بعضهم على بعض؛ لأنه قبل شهادة ابن صوريا عليهم حيث شهد بالرجم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا

فَخُذُوهُ. . .) الآية: إنها نزلت في قتيل قتل عمدًا بين قبيلتين: بني قريظة، والنضير، وكان القتيل من بني قريظة، وكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يعطوهم القود، ولكن يعطونهم الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير لم يرضوا إلا بالقود؛ يتعززون عليهم، فقدم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - المدينة فأرادوا أن يرفعوا أمرهم إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليحكم بينهم، فقال رجل من المنافقين: إن قتيلكم قتل عمدًا، وأنا أخشى عليكم القود، فإن كان مُحَمَّد أمركم بالدية وقبل منكم فأعطوه، وإلا فكونوا على حذر، فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما قالوا؛ فقال: (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) يعني: الدية، (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا). فلا ندري فيم كانت القصة، وفيه من الدلائل ما ذكرنا من إثبات الرسالة والنبوة، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ) قيل: من يرد اللَّه عذابه وإهلاكه؛ فلن يملك أحد دفع ذلك العذاب عنه. وقيل: الفتنة: المحنة، أي: من يرد اللَّه أن يمتحن بالرجم أو القتل؛ فلن يملك له أحد دفع ذلك عنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) قالت المعتزلة: قوله: (لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) تأويله يحتمل وجهين: يحتمل: (لَمْ يُرِدِ اللَّهُ). أي: لم يطهر اللَّه قلوبهم. والثاني: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) بالشرك والكفر، وذلك بعيد؛ لأنه كيف يطهر بالكفر، وبالكفر يتنجس؟!. لكن الوجه عندنا في قوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي: لم يرد اللَّه أن يطهر قلوبهم؛ إذ علم منهم أنهم يختارون ما اختاروا، ويريدون ما

(42)

أرادوا، فإنما أراد ما كان علم منهم أنهم يريدون ويختارون؛ وكذلك قوله - تعالى -: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ) يريد فتنة من علم أنه يريدها ويختارها، فإنما يريد ما أراد هو ويختار. وظاهر الآية على المعتزلة؛ لأنه قال: (لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ)، وهم يقولون: أراد أن يطهر قلوبهم. وذلك ظاهر الخلاف بَيّن، وباللَّه العصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خزية) الخزي في الدنيا يحتمل: القتل، ويحتمل: العذاب والجزية (خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ... (42) يحتمل وجهين: يحتمل: (سَمَّاعُونَ)، أي: مستمعون إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليعرفوا به فيكذبوا عليه. ويحتمل قوله: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ)، أي: قابلون لما أُلقيَ إليهم من الكذب: كانوا يقبلون لما أُلقيَ إليهم من الكذب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: كل حرام هو سحت، فإن كان السحت اسم كل حرام، فذلك يعم جميع الكفرة أو أكثرهم. وقال آخرون: السحت: هو الرشوة في الحكم، فإن كان السحت هذا فذلك يرجع إلى رؤسائهم الذين يحكمون فيما بينهم، ويأخذون على ذلك رشوة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) اختلف فيه. قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التخيير إذا رفعوا إلى الإمام: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض ولم يحكم، لكنه منسوخ بقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ): أمر بالحكم بينهم إذا جاءوا، ونهى أن يتبع أهواءهم، وفي ترك الحكم بينهم اتباع هواهم، وقال: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (وَاحْذَرْهُمْ) قالوا: هو منسوخ بهذه الآية، وأمكن الجمع بينهما، وهو أن قوله - تعالى -: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) في قوم من أهل الحرب دخلوا دار الإسلام بأمان، فرفعوا إلى الإمام أمرهم؛ فالإمام بالخيار: إن شاء ردهم إلى مأمنهم، أو نقض عليهم أمانهم، ولم يحكم بينهم، وإن شاء تركهم وحكم بينهم؛ فذلك معنى التخيير، والله أعلم. وأما قوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ): فذلك في أهل الذمة الراضين بحكمنا، إذا رفعوا إلى الحاكم يجب أن يحكم بينهم، ولا يرد عليهم ما طلبوا منه من إجراء الحكم عليهم؛ لأنه ليس له فسخ ما أعطى لهم من العهود والمواثيق، وهم قد رضوا بحكمنا؛ لذلك لزم الحكم بينهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا) يحتمل هذا وجهين: يحتمل: أن يقع الإعراض عنهم موقع الجفاء، ويعدون ذلك جفاء؛ فأمَّن - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - عليه السلام - عن أن يلحقه ضرر منهم. ويحتمل قوله: (فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا) أي: ليس عليك من ضرر ما هم فيه؛ فإنما ضرر ذلك عليهم؛ وهو كقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) وكقوله - تعالى -: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ. . . .) الآية.

(43)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي: بالعدل؛ كقوله - تعالى -: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) وكقوله - تعالى -: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. . .) الآية. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي: العادلين في الحكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ... (43) يُعَجِّبُ نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شدة سفههم وتعنتهم بتركهم الحكم بالذي صدقوا، وطلب الحكم بما كذبوا؛ لأنهم صدقوا التوراة وما فيها من الحكم، وكذبوا ما أنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، يقول - واللَّه أعلم -: إنهم إذا لم يعملوا بالذي صدقوا، كيف يعملون بالذي كذبوا؟! وذلك تعجيب منه إياه شدة السفه والتعنت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهَا حُكمُ اللَّهِ)، أي: حكم اللَّه الذي تنازعوا فيه وتشاجروا: رجمًا كان، أو قصاصًا أو ما كان، واللَّه أعلم. وقوله: (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) يحتمل وجهين: يحتمل: يتولون من بعد ما تحكم بينهم عما حكمت. ويحتمل: يتولون من بعد ما عرفوا من الحكم عليهم بما في التوارة. وقوله: (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أخبرهم أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم سماهم كافرين في آخر الآية، بقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) لم يجعل درجة ثالثة؛ فهذا ينقض قول من يجعل درجة ثالثة بين الإيمان والكفر، وهو قول المعتزلة. وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ... (44) هدى من الضلالة، ونور من العمى، هدى لمن استهدى به، ونور لمن استنار به من العمى وقوله: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية على التقديم والتأخير: يقول: يحكم بها النبيون الربانيون والأحبار

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ الذين أسلموا، أو من الأحبار من قد أسلم. أخبر أن النبيين والأحبار الذين أسلموا يحكمون بما في التوراة (لِلَّذِينَ هَادُوا)، أي: على الذين هادوا؛ (لِلَّذِينَ) بمعنى: على الذين؛ وهذا جائز في اللغة؛ كقوله: (وَإِنْ أَسَأتُم فَلَهَا)، أي: فعليها. وقيل: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا)، أي: أسلموا أمرهم وأنفسهم لله، وخضعوا له، حكموا بما فيها، وإن خافوا على أنفسهم الهلاك (لِلَّذِينَ هَادُوا) إن أطاعوا اللَّه، وقبلوا ما فيها من الحكم؛ فعند ذلك يحكم لهم. وقوله: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) هو طلب الحفظ، أي: بما جعل إليهم الحفظ. (وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ). أي: شهداء على ما في التوراة من الحكم. ويحتمل: شهداء على حكم رسول اللَّه الذي حكم عليهم، أنه كذلك في التوراة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ) فيما تحكم عليهم، (وَاخْشَوْنِ) أمن رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شرهم ونكبتهم، وأمر أن يخشوه؛ يكفيه شرهم وأذاهم. ثم اختلف في الأحبار والربانيين: قَالَ بَعْضُهُمْ: " الرَّبَّانِيُّونَ ": علماء اليهود، " والأحبار ": علماء النصارى. وهما واحد سموا باسمين مختلفين. وقيل: قوله: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) إنما خاطب علماءهم، أي: لا أتخشوا الناس، أن تخبروهم بالحكم الذي في التوراة واخشون. (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) لهم خرج الخطاب بهذا على التأويل الثاني. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) هكذا من جحد الحكم بما أنزل اللَّه ولم يره حقًّا فهو كافر. ذكر في القصة أن الآية نزلت في قتيل كان بين بني قريظة وبني النضير: أن بني النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يرضوا إلا بالقود، والأخرى إذا قتلت أحدًا منهم كانوا لم يعطوهم القود، ولكن يعطوهم الدية؛ فنزل: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ

(45)

بِالنَّفْسِ. . . .) الآية. * * * قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. . .) إلى آخره. أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنه كان كتب على أهل التوراة: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، وقد كتب علينا -أيضًا- قتل النفس بالنفس بقوله - تعالى -: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)؛ كأنه قال: كتب عليكم القصاص في النفس بالنفس، كما كنت كتبت عليهم. وأما القصاص فيما دون النفس: فإنه لم يبين في الآية التي أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه كتب علينا القصاص في النفس. ثم يحتمل أن يكون قوله: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ. . .) إلى آخر ما ذكر وجهين: يحتمل: أن يكون إخبارًا عما كان مكتوبًا عليهم من القصاص فيما دون النفس: كالنفس؛ ألا ترى أنه قد قرئ في بعض القراءات بالنصب؛ نسقًا على الأول؟!

ويحتمل: على الابتداء على غير إخبار منه، ولكن على الإيجاب ابتداء؛ والذي يدل على ذلك قوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) لا يحتمل أن يكون هذا في الخبر؛ لأن ذلك ترغيب في العفو في الحادث من الوقت؛ دل أنه ليس على الإخبار، ولكن على الابتداء؛ ألا ترى أكثر القراء قرءوا بالرفع غير قوله: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، فإنه بالنصب؟!. ثم ذكر (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ)، ولم يذكر اليد والرجل، وذلك يحتمل وجهين: أحدهما: لما يحتمل أن يكون القصاص في اليد ظاهرًا، فَيُستَدَلُّ بوجوبه فيما هو أخفى على وجوبه - فيما هو أظهر منه؛ لأن المنتفع بالبصر والأنف والسمع ليس إلا صاحبه، وقد يجوز أن ينتفع غيره بيد آخر وبرجله. والثاني: أن يكون وجوب القصاص في اليد في قوله: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ). ثم تخصيص الأسنان بوجوب القصاص دون غيرها من العظام؛ لأن الأسنان بادية ظاهرة، يقع عليها البصر - يقدر على الاقتصاص فيها، وأما غيرها من العظام: مما لا يقع عليها البصر، ولا يقدر على الاقتصاص فيها إلا بعد كسر آخر وقطع لحم؛ لذلك خصت الأسنان بالاقتصاص دون سائر العظام، واللَّه أعلم. ثم فيه دليل وجوب القصاص في العضو الذي لا منفعة فيه سوى البهاء - بذهاب البهاء؛ لأنه ذكر الأنف والأذن، وليس في الأنف والأذن إلا ذهاب البهاء؛ فأوجب في ذهاب البهاء القصاص؛ كما أوجب في ذهاب المنفعة؛ وعلى هذا يخرج قولنا: وجوب الدية في ذهاب البهاء على الكمال، كوجوبها في ذهاب المنفعة على الكمال. على أن أهل العلم مجمعون أن القصاص واجب بين الرجال الأحرار في " العين، والأنف " والأذن، والسن "، " والجروح " التي ليس فيها كسر عظم؛ إذا جنى على شيء من ذلك عمدا بحديدة. وأما القصاص بين الرجال والنساء والعبيد والأحرار فيما دون النفس: فأهل العلم اختلفوا فيه، وكان أصحابنا - رحمهم اللَّه - لا يرون القصاص بينهم في ذلك، ويرون القصاص في الأنفس، فأهل العلم اختلفوا فيه، ويفرقون بينهما، والفرق بينهما:

(46)

أن جماعة لو قتلوا رجلًا قتلوا به، ولو قطع جماعة يد رجل لم تقطع أيديهم؛ فالتفاضل في الأنفس غير معتبر به، ويعتبر به فيما دون النفس، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم ذكرًا كافيًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صاحب الدم كفارة لما كان ارتكب هو، وعلى ذلك رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ تَصَدَّقَ بِدَمٍ فَمَا دُونَهُ كَانَ لَهُ كَفَارَةً مِنْ يَومِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ تَصَدَّقَ ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)، يعني: كفارة للقاتل إذا عفا الولي، وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وعن مجاهد: هو كفارة للجارح، وأجر المتصدق على اللَّه. والأول كأنه أقرب وأشبه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وهذا إذا ترك الحكم بما أنزل اللَّه جحودًا منه، فهو ما ذكر، كافر. (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... (46) قوله تعالى: (وَقَفَّيْنَا): أي: أتبعنا على آثارهم، وهو من القفا. وقوله: (آثَارِهِمْ) يحتمل وجهين: يحتمل: على آثار الرسل. ويحتمل: على آثار الذين أنزل فيهم التوراة.

(47)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) أخبر أنه كان مصدفا ما بين يديه من التوراة؛ فهذا يدل أن الأنبياء - صلى اللَّه عليهم وسلم - كان يصدق بعضهم بعضا فيما أنزل عليهم من الكتب، تأخر أو تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) (هُدًى): من الضلالة لمن تمسك به، (وَنُورٌ) لمن عمى ولمن استناره. (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) فهذا يدل أن الكتب كانت مصدقة بعضها بعضًا على بُعد أوقات النزول مما يدل: أنه من عند واحد نزل، جل اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) يحتمل: موعظة للمؤمنين؛ لأن المؤمن هو الذي يتعظ به، وأما غير المؤمن فلا يتعظ به. ويحتمل قوله: (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ): الذين اتقوا المعاصي كلها. وفي قوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)، وكذلك قوله - تعالى -: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) - دلالة أن القصاص للعبد خاصة؛ حيث رغبه في العفو عنه والترك له، ليس كالحدود التي هي لله تعالى؛ لأنه لم يذكر في الحدود العفو ولا التصدق به، وذكر في القصاص والجراحات؛ دل أن ذلك للعبد: له تركه، وسائر الحدود لله ليس لأحد إبطالها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) ذكر في موضع: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، وفي موضع: (الظَّالِمُونَ)، وفي موضع: (الْفَاسِقُونَ) فأمكن أن يكون كله واحدًا: أن من لم يحكم بما أنزل اللَّه جحودًا منه له، واستخفافا؛ فهو كافر، ظالم، فاسق. ويحتمل أن يكون ما ذكر من الكفر بترك الحكم بما أنزل اللَّه؛ إذا ترك الحكم به

(48)

جحودًا منه وإنكارًا، وما ذكر من الظلم والفسق ذلك في المسلمين؛ لأنه قال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ. . .) إلى آخر ما ذكر، ثم قال: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)، ثم قال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) تركوا الحكم بما أنزل اللَّه؛ اتباعًا لأهوائهم لا جحودًا، فقد ظلموا أنفسهم؛ لأن الظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، والفسق: هو الخروج عن الأمر؛ كقوله - تعالى -: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)، أي: خرج. ثم يجيء أن يكون هذا في حال الجهل به والعلم سواء؛ لأنه إذا لم يحكم بما أنزل الله فقد وضع الشيء في غير موضعه، وخرج عن أمر ربه، لكن هذا في القول يقبح أن يقال: هو ظالم فاسق، وهو ما يفعل، إنما يفعل عن جهل به، يجوز أن يقال: فعله فعل ظلم وفسق، وأما في القول: فهو قبيح؛ لما ذكرنا. (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ): من الأحكام أي حكم كان، فهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ). قوله: (بِالْحَقِّ) قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) قد ذكرناه، أيضًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ). عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: مؤتمنا عليه.

والكسائي قال: المهيمن: الشهيد، وقيل: الرقيب على الشيء، قال: هيمن فلان على هذا الأمر؛ فهو مهيمن، إذا كان كالحافظ له والرقيب عليه. وعن الحسن قال: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) مصدقا بهذه الكتب، وأمينًا عليها. والْقُتَبِيُّ قال: أمينا عليه. وأَبُو عَوْسَجَةَ قال: مسلطًا عليه. وقيل: مفسرا يفسر التفسير. وقال أبو بكر الكيسانى: قوله: (وَمُهَيْمِنًا) هي كلمة مأخوذة من كتبهم معربة، غير مأخوذة من لسان العرب. وفيه إثبات رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتأويله: هو شاهد وحافظ على غيره من الكتب، ومصدقًا لها أنها من عند اللَّه نزلت سوى ما غيروا فيها وحرفوا؛ ليميز المغير منها والمحرف من غير المغير والمحرف. قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)، يعني: القرآن شاهد على الكتب كلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ

الْحَقِّ). يحتمل قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) من الرجم في الزاني الثيب، على ما ذكر في بعض القصة: أنهم رفعوا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الزاني والزانية منهم، فطلبوا منه الجلد، وكان في كتبهم الرجم. (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) قولهم: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا). أو أن يقال: احكم بينهم بما أنزل اللَّه من القتل؛ لأنه ذكر في بعض القصة أن بني قريظة كانوا يرون لأنفسهم فضيلة على بني النضير، وكانوا إذا قتلوا منهم أحدًا لم يعطوهم القود ولكن يعطوهم الدية، وإذا قتلوا هم أحدًا منهم لم يرضوا إلا بالقود؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) ووهو القتل، (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) في تركهم القود، وإعطائهم الدية، واللَّه أعلم بالقصة أن كيف كانت، وليس بنا إلى معرفة القصة ومائيتها حاجة، بعد أن نعرف ما أودع فيه وأدرج من المعاني. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا. . .) الآية. فَإِنْ قِيلَ: كيف نهاه عن اتباع أهوائهم، وقد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: أنه جعل لكل شرعة ومنهاجا، وقد يجوز أن يكون ما هو هواهم شريعة لهم؟!: قيل: يحتمل النهي عن اتباع هواهم؛ لما يجوز أن يهووا الحكم بشريعة قد نسخ الحكم بها لما اعتادوا العمل بها؛ فالعمل بالمعتاد من الحكم أيسر فهووا ذلك. أو كان ما نسخ أخف؛ فيهوون ذلك؛ فنهاه عن اتباع هواهم؛ لأنه العمل بالمنسوخ والعمل بالمنسوخ حرام. أو أن هووا في بعض على غير ما شرع، وفي بعض: ما شرع، فإنما نهي عن اتباع هواهم بما لم يشرع، واللَّه أعلم.

وقوله - تعالى -: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)، وليس في نسخ شريعة بشريعة خروج عن الحكمة عند من عرف النسخ؛ لأن النسخ بيان منتهى الحكم إلى وقت ليس على ما فهمت اليهود من البداء والرجوع عما كان، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم ما فيه مقنع بحمد اللَّه تعالى وَمَنِّهِ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: " الشرعة: هي السبيل، وهي الشريعة، وجمعها: شرائع، وبها سميت شرائع الإسلام، وكل شيء شرعت فيه فهو شريعة. وقال: " المنهاج: السنة، والشرعة: هي السبيل ". وقيل: الشرعة: السنة، والمنهاج: السبيل، يعني: الطريق الواضح الذي يتضح لكل سَالك فيه إلا المعاند والمكابر؛ فإنه يترك السلوك فيه مكابرة، يخبر - عَزَّ وَجَلَّ، واللَّه أعلم - أنه لم يترك الناس حيارى لم يبين لهم الطريق الواضح يسلكون فيه؛ بل بيَّن لهم ما يتضح لهم إن لم يعاندوا؛ ليقطع عليهم العذر والحجاج، وإن لم يكن لهم حجاج، وباللَّه التوفيق. وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً). اختلف فيه، قيل: لو شاء اللَّه، لجعلكم جميعا على شريعة واحدة، لا تنسخ بشريعة أخرى، لكن نسخ شريعة بشريعة أخرى؛ لفضل امتحان، ولله أن يمتحن عباده بمحن مختلفة، كيف شاء بما شاء. وقيل: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، أي: على دين واحد، وهو دين الإسلام، لم يجعل كافرًا ولا مشركًا، ولكن امتحنكم بأديان مختلفة على ما تختارون وتؤثرون، ثم اختلف في المشيئة: قالت المعتزلة: هي مشيئة الجبر والقسر.

(49)

وقال أصحابنا: المشيئة مشيئة الاختيار، وقد ذكرناها في غير موضع. وقوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ). قيل: سابقوا يا أمة مُحَمَّد الأمم كلها بالخيرات. ويحتمل قوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ). أي: سابقوا إلى ما به تستوجبون المغفرة؛ كقوله: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ). وأصل قوله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)، أي: اعملوا الخيرات؛ كقوله: (وَاعْمَلُوا صَالِحًا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ... (49) نهى رسوله - عليه السلام - أن يتبع أهواءهم - على العلم: أنه لا يتبع أهواءهم - والوجه فيه ما ذكرنا: أن العصمة لا تمنع النهي؛ بل تؤيد، وقد ذكرنا فيما تقدم. ويحتمل أن يرجع النهي إلى غيره، ويراد بالنهي والأمر: غير المخاطب به؛ على ما ذكرنا من عادة الملوك: أنهم إذا خاطبوا، خاطبوا من هو أجل عندهم وأعظم قدرًا، وأرفع منزلة؛ فعلى ذلك هذا. وقوله: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) فيما غيروا وبدلوا؛ هذا يحتمل. ويحتمل ألا تتبع أهواءهم: فيما طلبوا منك من الجلد مكان الرجم، أو الدية مكان القصاص؛ لما رأى بنو النضير لأنفسهم من الفضل على بني قريظة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ). قوله: (أَنْ يَفْتِنُوكَ)، أي: يصدوك عن الحكم ببعض ما أنزل اللَّه إليك، والفتنة هي المحنة، وهي تتوجه إلى وجوه، وقد ذكرنا الوجوه فيه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ). قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا): فإن أعرضوا، عن الحكم الذي تحكم بما أنزل اللَّه؛ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ)، اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما يعذبهم اللَّه ببعض ذنوبهم، لا يعذبهم بجميع ذنوبهم. وقال آخرون: عذاب الدنيا عذاب ببعض الذنوب، ليس هو عذابًا بكل الذنوب؛ لأنه لا

(50)

يدوم، وأما في الآخرة: فإنهم يعذبون بجميع ذنوبهم؛ لأن عذاب الآخرة دائم؛ فهو عذاب بجميع الذنوب، وعذاب الدنيا زائل؛ فهو عذاب ببعض الذنوب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ... (50) قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا صلة قوله: (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا)؛ فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ). وقال آخرون: روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - يقول: فحكمهم في الجاهلية يبغون عندك يا مُحَمَّد في القرآن. يعني: بني النضير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا). أي: لا أحد أحسن من اللَّه حكمًا، على إقرارهم أن اللَّه إذا حكم لا يحكم إلا بالعدل. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). يحتمل قوله - تعالى -: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) وجوهًا: يحتمل: لا تتخذوا أولياء في الدِّين، أي: لا تدينوا بدينهم؛ فإنكم إذا دنتم بدينهم صرتم أولياءهم. ويحتمل: لا تتخذوهم أولياء في النصر والمعونة؛ لأنهم إذا اتخذوهم أولياء في النصر والمعونة صاروا أمثالهم؛ لأنهم إذا نصروا الكفار على المسلمين وأعانوهم فقد كفروا، وهو كقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ. . .) الآية، نهاهم أن يتخذوا أُولَئِكَ موضع سرهم وخفياتهم؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم.

والثالث: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) في المكسب والدنيا؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك لابد من أن يميلوا إليهم، ويصدروا عن رأيهم في شيء؛ فذلك مما يفسقهم، ويجرح شهادتهم، فهذا النهي يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا، واللَّه أعلم. وفي الآية دلالة أن الكفر كله ملة واحدة، وإن اختلفت مذاهبهم ونحلهم؛ فالواجب أن يرث بعضهم بعضًا؛ كقوله - تعالى -: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) كما أن أهل الإسلام يرث بعضهم بعضا، وإن اختلفت مذاهبهم؛ ألا ترى أنه قال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) الآية؟! وليس ذلك بداخل في قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَتَوَارَثْ أَهْلُ مِلتَينِ "؛ لما عليه الآية: أنهم كلهم ملة واحدة، ولكن أحدًا منهم لا يرث المسلم ولا يرثهم المسلم؛ لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يَتَوَارَثْ أَهْلُ مِلَّتَينِ "؛ فالإسلام ملة: ملة حق، والكفر ملة: ملة باطل، ولا نرثهم ولا يرثوننا، وما روي: " لَا نَرِثُ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَا يَرِثُونَنَا إِلا أَنْ يَرِثَ الرجُلُ عَبدَهُ أَوْ أَمَتَهُ، ويحِلُّ لَنَا نِسَاؤُهُم وَلَا يَحِلُّ لَهُم نِسَاؤُنَا " فما يرث عبده أو أمته، ليس بميراث؛ إنما هو ملك كان يملكه قبل موته؛ فعلى ذلك بعد موته، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -:، " لَا يَرِثُ الْمُسلِمُ الكَافِرَ، وَلَا الكَافِر الْمُسْلِمَ ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ). يحتمل قوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) الوجوه التي ذكرنا: الولاية في الدِّين، والولاية في النصر والمعونة؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك صاروا منهم في حكم الدنيا والآخرة، أو الولاية في المكسب والدنيا؛ فيصيرون منهم في حكم الدنيا، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: أليس يرث المسلم المرتد، وقد قال: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ): أخبر أن

(52)

من تولاهم من المسلمين صار منهم، ونحن لا نرث اليهود والنصارى، كيف وُرِثَ من صار منهم من المسلمين؟! قيل: معنى قوله: (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) في الدِّين والكفر، لا في الحكم والحقوق؛ لأن المرتد إلى النصرانية ليس بمتروك على دينه، فلم يكن من أهل تلك الملة؛ وإنما الملة ما يُقَرُّ عليها أهلها؛ ألا ترى أن المرتد لا يرث النصراني إن كانوا أقرباء، فلو كانت النصرانية له ملة ورثه أهلها؛ لأنا نعلم أن النصارى يرث بعضهم بعضًا؛ فلمَّا لم يرثوه دل ذلك على أنه ليس من ملتهم، وأن حكمه في الميراث حكم الملة التي يجبر على الرجوع إليها، وعلى ذلك جاءت الآثار عن الصحابة: روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتى برجل ارتد عن الإسلام، فعرض عليه الإسلام، فأبى؛ فضرب عنقه، وجعل ميراثه لورثته المسلمين. وعن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كذلك. وروي عن زيد بن ثابت مثله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). قد ذكرناه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... (52) وهم المنافقون؛ كقوله - تعالى -: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، إلى قوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)، وهو وصف المنافقين. (يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ): كانوا يظهرون الموافقة للمسلمين؛ خوفًا منهم، وفي السر مع الكفرة؛ لأنهم كانوا أهل ريب وشك، ولا دين لهم، يميلون إلى من رأوا السعة معهم والأمن، وكانوا على شك من أمر مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وريب، (يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ): لعل محمدًا لا ينصر ولا يتم أمره؛ فأسروا في أنفسهم الموافقة للكفر والغش للإسلام وأهله، ويظهرون الموافقة للمؤمنين؛ لما كانوا يسمعون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعد النصر والظفر للمؤمنين، لكن ذلك لا يتحقق عندهم، وكانوا كما قال اللَّه - عز وجل -: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ. . .) الآية، وكانوا ينتظرون النصر والظفر؛ فيميلون إلى حيث كان النصر والظفر؛ فيقولون للمؤمنين إن كان

(53)

الظفر لهم؛ (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ)، وإن كان للكافرين فيقولون: (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ). أي: بالنصر: نصر مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والظفر له على أعدائه، وفتح البلدان والأمصار له، وإظهار دينه: دين الإسلام؛ على ما روي أنه قال: " نُصِرتُ بِالرعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ "، وعلى ما فتح له البلدان كلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ). قيل: عذاب أُولَئِكَ الكفرة وهلاكهم في الدنيا. (فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ). عند العذاب والهلاك، أو يندمون في الآخرة؛ لما أصابهم من العذاب. (مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ): في الدنيا من المودة لهم، والعداوة للمؤمنين، واللَّه أعلم. وفي قوله: (يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لا يحتمل أن يقولوا: (نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) من حيث يسمع أهل الإسلام ذلك منهم؛ دل ذلك لهم أنه إنما عرف ذلك باللَّه؛ وكذلك بما أخبر من الوعد بالنصر له والظفر، ثم كان على ما أخبره ووعد؛ دل أنه خبر عن اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) بعضهم لبعض لما ظهر نفاق أهل النفاق قتلوا وافتضحوا؛ كقوله - تعالى -: (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا)، قال المؤمنون عند ذلك: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ). وقد كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين، ويحلفون باللَّه

(54)

على ذلك، ويضمرون الخلاف لهم والعداوة، والمودة للكفرة؛ كقوله - تعالى -: (يحلِفُونَ باللَّهِ مَا قَالُوا)، (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ)، ونحو ذلك، فذلك معنى قوله: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)، واللَّه أعلم. وقوله: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ). أي: حبطت أعمالهم التي عملوها قبل إسرار ما أسروا في أنفسهم إذ أسروا ذلك، (فَأَصْبَحُوا)، أي: صاروا خاسرين بعد الافتضاح؛ حيث ذهبت منافعهم التي كانت لهم قبل الافتضاح وظهور نفاقهم. ويحتمل قوله - تعالى -: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ): التي عملوا ظاهرًا؛ مراءاة للناس. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ. . .) الآية قوله - تعالى -: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ): إن قوله: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ) - وإن كان حرف توحيد وتفريد - فإن المراد منه الجماعة؛ ألا ترى أنه قال: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ)؟! دل هذا على أن المراد منه الجماعة والعصابة، ولأن الواحد - والاثنين - إذا ارتد عن الإسلام يؤخذ ويحبس ويقتل إن أبي الإسلام، والجماعة إذا ارتدوا عن الإسلام احتيج إلى نصب الحرب والقتال؛ على ما نصب أبو بكر الحرب مع أهل الردة. وفي الآية دلالة إمامة أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن العرب لما ارتدت عن الإسلام، بعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حاربهم؛ فكان هو ومن قام بحربهم ممن أحب اللَّه وأحبه اللَّه. وعن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) قال: هو - واللَّه -

أبو بكر وأصحابه، رضي اللَّه عنهم أجمعين. وقوله - تعالى -: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا): يدل على إمامة أبي بكر - رضي اللَّه عنه - لأنه كان الداعي إلى حرب أهل الردة. فَإِنْ قِيلَ: يجوز أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو الذي دعاهم - قيل له: قال اللَّه - تعالى -: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) فمحال أن يدعوهم فيطيعوا، وقد قال اللَّه - تعالى -: إنهم لن يخرجوا معه أبدًا. فَإِنْ قِيلَ: قد يجوز أن يكون عمر - رضي اللَّه عنه - هو الذي دعاهم - قيل له: فإن كان، فإمامة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثابتة بدليل الآية، وإذا صحت إمامته صحت إمامة أبي بكر - رضي اللَّه عنه - لأنه المختار له والمستخلف. فَإِنْ قِيلَ: قد يجوز أن يكون علي - رضي اللَّه عنه - هو الذي دعاهم إلى محاربة من حارب - قيل له: قال اللَّه - تعالى -: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)، وهذه صفة من يُحَارَبُ من مشركي العرب الذين لا تقبل منهم الجزية، وعلي - رضي اللَّه عنه - إنما حارب أهل البغي وهم مسلمون، ولم يحارب أحد بعد النبي أهل الردة غير أبي بكر - رضي اللَّه عنه - فكانت الآية دليلا على صحة إمامته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (فسوْفَ) كقوله: (عَسَى)، والعسى من اللَّه واجب. أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يأتي بقوم يحبهم؛ لبذلهم أنفسهم في مجاهدة أعداء اللَّه، وتركهم في اللَّه لومة لائم؛ فذلك لحبهم لله؛ لأنه لا أحد يبذل نفسه للهلاك، وترك لومة لائم - إلا لمن يحب اللَّه، وأحبهم اللَّه: لما أثنى عليهم بقوله: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)، وحبهم لله: لما بذلوا أنفسهم في مجاهدة أعدائه، وتركهم لومة لائم. وفيه دلالة إثبات إمامة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أثنى عليهم بخروجهم في سبيل اللَّه ومجاهدة أعدائه؛ فلو كان غاصبًا ذلك على عليٍّ - رضي اللَّه عنه - أو كان غير محق لذلك - لم يكن اللَّه ليثني عليه بذلك؛ لأنه كان آخذًا ما ليس له أخذه

(55)

ومضيعًا حقا لغيره، ومن كان هذا سبيله لم يكن يستوجب كل هذا الثناء من اللَّه تعالى؛ فهذا ينقض على الروافض قولهم وما روي: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَليٌّ مَوْلَاهُ " وغيره من الأخبار، وذلك في الوقت الذي طلب علي - رضي اللَّه عنه - الخلافة وحارب عليها؛ لأنه لا يحتمل أن يعلم أن له الخلافة في زمن أبي بكر - رضي اللَّه عنه - ويرى الحق لنفسه، ثم يترك طلبها؛ لأنه كان مضيعًا حق اللَّه عليه؛ فدل سكوته وترك طلبه على أن الحق ليس له، ولكن كان لأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). أي: للمؤمنين، أي: ذوو رحمة ورأفة للمؤمنين. (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) أي: شاقة شديدة على الكافرين، وهو ما وصفهم، عَزَّ وَجَلَّ: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) الآية، بذلك وصفهم عَزَّ وَجَلَّ. وقوله: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك الجهاد في سبيل اللَّه، أي: في طاعة اللَّه (فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)، وقيل: ذلك الإسلام (فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ). (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) قد ذكرنا هذا في غير موضع. * * * قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية. قال بعض أهل التأويل: قوله - تعالى -: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) هو صلة قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وكذلك قوله - تعالى -: (لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ): هو صلة ما تقدم ذكره: نهى المؤمنين أن يتخذوا الذين أوتوا

الكتاب، والذين لم يؤتوا الكتاب أولياء في غير آي من القرآن، وأخبر أن اللَّه ورسوله هو ولي الذين آمنوا، والمؤمنون -أيضًا- بعضهم أولياء بعض كما في قوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، فإذا كان اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ورسوله والذين آمنوا أولياء لمن آمن - لم ينبغ أن يتخذوا الكفار أولياء. وذكر في بعض القصة أن عبد اللَّه بن سلام قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إن اليهود أظهروا لنا العداوة من أجل إسلامنا، وحلفوا ألا يكلمونا، ولا يخالطونا في شيء، ومنازلنا فيهم، وإنا لا نجد متحدثًا دون هذا المسجد؛ فنزلت الآية - فقالوا: قد رضينا باللَّه وبرسوله والمؤمنين أولياء. ثم اختلف في نزوله: قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في شأن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تصدق بخاتمه وهو في الركوع. ويقولون: خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو بمسكين، فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " هَلْ أَعْطَاكَ أَحَدٌ شَيئًا "، قال: نعم يا رسول اللَّه، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ماذا؟ " قال: خاتم فضة؛ قال: " مَنْ أَعْطَاكَ؟ " قال: ذلك الرجل القائم - يعني: عليا - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " على أي حال أعطاكه؟ قال: أعطانيه وهو راكع؛ فكبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ودعا له وأثنى عليه. فاحتج الروافض بهذه الآية على تفضيل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أبي بكر وإثبات الخلافة له دون غيره. ويقولون: نزلت في شأنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما روي عن أبي جعفر - رضي اللَّه عنه - قال: " تصدق علي بن أبي طالب - رضي اللَّه عنه - بخاتمه وهو راكع؛ فنزل: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) فيقال لهم: هب أن الآية نزلت في شأنه، وليس فيها دلالة إثبات الخلافة له في زمن

أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنا قد ذكرنا في الآية الأولى ما يدل على إثبات الإمامة له في الوقت الذي كان هو إمامًا، ونحن لا نجعل لعلي - كرم اللَّه وجهه - الخلافة له في الوقت الذي لم ير لنفسه فيه الخلافة؛ لأنه روي عنه أنه قال: " إن أبا بكر هو خير الناس بعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " أو كلام نحو هذا. وفي الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَو وَلَّيتُم أَبَا بَكْرٍ لَوَجَدْتُمُوهُ قَوِيًّا فِي دِينِهِ، ضَعِيفًا فِي بَدَنِهِ، وإنْ وَلَّيتُم عُمَرَ لَوَجَدْتُمُوهُ قَويًّا فِي دِينِهِ وَبَدَنِهِ، وإنْ وَلَّيتُم عَليًّا لَوَجَدْتُمُوهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا مُرشِدًا " فنقول: نحن على ما كان من على وسائر الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - من تسليم الأمور إلى أبي بكر، وتفويضهم إليه من غير منازعة ظهرت من على - كرم اللَّه وجهه - في ذلك؛ فلو كان الحق له في ذلك الوقت، لظهرت منه المنازعة على ما ظهرت في الوقت الذي كان له. فقالوا: لأن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يكن له أنصار، وفي الوقت الذي ظهرت المنازعة منه والطلب كان له أنصار. قيل: لا يحتمل أن يكون الحق له فيها ثم لا يطلب؛ لما لم يكن له أنصار؛ ألا ترى أن أبا بكر - رضي اللَّه عنه - مع ضعفه في بدنه، خرج وحده لحرب أهل الردة، حتى لما رأوه خرج وحده حينئذ تبعوه؟! فأبو بكر لم يترك طلب الحق لعدم الأنصار، مع ضعفه في بدنه، فعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع شدته وقوته وفضل علمه بأمر الحرب؛ حتى لم يبارز أحدًا من الأعداء إلا غلبه وأهلكه؛ فكيف توهمتم فيه ترك طلب الحق لفقد الأنصار له والأعوان في ذلك؟! هذا لعمري لا يتوهم في أضعف أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فضلا أن يتوهم في علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فدل ترك طلب ذلك منه على أنه ترك؛ لما رأى الحق له، واللَّه أعلم. واحتجوا بما روي عن رسول، اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لعلي: " أَنْتَ مِني بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَير أَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدِي "، وهارون كان خليفة موسى؛ فَلِمَ أنكرتم -أيضًا- أن

(56)

عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان خليفة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؟! قيل: لهذا جوابان: أحدهما: أن قوله: " أنْتَ مِنْي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى " يحتمل أن يكون في الأخوة التي كان آخاه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وليس في إثبات الأخوة إثبات الخلافة له. والثاني: أنه كانت له الخلافة في الوقت الذي كان هو، وليس في الخبر جعل الخلافة له في الأوقات كلها وهكذا جواب ما روي عنه: " مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَليٌّ مَولَاهُ "، واللَّه أعلم. ثم إن كان الحديث الذي روي عن أبي جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صحيحًا؛ ففي الآية معنيان: أحدهما: فضيلة علي - كرم اللَّه وجهه - وقد كان كثير الفضائل، مُستَكْمِلاً خصال الخير. والآخر: أن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها، وقد روي في بعض الأخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه خلع نعله في الصلاة، وأنه مس لحيه، وأنه أشار بيده، وغير ذلك من العمل اليسير فعله في صلاته؛ فيقاس كل عمل يسير على ما دل عليه الخبر على جواز الصلاة. وفيه وجه آخر: وهو أن الصدقة التطوع تسمى زكاة؛ لأن صدقة علي - رضي الله عنه - بالخاتم لم تكن صدقة مفروضة، بل كانت تطوعا؛ فسماها اللَّه زكاة وإن كانت تطوعا؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ)، فسماها اللَّه زكاة، وإن كانت تطوعًا؛ كما تسمى صلاة الفرض والتطوع: صلاة، وصوم التطوع والفرض: صيامًا؛ فعلى ذلك هذا. وظاهر الآية في جملة المؤمنين، وليس علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أولى بها من غيره، فإن كان فيه نزل، فهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) ظاهر هذا لو صرف إلى أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان أقرب؛ لأنه كان هو الغالب على أهل الردة من أول ما وقع بينهم إلى آخره، وعلي - رضي اللَّه عنه - إنما صار الأمر له في آخره حين حارب الخوارج، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)

(58)

يحتمل النهي عن اتخاذ أُولَئِكَ أولياء وجوهًا: يحتمل: النهي قبل أن يتخذوا؛ لئلا يتخذوا. ويحتمل: النهي بعدما اتخذوا أولياء: لا في الدِّين، ولكن في بعض المكاسب. ويحتمل: أن يكون النهي للمنافقين ألا يكونوا مع أُولَئِكَ على المؤمنين، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. والحزب: هو العون والنصر في اللغة؛ قال الكسائي: تقول العرب: فلان حزبي، أي: ناصري وعوني. وقوله: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ... (58) يخبر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - غاية سفههم بصنيعهم إذا نودي إلى الصلاة؛ لأنه ذكر في القصة: أنهم إذا سمعوا المنادي يقول: " أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه "، قالوا: حرق الكاذب، وقالوا: واللَّه ما نعلم أهل دين من هذه الأديان أقل حظّا في الدنيا والآخرة منهم، يعنون: محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رضي اللَّه عنهم - فدخل خادمهم ليلة من الليالي بنار وهو نائم، فسقطت شرارة؛ فحرقت البيت واحترق هو وأهله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) نفى عنهم العقل؛ لما لم ينتفعوا بما عقلوا؛ وإلا كانوا يعقلون؛ وعلى ذلك يخرج قوله (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، لما لم ينتفعوا بما سمعوا به وعقلوا، وكذلك قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. . .) الآية: إنا نعلم أنهم كانوا يبصرون ويسمعون؛ لكن نفي عنهم لما لم ينتفعوا بالبصر والسمع واللسان؛ كمن ليس له ذلك في الأصل، واللَّه أعلم. ويحتمل وجها آخر: وهو أن شدة بغضهم وحسدهم لنبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تمنعهم عن فهم ما خوطبوا به، وتحول بينهم وبين معرفة ذلك - فكانوا كمن ليس لهم ذلك رأسًا. * * * قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قيل: (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا): هل تطعنون علينا، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه. وقيل: وهل تعيبون علينا.

(60)

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا)، أي: تنكرون منا. وهو يرجع إلى واحد. والنقم: هو العيب والطعن، والانتقام: هو الانتصار، ومعناه: (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ)، أي: كيف تطعنون علينا وتعيبون، وأنتم ممن قد دعوتم إلى الإيمان باللَّه، والإيمان بما أنزل في الكتب، وأنتم ممن قد أوتيتم الكتاب، وفي كتابكم الإيمان باللَّه، والإيمان بالكتب كلها؛ فكيف تنكرون الإيمان بذلك كله، وتعيبون علينا، ولا تعيبون على أنفسكم بفسقكم وخروجكم عن أمر اللَّه تعالى، وعما أمركم كتابكم ودعاكم إليه، ونهاكم عما أنتم فيه؟! (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) وهو القرآن، وهو يصدق ما قبله من الكتب، (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) من الكتب المتقدمة من التوراة والزبور والإنجيل، وهي تصدق القرآن، بعضها يصدق بعضًا، فكيف تنكرون الإيمان به؟! * * * قوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) ذكر هذا - واللَّه أعلم - على أثر قوله: (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ. . .) على أثر قوله: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا. . . .) الآية؛ وذلك أنهم كانوا يستهزئون بالمؤمنين ويضحكون منهم، ويطعنون في دينهم ويعيبون عليهم؛ فقال على أثر ذلك: (قُلْ) يا مُحَمَّد: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ)، أي: مما المؤمنون عليه (مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ) قالوا: من؛ قال اللَّه: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ. . .) الآية؛ فمن كان هذا وصفه فهو شر مما عليه المؤمنون، وقد كان فيهم جميع ذلك مما غضب الله عليهم ولعنهم، أي: حول جوهرهم إلى أقبح جواهر في الطبع وأوخسها - وهي القردة والخنازير - بسوء صنيعهم. أو يكون ذلك على أثر قول ما قالوا: ما ذكر في بعض القصة: " واللَّه ما نعلم من أهل دين أقل حظًّا في الدنيا والآخرة، من هَؤُلَاءِ "، يعنون: المؤمنين؛ لأنهم كانوا يَدَّعُون أن الدنيا والآخرة لهم، وليس لهَؤُلَاءِ لا دنيا ولا آخرة؛ فقال اللَّه - سبحانه وتعالى -: (قُلْ) يا مُحَمَّد: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ)، أي: ثوابًا عند اللَّه، فقالوا: من هم؟ قال: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) والملعون هو المطرود عن الخيرات، وجعل من حول جوهره إلى جوهر القرد

(61)

والخنزير، وهو أقبح جوهر في الطبع والعقل وأوسخه، ومن (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) يعني: الشيطان (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا) في الدنيا؛ لما حول جوهرهم إلى أقبح جوهر في الأرض - من الذين لم يحول جوهرهم إلى ذلك؛ إذ لم يروا أحدًا من المؤمنين حُوِّل جوهره إلى جوهر مَنْ ذُكِرَ، وقد رأوا كثيرًا من أوائلهم قد حولوا من جوهرهم إلى هذه الجواهر المسئقبحة في الطبع المؤذية. أو يكون على الإضمار على أثر أمر كان ونحن لم نعلم به؛ فنزل عند ذلك. وعن الحسن قال: قوله - تعالى -: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ): الذين لعنهم اللَّه، والذين غضب عليهم، والذين عبدوا الطاغوت، والذين جعل منهم القردة والخنازير: منهم من جعله قردة، ومنهم من أبقى على جوهره الذي كان، (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا) في الدنيا والآخرة. (وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) أي: أخطأ طريقًا ودينًا، واللَّه أعلم بالقصة. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) قيل: إن الآية في اليهود. وقيل: إنها في المنافقين. وهي في المنافقين أشبه؛ ذكر أنهم كانوا يدخلون على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويظهرون الموافقة له، ويخبرونه أنهم يجدون نعته وصفته في كتبهم، ويضمرون الخلاف له في السر وهزءوا به؛ فقال عند ذلك: (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ): أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنهم دخلوا بالكفر؛ لأنهم يقولون ذلك استهزاء، وعلى ذلك خرجوا؛ ففيه دلالة إثبات رسالة سيدنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبرعما أضمروا؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك بالذي يعلم الغيب، مع علمهم أنه لا يعلمه إلا اللَّه، واللَّه أعلم بما كانوا يكتمون ويضمرون من الكفر والهزء.

(62)

قوله تعالى: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) يحتمل أن يكون قوله: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ): من ملوكهم وعوامهم. (يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، أي: في قول الكفر والعدوان، والعدوان: هو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم، ويسارعون -أيضًا- في أكل السحت. والسحت، قيل: هو كل محرم، وقيل: هو الرشوة في الحكم. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الرشوة: هي الكفر، وأما السحت: هو أن يرفع حاجة أخيه إلى السلطان فيأكل عنده، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. ثم قال على أثر ذلك: قوله تعالى: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) عاتب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - الربانيين والأحبار عن تركهم نهي أُولَئِكَ عن صنيعهم، وأشركهم في الإثم شرغا سواء؛ ليعلموا أن العامل بالإثم والمعصية والراضي به والتارك النهي عن ذلك - سواء، وفيه دلالة أن تارك النهي عن المنكر يلحقه من الإثم ما يلحق الفاعل به. والربانيون والأحبار قد ذكرنا فيما تقدم. * * * قوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. . .) الآية. قال الحسن: قول اليهود: " يد اللَّه مغلولة "، أي: محبوسة ممنوعة عن

تعذيبنا؛ لقولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ). في الآخرة بالسلاسل إلى أعناقهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) بالمغفرة والتعذيب؛ يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء. قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه -: " قولهم: " يد اللَّه مغلولة ": لا يعنون بذلك أن يده موئقة مغلولة حقيقة اليد والغل؛ ولكن وصفوه بالبخل، وقالوا: أمسك ما عنده؛ بخلا منه، تعالى اللَّه عن ذلك. وقال آخرون: إن اللَّه - تبارك وتعالى - قد كان بسط على اليهود الرزق؛ فكانت من أخصب الناس وأكثرهم خيرًا، فلما عصوا اللَّه في مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكفروا به، وبدلوا نعمة اللَّه كفرًا بالنعمة - كف اللَّه - تعالى - عنهم بعض الذي كان بسط عليهم من السعة في الرزق؛ فعند ذلك قالوا: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)، لم يقولوا: يده مغلولة إلى عنقه، ولكن ممسكة عنهم الرزق، فلا يبسط كما كان يبسط؛ وهو كقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ): نهى عن البخل في الإنفاق، لا أنه أراد حقيقة غل اليد إلى عنقه؛ فعلى ذلك قولهم: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ): كناية عن البخل ووصف به، لا حقيقة الغل، وباللَّه العصمة. وتأويل قوله: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) على هذا التأويل، أي: أيديهم هي الممسكة عن الإنفاق، وهم الموصوفون بالبخل والشح. (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، أي: نعمه مبسوطة: يوسع على من يشاء، ويقتر على من يشاء. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بل يداه يبسطان. قال الفراء: يقال: وجه مبسوط، ووجه بسط. ثم لا يحتمل أن يفهم من إضافة اليد إلى اللَّه ما يفهم من الخلق؛ لما وجد إضافة اليد إلى من لا يحتمل أن يكون له اليد، من ذلك قوله - تعالى -: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ): لا يفهم من القرآن اليد كما يفهم من الخلق؛ فعلى

ذلك لا يجوز أن يفهم من إضافة اليد إلى اللَّه - تعالى - كما يفهم من الخلق؛ ألا ترى أنه قال: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ)، (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، لم يفهم منه اليد نفسها؛ وكذلك قوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)، لكن أضيف ذلك إلى اليد؛ لما باليد يقدم ويعطي ويكسب؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، ومعلوم أنه لم يفهم من اليد: اليد نفسها، ولكن أضيف ذلك إليها؛ لما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) قيل: عذبوا بما قالوا: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)، واللعن - في اللغة -: هو الطرد؛ كأنه قال: طردوا عن رحمة اللَّه وأيسوا عنها حتى لا ينالوها أبدًا بقولهم الذي قالوا. وقيل: فيه إخبار: أنهم يموتون على ذلك، ولا يؤمنون، فماتوا على ذلك؛ فذلك دليل رسالته، عليه الصلاة والسلام، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). قيل فيه بوجهين: قيل: يريد ما أنزل اللَّه إليك من القرآن، (كَثِيرًا مِنْهُمْ)، يعني: اليهود (طُغْيَانًا وَكُفْرًا). وقيل: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ): من البيان عما كتموا من نعته وصفته التي كانت في كتابهم، وما حرفوا فيه وغيروه من الأحكام؛ فذلك مما زادهم طغيانًا وكفرًا. قيل: (طُغْيَانًا)، أي: تماديا بالمعصية، (وَكُفْرًا): بالقرآن. وقيل: الطغيان: هو العدوان، وهو المجاوزة عن الحد الذي حد. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى إضافة زيادة الطغيان إلى القرآن، والقرآن لا يزيد طغيانًا ولا كفرًا؟: قيل: إضافة الأفعال إلى الأشياء تكون لوجوه ثلاثة: منها: ما يضاف لحقيقة الفعل بها.

ومنها: ما يضاف للأحوال. ومنها: ما يضاف لمكان ما به يكون الفعل، وهاهنا أضيف ذلك إلى القرآن؛ لما كان فيهم من الطغيان والكفر لمكان ما أنزل إليهم بالكفر الذي كان فيهم؛ وهو كقوله - تعالى -: (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ): إنهن لا يضللن أحدًا في الحقيقة؛ ولكن لما صاروا بهن ضلالا أضيف إليهن، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، والحياة الدنيا لا تغر أحدًا؛ ولكن لما لو كانت لها حواس لكان ما أبدت من الزينة لغرت. وقوله: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ): بين اليهود والنصارى، أي: لا يحب اليهودي نصرانيا، ولا النصرانى يهوديا. وقال آخرون: (بَيْنَهُمُ)، أي: بين اليهود؛ لأن اليهود على مذاهب مختلفة وأهواء مشتتة: منهم من يقول: عزير ابن اللَّه، ومنهم من يذهب مذهب التشبيه. هم على أهواء مختلفة؛ فبينهم عداوة وبغضاء، على ما ذكرنا الاختلاف الواقع بينهم. ثم معنى ما أضاف من إلقاء العداوة بينهم إلى نفسه لا يخلو: إما أن يكون له في نفس العداوة فعل، أو أن يكون في سبب العداوة، ولا يجوز أن يكون له في فعل العداوة صنع؛ لأنه فعلهم، ولا في سبب العداوة -أيضًا- لأن سببه الاختلاف، والاختلاف فعلهم -أيضًا- فإذا بطل أن يكون له في واحد من هذين صنع؛ دل أن له ذلك من الوجه الآخر، وهو أن خلق فعل العداوة وسبب العداوة منهم، وباللَّه التوفيق والعصمة. فَإِنْ قِيلَ: ذكر هاهنا أنه تعالى ألقى بينهم العداوة والبغضاء، وذكر في آية أخرى أن بعضهم أولياء بعض بقوله - تعالى -: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) كيف يجمع بينهما؟!: قيل: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) في أصل الدِّين وهو الكفر، وبينهم عداوة؛ لاختلاف الأهواء والمذاهب، واللَّه أعلم. وفي الآية دلالة الامتنان على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما أخبر أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء،

(65)

ولو كانوا على مذهب واحد، ولم يكن بينهم اختلاف وعداوة - لكان ذلك عليه أشد، وفي المقام بينهم أصعب، لكن مَنَّ عليه بالاختلاف فيما بينهم؛ لما جعل الاختلاف والتنازع سبب الفشل؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ). يحتمل وجهين: يحتمل: كلما أرادوا مكر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأجمعوا أمرهم على قتله، أطلع اللَّه نبيه - عليه الصلاة والسلام - على ذلك؛ حتى لم يقدروا على مكره. والثاني: كلما انتصبوا للحرب مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واجتمعوا عليه، فرق اللَّه شملهم، وجعلهم بحيث لا يجتمعون على ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) يحتمل وجهين -أيضًا-: يحتمل: السعي بالفساد على حقيقة المشي على الأقدام، وهو ما كانوا يسعون في نصب الحرب مع المؤمنين، والاتصال بغيرهم من الكفرة، والاستعانة بهم؛ فذلك هو السعي في الأرض بالفساد. والثاني: ما كتموا من نعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته وحرفوا ما في كتبهم من أعلام نبوته وآيات رسالته، ودعوا الناس إلى غير ما نزل فيه؛ وذلك سعي في الأرض بالفساد، وبالله التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) لأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) عامل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - خلقه معاملة أكرم الأكرمين؛ حيث وعد لهم المغفرة، وتكفير ما ارتكبوا في حال الكفر، وقولهم في اللَّه من القبيح الوَخْش؛ لو آمنوا واتقوا الذي قالوا في اللَّه؛ وهو كما قال اللَّه: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ): وذلك - واللَّه أعلم - أنه لما تاب ورجع عن صنيعه يرجع عن جميع ما كان منه، ويندم على ذلك،

(66)

ويتمنى أن يكون ما كان منه في تلك الحال من الشر: خيرًا؛ فهو كقوله - تعالى -: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)؛ لأنهم يندمون على تلك السيئات التي كانت منهم، ويتمنون أن يكون الذي كان منهم في تلك الحال خيرًا لا شرًّا، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يحتمل هذا وجهين: يحتمل: ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل، وبما أنزل إليهم من القرآن - لأكلوا من كذا مما ذكر. ويحتمل: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ): على ما أنزل، ورجعوا عما حرفوا فيها وغيروه وكتموه من نعت نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته، وما فيها من الأحكام - لكان لهم ما ذكر، واللَّه أعلم. وذلك أنهم كانوا يخافون الضيق إذا أسلموا وهو - واللَّه أعلم - قوله: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم لو آمنوا واتقوا الشرك، لوسع عليهم العيش. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ). ليس على حقيقة الأكل؛ ولكن يخرج على المبالغة في الوصف والذكر؛ كما يقال: فلان من قرن رأسه إلى قدمه في نعمة: ليس على حقيقة ما وصف؛ ولكن على المبالغة في الوصف بالسعة. ويحتمل: أن يكون على حقيقة الأكل: أما ما يخرج من تحت الأرجل: فهو ما يخرج من الأرض من المأكول والمشروب، ومن فوقهم: من الثمار والفواكه يخرج من الأشجار. ويحتمل: ما ذكر (مِنْ فَوْقِهِمْ): وهو الجبال، و (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ): الأرض، إخبار أن يكون لهم نزل الجبل والسهل جميعًا. وقيل: (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ)، أي: أرسل اللَّه عليهم مدرارًا، (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ): تخرج الأرض بركتها، وتنبت لهم الثمرة.

(67)

وقال قتادة: لأعطتهم الأرض نباتها، والسماء بركتها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ). قيل فيه بوجهين: قيل: (أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) من أسلم منهم. وقيل: منهم أمة مقتصدة على كتاب اللَّه لم يحرفوه، ولا غيروه، ولا كتموا شيئًا، ولا سعوا في الأرض بالفساد على ما عمل أكثرهم من التحريف والتغيير، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) هذا - واللَّه أعلم - وذلك أن أهل الكفر كانوا على طبقات ثلاث: منهم من يقول: (لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)، وقولهم: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ). ومنهم من كان يخوفه ويمكر به، ليقتلوه؛ كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ. . .) الآية. ومنهم من كان يعرض عليه النساء والأموال؛ ليترك ذلك، وألا يدعوهم إلى دينه الذي

هو عليه. كانوا على الوجوه التي ذكرنا؛ فأمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يقوم على تبليغ رسالته، وألا يمنعه ما يخشى من مكرهم وكيدهم على قتله؛ لأن المرء قد بمتنع عن القيام بما عليه إذا خشي هلاكه أو لطلب مودة وصلة. أو يمتنع عن القيام بما عليه إذا كُذبَ في القول، ولحقه أذى لذلك؛ فأمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه بتبليغ ما أنزل إليه، وإن خشي على نفسه الهلاك أو التكذيب في القول، والأذى وترك طلب الموالاة، أي: لا يمنعك شيء من ذلك عن تبليغ ما أنزل إليك. أو أن يكون الأمر بتبليغ الرسالة في حادث الوقت: أن بلغ ما أنزل إليك في حادث الوقت؛ كما بلغت في الماضي من الوقت. أو أن يكون الأمر بتبليغ ما أنزل إليه أمرًا بتبليغ البيان، أي: بلغ ما أنزل إليك من البيان كما بلغت تنزيلا؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه إنما أرسل الرسل على لسان قومهم؛ ليبينوا لهم؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ). أي: وإن لم تبلغ ما أنزل إليك؛ لما تخشى من الهلاك والمكر بك - كان كأن لم تبلغ الرسالة رأسًا. لم يعذر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ترك تبليغ الرسالة إليهم، وإن خاف على نفسه الهلاك، ليس كمن أكره على الكفر أبيح له أن يتكلم بكلام الكفر، بعد أن يكون قلبه مطمئنا بالإيمان إذا خاف الهلاك على نفسه. ولم يبح له ترك تبليغ الرسالة وإن خشي على نفسه الهلاك؛ ذلك - واللَّه أعلم - أن تبليغ الرسالة تعلق باللسان دون القلب، والإيمان تعلقه بالقلب دون اللسان؛ فإذا أكره على الكفر أبيح له التكلم به بعد أن يكون القلب على حاله مطمئنا بالإيمان. وأما الرسالة: فلا سبيل له أن يبلغها إلا باللسان؛ لذلك لم يبح له تركها وإن خاف الهلاك؛ وهذا يدل لقولنا في المكره بالطلاق والعتاق أنه إذا تكلم به عمل؛ لتعلقهما باللسان دون القلب؛ فالإكراه لا يمنع نفاذ ما تعلق باللسان دون القلب كالرسالة التي ذكرنا، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله - تعالى -: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ)، أي: لم تبلغ الرسالة في حادث الوقت كأن

(68)

لم تبلغ فيما مضى. أو إن لم تبلغ البيان كما بلغت التنزيل فما بلغت الرسالة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فيه دليل إثبات رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنه عصمه من الناس؛ فكان ما قال؛ فدل أنه علم ذلك باللَّه، وكذلك في قوله - تعالى -: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ): كان يقول بين ظهراني الكفرة: كيدوني جميعًا، ثم لم يلحقه من كيدهم شيء؛ دل أنه كان ذلك باللَّه تعالى. وعن عائشة - رضي اللَّه عنها -: " كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليحرس، فلما نزل قوله - تعالى -: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) قال: " انْصَرِفُوا إِلَى مَنَازِلِكُم؛ فَإِنَّ اللهَ عَصَمَنِي مِنَ الناسِ "؛ فانصرفوا. ويحتمل قوله - تعالى -: (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، أي: بلغ ما أنزل إليك من الآيات والحجج والبراهين، التي جعلها اللَّه أعلاما لرسالتك، وآثارا لنبوتك؛ ليلزمهم الحجة بذلك، واللَّه أعلم. قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) لا يُبتَدَأ الكلام بمثل هذا إلا عن قول أو دعوى تسبق، وليس في الآية بيان ما كان منهم؛ فيشبه أن يكون الذي كان منهم ما ادَّعَوا أنهم على دين اللَّه وعلى ولايته، أو ما قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، أو ما قالوا: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، أو نحو ذلك من أمانيهم ودعاويهم التي ادعوا لأنفسهم؛ فقال لرسوله: قل لهم: (لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ). قال الحسن: قوله - تعالى -: (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ)، أي: حتى تقيموا ما قد حرفتم وغيرتم من التوراة والإنجيل وبدلتم، وتثبتوا على ما أنزل وتؤمنوا به.

(69)

وقال غيره: قوله - تعالى -: (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) بالشهادة والتصديق لما فيهما. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ. . .): حتى تعملوا بما في التوراة والإنجيل من صفة مُحَمَّد ونعته ومبعثه ونبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتبينوه للناس ولا تكتموه. وهو وما ذكرنا واحد. (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ). من كتب أنبيائكم، وحتى تقيموا -أيضًا- ما أنزل من الكتب: كتب الرسل أجمع؛ لأن الإيمان ببعض الرسل وببعض الكتب، والكفر ببعض - لا ينفع؛ حتى يؤمن بالرسل كلهم وبالكتب جملة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا): قد ذكرنا هذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ): القرآن في أمر الرجم والقصاص (طُغْيَانًا وَكُفْرًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) هو ما أمر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يبلغ ما أنزل عليه بقوله: (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ): أي: لا تحزن على كفرهم؛ كقوله - تعالى -: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، ونحو قوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) قال ابن عَبَّاسٍ: هم الذين آمنوا بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الذين آمنوا ببعض الرسل لم يتسموا باليهودية ولا بالنصرانية. (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى) قد ذكرنا فيما تقدم مَنْ هُم؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). تأويل الآية - واللَّه أعلم -: وإن اختلفت أديانهم، وتفرقت مذاهبهم لو آمنوا باللَّه

(70)

وما ذكر، فلا خوف عليهم بما كان منهم في حال كفرهم؛ كقوله - تعالى -: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ): على فوت ما أعطاهم، أي: لا يفوتهم ذلك، واللَّه أعلم. قوله تعالى: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قد أخذ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - الميثاق على جميع البشر، وخصهم به دون غيرهم من الخلائق؛ لما رَكَّبَ فيهم ما يَعْرِفُ كُل به شهادة الخلقة على وحدانية ربه؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ). ثم خص بني إسرائيل من البشر بفضل الميثاق؛ لما أرسل إليهم الرسل منهم، وهو قوله: (وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا)، وكأنهم قد قبلوا تلك المواثيق؛ كقوله - تعالى -: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ. . .) إلى آخره؛ وكقوله - تعالى -: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)، كان من اللَّه لهم عهد ومنهم للَّهِ عهد، فأخبر أنهم إذا أوفوا بعهده يوفِ بعهدهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) في الآية دلالة أنهم كانوا يخالفون دين الرسل بأجمعهم؛ لما أحدثوا من اتباع أهوائهم، وأن الرسل - وإن اختلفت أوقات مجيئهم - فإنهم إنما يدعون بأجمعهم إلى دين واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ): منهم من كذب، ومنهم من قتل، لكن القتل إن كان فهو في الأنبياء غير الرسل؛ لأنه - تعالى - قال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا) أخبر أنه ينصر رسله، وليس في القتل نصر. ويحتمل قوله: (وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ)، أي: فريقًا قصدوا قصد قتلهم، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. قوله تعالى: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا

(71)

وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ): ولم يبين ما الفتنة التي حسبوا ألا تكون، فأهل التأويل اختلفوا فيها: قال قائلون: الفتنة: المحنة التي فيها الشدة، حسبوا ألا يأتيهم الرسل بامتحانهم على خلاف هواهم، بل جاءتهم الرسل؛ ليمتحنوا على خلاف ما أحدثوا من هوى أنفسهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ): أي: هلاك وعذاب بتكذيبهم الرسل، وقصدهم قصد قتلهم. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ألا يكون شرك ". وقيل: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ): أي: حسبوا ألا يبتلوا بتكذيبهم الرسل، وبقتلهم الأنبياء بالبلاء والقحط، فعموا عن الهدى، فلم يبصروه، وصموا عن الهدى فلم يسمعوه؛ لما لم ينتفعوا به، ثم تاب اللَّه عليهم فرفع عنهم البلاء، فلم يتوبوا بعد رفع البلاء. ويحتمل أن يكون قوله: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا): ما ذكره في آية أخرى: وهو قوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) إلى قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ. . .) الآية؛ تابوا مرة ثم رجعوا ثم تابوا؛ فذلك قوله: (فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا. . . .) الآية. * * * قوله تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ

(72)

ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. . . (72) الآية: يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا): أي: كفروا بعيسى؛ لأن عيسى كذبهم في قولهم: " إنه ابن اللَّه " بقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ. . .) الآية، وبقوله: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ)، وبقوله: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ. . .) الآية، أخبر أنه عبد اللَّه، ليس هو إلهًا ولا ابنه، تعالى الله عن ذلك. والثاني: كفروا بعلمهم؛ لأنهم علموا أنه ابن مريم، وسموه ابن مريم، ثم قالوا: هو اللَّه أو ابن اللَّه، فإن كان ابن مريم أنى يكون له ألوهية؟! فإذا كانت أمه لم تستحق الألوهية وهي أقدم منه، كيف يكون لمن بعدها؟! ولكن لسفههم قالوا ذلك، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ): إذا حرم عليه الجنة صار مأواه النار. وقيل: سمي: مسيحًا؛ قال الحسن: سمي ذلك؛ لأنه ممسوح بالبركات، وسمي الدجال: مسيحًا؛ لأنه ممسوح باللعنة. وقيل: المسيح بمعنى الماسح، وذلك جائز؛ الفعيل بمعنى الفاعل، وهو ما كان يمسح المريض والأكمه والأبرص فيبرأ، ويمسح الموتى فيحيون، ومثل ذلك؛ فسمي بذلك، واللَّه أعلم. والفعيل بمعنى المفعول جائز -أيضًا- يقال: جريح ومجروح، وقتيل ومقتول؛ هذا كله جائز في اللغة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ... (73)

قوله تعالى: (كَفَرَ) بعلمهم، علموا بوحدانيته، فكيف يكون ثالث ثلاثة وهو واحد؟! فإذا قالوا: هو اللَّه فلا يكون هناك ثان ولا ثالث، وذلك تناقض في العقل.

(74)

والثاني: أنهم لم يروا غير اللَّه خلق السماوات والأرض، ولا رأوا أحدًا خلقهم سوى اللَّه، كيف سموا دونه إلهًا ولم يخلق ما ذكرنا؟! إنما خلق ذلك اللَّه الذي لا إله غيره، وذلك قوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) أي: يعلمون أنه لا إله إلا اللَّه، إله واحد، لكنهم يتعنتون ويكابرون في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ): عما تقدم ذكره (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ... (74) عن مقالتهم الشرك، فإن فعلوا فإن اللَّه غفور رحيم؛ كقوله - تعالى -: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، وباللَّه العصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ ... (75) في الآية دلالة المحاجة مع الفريقين؛ كأنهم كانوا فريقين: أحد الفريقين كانوا ينكرون أنه رسول، والفريق الآخر يدعون له الربوبية والألوهية، فقال: إنه ابن مريم،

وابن مريم لا يحتمل أن يكون إلهًا. والثاني: أخبر أنه رسول قد خلت من قبله الرسل، أي: قد خلت من قبل عيسى رسل مع آيات وبراهين لم يقل أحد من الأمم السالفة: إنهم كانوا آلهة، فكيف قلتم أنتم بأن عيسى إله، وإن كان معه آيات وبراهين لرسالته؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ). قيل: مطهرة عن الأقذار كلها، صالحة. وقيل: (صِدِّيقَةٌ): تشبه النبيين، وذلك أن جبريل - عليه السلام - لما أتاها وقال: (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) صدقته كتصديق الأنبياء والرسل الملائكة، وأما سائر الخلائق: إنما يصدقون الملائكة بإخبار الرسل إياهم، وهي إنما صدقت جبريل بإخباره أنه ملك، وأنه رسول؛ لذلك سميت صديقة، واللَّه أعلم. وقيل: كل مؤمن صديق؛ كقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ): فيه الاحتجاج عليهم من وجهين: أحدهما: أن الجوع قد كان يغلبهما ويحوجهما إلى أن يدفعا ذلك عن أنفسهما، ومن غلبه الجوع وقهره كيف يصلح أن يكون ربًّا إلها؟!. والثاني: أنهما إذا احتاجا إلى الطعام لا بد من أن يدفعهما ذلك إلى إزالة الأذى عن أنفسهما ودفعه، والقيام في أخبث الأماكن وأقبحها، فمن دفع إلى ذلك لا يكون إلها، تعالى اللَّه عن ذلك علوَّا كبيرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ): والآيات ما ذكر من وجوه المحاجة عليهم: أحدها: أنه ابن مريم، ومن كان ابن آخر لا يكون إلها.

(76)

والثاني: أنه رسول، وقد كان قبله رسل مع آيات وبراهين، لم يدع أحد لهم الألوهية والربوبية. والثالث: أنه كان يأكل الطعام، ومن كان تحت غلبة آخر وقهره، لا يكون إلها. والرابع: من أكل الطعام احتاج أن يدفع عن نفسه الأذى، ويقوم في أخبث مكان، ومن كان هذا أمره لم يكن ربًّا. وليس في القرآن - واللَّه أعلم - آية أكثر ولا أبين احتجاجًا على النصارى وأُولَئِكَ، ولا أقطع لقولهم من هذه الآية؛ للمعاني التي وصفنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ): أي: من أين يكذبون. قال أبو عبيد: (يُؤْفَكُونَ): يصرفون، ويخادعون عن الحق، كل من صرفته عن شيء فقد أفكته. ويقال: أفكت الأرض، إذا صرف عنها القطر. وقوله: (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) قال ابن عَبَّاسٍ - رضي النْه عنه -: (وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) قال: أضلهم، فإذا أضلهم، فقد صرفهم عن الهدى. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإفك عندي: الصرف عن الحق، وفي الأصل: الإفك: الكذب. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (يُؤْفَكُونَ): يصرفون عن الحق ويعدلون. وقيل: (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) يخدعون بالكذب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ... (76) إن خالفتموه (وَلَا نَفْعًا) إن أطعتموه. ويحتمل: قوله: (مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا) إن كان اللَّه أراد بكم نفعًا، ولا نفعًا إن حل بكم الضر، أي: لا يملكون دفعه عنكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ): لنسبتكم عيسى إليه تعالى، (الْعَلِيمُ)

(77)

بعبادتكم غير اللَّه. ويحتمل: (السَّمِيعُ) المجيب لدعائكم، (الْعَلِيمُ) بنياتكم، واللَّه أعلم. * * * وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ... (77) خاطب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالنهي عن الغلو في الدِّين أهل الكتاب، لم يخاطب أهل الشرك بذلك فيما خاطب بقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)؛ وذلك أن أهل الكتاب ادعوا أنهم على دين الأنبياء والرسل الذين كانوا من قبل، فنهاهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن الغلو في الدِّين. والغلو: هو المجاوزة عن الحد الذي حد، والإفراط فيه والتعمق؛ فكأنه - واللَّه أعلم - قال: لا تجاوزوا في الدِّين الحد الذي حد فيه بنسبة الألوهية والربوبية إلى غير اللَّه والعبادة له. وأما أهل الشرك: فإنهم يعبدون ما يستحسنون، ويتركون ما يستقبحون، ليس لهم دين يدينون به. وأما هَؤُلَاءِ: فإنهم يَدَّعُون أنهم على دين الأنبياء والرسل؛ لذلك خرج الخطاب لهم بذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ): يعني: الرؤساء بذلك، واللِّه أعلم. (وَأَضَلُّوا كَثِيرًا): أي: أتباعهم. (وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ): أي: عن قصد طريق الهدى. * * * قوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)

(78)

وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... (78) قَالَ بَعْضُهُمْ: لعنوا بكل لسان؛ لعنوا على عهد موسى - عليه السلام - في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، وعلى عهد رسولنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في القرآن؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقيل: مسخوا بدعائهم بما اعتدوا، فصاروا قردة وخنازير. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا ". وقال الحسن: " انقطع ذلك النسل ". وأصل اللعن: هو الطرد؛ كأنهم طردوا عن رحمة اللَّه. ويحتمل تخصيص اللعن على لسان داود؛ لأن داود - عليه السلام - كان به غلظة وخشونة، وهو الذي كان اتخذ الأسلحة وآلات الحرب، وعيسى كان به لين ورفق؛ ليعلم أن اللعن الذي كان منهما كان لتعديهم الحدود - حدود اللَّه - وعصيانهم ربهم، وكانوا مستوجبين لذلك محقين؛ ولذلك استجيب دعاؤهم عليهم باللعن أعني: دعاء الرسل، عليهم السلام.

(79)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ... (79) ذكر في بعض القصة عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ في المَعَاصِي نَهَاهُم عُلَمَاؤُهُم فَلَم يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُم في مَجَالِسِهِم وَآكَلُوهُم وَشَارَبُوهُم، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِم بِبَعْضٍ، وَلَعَنهُم عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَريَمَ؛ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " قال: فجلس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكان متكئًا فقال: " لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُم عَلَى الحق أطْرًا " قال أبو عبيد: يعني تعطفوهم عطفا، وقال غيره: حتى تكسروهم كسرا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (80) قيل: قوله: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ) يعني: المنافقين، (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني: اليهود يتولون الذين كفروا ويعاندون رسول اللَّه وأصحابه. وقيل: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ): يعني: من اليهود: (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مشركي العرب وغيرهم، كانوا يظاهرون على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين، ويعاونون عليهم، وقد كان من الفريقين جميعًا ذلك. ويحتمل وجهًا آخر: قوله: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ) من هَؤُلَاءِ الذين شهد لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يتولون الذين كفروا، يعني: أسلافهم ورؤساءهم؛ كقوله: (لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا. . .) الآية، تولى هَؤُلَاءِ أُولَئِكَ واتبعوا أهواءهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ): أي: ما

(81)

قدمت أنفسهم سخط اللَّه عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ ... (81) يعني: المنافقين، في أحد التأويلين. وفي تأويل آخر: اليهود، أي: لو صدق هَؤُلَاءِ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وآمنوا به وصدقوا ما أنزل إليه من القرآن - ما اتخذوا أُولَئِكَ أولياء. ثم يحتمل قوله - تعالى -: (مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) في الدِّين أو في النصر والمعونة والنصرة، (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ... (82) تحتمل الآية وجوهًا: تحتمل: أن يكون ما ذكر من شدة عداوة اليهود للذين آمنوا قومًا مخصوصين منهم. وتحتمل: اليهود الذين كانوا بقرب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه هم أشد عداوة لهم. وتحتمل: اليهود جملة، فهو - واللَّه أعلم - على ما كان منهم من قتل الأنبياء وتكذيبهم إياهم، ونصب القتال والحرب مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين، وما كان منهم من قول الوخش في اللَّه - سبحانه - ما لم يسبقهم أحد بمثل ذلك ما وصفوا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالبخل والفقر، وهو قوله - تعالى -: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)، وقالوا: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، وغير ذلك من القول؛ وذلك لشدة بغضهم وعداوتهم وقساوة قلوبهم؛ فعلى ذلك كل من دعاهم إلى دين اللَّه تعالى، فهم له أشد عداوة، وأقسى قلبًا. وأمَّا النصارى: فلم يكن منهم واحد مما كان من اليهود: من قتل الأنبياء، ونصب الحروب والقتال معهم، ولم يروا في مذهبهم القتال ولا الحرب، ولا كان منهم من القول الوخش ما كان من اليهود، بل كان فيهم اللين والرفق؛ حتى حملهم ذلك على القول في عيسى ما قالوا، وذلك منهم له تعظيم فوق القدر الذي جعل اللَّه له، حتى رفعوه من قدر العبودية إلى قدر الربوبية؛ لذلك كفروا، وإلا كانوا يؤمنون بالكتب والأنبياء - عليهم السلام - من قبل؛ ألا ترى أنه قال: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) أخبر - عز وجل - أن منهم قسيسين ورهبانًا، والرهبان: هم العباد. وقيل: القسيسون: هم الصديقون، ولم يكن من اليهود رهبان ولا قسيسين؛

(83)

لذلك كان النصارى أقرب مودة وألين قلبًا من اليهود، واللَّه أعلم. فإن كان ذلك في قوم مخصوصين مشار إليهم، وهو ما ذكر في القصة أن بني قريظة وبني النضير كانوا يعاونون ويظاهرون مشركي العرب على قتال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويأمرونهم بذلك، ظاهروا وأعانوا لمن لم يؤمن بنبي ولا كتاب قط على من قد آمن بالأنبياء والكتب جميعًا؛ وذلك لسفههم وشدة تعنتهم؛ حتى قاتلهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأجلاهم من بلادهم إلى أرض الشام. وإن كان ذلك عن قوم بقرب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين، وهو ما كان من يهود المدينة؛ حيث بايعوا أهل مكة على قتال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكانوا عيونًا لهم عليهم وطلائع، ولم يذكر في قصة من القصص أنه كان من النصارى شيء من ذلك، كان أقرب مودة للمؤمنين، واللَّه أعلم. وما قال بعضه أهل التأويل بأن من أسلم منهم كان أقرب مودة للمؤمنين من اليهود فحاصل هذا الكلام أن المؤمن أقرب مودة للمؤمنين من الكافر، وذلك كلام لا يفيد معنى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ... (83) سرورا على أنفسهم مما ظفروا مما كانوا يسمعون من نعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته ويطمعون خروجه، وقد يعمل السرور هذا العمل إذا اشتد به وفرح القلب فاضت عيناه سرورًا. ويحتمل قوله - تعالى -: (تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)؛ حزنًا على قومهم؛ حيث لم يؤمنوا بعد أن بلغهم ما بلغ هَؤُلَاءِ من أعلام النبوة وآثار الرسالة؛ إشفاقًا عليهم أن كيف لم يؤمنوا؛ كقوله - تعالى -: (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ): قد فاضت أعينهم حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون، واللَّه أعلم. وقوله: (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا) بما أنزلت واتبعنا الرسول (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الآية:

(84)

قيل: مع الأنبياء والرسل. وقيل: مع أصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو واحد. ثم ذكر في القصة: أنها نزلت في النجاشي وأصحابه. وقيل: نزلت في أربعين رجلا من مسلمي أهل الإنجيل: بعضهم قدموا من أرض الحبشة، وبعضهم قدموا من أرض الشام، فسمعوا القرآن من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: ما أشبه هذا بالذي نُحَدَّثُ من حديث عيسى!! فبكوا وصدقوا؛ فنزلت الآية فيهم، فلا ندري كيف كانت القصة؛ وفيمن نزلت؛ إذ ليس في الآية بيانه، وليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى ما فيه من شدة رغبتهم في القرآن، وسرورهم على ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ ... (84) (الحق) يحتمل: الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويحتمل: القرآن، ويحتمل: كليهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ). قال الحسن: قوله - تعالى -: (وَنَطْمَعُ): أي: نعلم أن يدخلنا ربنا الجنة إذا آمنا باللَّه وما جاءنا من الحق. قيل: نطمع: هو الطمع والرجاء، أي: نطمع ونرجو أن يدخلنا ربنا في دين قوم صالحين. و (الصَّالِحِينَ): يحتمل: ما ذكرنا من الأنبياء والرسل.

(85)

ويحتمل: أصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا ... (85) الثناء الحسن في الدنيا؛ حيث ذكرهم في القرآن؛ فيذكرون إلى يوم القيامة، ويثنى عليهم، وفي الآخرة: الجنة ونعيمها. (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ). المحسن: كأنه هو الذي يتقي المعاصي، ويأتي بالخيرات والحسنات جميعًا، يعمل عملين جميعًا. والتقي: هو الذي يتقي المعاصي والمكاره خاصة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) قَالَ بَعْضُهُمْ: " الجحيم ": هو اسم معظم النار. وقال غيرهم: هو اسم درك من دركات النار؛ وكذلك " السعير ". * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) الآية ترد على المتقشفة؛ لأنه نهانا ألا نأكل طيبات ما أحل اللَّه لنا، وهم يحرمون ذلك، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) ثم لا فرق بين تحريم ما أحل اللَّه لنا من الطيبات، وتحليل ما حرم الله علينا من الخبائث، ثم يلزمهم أن يحرموا على أنفسهم التناول من الخبز والماء، وهما من أطيب الطيبات؛ ألا ترى أن المرء قد يمل ويسأم من غيرهما من الطيبات إذا كثر ذلك، ولا يمل ألبتَّة من الخبز والماء؛ دل أنهما من أطيب الطيبات، إلا أن يمتنعوا من التناول من غيرهما؛ إيثارًا منهم غيرهم على أنفسهم؛ لما يلحق القوم من المئونة في غيرهما من الطيبات ولا يلحق في الخبز والماء؛ لأنهما موجودان، يجدهما كل أحد ولا يجد غيرهما من الطيبات، إلا من تصل مؤنة عظيمة، فإن كان تركهم التناول منها لهذا الوجه، فإنه لا بأس.

وبعد: فإن اللَّه - تعالى - جعل الأطعمة والأشربة والفواكه للبشر في الوقت والحال التي تطيب أنفسهم بها وتلذ؛ لأنه لم يحل لهم في أول خروجها من الأرض والنخيل، إنما أحل لهم بعد نضجها وينعها واتخاذها خبزًا، وبلوغها في الطيب نهايته، وجعل للبهائم ذلك في أول ما يخرج، فإذا كان البشر خصوا بذلك لم يجب أن يحرم ذلك، ويبطل ذلك التخصيص والتفضيل، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: إنما لم يتناول منها لما يعجز عن شكر اللَّه؛ لذلك يقتصر على ما يُقيم الرمقَ منه. قيل له: فيجب ألا يتزوج من النساء إلا أدونهن جمالا وأكبرهن سنًّا؛ لأنها تصونه عن الفجور، فإن لم يكن في تزويج العجائز والقبائح وترك الشبان الحسان زهادة، فليس في أكل خبز الشعير وترك المحور والميدة زهادة، ولكن لما خاف أن يدخله الرغبة في طيب الطعام في شبهة مكسبه، فواجب عليه ألا يدخل في ذلك المكسب، وينزه نفسه عنه، ويقتصر على القوت الذي لا بد له منه. وقيل: الآية نزلت في أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منهم: عمر وعلي وابن مسعود وعثمان ابن مظعون والمقداد وسالم، رضوان اللَّه عليهم أجمعين. وهَؤُلَاءِ حرموا على أنفسهم الطعام والنساء، وهموا أن يقطعوا مذاكيرهم، وأن يلبسوا المسوح ويدخلوا

(88)

الصوامع؛ فيترهبوا فيها، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأتى منزل عثمان فلم يجدهم فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لامرأة عثمان: " أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْ عُثْمَانَ وَأَصْحَابِهِ؟ " قالت: ما هو يا رسول اللَّه؟ فأخبرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالذي بلغه، فكرهت أن تكذب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو تبدي على زوجها؛ فقالت: إن كان عثمان أخبرك فقد صدقك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قُولي لِزَوْجِكِ إِذَا جَاءَ: إِنهُ لَيسَ مِنَّا مَنْ لَم يَستَنَّ بِسُنتِنَا ويأكُلْ ذَبِيحَتَنَا)، فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرته امراته بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال عثمان: واللَّه لقد بلغ النبي أَمْرُنا فما أعجبه؛ فذروا الذي كره؛ فأنزل اللَّه: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. . .) الآية، فلا ندري كيف كانت القصة؟ ولكن فيه بيان ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ... (88) يحتمل أن يكون الحلال هو الطيب، والطيب هو الحلال؛ سماهما باسمين وهما واحد. ويحتمل: أن يكون قوله: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا): بالشريعة والدِّين، والله أعلم. (طَيِّبًا): بالطبيعة؛ لأن الحل والحرمة صرفتهما بالشريعة، والطيب ما تستطيب به الطبائع. وفي الآية دليل، أنه قد يرزق ما هو خبيث ليس بطيب؛ لأنه لو لم يرزق لم يكن لشرط الحلال والطيب معنى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) في الآية دلالة أن الخطاب للمؤمنين؛ لأنه قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) ولم يقل: " إن كنتم مؤمنين " ونحو هذا، قد سماهم مؤمنين مطلقًا؛ دل أنه يجوز أن يسمى (وَاتَّقُوا اللَّهَ) ولا تحرموا ما أحل اللَّه لكم، (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أنه لا يحل ولا يحرم إلا هو، وليس إلى من دونه تحليل وتحريم. * * * قوله تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ

(89)

إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) مسألة: اختلف الناس في تأويل أحرف ذكرت في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ. . .) إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) مما للناس حاجة إلى معرفة حقيقة ما في كل حرف منها: أنه لم يزل يتنازع أهل الفقه في أحكامه، مما يعلم أن حق البيان في الخطاب لا يبلغ ما يقطع موضع التنازع فيه، ولا بحيث يبلغ حقيقته كل سامع، وأن في شرط المحن بالأسباب التي يمتحن بها لزوم الفكر فيها، والبحث عنها، والسؤال عنها الذين خصوا بفهمها بسؤالهم من ولي الإبانة عنها، أو مقابلتهم بما سبق لهم العلم بها في معرفة ذلك بيان ما خفي من معنى الذي قرع سمعه، أو بغير ذلك مما فيه دليل ذلك؛ إذ لا تجوز المحنة بالذي لا يحتمل الوسع الوصول إليه، ولا في جملة ما به امتحن إيضاح ذلك لما يوجب الأمر بفعل ما هو عنه ممنوع، وذلك بعيد، بل يكون البيان السمعي على قدر البيان العقلي أن من المعارف ما يكون بالحواس، ومنها ما بها يوصل إليها: إما بالتعليم، أو بالاستدلال، فمثله حق السمعي، واللَّه أعلم. من ذلك: قوله - تعالى -: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) أنه - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر يمينًا لا يؤاخذ كيها في موضعين من غير أن ذكر أنها أي يمين هي؛ ولا بأي شيء لايؤاخذ فيها والحاجة لازمة؛ إذ ذلك في موضع الامتنان منه - جل وعلا - في العفو عن أمر كان له المؤاخذة، وحق على السامع معرفة مِنَة اللَّه تعالى؛ ليشكره عليها. ثم معلوم أن اليمين لو كانت بالطلاق والعتاق، كان صاحب ذلك يؤاخذ بهما؛

بما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ ثلاثًا جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَلاقُ، وَالعِتَاقُ، وَالنكَاحُ "، واللاغي لا يعدو أمرين مع ما كانا يلزمان بلا شرط يصير به الموقع حالفا، وأعظم ما في رفع المؤاخذة في اليمين أن يرفع عنه اليمين وهما يجبان دونهما، فيقعان من غير أن كان في الآية ذكر التفضيل، ولكن يجب معرفة حقيقة ذلك بالذي بَيَّنَّا من الخبر والنظر، مع ما لا يعرف في ذلك خلافًا، وهذا يوضح أن العفو فيما كانت الأيمان بالله تعالى؛ فعلى ذلك ما نسق على ما لا يؤاخذ من المؤاخذة، وذلك يمنع من احتج بإيجاب الكفارة على الحالف بالقرب من حيث كان ذلك منه يمينًا، واللَّه أوجب في اليمين كفارة، وإنما ذلك في اليمين لا في اليمين بالقرب، ثم كانت اليمين بالقرب لو كانت على مخرج اليمين باللَّه لم يجب فيها شيء؛ نحو أن يقول: " بالعتق لا أفعل كذا. . . "، أو: " بالصلاة. . . " أو " بالصيام. . . "، ولو قال: " باللَّه. . . " يجب؛ ثبت أن وجوب ذلك وصيرورته يمينًا كان بحق النذور، وقد أمر اللَّه ورسوله في النذور بالوفاء؛ فكذلك اليمين بها، ومما يبين ذلك أنه لو قال: " إن فعل كذا فعليه قتل فلان، أو إتلاف ماله "، أنه لا يلزمه شيء؛ ثبت أن ما لزم - لزم بحق لزوم ذلك في النذور، وحق ذلك الوفاء لا غير، مع ما جاء الخبر بالأمر بالحلف باللَّه، والنهي عن الحلف بغيره والنذور أبدًا تكون

بغيره؛ ثبت أن وجوب ذلك بحق النذر؛ فلذلك يجب الوفاء به، واللَّه أعلم. ثم الأصل في ذلك أن الحلف بغير اللَّه يكون على قسمين: قسم: ألا يجب فيه شيء. وقسم: أنه لو وجب لوجب المسمى، نحو: الطلاق، والعتاق فيما يجب، فلما كان في الحلف بالقرب في الذمة وهو حلف بغير اللَّه - تعالى - يجب به شيء يجب أن يكون الواجب في ذلك ما أوجب، واللَّه أعلم. ثم اختلف في معنى اللغو: فقال قوم: هو الإثم؛ " كقوله - تعالى -: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا) وقوله - تعالى -: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا). ثم اختلف من قال بهذا على قولين: أحدهما: أنه لا يؤاخذ بالإثم في أيمانكم التي لم تعتقدوها، لكنها جرت على اللسان، وبمثل ذلك روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: هو قول الرجل: " لا واللَّه ما كان كذا "؛ وبه قال أبو بكر الكيساني في تفسيره، وأيد ذلك قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)؛ دل أن الأول بما يجري على اللسان دون ما يقصده قلبه، واللَّه أعلم. والثاني: ألا يؤاخذ بترك المحافظة فيما كان في المحافظة مأثم؛ دليله: صلة ذلك قوله - تعالى -: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ. . .) الآية؛ فكأنهم تحرجوا عن ترك المحافظة فيما سبقت منهم الأيمان قبل النهي بقوله - تعالى -: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)؛ فنزل قوله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ) في بعض أيمانكم إذا كان حفظها مأثمًا، وذلك نحو ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَي

غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَلْيَأتِ بِالَّذِي هُوَ خَيرٌ، وَلْيُكَفرْ عَنْ يَمِينِهِ " وعلى ذلك قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ). ولا يحتمل أن يؤخذ بالعقد وهو به معظِّم ربه، ولكن لمحافظة ما عقدتم الأيمان إذا كانت المحافظة إثمًا، وفيما لم يكن فهو في قوله: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)، واللَّه أعلم. وإلى هذا يذهب سعيد بن جبير في تأويل الآية. وقال قائلون: إنه هو الشيء الذي لا حقيقة له نحو اللعب، وعلى ذلك (وَالْغَوْا فِيهِ) أنهم لم يقصدوا تحقيق أمر يظهرونه، ولكن قصدوا التلبيس بما ينطق به ما كان؛ وكذا قيل: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا) باطلا، بل كل ما يسمع فيها هو حق وحكمة. ثم رجع تأويله إلى وجهين: أحدهما: فيما يجري على اللسان من غير عقد القلب على ما مَرَّ به تفسيره. والثاني: أن يكون الحلف بما لا حقيقة له على ظن أن حقيقة ما حلف عليه الحالف كما حلف؛ وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ والحسن - رضي اللَّه عنهما - في تأويل الآية. ثم لو كانت الآية على التأويل الأول لكانت في رفع المأثم خاصة، وهو التأويل الذي ذكره سعيد بن جبير، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وأما الكفارة: فهي لازمة على ما ذكر في الخبر المرفوع في ذلك، وبما هي واجبة للحنث في اليمين ولترك الوفاء بالعهد، والمعنى في الأمرين موجود؛ لذلك لزمت الكفارة في الوجهين جميعًا، مع ما لا بد من الإلزام فيما أخطأ أو تعمد من حيث لم يكن استثناء حالا منهما صاحبه، وذلك يبين أن ذلك للحلف في عقد اليمين، أو لما يخرج الفعل مخرج الاستحقاق إذا قوبل فعله بعقد، وإن كان المسلم قد عصم عن ذلك الوجه، فأمر

بتكفير ذلك، وذلك المعنى موجود في الوجهين؛ لذلك لزمت الكفارة في الأمرين، واللَّه أعلم. ولو كانت على التأويل الثاني أو على أحد وجهي التأويل، لأمكن ألا يؤاخذ بالمأثم ولا بالكفارة جميعًا، والذي يبين أن هذا التأويل أنه ذكر المؤاخذة في الآيتين. فأحدهما: بكسب القلوب وكسبها تعمدها، والمؤاخذة به تكون بالمأثم لا بالحقوق والكفارات؛ إذ لا يؤاخذ في شيء بكسب القلب خاصة كفارة أو حقا يوجب، وإن كان قد يؤخذ لذلك عند أفعال الجوارح، فأما له خاصة فلا، وقد يكون به الطاعة والمعصية؛ وعلى ذلك قوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ). وإذا ثبت أن ذلك في المآثم فلا يؤاخذ، ثم لا مأثم فيما ذكر من عقد اليمين في العقد؛ إذ هو يخرج مخرج التعظيم للَّهِ، وقد رويت عقود الأيمان عن الرسل؛ فثبت أن المؤاخذة فيها بالكفارة؛ فلا يؤاخذ بها في اللغو أيضًا، وأيد ذلك أن اللَّه تعالى ذكر ما لا يؤاخذ مرتين، وذكر المؤاخذة كذلك، فلو كانت المؤاخذة بواحد لكان الذكر الواحد كافيًا؛ فثبت أنه بأمرين مختلفين؛ فعلى ذلك أمر العفو، واللَّه أعلم. مع ما أنه قد تبين في آية المعاقدة كيفية المؤاخذة ولم يبين في كسب القلب؛ فيجب أن يكون العفو عما جرى به بيان المؤاخذة أحق منه مما لم يَجْرِ به؛ فثبت أنه في رفع المؤاخذة بالكفارة، ولو كان على ما يقوله سعيد لكانت تجب الكفارة بما سلف بيانه؛ لذلك قلنا: إن هذا أحق بالآية، واللَّه أعلم. ثم إذا ثبت أن اللغو مما لا يجب فيه الكفارة، يحتمل أن يكون لم يجب من حيث

لم يعص اللَّه به، ويحتمل أن يكون لم يجب؛ لأن يمينه كانت على ما كان الحنث به معه أو قبله؛ فيمنع صحة اليمين وإن أطلق لها الاسم؛ إذ كانت الأسماء مطلقة لما فسد من العقود وصحت، وإنما تختلف لها الأحكام والمقاصد منها، فإن كان لما لم يعص الله فيجب أن يكون في كل حنث يؤمر به لا يجب به الكفارة، فإذا جرت السنة بإيجابها على الأمر بالحنث، وقد يجب -أيضًا- فيما كان فعل الحنث على حال خطأ أو نوم أو جنون، أو فعل غير الحالف فيم الحنث به على تعمد أن يأثم بغيره؛ إذ قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) - ثبت أنها تجب لا لأنه لم يعص اللَّه، ولكن للوجه الذي ذكرت، واللَّه أعلم.

ثم كان ذلك المعنى قائمًا في اليمين الذي تعمد عليه الكذب، وهو ما قيل: اليمين الغموس يجب ألا يلزمه كفارة اليمين، إنما يلزمه كفارة فعل الجرأة والمخالفة لله، واللَّه أعلم. وأيد هذا الأصل وجهان: أحدهما: استواء الأمرين في اليمين المعقودة على الحانث فيما عصى من الحنث فيها أو أطاع أن يستويا في اليمين على الماضي في الوجهين جميعًا، فإذا لم تجب الكفارة في أحد الوجهين لم تجب في الآخر، واللَّه أعلم. والثاني: ما روي عن نبي الرحمة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في شأن اللعان بعد الفراغ منه: " إِنَّ أَحَدَكُمَا لكَاذِب، هَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ " ومعلوم أن حاجتهما لو كانت تجب فيه الكفارة إلى البيان عنها أكثر من حاجتهما إلى بيان كذب أحدهما ثم لزوم التوبة؛ إذ ذلك يعرفه كل سفيه وحكيم بلا سمع، والكفارة لا تعرف إلا بالسمع، ثبت أنها غير واجبة؛ وكذا الأخبار التي روبت في الخصمين: أنه قضى لأحدهما حتى ذكر فيه الوعيد الشديد، ثم أمرهما بالتساهم بينهما وأن يحلل كل واحد منهما الآخر، فلا يحتمل أن يكون فيه كفارة ولا يمين؛ وكذلك علم في الموضع الذي أمر بالحنث؛ إذ قد يشتبه على بعض من ليس له روية، وقد قال إسحاق: أجمع المسلمون على ألا يجب فيه الكفارة، فقول من يوجبها ابتداء شرع، ونصب حكم للَّهِ تعالى على الخلق، وهو لم يشرك في " حكمه أحدا. ثم الأصل في ذلك أن الأسباب التي ترفع العقود وتوجب الحرمات إذا تأخرت العقود

وأسباب الحل فهي على اختلافها متفقة على منع ابتدائها إذا قارنتها؛ فعلى ذلك أمر سبب الحنث؛ فلذلك بطلت اليمين والكفارة، وهي كفارة اليمين فلا يجب فيما لا يمين يجب فيها، وليس ذلك كالقول بمس السماء ونحو ذلك؛ لأن اليمين في هذا على ما يكون، فسبب الحنث لم يقترن بها فصحت؛ لذلك اختلف الأمران، وهذه المسألة توضح حال رجلين: الشافعي في قوله: إن الكفارة تجب للحنث وهاهنا لا حنث؛ لما لم يصح العقد؛ ليحنث فيه، ويكون الحنث -أيضًا- بعد العقد، ولم يكن مع ما كان النص بالكفارة في اليمين المعقودة التي أمر فيها بالحفظ، ومحال الأمر بالحفظ في هذه اليمين، وإنَّمَا يجب الحفظ عنها أن يحلف به، واللَّه أعلم. وحال أبي عبيد حيث يوجب الكفارة بعقد اليمين، وعنده اليمين الغموس يمين لا يجب فيها الكفارة، فهذا يوضح أن الكفارة تجب للذي يرد في اليمين لا لنفسها، واللَّه أعلم. ثم احتج قوم بوجوب الكفارة بعقد اليمين بقوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) ثم قال: (فَكَفَّارَتُهُ) - أي: عندهم - كفارة ما عقد من الأيمان بما فيها الإضافة، ولم يسبق غير ذلك العقد يضاف إليه؛ وكقوله: (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ) أضيف إلى اليمين؛ وعلى ذلك تسمية المؤمنين كفارة اليمين مع ما فيه وجهان من المعتبر: أحدهما: ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما رأى بحمزة الطعنة أقسم لَيُمَثلَنَّ بكذا من قريش؛ فنزل النهي عن الوفاء بذلك؛ فكفر عن يمينه. ومعلوم أنه لا يحنث في يمينه إلا في الوقت الذي لا يحتمل بز مسألة في حياته ثبت أنها كانت لليمين؛ وكذا ما جاء: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ. . . " إلى أن قال: " وَلْيُكَفرْ عَنْ يَمِينِهِ " إنما أمر بتكفير يمينه، واللَّه أعلم.

والثاني: ذكر أبو عبيد أن اللَّه إذ نهي عن الوعد إلا بالثنيا بقوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، فذلك النهي في اليمين أوكد وأشد، فمن حلف بلا ثنيا عصى اللَّه؛ فيلزمه الكفارة. والأصل عندنا: أن الكفارة تجب للحنث في اليمين؛ إذ هي كفارة، والكفارات إنما تكون للسيئات؛ كقوله - تعالى -: (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)، وغير ذلك من الآيات. ومن البعيد في العقل طلب تكفير الحسنات، بل الحسنات تكفر السيئات، والحنث في التحقيق اسم المأثم. ثم معنى الذنب فيه؛ لأنه كان عاهد اللَّه ألا يفعل كذا، ففعله يخرج مخرج نقض العهد فيه؛ فيأثم لا بالعهد؛ ولذلك قال اللَّه - تعالى -: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا). وفي الجملة أمر اللَّه أن يوفوا بعهده لا أن ينقضوا، وقد جعلت اليمين عهده وأمرنا بوفائه، فنقضه يوجب الخلف في وعده والنقض لعهده؛ فيأثم الحالف لا بالحلف؛ فلذا تجب الكفارة، ولو كان لليمين كفارة لكان الحنث أحق أن يوجب الكفارة. ثم لا يجوز أن يكون من حلف أن يطيع اللَّه يكون به عاصيًا؛ ثبت أن الكفارة لو كانت تجب بيمين على المعصية لتصير تلك معصية فيجب ثم حق كفارة مثلها الحنث فيها. وعلى ذلك روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن " مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيء؛ فَرَأَي غَيرَهُ خَيرًا مِنْهَا، فَإِنَّمَا كَفارَتُهُ أنْ يَأتِيَ الَّذِي هُوَ خَيرٌ "؛ فكذلك تكون كفارة اليمين لو احتملت أن يرجع عن الوفاء بها. وأما كفارة ما لا وجه لدفعه: تكون بالتوبة والحسنة تكفر، لا بالرجوع؛ وعلى ذلك جميع أنواع الكفارات أن ما احتمل دفع الحقيقة والرجوع عنه جعلت كفارته بالتوبة عنه، ونقض ما قد فعل، وما لا يحتمل فلا فيعتبر ذلك، فلو كان لليمين كفارة لكانت توبة وفسخًا لا غير، فإذا أوجب اللَّه غير الرجوع ثبت أن ذلك للحنث، واللَّه أعلم. ثم الدليل على أنه لا يحتمل إيجاب الكفارة بعقد اليمين أوجه: أحدها: أن العقد يخرج مخرج التعظيم للَّهِ والتبجيل، وجعله مفزعا إليه ومأمنا للخلق

عنه؛ فلذلك جعلت الأيمان لدفع التهم وتحقيق الأمر للخلق عن الحالفين، وأيد ذلك أوجه: أحدها: ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إِذَا حَلَفْتُم فَاحْلِفُوا بِاللَّه "، وقال: " لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُم وَلَا بِالطَواغِيتِ " فحذر الحلف بغيره بما فيه تعظيم ذلك ورفعه عن قدره، وألزم ألا يجعلوا لأحد ذلك القدر إلا لله تعالى. والثاني: قوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) ولا يجوز أن ينهى عن الرجوع عن المعصية ويأمر بالوفاء بها. والثالث: الأمر الظاهر عن نبي الرحمة لحلفه وقسمه في غير موضع، وما ذكر في قصة يعقوب وأولاده، وأمر إبراهيم - عليه السلام - في شأن الأصنام، وأمر أيوب - عليه السلام - لم يجز أن يكونوا عصاة بفعلهم، وذلك ينبئ عن جرأة من زعم أن الحالف عاص بما ترك الثنيا، ومن ذكرنا من الأنبياء - عليهم السلام - قد تركوا الثنيا، وليس ذلك كالوعد؛ لأنه إلى نفسه يضيف الفعل وهو يفعله، تحت مشيئة اللَّه - تعالى - وفي اليمين باللَّه يستغيث وإليه يرجع، فلذلك اختلف الأمران، واللَّه أعلم. والدليل على أنها لم تجب باليمين قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَي غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ بِالَّذِي هُوَ خَيرٌ، وَلْيَكَفر يَمِينَهُ "، أو قال: " فَلْيَكَفر يمِينَهُ، وَلْيَأتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ " ولو كانت الكفارة واجبة باليمين، لكان لا وجه للأمر بالذي يأتي وهي

واجبة، ويقول: من حلف على يمين فليكفر يمينه، فإذا لم يقل، ولكن قال فيما كان ثم حنث؛ ثبت أنها له تجب، واللَّه أعلم. ووجه آخر: اتفاق القول: إنه إذا كان مع اليمين بِرٌّ فلا كفارة عليه، وإذا كان معها حنث تجب، فلو كانت تجب لليمين لكانت هي عند الوفاء أوجب، فالكفارة فيه تكون أوجب، فإذا لم تكق عليه إذا بر ثبت أنها بالحنث وجبت، واللَّه أعلم. وأيضًا ما أجمع أن من حلف ألا يقرب امرأته بشيء، لا يلزمه لو حنث به لم يلزم فيه حكم الإيلاء، فلو كانت الكفارة تجب باليمين، لكان الحالف به عند الفراغ عن يمينه صار بحيث لا يلزمه من بعد شيء؛ فيجب أن يسقط حق الإيلاء، فإذا بقي عليه حكمه جاء بذلك الكتاب وجرت به السنة؛ ثبت أن القول بوجوبها قول مهجور، واللَّه أعلم. ثم إذا ثبت هذا رجع تأويل الآية إلى وجهين: أحدهما: قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ) بمحافظة ما عقدتم من الأيمان؛ كقوله: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)، فإن تركتم ذلك فكفارته كذا. والثاني: أن يكون على إضمار حيث يؤاخذكم بحنثكم فيما عقدتم، وذلك غير مدفوع في حق الكفارات؛ كقوله - تعالى -: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ. . .) الآية، وقوله - تعالى -: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) الآية، لا على الوجوب للعذر، ولكن باستعمال الرخصة فيه؛ إذ لا يكون العذر سبب الإيجاب، فمثله في الأول لا يكون تعظيم الرب سبب إيجاب الكفارة؛ فيصير الحنث فيه مضمرًا، والله أعلم. والإضافة إلى الأيمان على إرادة الحنث فيها؛ كإضافة كفارة الفطر إلى الصيام، والدم إلى الحج، والسجود إلى السهو، وإن كانت الكفارات ليست لما أضيفت إليه؛ أيد ذلك ما ذكرت، واللَّه أعلم. وتكفير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يمينه؛ لأنه قد عصم عن المعصية، وفي الوفاء بذلك

معصية؛ إذ نهي عنه، ويمينه كانت قبل النهي، فصار آيسًا عن البر بذلك، وبذلك يكون الحنث لا بعدم إمكان الوفاء، لكن غيره؛ إذ لا يؤمن منه العصيان، فذلك وقت إياسه عنه، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذ قد عصم عن ذلك فوقت إياسه وقت النهي، ولا قوة إلا باللَّه. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ): في متعارف اللغة على التقريب؛ ليأكلوا، لا على التمليك؛ وكذلك الأمر المتعارف بين الخلق فيما ينسب بعضهم إلى بعض الإطعام، وأيد ذلك قوله: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)، ولا يعرف التمليك في إطعام الأهل، ولا خطر ببال أحد ذلك، وقد عرفهم اللَّه - تعالى - ما فرض عليهم بالذي كان علمه عند كل أحد معلومًا؛ إذ قَلَّ إنسان يخلو من أن يكون أهلا لأحد، أو له أهل؛ فلا يحتمل أن يُظَنَّ بأحد الجهل به حتى يسأل؛ فيكون ذلك إلزام الفرض مع رفع وهم الجهل به عن العقل، ثم لا نعرف بها، واللَّه أعلم. والذي يوضح هذا من طريق العبرة أنه ذكر في ذلك إطعام عشرة مساكين، والمسكنة: هي الحاجة، وحاجة المسكين إلى الطعام معلوم أنها تكون إلى أكله دون ملكه، وجهات حاجات الأملاك مما يعم المساكين وغيرهم، مع ما قَدَّر ذلك بالكفاية والشبع؛ وحق ذلك في التقريب للتطعم لا في التمليك عليه، ولكن يجوز التمليك بما به التمكين لذلك؛ فيجب بذلك الجواز بكل ما فيه تمكين ذلك بهما أو ما كان، إذ جواز التمليك بحق التمكين لا بحق النظر، مع ما كان في تمليك الثمن الوصول إلى ما يختار هو على الوجه الذي يختار الاغتذاء، فإن ذلك أقرب إلى قضاء حاجته، ولو كان

الأمر على تمليك المأكول خاصة، لكان الدعاء والتقريب إليهم للملك أحق أن يجوز لوجهين: أحدهما: أنه أقرب إلى دفع الجوع وسد المسكنة من تمليك بر لا يصل إليه إلا بعد تحمل المؤنة وطول المدة. والثاني: أن الكفارة جعلت بما ينفر عنه الطبع؛ ليذيقه ألم الإخراج من الملك والبذل، فيكفر ما أعطى نفسه من الشهوة التي لم يؤذن له فيها؛ وكذلك معنى الحسنات المكفرة للسيئات، ثم كان دعاء المساكين وجمعهم على الطعام، وخدمتهم والقيام بما فيه الاختيار إليهم - أشد على الطبع من التصدق عليهم؛ فيجيء أن يكون أقرب للتكفير به؛ وعلى ذلك يجوز بذل الثمن لما فيه تحمل المكروه على الطبع كهو في الإطعام، فيجوز مع ما إذا جعل ذلك حقًّا للمساكين يخرج من عليه بالتسليم إليهم عن طوع منهم، ويجوز مثله من التبادل في جميع الحقوق، فمثله عن الكفارات، واللَّه أعلم. على أن اللَّه - تعالى - قال: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)، ويجوز فيه غير ذلك النوع؛ وكذلك في كل الصدقات، واللَّه أعلم. ثم جعل ذلك أكلتين لوجهين: أحدهما: القول بإطعام المساكين، ثم أريد به دفع المسكنة، والمسكين: هو الخاضع؛ فأحق من يستحق اسمه السائل؛ لأنه يخضع للمسئول بالسؤال. وقد روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في يوم الفطر: " أغْنُوهُم عَنِ المَسأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا اليوْمِ "، ثم كان أقل ما أجيز فيه نصف صاع من حنطة؛ فعلى ذلك صدقة المسكين، ومثل ذلك إذا أطعم يكفي مرتين؛ وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في كفارة المتأذي ثلاثة آصع بين ستة مساكين، فمثل مقدار طعام المسكين فيما أريد الإطعام القدر ذلك، فمثله

ما نحن فيه، وذلك يعدل أكلتين، وبه قال عمر وعلي - رضي اللَّه عنهما -. والثاني: أنه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) والأوسط: فيما له حدود ثلاثة، يرجع ذلك إلى أوجه ثلاثة: أحدها: إلى الأوسط من صفات المأكول. والثاني: إلى الأوسط من مقدار الأكل. والثالث: إلى الوسط من أحوال الأكل. فالأول: نحو الأجود والأردأ وبين ذلك. والثاني: نحو السرف والقتر وبين ذلك.

والثالث: نحو مرة وثلاث مرات في يوم واحد وبين ذلك. فإذا لم يثبت في خبر ما إليه رجع المراد، فحق الاحتياطات أن يكون الوسط من الكل؛ فيخرج بما فرض عليه؛ فلذلك وجبت أكلتان مع ما كان لا يعرف حقيقة الأوسط من الأنواع والمقادير لما لا منتهى لطرفيه، وقد يعرف حقيقة عدد الأكثر والأقل من الوقت فهو أحق أن يعتبر، واللَّه أعلم. ثم كان الأمر في الظاهر بالإطعام، وأجمع على رجوع الأمر إلى الحد، وإن لم يذكر، فهو - واللَّه أعلم - يحتمل أن يكون انتزع حده من حكم الكتاب من وجهين: أحدهما: أن الآية إذا كانت على ما يؤكل ويطعم، وإن فيما عليه العرف ألا أحد يقرب إلى آخر ما يطعمه، فيقتصر على أقل ما يستحق اسمه، وقد يتصدق بالقليل في العرف؛ فلذلك في الأمر به تحديد إذا كان مما يعرف فيه التحديد؛ ولذلك لم يذكر فيه التفسير مرفوعًا، وذكر في قصة المتأذي لما ليس في لفظها دلالة الحد، وفي لفظ الإطعام دلالته؛ إذ فيه عُرْفٌ، وعلى هذا أمر ما جاء من البيان في الصدقات، ولم يذكر في الإطعام إلا لمكان النوازل؛ وعلى هذا يجب أن يجوز الإطعام أيضًا، وإن لم يكن فيه تمليك، واللَّه أعلم. والثاني: قوله - تعالى -: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) ومعلوم أن كل شيء له واسط، فهو ذو حدود وأطراف، على أنه رُد إِلَى طعام الأهل، وفيه الإشباع لا محالة؛ لذلك وجب القول بالحد، واللَّه أعلم. وإذا ثبت القدر فيه بحق الخطاب يجب وصل ذلك به؛ ليعرف به حقيقة المقصود، واللَّه أعلم. فصار كأنه قال: إطعام عشرة مساكين؛ إذ طعام عشرة في العرف عبارة عن قدر طعامهم، وإطعام عشرة عبارة عن فعل الإطعام، وقد ثبت أنهما ارتدا جميعًا فكأنهما ذكرا موصولين، ولو توهمنا ذلك لم يكن بحق حفظ العدد، بل بحق حفظ مقدار ذلك العدد من الصيام وإن مدفوعًا إلى الواحد أو أكثر، واللَّه أعلم؛ لذلك أجاز أصحابنا جمع الكل في مسكين واحد عشرة أيام، ولم يجيزوا في يوم واحد؛ إذ حق الأمر على أن يغدي

ويعشي، وإن كان يجوز الدفع لما فيه حق الإطعام، فصير طعام كمال ذلك، وهو قدر طعام مسكين؛ فيزول عنه المسكنة، لكن الإطعام فيه لا يجوز، أو إذا صح كان حق ما ذكرت الجواز، ففساده لمعنى اعترض فمنع، لا لأنه خارج عن أن يراد له على ذلك، وذلك كخروج بعض المساكين لعلل عن الدفع إليهم، لا لأنه لو أجيز كان كالخلاف للذكر، فمثله الأول، واللَّه أعلم. ودليل آخر مما له جرى ذكر عشرة لا لأن يجعل العشرة شرطًا: أنه معلوم بالمعنى الذي له جعل الدفع إليهم أو الإطعام لهم سببًا للجواز: أن ذلك ثبت بحيث تحمل المكروه على الطبع، وكف الهوى عن مثلها، وإذاقة النفس مرارة الدفع لله - جل ثناؤه - يكفر ما أتبعها هواها، وأوصلها إلى مناها فيما خالف اللَّه في فعله حيث لم يف بالعهد الذي عهد للَّهِ، أو ألزم نفسه عهدًا من منع عن الوفاء، فيخرج فعله مخرج فعل ناقض العهد، ومخلف الوعد باللَّه، وذلك المعنى في البذل لا في مراعاة العدد، ولا في أنه كان حقًّا لهم قبل الدفع، بل باختيار الدفع إليهم يجعلهم محقين فيه بما له إيثار غيرهم، والخروج عن ذلك بالعتق والصيام الذي لا يعود إليهم نفعه، ولكن الكفارة إذا جعلت مما يغدي ويعشي، ونحو ذلك إذا أريد الخروج به منه بمسكين واحد يحتاج إلى تجديد الأيام ومرور الأوقات، وفي ذلك خوف بقاء الذنوب عليه، ولعله يعجله الموت فيبقى ذنبه غير مكفر، فجعل اللَّه له التفريق في المساكين؛ تيسيرًا عليه وتمكينًا من الخروج الذي ركبه، لا لفوت معنى ما له التكفير، فلذلك يجوز على ما ذكرت، وهذا الوجه يوجب مغ الجواز في يوم واحد، واللَّه أعلم. وبعد: فإنه متى أطعم مسكينًا بقي عليه خطاب إطعام تسعة، وذلك لو ابتدأ الخطاب بتسعة مما يتضمنه الخطاب، فكذلك إذا كان بعد إسقاط الواحد من الخطاب، واللَّه أعلم. ثم لو كان العدد شرطًا لكان بوجود معنى العدد في الواحد إسقاطه؛ إذ ذلك في موضع التكفير والتطهير، وكل ذلك يتعلق بالمعاني مما ذكر فيها من الأعداد نحو الغسل من الأحداث -كالجنابة- والأنجاس، فمثله الكفارة.

وبعد: فإنه معلوم أن لكل مسكين قدرًا من الطعام، ثم كان المقدار الواحد بتفرق الأملاك عليه يستوجب حق قدر العشر، فعلى ذلك المسكين الواحد بما يتفرق عليه المسكنة كل يوم، ويجدد الحاجة؛ فيصير كعدد المساكين، وذلك -أيضًا- شبيه بما روي من " الاستنجاء بثلاثة أحجار " على استحقاق كل حرف من ذلك حق حجر على حدة من حيث كان غير مستنجى به، فكذا ما نحن فيه؛ إذ له كل يوم حق مسكين آخر من حيث حدثت له حاجة لم تدفع بالإطعام الأول، واللَّه أعلم. وليس كالأعداد في الشهادة؛ لما جعل العدد فيها بما يلحق الواحد تهمة، أو له به منفعة التصديق، أو نوع عبادة في موضع الحكم والقضاء وتسليم الأمر لغيره من الحجج. وفي هذا معنى التكفير قد بينا، وذلك كمعنى التطهير في الذي وصفنا، على أن الشهادة في اليوم الثاني إعادة للأولى، والإطعام هو تجديد الدفع، والواحد قد يقوم في الشهادة مقام مائة إذا كان لِكُلٍّ حَقُ التجديد، واللَّه أعلم. ثم قوله - تعالى -: (عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) من غير ذكر القريب والبعيد، أو المؤمن والكافر، أو الصغير والكبير، أو قدر المسكنة، أو العلم الذي به يعرف، ومعلوم أن لكل جهة مما بينا حدا بالناس إلى معرفته حاجة، وللناس في كل جهة تنازع، والاجتهاد في الوقوف على الحقيقة على الاتفاق، على أنه لم يحصل الأمر على الاسم خاصة، وأن الذي هو في حد الفقير فيما ذكر فيه المسكين، والفقير قائم مقام المسكين هاهنا في الجواز؛ ليعلم أن المعنى فيهم مقصود يجب طلبه والبحث عنه، واللَّه أعلم. ثم أجمع أن الصغير الذي يكفيه قدر اللقمة -لقمة الكبير- لم يقم في حق الإطعام إلا

من حيث التمليك؛ إذ أجمع على أقل المقدار أنه مد، والمدُّ يكفي عشرة مثله؛ ثبت أنه لا إلى مثله رجع الخطاب، وأيد ذلك قوله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أن مثله لا يبلغ أقل ما يطعم الأهل، على أنه لو أريد بالأهل: الزوجة، لكان مثلها لا يطعمها الزوج، فثبت أن المراد راجع إلى الخصوص، واللَّه أعلم. والأصل في ذلك ما بينا من تألم الطبع بدفع مثله، وابن يوم يميل الطبع إلى إرضاع مثله، بل لا يحتمل إمهاله. وبعد: فإن مثله لا يطعم؛ فثبت أن الأمر راجع إلى حَدٍّ، واللَّه أعلم. وعلى ما ذكرنا قالوا في الوالدين والولد إنه لا يجوز؛ لأن الطبع يألم بمسكنة هَؤُلَاءِ، لا بما به دفع المسكنة عنهم، بل جعل اللَّه - تعالى - الطبائع بين هَؤُلَاءِ بحيث لا تحتمل نزول البلاء والشدة بهم، وبحيث يجتهد كل بدفع الضرر عنهم على مثل الدفع عن نفسه، وبذل المال لصون عرضهم؛ حتى لقد يشتم من لم يتعاهد منهم ذلك، ويلام أعظم اللوم، وإذا كان كذلك لم يتضمنهم هذا الأمر؛ إذ هم بهذا يقومون بذلك بحق الطبيعة، لا بأمر، وقد بينا وجه الكفارة أنه في مخالفة الطبع، واللَّه أعلم. وعلى ذلك ما روي عن الذي أمر بتفريق زكاته فأعطى ابنه؛ فاختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: " يَا فُلَانُ، لَكَ مَا نَوَيْتَ "، وقال للآخر: " لَكَ مَا أَخَذْتَ " ولو كان يجوز اختيار مثله لكان ذلك أحب ما صار إليه وآثر. ثم قد روي عن رسول اللَّه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأبِيكَ "؛

فلا يحتمل مع هذا الجواز بالاختيار، ويصير ما يدفع إلى ابنه كأنه له، وما يدفع إلى أبيه كأنه لنفسه دفع؛ فلذلك لم يجز. والأصل في هذا وفي الزكاة أنها حقوق جعلها اللَّه - تعالى - في الأموال لوجهين: أحدهما: بما ابتدأ اللَّه عبيده بالنعم، وخصهم بإعطاء ما اشتهت أنفسهم، ومالت إليه طباعهم؛ فاستأداهم شكر ذلك بالذي جعل في طباعهم النفار عنه، وفي أنفسهم الألم به من الإخراج عن الملك، ومعونة من لم يكرمهم به، ولا أنعم عليهم به. والثاني: أن يكونوا اقترفوا مأثمًا بما أعطوا أنفسهم مناها، وأوصلوا طباعهم إلى هواها بغير الوجه الذي أذن له في ذلك من هو له في الحقيقة، وهو الذي اختصهم، فعرض عليهم الخروج بما فعلوا من الوجه الذي في الطبع النفار عنه، وفي النفس الألم به؛ ليذيقوا أنفسهم بدل ما أعطوها من اللذة المرارةَ، فمن هو من المتصدق بالمحل الذي يجد به هذا، فهو مقابل ما له أكرم وبه اقترف، ومن لا يجد به هذا فليس بمقابل ذلك، فلم يف بحق الشكر ولا بحق التكفير، فلم يخرج مما عليه من الفرض، وإن كان اللَّه بكرمه وجوده بحيث يرجى منه العفو وعنه والقبول منه، واللَّه أعلم. وعلى ذلك عندنا أمر الزوجين؛ إذ يوجد بينهما في البذل شهوة وميل الطبيعة، ويكون التناكح بمثله على ما ذكر من النكاح لأربعة أوجه: أحدها: لمالها، وما كذلك الموجود في الطباع، واللَّه أعلم. وعلى هذا المعنى يخرج أمر الشهادة؛ إذ هي مؤسسة على دفع التهم عن المدعين، فإذا رجعت منافعهم إلى حججهم تمكنت فيهم ذلك فلم يقبل. وجملة ذلك: أن الشهادة ودفع الزكاة والكفارات بحق الأمانات، وهي بحيث لا يسع للأمناء الانتفاع بها، فكل وجه فيه انتفاع المؤتمن فإنما له الانتفاع به بلا تمانع في العرف أو بما في الطبع إيثار نفعه، فكان له فيه ما بزواله جعل أمينا؛ فلا تثبت له الأمانة فيه، واللَّه أعلم. وعلى هذا يخرج أمر الدفع إلى المكاتب والشهادة له، واللَّه أعلم. ثم الدفع إلى الكفار: القياس أن يجوز جميع ذلك من حيث كان المعنى الذي له يختار

في الدفع إليهم أن يجد من ثقل الطبع وألم النفس، وعلى ذلك أجيزت عندنا الكفارات، وأيد ذلك قوله - تعالى -: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ. . .) إلى قوله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)، صير الصدقات مكفرة لما ذكرتم؛ يدل على ذلك فيما قال أهل التفسيهر في قوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ. . .) الآية، أن ذلك في التصدق على أهل الكفر، أي: لا يمنعك ذلك، وكان على إثر الوعد بالتكفير بالصدقة، فامكن أن يكونوا هم في ذلك مع ما كانت الكفارات جعلت بشرط المسكنة، وقبيح في المسلم دفع السؤال وإن كانوا كفرة، فجائز الدفع إليهم. وجملة ذلك: أن ذلك بما اختار من إعطاء النفس شهوتها فيما لم يؤذن له، فيكون كفارتها بالكف عن شهوتها فيما كان يحل، والبذل بالذي كان يسعه منع ذلك، وذلك المعنى موجود في ذلك، على أن التصدق عليهم بعض ما يرغبهم في الإسلام؛ لم يجز المنع، واللَّه أعلم. وأما الزكاة: فهي مخصوصة بما جاء من إضافة الدفع إلى من يؤخذ من غنيهم، ولما بين أهلها، وجعل عليها سعاة؛ ليتحروا المواضع. وأمر الكفارات جعل إلى أربابها إيجابها والخروج عنها في تخير أهلها مع ما كانت الزكاة أوجبت بلا كسب بحق الشكر، وحق الشكر الإنفاق في الطاعة. ثم كان الإنفاق على من يطيع اللَّه به يخرج مخرج المعونة على الطاعة، وعلى الكافر لا؛ فيقتصر عن شرط التمام في معنى الشكر، والكفارة في حق إعطاء النفس الشهوة، فيمتحنها بإخراج ما في شهوتها المنع، وذلك المعنى موجود في الكافر على التمام؛ لذلك اختلفا. وبعد: فإن الزكاة تجب بلا إيجاب، وقد قطع اللَّه الحق الذي ذلك سبيله، ثم بين مختلفي الملك بحق المواريث والكفارات يجب بما اكتسبوا، وبين الفريقين في الحقوق المكتسبة اشتراك، ولا قوة إلا بِاللَّهِ.

والأصل في ذلك أن الزكاة أوجبت في الأموال حقا للفقراء، ثم هي تخرج إلى من أوجبت لهم، فما لم يعلم من أوجبت له لم تخرج على مثل حقوق المواريث؛ للقرابة، وغير ذلك، والكفارات ليست بواجبة في الأموال تخرج، بل ينظر إلى وقت الدفع والقيام بالتكفير، فإن كانت له أموال دفعها منها، وإلا ليست عليه؛ فصارت الحقوق كأنها بالدفع تقع؛ إذ لو توهم وقت الوجوب له الغنى والفقر لكان الأمر لا يختلف، وإذا كان، كان كذلك، وله ابتداء التصدق عليهم بحق التطوع والنذور وغيرهما فيجوز فيهم، والزكوات؛ إذ الدفع منها تسليم إلى من كان له الحق، احتيج في ذلك إلى مبين ذلك، واللَّه أعلم. وصدقة الفطر بحق إظهار السرور، ودفع السؤال؛ كما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أغْنُوهُم عَنِ المَسألَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ " لا بحق ما كان جعل في ماله يخرج منه، بل بحق المعونة، وذلك لازم في العقول لكل سائل وبخاصة في الدفع إليهم؛ ليمتنعوا هم بما فيه سرور أهل الإسلام، واللَّه أعلم. وأيضًا: إن الزكوات أوجبت في الابتداء حقا للفقراء؛ إذ اللَّه - سبحانه وتعالى - أخرج أرزاق الخلق أملاكا لبعضهم، وألزمهم تحمل كفاية من لم يملكهم أعين تلك الأموال؛ إذ لم يخلق ابتداء الخلق لهم الجملة. وإذا كان محل الزكوات في الابتداء وجعل لأهلها بها الغنى، وأهل الكفر أبوا قبول الدِّين الذي ذلك حق جعل للمحتاجين في أموال الأغنياء، فلم يكن لهم في مذهبهم ذلك الحق، بل لو كان، كان في أموال أغنياء مذهبهم، ولأهل الإسلام أن ذلك الحق في أموال أغنيائهم، وكذلك من عليهم الحق قبلوه بالدّين لأهله لم يدخل في ذلك غيرهم. ثم كانت الكفارات والنذور ونحوها ليست بمجعولة بالدّين لحق الفقراء، وإنما هي واجبة بتعاطي أرباب من لزمهم؛ ليتقربوا بها إلى ربهم، ويخرجوا بها مما جنوا على مذهبهم، وقد جعل ذلك في جملة الصدقات، وفي أنواع العبادات التي لا عبرة فيها لمنافع الخلق؛ فثبت أنها لم تجب لهم، وإنَّما الشرط عليهم فيها ما يكون عبادة وقربة إلى اللَّه تعالى، وقد جعل اللَّه - تعالى - في الدفع إلى مساكينهم قربة وعبادة، فجازت، وعلى هذا يخرج قولنا في العتق، على أن قولنا بجميع المخالفين لنا في هذا أولى؛ لأن مذهبهم

اعتماد العموم إلا في قدر ما يمنعهم عن ذلك، والعموم بجميع الفرق كلهم باسم المساكين، واسم تحرير الرقبة، ولا دليل لهم على الخصوص إلا ضرب من القياس. ومَنْ مَذْهَبُهُ أن إخراج بعض ما تضمنه الاسم لا يوجب خصوص ذلك، فكذا يلزمهم ألا يخصوا الوجود التخصيص في غيره؛ إذ ذلك أبعد، على أنهم أجمعوا ألا يقاس ما ليس فيه ذكر التتابع على المذكور، فمثله أمر الإيمان. وجملته: أنه قد يجوز في العتق مع قيام كثير من العيوب التي لا تحتمل التغير؛ فيعيب الدّين الذي يمكنه أحق، وكذلك من قول الجميع: إن العجز بالمرض عن المكاسب لا يمنع؛ إذ هو قد يزول، فالذي لا عجز فيه ويمكنه اختياره أحق أن يجوز، واللَّه أعلم. ثم الأصل: أن اللَّه - تعالى - في الكفارة التي جعل الإيمان فيها شرطًا، ذكر العتق

في ذلك في قتل ثلاث فرق، ذكر في كل مرة (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)، لم يدع ذكر ذلك في شيء منها للذكر في نوع من ذلك، على قرب ما بين أُولَئِكَ الأسباب، فلو كان يحتمل الاقتصار على بيان الكفاية دون المبالغة، أو يجب ذلك في النظر - لكان يذكر مرة كفاية على نحو الصوم فيه، فإذا لم يكتف على تقارب المعنى بان أن ذلك نوع ما لم يؤذن فيه تعليق الحكم بالمعنى، بل لو كان مأذونًا فيه، لكان يوجد في القتل معان لا توجد في غير ذلك؛ فلا يجوز قياس غيره عليه، واللَّه أعلم. فإن قال قائل: إذ قال اللَّه - تعالى -: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) ثم قد جعل سيئة الظهار والقتل: عتق رقبة، وبالصيام: صوم شهرين متتابعين، فكيف جعل مثل سيئة الحنث بالعتق: عتق رقبة، وبالصيام: ثلاثة أيام؛ فلو كان ثلاثة عديل العتق لماذا زاد في الظهار والقتل في الجزاء؟ نقول - وباللَّه التوفيق -: لذلك أجوبة ثلاثة: أن الجزاء في الدنيا هو ما يجوز به المحنة ابتداء؛ لا على الجزاء، فعلى ذلك يجوز فيه الزيادة بحق المحنة، لا الجزاء والقضاء، وبحق العفو، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ - (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وقال (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) وفي الآخرة لا يكون بحق ابتداء المحنة، إنما ذلك بحق الجزاء وهو - عَزَّ وَجَلَّ - حكيم عدل لا يزيد على ما توجبه الحكمة، ويجوز التجاوز بما هو عفو كريم؛ فلذلك اختلف الأمران. والثاني: أن يقال: حق جزاء كل ما فيه العتق صيامُ شهرين متتابعين، ولله العفو فيه، عامل الحانث فرضي منه بصوم ثلاثة أيام؛ لما علم - عَزَّ وَجَلَّ - في ذلك من المصالح، واللَّه أعلم. والثالث: أن يكون حق الجزاء في اليمين بالصيام ما ذكره، وكذلك في القتل والظهار، وفيهما حق العتق كذلك، وفي اليمين دونه، ولكنه تمم بما لا يحتمل التجزئة على حق كل شيء لا يتجزأ أن جزءًا منه متى وجب يجب كله؛ فعلى ذلك العتق، واللَّه

(90)

أعلم. ثم نقول: وظاهر هذا يشهد لأبي يوسف - رحمه اللَّه - ومُحَمَّد - رحمه اللَّه -: أنه متى أوجب جزءًا منه عتق كله؛ إذ لا يحتمل التجزئة؛ دليله أمر الكفارات، واللَّه أعلم. ومذهب أبي حنيفة: أنه يحتمل أن يكون هذا لما لا يحتمل العتق التجزئة، ويحتمل: أن يكون؛ لما لا تحتمل حقوق العتق التجزئة، وإن كان العتق في نفسه محتملا؛ فيجب عرض ذلك على ما فيه بيانه؛ فوجد الأمر بالتحرير حيث كان، كان بذكر الرقبة، ولو كان لا يحتمل من حيث التحرير التجزئة، لكان ذكر التحرير كافيًا عن ذكر الرقبة، فإذا ذكر في كل ما أمر بأن أنه ذكر؛ ليتمم بالإعتاق، لا أنه يتم بلا ذكر؛ فعلى ذلك أمر الطلاق لم يذكر فيها معنى رقبتها؛ لما لا يحتمل - واللَّه أعلم - بعض ذلك، ثم كانت الحقوق ترجع إلى الانتفاع، أو قول، أو مضرة، أو نحو ذلك، لا يحتمل نفوذ من المعتق من دون غيره، ثبت أن ذلك إن كان كذلك، فهو لما لا يحتمل حقوقه أكمل؛ إذ في ترك الإكمال فوت نفع ما أوجب، واللَّه أعلم. ثم قد يجوز إعتاق الجزء من حيث كان الملك والحرية بأخذ العين، والمنافع تصل إلى المباشرة، والمباشرة لا تحتمل التميز، وفي القول فيه، والملك فيه جملة يحتمل لذلك اختلفا، وعلى ذلك أمر الطلاق لا ملك، ثم في النفس، إنما حقيقة المباشرة والانتفاع، وذلك لا يحتمل الجزء المطلق منها أوجب دون غيره؛ فلذلك أكمل، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ. . .) الآية.

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وَالْمَيْسِرُ): القمار. وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " اجْتَنِبُوا هَذِهِ الكِعَابَ المَوْسُومَةَ التي تُزْجَرُ زَجْرًا؛ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ ". وعن ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - مثله. وعن أبي موسى الأشعري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ ". وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " الميسر قمار ". وعن عليٍّ - رضي اللَّه عنه - قال: " لأن آخذ جمرتين من نار فأقلبهما في يدي أَحبَّ إليَّ من أن أقلب كعبتي نرد ". وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا قال: " الشطرنج هو ميسر الأعاجم ". وعن مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وهَؤُلَاءِ السلف قالوا: الميسر: القمار كله،

حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان. وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال " لَا جَلَبَ، وَلَا جَنَبَ، وَلَا شِغَارَ، وَلَا وِرَاطَ فِي الإسْلَامِ " وقيل: الوراط: القمار. وقيل: الجلب: هو أن يجلب وراء الفرس حتى يدنو أو يحرك وراءه الشيء يستحث به السبق. والجنب: هو الذي يجنب مع الفرس الذي به يُسَابَقُ فرسٌ آخر حتى إذا داناه تحول راكبه إلى الفرس المجنوب، فأخذ السبق. وأجمع أهل العلم على أن القمار حرام، وأن الرهان على المخاطرة مثل القمار، وما روي عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خاطر أهل مكة في غلبة الروم فارس، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " زِدْهُم فِي الخَطَرِ وَأبْعِدْهُم فِي الأَجَلِ " - فكان ذلك والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمكة في الوقت الذي لم ينفذ حكمه، فأما في دار الإسلام: فلا خلاف في أن ذلك لا يجوز، إلا ما رخص فيه من الرهان في السبق في الدواب والإبل، إذا كان الآخذ واحدًا: إن سبق أخذ، وإن سُبق لم يدفع شيئًا، وكذلك إن كان السبق بين الرجلين أيهما سبق أخذ، ودخل بينهما فرس: إن سَبَقَ أخذ، وإن سُبِقَ يغرم صاحبه شيئًا - فهو جائز، ويسمى الداخل بينهما: المحلل. فأما الرخصة فيه فما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ، [أَوْ نَصْلٍ "] هذا الذي وصفنا كله من الميسر.

(91)

والأنصاب: هي الأحجار والأوثان التي كانوا ينصبونها، ويعبدونها، ويذبحون لها. وأما الأزلام: فالقداح التي كانوا يستقسمون بها في أمورهم، ويستعملونها، ففيه دليل بطلان الحكم بالقرعة؛ لأن الاستقسام بالقداح هو أن كانوا يجعلون الثمن على الذي خرج سهمه أخيرًا، ويتصدقون بما اشتروا على الفقراء، ففيه إيجاب الثمن على الغير، فيجعلون الأمر إلى من ليس له تمييز، فعوتبوا على ذلك، فعلى ذلك الحكم بالقرعة تسليم إلى من ليس له تمييز بين المحق وغير المحق، فيلحق هذا ما لحق أُولَئِكَ. ثم أخبر أن ذلك كله (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، وليس هو في الحقيقة عمل الشيطان؛ لأن الشيطان لا يفعل هذا حقيقة، لكن نسب ذلك إليه؛ لما يدعوهم إلى ذلك، ويزين لهم، وكذلك قول موسى - عليه السلام -: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) إنه كذا، وكذلك قوله - تعالى -: (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)، وهو - لعنه اللَّه - لم يتول إخراجهما، ولكن كان سبب الإخراج والإزلال، وهو الدعاء إلى ذلك، والمراءاة لهم، فنسب ذلك إليه، واللَّه أعلم. قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) هم في الظاهر لم يجتمعوا على العداوة والبغضاء، بل يكون اجتماعهم على الألفة

والمودة، على ذلك تَجَمُّعُهُم في الابتداء، لكن لما شربوا وأخذهم الشراب وقع بينهم العداوة والبغضاء؛ فكان قصده إلى جمعهم في الابتداء على المحبة والمودة ما ظهر منه في العاقبة من إيقاع العداوة بينهم، وتفريق جمعهم، وهو كقوله - تعالى -: (يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) ولو دعاهم إلى عذاب السعير لكانوا لا يجيبونه، لكن دعاهم إلى العمل الذي يوجب لهم عذاب السعير، فعلى ذلك هو يدعوهم إلى الاجتماع في الخمر والميسر إلى ما يوجب ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، ففيه أن الأعمال ينظر فيها العواقب؛ كما روي: " الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ ". وفي الآية دليل تحريم الخمر؛ لأنه قال: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) والرجس حرام؛ كقوله تعالى: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا)، وما يدعو إليه الشيطان -أيضًا- حرام، وكذلك قوله: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)، والحلال المباح لا إثم فيه، ولا يسمى رجسًا، وكذلك روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قام، فخطب الناس، فقال:، يَا أيها الناسُ، إِنَّ اللَّهَ يُعَرِّضُ عَلَى الخَمرِ تَعْرِيضًا، لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ سَيُنْزِلُ فِيهَا " ثم قال: " يَا أَهْلَ المَدِينَةِ، إن اللهَ قَدْ أَنْزَلَ تَحْرِيمَ الخَمرِ، فَمَنْ كَتَبَ هَذِهِ الآيَةَ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شيء فَلَا يَشْرَبْهَا، وَلَا يَبِعْهَا " قال: فسكبوها في طريق المدينة. وعن عمِر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل تحريم الخمر قال: " اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء "؛ فنزلت الآية التي في البقرة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فقرئت عليه؛ فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء "؛ فنزلت الآية التي في النساء: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)، فكان منادي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة قال: " لا يقرب الصلاة سكران " فدعي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقرئت عليه؛ فقال: " اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ". فنزلت الآية التي في المائدة: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) فدعي عمر -

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقرئت عليه، فلما بلغ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال: انتهينا، انتهينا. وعن أنس بن مالك - رضي اللَّه عنه - قال: كنت ساقي القوم، ونبيذنا تمر وزبيب وبسر خلطناه جميعا، فبينا نحن كذلك - والقوم يشربون - إذ دخل علينا رجل من المسلمين، فقال: ما تصنعون؟ واللَّه لقد أنزل تحريم الخمر، فأهرقنا الباطية، وكفأناها، ثم خرجنا، فوجدنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قائمًا على المنبر يقرأ هذه الآية ويكررها: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ. . .) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فالخليطان حرام. فأجمع أهل العلم على أن الخمر حرام قليلها وكثيرها، وأن عصير العنب إذا غلا واشتد فصار مسكرًا - خمر. واختلفوا فيما سوى ذلك من الأشربة: فكان أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما اللَّه - يقولان: ما كان من الأشربة نيئا متخذًا من النخلة والعنب فهو حرام: كنبيذ البسر والتمر والزبيب، إذا أسكر كثيره فهو حرام عندهما؛ وعلى ذلك جاء الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الخَمْرُ مِنْ هَاتَينِ الشَجَرَتَينِ: مِنَ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبِ " ومعنى التخصيص لهما: لأن شرابهم كان منهما، ولا يتخذ منهما إلا المسكر خاصة. وأما ما اتخذ من غير

النخلة والعنب فلا يحرم وإن كان نيئًا إلا السكر منه؛ لأن غيرهما من الأشربة قد يتخذ لا للسكر، وإن كان في مكان لا يتخذ إلا للسكر فهو مكروه قليله وكثيره، كالمتخذ من النخلة والعنب. وكانا يقولان: ما كان من الأنبذة مطبوخًا فهو حلال وإن قل طبخه، إلا العصير فإنه لا يحل بالطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. وكانا يفرقان بين العصير وغيره: بأن العصير ليس فيه شيء من غيره، وإن ترك بحاله غلا فأسكر، فإذا طبخ حتى يذهب ثلثه أو نصفه فهو يغلي ويسكر، فلم يخرجه الطبخ من حده الأول؛ إذ كان يسكر قبل أن يطبخ، وهو الآن يسكر بنفسه؛ إذ لم يجعل فيه شيء غيره، وسائر ما يتخذ منه الأنبذة إن بقيت لم يشتد ولم يسكر حتى يلقى عليه الماء ويخلط بها غيره، فحينئذ يسكر، فهي مثل العصير إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فإن بقي دهرا لم يسكر حتى يلقي عليه الماء فحينئذ يسكر، فإذا صار العصير في حال إن بقي مدة لم يغل بنفسه حتى يلقي عليه غيره كان بمنزلة الزبيب والتمر إذا ألقي عليهما الماء فطبخا؛ وعلى ذلك ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الطلاء أنه لا يحل حتى يذهب ثلثاه؛ فيذهب عنه سلطانه، يقول: إذا كان يغلي بنفسه من غير أن يصب عليه الماء ففيه سلطانه، فإذا صار لا يغلي بنفسه، وهو أن يطبخ حتى يذهب ثلثاه فقد ذهب عنه سلطانه. وروي عن أنس بن مالك - رضي اللَّه عنه - أن أبا عبيدة ومعاذ بن جبل وأبا طلحة - رضوان اللَّه عليهم - كانوا يشربون من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه.

وقد وصفنا فرق أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما اللَّه - بين المطبوخ وبين المثلث والمنصف من العصير. فأما فرقهم بين المطبوخ ما يتخذ من النخلة والعنب والنيء منه فهو: أن الخمر التي لا خلاف في تحريمها في العصير التي تصير خمرا، فكل ما كان نيئا من الشجرتين اللتين سماهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو حرام إذا أسكر، فإذا كان مطبوخا فقد عمل فيه ما خرج به من حد الخمر. فَإِنْ قِيلَ: يجب أن يقاس ذلك على النيء؛ لأنه يسكر، وفيه صفات الخمر. قيل: الخمر حرمت لعينها لما لا تتخذ إلا للسكر، ولا يقاس عليها غيرها، وإنما يقاس على ما حرم وحل لعلة دون ما حرم بعينه، وأما غيره من الأنبذة فإنما يحرم منه السكر؛ ألا ترى أنه في الخبر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما بعث أيا موسى ومعاذا إلى اليمن قال له أبو موسى: إن شرابنا يقال له: البتع، فما نشرب منه وما ندع؟ قال: " اشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حرمت الخمر بعينها، قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب.

وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: فما أسكر من النبيذ ثمان، وفي الخمر قليلها وكثيرها ثمانون. فدل قول على - رضي اللَّه عنه - فيما أسكر من النبيذ ثمان، معناه: في السكر ثمانون، وذلك يدل أن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كُل مُسْكر حَرَامْ " أن السكر منه حرام.

(92)

وعن عمر - رضي اللَّه عنه - أنه أُتِي بسكران، قال: يا أمير المؤمنين، إنما نشرب من نبيذك الذي في الإداوة؛ فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لست أضربك على النبيذ، إنما أضربك على السكر. فهذه الأخبار التي ذكرنا دلت على تحريم الخمر بعينها، والسكر من كل شراب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ): يدل على، تحريمها؛ لأنه إذا سكر، صده عن ذكر اللَّه وعن الصلاة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... (92) في تحريم الخمر، والميسر، والأزلام، والأنصاب، وغيرها، (وَاحْذَرُوا) معصيتهما وخلافهما (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن طاعتهما فيما حرم عليكم وحذركم عنه: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) في تحريم ذلك، واللَّه أعلم. (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) أي: شربوا من الخمر قبل تحريمها (إِذَا مَا اتَّقَوْا) شربها بعد التحريم (وَآمَنُوا): أي: وصدقوا بالتحريم، (ثُمَّ اتَّقَوْا) شربها، (وَآمَنُوا) في حادث الوقت، (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا). وذكر في بعض القصة: أنه لما نزل تحريم الخمر، قالوا: كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟. فنزل: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا. . .) الآية. لكن هذا لا يحتمل أن يكون كما ذكر؛ لأنهم شربوا الخمر في وقت كان شربها مباحًا، ولم يشربوا بعد تحريمها، لكن هذا إن كان فإنما قالوا في أنفسهم؛ فنزل: أن ليس عليكم جناح فيما شربتم قبل تحريمها بعد أن اتقيتم شربها بعد نزول حرمتها، واللَّه أعلم. وقال بعض الناس: إن في الآية تكرارا في قوله - تعالى -: (إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا

(94)

الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، لكن الوجه فيه ما ذكرنا، ليس على التكرار، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) وليس فيه بيان أنه ابتلى بالأمر فيه أو بالنهي، لكن بيانه في آية أخرى: أن الابتلاء إنما كان بالنهي عن الاصطياد بقوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)، دل هذا على أن المحرم كان منهيا عن الاصطياد بقوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ)، وأن الابتلاء الذي ذكر في الآية كان بالنهي عن الاصطياد، واللَّه أعلم. ثم اختلف في الآية: قَالَ بَعْضُهُمْ: النهي بشيء من الصيد لأهل الحرم؛ ألا ترى أنه روى في الخبر قال: " لَا يُنَفَرُ صَيدُهَا، وَلا يُخْتَلى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا " فكان الابتلاء بالنهي عن الصيد لأهل الحرم؛ لما أخبر أنه لا ينفر صيدها، وأما المحرم فإنما نهي عن الاصطياد

بقوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) وبقوله: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). وقال آخرون: الابتلاء بالنهي عن الاصطياد للمحرمين، وفي قوله: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) نهي عن قتله، وهنالك نهي عن أخذه بقوله: (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ). وقوله - تعالى -: (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ): أي: في بعض الصيد دون بعض؛ لأن المحرم لم ينه عن أخذ صيد البحر وإنما نهي عن أخذ صيد البر بقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) وقال - تعالى -: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) فذلك معنى قوله: (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ)، واللَّه أعلم. ويحتمل على التقديم والتأخير، كأنه قال: ليبلونكم اللَّه بشيء تناله أيديكم ورماحكم من الصيد، واللَّه أعلم. ثم اختلف في قوله: (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: ما تناله الأيدي هو البيض؛ وعلى هذا يخرج قولنا: إن المحرم منهي عن أخذ البيض، فإن أخذ بيضا فإن عليه الجزاء، والذي يدل على ذلك ما روي أبو هريرة - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " فِي بَيضِ النَّعَامِ صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ إِطْعَامُ مِسكِينٍ ". وعن كعب بن عجرة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قضى في بيض نعام أصابه محرم بثمنه.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليه ثمنه أو قيمته. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تناله أيديكم: هو صيد الصغار، وهي الفراخ التي لا تطير فتؤخذ بالأيدي أخذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرِمَاحُكُمْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: ما رميت وطعنت. وقيل في قوله: (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ): ما يؤخذ بغير سلاح، (وَرِمَاحُكُمْ): ما يؤخذ بالسلاح من نحو: النبل، والرماح، وغيرهما من السلاح. ثم في الآية دلالة أن المحرم قد نهي عن أخذ الصيد، وكذلك في قوله - تعالى -: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)، والاصطياد: هو الأخذ لا القتل، وإنما النهي عن القتل في قوله: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) ليعلم ما قد علم أنه يكون كائنا، أو أن يقال: ليعلم ما قد علم غائبًا عن الخلق شاهدًا؛ كقوله - تعالى -: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: يخافه بالغيب: بغيب الناس؛ أي: يخافه وإن لم يكن بحضرته أحد. وقال آخرون: يخاف العذاب بالأخبار وإن لم يشهد ويصدق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) أي: من استحل قتل الصيد بعد ما ورد النهي والتحريم (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ). والثاني: من اعتدى على الصيد بعد النهي على غير استحلال، (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) إن شاء عذب، وإن شاء عفا، وإذا عذب كان عذابه أليمًا.

(95)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... (95) أي: وأنتم محرمون. الآية في ظاهرها عامة على قتل الصيد كله، ثم إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رخص في أشياء أذن في قتلها، فقال: " خَمسٌ مِنَ الدوَاب لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ في الحرَمِ: الحِدَأَةُ، والغُرَابُ، والعَقْرَبُ، والفَأرَةُ، وَالْكَلْبُ العَقُورُ ". وعن عائشة - رضي اللَّه عنها -: قالت: " أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الحدأة، والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور ".

وفي بعض النسخ والأخبار: الذئب؛ فيحتمل أن يكون الكلب العقور: الذئب. وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عما يقتل المحرم؟ فقال: " الحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ، والفُوَيْسِقَةُ. " وَيَرمِي الغُرَابَ وَلا يَقْتُلُهُ، والكُلْبُ العَقُورُ والسَّبُعُ العادِي ". والكلب العقور الذي أمر المحرم بقتله: ما قتل الناس وعدا عليهم، مثل: الأسد، والنمر، والذئب، وما كان من السباع لا يعدو، مثل: الضبع، والثعلب، والهرة، وما أشبههن من السباع فلا يقتلهن المحرم، فإن هو قتل شيئًا منهن فداه، وإن قتل شيئًا من الطير سوى ما ذكر في الخبر فعليه جزاؤه. وفي بعض الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الفَأرَةَ؛ فَإنها تُوهِنُ

السِّقَاء ". وقال بعض الناس: ما قتل المحرم من السباع التي لا يؤكل لحمها؛ فلا فدية عليه؛ فكان تاركًا لظاهر الآية، وهو قوله - تعالى -: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُ). فإن احتج بحديث ابن عمر - رضي اللَّه عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رخص للمحرم في قتل خمس من الدواب، وذلك ما لا يؤكل لحمه - قيل: أباح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قتل الخمس؛ لعلة: أنه لا يؤكل لحمها. فإن قال: نعم - قيل: ما الدليل على ذلك؟ فإن قال: لأنها لا تؤكل؛ فكل ما لا يؤكل من الصيد فقتله مباح؛ فيقال له: قولك: " لا يؤكل " ليس بعلة؛ لأن ذلك لا يزول ولا يتغير، والعلة هي التي تحدث في وقت وتزول في وقت، ولو كان قول القائل: " لا يؤكل "، علةً فيما لا يؤكل - كان قوله: " يؤكل "، علة فيما يؤكل، وكان الشيء علة لنفسه. وهذا بين الخطأ، وإذا لم يكن تحريم أكل الخمسة التي أذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قتلها للمحرم علة في إطلاق قتلها، ما كان القياس عليها على ما لا يحل أكله مخطئا؛ لأن القياس إنما يكون على العلل، وما لا علة فيه لا يجوز القياس عليه. وعندنا: أن هذه الخمسة المسماة تبتدئ المحرم وغيره بالأذى، وإن لم يبتدئها المحرم، وما سوى ذلك مما لا يؤكل لحمه - لا يكاد يبتدئ بالأذى حتى يبتدئها الإنسان؛ فحينئذٍ تعرض له. وبيان ذلك: أن الحدأة ربما أغارت على اللحم تراه في يدي الرجل، والغراب يسقط على وبر الدواب فيفسده، والعقرب تقصد من تلدغه، وتتبع حسَّه، والكلب العقور لا يكاد يهرب من الناس كما يهرب السباع سواه. فأما الضبع والخنزير والكلب والذئب وأشباهها فهي تهرب من بني آدم، ولا تكاد تؤذيهم حتى يبدءوها بالأذى؛ لذا جعلنا العلة فيما رخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للمحرم في قتله: ما يعرف من قصدها لأذى المحرم وإن لم يؤذها المحرم؛ إذ كان ذلك معروفًا فيها، معلومًا

أنه أكثر شأنها؛ فلما لم يكن في سائر الطير المحرمة والسباع هذه العلة، وكان المعروف فيها أنها لا تبتدئ بالأذى - لم يجز أن تشبه بالخمسة المسماة في الخبر، فإذا ابتدأ منها مبتدئ المحرمَ بالأذى؛ كان حينئذ مثل الخمسة؛ فجاز له قتلها بغير فدية. وبعد: فإن الذي لا يؤكل لحمه يسمى: صيدًا، والصيادون يصيدونه؛ فكان داخلا تحت عموم الخطاب، ومخالفنا تارك لأصله في العموم؛ لأنه خص الآية بغير دليل، ومن أصله أن الآية على العموم، ولا تخص إلا بدليل، وأصحابنا - رحمهم اللَّه - يجعلون الصيد كله محظورًا أكل أو لم يؤكل إلا ما عدا منها، فإن قتله قبل أن يعدو عليه لزمه الفداء؛ ذهبوا في ذلك: إلى ما روي في الخبر: خبر أبي سعيد - رضي اللَّه عنه - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " يَقْتَلُ الْمُحْرِمُ كَذَا وَكَذا وَالسَّبُعَ العَادِي "، فالعادي: ما يعدو على المحرم. وإلى ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره، مع ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه جعل على المحرم قَتَلَ ضبعًا - جزاءه، وكذلك روي عن عمر وابن عَبَّاسٍ وابن عمر - رضي اللَّه عنهم - وهي مما يؤكل.

وعن جابر قال: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الضبع؛ فقال: " هُوَ صَيدٌ، وَفِيهِ كَبشُ ". وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كذلك، وابن عَبَّاسٍ وابن عمر - رضي اللَّه عنهما - كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) اختلف في الآية في تأويلها على وجهين: أحدهما: من جعل الآية على ظاهرها؛ فلم يوجب في الخطأ كفارة: عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا أصاب المحرم الصيد خطأ؛ فليس عليه شيء. وكذلك روي عن عطاء وسالم والقاسم أنهم قالوا: لا شيء عليه، مثل قول ابن عباس، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. والقول الثاني: ما قاله أكثر أهل التأويل: قالوا: قوله: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا) لقتله، ناسيًا لإحرامه؛ فذلك الذي يحكم عليه، وهو الخطأ المكفر. وإن قتله

متعمدًا لقتله، ذاكرًا لإحرامه - لم يحكم عليه. وكذلك روي عن الحسن أنه قال: متعمدا لصيده، ناسيًا لإحرامه، وقال: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) متعمدا للصيد، وذاكرًا لإحرامه؛ فكأنهم ذهبوا إلى أن المحرم لا يقصد قصد الصيد وهو ذاكر لإحرامه. أحسنوا الظن به. وعندنا: أن الإحرام مما لا يجوز أن يخفى على المحرم وينساه؛ لأن للإحرام أعلاما تذكره تلك الأعلام الحال التي هو فيها، وعندنا: أن ما لا يجوز أن ينسى ويخفى على المرء لم يعذر صاحبه في نسيانه، وعندنا: أن على قاتل الصيد الكفارة، عمدًا قتله أو خطأ، وليس تخلو الآية من أن تكون أوجبت الكفارة على المتعمد للقتل الناسي لإحرامه؛ كما قال الحسن ومجاهد، أو تكون أوجبت الكفارة على المتعمد للقتل، ذاكرًا لإحرامه؛ فإن كان وجب أن يكفر من قتله عامدًا لقتله، ناسيا لإحرامه - فإن الذي يقتله عامدًا لقتله ذاكرًا لإحرامه أولى بالكفارة؛ لأن ذنبه أعظم، وجرمه أكبر. فَإِنْ قِيلَ: إنكم لا توجبون الكفارة على قاتل النفس عمدًا؛ فما منع أن يكون قتل الصيد مثل ذلك وإن كان حرمته أعظم كما؟! قيل: إن قاتل النفس عمدًا - وإن كنا لم نوجب عليه الكفارة - فقد أوجبنا عليه القصاص، وهو أغلظ من الكفارة، وقاتل الصيد عامدًا لقتله ذاكرًا لإحرامه، لو أزلنا عنه الكفارة - فلا شيء عليه سواها؛ لذلك اختلفا. ثم نقول: إنا عرفنا الحكم في قتل الصيد عمدًا بالكتاب، والحكمُ في قتل الصيد في الخطأ إنما يعرف بغيره، وليس في ذكر الحكم وبيانه في حالٍ دليل نفيه في حال أخرى؛ دلنا على هذا مسائل قد ذكرناها فيما تقدم في غير موضع كرهنا إعادتها في هذا الموضع. ثم تخصيص ذكر الكفارة في قتل العمد يحتمل وجوهًا: أحدها: أن الكفارة في قتل النفس إنما ذكرت في قتل الخطأ ولم تذكر في قتل العمد؛ ليعلم: أنها إذا أوجبت في العمد فهي في الخطأ أوجب. والثاني: أن الكفارة إنما وجبت بجنايته على صيد آمن به في الحرم، وكل ذي أمانة إذا أتلف الأمانة لزمه الغرم، عمدًا كان إتلافه أو خطأ؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. والثالث: أن ذكر التخيير في حال الضرورة يخرج مخرج التوسيع والتخفيف على

أهلها، ولا يكون ذلك في غير حال الضرورة؛ فدل ذكره في غير حال الضرورة على أن ذلك كالمذكور في حال الضرورة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) اختلف أهل العلم فيما يجب، من المثل: فقال قوم: في الظبي شاة، وفي النعامة: بدنة، وفي الحمار الوحشي: بقرة، وأشباه ذلك. وقال آخرون: المثل: قيمة الصيد، يقومه عدلان فيوجبان قيمته دراهم، فيشتري بتلك الدراهم شاة، أو يجعله طعامًا، فيتصدق به: على كل مسكين نصف صاع، أو يصوم عن كل نصف صاع يومًا. وقال غيرهم: إن بلغ دما - ذبح شاة، وإن لم يبلغ دمًا: يتصدق به. وأما قولنا: إن المثل هو القيمة، لا المثل في رأي العين: ذهبنا في ذلك إلى وجوه: أحدها: أن المحرم إذا أصاب صيذا في هذا الوقت - حكم بجزائه حكمان؛ فلو كان مثلُ الظبي شاة في كل الدهور والأوقات - كان في جعلنا ما تقدم من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والسلف من الحكم في ذلك كافيًا لا يحتاج إلى حكم غيرهم؛ فدل إجماعهم على أن حكم الحكمين باق، على أن المثل غير مؤقت؛ بل هو مختلف على قدر الأزمنة والمواضع والأوقات، وإذا جعلنا المثل قيمة كانت الحاجة إلى الحكمين قائمة، وإذا جعلناه هديًا فالحاجة إليهما زائلة، ولا يجوز أن يعطل أمر الحكمين وقد ذكره اللَّه في

كتابه. والثاني: ما أجمعوا عليه أن ما لا مثل له في الأنعام من الصيد إذا أصابه المحرم فعليه قيمته؛ فإذا كان المثل في بعض الصيد قيمته، فهو في كل الصيد قيمته، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ وغيره من السلف - رضي اللَّه عنهم - أنهم قالوا ذلك. فَإِنْ قِيلَ: ما لا مثل له من النعم لا يمكن قيمته أكثر من قيمته، قيل له أترى، ذلك مثلا؟ فإن قال: بلى، قيل: فقد صارت القيمة مثلا في بعض الصيد، فما منع أن تكون مثلا في كل الصيد؛ فإن قال: المثل: هو الهدْي فيما له مثل، فأما ما لا مثل له من الهدْي، فليس الواجب فيه بمثل، إنما ذلك قيمة، ولم يجب ذلك بنص الكتاب، وإنَّمَا وجب - ذلك بنص الكتاب - المثل من الهدْي، فأما ما لا مثل له: فإنما وجب قيمته بالإجماع، قيل له: حدثنا عن قول اللَّه - تعالى -: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، هل دخل في عموم الآية الفرخ ونحوه؛ فيكون منهيا عن قتله؟ فإن قال: نعم، قيل: فإذا دخل الفرخ في عموم النهي عن قتل الصيد فهو -أيضًا- داخل في عموم قوله: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا. . .) الآية. فإن قال: لا يدخل الفرخ في عموم قوله - تعالى -: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، قيل له: قد قال اللَّه - تعالى -: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ)، فروي أن ذلك في البيض والفراخ، فإن لم يجعل الفراخ ولا شيئا منها داخلا في الآية، فما معنى الآية؟ ونحن لا ننال بأيدينا من الصيد إلا ضعافه وما يعجز عن الطيران والعدو منه، فالآية توجب أن الصيد كله قد دخل في عمومها: ما قَلَّت قيمته، وما كثرت، وذلك يوجب أن يكون الواجب من قيمة الفرخ والعصفور مِثْلاً، واللَّه أعلم. ولأن النعامة لا مثل لها من النعم، فمن أوجب فيها بدنة فقد أوجب فيها ما ليس بمثل لها ولا نظير، ومن أوجب فيها قيمتها فقد أوجب مثلا لها، فهو موافق للنص عندنا، واللَّه أعلم. وكذلك الموجب في الحمامة شاة لا تشبه الصيد المقتول في عينه، ولا في صفته، ولا

في جنسه، فهو غير موجب المثل، بل الموجب فيها القيمة أقرب إلى إيجاب المثل فيها، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: كيف يسمّى قيمة الشيء: " مثلا " وليست من جنسه، وإنما المثل ما كان من جنس الشيء؟ قيل: قد ذكرنا أن قيمة ما لا مثل له من النعم تسمى: " مثلا "، ولأن اللَّه - تعالى - قال: (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا)، وإذا جاز أن يسمى الصيام: " عدلا " للطعام، جاز أن تسمى القيمة: " عدلا " للصيد، وإنما صار الصيام عدلا للطعام بالتقويم والمثل، والعدل في المعنى متقارب، واللَّه أعلم. ولأن اللَّه - تعالى -: قال (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)، ولو كان المراد من المثل: المنظور في رأي العين، لم يكن لشرط ذوي عدل فيه معنى؛ لأن المثل في رأي العين يعرفه كل أحد به بصر، فيه أو لم يكن؛ فدل ما شرط من نظر ذوي عدل على ما بطن فيه وخفي، لا ما ظهر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) تأويله ما ذكرنا: ينظر إلى رجلين عدلين، لهما بصر ومعرفة في ذلك، فيقومانه، ثم يشتري بها هدْيًا إن شاء، فيهدي، وإن لم يبلغ هدْيا قومت الدراهم طعامًا، فإن لم يجد، صام مكان كل نصف صاع يومًا. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كذلك، والحسن، وإبراهيم، والقاسم، والسلف جملة. وعندنا: أنه مخير بين هذه الأشياء الثلاثة، يفعل أي هذه الثلاثة شاء؛ لأن اللَّه - تعالى -: قال في المحصر: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)، ولا خلاف بينهم في أن

لصاحب الفدية في حلق الرأس أن يفعل أي هذه الثلاثة شاء، فالواجب أن يكون في جزاء الصيد مثله؛ لأن الخطاب خرج على حرف التخيير، وكل خطاب خرج على حرف التخيير، وكان سبب وجوبه واحدا - فهو على التخيير؛ نحو كفارة اليمين، وما ذكرنا في دفع الأذى عن رأسه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) شرط بلوغ الكعبة، وهو لا يبلغ نفس الكعبة؛ فدل أن المراد رجع إلى بلوغه قرب الكعبة، وعلى هذا يخرج قولهم فيمن حلف ألا يمر على باب فلان، فمر بقرب بابه - حنث؛ استدلالا بقوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ)، لم يرد به بلوغه عين الكعبة، ولكن قربها أو مكانها؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وكان مُحَمَّد بن الحسن يقول: يحكم عليه بمثله من النعم حيث كان. وأبو حنيفة - رضي اللَّه عنه - يقول: يحكم عليه بقيمة الصيد في الموضع الذي أصابه فيه. واختلافهما في هذا يرجع إلى ما اختلفا فيه من المثل عينا أو قيمة. وقد روي عن عمر، وعبد الرحمن - رضي اللَّه عنهما - وغيرهما أنهم حكموا في الظبي شاة، ولم يسألوا عن الموضع الذي أصيب فيه؛ فدل تركهم السؤال عن ذلك على أن المواضع كلها كانت عندهم سواء، وأنهم أجروه مجرى الكفارات دون القيم؛ لأنهم لو أجروا ذلك مجرى ضمان القيم، لسألوا عن أماكن الجنايات؛ إذ كان الصيد يختلف قيمته، ولا يستوي في ذلك الأماكن كلها؛ فهذا يؤيد قول مُحَمَّد ومن وافقه. وأما عند أبي حنيفة - رحمه اللَّه - أن الملك للحرم في الصيد، وكل من أتلف ملك آخر أو جنى على مال أحد، إنما ينظر إلى قيمته في المكان الذي أتلفه؛ فعلى ذلك النظر في الصيد إلى المكان الذي أصابه. ثم المسألة في جزاء الصيد أين يذبح؟ عندهم جميعًا: لا يجوز أن يذبح إلا بمكة؛ لأنه لو جاز أن يذبح في غير الحرم حيث شاء، زالت فائدة قوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ)، وليس في ذلك بينهم خلاف. وأما الإطعام والصيام: فإن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يذكر فيهما موضعًا، ولا جعل لهما مكانًا؛ فله أن يطعم، وأن يصوم حيث شاء.

(96)

فَإِنْ قِيلَ: إن الهدى يذبح في الحرم؛ لمنفعة أهل الحرم به، ويتصدق به عليهم؛ فعلى ذلك الإطعام يجب أن يطعم أهل الحرم؛ لأنه جعل لمنفعة لهم. قيل له: لا خلاف بينهم: أنه لو ذبح الهدي في غير الحرم وتصدق به على أهل الحرم ألا يجوز؛ دل أنه لا لما ذكر، ولكن الهدْي لا تذبح إلا بمكة؛ ألا ترى أن من قال اللَّه - تعالى -: عليه أن يهدي، ليس له أن يذبح إلا بمكة، ولو قال: عليه الإطعام أو الصدقة، له أن يتصدق حيث شاء؛ دل أن الهدْي مخصوص ذبحه بمكة، لا يجوز في غيره، وأما الصدقة فإنها تجوز في الأماكن كلها؛ لذلك افترقا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ)، أي: لينال شدة أمره وألمه؛ كما نال لذته. وقيل: جزاء ذنبه، وهو الكفارة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) إذا تاب ورجع عما استحل من قتل الصيد؛ وهو كقوله - تعالى - (إِن يَنتهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَد سَلَفَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ): أي: من عاد إلى استحلال الصيد في الحرم ينتقم اللَّه منه في النار. ويحتمل: من عاد إلى قتل الصيد ينتقم اللَّه منه بالكفارة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)، أي: لا يعجزه شيء، ويقال: عزيز، أي. كل عز عند عزه ذل. وغني، أي: كل غني عند غناه فقر، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا). أخبر اللَّه - تعالى - أن صيد البحر وطعامه حلال للمحرم، ثم اختلف أهل التأويل في تأويله. قَالَ بَعْضُهُمْ: " صيده: ما صيد، وطعامه: ما قذف في البحر "، كذلك روي عن عمر -

رضي اللَّه عنه - أنه قال: " صيده: ما صيد، وطعامه: ما قذف ". وعن أبي بكر وابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قالا: " طعامه: ما قذف ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: صيده: ما أخذ طريًّا، وطعامه: مليحة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَتَاعًا لَكُمْ): أي: منفعة لكم، أي: للحاضر (وَلِلسَّيَّارَةِ): أي: للمسافر. وعن بعضهم: صيده: ما صدت طريا، وطعامه: ما تزودت في سفرك مليحا. ثم يجيء على قول أصحاب الظاهر: أن يكون كل صيد البحر وطعامه حلالا مباحًا بظاهر قوله: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ. . .) الآية، وكذلك ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الطهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيتَتُهُ " أنه لم يخص ميتة دون ميتة، ولا طعامًا دون طعام، غير أن المراد عندنا رجع إلى السمك خاصة؛ لما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيتَتَانِ وَدَمَانِ، أمَّا المَيتَتَانِ: فَالجَرَادُ والسمَكُ. . . " دل الخبر أن المراد من الآية والخبر رجع إلى السمك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه

عنه - قال: مبهمة، لا يحل لك أن تصيده ولا أن تأكله. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو محرم أنه دعي إلى طعام، فقرب إليه يعاقيب وحجل -، فلما رأي ذلك على قام، وقام معه ناس؛ فقيل لصاحب الطعام: ما قام هذا ومن معه إلا كراهية لطعامك؛ فأرسل إليه، فجاء، فقال: ما كرهت من هذا، ما أشرنا، ولا أمرنا ولا صدنا. قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا " ثم انطلق. وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله أو قريبا منه. وأما عندنا: فإنه يحل للمحرم أن يأكل لحم الصيد إذا لم يصده هو ولا صيد له؛ لما روي عن أبي قتادة - رضي اللَّه عنه - أنه كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حتى إذا كان ببعض الطريق بمكة تخلف مع أصحاب له محرمين، وهو غير محرم، فرأى حمار وحش، فاستوى على فرسه، فسأل أصحابه أن يناولوه سوطا، فأبوا، فسألهم رمحه، فأخذه، ثم اشتد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحابه، وأبى بعضهم، فلما أدركوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فسألوه عن ذلك، فقال: " إِنَّمَا هِي طُعْمَة أَطَعَمَكُمُوهَا اللهُ سُبحَانَهُ "، وقال: " هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيءٌ ". وفي خبر آخر عن جابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال، فأكلنا منه، ومعنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وفي خبر آخر عن أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إِنِّي أصبت حمار وحش، فقلت: يا رسول اللَّه، إِنِّي أصبت حمار وحش وعندي منه، فقال للقوم: " كُلُوا "، وهم محرمون. وفي بعض الأخبار عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لهم: " لَحْمُ صَيدِ البَرِّ

حَلَال لَكُم وَأَنْتُم حُرُمٌ؛ مَا لَم تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُم "، رخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أكل لحم الصيد للمحرم إذا لم يَصِدْهُ ولم يُصَدْ له، وبذلك أخذ أصحابنا. وفي الآية دليل لقولنا، وهو قوله - تعالى -: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، وقال: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) فمعناه - واللَّه أعلم -: اصطياده؛ ألا ترى أن صيد ما لا يؤكل لحمه محظور؛ فدل ذلك على أن الآية نزلت في الاصطياد لا في أكل لحمه؛ لأن لحم الصيد قد خرج من أن يصاد؛ فالتحريم غير واقع عليه، ليس كالبيض؛ لأن البيض قد يصير صيدًا، واللحم ليس كذلك، ولأن المحرم لو أتلف البيض غرم قيمته، ولو أتلف لحم الصيد لم يضمن شيئًا، فما لزمه الضمان منع عن أكله، وما لم يلزمه لا، ولأنه لو حرم على المحرم التناول من لحم صيد صاده حلال، لوجب أن يحرم على أهل مكة التناول منه؛ إذ هم أهل حرم اللَّه، وذلك بعيد؛ فأخذ أصحابنا - رحمهم اللَّه - بما روينا من الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من حديث أبي قتادة وغيره، وبما دل عليه ظاهر الكتاب، وهو قول عمر وعثمان وغيرهما، رضي اللَّه عنهم. فَإِنْ قِيلَ: روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - عن زيد بن أرقم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نهي المحرم عن لحم الصيد. وفي خبر آخر عن زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - - قال: أهدى لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عضوًا من لحم صيد، فرده، وقال: " إِنَّا حُرُمٌ لَا نَأْكُلُهُ ".

(97)

وروي في خبر آخر أنه سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن محرم أتى بلحم صيد؟ قال: " لَا تَأْكُلْ مِنْهُ " لكن هذا الحديث يجوز أن يحمل على أن كان صيد بعد أن أحرم أو أن يكون صيد من أجله، وإذا صيد من أجله لم يحل له أكله؛ دليله من خبر عثمان - رضي اللَّه عنه -: " ما أمرت بصيد، ولا صيد من أجلي "، وخبر جابر - رضي اللَّه عنه - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَحْمُ صَيدِ البَر حَلَالٌ لَكُم وَأَنْتُم حُرُمٌ مَا لَم تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُم ". ثم المسألة في معرفة صيد البر من البحر: قَالَ بَعْضُهُمْ: ما كان يعيش في البر والبحر فلا تصيدوه، وما كان حياته في الماء فذاك البحري. وقال آخرون: أكثر ما يكون في الماء حتى يفرخ. وقال غيرهم: صيد البر هو الذي إن أخذه الصائد حَيًّا فمات في يده لم يحل، ولا يحل إذا أدرك زكاته إلا بتزكيته، فكل ما كانت هذه صفته فهو صيد البر، وإن كان قد يعيش في الماء. وما كان الصائد إذا أخذه حيا وهو يعيش في الماء فمات في يده أكله، فذلك صيد البحر، وذلك السمك. وفي ذلك وجه آخر: وهو أن كل ما ألقاه البحر وقذفه فمات فحل لنا أكله، فذلك طعامه، وإن لم يحل أكله فليس بطعامه، فما كان طعامه وألقاه فمات فهو إذن صيد البحر، وما لا يحل أكله إذا ألقاه، فليس بصيد البحر إذا صيد؛ لأن اللَّه أباح صيد البحر وطعامه، فما ليس بطعامه إذا ألقاه فمات فليس بصيد إذا أخذ حيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في استحلال قتل الصيد في الحرم، أو اتقوا اللَّه في أخذ الصيد في حال الإحرام بعد النهي، أو اتقوا اللَّه في كل ما لا يحل (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فتجزون بأعمالكم: إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. ويحتمل قوله: (إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، أي: إلى حكمه تصيرون؛ كقوله - تعالى -: (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ... (97) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ قوله -تعالى -: (قِيَامًا

(98)

لِلنَّاسِ)، أي: ثباتا للناس ودوامًا؛ لأن اللَّه - تعالى - جعلها موضعًا لإقامة العبادات، من نحو: الحج، والطواف، والصلاة، وإراقة الدماء، والهدايا، وغير ذلك من العبادات، ثم إن تلك العبادات جعلها ثابنة دائمة لا تبدل ولا تنسخ أبدًا؛ فذلك معنى القيام للناس، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قيامًا بمعنى: قوامًا، أي: جعلها قوامًا لهم في معاشهم ومعادهم؛ لأنه جعلها مأمنًا لهم وملجأ؛ حتى أن من ارتكب كبيرة أو جرم جريمة ثم لجأ إليه، لم يتعرض له بشيء من ذلك، ولا يتناول منه، وكانوا إذا وجدوا هديًا مقلدًا لم يتعرضوا له وإن كانت حاجتهم إليه شديدة، ونحو هذا كثير مما يطول ذكره. وجعل فيها عبادات ومقصدًا ما لم يجعل في غيرها من البقاع: من قضاء المناسك وغيرها، وكذلك الشهر الحرام كان جعله مأمنًا لهم إذا دخلوا فيه، يأمنون من كل خوف كان بهم، وجعل في الهدايا والقلائد منفعة لأهلها؛ فكان في ذلك قوامًا لهم في معاشهم ومعادهم. وعن سعيد بن جبير: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ): شدة لدينهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا)، أي: ذلك الأمن وما ذكرنا من جعل الكعبة قوامًا لهم في معاشهم ومعادهم؛ (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، أي: على علم جعل هكذا قبل أن يكون أنه يكون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (ذَلِكَ)، أي: ما سبق ذكره من تحريف الكتب وتغييرها وتبديل نعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته، أي: على علم منه بالتحريف والتبديل خلقكم، لا عن جهل؛ ليمتحنكم؛ لما لا يضره كفر كافر، ولا ينفعه إيمان مؤمن، بل حاصل ضرر الكفر يرجع إلى الكافر، وحاصل نفع الإيمان يرجع إلى المؤمن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ... (98) أي: اعلموا أنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره، على ما علمتم أنه عن علم منه كان جميع ما كان. (وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) واعلموا -أيضًا- أن اللَّه غفور رحيم لمن تاب وأناب إليه، وشديد العقاب؛ لأن من العقوبات ما ليس بشديد، وخاصة عقوبة الآخرة أنه يعاقب

(99)

بالنار، وما من عقوبة إلا وقد يحتمل شيء منها سوى عقوبة النار؛ فإنه لا يحتملها أحد، ولأن عقوبات الدنيا وعذابها على الانقضاء، وعذاب الآخرة لا انقضاء له ولا فناء؛ لذلك وصف بالشدة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ) فيه وجهان: أحدهما: ردّا على من يقول: إن الموعظة لا تنفع ولا تنجع فيه إذا لم يكن الواعظ مستعملا لما يعظ غيره! إذ ليس أحد من الخلق أشد استعمالا من الرسل - عليهم السلام - ثم لا تنفع مواعظهم وذكراهم قومهم، ولا تنجع فيهم؛ لشؤمهم ولشدة تعنتهم. والثاني: إنباء أن ليس على الرسل إلا البلاغ، ولا ضرر عليهم بترك القوم إجابتهم؛ كقوله - تعالى -: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) ما تبدون من العداوة لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولأصحابه، وبنصب الحرب والقتال معهم، وما تكتمون من المكر له، والقصد لقتله؛ كقوله - تعالى -: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ) الآية كانوا يمكرون، ويقصدون قصد إهلاكه، لكن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أطلع رسوله على مكرهم، وأخبر أنه يعصمه عن الناس، وقال -: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ... (100) يحتمل وجهين: أحدهما: خرج عن سؤال قد سبق منهم عن كثرة الأموال؛ لما رأوا أُولَئِكَ كانوا يستكثرون ويجمعون من حيث يحل ولا يحل، فمالت أنفسهم إلى ذلك ورغبت، فقال:

(101)

(لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) كأنه قال: إن القليل من الطيب خير من الكثير من الخبيث، واللَّه أعلم. والثاني: أنهم رغبوا في عبادة أُولَئِكَ من الترهب والاعتزال عن الناس؛ لدفع أذى أنفسهم عنهم، وكثرة ما كانوا يتحملون من الشدائد والمشقة؛ فرغبوا في ذلك، وهموا على ذلك، على ما ذكر في القصة عن بعض أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنهم هموا أن يترهبوا ويعتزلوا من الناس؛ فقال: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) أن العمل القليل مع أصل طيب خير من الكثير مع خبث الأصل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّقُوا اللَّهَ) في مخالفة أمره ونهيه (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) فيه دلالة أن اللَّه لا يخاطب أحدًا إلا من كمل عقله وتم، وباللَّه العصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... (101) يحتمل: أن يكون النهي عن السؤال عن أشياء خرج عن أسئلة كانت منهم لم يكن لهم حاجة إليها؛ فنهوا عن ذلك إلى أن يقع لهم الحاجة فعند ذلك يسألون، كأنهم سألوه عن البيان والإيضاح لهم قبل أن يحتاجوا إليه؛ ألا ترى أنه قال: (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ. . .) الآية. ويحتمل: أن يكون خرج النهي عن السؤال ابتداء، على غير تقدم سؤال كان منهم، ولكن نهوا عن السؤال عنها. ثم يحتمل بعد هذا: أن كان منهم على ابتداء سؤال، كان من أهل النفاق يسألون سؤال تعنت لا سؤال استرشاد، يسألون منه آيات بعد ما ظهرت لهم، وثبت عندهم الحجج، وعرفوا أنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وإن كان النهي للمؤمنين فهو ما ذكرنا من سؤال البيان قبل وقوع الحاجة إليه.

(102)

وقيل: نزلت في قوم سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن أشياء: قال أحدهم: من أَبي؟ وقال آخر: أين أنا؟ قال: " أَنْتَ في النارِ، وَأَنْتَ ابْنُ فُلانٍ " ونحو ذلك من الأسئلة؛ فنهوا عن ذلك. وقيل: ذكر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الحج، فقال رجل: أفي كل - عام يا رسول اللَّه؟ فقال: " " لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، صَارَ مَفْرُوضًا، فَإِذَا صَارَ مَفْرُوضًا تَرَكْتُم، وَإذَا تَرَكْتُم جَحَدْتُمْ، وَإِذَا جَحَدْتُم كَفَرتُم؛ لأنَّ مَنْ جَحَدَ فَرضًا مِمَّا فَرَضَهُ اللهُ كَفرَ " أو كلام نحو هذا، ولا يجب أن يفسر هذا أنه كان في كذا؛ إذ ليس في كتاب اللَّه بيان سوى أن فيه النهي عن سؤال ما لا يحتاج إليه. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنه - قال: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) قد عفا اللَّه عنها (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)، أي: تظهر لكم تسؤكم، أي: أمرتم العمل بها، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) هذا يدل على أن النهي عن السؤال في الآي لأحد شيئين: إما أن سألوا الآيات عنه بعد ما ظهرت وثبتت لهم رسالته، فلما أتى بها كفروا بها؛ ألا ترى أنه قال: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ)، وقد كان الأمم السالفة يسألون من الرسل - عليهم السلام - الآيات بعد ظهورها عندهم.

(103)

ويحتمل: ما ذكرنا من قولهم: أين نحن؟ ومن أبي؟ ومن أنا؟ ونحوه، فلما أن أخبرهم بذلك كفروا به، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ): أي: ما جعل اللَّه قربانا مما جعلوا هم؛ لأنهم كانوا يجعلون ما ذكر من البحيرة والسائبة؛ وما ذكر قربانا يتقربون بذلك إلى الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها دون اللَّه، فقال: ما جعل الله من ذلك شيئًا مما جعلتم أنتم من البحيرة والسائبة، فقوله: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ. . .) وما ذكر، أي: ما أمر بذلك، ولا أذن به. قيل: حرم أهل الجاهلية هذه الأشياء، منها: ما حرموه على نسائهم دون رجالهم، ومنها: ما حرموه على الرجال والنساء، ومنها: ما جعلوه لآلهتهم به. ثم قيل: البحيرة: ما كانوا يجدعون آذانها ويدعونها لآلهتهم. والسائبة: ما كانوا يسيبونها. والوصيلة: ما كانت الناقة إذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن قالوا: وصلت أخاها؛ فلم يذبحوها، وتركوها لآلهتهم. قال أبو عبيد: البحيرة: إذا نتجت خمسة أبطن قطعت آذانها وتركت. والسائبة: إذا ولدت خمسة أبطن سيبت؛ فلا ترد عن حوض ولا علف. والوصيلة من الغنم: إذا ولدت

عناقين تركا، وإذا ولدت عناقًا وجديًا، قالوا: وصلت العناق الجدي وتركا، وإذا نتجت جديًا ذبح. والحامي: إذا نظر إلى عشرة من ولده، قيل: حمى ظهره؛ فلا يركب، ولا يحمل عليه شيء. وقال مجاهد: (وَلَا حَامٍ): إذا ضرب الجمل من ولد البحيرة فهو الحامي، والحامي: اسم. والسائبة من الغنم على نحو ذلك، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد كانت على هيئتها، فإذا ولدت السابع ذكرًا أو ذكرين نحر، فأكله رجالهم دون نسائهم، وإن أتأمتْ بذكر وأنثى فهي وصيلة؛ يترك ذبح الذكر بالأنثى، وإن كانتا اثنتين تركتا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: البحيرة: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن والخامس ذكر نحر، فأكله رجالهم ونساؤهم، وإن كان الخامس أنثى شقوا أذنها، وكان حرامًا على النساء لحمها ولبنها، فإذا ماتت حلت للنساء. والسائبة: البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه اللَّه من مرضه، أو بلغه منزله، أن يفعل ذلك. والوصيلة من الغنم: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا: فإن كان السابع ذكرا ذبح، فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرًا أو أنثى، قالوا: وصلت أخاها؛ فلم يذبح لمكانها، وكان لحومهما حرامًا على النساء، وليست الأنثى حرامًا على النساء، إلا أن يموت منهما شيء فيأكله الرجال والنساء. والحامي: الفحل إذا ركب ولد ولده. ويقال: إذا نتج من صلبه عشرة أبطن، قالوا: حمى ظهره، ولا يركب، ولا يمنع من كلأ ولا ماء.

(104)

كانوا يحرمون الانتفاع بما ذكرنا، ويقولون: إن اللَّه حرم ذلك علينا، وهو ما ذكر في آية أخرى قوله - تعالى -: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) الآية، يحرمون أشياء على أنفسهم، ويضيفون تحريمها إلى اللَّه، ثم سفه أحلامهم بقوله: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ)، لم يكن تحريمهم هذه الأشياء بالسمع، ولكن رأيًا منهم وتبحثًا؛ فاحتج اللَّه عليهم على ذلك الوجه؛ ليظهر فساد قولهم من الوجه الذي ادعوا، فقال: (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) فإن قالوا: الذكرين، فقد كان من الذكر ما لم يحرم، وإن قالوا: أنثى، فقد كان من الأنثى ولم يكن فيها تحريم؛ ففيه دليل أن الحكم إذا كان بعلة يجب وجوب ذلك الحكم ما كانت تلك العلة قائمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ... (104) الآية، كأنها نزلت في مشركي العرب، وكانوا أهل تقليد، لا يؤمنون بالرسل، ولا يقرون بهم، إنما يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان والأصنام، فإذا ما دعاهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى ما أنزل اللَّه إليه، أو دعاهم أحد إلى ذلك، قالوا: (حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)، كقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) ونحو ذلك: يقلدون آباءهم في ذلك؛ فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)، أي: تتبعون آباءكم وتقتدون بهم، وإن كنتم تعلمون أن آباءكم لا يعلمون شيئًا في أمر الدِّين ولا يهتدون، وكذلك قوله: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) تتبعون آباءكم وتقتدون بهم، وإن جنتكم بأهدى مما كان عليه آباؤكم؛ يسفههم في أحلامهم في تقليدهم آباءهم، وإن ظهر عندهم أنهم على ضلال وباطل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ... (105)

ظن بعض الناس أن الآية رفعت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعة في ترك ذلك، وليس فيه رفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ولكن فيه إنباء أن ليس علينا فيما يرد ولا يقبل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - شيء، وهو كقوله - تعالى -: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، وكقوله - تعالى -: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ. . .) الآية. ليس فيه رخصة ترك تبليغ الرسالة إليهم، ورفعه عنه، ولكن إخبار أن ليس عليه فيما يرد وترك القبول شيء، كقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. ويحتمل: أن يكون في الآية دليل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه قال: (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) بترك قبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أنتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، وبذلك وصف اللَّه هذه الأمة بقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). وعن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ لَم يَرحَم صَغِيرَنَا، وَلَم يُوَقر كَبِيرَنَا، وَلَم يَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ، وَلَم يَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَيسَ مِنَّا ". وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دخل عليَّ - وقد حفزه - النفس، فتوضأ، ثم خرج إلى المسجد، فقمت من وراء الحجاب، فصعد المنبر، ثم قال: " أَيهَا النَّاسُ، إن اللهَ يَقُولُ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهوا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبلَ أَنْ تَدْعُونِي فَلَا أُجِيبَكُم، وَتَسألُوني فَلَا أُعْطِيكُم، وَتَستَغِيثُونِي فَلَا أُغِيثَكُم، وَتَستَنْصِرُوني فَلَا أَنْصُرَكُم ". وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (يَا أَيُّهَا الناس، إنكم تقرءون هذه

الآية، وإني سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَم يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَاب "، وبقوله: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) الآية. ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتب: مع الكفرة: بالقتال والحرب، ومع المؤمنين: باليد واللسان. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب فرض، ما لم يدخل في ذلك فساد، ويصير الأمر به والنهي عنه منكرًا، فإذا خشوا ذلك يرخص لهم الترك، وإلا روي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " قولوها ما لم يكن دونها السيف والسوط، فإذا كان دونها السيف والسوط فعليكم أنفسكم ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا). الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والذي يرد عليه المعروف والنهي عن المنكر. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). خرج على الوعيد والتحذير. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي

(106)

الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ... (106) اختلف فيه: عن قتادة قال: رجل مات بقرية من الأرض وترك تركة، وأوصى وصية، وأشهد على وصيته رجلين، فإن اتهما في شهادتهما استحلفا بعد صلاة العصر، وكان يقال: عندها تصبر الأيمان. (فَإِنْ عُثِرَ)، أي: اطلع منهما على خيانة على أنهما كتما أو كذبا، وشهد رجلان أعدل منهما بخلاف ما قالا، أجيزت شهادتهما، وأبطلت شهادة الأولين. (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) من المسلمين، (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) من أهل الكتاب إذا كان ببلد لا يجد إلا هَؤُلَاءِ. وعن الحسن قال: (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ): أي: من عشيرتكم، أو آخران من غير عشيرتكم، فيقول: إن الحق على المسلم إذا أراد أن يوصي أن يسند الوصاية إلى أهل عشيرته، وكذلك يشهد على ذلك من أهل عشيرته؛ لأن أهل عشيرته أحفظ لذلك، وأحوط، وأكثر عناية، وأقوم للشهادة، ولا كذلك الأجنبيان. فإن قال قائل: خاطب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - المؤمنين جملة بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) الآية، فكيف يحتمل أن يكون قوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) من غير عشيرتكم، وكيف لا؟ انصرف قوله: أو آخران من غيركم من غير دينكم؟ فنقول سبحان اللَّه!! ما أعظم هذا القول!! يرد شهادة موحد، مخلص دينه لله لفسق يرتكبه، ويأمر بقبول شهادة كافر، كاذب، قائل للَّهِ بالولد والشريك، هذا مما لا يحتمل. وقال -أيضًا-: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ) وهم كانوا يستهزئون بالصلاة إذا نودي

لها بقوله: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا) دل أنه لا يحتمل ما ذكروا. وعن سعيد بن جبير في قوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) قال: إذا حضر المسلم الموت في السفر فلم يجد مسلمين، فأوصى إلى أهل الكتاب، فإن جاءوا بتركته فاتهموا حلف هَؤُلَاءِ أن متاعه كذا وكذا وأخذوه. وبعض الناس يجيزون شهادة النصارى واليهود في السفر في الوصية بظاهر الآية. وقال مجاهد: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ): من غير ملتكم. وعن عامر الشعبي قال: شهد نصرانيان على وصية مسلم مات عندهم، فارتاب أهل الوصية، فأتوا بهما إلى أبي موسى الأشعري، فاستحلفهما بعد صلاة العصر باللَّه ما

اشتريتما به ثمنا قليلا، ولا كتما شهادة اللَّه، إنا إذن لمن الآثمين. ثم قال أبو موسى الأشعري: واللَّه، إن هذه لقصة ما قضى بها منذ مات رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى اليوم. قد بين الشعبي أن أبا موسى إنما استحلفهما فيما اتهما به من تركة الميت، وهذه يمين واجبة عند المسلمين جميعًا، ولم يحلفهما على أن ما شهدا به كما شهدا به؛ كما زعم قوم أن شهادتهما تصح بيمينهما. وعن عبد اللَّه بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرج رجل من المسلمين، فمر بقرية ومعه رجلان من المسلمين، فدفع إليهما ماله، ثم قال: ادعوا إليَّ من أشهد على ما قبضتما. فلم يجدا أحدًا من المسلمين في تلك القرية، فدعوا ناسًا من اليهود والنصارى، وأشهدهم على ما دفع إليهما، ثم إن المسلمين قدما إلى أهله، فدفعا ماله إلى أهله، فقال الورثة: لقد كان معه من المال أكثر مما أتيتما به. فاستحلفوهما باللَّه ما دفع إليهما غير هذا. ثم قدم ناس من اليهود والنصارى، فسألهم أهل الميت، فأخبروهم أنه هلك بقريتهم، وترك كذا وكذا من المال؛ فعلم أهل المتوفى أن قد عثروا على أن المسلمين قد استحقا إثمًا، فانطلقوا إلى ابن مسعود، فأخبروه بالذي كان من أمرهم، فقال ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -: ما من كتاب اللَّه من شيء إلا قد جاء على الدلالة إلا هذه الآية، فالآن جاء تأويلها فأمر المسلمين أن يحلفا باللَّه (لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ). ثم أمر اليهود والنصارى أن يحلفوا باللَّه لقد ترك من المال كذا وكذا، ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلمين، وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين ثم أمر أهل الميت أن يحلفوا باللَّه: أن كان ما شهدت به اليهود والنصارى حق

فحلفوا، فأمرهم ابن مسعود أن يأخذوا من المسلمين ما شهدت به اليهود والنصارى. وكان ذلك في خلافة عثمان بن عفان. فإن ثبت هذا عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهو خلاف ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَوْ يُعْطَى الناسُ بِدَعْوَاهُم لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُم، لَكِنَّ البينَةَ عَلَى المُدعِي، واليَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِى عَلَيهِ ". وهو -أيضًا- غير موافق لظاهر الآية؛ فلا نراه ثبت هذا عن عبد اللَّه بن مسعود، رضي اللَّه عنه. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: كان رجل يقال له: تَمِيمُ الدَّارِيُّ وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءَ يختلفان

إلى مكة في التجارة، فخرج رجل من بني سهم، فتوفي بأرض ليس فيها مسلم؛ فأوصى إليهما، فدفعا تركته إلى أهله، وحبسا جامًا من فضة، فاستحلفهما رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما كتمتما ولا اطلعتما. ثم عُرِفَ الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا باللَّه: إن هذا الجام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما، فأخذوا الجام، وفيهم نزلت هذه الآية. وفي هذا الحديث أن اليمين وجبت على المدعَى عليهم كما ادعى عليهم الورثة: أنهم تركوا بعض تركة الميت، وفيه أن الإناء لما ظهر ادعى تميم وصاحبه، أنهما اشترياه من الميت فكانا مدعيين، وحلف الورثة على دعواهم وصاحبه وهذان حكمان موافقان لسائر الأحكام والسنن، فإن كان الأمر كما ذكر في هذا، فليس في الآية نسخ، ولا فيها ما يخالف الأحكام الظاهرة، وليس يجوز - عندنا - أن يحلف الشاهدان إذا كانا كافرين مع شهادتهما؛ لأن ظاهر الآية يوجب اليمين على العدلين منا ومن غيرنا، فلما لم يجز أن يحلف الشهود المسلمين على الوصية التي يشهدون لها، وإنما يحلفون على شيء إن ادعوا أنهم حبسوه شيئًا، كان سبيل الكفار كذلك. وإذا كانت الآية نزلت في قصة تميم وصاحبه وكانا نصرانين، فإن ذلك يدل على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فمعنى الآية على هذا التأويل، - واللَّه أعلم - أن يكون الميت خلف تركته عند ذميين، على ما ذكر في القصة، وقالا: ترك في أيدينا كذا وكذا، وادعى الورثة أكثر من ذلك، فاستحلف المدعى قبلهم، وقوله: (تَحْبِسُونَهُمَا) على هذا التأويل هو المدعى عليهما.

(107)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ... (107) يريد - واللَّه أعلم - أن يشهد عليهما شاهدان منا أو منهم بشيء جحداه: أنه من تركة الميت؛ فهذا استحقاق الورثة، فإذا قال المدعي قبلهما: اشتريناه من الميت، فعلى الورثة أن يحلفوا؛ فهذا - واللَّه أعلم - معنى قوله: (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا)؛ لأن الورثة صاروا مدعى عليهم، فقاموا في هذه الحال في وجوب اليمين عليهم مقام الأولين لما كانت الدعوى عليهم؛ فهذا - واللَّه أعلم - أقرب الوجوه في تأويل الآية وأشبهها، وهو - إن شاء اللَّه - معنى ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإن لم يذكر تفسير قوله: (مِن غَيْركُم) وهو - واللَّه أعلم -: على غير ديننا؛ لأنه ذكر المؤمنين جملة. وأصحابنا لا يجيزون شهادة أهل الكفر في الوصية لمسلم، لا في ضرورة ولا في غيرها؛ لأنهم مع اختلافهم اتفقوا في أن شهادة الكفار لا تجوز على غير الوصية في حال ضرورة، ولا في غيرها، فشهادتهم في الوصية على المسلمين مثل ذلك. ويمكن أن يكون تأويل الآية: (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) في بيان ما يجوز من شهادة ذوي العدل منا في الحضر والسفر في الوصية وفي غير الوصية؛ كقوله (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ). وقوله - تعالى -: (ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)، الآية، هذا في السفر والحضر. وفي الدَّين وغير الدَّين سواء، فعلى ذلك الأول، ثم ابتدأ الحكم في غيره، فقال: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ). فَإِنْ قِيلَ: فما معنى قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا)؟ قيل: في ذلك بيان أن المؤتمن إذا ادعيت عليه الخيانة، وقال هو: قد ردت ما كان في يدي؛ فإنه لا يصدق إلا بعد أن يحلف، فإذا علم أنه لا يقبل قوله إلا بيمين كان

(108)

أحرى أن يقول حذرًا من أن يحلف على كذب، أو يقر خوفًا من الإثم في اليمين فتبين خيانته. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ)؟ قيل: يحتمل أن يكون على زيادة التغليظ في اليمين، وللحاكم أن يغلظ في اليمين على الخصم إذا اتهمه بأكثر من هذا، وهو أن يحضر يمينه جماعة إذا سأل الخصم ذلك. أو ذكر بعد الصلاة؛ لما كان ذلك الوقت هو وقت لجلوس الحاكم بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العصر لا على التغليظ، وإن كانت الآية نزلت - فيما ذكر ابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنه - في نصرانيين، فقد يجوز أن يكون اللَّه أمر بذلك تغليطا عليهما، وهما تميم وصاحبه؛ إذ كانوا يعظمون وقت غروب الشمس وما قرب من ذلك، ووقت طلوعها؛ لأنه وقت عبادتهم إياها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: فإن اطلع منهما على خيانة: أنهما كتما وكذبا، فجاء آخران يشهدان على غير ما شهدا عليه أجيزت شهادة الآخرين، وأبطلت شهادة الأولين. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَإِنْ عُثِرَ): أي: ظهر. وقال: أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (فَإِنْ عُثِرَ): أي: علم واطلع عليه، يقال: عثرت على فلان، وعلى ما يفعل فلان، أي: علمت به واطلعت عليه، أعثر عثرًا وقوله (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ) في سورة الكهف من هذا، أي: اطلعنا عليهم، وأعلمناهم بمكانهم، ويقال: أعثرت فلانا على سر فلان، أي: أعلمته. ثم وعظ اللَّه المؤمنين، وحذرهم أن يفعلوا مثل ذلك، فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ... (108) مواعظه (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) ما داموا في فسقهم، أو قال ذلك لقوم علم اللَّه منهم أنهم لا يرجعون عن ذلك أبدًا. * * * قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ

(109)

النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) قال أهل التأويل: بل إنما يقولون ذلك؛ لفزعهم من هول ذلك اليوم وشدته، تطير قلوبهم، وتذهل أفئدتهم، فيقولون: (لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). فلو كان ذلك منهم للهول والفزع على ما قاله أهل التأويل لكان لا يتهيأ لهم الإجابة، وقد قالوا: (لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)؛ دل أنه لا لما ذكروا، ولكن للوجهين الآخرين، واللَّه أعلم. أحدهما: أن سألهم عن حقيقة إجابة قومهم لهم بالضمائر، أي: لم تطلعنا على علم الضمائر والغيوب، فأنت أعلم بذلك. والثاني: أن أحدثوا أمورا وأبدعوها من دأب أنفسهم، فنسبوا ذلك إلى الرسل؛ كقوله - تعالى -: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ. . .) إلى قوله: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ)، كأنهم قالوا: إن عيسى - عليه السلام - هو الذي دعاهم إلى ذلك، فيقول لهم: ماذا أجبتم؟ فقالوا: لا علم لنا فيما ادعوا علينا من الأمور التي أتوها، إنك أنت علام الغيوب بأنا لم نقل لهم، ولم نَدْعُهُم إلى ما ادَّعَوا من الأمور. على هذين الوجهين يخرج تأويل الآية، واللَّه أعلم.

(110)

ومثل هذا السؤال لهم بما أخبر في آية أخرى: أنه يسألهم؛ كقوله: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) يسأل الرسل عن تبليغ الرسالة إلى قومهم، ويسأل قومهم عن إجابتهم لهم؛ ليقطع احتجاجهم، وإن لم يكن لهم الحجاج. (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ). أما نعمه عليه ما ذكر على إثره: (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا. . .) إلى قوله: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ)، شهد في حال طفولته بوحدانية اللَّه وربوبيته وإخلاص عبوديته له، وذلك من أعظم نعم اللَّه عليه وأجل مننه، وما ذكره أيضًا: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي. . .) الآية. إلى آخر ما ذكر من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وكف بني إسرائيل عنه عند مجيء الآيات، وهو كقوله - تعالى -: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، ففيه أعظم النعم عليه، وما ذكر -أيضًا- في بعض القصة - إن ثبت - أن عيسى لما دُفِعَ إلى الكُتَّابِ جعل المعلم يقول له: باسم، فيقول هو: باسم اللَّه، وإذا قال المعلم: باسم اللَّه، فيقول هو: الرحمن، وإذا قال: الرحمن، فيقول هو: الرحيم، فيقول المعلم:

كيف أعلم من هو أعلم مني؟ ونحو هذا كثير مما يكثر ويطول ذكره، وأما ما أنعم اللَّه على والدته هو ما ذكر في قوله - تعالى -: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا) وما ذكر في قوله: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، طهرها عن جميع ما تبلى به بنات آدم؛ فذلك من أعظم النعم، وأجل المنن، ثم أمر عيسى بشكر ما أنعم عليه وعلى والدته؛ حيث قال: (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ) وفي ذكر النعم شكرها، وأمر -أيضًا- بشكر ما أنعم على والدته ليعلم أن على المرء شكر ما أنعم على والدته، كما يلزم شكر ما أنعم على نفسه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: بروحه المبارك الذي أعطى في حال طفولته، به كان يدعو الناس إلى توحيد اللَّه وعبادتهم له. وقيل: إن روح القدس هو الدعاء المبارك الذي به كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص بدعائه. وقال أهل التأويل: الروح: هو جبريل، والقدس هو اللَّه؛ كقوله - تعالى -: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) أي: جبريل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) قال الحسن: الكتاب والحكمة واحد، الكتاب هو الحكمة، والحكمة هي الكتاب؛ لأن جميع كتب اللَّه كان حكمة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكتاب: ما يكتب من العلم، والحكمة: هي ما يعطى الإنسان من العلم على غير تعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكتاب: هو ما يحفظ، والحكمة هي الفقه، وهو واحد.

(111)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي). قوله: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ): أي: تصور وتقدر (مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) كان من عيسى التصوير والتقدير، وإلا كان التخليق من اللَّه في الحقيقة؛ لأنه هو المنفرد به دون الخلق، غير أنه أجرى ذلك على يدي عيسى؛ ليكون له آية لصدقه ونبوته، وعلى ذلك الآيات التي يأتي بها الرسل، ليست الرسل يأتون بها في الحقيقة، بل كان اللَّه هو الآتي بها، والمنشئ تلك الآيات حقيقة، لكنه يجريها على أيدي الرسل؛ لتكون آيات صدقهم، ودلالات رسالتهم، فأما أن يأتي الرسل بالآيات والحجج من عند أنفسهم فلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تخلُقُ) ذكر التخليق؛ لما تسمي العرب تصوير الشيء وتقديره: تخليقًا؛ فعلى ذلك خرج الخطاب، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) قيل: الأكمه: الذي يولد أعمى، وأما الأعمى فهو الذي يذهب بصره بعد ما كان بصيرًا. وقيل الأكمه: هو الذي لا حدقة له، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. قوله تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) والحواريون: قيل: هم خواصه، وكذلك أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هم حواريوه، وقد ذكرنا هذا في سورة آل عمران والاختلاف فيه. ثم قوله: (أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) يحتمل الوحي إليهم وجهين: أحدهما: أنه أوحى إلى رسوله عيسى - عليه السلام - فنسب ذلك إليهم وأضيف؛ لأن الوحي إلى عيسى كالوحي إليهم؛ كقوله - تعالى -: (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) وما أنزل علينا، وما أنزل على كذا ما أنزل إلى رسول الله كالمنزل إلينا؛ فعلى ذلك الوحي إلى عيسى هو كالوحي إليهم. والثاني: أوحى إليهم وحي إلهام؛ كقوله (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) الآية،

(112)

وقوله - تعالى - (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) ونحوه، أنه وحي إلهام وقذف لا وحي إرسال، والقذف في القلب من غير تكلف ولا كسب، وهو الإخطار بالقلب على السرعة (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي). والخطر يكون من اللَّه تعالى، ويكون من الشيطان، لكن ما يكون من اللَّه تعالى يكون خيرًا، يتبين ذلك في آخره. وقوله - عَزَّ وجل -: (قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) يحتمل وجهين: يحتمل: أن قالوا لعيسى: واشهد أنت عند ربك بأننا مسلمون. ويحتمل: أن سألوا ربهم: أن يكتبهم من الشاهدين؛ كقوله - تعالى -: (آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ... (112) اختلف فيه: قيل: إن قومًا من غير الحواريين سألوا الحواريين أن يسألوا عيسى - عليه السلام - حتى يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء؛ لأن الحواريين قد قلنا: إنهم كانوا خواص عيسى - عليه السلام - فكان كمن بدت له حاجة إلى بعض الملوك؛ فإنه إنما يرفع أولا إلى خواصه؛ فهم الذين يتولون رفعها إلى الملك؛ فعلى ذلك رفعوا حاجتهم إلى الحواريين؛ ليسألوا هم نبي اللَّه عيسى - عليه السلام - ليسأل ربه. وقال آخرون: لم يسألوا قومهم ذلك؛ ولكن الحواريين هم الذين سألوا عيسى - عليه السلام - أن يسأل ربه حتى ينزل عليهم مائدة من السماء، لكن سؤالهم ذلك يحتمل وجوها: الأول: يحتمل سألوا ذلك؛ لما أرادوا أن يشاهدوا الآية، ولم يكونوا شاهدوا قبل ذلك؛ فأحبوا أن يشاهدوها، وإن كانوا قد آمنوا به وصدقوه من قبل؛ ليزداد لهم بذلك طمأنينة ويقينًا، وهو كقول إبراهيم - عليه السلام -: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، لما يحتمل أن نفسه كانت تحدث وتنازع في ذلك، وأحب أن يعاين ذلك ويشاهده؛ ليزداد له طمأنينة ويقينًا؛ فعلى ذلك أُولَئِكَ

كانت أنفسهم تحدث وتنازع في مشاهدة الآيات؛ فأحبوا أن يريهم بذلك؛ ليزداد لهم - طمأنينة ويقينًا وصلابة في التصديق، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل أن يكون عيسى يخبرهم أن لهم كرامة ومنزلة عند اللَّه؛ فأحبوا أن يعرفوا منزلتهم عند اللَّه وكرامتهم. والثالث: سألوا ذلك؛ ليعرفوا منزلة عيسى - عليه السلام - عند اللَّه وكرامته: هل يجيب ربه دعاءه إذا سأل ربه؟ واللَّه أعلم. وإن كان السؤال من قوم غير الحواريين؛ فهو لما بدت لهم من الحاجة إليها، ولا نعلم ذلك إلا بالخبر الصادق. وقوله: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) يقرأ بالياء والتاء جميعًا: فمن قرأ بالتاء ذهب في التأويل إلى أن فيه إضمارًا؛ كأنهم قالوا: هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء. ومن قرأ بالياء قال: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ)، أي: هل يجيب ربُّك دعاءك إذا دعوته أن ينزل علينا مائدة من السماء. قال الفراء: قد يكون مثل هذا السؤال على غير الجهل من السائل بالمسئول؛ لأنه يجوز أن يقال في الكلام: هل يستطيع فلان أن يقوم في حاجتنا وفي أمرنا، على علم منه أنه يستطيع، ولكنه يسأل عنه: أيفعل أم لا؟ وذلك جائز في العربية؛ ألا ترى أن قراءة من قرأ بالتاء - وهو ابن عَبَّاسٍ وعائشة: (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ) - على علم منهم أن عيسى يستطيع السؤال لربه؟! لكنهم قالوا ذلك لما ذكرنا، وذلك جائز في اللغة. ويجوز أن يراد بالاستطاعة: الإرادة، يقول الرجل لآخر: لا أستطيع أن أنظر إلى فلان، وهو يقدر النظر، لكنه يريد بذلك: لا أريد أن أنظر إليه؛ فعلى ذلك قوله: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ): هل يأذن لك ربُّك بالسؤال في ذلك، واللَّه أعلم.

(113)

وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). أي: اتقوا اللَّه، ولا تسألوا شيئًا لم يأذن لكم في ذلك (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ... (113) قوله: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا)، يدل أنهم سألوا ذلك؛ لما كانت تحدث أنفسهم وتنازع في مشاهدة الآيات ومعاينتها، وإن كانوا صدقوا عيسى - عليه السلام - فيما يقول لهم ويخبر عن اللَّه؛ للمعنى الذي ذكرنا في إبراهيم عليه السلام، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا). اختلف في تلاوته وفي تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ بالنصب (وَنَعْلَمَ)، فهي القراءة الظاهرة المشهورة، ومعناه: وأن نعلم ما قد صدقتنا. والثاني: أن العلم بالشيء من جهة الخبر ربما يعترض الوساوس والشبه؛ فطلبوا آية من جهة الحس والعيان؛ ليكون ذلك أدفع لما يعترض من الشبه والوساوس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ). أي: نكون عليها لمن أنكرها من الشاهدين: أنها نزلت. قوله تعالى: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا). أي: طعامًا دائمًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله (تَكُونُ لَنَا عِيدًا)، أي: مجتمعًا، وسمي يوم العيد؛ لاجتماع الخلق. ثم قيل: نزلت يوم الأحد؛ فجعلوا ذلك اليوم يوم عيدهم. ثم اختلف في نزول المائدة: قال الحسن: لم تنزل المائدة؛ لأنه سأل أن تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا، ونحن من آخرهم، فلم يكن لنا ما ذكر. والثاني: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)، وقد كفر منهم، ثم لم يظهر أنه عذبهم عذابًا لم يعذبه أحدًا

(115)

من العالمين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس فيه دلالة أنها لم تنزل؛ لأنه يجوز أن يكون قوله: (تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا) ما لم يأت النسخ، فكان لهم ذلك إلى أن بعث نبيُّنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فنسخ ذلك بيوم الجمعة. وقالوا: قوله: (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) ذكر في بعض القصة أن من كفر منهم بعد ذلك مسخهم خنازير، فذلك تعذيب لم يعذبه أحدًا من العالمين. وقيل: يحتمل قوله - تعالى -: (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) في الآخرة، واللَّه أعلم بذلك كله. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. . .) الآية. يحتمل هذا القول أوجهًا ثلاثة: أحدها: أن كان هذا القول منه في الوقت الذي كان عيسى بين أظهرهم؛ ليكون ذلك آية وحجة لمن تبعه على من زاغ عن طريقه، وضل عن سبيل الهدى؛ لأنه تبرأ أن يكون قال لهم ذلك. ويحتمل: أن يكون قال ذلك له وقت رفعه إلى السماء: قرر عنده أن قومه يقولون ذلك القول بعد مفارقته قومه. وقيل: إنه يقول ذلك له يوم القيامة ويكون " قال " بمعنى: " يقول "؛ كقوله - تعالى -: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ)، وكقوله - تعالى -: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ

(117)

فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا)، أي: يقولون، وذلك جائز " قال " بمعنى: " يقول "، وذلك في القرآن كثير. واتخاذهم عيسى وأمه إلهين قول متناقض؛ لأنهم سمَّوها: أم عيسى؛ فإذا ثبتت لها الأمومة بطل أن تكون إلهًا؛ وكذلك عيسى: إذا ظهر أنه كان ابنا لها، بطل أن يكون إلها؛ لأنه لا يكون ابن غيره إلهًا، لكنهم قوم سفهاء، يقولون ذلك عن سفه. (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أي: لا ينبغي لي أن أقول ما ليس ذلك بحق. (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ). يتكلم في النفس على وجهين: أحدهما: يراد ما يضمر. والثاني: على إرادة الذات؛ فإن كان اللَّه يتعالى عن أن يوصف بالذات كما يوصف الخلق؛ دل أنه إنما يراد بذلك غيره، وهو أن يقال: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، أو يقول: تعلم ما كان مني ولا أطلع على غيبك. (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). أي: إنك أنت علام ما غاب عن الخلق. قوله تعالى: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ). أي: ما دعوتهم إلا إلى ما أمرتني أن أدعوهم إليه من التوحيد والعبادة لك. وقوله: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا). أي: شاهدًا عليهم. هذا يدل على أن ذلك القول كان منه وقت رفعه إلى السماء، أو يكون يوم القيامة. ويقال: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ)، أي: كنت عليهم حفيظًا ما كنتُ بين أظهرهم. (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ). أي: الحفيظ عليهم.

(118)

(وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). بما أمرتهم من التوحيد والعبادة لك، وشاهدًا عليهم بما قالوا من البهتان. وذكر في بعض القصة: لما قال اللَّه - تعالى - لعيسى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) - قيل: فَأُرعِدَتْ مفاصله، وخشي أن يكون قالها؛ فقال: (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ. . .) الآية. وذكر -أيضًا- متكلمان يتكلمان يوم القيامة: نبي اللَّه عيسى ابن مريم - عليه السلام - وعدو اللَّه إبليس - لعنه اللَّه -: فأما كلام عيسى - عليه السلام - يقول اللَّه: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)؛ فقال عيسى ابن مريم - عليه السلام -: (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ. . .) إلى قوله: (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وأما كلام اللعين: فيقول: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) اختلف فيه: عن الحسن قال: يقول ذلك في الآخرة: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) إن تعذب من مات على ما كان منه من القول الوخش في اللَّه، (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ)، أي: وإن تغفر لمن أكرمت له بالإسلام والهدى (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)؛ لأن منهم من قد آمن بعد هذا القول الوخش في اللَّه. وقال آخرون: هذا القول كان من عيسى في الدنيا: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ)، يقول: إن تعذب من مات على الكفر الذي كان منهم (فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإن تَغفِر) من أكرمت له الهدى (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي: أنت العزيز وهم عبادك أذلاء. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فإنك أنت الغفور الرحيم) وهو ظاهر؛ لأنه ذكر أنه غفور على إثر المغفرة. وروي في الخبر أن نبي اللَّه - عليه السلام - كان أحيا ليله بقوله: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) به قام، وبه سجد، وبه قعد، فهو - واللَّه أعلم - على

(119)

التشفع والتضرع إليه؛ كأنه قال: إن خذلتهم فمن الذي ينصرهم ويدفع ذلك عنهم دونك، وهم عبادك أذلاء؟! وإن أكرمتهم فمن الذي يمنعك عن إكرامهم؟!. والثاني: إن تعذبهم فلك سلطان عليهم، ولست أنت في تعذيبك إياهم جائرا؛ لأنهم عبادك؛ لأن الجور هو المجاوزة عن الحد الذي له إلى الحد الذي ليس له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ... (119) قيل: " قال. . . " بمعنى: " يقول اللَّه يوم القيامة " (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)، أي: اليوم ينفع الصادقين صدقهم في الدنيا، وينفع صدق الصادق -أيضًا- في الدنيا؛ لأنه إذا عرف بالصدق قُبِلَ قوله، وإن لم يظهر صدقه في قوله. ثم اختلف في الصادقين من هم؟: قَالَ بَعْضُهُمْ: هم المؤمنون جملة، أي: يومئذ ينفع إيمان المؤمنين، وتوحيد الموحدين في الدنيا؛ كقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصادقون: هم الأنبياء، عليهم السلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). قد ذكرناه فيما تقدم. (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا). و" خالدين " و " أبدًا " واحد؛ لكنه يذكر على التأكيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ). لسعيهم في الدنيا. (وَرَضُوا عَنْهُ). بالثواب لسعيهم. ويحتمل: (وَرَضُوا عَنْهُ) بما وفقهم على سعيهم المحمود في الدنيا (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). لأنه ليس بعده خوف الهلاك، ولا خوف الفوت؛ فهو الفوز العظيم، ليس كفوز الدنيا؛

(120)

لأنه لا يذهب عنه خوف الهلاك، ولا خوف الفوت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ... (120) كأنَّ هذا خرج على إثر قوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، أي: كيف يتخذ أربابًا وولدًا وله ملك السماوات والأرض وملك ما فيهن من الخلق، كلهم عبيده وإماؤه؟!. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). لا يعجزه شيء، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. * * *

سورة الأنعام

سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) الحمد: هو الثناء عليه بما صنع إلى خلقه من الخير. ألا ترى أن الذم نقيضه في: الشاهد، ويحمد المرء بما يصنع من الخير، ويذم على ضده. فالتحميد: هو تمجيد الرب، والثناء عليه، والشكر له بما أنعم عليهم.

والتسبيح: هو تمجيد الرب وتنزيهه عما قالت الملحدة فيه من الولد وغيره. والتهليل: هو تمجيد الرب وتنزيهه عما جعلوا له من الشركاء والأضداد، والوصف له بالوحدانية والربوبية. والتكبير: هو تمجيد الرب والوصف له بالعظمة والجلال، وتنزيهه عمّا وصفوه

بالعجز والضعف عن أن يكون ينشئ من العظام البالية خلقًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ). سفههم - عَزَّ وَجَلَّ - بما جعلوا له من الشركاء والأضداد على إقرار منهم أنه خلق السماوات والأرض، ولم يجعلوا له شركاء في خلقهما، وعلى علم منهم أنه تُعَلَّق منافع الأرض بمنافع السماء، مع بعد ما بينهما كيف جعلوا شركاء يشركونهم في العبادة والربوبية؟!. وقوله - تعالى -: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ). قال الحسن: الظلمات والنور: الكفر والإيمان.

(2)

وقال غيره من أهل التأويل: الليل والنهار في الحقيقة ما يكشف عما استتر من الأبصار: أبصار الوجوه، وأبصار القلوب. والظلم ما يستر ويغطي على الأبصار: أبصار الوجوه، وأبصار القلوب، فالظلمة تجعل كل شيء مستورًا عليه، والنور يجعل كل شيء كان مستورًا عليه ظاهرًا باديًا، هذا هو تفسير الظلمة والنور حقيقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) قيل: يشركون مع ما بيَّن لهم ما يدل على وحدانية الرب وربوبيته، أي: جعلوا كل ما يعبدونه دون اللَّه عديلا لله، وأثبتوا المعادلة بينه وبين اللَّه - تعالى - وليس لله - تعالى - عديل، ولا نديد، ولا شريك، ولا ولد، ولا صاحبة، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وقال الحسن: (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي " يكذبون. وقوله - تعالى -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) أي: خلق آدم أبا البشر من طين، فأما خلق بني آدم من ماء؛ كقوله تعالى: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)، أخبر اللَّه - تعالى - أنه خلق آدم من الطين، وخلق بني آدم - سوى عيسى عليه السلام - من النطفة، وخلق عيسى - عليه السلام - لا من الطين ولا من الماء؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الخلق لا من شيء، وأنه لا اختصاص للخلق بشيء، ولا ينكرون -أيضًا- إنشاء الخلق وإحياءهم وموتهم، وذلك لأنه لا يخلوا إما أن صاروا ترابًا أو ماء، أو لا ذا ولا ذا، فإذا رأوا أنه خلق آدم من الطين، وخلق سائر الحيوان من الماء، وخلق عيسى - عليه السلام - لا من هذين، كيف أنكروا إنشاء الخلق بعد الموت، وهو لا يخلو من هذه الوجوه التي ذكرنا؛ فيكون دليلا على منكري البعث بعد الموت،

على الدهرية في إنشاء الخلق لا من شيء؛ فإنهم ينكرون ذلك ويحيلونه؛ ولهذا وقعوا

في القول بقدم العالم، واللَّه الهادي. ويحتمل قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أن يراد به في حق جميع بني آدم، وأضاف خلقنا إلى الطين، وكأن الخلق من الماء؛ لما أُبقِيَ في خلقنا من قوة ذلك الطين الذي في آدم وأثره، وإن لم يُرِه تلك القوة وذلك الأثر، وهذا كما أن الإنسان يرى أنه يأكل، ويشرب، ويغتذي، ويحصل به زيادة قوة في سمعه وبصره، وفي جميع جوارحه، وقد يحيا بها جميع الجوارح، وإن لم ير تلك القوة، فكذلك هذا. ويحتمل -أيضًا- على ما روي في القصة أنه يمازج مع النطفة شيئًا من التراب، فيؤمر الملك بأن يأخذ شيئًا من التراب من المكان الذي حكم بأن يدفن فيه، فيخلط بالنطفة، فيصير علقة ومضغة، فإنما نسبهم إلى التراب لهذا. ويحتمل النسبة إلى التراب وإن لم يكونوا من التراب؛ لما أن أصلهم من التراب، وهو آدم. وقوله - تعالى -: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) فالقضاء يتوجه إلى وجوه كلها ترجع إلى معنى انقطاع الشيء وتمامه، وقد يكون لابتداء فعل وإنشائه؛ كقوله - تعالى -: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)، ويقال: قضيت هذا الثوب، أي: عملته وأحكمته. وقد يكون بمعنى الأمر؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي: أمر ربك؛ لأنه أمر قاطع حتم.

وقد يكون بمعنى الإعلام؛ قال - تعالى -: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)، أي: أعلمناهم إعلامًا قاطعًا. وقد يكون لبيان الغاية والانتهاء عنه والختم؛ كقوله - تعالى -: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا) أي: ختم ذلك وأتمه، وقد يكون غير ما ذكرنا.

(3)

ثم قوله: (قَضَى أَجَلًا) يحتمل هذا كله سوى الأمر. ثم قوله: (قَضَى أَجَلًا) وقيل: هو الموت، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يوم القيامة، أطلعنا على أحد الأجلين وهو الموت؛ لأنا نرى من يموت ونعاين، ولم يطلعنا على الآخر وهو الساعة والقيامة. وقيل: (قَضَى أَجَلًا): أجل الدنيا من خلقك إلى أن تموت، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) ويوم القيامة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ). أي: تشكون وتكذبون بعد هذا كله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ... (3) هذا - واللَّه أعلم - صلة قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) فإذا كان خالقهما لم يَشْرَكْهُ أحد في خلقهما، كان إله من في السماوات وإله من في الأرض لم يَشْرَكْهُ أحد في ألوهيته، ولا في ربوبيته. ويحتمل قوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي: إلى اللَّه تدبير، ما في السماوات وما في الأرض، وحفظهما إليه؛ لأنه هو المتفرد بخلق ذلك كله؛ فإليه حفظ ذلك وتدبيره.

وقوله: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) اختلف فيه. قيل: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ): ما تضمرون في القلوب (وَجَهْرَكُم): ما تنطقون، (وَيَعْلَمُ مَا تكسِبُونَ): من الأفعال التي عملت الجوارح؛ أخبر أنه يعلم ذلك كله؛ ليعلموا أن ذلك كله يحصيه ليحاسبهم على ذلك؛ كقوله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)، أخبر أنه يحاسبهم بما أبدوه وما أخفوه، فعلى ذلك الأول قد أفاد أن ذلك كله يحصيه عليهم، ويحاسبهم في ذلك؛ ليكونوا على حذر من ذلك وخوف. وقيل: (يَعْلَمُ سِرَّكُم): ما خلق فيهم من الأسرار، من نحو السمع، والبصر وغيرهما؛ لأن البشر لا يعرفون ماهية هذه الأشياء وكيفيتها، ولا يرون ذلك كما يرون غيرها من الأشياء، ولا يعرفون حقائقها؛ أخبر أنه يعلم ذلك وأنتم لا تعلمون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَهْرَكُم) أي: الظواهر منكم، (وَيَعْلَمُ مَا تكسِبُونَ): من الأفعال والأقوال.

(4)

قوله تعالى: (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) يحتمل: ما تأتيهم من آية من آيات توحيده، أو من آيات إثبات رسالة مُحَمَّد ونبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويحتمل في إثبات البعث والنشور بعد الموت؛ لما أخبر أنه خلقهم من طين، فإذا ماتوا صاروا ترابًا، فإذا كان بدء إنشائهم من طين، فإذا عادوا إليه يقدر على إنشائهم ثانيا؛ إذ ليس إنشاء الثاني بأعسر من الأول. ثم يحتمل الآيات آيات القرآن. ويحتمل الآيات ما كان أتى به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الآيات سوى آيات القرآن. ثم أخبر عن تعنتهم ومكابرتهم بقوله: (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ)، فإذا أعرضوا عنها لم ينتفعوا بها؛ ليعلم أنه إنما ينتفع بالآيات من تأملها ونظر فيها لا من أعرض عنها. ثم سورة الأنعام إنما نزلت في محاجة أهل الشرك، ولو لم يكن القرآن معجزًا كانت

سورة الأنعام معجزة؛ لأنها نزلت في محاجة أهل الشرك في إثبات التوحيد والألوهية لله والبعث، فكيف يكون وقد جعل اللَّه القرآن آية معجزة عَجَزَ البشرُ عن إتيان مثله،

(5)

ولم يكونوا يومئذ يعرفون التوحيد والبعث، كانوا كلهم كفارًا عبدة الأوثان والأصنام لا يحتمل أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألف ذلك وأنشأه من ذات نفسه؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك باللَّه. وفيه دلالة إثبات المحاجة في التوحيد والمناظرة فيه؛ لأن أكثرها نزلت في محاجة أهل الشرك، وهم كانوا أهل شرك، وينكرون البعث والرسالة، فتنزل أكثرها في محاجتهم في التوحيد وإثبات البعث والرسالة. وفيه أنه إذا ثبت فساد قول أحد الخصمين، ثبت صحة قول الآخر؛ لأن إبراهيم لما قال: (هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)، أثبت فساد عبادة من يعبد الآفل بالأفول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ... (5) يحتمل الحق: الآيات التي كان يأتي بها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من آيات التوحيد وآيات البعث. ويحتمل القرآن، ولو لم يكن يأتي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بآية كانت نفسه آية عظيمة من أول نشأته إلى آخر عمره؛ لأنه عصم حتى لم يأت منه ما يستسمج ويستقبح قط؛ فدل أن ذلك إنما كان لما جعل آية في نفسه، وموضعًا لرسالته، وعلى ذلك تخرج إجابة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أول دعوة دعاه إلى ذلك لما كان رأى منه من آيات، فلما دعاه أجابه في ذلك مع ما كان منعه من آيات عظيمة، وأعلام عجيبة.

(6)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) معناه - واللَّه أعلم - أن يأتيهم وينزل بهم ما نزل بالمستهزئين، وإلا كان أتاهم أنباء ما نزل بالمستهزئين، ولكن معناه ما ذكرنا، أي: ينزل بهم ويحل ما نزل وحل بالمستهزئين. ويحتمل قوله وجهًا أَخر: (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) وهو العذاب؛ لأن الرسل كانوا يوعدونهم أن ينزل بهم العذاب بتكذيبهم الرسل، فعند ذلك يستهزئون بهم؛ كقوله: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا)، وكقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ)، وغير ذلك؛ إذ قالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، فأخبر أنه ينزل بهم ذلك كما نزل بأُولَئِكَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ... (6) قال الحسن: ألم يروا: ألم يعتبروا (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ). وقال أبو بكر الكيساني: (أَلَمْ يَرَوْا) قد رأوا (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ) قال: وهو واحد، قد رأوا آثار الذين أهلكوا بتكذيبهم الرسل، وتعنتهم ومكابرتهم، لكنهم لم يعتبروا بذلك. - وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أعطيناهم من الخير والسعة والأموال ما لم نمكن لكم يا أهل مكة أي: لم نعطكم، ثم إذا كذبوا الرسل أهلكهم اللَّه - تعالى - وعاقبهم بأنواع العقوبة.

ويحتمل: مكناهم في الأرض من القوة والشدة؛ كقوله: (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، ثم مع شدة قوتهم أهلكوا إذ كذبوا الرسل. ويحتمل وجها آخر: (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي: في قلوب الخلق، من نفاذ القول، وخضوع الناس لهم؛ لأنهم كانوا ملوكًا وسلاطين الأرض، من نحو نمرود، وفرعون، وعاد، مع ما كانوا كذلك أهلكوا إذ كذبوا الرسل، وأنتم يا هَؤُلَاءِ ليس

لكم شيء من ذلك، أفلا تهلكون إذا كذبتم الرسل؟! وإنما حملهم على تكذيب الرسل - واللَّه أعلم - لما كانوا ذوي سعة وقوة، فلم يروا الخضوع لمن دونهم في ذلك لما رأوا الأمر بالخضوع لمن دونهم في ذلك جورًا غير حكمة، وإنما أخذوا ذلك من إبليس اللعين؛ حيث قال عند أمره بالسجود لآدم، فقال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الكفرة رأوا الأمر بالخضوع لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جورًا منه، حتى قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا) قَالَ الْقُتَبِيُّ: مدرارا بالمطر: أي غزيرا، من درَّ يدرُّ. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: درت عليهم السماء بالمطر، أي: كثر ودام وتتابع واحدا بعد واحد في وقت الحاجة (وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أخبر عن سعة، أُولَئِكَ،

(7)

وما أنعم عليهم من كثرة الأمطار والأنهار ما لم يكن ذلك لهَؤُلَاءِ، ثم مع ما كان أعطاهم ذلك أهلكهم إذ كذبوا الرسل. فَإِنْ قِيلَ: كيف ذكر إهلاك هَؤُلَاءِ، وخوف أُولَئِكَ ذلك بتكذيبهم الرسل، وقد أهلك الرسل والأولياء من قبل؟ قيل: لأن إهلاك أُولَئِكَ إهلاك عقوبة وتعذيب؛ لأنه كان أهلكهم هلاك استئصال واستيعاب؛ خارجًا عن الطبع، وأهلك أُولَئِكَ الرسل والأولياء لا إهلاك عقوبة خارجًا عن الطبع؛ لذلك كان ما ذكر. * * * قوله تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) يخبر بشدة تعنتهم أنهم وإن أتوا ما سألوا من الآيات لم يؤمنوا به؛ لأنهم كانوا سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن ينزل كتابًا يعاينونه، ويقرءونه، كقوله: (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) وكقوله: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)، ونحوه من الآيات، وقوله: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ) أي: في صحيفة، مكتوبًا، يعلمون أنه لم يكتب في الأرض، ولمسوه بأيديهم، وعاينوه لم يؤمنوا به، ولا صدقوه، وقالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) يخبر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنهم لا يؤمنون، ويخبره بشدة تعنتهم أنهم لا يؤمنون وإن جئت بكل آية؛ إذ قد أتاهم من الآيات ما إن تأملوا ولم يتعنتوا لدلتهم على ذلك، لكنهم أعرضوا عنها، ولم يتأملوا فيها لتعنتهم، وشدة مكابرتهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ... (8) أن مشركي العرب كانوا لا يعرفون

(9)

الرسل، ولا الكتب، ولا كانوا آمنوا برسول ولا كتاب، فقالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، ونحوه من السؤال، فيسألون إنزال الملك. ثم يحتمل سؤالهم إنزال الملك لما لم يكونوا رأوا الرسل يكونون من البشر، وإنما رأوا الرسول إن كان يكون ملكًا، فقالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ). ويحتمل أن يكون سؤالهم إنزال الملك سؤال عناد وتعنت، لا سؤال طلب الرسول من الملائكة، فقال: (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا) على ما سألوا (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي أن الملك إذا نزل على إثر سؤال العناد والتعنت ينزل بالعذاب والهلاك، فهذا يبين أن سؤالهم سؤال تعنت وعناد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ) أي أنهم كانوا يسألون إنزال الملك آية لصدقه - عليه السلام - فقال: (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ) أي: يهلكون؛ لأن الآيات إذا نزلت على إثر سؤال القوم ثم خالفوا تلك الآيات وكذبوها لنزل بهم العذاب والهلاك، وإن جاءت الآيات على غير سؤال، فكذبوها يمهلون، ولا يعذبون عند تكذيبهم إياها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا ... (9) قيل: آدميًّا بشرًا، ويحتمل هذا وجوهًا: أحدها: أي: لو بعثنا الرسول ملكًا لجعلناه على صورة البشر؛ لأنه لو كان على صورة الملائكة لصعقوا ودهشوا؛ لأنه ليس في وسع البشر رؤية الملك على صورته. ألا ترى أن جبريل - عليه السلام - إذا نزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم ينزل على صورته، ولكن كان ينزل على صورة البشر، حتى ذكر أنه كان ينزل عليه على صورة

دحية الكلبي، وأنه متى رآه على صورته صعق وتغير حاله، فإذا رأوا ذلك في وجهه قالوا: إنه لمجنون، فقال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا) ويكون فيه ما في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من اللبس به. والثاني: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا)؛ لأنهم لا يعرفون صدقه، فيحتاجون إلى الدلائل، والآيات التي تدلهم على أنه ملك، وعلى صدقه، فذلك لا يعرف إلا بالبشر؛ لأنهم لا يعرفون صدقه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ. . .) الآية. قالوا: لا يجوز إضافة اللبس إلى اللَّه - تعالى - إلا على المجازاة للبس، كالاستهزاء،

والمكر، والخداع. ويحتمل قوله: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) أي: لو جعلناه ملكًا للبسنا عليهم ما لبس أُولَئِكَ على صنيعهم؛ حيث قالوا: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)، و (مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، وغير ذلك من الكلام، لكنا لا نفعل حتى لا يكون ذلك لبسًا؛ إذ ليس في وسعهم النظر إلى الملك، ولو جعلنا ذلك ملكًا لكان ذلك لبسًا. فإن قال لنا ملحد في قوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ) سألوا أن ينزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ملك، وقال: (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ)، وأنتم تقولون: إنه قد أنزل عليه الملك، وهو أخبر لو أنزل عليه الملك لقضي الأمر، ولم يقض الأمر، كيف لآيات لكم إنما اختار ذلك من نفسه؛ لأن اللَّه أنزل عليه ذلك. قيل: إنهم إنما سألوا أن ينزل عليهم الملك - وإن لم يذكر في الآية السؤال - لما ذكر في آية أخرى؛ كقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، أو سألوا أن

(10)

تأتيهم الملائكة وتأتيه، قالوا: كيف يخَصُّ هو بإتيان الملائكة دوننا وهو كواحد منا؛ كقوله: (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، وهذا جائز أن يكون أسئلة لم تذكر، ويكون في الجواب بيان ذلك، على ما ذكرنا من قبل في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (10) يصبر رسوله على تكذيب قومه ليعلم أنه ليس هو أول مكذب، ولكن قد كذب الرسل الذين من قبلك، ويخبره أنه يلحق هَؤُلَاءِ بتكذيبك كما لحق أُولَئِكَ بتكذيبهم الرسل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَاقَ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: " حاق " أي: رجع، يقال: حاق يحيق حيقًا، أي: رجع عليهم. وقال الكيساني: حاق بهم أي: أحاط بهم ونزل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) ليس على الأمر بالسير في الأرض، ولكن على الاعتبار والتفكر فيما نزل بأُولَئِكَ بتكذيبهم الرسل؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أراهم آيات عقلية وسمعية، فلم ينفعهم ذلك، فأراد أن يريهم آيات حسية ليمنعهم ذلك عن التكذيب والعناد. * * * قوله تعالى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ). يحتمل وجهين: أحدهما: أن يخرج مخرج البيان لهم وأنه ليس على الأمر؛ لأنه لو كان على الأمر لكان يذكر سؤاله لهم، ولم يذكر وإن سألهم، لا يحتمل ألا يخبروه بذلك، فلما لم يذكر

سؤاله لهم عن ذلك، ولا يحتمل أن يأمره بالسؤال ثم لا يسأل، أو يسأل هو ولا يخبرونه - فدل أنه على البيان خرج لا على الأمر. والثاني: على أمر سبق؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ)، وكقوله: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. . .)، إلى قوله: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ)، وقوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ونحوه، كان على أمر سبق، فسخرهم - عَزَّ وَجَلَّ - حتى قالوا: اللَّه؛ كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) ذلك تسخير منه إياهم حتى قالوا: اللَّه. وفي حرف ابن مسعود، وأبي بن كعب - رضي اللَّه عنهما - (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) هذا يدل على أنه كان على أمر سبق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: سلهم، فإن أجابوك فقالوا: لله، وإلا فقل لهم أنت: لله. وقال قائلون: فإن سألوك لمن ما في السماوات والأرض؟ قل لله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). قال الحسن: كتب على نفسه الرحمة للتوابين إن شاء أن يدخلهم الجنة، لا أحد يدخل الجنة بعمله، إنما يدخلون الجنة برحمته، وعلى ذلك جاء الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يدخل أحد الجنة بعمله " قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته ". وقيل: كتب على نفسه الرحمة أن يجمعهم إلى يوم القيامة، أي: من رحمته أن يجمعهم إلى يوم القيامة، حيث جعل للعدو عذابًا، وللولي ثوابًا، أي: من رحمته أن يجمعهم جميعًا، يعاقب العدو ويثيب الولي. وقيل: أي: من رحمته أن جعل لهم الجمع، فأوعد العاصي العذاب، ووعد

(13)

المطيع الثواب؛ ليمنع العاصي ذلك عن عصيانه، وليرغب المطيع في طاعته، وذلك من رحمته. وقال قائلون: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) لأمة مُحَمَّد ألا يعذبهم عند التكذيب، ولا يستأصلهم، كما عذب غيرهم من الأمم، واستأصلهم عند التكذيب، فالتأخير الذي أخرهم إلى يوم القيامة من الرحمة التي كتب على نفسه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قيل: (إِلَى) صلة، ومعناه: ليجمعنكم يوم القيامة. وقيل: (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي: ليوم القيامة، كقوله: (لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ). وقال قائلون: قوله: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) في القبور (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ثم يجمعكم يوم القيامة والقرون السالفة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا رَيْبَ فِيهِ) أي: لا ريب في الجمع والبعث بعد الموت عند من يعرف أن خلق الخلق للفناء خاصة، لا للبعث والإحياء بعد الموت للثواب والعقاب، ليس لحكمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) قد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) في الآية - واللَّه أعلم - إنباء أن الخلق كلهم تحت قهر الليل والنهار وسلطانهما، مقهورين مغلوبين؛ إذ لم يكن لأحد من الجبابرة، والفراعنة الامتناع عنهما، ولا صرف أحدهما إلى الآخر،

بل يدركانهم، شاءوا أو أبوا، وسلطانهما جار عليهم ليعلموا أن لغير فيهما تدبيرا، وأن قهرهما الخلق وسلطانهما كان بسلطان من له التدبير والعلم، ثم جريانهما على سنن واحد ومجرى واحد يدل على أن منشئهما واحد، ومدبرهما عليم حكيم. وقال بعض أهل التأويل: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، ما استقر في الليل والنهار، من الدواب والطير، في البر والبحر، فمنها ما يستقر نهارًا وينتشر ليلا، ومنها ما يستقر بالليل وينتشر بالنهار. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) وذلك أن كفار أهل مكة أتوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: يا مُحَمَّد، إنا قد علمنا أنه ما يحملك على هذا الذي تدعو إليه إلا الحاجة، فنحن نجعلك في أموالنا حتى تكون أغنانا رجلا، وترجع عما أنت عليه؛ فنزلت: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ)؛ لمقالة أُولَئِكَ. (العَلِيمُ) من أين يرزقهم، لكن الوجه فيه ما ذكرنا آنفًا أن الخلق كلهم تحت قهرهما وسلطانهما. وفيهما وجوه من الحكمة: أحدها: بعض ما ذكرنا ليعلم أن مدبرهما واحد، وفيه نقض قول الفلاسفة؛ لأنهم

(14)

يقولون: الظلمة كثافة ستارة، والنور دقيق دراك. وفيهما ما ذكر من المنافع بقوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا) وغيره من المنافع. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَهُوَ السَّمِيعُ) لمن دعا له، (الْعَلِيمُ): بمصالح الخلق وحاجتهم. * * * قوله تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ) وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: (رَبًّا)؛ كأن هذا صلة قوله: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) فإذا أقررتم أن ذلك كله لله فكيف تتخذون له شركاء فتعبدون غير اللَّه وهو فاطر السماوات والأرض ومنشئهما ومنشئ ما فيهما، كيف صرفتم العبادة إلى غير اللَّه؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ). قال أهل التأويل: هو يرزق ولا يرزق، ليس كمن له عبيد في الشاهد يرزق بعضهم بعضًا، الموالي من العبيد، والعبيد من السادات، ينتفع بعضهم من بعض، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - خلق الخلق لا لمنفعة نفسه؛ لأنه غني بذاته، والخلق فقراء إليه؛ كقوله - تعالى -: (أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ). قال الحسن: أول من أسلم من قومه، وأصله: (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي: أُمرت أن أسلم وأخضع أنا أولا، ثم آمركم بذلك.

(15)

واحتج بعض الناس بظاهر هذه الآية أن الإسلام لا يلزم إلا بالأمر والدعاء إليه، وقالوا: إن من مات قبل أن يؤمر به، وقبل أن يدعي إليه - فإنه لا شيء عليه، وعلى ذلك من مات في وقت الفترة وانقطاع الرسل والوحي؛ لأنّه قال: (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أخبر أنه أمر بذلك، وإذا لم يكن ثَمَّ أمر لم يلزم، لكن الوجه في الآية ما ذكرنا، أي: أمرت أن أسلم وأخضع أولا ثم آمر غيري، فإذا كان التأويل هذا بطل أن يكون في ذلك حجة لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قل يا مُحَمَّد لكفار أهل مكة: (إِنِّي أَخَافُ)، أي أعلم (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) فعبدت غيره، (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). هذا التأويل صحيح إن كان ما ذكر من سؤالهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعرضهم المال عليه ليعود ويرجع إلى دينهم، فيخرج هذا على الجواب لهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) وعلى الخوف، لكن لقائل أن يقول: كيف خاف عذاب يوم عظيم وقد أخبر أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! وكيف قال: (إِنْ عَصَيْتُ) وقد أخبر أنه عصمه وغفر له؟ قيل: يحتمل أن تكون المغفرة له على شرط الخوف غفر له ليخاف عذابه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ... (16) قال بعض المعتزلة: الرحمة هاهنا: الجنة؛ لأن اللَّه - تعالى - جعل في الآخرة دارين؛ إحداهما:

النار، سماها سخطًا. والأخرى: الجنة، سماها رحمة. وإنما حملهم على هذا أنهم لا يصفون اللَّه بالرحمة في الأزل، فعلى قولهم يكون قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته "، أي: يثيبني الجنة. ولكن سميت الجنة رحمة عندنا لما برحمته يدخلون الجنة، لا بأعمالهم؛ لما روينا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " لا يدخل أحد الجنة بعمله " قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته ".

وعلى قول المعتزلة فيكون اللَّه بالملائكة رحيمًا لأنه [ ..... ]، ولا ثواب، ولكن الوجه فيه ما ذكرنا أنها سميت رحمة لما برحمته يدخل فيها. وعلى هذا يخرج ما سمي المطر رحمة لما برحمته ينزل، وكذلك كل ما سمي رحمة

(17)

في الشاهد يخرج على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. ثم قوله: (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ). قيل: من يصرف عنه العذاب يومئذ فقد رحمه، وكذلك روي في حرف حفصة: (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ)، وفي حرف ابن مسعود: (من يصرف عنه شر ذلك اليوم فقد رحمه). ويحتمل أن يكون قوله: (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) صلة قوله: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في قوله - تعالى -: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ): قل لكفار أهل مكة حين دعوه إلى دينهم، على ما ذكر في بعض القصة: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ). وذلك الصرف - يعني: صرف العذاب - الفوز المبين، وإنما ذكره - واللَّه أعلم - فوزا مبينًا؛ لأنه فوز دائم، لا زوال له، وليس كفوز هذه الدنيا يكون في وقت ثم يزول عن قريب، ولا كذلك فوز الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) فيه إخبار أن ما يصيب العبد من الضرّ والخير إنما يصيب به، ثم الضر المذكور في الآية لا يخلو من أن يراد به سقم النفس، أو ضيق العيش، أو شدة وظلم يكون من

(18)

العباد لا يخلو من هذه الأوجه الثلاثة، فإذا كان كذلك فدل إضافة ذلك إلى اللَّه - تعالى - على أن لله فيه فعلا، وهو أن خلق فعل ذلك منهم، فهو على كل شيء قدير من كشف الضر له، والصرف عنه، هاصابة الخير لا يملك ذلك غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) في هذه الآية والآية الأولى ذكر أهل التوحيد؛ لأنه أخبر أن ما يصيب العباد من الضر والشدة لا كاشف لذلك إلا هو، ولا يدفع ذلك عنهم ولا يصرفه إلا اللَّه، وأن ما يصيبهم مق الخير إنما يصيبهم بذلك اللَّه، وأخبر أنه على كل شيء قدير. وفي قوله: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) وإخبار أنه قاهر يقهر الخلق، عزيز، قادر، وله سلطان عليهم، وأنهم أذلاء تحت سلطانه. وفي قوله: (فَوْقَ عِبَادِهِ) إخبار بالعلوية، والعظمة، وبالتعالي عن أشباه الخلق. (وَهُوَ الْحَكِيمُ): يضع كل شيء موضعه. (الْخَبِيرُ): بما يسرون وما يعلنون، إخبار ألَّا يخفى عليه شيء، وأنه يملك وضع كل شيء موضعه، وأن ما يصيبهم من الضر والشدة إنما يكون به، لا يملك أحد صرفه، وأن ما ضر أحد أحدًا في الشاهد، أو نفع أحد أحدًا إنما يكون ذلك باللَّه في الحقيقة. وفي هذه الأحرف: إخبار عن أصل التوحيد وما يحتاج إليه لما ذكرنا من الوصف له بالقدرة والقهر، والوصف له بالعلو والعظمة، والتعالي عن أشباه الخلق، والوصف له بالحكمة في جميع أفعاله، والعلم بكل ما كان ويكون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ... (19) كأن في الآية إضمارًا - واللَّه أعلم - أي (قُلْ) يا مُحَمَّد (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً)،

فيقولون: اللَّه؛ لأنهم كانوا يقرون أنه خالق السماوات والأرض، وأنه أعظم من كل شيء؛ لكنهم يشركون غيره في عبادته، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وإلا كانوا يقرون بالعظمة له والجلال، فإذا سئلوا: (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً)، فيقولون: اللَّه. ويحتمل -أيضًا- أن يقول لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنهم إذا سألوا: (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً)؟ قل: اللَّه، فإنك إذا قلت لهم ذلك يقولون هم أيضًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ). في كل اختلاف بيننا وبينكم في التوحيد، والبعث بعد الموت، ونحوه. ويحتمل: (قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) وفي كل حجة وبرهان أتاهم الرسول به. وفي قوله: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ): دلالة أنه يقال له شيء؛ لأنه لو لم يجز أن يقال له شيء لم يستثن الشيء منه، وكذلك في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أنه

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شيء؛ لأن " لا شيء " في الشاهد، إنما يقال إما للنفي أو للتصغير، ولا يجوز في الغائب النفي ولا التصغير؛ فدل أنه إنما يرادب " الشيء " الإثبات لا غير وباللَّه العصمة. ذكر في بعض القصة في قوله: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً) أن رؤساء مكة أتوا رسول اللَّه، فقالوا: يا مُحَمَّد، أما وجد اللَّه رسولا يرسله غيرك، ما ترى أحدًا يصدقك بما تقول، ولقد سالنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، ولا صفة، ولا مبعث، فأرنا من شهد لك أنلث رسول اللَّه كما تزعم. فقال اللَّه - تعالى -: يا مُحَمَّد، قل لهم: (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً)، يقول: أعظم شهادة؛ يعني: البرهان، مُحَمَّد حجة وبرهان، فإن أجابوك فقالوا: اللَّه، وإلا فقل لهم: اللَّهُ أَكْبَرُ شهادة من خلقه أني رسوله، واللَّه شهيد بيني وبينكم في كل اختلاف بيننا وبينكم، في التوحيد، وإثبات الرسالة، والبعث، وكل شيء. وذكر في هذه القصة أنهم لما قالوا: من يشهد أن اللَّه رسلك رسولا، قالوا: فهلا أنزل إليك ملك. فقال اللَّه لنبيه: قل لهم: (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً)؛ فقالوا: اللَّهُ أَكْبَرُ شهادة من غيره، فقال اللَّه:، قل لهم يا مُحَمَّد: اللَّه شهيد بيني وبينكم أني رسول اللَّه، وأنه (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ)، ومن بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له. ثم قال لهم: (أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى)، قالوا: نعم، نشهد. فقال الله لنبيّه: قل لهم: لا أشهد بما شهدتم، ولكن أشهد أنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون.

وقوله - عَزَّ وَجَلََّ: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ). كأنه قال: أوحي إليَّ هذا القرآن الذي تعرفون أنه من عند اللَّه جاء؛ لأنه قال لهم: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)، فعجزوا عن إتيان مثله، فدل عجزهم عن إتيان مثله أنهم عرفوا أنه جاء من عند اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ): لا ينذر بالقرآن ولكن ينذر بما في القرآن؛ لأنه فيه أنباء ما حل بأشياعهم بثكذيبهم الرسل، وما يحل بهم من العذاب في الآخرة بتكذيبهم الرسل، وإلا فظاهر القرآن ليس مما لنذر به، (وَمَنْ بَلَغَ) كأنه قال: وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به، وأنذر من بلغه القرآن، صار رسول اللَّه نذيرًا ببلوغ القرآن لمن بلغه، فإذا صار نذيرًا به لمن بلغه وإن كان هو في أقصى الدنيا يصير هو نذيرًا في أقصى الزمان، في كل زمان، وهو - واللَّه أعلم - كقوله - تعالى -: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) ورسول اللَّه هاد لقومه إلى يوم القيامة. وفي الآية دلالة أن البشارة والنذارة يكونان ببعث آخر يبشر أو ينذر، وهو دليل لقول أصحابنا: إن من حلف: أيُّ عبدٍ من عبيدي بَشَّرَنِي بكذا فهو حرّ، فبشره برسول أو بكتاب، يكون بشارة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى) فهذا في الظاهر استفهام، ولكنه في الحقيقة إيجاب أنكم لتشهدون أن مع اللَّه آلهة أخرى، بعد ما ظهر

(20)

عندكم آيات وحدانيته، وحجج ربوبيته لما عرفتم أنه خالقكم وخالق السماوات والأرض، به تعيشون وبه تحيون، وبه تموتون، مع ما ظهر لكم هذا أشركتم مع اللَّه آلهة أخرى، وليس ذلك مما تشركون في عبادته وألوهيته، وأنا لا أشهد، وإنما أشهد أنه إله واحد وإنني بريء مما تشركون في ألوهيته وربوبيته. * * * قوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ). قيل: نزلت سورة الأنعام في محاجة أهل الشرك، إلا آيات نزلت في محاجة أهل الكتاب، إحداها هذه. وجائز أن يكون أهل الشرك يعرفون أنه رسول كما يعرفون أبناءهم، ويكون الكتاب هو القرآن - هاهنا - لما قرع أسماعهم هذا القرآن، وأمروا أن يأتوا بمثله، فعجزوا عنه، وبما

(21)

كانوا يختلفون إلى أهل الكتاب، ويسألونهم عن نعته وصفته، ويخبرونهم، فعرف أهل الشرك أنه رسول، كما عرف أهل الكتاب بوجود نعته وصفته في كتابهم. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعبد اللَّه بن سلام: إن اللَّه قد أنزل على نبيه - عليه السلام - بمكة: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ)، فكيف يا عبد الله المعرفة؛ فقال عبد اللَّه: يا عمر، لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب، وأنا أشد معرفة بمُحَمَّد مني لابني، فقال: كيف ذلك؟ فقال: أنا أشهد أنه رسول اللَّه حق من اللَّه، ولا أدري ما صنع النساء، أو ما أحدث النساء، وقد نعت في كتابنا. فقال له عمر: صدقت وأصبت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) قال أهل التأويل: لا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه كذبا، لكن هذا - في الحقيقة - كأنه سؤال واستفهام؛ كأنه قال: من أظلم من الظالمين، قال: من افترى على اللَّه كذبًا، يقال: من فعل هذا؟ قال: فلان، أو من قال هذا؟ قال: فلان، فهو - والله أعلم - على السؤال والاستفهام. ثم قيل الذين افتروا على اللَّه كذبًا: إن معه شريكًا كقولهم: إن مع اللَّه آلهة أخرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِ). قيل: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: القرآن.

(22)

(إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه لا يفلح الظالمون بظلمهم، لكن عندنا قوله: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ما داموا في ظلمهم، أو نقول: لا يفلح الظالمون إذا ختموا وماتوا على الظلم والكفر. * * * قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا). المطيع والعاصي، والكافر والمؤمن. (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ). ذكر - هاهنا - شركاءهم، أضاف ذلك إليهم؛ لأنهم كانوا من جنسهم وجوهرهم، يفنون كما يفنون هم، وذكر في آية أخرى: (شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، أنهم شركائي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) قال الحسن: الآية نزلت في المنافقين، وذلك أنهم كانوا يكذبون في الدنيا فيما بينهم، فظنوا أن يتروج كذبهم في الآخرة كما كان يتروج في الدنيا، وسماهم مشركين؛ لأنهم كانوا مشركين لأنهم أشركوا في السر، فقالوا: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ). وقال غيره من أهل التأويل: الآية نزلت في أهل الشرك من العرب؛ وذلك أنهم كانوا يشركون مع اللَّه آلهة، وكانوا ينكرون البعث بعد الموت، وينكرون الرسالة، فلما أن عاينوا ذلك أنكروا أن يكونوا أشركوا غيره في ألوهيته وربوبيته. وقوله - تعالى -: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا). أي: لم يكن افتتانهم في الدنيا بافترائهم على اللَّه الكذب وإشراك غيره معه، وتكذيبهم آيات اللَّه، إلا أن قالوا في الآخرة: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ). وذكر في بعض القصة أن المشركين في الآخرة لما رأوا كيف يتجاوز اللَّه عن

(24)

أهل التوحيد، قَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: إذا سئلنا فقولوا: إنا كنا موحدين، فلما جمعهم الله وشركاءهم فقال: (أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) في الدنيا بأنهم معي شريك. قوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ). قال أهل التأويل: معذرتهم وجوابهم إلا الكذب حين سئلوا ففالوا: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) تبرءوا من ذلك. ثم قال اللَّه: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ... (24) في الآخرة، (مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ): من الشرك في الدنيا. قيل: لما أنكروا أن يكونوا مشركين في الدنيا ختم اللَّه على ألسنتهم، وشهدت الجوارح عليهم بالشرك. وقيل: انظر كيف كذبوا على أنفسهم، يقول: كيف صار وبال كذبهم عليهم؟!. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) قيل: واشتغل عنهم. قوله تعالى: (مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) يقول: يكذبون. وأصله: أنه يذكر نبيه شدة تعنتهم وسفههم أنهم كيف يكذبون عند معاينة العذاب، فإذا كانوا بنأي منه وبعد كانوا أشدّ تكذيبا وأكثر تعنتًا؛ لأنهم يطلبون الرد إلى الدنيا بقولهم (فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، فقال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). * * * قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)

(25)

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ... (25) وكانوا يستمعون إليه ليجادلوه، على ما ذكر، (احَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ) دل هذا أنهم كانوا يستمعون إليه للمجادلة معه والخصومة. وقيل في بعض الحكايات: إن الناس كانوا ثلاث فرق في أخبار الرسل والأنبياء - عليهم السلام -: منهم من يستمع للجمع والاستكثار. ومنهم من يستمع ليأخذ عليهم سقطاتهم وما يجري على لسانهم من الخطأ. ومنهم من يستمع ليأخذ الحق منه ويترك الباقي، ولكن هَؤُلَاءِ كانوا يستمعون إليه ليخاصموه في ذلك وليجادلوه؛ ليعرف قومهم أنهم يستمعون إليه، ويعرفون ما يقول ليصدوا بذلك أتباعهم. والثاني: أنهم يستمعون ويحاجون في ذلك ليعرفوا أنهم أهل حجاج وعلم ليصدوهم عنه. ثم يحتمل أن يكونوا أهل نفاق؛ لأنهم كانوا يرون ويظهرون الموافقة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويضمرون الخلاف له. ويحتمل أن يكونوا أهل الشرك، أي: رؤساؤهم؛ ليستمعوا إليه، ويجادلوه فيما يستمعون إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا). أخبر أن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرًا. وقال: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). نفى عنهم ذلك لما لم ينتفعوا بذلك كله، وإن لم يكونوا - في الحقيقة - صما، ولا بكمًا، ولا ما ذكر، لما لم ينتفعوا بما أنشأ فيهم من السمع والبصر والعقل، فنفى عنهم ذلك. ثم قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً). لا يخلو إضافة ذلك إلى نفسه من أن يكون خلق منهم فعل الكفر، أو خلق الظلمة التي في قلوبهم، يعني ظلمة الكفر؛ لأن ظلمة الكفر تستر وتغطي كل شيء، ونور الإيمان ينير منه كل شيء، فإضافة الفعل إليه لا تخلو من أحد هذين الوجهين، إما لخلق فعل الكفر منهم، ففيه دلالة خلق أفعالهم، وإما لخلق ظلمة الكفر في قلوبهم. وفيه ردّ قول المعتزلة لإنكارهم خلق فعل العباد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا). قيل: الوقر: هو الثقل في السمع، يقال: وقرت أذنه، توقر وقرا، فهي موقورة، وأما الوقر فهو الكفر في قلوبهم.

(26)

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الوقر: الصدع في العظم أيضًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا). يحتمل كل آية: آية وحدانيته، وربوبيته، وقدرته على البعث، وآية رسالته ونبوته. ويحتمل: كل آية سألوا أن يأتي بها؛ يقول: وإن أوتيت بكل آية سألوك لا يؤمنون بك بعد ذلك أبدًا، كقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا) ونحو ذلك مما سألوا من الآيات؛ يقول: إنك وإن جئت بما سألوك من الآيات لا يؤمنون بك، ولا يصدقونك، يقولون: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا إلا أساطير الأولين، قيل: أحاديث الأوّلين، والأسطورة: الكتاب، يقولون ذلك تعنتًا منهم؛ لأنهم كانوا يعرفون أنه حق، وأنه ليس بكلام البشر؛ لأنهم عجزوا عن إتيان مثله، ولو كان هو مفترى على ما قالوا لقدروا هم على أن يأتوا بشيء مثله، حيث قيل لهم: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)، فعلموا بعجزهم عن إتيان مثله أنه ليس من كلام البشر، وأنه سماوي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ... (26) ينهون الناس عن طريقته ومتابعته وينأون عنه، أي: يتباعدون عنه وينهون غيرهم عن اتباعه ويتباعدون هم. ويحتمل ما ذكر في القصّة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام

اجتمعت قريش عنده ليريدوا بالنبي سوءًا قال أبو طالب وأنشد فيه: واللَّه لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقرّ بذاك منك عيونا فدعوتني وزعمت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثمَّ أمينا وعرضت دينا قد علمت بأنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذاري سُبَّة ... لوجدتني سمحًا بذاك مبينا كان ينهى الناس عن أذى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويتباعد هو عنه فلا يتبع دينه، فنزل هذا.

(27)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) أي لا يشعرون، أنهم بذلك يسعون في هلاك أنفسهم. * * * قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ). عن الحسن قال: سترى إذ وقفوا على النار. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ولو ترى إذ عرضوا على النار) وكذلك في: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ)، إذ عرضوا على ربهم. ولولا ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقفوا: عرضوا على النار، وإلا يجوز أن يحمل قوله: (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)، أي: عند النار، أو في النار " على " مكان " عند "، أو مكان " في "، وذلك جائز في اللغة، ولكن ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقنعنا عن ذلك. ثم يحتمل - واللَّه أعلم - أن يكون هذا صلة قوله (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) كأنه يقول: ولو ترى يا مُحَمَّد إذ وقفوا على النار لرحمتهم؛ لما كان منهم من القول فيك (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، وهكذا الواجب

(28)

على كل أحد أن يرحم عدوه إذا كان عاقبته النار والتخليد فيها، وألا يطلب الانتقام منه بما كان منه بمكانةٍ، وأن يقال: ولو تراهم إذ وقفوا على النار من الذل والخضوع لرحمتهم بما كان منهم من التكبر والاستكبار في الدنيا، وهو كقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الآية، أخبر عن ذلهم وخضوعهم في الآخرة بما كان منهم في الدنيا من الاستكبار والاستنكاف؛ فعلى ذلك يخبر نبيّه عما يصيبهم من الذلّ بتكبرهم في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وجل -: (فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). تمنوا عند معاينتهم العذاب العود والرد إلى الدنيا. ثم فيه دليلان: أحدهما: أنهم عرفوا أن ما أصابهم أإنما أصابهم، بتكذيبهم الآيات وتركهم الإيمان، حيث قالوا: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا). والثاني، أن الإيمان هو التصديق الفرد لا غير؛ لأنهم إنما فزعوا عند معاينتهم العذاب فتمنوا الرد والعود إلى الدنيا؛ لأن يكونوا من المؤمنين، ولم يفزعوا إلى شيء آخر من الخيرات - دل أن الإيمان هو التصديق الفرد لا غير، وأنه ضد التكذيب، والتكذيب هو درد فعلى ذلك التصديق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ... (28) قيل فيه وجوه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ)، إنما نزل في المنافقين، يدل على ذلك قوله: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ)، وهو سمة أهل النفاق أنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين، ويضمرون الخلاف، ويخفون العداوة لهم. ويحتمل قوله - تعالى -: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) ورؤساؤهم كانوا عرفوا في الدنيا أنه رسول، وأن ما (أنزل) عليه هو من ربه، وعرفوا أن البعث حق، لكنهم أخفوا ذلك على أتباعهم، وستروه، ثم ظهر ما كانوا يخفون على أتباعهم.

وقيل: قوله: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) وذلك أنهم حين قالوا: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ). وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)، يحتمل قوله (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أي: حبسوا إذ لو وقف حبس، والنار لا يوقف عليها، بل يكون فيها ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)، وقال: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ)، ويحتمل الوقف عندها قبل الدخول في حال الحساب للمساءلة؛ كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ. . .) الآية، (وَلَو تَرَى) أي: لو ترى ذلهم وخضوعهم، كقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ)، ولم يذكر جواب " لو "، وقد يترك جواب (لو) لما يعلم ربما يعلم بالتأمل أو بالذكر؛ كقوله: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)، بمعنى ظننتم، أو على ما ذكر في موضع آخر؛ نحو قوله: (قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا) وكذلك قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)، وغير ذلك، فلعل معناه: لو ترى ذلهم بعد استكبارهم لرحمتهم على ما هم عليه، ولهان عليك التصبر لأذاهم، ولأشفقت عليهم. ويحتمل قوله: ولو ترى ما ينزل بهم من نقمة اللَّه، ويحل بهم من عذابه، لعلمت أن القوة لله جميعًا، وأنه بحلمه ورحمته يملي لهم ويسترجعهم؛ كقوله: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا). ويحتمل أن يكون جوابه فيما ذكر من تمنيهم العود، وندامتهم على ما سلف منهم، وشدة تلهفهم على صنيعهم لرأيت ذلك أمرًا عظيمًا، وجزاء بالغًا، لما يكون ما ينزل بهم أعظم عندك مما تلقى منهم. وقد يخرج الخطاب لرسول اللَّه على تضمن تنبيه كل مميز وتبصير كل متأمّل، والله أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ). قيل: إلى الدنيا. وقيل: إلى المحنة من حيث لا يحتمل كون الدنيا بعد كون الآخرة، لكن هذا تكلف تحقيق مراد قوم ظهر سفههم، ولعله ليس عندهم هذا التمييز، أو يقولون سفها كما قالوا كذبًا بقوله: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (بِآيَاتِ رَبِّنَا). قال الحسن: بدين ربنا. وقال قوم: بحجج ربنا، فيكون في الآية اعتراف أنهم على التعنت كذبوا في الأوّل لا على الجهل، وإن كان ثم آيات عاندوها، وهم قوم قد سبق من اللَّه الخبر عنهم مما فيه العناد منهم؛ كقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِ) وذلك يدل على تعنتهم في القول؛ ليتخلصوا عما بلوا بجميع ما يحتمل وسعهم، لا أن ذلك كذلك في قلوبهم؛ لذلك - واللَّه أعلم - قال اللَّه - تعالى - (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). ثم دل قوله: (وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أنهم قد عرفوا أن الإيمان هو التصديق لوجهين: أحدهما: أنهم جعلوا الإيمان مقابل التكذيب؛ ليعلم أنه التصديق. والثاني: أنهم ذكروا الآيات، والآيات يكذب بها ويصدق لا أن يعمل. وبعد، فإن الذي في حد إمكان الإتيان مما فات هو التصديق؛ إذ مشكلة الغير لو توهم الأمر ليوجد ما سبق من الترك والتصديق لو أمر، فهو لما سبق من التكذيب على أنه أجيع ألا يؤمر من آمن بقضاء شيء مما فات، فثبت أنهم أرادوا به التصديق، وفيه أنه اسم لذلك حتى عرفه أهله وغير أهله معرفة واحدة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) قيل فيه بوجوه فقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه، يخرج على أوجه: أحدها: على أن الآية في أهل النفاق أظهرت ما قد أضمروا من الكفر. والثاني: أن تكون الآية في رؤساء الكفرة العلماء بالبعث، وبأن الرسل تكون من

البشر، وألا شريك لله، فبدا للأتباع ما كان الرؤساء يخفون في الدنيا. ويحتمل: وبدا لهم من صنيعهم ما قد أسروه وأضمروه في أنفسهم ظنوا أنه لا يطلع على ذلك أحد، وذلك كقوله: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)، وقوله: (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ)، وغير ذلك. ويحتمل: ما كانوا يخفون من الخلق، أو بدا لهم ذلك بالجزاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ رُدُّوا) أي: إلى ما تمنوا أن يردوا إليه. (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ). أخبر اللَّه عن علمه بما قد أسروه في ذلك الوقت إنما كان في علمه أن يكون، وإن كان من حكمه ألا يردوا في ذلك وأن الآية لا تضطر صاحبها، ولا قوة إلا باللَّه. وقال قوم: إن الخلود يلزم في النار بما هم في علم اللَّه أنهم يلزمون ما هم عليه لو مكثوا للأبد. وقال قوم: لم يجز لزوم العذاب بما يعلم اللَّه من العناد من أحد لو امتحن بلا محنة ولا خلاف، فعلى ذلك أمر الخلاف، لكن الآية في خاص منهم، وهم الذين اعتدوا وعاندوا الحق بعد الوضوح، على ما ذكر في كثير من الكفرة أنهم لا يؤمنون أبدا، ثم أمهلهم على ذلك، وهذا يبين أنه ليس يمنع الإعادة لما يعودون له لو كان يحتمل في الحكمة الإعادة؛ إذ قد أمهل وأبقى على العلم بذلك، فعلى ذلك الإفادة، لكنه أخبر عن تعنتهم. ثم ظنت المعتزلة أن اللَّه لو علم أنهم يؤمنون لردهم إلى ذلك وإذ بين أنهم لا يؤمنون فيستدلون بهذا على أنه ليس لله قبض روح مَنْ يعلم أنه لو لم يقبضه يؤمن يومًا من الدهر وقد بينا نحن أن ذلك لا يجب، وإن كان أُولَئِكَ في علم اللَّه لن يعودوا إلى ذلك بما قد يترك في الدنيا من يعلم أنه يلزم الكفر، وينجي عن المهالك من يعلم أنه يعود، ثم قد يترك من يعود إلى الكفر على وجود ما به النجاة عنه، واللَّه أعلم. وبعد، فإن اللَّه - تعالى - قال: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) فبين أنه لم يبسط لئلا يبغوا، وقال: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ

يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ. . .) الآية، ثم قد جعل لكثير ممن ضل بهم قوم نحو الفراعنة ولكثير منهم وقد بغوا في الأرض؛ إذ لو لم يكن البسط لفرعون لم يكن ليدعي الألوهية لكن الأول: طريق الفضل يفضل به، والثاني: طريق العدل وما يجوز في الحكمة، فعلى ذلك الإمهال، يبين لك ما كان اللَّه يأمر بقتل من لعله يؤمن لو أمهل بما ندب إلى القتال، ولا يحتمل أن يأمر في قتل من ليس له قبض روحه، وقد يبقى من به يهلك ويضل، وإن قبض كثيرًا منهم بما يضل به لو أبقى؛ كما قال: (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا)، واللَّه أعلم. وظنت الخوارج بهذه الآية أن كل من يرتكب كبيرة يظهر منه كذبه فيما وعد أنه لا

يفعل " إذ اللَّه سماهم كذبة بما في علمه أنهم يعودون إلى ذلك. فإذا تقرر عندنا من أحد ركوب ما كان في عهده وإيمانه أنه لا يرتكب يظهر به كذبه. وذلك خطأ، لما لو كان كذلك لكان الصغائر والكبائر واحدًا، ومن كذب في أمر الصغائر في العهد أو رد يكفر، ومن ارتكب الصغيرة، لم يصر كذلك، فعلى ذلك الكبائر. لكن الآية تخرج على أوجه: أحدها: أنها في قوم أرادوا بذلك دفع العذاب لا أن عزموا على ما ذكروا، دليله فتنتهم بقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ). والثاني: أنه ذكر كذبهم، أنطق اللَّه جوارحهم، فشهدت عليهم بما كتموا من الشرك، فتمنوا عند ذلك العود والرد. ويحتمل: (بَدَا لَهُم): ظهر لهم ما كانوا يخفون من نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته في الدنيا وكتموه، واللَّه أعلم.

وقوله - تعالى -: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) تعلق بظاهر هذه الآية الخوارج والمعتزلة. أما المعتزلة فإنهم قالوا: إنهم لما طلبوا الرد ولم يردهم لما علم أنه لو ردهم لعادوا إلى التكذيب ثانيًا، ولو علم منهم أنهم لا يعودون لكان يردهم، فدل أنه إنما لم يردهم لما علم منهم أنهم يعودون إلى ما كانوا من قبل، فيستدلون بظاهر هذه الآية على أن اللَّه لا يفعل بالعبيد إلا الأصلح لهم في الدِّين، وقالوا: لو علم منهم الإيمان لكان لا يجوز له ألا يردهم. ومن قولهم: إنه إذا علم من كافر أنه يؤمن في آخر عمره لم يجز له أن يميته. وغير ذلك من المخاييل والأباطيل. وقالت الخوارج: أخبر أنه لو ردهم لعادوا لما نهوا عنه، وسماهم بالقول كاذبين بما في علمه أنهم لا يفعلون بما يقولون، فعلى ذلك كل صاحب كبيرة إذا كان في اعتقاده الذي أظهره أنه لا يأتي بها، فإذا أتى بها يصير فيما اعتقده ألا يأتي بها كاذبًا؛ ولذلك يجعلون أصحاب الكبائر كذبة في القول الأول أنهم لا يأتون بها، وعلى ذلك كانت المبايعة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ. . .) الآية، فإذا سرقن صرن كاذبات في البيعة، كما جعل من ذكر كاذبًا في الوعد إذا أخلف، وعلى ذلك يجعلونه كافرًا.

(29)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). يحتمل (لَكَاذِبُونَ) أي: ليكذبون لو ردوا، أو أنهم لكاذبون في قولهم: (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: يضمرون أنهم لا يؤمنون؛ كقوله - تعالى -: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) إلى قوله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، يقولون: إنك لرسول اللَّه، لكنهم لما أضمروا خلاف ذلك في قلوبهم سماهمم كاذبين، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ لما أضمروا في أنفسهم التكذيب وإن ردوا فهم كاذبون في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ رُدُّوا). قيل: إلى الدنيا، ولكن لو ردوا إلى المحنة ثانيًا لعادوا لما نهوا عنه. والثاني: أنه ذكر كذبهم بما اعتادوا العناد، وظهر منهم الجحود في القديم، فبذلك سماهم كذبة، كما سمي أهل النار كفرة بما كان من كفرهم قبل أن يصيروا إليها؛ فعلى ذلك هذا. والثالث: أن يكون على الخبر عن عاقبتهم أنهم يصيرون كاذبين لو ردوا، وعرض عليهم ذلك، وبعث إليهم الرسل بالآيات، لا أن يكذبوا في ذلك الوعد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) قوله تعالى: (إِن هِيَ) يحتمل (هِيَ): الحياة الدنيا، ويحتمل (هِيَ) الدنيا. ثم هذا القول يحتمل أن يكون من الدهرية؛ لأنهم ينكرون البعث والحياة بعد الموت، ويقولون: إن هذا) الخلق كالنبات ينبت ثَم يثلاشى؛ فعلى ذلك الخلق يموتون ويصيرون ترابًا، ثم يحيون في الدنيا؛ كقوله: (نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ). ويحتمل أن هذا القول كان من مشركي العرب لما لم يروا إلا الدهر، ولم يشاهدوا غيره، فظنوا أنه ليس يهلكهم إلا ذلك الدهر الذي تدور الدنيا عليه، فإن كان ذلك منهم، فإنما كان ذلك من كبرائهم ورؤسائهم على علم منهم بذلك، أي: بالبعث، يلبسون ذلك على السفلة والأتباع؛ ليكونوا أشد اتباعًا لهم وانقيادًا؛ لأنهم لو أعلموا الأتباع بالبعث بعد الموت لعلهم يتركون طاعتهم واتباعهم؛ لما يشتغلون بالاستعداد لذلك والعمل له، ففي ذلك ترك اتباعهم وطاعتهم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) أي: لربهم؛ كقو " له - تعالى -: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، وكقوله -

(31)

تعالى -: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)، أي: للنصب، وأصله: ما روي في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ولو ترى إذ وقفوا إذ عرضوا على ربهم). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ). يحتمل قوله: (أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ)، أي: البعث بعد الموت؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، ويقولون: إنه باطل. ويحتمل: بما كانوا أوعدوا العذاب إن لم يؤمنوا، فكذبوا ذلك، فقال: أليس ما أوعدتم في الدنيا حقًا، فأقروا فقالوا: (بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ): في الدنيا. * * * قوله تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ). يحتمل قوله - تعالى -: (كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ)، أي: كذبوا لقاء وعد اللَّه ووعيده في الدنيا وعلى هذا يخرج قوله: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ)، أي: يرجو لقاء وعد اللَّه في الدنيا، ووعيده خسروا في الآخرة بتكذيبهم ذلك في الدنيا، وعلى ذلك يخرج ما روي في الخبر: " من أحبَّ لقاء اللَّه " أي: أحب لقاء ما أعد اللَّه له " ومن كره لقاء اللَّه " أي: كره لقاء ما أعد له، وأصله: من أَحبَّ الرجوع إلى اللَّه أحب اللَّه رجوعه، ومن كره الرجوع إلى اللَّه كره اللَّه رجوعه إليه، والمحبة لله اختيار أمره وطاعته؛ وعلى

ذلك ما روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الدنيا جنة الكافر، يلعب فيها ويركض في أمانيها، وسجن المؤمن، وراحته بالموت ". وأصله: أنها سجن المؤمن؛ لأن المؤمن يمنعه دينه من قضاء شهواته لما يخاف هلاكه، ويحذره مما يفضي به إلى الهلاك، والكافر لا يمنعه شيء من ذلك عما يريد من قضاء شهواته في الدنيا، فتكون له كالجنة، وللمؤمن كالسجن، على ما ذكرنا. ويحتمل قوله وجهًا آخر: وهو أن الكافر عند الموت يعاين مكانه وما أعدَّ له في النار، فتصير عند ذلك الدنيا كالجنة له يكره الرجوع، والمؤمن يعاين موضعه في الجنة، فتصير كالسجن له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً). قيل: سميت القيامة ساعة لسرعتها، ليست كالدنيا؛ لأن في الدنيا يتغير فيها على المرء الأحوال، يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم مضغة، ثم يصير خلقًا آخر، ثم إنسانا ثم يكون طفلا ثم رجلا يتغير عليه الأحوال، وأما القيامة فإنها لا تقوم على تغير الأحوال فسميت الساعة لسرعتها بهم. وقيل: سميت القيامة الساعة لأنها تقوم في ساعة، وهو كقوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ

إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ). وقيل: سميت الساعة لما تقوم ساعة فساعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَغتَة) أي: فجأة. وقوله - عَزَّ وَجَلََّ: (يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا). قيل: التفريط: هو التضييع، فيحتمل قوله: (مَا فَرَّطْنَا فِيهَا)، أي: ما ضيعنا في الدنيا من المحاسن والطاعات. ويحتمل: ما ضيعنا في الآخرة من الثواب والجزاء المجزيل بكفرهم في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ). هو - واللَّه أعلم - على التمثيل، ليس على التحقيق، وهو يحتمل وجهين: يحتمل: أنه أخبر أنهم يحملون أوزارهم على ظهورهم بما لزموا أوزارهم وآثامهم، لم يفارقوها قط، وصفهم بالحمل على الظهر، وهو كقوله - تعالى -: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)، لما لزم ذلك صاروإنه في عنقه. والثاني: إنما ذكر الظهر؛ لما بالظهر يحمل ما يحمل، فكان كقوله: (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، و (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)، لأن الكفر لا يكتسب بالأيدي ولا يقدم بها، لكن اكتساب الشيء وتقديمه لما كان باليد ذكر اكتساب اليد وتقديمها. وكقوله: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)، أنهم لما تركوا العمل به والانتفاع، صار كالمنبوذ وراء الظهر؛ لأن الذي ينبذ وراء الظهر هو الذي لا يعبأ به ولا يكترث إليه. ويحتمل وجهًا آخر: ما ذُكر في بعض القصة أنه يأتيه عمله الخبيث على صورة قبيحة، فيقول له: كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني،

(32)

فيركب ظهره؛ فذلك قوله - تعالى -: (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... (32) يحتمل أن يكون هذا صلة قوله: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) قال: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ). أي: الحياة الدنيا للدنيا خاصة؛ لأن العمل إذا لم يكن لعاقبة تتأمل فهو عبث، كبانٍ يبني بناء لا لعاقبة تتأمل وتقصد ببنائه فهو لعب، وعبث، فعلى ذلك الحياة الدنيا، لا لدار أخرى يتأمل ويرجى بها الثواب والعقاب فهذا ليس بحكمة، وإنما هو لعب ولهو؛ وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى -: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا. . .) الآية، أخبر أن خلقه إياهم إذا لم يكن للرجوع إليه فهو عبث، فعلى ذلك الحياة الدنيا، إذا لم يكن هناك بعث ولا حياة بعد الموت للثواب والعقاب، فهي لعب ولهو. واللهو: ما يقصد به قضاء الشهوة خاصة، لا يقصد به العاقبة، واللعب: هو الذي لا حقيقة له ولا مقصد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). أي: الدار الآخرة خير للذين يتقون الشرك والفواحش كلها من الحياة الدنيا، وأصله: أن الحياة الدنيا على ما عند أُولَئِكَ الكفرة لعب ولهو؛ لأن عندهم أن لا بعث، ولا ثواب، ولا عقاب، فإذا كانت عندهم هكذا فتصير لعبًا ولهوًا؛ لأنه يحصل إنشاء لا عاقبة له، فيكون كبناء البناء الذي ذكرنا إذا كانت عاقبته غير مقصودة، فهو لا انتفاع به. * * * قوله تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ

(33)

تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ... (33) هذا - واللَّه أعلم - إخبار منه نبيه - عليه السلام - أنه عن علم منه بتكذيبهم إياك بعثك إليهم رسولا، وأمرك بتبليغ الرسالة إليهم، وكان عالمًا بما يلحقك من الحزن بتكذيبهم إياك، ولكن بعئك إليهم رسولا مع علم منه بهذا كله لتبلغهم، يذكر هذا - واللَّه أعلم - ليعلم رسوله ألا عذر له في ترك تبليغ الرسالة، وإن كذّبوه في تبليغها. ثم الذي يحمله على الحزن يحتمل وجوهًا: يحتمل: يحزنه افتراؤهم وكذبهم على اللَّه. أو كان يحزن لتكذيب أقربائه وعشيرته إياه فإذا أكذبته عشيرته، انتهى الخبر إلى الأبعدين فيكذبونه، فيحزن لذلك. أو يحزن حزن طبع؛ لأن طبع كل أحد ينفر عن التكذيب. أو كان يحزن إشفاقًا عليهم بما ينزل عليهم من العذاب بتكذيبهم إياه وآذاهم له؛ كقوله - تعالى -: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ. . .) الآية. وكقوله - تعالى -: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) اختلف في تلاوته: قرأ بعضهم بالتخفيف، وبعضهم بالتشديد والتثقيل: فمن قرأ بالتخفيف: قراءة (لا يُكْذِبُونَكَ)، أي: لا يجدونك كاذبًا قط. ومن قرأ بالتثقيل: (لَا يُكَذِّبُونَكَ)، أي: لا ينسبونك إلى الكذب، ولا يكذبونك في نفسك.

(34)

ويحتمل قوله: ولا يكذبونك في السر، ولكن يقولون ذلك في العلانية، والتكذيب هو أن يقال: إنك كاذب. قوله تعالى: (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ). أي: عادة الظالمين التكذيب بآيات اللَّه. و (الظَّالِمِينَ) يحتمل وجهين: أحدهما: الظالمين على نعم اللَّه عادتهم التكذيب بآيات اللَّه. الثاني: والظالمين على أنفسهم؛ لأنهم وضعوها في غير موضعها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا ... (34) يخبر نبيه - عليه الصلاة والسلام - ويصبره على تكذيبهم إياه وأذاهم بتبليغ الرسالة، يقول: لست أنت بأول مكذب من الرسل، بل كذب إخوانك من قبلك على تبليغ الرسالة، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا، ولم يتركوا تبليغ الرسالة مع تكذيبهم إياهم؛ فعلى ذلك لا عذر لك في ترك تبليغ الرسالة وإن كذبوك في التبليغ وآذوك، وهو ما ذكرنا أنه يخبره أنه بعثك رسولا على علم منه بكل الذي كان منهم من التكذيب والأذى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا). أخبر اللَّه أنه نصر رسله، ثم يحتمل ذلك (النصر) وجوهًا. أحدها: ينصرهم أي: أظهر حججه وبراهينه، حتى علموا جمعا أنها هي الحجج

(35)

والبراهين، وأنهم رسل اللَّه، لكنهم عاندوا وكابروا. ويحتمل: النصر لهم بما جعل آخر أمرهم لهم، وإن كان قد أصابهم شدائد في بدء الأمر. أو نصرهم لما استأصل قومهم وأهلكهم بتكذيبهم الرسل، وفي استئصال القوم وإهلاكه إياهم، وإبقاء الرسل نَصْرهم، وكذلك قوله - تعالى -: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا) وقوله: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)، يخرج على الوجوه التي ذكرناها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) وهو ما ذكرنا من النصر لهم، واستئصال قومهم، وما أوعدهم من العذاب؛ فذلك كلمات اللَّه. ويحتمل قوله: (لِكَلِمَاتِ اللَّهِ): حججه وبراهينه؛ كقوله: (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)، أي: بحججه وآياته، وكقوله - تعالى -: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي)، أي: حجج ربي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) يحتمل ما ذكرنا من إهلاك القوم وإبقاء الرسل، قد جاءك ذلك النبأ. ويحتمل قوله - تعالى -: (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) من تكذيب قومهم لهم وأذاهم إياهم، فإن كان هذا ففيه تصبير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ ... (35) كان يشتد على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويشق عليه كفر قومه وإعراضهم عن الإيمان، حتى كادت نفسه تتلف وتهلك لذلك إشفاقًا عليهم؛ كقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ).

وقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، ونحو ذلك من الآيات، يشفق عليهم بتركهم الإيمان لما يعذبون أبدًا في النار، فعلى ذلك قوله: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ). أو كان يكبر عليه ويثقل إعراضهم لما كانوا يطلبون منه الآيات، حتى إذا جاء بها لا يؤمنون؛ من نحو ما قالوا: (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) وغير ذلك من الآيات التي سألوها، فطمع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في إيمانهم إذا جاء بما سألوا من الآيات، فكان اللَّه عالمًا بأنه وإن جاءتهم آيات لم يؤمنوا، وإنَّمَا يسألون سؤال تعنت لا سؤال طلب آيات لتدلهم على الهدى، فقال عند ذلك: (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ). أو أن يكون قوله: (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ) ونهيًا عن الحزن عليهم، أي: لا تحزن عليهم كل هذا الحزن بما ينزل بهم، وقد تعلم صنيعهم وسوء معاملتهم آيات الله. وكذلك روي في القصة عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن نفرًا من قريش قالوا: يا مُحَمَّد، ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات إذا سألوهم: فإن أتيتنا آمنا بك وصدقناك، فأبى اللَّه أن يأتيهم بما قالوا، فأعرضوا عنه، فكبر ذلك عليه وشق، فأنزل اللَّه: (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ. . .). يقول: إن قدرت (أَنْ تَبْتَغِيَ) يقول: أن تطلب (نَفَقًا فِي الْأَرْضِ) يقول: سربًا في الأرض كنفق اليربوع نافذًا أو مخرجًا فتوارى

فيه منهم (أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ) يكون سببًا إلى صعود السماء، (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) التي سألوكها فافعل. قَالَ الْقُتَبِيُّ: النفق في الأرض: المدخل، وهو السرب، والسلم في السماء: المصعد. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: النفق: الغار، والأنفاق: الغيران، والغار واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى). قال الحسن: أي: لو شاء اللَّه لقهرهم على الهدى وأكرههم، كما فعل بالملائكة؛ إذ من قوله إن الملائكة مجبورون مقهورون على ذلك، ثم هو يفضل الملائكة على البشر ويجعل لهم مناقب، لا يجعل ذلك لأحد من البشر، فلو كانت الملائكة مجبورين مقهورين على ذلك، لم يكن في ذلك لهم كبير منقبة؛ ففي قوله اضطراب. وأما تأويله عندنا: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى)، أي: لجعلهم جميعًا بحيث اختاروا الهدى وآثروه على غيره، ولكن لما علم منهم أنهم يختارون الكفر على

(36)

الهدى، لم يشأ أن يجمعهم على الهدى، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم ألا يكون الهدى في حال القهر والجبر، وإنما يكون في حال الاختيار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ). يحتمل وجوهًا: يحتمل: فلا تكونن من الجاهلين: من قضاء اللَّه وحكمه. ويحتمل: لا تكونن من الجاهلين: من إحسانه وفضله، أي: من إحسانه وفضله يجعل لهم الهدى. ويحتمل: لا تكونن من الجاهلين أنه يؤمن بك بعضهم وبعضهم لا يؤمن. قال أبو بكر الكيساني في قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) أي: لو شاء الله ابتلاهم بدون ما ابتلاهم به ليخف عليهم، فيجيبون بأجمعهم، أو يقول: لو شاء اللَّه، لوفقهم جميعًا للهدى فيهتدون، وهو قولنا، لكن لم يشأ؛ لما ذكرنا أنه لم يوفقهم لما علم منهم أنهم يختارون الكفر. وقوله: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، بأن اللَّه قادر لو شاء لجعلهم جميعًا مهتدين. ثم معلوم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان معصومًا، لا يجوز أن يقال إنه يكون من الجاهلين أو من الشاكرين، على ما ذكر، ولكن ذكر هذا - واللَّه أعلم - ليعلم أن العصمة لا ترفع الأمر والنهي والامتحان، بل تزيد؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) معناه - واللَّه أعلم - إنما يستجيب الذين ينتفعون بما يسمعون، وإلا كانوا يسمعون جميعًا، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه إنما يجيب الذين ينتفعون بما يسمعون، وهو كقوله - تعالى -: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) كان النبي - عليه السلام - ينذر من اتبع الذكر ومن لم يتبع، لكن انتفع بالإنذار من اتبع الذكر، ولم ينتفع من لم يتبع، وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ

الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، أخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين ولا تنفع غيرهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ): اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ) أنه على الابتداء؛ يبعثهم اللَّه ثم إليه يرجعون. وقال قائلون: أراد بالموتى الكفار، سمي الكافر ميتًا والمؤمن حيًّا في غير موضع من القرآن؛ كقوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ)، فهو - واللَّه أعلم - أن جعل لكل بشر سمعين وبصرين وحياتين؛ سمع أبدي في الآخرة، وبصر أبدي في الآخرة؛ وكذلك جعل لكل أحد حياتين: حياة أبدية في الآخرة، وحياة منقضية وهي حياة الدنيا؛ وكذلك سمع أبدي وهو سمع الآخرة، وسمع ذو مدة لها انقضاء وهو سمع الدنيا، ثم نفى السمع والبصر والحياة عمن لم يدرك بهذا السمع والبصر والحياة التي جعل له في الدنيا، ولم يقصد سمع الأبدية وبصر الأبدية والحياة الأبدية؛ لأنه إنما جعل لهم هذا في الدنيا؛ ليدركوا بهذا ذاك؛ وكذلك العقول التي ركبت في البشر إنما ركبت ليدركوا بها ويبصروا ذلك الأبدي، وإلا لو كان تركيب هذه العقول في البشر لهذه الدنيا خاصة، لا لعواقب تتأمل للجزاء والعقاب - فالبهائم قد تدرك بالطبع ذلك القدر، وتعرف ما يؤتى ويتقى، وما يصلح لها [ .... ]؛ فدل أن تركيب العقول فيمن ركب إنما ركب لا لما يدرك هذا؛ إذ يدرك ذلك المقدار بالطبع من لم يركب فيه وهو البهائم التي ذكرنا. والسمع والبصر والحياة قد جعلت في الدنيا لمعاشهم ومعادهم؛ وكذلك جعل لهم

(37)

اللسان؛ لينطق بحوائجهم في الدنيا، ويعرف بعضهم من بعض حاجته في الدنيا، ويدرك به الأزلي، فإذا لم ينتفعوا بذلك أزال عنهم ذلك وسماهم العُمْي والصم والبكم؛ ألا ترى أنه قال: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، لما لم ينتفعوا بذلك؟! ألا ترى أنه إذ لم يدرك الأزلي والأبدي من ذلك سماه أعمى؛ حيث قال: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا). والحياة حياتان: حياة مكتسبة: وهي الحياة التي تكتسب بالهدى والطاعات. وحياة منشأة: وهي حياة الأجسام؛ فالكافر له حياة الجسد وليس له حياة مكتسبة، وأما المؤمن: فله الحياتان جميعًا المكتسبة والمنشأة فيسمى كل بالأسماء التي اكتسبها فالمؤمن اكتسب أفعالا طيبة فسماه بذلك، والكافر اكتسب أفعالا قبيحة فسماه بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ... (37) هَؤُلَاءِ قوم همتهم العناد والمكابرة وإلا قد كان أنزل عليه آيات عقليات وسمعيات وحسيات، فأما الآيات العقليات: فهي ما ذكر: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ. .) الآية. وأما الآيات السمعيات: فهي ما أنباهم عن أشياء كانت غائبة عنهم، من غير أن كان له اختلاف إلى من يعلمها وينبئه عنها. والآيات الحسيات: هي ما سَقى أقوامًا كثيرة بلبن قليل من قصعة، وما قطع

مسيرة شهرين بليلة واحدة، ونطق العناق الذي شوي له، وحنين المنبر، وغير ذلك من الأشياء مما يكثر ذكرها. لكنهم عاندوا، وكانت همتهم العناد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً): التي سألوك، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): يحتمل وجهين: يحتمل: أن يكون أن أكثرهم لا يعلمون أنه إذا أنزل آية على أثر السؤال لأنزل عليهم العذاب واستأصلهم إذا عاندوا. ويحتمل قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): أنه لا ينزل الآية إلا عند الحاجة أبهم، إليها. ويحتمل ألا يسألوا الآية ليعلموا، ولكن يسألون؛ ليتعنتوا.

(38)

أو إن أنزل آية، على أثر سؤال، فلم يقبلوها، ولم يؤمنوا بها؛ أهلكهم على ما ذكرنا من سنته في الأولين، لكنه وعد إبقاء هذه الأمة إلى يوم القيامة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ... (38) يشبه أن يكون هذا صلة قوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً)؛ لأنه ذكر " دابة "، والدابة: كل ما يدب على وجه الأرض من ذي الروح، وذكر الطائر، وهو: اسم كل ما يطير في الهواء. لما كان قادرًا على خلق هذه الجواهر المختلفة، وسوق رزق كل منهم إليهم، فهو قادر على أن ينزل آية؛ ولو أنزل آية لاضطروا جميعًا إلى القبول لها والإقرار بها، ولكنه لا ينزل لما ليست لهم الحاجة إليها، والآيات لا تنزل إلا عند وقوع الحاجة بهم إليها، وعلى هذا يُخرَجُ مخرج قوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُم لَا يَعْلَمُونَ). ومن الناس من استدل بهذه الآية على أن البهائم والطير ممتحنات؛ حيث قال: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)، ثم قال: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). ثم اختلف في قوله تعالى: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ): عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في قوله - تعالى -: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ): أي: إلا سيحشرون يوم القيامة كما تحشرون، ثم يقتص البهائم بعضها من بعض، ثم يقال لها: كوني ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)؛ كالبهائم. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)؛ أي: يفقه بعضها من بعض كما يفقه بعضكم من بعض، وأمم أمثالكم في معرفة ما يؤتى ويتقى. ويحتمل: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) في الكثرة، والعدد، والخلق، والصنوف تعرف بالأسامي

(39)

كما تعرفون أنتم. وأصله: إن ما ذكر من الدواب والطير (أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ): سخرها لكم لم يكن منها ما يكون منكم من العناد والخلاف، والتكذيب للرسل والخروج عليهم، بل خاضعين لكعمم مذللين تنتفعون بها. ويحتمل قوله: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ): في حق معرفة وحدانيته وألوهيته، أو حق الطاعة لله؛ كقوله - تعالَى -: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا فَرَّطْنَا) أي: ما تركنا شيئا إلا وقد ذكرنا أصله في القرآن. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أم الكتاب: وهو اللوح المحفوظ. وقيل: (مَا فَرَّطْنَا): ما ضيعنا في الكتاب مما قد يقع لكم الحاجة إليه أو منفعة إلا قد بيناه لكم في القرآن. قوله تعالى: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ). قيل: الطير والبهائم يحشرون مع الخلق، وقيل: (إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ): يعني بني آدم. وقوله: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ... (39) قاله الحسن: (بِآيَاتِنَا) ديننا. وقال غيره: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): حججنا: حجج وحدانيته وألوهيته، وحجج الرسالة والنبوة.

ويحتمل: آيات البعث، كذبوا بذلك كله، وقد ذكرنا هذا في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (صُمٌّ وَبُكْمٌ). هو ما ذكرنا أنه نفى عنهم السمع، واللسان، والبصر؛ لما لم يعرفوا نعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة اللسان. ولا يجوز أن يجعل لهم السمع والبصر واللسان، ثم لا يعلمهم ما يسمعون بالسمع، وما ينطقون باللسان، دل أنه يحتاج إلى رسول يسمعون منه، ويستمعون إليه، وينطقون ما علمهم، فإذا لم يفعلوا صاروا كما ذكر (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، لما لم يشْفعوا به، ولم يعرفوا نعمته التي جعل لهم فيما ذكر. أو نفى عنهم السمع والبصر واللسان؛ لما ذكرنا أن السمع والبصر، والحياة على ضربين: مكتسب، ومنشأ، فنُفِي عنهم السمع المكتسب، والبصر المكتسب، والحياة المكتسبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي الظُّلُمَاتِ). يحتمل وجهين: يحتمل: ظلمات الجهل والكفر. والثاني: هم في ظلمات: يعني ظلمات السمع، والبصر، والقلب. وهم في الظلمتين جميعًا: في ظلمة الجهل والكفر، وظلمة السمع، والبصر؛ كقوله - تعالى -: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)، والمؤمن في النور؛ كقوله - تعالى -: قوله تعالى: (نُورٌ عَلَى نُورٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). وصف - عَزَّ وَجَلَّ - نفسه بالقدرة، وجعلهم جميعًا متقلبين في مشيئة، وأخبر أنه شاء لبعضهم الضلال، ولبعضهم الهدى، فمن قال: إنه شاء للكل الهدى لكن، لم يهتدوا، أو شاء للكل الضلال - فهو خلاف ما ذكره عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه أخبر أنه شاء الضلال لمن ضل، وشاء الهدى لمن اهتدى. وأصله: أنه إذا علم من الكافر أنه يختار الكفر، شاء أن يضل وخلق فعل الكفر منه،

(40)

وكذلك إذا علم من المؤمن أنه يختار الإيمان والاهتداء، شاء أن يهتدي وخلق فعل الاهتداء منه. * * * قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ). الذي وعدكم في الدنيا أنه يأتيكم. (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ). لأنه كان وعدهم أن يأتيهم العذاب، أو كان يعدهم أن تقوم الساعة، فقال: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ): في رفع ذلك، وكشفه عنكم. (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أن معه شركاء وآلهة. أو (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): أن ما تعبدون شفعاؤكم عند اللَّه، أو تقربكم عبادتكم إياها إلى اللَّه. وقوله - تعالى - (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ). يحتمل: حقيقة الدعاء عند نزول الجلاء. ويحتمل: العبادة، أي: أغير اللَّه تعبدون على رجاء الشفاعة لكم، وقد رأيتم أنها لم تشفع لكم عند نزول البلايا، ثم أخبر أنهم لا يدعون غير اللَّه في دفع ذلك وكشفه عنهم، وأخبر أنهم إلى اللَّه يتضرعون في دفع ذلك عنهم، وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، وكقوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ).

(41)

وكقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ): ذكر هذا - واللَّه أعلم - أنكم إذا مسكم الشدائد والبلايا لا تضرعون إلى الذين تشركون في عبادته وألوهيته، فكيف أشركتم أُولَئِكَ في ربوبيته في غير الشدائد والبلايا، (وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)، أي: تتركون ما تشركون باللَّه من الآلهة؛ فلا تدعونهم أن يكشفوا عنكم؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ... (42) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: البأساء: الشدائد التي تصيبهم من العدو، والضراء: ما يحل بهم من البلاء والسقم السماوي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البأساء: هو ما يحل بهم من الفقر والقحط والشدة. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قوله، (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ): الزمانة والخوف، (وَالضَّرَّاءِ): البلاء والجوع. (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ). أي: ابتلاهم بهذا، أو امتحنهم لعلهم يتضرعون، ويرجعون عما هم عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ... (43) يذكر في ظاهر هذا أنه قد أصابهم البلاء والشدة، ولم يتضرعوا ولكن قست قلوبهم، ويذكر في غيره من الآيات أنه إذا أصابهم البلاء والشدائد تضرعوا ورجعوا عما كانوا عليه؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، وقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ)، وغيرهما من الآيات. لكن يحتمل هذا وجوهًا: أن هذا كان في قوم، والأول كان في قوم آخرين، وذلك أن الكفرة كانوا على أحوال ومنازل: منهم من كان على حال، فإذا أصابه خير اطمأن به، وإذا زال عنه وتحول تغير؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ. . .) الآية. ومنهم من يتضرع ويلين قلبه إذا أصابه الشدة والبلاء، وعند السعة والنعمة قاسي القلب معاند؛ وهو كقوله: (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. . .) إلى آخر الآية؛ وكقوله - تعالى -: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ). ومنهم: من

كان فرحًا عند الرحمة والنعمة، وعند الشدة والبلاء كفورًا حزينا؛ كقوله - تعالى -: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ). ومنهم: من كان لا يخضع ولا يتضرع في الأحوال كلها، لا عند الشدة والبلاء، ولا عند الرخاء والنعمة، ويقولون: إن مثل هذا يصيب غيرنا، وقد كان أصاب آباءنا، وهم، كانوا أهل الخير والصلاح؛ وهو كقوله؛ (وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ): كانوا على أحوال مختلفة، ومنازل متفرقة؛ فيشبه أن يكون قوله: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ): في القوم الذين لم يتضرعوا عند إصابتهم الشدائد والبلايا. وجائز أن يكونوا تضرعوا عند حلول الشدائد، فإذا انقطع ذلك وارتفع، عادوا إلى ما كانوا من قبل؛ كقوله: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)؛ ويشبه أن يكون قوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)، وقوله: (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ): فيما بينهم وبين ربهم، وهذا فيما بينهم، وبين الرسل؛ لأن الرسل كانوا يدعونهم إلى أن يقروا، ويصدقوهم فيما يقولون لهم ويخبرون، فتكبروا عليهم، وأقروا لله وتضرعوا إليه، تكبروا عليهم ولم يتكبروا على اللَّه. ويحتمل أن يكون قوله: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا): في الأمم السالفة إخبار منه أنهم لم يتضرعوا. ويحتمل قوله أيضًا: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) وجهين: أحدهما: أنهم لم يتضرعوا إذ جاءهم بأس اللَّه، ولكن عاندوا وثبتوا على ما كانوا عليه. والثاني: تضرعوا عند نزول بأسه؛ لكن إذا ذهب ذلك وزال عادوا إلى ما كانوا، فيصير كأنه قال: فلولا لزموا التضرع إذ جاءهم بأسنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). أي: زين لهم صنيعهم الذي صنعوا، ويقولون: إن هذا كان يصيب أهل الخير، ويصيب آباءنا وهم كانوا أهل خير وصلاح.

(44)

أو زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الشرك والتكذيب، ويقول لهم: إن الذي أنتم عليه حق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ... (44) يحتمل: ابتداء ترك، أي: تركوا الإجابة إلى ما دعوا وتركوا ما أمروا به. ويحتمل: نسوا ما ذكروا به من الشدائد والبلايا. (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ). يحتمل وجهين: يحتمل أبواب كل شيء مما يحتاجون إليه، (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً). ويحتمل: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ)، أي: تركوا ما وعظوا به، يعني: بالأمم الخالية لما دعاهم الرسل فكذبوهم (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ)، أي: أنزلنا عليهم أبواب كل شيء من أنواع الخير بعد الضر والشدة الذي كان نزل بهم. (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ المبلس: الآيس من كل خير. قَالَ الْقُتَبِيُّ: المبلس: الآيس الملقي بيديه. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المبلس: هو الحزين المغتم الآيس من الرحمة وغيرها من الخير. وقال الفراء: المبلس هو المنقطع الحجة، وقيل: لذلك سُمي إبليس لعنه اللَّه إبليس لما أيس من رحمة اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ... (45) قيل: استؤصل القوم الذين ظلموا بالهلاك جميعًا، والظلم هاهنا: هو الشرك، وقيل: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: أصلهم. وقيل: دابر القوم، أي: آخرهم وكله واحد، وذلك أنه إذا هلك آخرهم وقطعوا، فقد استؤصلوا.

(46)

ويشبه أن يكون قوله: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: قطع افتخارهم وتكبرهم الذي كانوا يفتخرون به ويتكبرون. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). الحمد في هذا الموضع على أثر ذلك الهلاك يخرج على وجوه، وإلا الحمد إنما يذكر على أثر ذكر الكرامة والنعمة، لكن هاهنا وإن كان نقمة وإهلاكًا فيكون للأولياء كرامة ونعمة؛ لأن هلاك العدو يعد من أعظم الكرامة والنعمة من اللَّه، فإذا كان في ذلك شر للأعداء والانتقام فيكون خيرًا للأولياء وكرامة، وما من شيء يكون شرا لأحد إلا ويجوز أن يكون في ذلك خير لآخر، فيكون الحمد في الحاصل في الخير والنعمة. والثاني: أنه يجوز أن يكون في الهلاك نفسه الحمد إذا كان الهلاك بالظلم؛ لأنه هلاك بحق إذ لله أن يهلكهم، ولم يكن الهلاك على الظلم خارجًا عن الحكمة، فيحمد عز وجل في كل فعل: حكمةٍ. والئالث: يقول: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وعلى إظهار حججه بهلاكهم. * * * قوله عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ). اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: يراد بأخذ السمع والبصر والختم على القلوب: أخذ منافع هذه الأشياء، أي: إن أخذ منافع سمعكم، ومنافع بصركم، ومنافع عقولكم، من إله غير اللَّه يأتيكم به: أي يأتيكم بمنافع سمعكم، ومنافع بصركم، ومنافع عقولكم، فإذا كانت الأصنام والأوثان التي تعبدون من دون اللَّه وتشركون في ألوهيته وربوبيته لا يملكون ردّ تلك المنافع التي أخذ اللَّه عنكم، فكيف تعبدونها وتشركونها في

(47)

ألوهيته؟! وقيل: يراد بأخذ السمع والبصر وما ذكر: أخذ أعينها وأنفسها، أي: لو أخذ اللَّه سمعكم وبصركم وعقولكم، لا يملك ما تعبدون رد هذه الأشياء إلى ما كانوا عليه: لا يملكون رد السمع إلى ما كان، ولا رد البصر والعقل الذي كان إلى ما كان، فكيف تعبدون دونه وتشركون في ألوهيته؟! يُسفّهُ أحلامهم لما يعلمون أن ما يعبدون ويجعلون لهم الألوهية لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا، فمع ما يعرفون ذلك منهم يجعلونهم آلهة معه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ). أي: نبين لهم الآيات في خطئهم في عبادة هَؤُلَاءِ، وإشراكهم في ألوهيته. (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ). أي: يعرضون عن تلك الآيات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) معناه - واللَّه أعلم -: أنهم يعلمون أن العذاب لا يأتي ولا يأخذ إلا الظالم، ثم مع علمهم أنهم ظلمة؛ لعبادتهم غير اللَّه، مع علمهم أنهم لا يملكون نفعًا ولا ضرًا يسألون العذاب كقوله: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ). وقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ). وقوله: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ... (48) أخبر أنه لم يرسل الرسل إلا مع بشارة لأهل الطاعة، ونذارة لأهل معصيته، وفيه أن الرسل ليس إليهم الأمر والنهي، إنما إليهم إبلاغ الأمر والنهي. ثم بين البشارة فقال: (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): لما ليس لذلك فوت ولا زوال، ليس نعيمها كثواب الدنيا

(49)

وأنه على شرف الفوت والزوال. (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ): لأنه سرور لا يشوبه حزن، ليس كسرور الدنيا يكون مشويًا بالحزن والخوف. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) هذه هي النذارة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ). ذكر المس - واللَّه أعلم - لما لا يفارقهم العذاب، ولا يزول عنهم. والفسق في هذا الموضع: الكفر، والشرك، وما ذكر من الظلم هو ظلم شرك وكفر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ... (50) لم يحتمل ما قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث قال: إنهم قالوا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم ينزل اللَّه عليك كنزًا تستغني به؛ فإنك محتاج، ولا جعل لك جنة تأكل منها فتشبع من الطعام؛ فإنك تجوع، فنزل عند ذلك هذا. لا يحتمل أن يقولوا له ذلك، فيقول لهم: إني لا أقول لكم إني ملك، وليس عندي خزائن اللَّه ولا أعلم الغيب، فإن كان من السؤال شيء من ذلك، فإنما يكون على سؤال سألوا لأنفسهم؛ كقوله: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)، ونحو ذلك من الأسئلة التي سألوا لأنفسهم، فنزل عند ذلك ما ذكر، فهذا لعمري يحتمل، فيقول لهم: إنه ليس عندي خزائن اللَّه فاجعل لكم هذا، ولا أعلم الغيب؛ ولا أقول لكم: (إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ). والثاني: جائز أن يكون النبي - عليه السلام - أوعدهم بالعذاب وخوفهم، فسألوا العذاب استهزاء وتكذييًا، فقالوا: متى يكون؟! كقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، فقال عند ذلك: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ) ومفاتيحه، أُنْزِلُ عليكم العذاب متى شئت، (وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ومتى وقت نزول العذاب عليكم، (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) نزلت من السماء بالعذاب، إنما أنا رسول، بشر مثلكم، ما أتبع إلا

ما يوحى إليَّ، هذا محتمل جائز أن يكون على أثر ذلك نزل. ويحتمل وجهًا آخر وهو: أنه يخبر ابتداء في: (لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ)؛ لأني لو قلت: عندي خزائن اللَّه، وأنا أعلم الغيب، وإني ملك - كان ذلك أشد اتباعًا لي وأرغب وأكثر لطاعتي، لكن أقول: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ ما أتبع إلا ما يوحى إليَّ، لتعلموا أني صادق في قولي، ومحق فيما أدعوكم إليه. * * * قوله تعالى: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ). يعلم بالإحاطة أن هذا ونحوه خرج على الجواب لأسئلة كانت منهم لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكن لسنا نعلم ما كانت تلك الأسئلة التي كانت من أُولَئِكَ، حتى كان هذا جوابًا لهم، فلا نفسر، ولكن نقف؛ مخافة الشهادة على الله. ويحتمل: أن يكون جوابًا لما ذكر في آية أخرى، وهو قولهم: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ)، فقال عند ذلك: (لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ)، وقال: (وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) جوابًا لسؤال عن وقت الساعة، أو وقت نزول العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) جواب لقولهم: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ) فقال عند ذلك: لا أقول: إني أعلم الغيب؛ حتى أعلم وقت نزول العذاب

(51)

أو قيام الساعة، ولا أقول: إني ملك حتى أرقى في السماء. وقوله: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ). أي: تعرفون أنتم أنه لا يستوي الأعمى، أي: من عمي بصره، والبصير: أي: من لم يعم بصره، فكيف لا تعرفون أنه لا يستوي من عمي عن الآيات ومن لم يعم عنها؟! أو نقول: إذا لم يستو الأعمى والبصير، كيف يستوي من يتعامى عن الحق ومن لم يتعام؟! (أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) أنهما لا يستويان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ). في آيات اللَّه وما ذكركم. أو نقول: (أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) في وعظكم، باللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ. . .) الآية، أيئس الكفرة عما سألوا من الأشياء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم أمر بالإنذار الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم وهم المؤمنون، أي: يعلمون أنهم يحشرون إلى ربهم، وأن ليس لهم ولي يدفع عنهم ما يحل بهم، ولا شفيع يسأل لهم ما لم يعطوا. وجائز أن يكون تخصيص الأمر بإنذار المؤمنين لما كان الإنذار ينفعهم ولا ينفع غيرهم، وليس فيه لا ينذر غيرهم؛ وهو كقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)، ليس فيه أنه لا ينذر من لم يتبع الذكر ولا خشي الرحمن ولكن أنبأ أنه إنما ينفع هَؤُلَاءِ؛ كقوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، أخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين ولا تنفع أُولَئِكَ، ينذر الفريقين: من اتبع، ومن لم يتبع، ومن انتفع، ومن لم ينتفع، ويكون قوله: (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ)، يعني: ليس لأُولَئِكَ أولياء ولا شفعاء؛ لأنهم يقولون: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ونحوه أخبر أن ليس لهم ولي ولا شفيع دونه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ... (52)

يذكر في بعض القصة أن رجالا من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا يسبقون إلى مجلس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيجلسون قريبًا منه، فيجيء أشراف القوم وساداتهم، وقد أخذ أُولَئِكَ المجلس فيجلس هَؤُلَاءِ ناحية، فقالوا: نحن نجيء فنجلس ناحية، فذكروا ذلك لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إنا سادات قومك وأشرافهم، فلو أدنيتنا منك في المجلس، فهمّ أن يفعل ذلك، فأنزل اللَّه هذه الآية يعاتب نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقوله: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. . .) الآية. وإلى هذا يذهب عامة أهل التأويل، لكنه بعيد؛ إذ ينسبون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى أوحش فعل وأفحشه ما لو كان فيه إسقاط نبوته ورسالته؛ إذ لا يحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقرب أعداءه ويدني مجلسهم منه، ويبعد الأولياء، هذا لا يفعله سفيه فضلا أن يفعله رسول اللَّه المصطفى على جميع بريته، أو يخطر بباله شيء من ذلك، وكان فيه ما يجد الكفرة فيه مطعنا يقولون: يدعو الناس إلى التوحيد والإيمان به والاتباع له، فإذا فعلوا ذلك وأجابوه طردهم وأبعد مجلسهم منه، هذا لعمري مدفوع في عقل كل عاقل، ولكن إن كان فجائز أن يكون منهم طلب ذلك طلبوا منه أن يدني مجلسهم ويبعد أُولَئِكَ؛ هذا يحتمل، وأما أن يهم أن يفعل ذلك أو خطر بباله شيء من ذلك فلا يحتمل.

وجائز أن يكون هذا من اللَّه ابتداء تأديبًا وتعليمًا؛ يعلم رسوله صحبة أصحابه ومعاملته معهم؛ كقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ونهاه أن يمد عينه إلى ما متَّع أُولَئِكَ؛ كقوله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ. . .) الآية، ويخبره عن عظيم قدرهم عند اللَّه. وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي والحظر، بل العصمة تزيد في النهي والزجر، وأخبر أن ليس عليه من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، فإنما عليك البلاغ وعليهم الإجابة؛ وهو كقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ). يشبه أن يكونوا يجتمعون إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في كل غداة ومساء، فيسمعون منه، ثم يفترقون على ما عليه أمر الناس من الاجتماع في كل غداة ومساء عند الفقهاء وأهل العلم. وجائز أن يكون ذكر الغداة والعشي كناية عن الليل كله وعن النهار جملة؛ كقوله:

(وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)، ليس يريد بـ (وَالضُّحَى) الضحوة خاصة ولكن النهار كله. ألا ترى أنه قال: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) ذكر الليل دل أنه كان الضحى كناية عن النهار جملة؛ فعلى ذلك الغداة والعشي يجوز أن يكون كناية عن الليل والنهار جملة، والله أعلم. وجائز أن يكون أصحاب الحرف والمكاسب، لا يتفرغون للاجتماع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والاستماع منه في عامة النهار، ولكن يجتمعون إليه ويستمعون منه بالغداة والعشي، فكان ذكر الغداة والعشي لذلك أو لما ذكرنا. وجائز أن يكون المراد بذكر الغداة والعشي صلاة الغداة، وصلاة العشاء؛ يقول: لا تطرد من يشهد هاتين الصلاتين، وإنَّمَاكان يشهدهما أهل الإيمان، وأما أهل النفاق: فإنهم كانوا لا يشهدون هاتين الصلاتين، ويحتمل غير ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) الظلم على وجوه: ظلم كفر، وظلم شرك، وظلم يكون بدونه، وهو أن يمنع أحدا حقه أو أخذ منه حقا بغير حق؛ فهو كله ظلم. والظلم - هاهنا واللَّه أعلم -: يشبه أن يكون هو وضع الحكمة في غير أهلها؛ لأنه لو كان منه ها ذكر من طرد أُولَئِكَ وإدناء أُولَئِكَ، لم يكن أهلا للحكمة، ويجوز أن يوصف واضع الحكمة في غير موضعها بالظلم؛ على ما روي في الخبر: " أن من وضع الحكمة في غير أهلها فقد ظلمها، ومن منعها عن أهلها فقد ظلمهم ".

(53)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ... (53) قوله: (وَكَذَلِكَ) لا يتكلم إلا على أمر سبق، فهو - واللَّه أعلم - يحتمل أن يقول لما قالوا: يا مُحَمَّد أرضيت بهَؤُلَاءِ الأعبد من قومك، أفنحن نكون تبعًا لهَؤُلَاءِ، ونحن سادة القوم وأشرافهم؟! فقال عند ذلك: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي: كما فضلتكم على هَؤُلَاءِ في أمر الدنيا فكذلك فضلتهم عليكم في أمر الدِّين، ويكونون هم المقربين إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمدنين مجلسهم إليه، وأنتم أتباعهم في أمر الدِّين، وإن كانوا هم أتباعكم في أمر الدنيا؛ فكذلك امتحان بعضهم ببعض. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن يقال: كما كان له امتحان كل في نفسه ابتداء محنة؛ كقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً). وكقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ). وقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. . .) الآية. فعلى ذلك له أن يمتحن بعضكم ببعض. وأشد المحن أن يؤمر المتبوع ومن يرى لنفسه فضلا بالخضوع للتابع ومن هو دونه عنده، يشتد ذلك عليه ويتعذر؛ لما كانوا يرون هم لأنفسهم الفضل والمنزلة في أمر الدنيا، فظنوا أنهم كذلك يكونون في أمر الدِّين؛ وعلى ذلك يخرج امتحانه إبليس بالسجود لآدم لما رأى لنفسه فضلا عليه فقال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)، ولم ير الخضوع لمن دونه عدلا وحكمة، فصار ما صار؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ لم يروا أُولَئِكَ الضعفة أن يكونوا متبوعين عدلا وحكمة، وظنوا أنهم لما كانوا مفضلين في أمر الدنيا، وكان لهَؤُلَاءِ إليهم حاجة - يكونون في أمر الدِّين كذلك، ويقولون: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) ونحوه من الكلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو موصول بالأول بقوله: (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا) يقول الكافر قول الكفر والمؤمن قول الإيمان. ثم ابتدأ فقال: (أَهَؤُلَاءِ) أي: يقول الكفرة (أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا). ليس بمفصول من قوله (لِيَقُولُوا) وولكن موصول به (لِيَقُولُوا) يعني الكفرة (أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا).

(54)

ثم يحتمل قوله (أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) وبالحظ بالتقريب والإدناء في المجلس وجعلهم متبوعين من بيننا بعد ما كانوا أتباعًا لنا فقال عند ذلك (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أي: عرف هَؤُلَاءِ نعمة اللَّه تعالى، ووجهوا شكر نعمه إليه وأنتم وجهتم شكر نعمه إلى غيره بعد ما عرفتم أنه هو المنعم عليكم والمسدي إليكم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) هذا يدل على أن النهي عن الطرد ليس للإبعاد خاصة في المجلس، ولكن في كل شيء في بشاشة الوجه واللطف في الكلام وفي كل شيء؛ لأنه قال (فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وقَالَ بَعْضُهُمْ (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) هو هو أن يبدأهم بالسلام فذلك الذي كتب على نفسه الرحمة. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي: لم يأخذهم في أول ما وقعوا في المعصية ولكن أمهلهم إلى وقت وجعل لهم المخرج من ذلك بالتوبة وعلى ذلك ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " فتح اللَّه للعبد التوبة إلى أن يأتيه الموت ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: كل من عمل سوءًا بجهالة ثم تاب من بعد ذلك وأصلح أنه يغفر له ما كان منه. ومن قرأها بالنصب عطفه على قوله: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لذلك. وجائز أن يكون قوله (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي: كتب على خلقه الرحمة أن يرحم بعضهم بعضًا. وجائز ما ذكرنا أنه كتب على نفسه الرحمة أي: أوجب أن يرحم ويغفر لمن تاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ) جائز أن يكون الآية في الكافر إذا

(55)

تاب يغفر اللَّه له ما كان منه في حال الكفر والشرك كقوا له: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ. .) الآية، وقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). وجائز أن تكون في المؤمنين. ثم ذكر عملا بجهالة وإن لم يكن يعمل بالجهل لأن الفعل فعل الجهل وإن كان فعله لم يكن على الجهل؛ وكذلك ما ذكر من النسيان والخطأ في الفعل؛ لأن فعله فعل ناس وفعل مخطئ وإن لم يفعله الكافر على النسيان والخطأ، وإلا لو كان على حقيقة الخطأ والنسيان لكان لا يؤاخذ به؛ لقوله (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ)، لكن الوجه ما ذكرنا أن الفعل فعل نسيان وخطأ وإن لم يكن ناسيًا ولا مخطئًا فيه، وعلى ذلك الفعل فعل جهل وإن لم يكن جاهلا والفعل فعل جهل وإن لم يكن بالجهل، والمؤمن جميع ما يتعاطى من المساوي يكون لجهالة؛ لأنه إنما يعمل السوء إما لغلبة شهوة أو للاعتماد على كرم ربه بالعفو عنه والصفح عن ذلك ويعمل السوء على نية التوبة والعزم عليها في آخره. على هذه " الوجوه الثلاثة يقع المؤمن في المعصية وأما على التعمد فلا يعمل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قرئ بالياء والتاء جميعًا. فمن قرأ بالتاء نصب السبيل بجعل الخطاب لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أي: لتعرف سبيل المجرمين. ومن قرأ بالياء رفع " السبيل " كأنه قال نفصل الآيات وجوهًا. أي: نبين الآيات ما يعرف السامعون أنها آيات من عند اللَّه غير مخترعة من عند الخلق ولا مفتراة ما يبين سبيل المجرمين من سبيل المهتدين. والثاني: نفصل الآيات ما بالخلق حاجة إليها وإلى معرفتها. والثالث: نبين من لآيات ما بين المختلفين، أي: بين سبيل المجرمين وبين سبيل المهتدين. (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) تأويله ما ذكرنا أن من قرأ بالتاء حمله على خطاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أي: نبين من الآيات لتعرف سبيل المجرمين بالنصب. ومن قرأ بالياء نبين من الآيات ليتبين سبيل المجرمين من سبيل غير المجرمين، والله أعلم.

(56)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) معناه - واللَّه أعلم -: إني نهيت بما أكرمت من العقل واللب أن أعبد الذين تعبدون من دون اللَّه. أو يقول: إني نهيت بما أكرمت من الوحي والرسالة أن أعبد الذين تدعون من دون اللَّه. (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) ثم أخبر أن ما يعبدون هم من دون اللَّه إنما يعبدونه اتباعًا لهوى أنفسهم وأن ما يعبده هو ليس يتبع هوى نفسه، ولكن إنما يتبع الحجة والسمع وما يستحسنه العقل؛ ألا ترى أنه قال (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي: على حجة من ربي؟! يخبر أن ما يعبده هو يعبده اتباعًا للحجة والعقل، وما يعبدون اتباعًا لهوى أنفسهم، وما يتبع بالهوى يجوز أن يترك اتباعه ويتبع غيره لما تهوى نفسه هذا ولا تهوى الأول وأما ما يتبع بالحجة والسمع وما يستحسنه العقل فإنه لا يجوز أن يترك اتباعه ويتبع غيره وفيه تعريض بسفههم؛ لأنه قال (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي: لو اتبعت هواكم لضللت أنا، وأنتم إذا اتبعتم أهواءكم لعبادتكم غير اللَّه ضلال ولستم من المهتدين؛ فهو تعريض بالتسفيه لهم والشتم منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ... (57) قيل: على بيان من ربي وحجة، وقيل على دين من ربي. وقوله عَزَّ وَجَلَّ (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) قيل بالقرآن، وقيل: العذاب ما أوعدتكم ويحتمل كذبتم ما وعدتكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي: العذاب كقوله - تعالى -: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ)، وغيره فقال ما عندي ما تستعجلون به من العذاب. ثم هذا يدل على أن قوله: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أن المراد بالخزائن العذاب أي: ليس عندي ذلك، إنما ذلك إلى اللَّه وعنده ذلك وهو قوله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، أي: ما الحكم والقضاء إلا لله. (يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) اختلف في تلاوته وتأويله: قرأ بعضهم بالضاد وآخرون بالصاد. فمن قرأ بالصاد (يَقُصُّ) ويقول يبين الحق؛ لأن القصص هو البيان. وقال آخر (وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) أي: خير المبينين. ومن قرأ بالضاد يقول يقضي بحكم.

(58)

ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ أي: يقضي بالحق وكذلك روي في حرف ابن مسعود رضي اللَّه عنه أنه قرأ (يقضي بالحق) وقيل فيه إضمار، أي: يقضي ويحكم وحكمه الحق. (يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) أي: القاضين والفصل والقضاء واحد؛ لأنه بالقضاء يفصل واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) لأهلكتكم. وقيل: (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)، أي: لعجلته لكم بالقضاء فيما بيننا، يخبر عن رحمة اللَّه وحلمه، أي: لو كان بيدي لأرسلته عليكم، لكن اللَّه بفضله ورحمته يؤخر ذلك عنكم. ثم فيه نقض على المعتزلة في قولهم بأن اللَّه لا يفعل بالعبد إلا الأصلح في الدِّين؛ لأنه قال: (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)، ثم لا يحتمل أن تأخير العذاب والهلاك خير لهم وأصلح، ثم هو يهلكهم ويكون عظة لغيرهم وزجرًا لهم، ثم إن اللَّه - تعالى - أخر ذلك العذاب عنهم وإن كان فيه شر لهم؛ فدل أن اللَّه قد يفعل بالعبد ما ليس ذلك بأصلح له في الدِّين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ). أي: عليم بمن الظالم منا؟ وهم كانوا ظلمة. * * * قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ). هذا - واللَّه أعلم - يحتمل أن يكون صلة قوله: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا

أَعْلَمُ الْغَيْبَ)، وصلة قوله: (مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) كانوا يطلبون منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويسألونه أشياء من التوسيع في الرزق، وغير ذلك مما كان يعدهم من الكرامة والمنزلة والسعة، وكان يوعدهم بالعذاب ويخوفهم بالهلاك، فيستعجلون ذلك منه ويطلبون منه ما أوعدهم فقال: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)، ليس ذلك عندي، لا يعلم ذلك إلا هو. ومفاتح: من المفتح، ليس من المفتاح؛ لأن المفتاح، يكون جمعه مفاتيح، والمفتح: يقال في النصر والمعونة؛ يقال: فتح اللَّه عليه بلدة كذا، أي: نصره وجعله غالبًا عليهم، ويقال فيما يحدثه ويستفيد منه: فتح فلان على فلان باب كذا، أي: علمه علم ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ). أي: من عنده يستفاد ذلك ومنه يكون، ومن نصر آخر إنما ينصر به، ومن علم آخر علما إنما يعلمه به، ومن وسع على آخر رزقًا إنما يوسعه باللَّه، كل هذا يشبه أن يخرج تأويل الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ). هذا يحتمل وجوهًا؛ يحتمل أي يعلم ما في البر والبحر من الدواب، وما يسكن فيها من ذي الروح، كثرتها وعددها وصغيرها وكبيرها، لا يخفى عليه شيء. والثاني: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، أي: يعلم رزق كل ما في البر والبحر من الدواب ويعلم حاجته، ثم يسوق إلى كل من ذلك رزقه. يذكر هذا - واللَّه أعلم - ليعلموا أنه لما ضمن للخلق لكل منهم رزقه، يسوق إليه رزقه من غير تكلف ولا طلب؛ كما يسوق أرزاق كل ما في البر والبحر من غير طلب ولا تكلف، لا تضيق قلوبهم لذلك، فما بالكم تضيق قلوبكم على ذلك، وقد ضمن ذلك لكم كما ضمن لأُولَئِكَ؟! والثالث: يعلم ما في البر والبحر من اختلاط الأقطار بعضها ببعض، ومن دخول بعض

في بعض، يخرج هذا على الوعيد: أنه لما كان عالمًا بهذا كله يعلم بأعمالكم ومقاصدكم. فَإِنْ قِيلَ: هذا الذي ذكر كله في الظاهر دعوى، فما الدليل على أنه كذلك؟ قيل: اتساق التدبير في كل شيء وآثاره فيه يدل على أنه كان بتدبير واحد؛ لأن آثار التدبير في كل شيء واتساقه على سنن واحد ظاهرة بادية، فذلك يدل على ما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) الآية. يحتمل الكتاب - هاهنا -: التقدير والحكم اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أي: محفوظ كله عنده؛ يقول الرجل لآخر: عملك كله عندي مكتوب، يريد الحفظ، أي: محفوظ عندي، وذلك جائز في الكلام. وقيل: الكتاب - هاهنا -: هو اللوح المحفوظ، أي: كله مبين فيه. وقال الحسن - رحمه اللَّه -: إن اللَّه يخرج كتابًا في كل ليلة قدر،

(60)

ويدفعه إلى الملائكة، وفيه مكتوب كل ما يكون في تلك السنة؛ ليحفظوه على ما يكون. أو كلام نحو هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ... (60)

قال بعض أهل الكلام: إن لكل حاسة من هذه الحواس روحًا تقبض عند النوم، ثم ترد إليها، سوى روح الحياة فإنها لا تقبض؛ لأنه يكون أصم بصيرًا متكلمًا ناطقًا، ويكون أعمى سميعًا، ويكون أخرس سميعًا بصيرًا، فثبت أن لكل حاسة من حواس النفس روحًا على حدة تقبض عند النوم، ثم ترد إليها إذا ذهب النوم. وأما الروح التي بها تحيا النفس: فإنه لا يقبض ذلك منه إلا عند انقضاء أجله وهو الموت. وقالت الفلاسفة: الحواس هي التي تدرك صور الأشياء بطينتها.

وقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ). فيه دلالة أن ليس ذكر الحكم في حال أو تخصيص الشيء في حال دلالة سقوط ذلك في حال أخرى؛ لأنه قال: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ)، ليس فيه أنه لا يعلم ما جرحنا

بالليل، بل يعلم ما يكون منا بالليل والنهار جميعًا، وليس فيه أنه لا يتوفانا بالنهار وألا نجرح بالليل، لكنه ذكر الجرح بالنهار والوفاة بالليل؛ لما أن الغالب أن يكون النوم بالليل والجرح بالنهار؛ فهو كقوله - تعالى: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)، ليس ألا يبصر بالليل، لكن ذكر النهار، لما أن الغالب مما يبصر إنما يكون بالنهار؛ فعلى ذلك الأول. ثم فيه دلالة أن النائم غير مخاطب في حال نومه؛ حيث ذكر الوعيد فيما يجرحون بالنهار ولم يذكر بالليل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: جرحتم، أي: أثمتم بالنهار. وقيل: يعلم ما كسبتم بالنهار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) يستدل بقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) على الإحياء بعد الموت؛ لأنه يذهب أرواح هذه الحواس ثم يردها إليها من غير أن يبقى لها أثر، فكيف تنكرون البعث بعد الموت وإن لم يبق من أثر الحياة شيء؟! ثم القول في الجمع بعد التفرق مما الخلق يفعل ذلك ويقدر عليه؛ نحو ما يجمع من التراب المتفرق فيجعله طينًا، ورفع البناء من مكان، ووضعه في مكان آخر، وغير ذلك من جمع بعض إلى بعض، وتركيب بعض على بعض؛ فدل أن الأعجوبة في رد ما ذهب كله حتى لم يبق له أثر، لا في جمع ما تفرق، واللَّه أعلم.

(61)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ). أي: يوقظكم، ويرد إليكم أرواح الحواس. (لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى). أي: مسمى العمر إلى الموت. (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). خرج هذا على الوعيد لما ذكرنا؛ ليكونوا على حذر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ)، وقوله: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ). يعلم كل ما يغيب عن الخلق ولا يخفى عليه شيء؛ لأنه عالم بذاته لا يحجبه شيء، ليس كعلم من يعلم بغيره، فيحول بينه وبين العلم بالأشياء الحجب والأستار، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - فعالم بذاته لا يعزب عنه شيء، ولا يكون له حجاب عن شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ... (61) فيه جميع ما يحتاج أهل التوحيد في التوحيد؛ لأنه أخبر أنه قاهر لخلقه وهم مقهورون، ومن البعيد أن يشبه القاهر المقهور بشيء، أو يشبه المقهور القاهر بوجه، أو يكون المقهور شريك القاهر في معنى؛ لأنه لو كان شيء من ذلك لم يكن قاهرا من جميع الوجوه، ولا كان الخلق مقهورًا في الوجوه كلها، فإذا كان اللَّه قاهرًا بذاته الخلق كله كانت آثار قهره فيهم ظاهرة، وأعلام سلطانه فيهم بادية؛ دل على تعاليه عن الأشباه والأضداد، وأنه كما وصف (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وقوله: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ). يكون على وجهين: أحدهما: وهو القاهر وهو فوق عباده. الثاني: على التقديم والتأخير؛ وهو فوق عباده القاهر.

ويحتمل قوله: (فَوْقَ عِبَادِهِ): بالنصر لهم والمعونة والدفع عنهم؛ كقوله: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)، أي: بالنصر والمعونة، والعظمة والرفعة والجلال، ونفاذ السلطان والربوبية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً). أخبر أنه القاهر فوق عباده، وأنه أرسل عليهم الحفظة؛ ليعلموا أن إرسال الحفظة عليهم لا لحاجة له في ذلك لما أخبر أنه قاهر فوق عباده ولو كان ذلك لحاجة له، لم يكن قاهرًا؛ لأن كل من وقعت له حاجة صار مقهورًا تحت قهر آخر، فاللَّه - تعالى - يتعالى عن أن تمسه حاجة، أو يصيبه شيء مما يصيب الخلق، بل إنما أرسلهم عليهم لحاجة الخلق: إما امتحانًا منه للحفظة على محافظة أعمال العباد والكتابة عليهم، من غير أن تقع له في ذلك حاجة، يمتحنهم على ذلك، ولله أن يمتحن عباده بما شاء من أنواع المحن، وإن أكرمهم ووصفهم بالطاعة في الأحوال كلها بقوله: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وغير ذلك من الآيات. والثاني: يرسلهم عليهم بمحافظة أعمالهم والكتابة عليهم؛ ليكونوا على حذر في ذلك العمل، وذلك في الزجر أبلغ وأكثر؛ لأن من علم أن عليه رقيبًا في عمله وفعله كان أحذر في ذلك العمل. وأنظر فيه، وأحفظ له ممن لم يكن عليه ذلك، وإن كان يعلم كل مسلم أن اللَّه عالم الغيب لا يخفى عليه شيء، عالم بما كان منهم وبما يكون أنه كيف يكون؟ ومتى يكون؟ ثم اختلف في الحفظة هاهنا: قَالَ بَعْضُهُمْ: هم الذين قال اللَّه أفيهم: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2).

وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12). يكتبون أعمالهم ويحفظونها عليهم. وقال آخرون: هم الذين يحفظون أنفاس الخلق، ويعدوز عليهم إلى وقت انقضائها وفنائها، ثم تقبض منه الروح ويموت؛ ألا ترى أنه قال على أثره: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)؛ دل على أن الحفظة - هاهنا - هم الذين سلطوا على حفظ الأنفاس، والعد عليهم إلى وقت الموت، واللَّه أعلم. ثم في قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه ذكر مجيء الموت وتوفي الرسل، وقال: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)، ومجيء الموت هو توفي الرسل وتوفي الرسل هو مجيء الموت. ثم أخبر أنه خلق الموت دل أنه خلق توفيهم، فاحتال بعض المعتزلة في هذا وقال: إن الملك هو الذي ينزع الروح ويجمعه في موضع، ثم إن اللَّه يتلفه ويهلكه. فلئن كان ما قال، فإذن لا يموت بتوفي الرسل أبدًا؛ لأنهم إذا نزعوا وجمعوا في موضع تزداد حياة الموضع الذي جمعوا فيه؛ لأنه اجتمع كل روح النفس في ذلك الموضع، فإن لم يكن دل أن ذلك خيال، والوجه فيه ما ذكرنا من الدلالة، وهو ظاهر بحمد اللَّه، يعرفه كل عاقل يتأمل فيه ولم يعاند، وباللَّه التوفيق. ثم اختلف في قوله: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: هو ملك الموت وحده، وإن خرج الكلام مخرج العموم بقوله: (رُسُلُنَا)، والمراد منه الخصوص؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)، أخبر أنه هو الموكل والمسلط على ذلك.

(62)

وقال آخرون: يتوفاه أعوان ملك الموت، ثم يقبضه ملك الموت ويتوفاه. وقال قائلون: يكون معه ملائكة تقبض الأنفس، ويتوفاه ملك الموت. لكن ذكر ذلك لا ندري أن كيف هو؟ ليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة، ولكن إلى معرفة ما ذكرنا. وقوله: (وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) وفيه إخبار عن شدة طاعة الملائكة ربهم، وأن الرأفة لا تأخذهم فيما فيه تأخير أمر اللَّه وتفريطه؛ لأن من دخل على من في النزع، أخذته من الرأفة ما لو ملك حياته لبذل له، فأخبر عَزَّ وَجَلَّ أنهم لا يفرطون فيما أمروا ولا يؤخرونه؛ لتعظيمهم أمر اللَّه وشدة طاعتهم له، وعلى ذلك وصفهم: (غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، وقال: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ... (62) ذكر الرد إلى اللَّه، وأنه مولاهم الحق، وإن كانوا في الأحوال كلها مردودين إلى اللَّه، وكان مولاهم الحق في الدنيا والآخرة. وكذلك قوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا)، وكذلك قوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) كان الملك له في الدنيا والآخرة، وكانوا بارزين له جميعًا في الأوقات كلها؛ لما كانوا أصحاب الشكوك، فارتفع ذلك عنهم، وخلص بروزهم وردهم إلى اللَّه خالصًا لا شك فيه؛ وكذلك كان الملك له في الدنيا والآخرة وهي الأيام كلها، لكن نازعه

(63)

غيره في الملك في الدنيا، ولا أحد ينازعه في ذلك اليوم في الملك، فقال: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)؛ وعلى ذلك قوله: (مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ)، كان مولاهم الحق في الأوقات كلها والأحوال، ولكن عند ذلك يظهر لهم أنه كان مولاهم الحق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ). يحتمل: ردوا إلى ما وعدهم وأوعد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ). يحتمل قوله: (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ): في تأخير الموت والحياة، وقبض الأرواح، وتوفي الأنفس. ويحتمل قوله: (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ) في التعذيب في النار والثواب والعقاب ليس يدفع ذلك عنهم دافع سواه، ولا ينازعه أحد في الحكم. (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ). عن الحسن قال: هو سريع العقاب؛ لأنه إنما يحاسب ليعذب كما روي: " من نوقش الحساب عذب " وهو أسرع الحاسبين؛ لأنه لا يحاسب عن حفظ ولا تفكر، ولا يشغله شيء، وأما غيره: فإنما يحاسب عن حفظ وتفكر وعن شغل، فهو أسرع الحاسبين؛ إذ لا يشغله شيء. * * * قوله تعالى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وليس هذا على الأمر له، ولكن على المحاجة؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ)، ليس على الأمر بالسير في الأرض، ولكن على الاعتبار بأُولَئِكَ الذين كانوا من قبل، والنظر في آثارهم وأعلامهم أن كيف صاروا بتكذيبهم الرسل،

وماذا أصابهم بذلك؛ فعلى ذلك هذا، فيه الأمر بالمحاجة معهم في آلهتهم: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) آلهتكم التي تعبدون من دون اللَّه، وتشركونها في ألوهيته وربوبيته، أو اللَّه الذي خلقكم؟ فسخرهم حتى قالوا: اللَّه هو الذي ينجينا من ذلك، فقال: (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ)، فإذا كان هو الذي ينجيكم من هذا لا آلهتكم التي تعبدونها؛ فكذلك هو الذي ينجيكم من كل كرب ومن كل شدة. ويحتمل قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ). أي: لا أحد ينجيكم من ظلمات البر والبحر؛ كقوله: (وَمَنْ أَظلَمُ)، أي: لا أحد أظلم من تخافون على آلهتكم الهلاك كما تخافون على أنفسكم؛ فلا أحد سواه ينجيكم من ذلك ومن كل كرب. قال أبو بكر الكيساني: هم عرفوا في الدنيا أنه هو الذي ينجيهم من ذلك كله، وهو الذي يعطي لهم ما أعطوا بما قامت عليهم الحجج، ولم يعرفوا أنه هو الذي ينجيهم في الآخرة ويهلكهم، وهو هكذا: عرفوا اللَّه في الدنيا، ولم يعرفوه في الآخرة. ثم اختلف في ظلمات البر والبحر: قَالَ بَعْضُهُمْ: الظلمات: هي الشدائد والكروب التي تصيبهم بالسلوك في البر والبحر. وقال آخرون: الظلمات هي الظلمات لأن أسفار البحار والمفاوز إنما تقطع بأعلام السماء، فإذا أظلمت السماء بقوا متحيرين لا يعرفون إلى أي ناحية يسلكون، ومن أي طريق يأخذون، فعند ذلك يدعون اللَّه تضرعًا وخفية. قال الحسن: التضرع: هو ما يرفع به الصوت، والخفية: هي ما يدعي سرًّا وهو من الإخفاء. وفي حرف ابن مسعود: (تدعونه تضرعًا وخيفة) وهي من الخوف.

(64)

قال الكلبي: في خفض وسكون، وتضرع إلى اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). قال أبو بكر (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، أي: لا نوجه الشكر إلى غيرك، والشكر - هاهنا -: هو التوحيد، أي: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الموحدين لك من بعد؛ لأنهم كانوا يوحدون اللَّه في ذلك الوقت، لكنهم إذا نجوا من ذلك أشركوا غيره في ألوهيته. ألا ترى أنه قال: (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) بعد علمكم أن الأصنام التي تعبدونها لم تملك الشفاعة لكم، ولا الزلفى إلى اللَّه؛ يذكر سفههم في عبادتهم الأوثان على علم منهم أنها لا تشفع لهم، ولا تملك دفع شيء عنهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ... (65) اختلف في نزول الآية فيمن نزلت؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في مشركي العرب - وهو قول أبي بكر الأصم - لأنها نزلت على أثر آيات نزلت في أهل الشرك، من ذلك قوله: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ). وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ. . .) الآية. وقوله: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً. . .)، إلى قوله - تعالى -: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ): هذه الآيات كلها نزلت في أهل الشرك، فهذه كذلك نزلت فيهم؛ لأنها ذكرت على أثرها؛ ولأن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك، إلا آيات منها نزلت في أهل الكتاب، وسورة المائدة نزل أكثرها في محاجة أهل الكتاب؛ لأنه يذكر فيها: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ). ومنهم من يقول: نزلت في أهل الإسلام، وهو قول أبي بن كعب، وقال: هن أربع، فجاء منهن ثنتان بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ألبسهم شيعًا، وأذاق بعضهم بأس

بعض. أما لبس الشيع: هي الأهواء المختلفة، (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) هو السيف والقتل، هذان قد كانا في المسلمين، وبقي ثنتان لابد واقعتان. ومنهم من يقول: كان ثنتان في المشركين من أهل الكتاب، وثنتان في أهل الإسلام،

وهو قول الحسن قال: قد ظهر في أهل الإسلام الأهواء المختلفة والقتل والفتن، وأما اللذان في أهل الشرك من أهل الكتاب: فهما الخسف في الأرض، والحجارة من السماء. ثم اختلف في قوله: (عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ). عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ)، أي: من أمرائكم، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ). أي: من سفلتكم؛ لأن الفتن ونحوها إنما تهيج من الأمراء الجائرين ومن أتباعهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا). قال: الأهواء المختلفة. وقوله - تعالى -: (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ). أي: يسلط بعضهم على بعض بالقتل والعذاب. ومن قال بأن الآية نزلت في أهل الشرك يقول: كان في أشياعهم ذلك كله، أما العذاب من الفوق فهو الحصب بالحجارة؛ كما فعل بقوم لوط، ومن تحت أرجلهم وهو الخسف، كما فعل بقارون ومن معه. وقوله: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا).

يقول: فرقا وأحزابًا، وكانت اليهود والنصارى فرقًا مختلفة، اليهود

فرقًا والنصارى كذلك؛ كقوله: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) وقوله: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وقوله: (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ). هو الحرب والقتال. وقول الحسن ما ذكرنا أنه ظهر في أهل الإسلام الأهواء المختلفة وظهر الحرب والقتل. وأما الخسف والحصب: فلم يظهرا؛ فهما في أهل الشرك. ويحتمل قوله: (عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُم) أرسلها عليهم؛ لأنهم قد أقروا أنه هو رفع السماء، فمن قدر على رفع شيء يقدر على إرساله. وقوله: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ). لأنهم عرفوا أنه بسط الأرض، ومن ملك بسط شيء يملك طيه ويخسف بهم.

(66)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ). قيل: أي: نردد الآيات ليعلم كل مزدجره. أو يقول: كيف نصرف الآيات ليعلم كل صدقها وحقيقتها أنها من اللَّه جاءت. (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ): يحتمل وجوهًا: صرفها ليفقهوا، وذلك يرجع إلى المؤمنين خاصة. والثاني: (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)، أي: ليلزمهم أن يفقهوا، وقد ألزم الكل أن يفقهوا، لكن من لم يفقه إنما لم يفقه؛ لأنه نظر إليه بعين الاستخفاف. والثالث: (نُصَرِّفُ الْآيَاتِ) أي: نصرف الرسل ونبلغها إليهم على رجاء أن يفقهوا، لكي يفقهوا؛ إن نظروا فيها وتأملوها. وذكر (لَعَلَّهُم)؛ لأن منهم من فقه، ومنهم من لم يفقه. (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ... (66) يحتمل به: القرآن، ويحتمل: بما ذكر من الآيات، ويحتمل: الإيمان به والتوحيد. (وَهُوَ الْحَقُّ) وكذب به قومك وهم أحق أن يصدقوك بما جئت به وأنبأتهم؛ لأنك نشأت بين أظهرهم، فلم تأت كذبًا قط، ولا رأوك تختلف إلى أحد يعلمك، فهم أحق أن يصدقوك بما جئت به وأنبأتهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ). قال عامة أهل التأويل: الوكيل: الحفيظ، والوكيل: هو القائم في الأمر، أي: لست بقائم عليكم؛ لأكرهكم على التوحيد والإيمان شئتم أو أبيتم، ولست بحافظ على

(67)

أعمالكم إنما عليَّ التبليغ؛ كقوله: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) قَالَ بَعْضُهُمْ: لكل أمر حقيقة. وقيل: لكل خبر غاية ينتهي إليها. ويحتمل: أن يكون صلة قوله: (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)؛ (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ)، أي: لست عليكم بوكيل، لكن لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ في أن أغنم أموالكم وأسبي ذراريكم؛ كقوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ). ويحتمل قوله: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) أي: بما كان وعد وأوعد، واللَّه أعلم. وفي قوله: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنا نعلم أن للخلق حقيقة الفعل في القتل والحرب والأهواء المختلفة، ثم أضاف ذلك إلى نفسه؛ دل أن له صنعًا في أفعالهم، وليس كما تقول المعتزلة: إنه لا يملك ذلك. وكذلك ما ذكر من إضافة تلبيس الشيع إليه رد لقولهم؛ لأنهم يقولون: هم يختلفون، وقد أخبر أنه هو يجعلهم شيعًا، وذلك ظاهر النقض عليهم؛ لأنه أخبر أنه يذيق بعضهم بأس بعض، وهم يقولون: هو لا يذيق ولكن ذلك القاتل أو الضارب أو المعذب هو يذيقهم دون رب العالمين؛ وكذلك قوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) وهم يقولون: هو لا يعذبهم ولكن الخلق يعذبونهم؛ وكذلك قوله: (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)، وهم يقولون: هو لا يملك تعذيبهم بأيديهم، وذلك رد لظاهر الآية وتركها جانبًا. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ).

(69)

يشبه أن يكون قوله: (يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أن يكون، أي: يكفرون بها ويستهزئون بها؛ كما قال في سورة النساء: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا)، فيكون خوضهم في الآيات الكفر بها والاستهزاء بها، ويكون قوله - تعالى -: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)، أي: لا تقعد معهم؛ كما قال: (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ). يحتمل: النهي عن القعود معهم على ما ذكرنا من قوله: (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ). ويحتمل الإعراض: الصفح عنهم وترك المجازاة لمساويهم؛ كقوله - تعالى -: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ)؛ أو كقوله تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)، وفيه الأمر بالتبليغ فينهى عن القعود معهم والأمر بالتبليغ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ومعناه - واللَّه أعلم -: أن الشيطان إذا أنساك القعود معهم فلا تقعد بعد ذكر الذكرى، ومعنى النهي بعد ما أنساه الشيطان، أي: لا تكن بالمحل الذي يجد الشيطان إليك سبيلا في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) قيل فيه رخصه الجلوس معهم؛ وهو كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)، ثم نسخ ذلك بقوله - تعالى -: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)، وكان النهي عن مجالستهم ليس للجلوس نفسه، ولكن ما ذكرنا من خوضهم في آيات اللَّه بالاستهزاء بها والكفر بها هو الذي كان يحملهم على ذلك، ليس ألا يجوز أن تجالسهم، وكذلك ما نهانا أن نسبهم ليس ألا يجوز لنا أن نسبهم، ولكن لما كان سبُّنَا إياهم هو الذي يحملهم على سبِّ اللَّه.

(70)

(وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). يحتمل النهي عن القعود معهم وجهين. أحدهما: نهى هَؤُلَاءِ عن القعود معهم لما كان أهل النفاق يجالسونهم، ويستهزئون بالآيات ويكفرون بها، فنهى هَؤُلَاءِ عن ذلك؛ ليرتدع أهل النفاق عن مجالستهم. والثاني: أنه نهى المؤمنين عن مجالستهم؛ ليمتنعوا عن صنيعهم حياء منهم؛ لأنهم لو امتنعوا عن مجالستهم فيمنعهم ذلك عن الاستهزاء بها والكفر بها، لما كانوا يرغبون في مجالسة المؤمنين، فيتذكرون عند قيامهم عنهم، فيتقون الخوض والاستهزاء، ولا يخافون أن يعرفوا في الناس بترك مجالستهم المؤمنين، فيحملهم ذلك على الكف عن الاستهزاء بالآيات وبرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا ... (70) أي: وذر الذين اتخذوا لعبا ولهوا دينا؛ على التقديم والتأخير. والثاني: اتخذوا اللعب واللهو دينهم؛ حتى لا يفارقوا اللعب واللهو؛ لأن الدِّين إنما يتخذ للأبد، فعلى ذلك اتخذ أُولَئِكَ اللعب واللهو للأبد كالدِّين. ثم هو يخرج على وجوه: أحدها: اتخذوا دينهم عبادة ما لا ينفع ولا يضر، ولا يبصر ولا يسمع ولا يعلم، ومن عبد من هذا وصفه، واتخذ ذلك دينا - فهو عابث لاعب. والثاني: اتخذوا دينهم ما هوته أنفسهم، ودعتهم الشياطين إليه، ومن اتخذ دينه بهوى نفسه، وما دعته نفسه إليه - فهو عابث لاعب. والثالث: صار دينهم لعبًا وعبثًا؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، ومن لم يقصد بدينه الذي دان به عاقبة فهو عابث مبطل؛ كقوله - تعالى -: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ

عَبَثًا. . .) الآية، صير عدم الرجوع إليه عبثًا. وقوله: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). أي: شغلهم ما اختاروا من الحياة الدنيا والميل إليها عن النظر في الآيات والبراهين والحجج. أو أن يكون قوله: (وَغَرَّتْهُمُ)، أي: اغتروا بالحياة الدنيا؛ أضاف التغرير إلى الحياة الدنيا لما بها اغتروا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ). قيل: وذكر به قبل أن تبسل نفس بما كسبت، وإنَّمَا يذكرهم بهذا لئلا يقولوا غدًا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). وأصل الإبسال: الإهلاك، أو الإسلام للجهناية والهلاك. ثم اختلف في قوله: (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ): عن ابن عَبَّاسٍ قال: أن تفضح نفس بما كسبت. وقيل: تبسل: تؤخذ وتحبس؛ وهو قول قتادة؛ وكذلك قال في قوله: (أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا)، أي: حبسوا بما كسبوا. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أُبْسِلُوا) أي: فضحوا؛ على ما قال في

(تُبْسَلَ). وعن الحسن: (تُبْسَلَ)، أي: تسلم وعن مجاهد كذلك. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (تُبْسَلَ نَفْسٌ): أي: تسلم، وذلك أن الرجل يجني جناية، فيسلم إلى أهل الجناية. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (تُبْسَلَ) أي تسلم للهلكة. وعن الكيساني: (تُبْسَلَ): تجزَى نفس بما كسبت. وقال الفراء: (تُبْسَلَ): ترهن. وأصل الإبسال: هو الإسلام، وتفسيره ما ذكر على أثره، وهو قوله: (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ)؛ كما يكون بعضهم شفيعًا لبعض في الدنيا، وأعوانًا لهم وأنصارًا في دفع المضار والمظالم عنهم وجر المنافع إليهم، وأما في الآخرة: فإن كل نفس تسلم بما كسبت، لا شفيع لها ولا ولي؛ كقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ). وكقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً)، وغير ذلك من الآيات تسلم كل نفس إلى كسبها لا شفيع لها ولا ولي. وقوله: (وَذَكِّرْ بِهِ)، يحتمل بالقرآن والآيات ويحتمل (بِهِ)، أي: باللَّه، أي: عظ به أن تهلك نفس بما كسبت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: العدل: الفداء؛ يقول: وإن فدت نفس كل الفداء

لتتخلص مما حل بها، لم يؤخذ منها ولم يقبل منها ذلك. وقال الحسن: العدل: كل عمل البر والخير، أي: وإن عملت كل عمل البر والخير من الفداء والتوبة، لم يقبل منها ذلك؛ يخبر أن الدار الآخرة ليست بدار العمل، ولا يقبل فيها الرشا كما تقبل في الدنيا، وأخبر ألا يكون شفعاء يشفعون لهم، ولا أولياء ينصرونهم، ليس كالدنيا؛ لأن من أصابه في هذه الدنيا شيء، أو حل به عذاب أو غرامة - فإنما يدفع بإحدى هذه الخلال الثلاثة، إما بشفعاء يشفعونه، أو بأولياء ينصرونه، أو بالرشا، فأخبر أن الآخرة ليست بدار تقبل فيها الرشا، فتدفع ما حل بهم، أو أولياء ينصرونهم في دفع ذلك عنهم، أو شفعاء يشفعونهم. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى ذكر العدل والفداء، وليس عنده ما يفدي ولا يبذل وما يمكَّن من العمل؟ قيل: معناه - واللَّه أعلم - أي: لو مكن لهم من الفداء ما يفدون في دفع ذلك عن أنفسهم، ومكن لهم من العمل ما لو عملوا، لم يقبل ذلك منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا). قد ذكرنا الاختلاف في الإبسال، وأصله: الإسلام يسلمون لما اكتسبوا لا يكون لهم

(71)

شفعاء ولا أولياء، ولا يقبل منهم الرشا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ). قيل: الحميم: هو ماء حار قد انتهى حره يغلي ما في البطن إذا وصل إليه، فيشبه أن يكون لهم من الشراب ما ذكر؛ لما تناولوا في الدنيا من الشراب المحرم، فكان لهم في الآخرة الحميم مكان ذلك، والعذاب الأليم؛ لما أعطوا أنفسهم في الدنيا من الشهوات واللذات جزاء ذلك. * * * قوله تعالى: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا): يحتمل هذا وجوهًا: يحتمل: أن يكون أُولَئِكَ الكفرة دعوا رسول اللَّه أو المؤمنين إلى عبادة الأصنام التي كانوا يعبدونها، فقال عند ذلك: (أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا)، بعدما عبدنا اللَّه الذي يملك نفعنا وضرنا. أو كان أهل الكفر يدعون أهل الإسلام إلى عبادة الأوثان التي كانوا يعبدونها: إما طمعًا بشيء يبذلونه؛ ليرجعوا إلى عبادة الأوثان والأصنام عن عبادة اللَّه، أو تخويفًا منهم لهم، فقال: قل يا مُحَمَّد أندعو من دون اللَّه ما لا يملك نفعنا إن عبدناه، ولا يملك ضرنا إن تركنا عبادته، بعدما عبدنا الذي يملك نفعنا إن عبدناه، ويملك ضرنا إن تركنا عبادته؟! وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا): هذا مثل ضربه اللَّه للأصنام التي عبدوها دون اللَّه، ومن يدعو إليها وللدعاة الذين يدعون إلى اللَّه وإلى عبادته؛ كمثل رجل ضل به الطريق؛ فبينما هو ضال إذ ناداه مناد: يا فلان بن فلان هلم إلى الطريق وله أصحاب يدعونه يا فلان هلم إلى الطريق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا): في الكفر والشرك. (بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ). يقول: مثلهم إن كفروا بعد الإيمان كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا؛ فإنا على الطريق، قال: فلم يأتهم؛ فذلك مثل من تبعكم بعد المعرفة بمُحَمَّد، ومُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو الذي يدعوهم إلى الطريق وهو الهدى. ويحتمل أن يكون المثل الذي ضربه من وجه آخر، وهو أن مثل هَؤُلَاءِ كمثل من كان في بعض المفاوز والبراري، فضل الطريق به فذهب به الغيلان حتى أوقعوه في الهلكة؛ وهو الذي تقدم ذكره. ويشبه أن يكون قوله: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا) أنه ما من أحد: من مشرك ومؤمن، إلا وله أصحاب يدعونه: أما المؤمن: فله أصحاب من الملائكة يدعونه إلى الهدى، والكافر: له شياطين يدعونه إلى الشرك؛ هذا أشبه أن يحمل عليه، لكن أهل التأويل حملوا الآية، على ما ذكرنا. قال قتادة: هذه خصومة علمها اللَّه محمدا يخاصم بها أهل الشرك؛ لأن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (اسْتَهْوَتْهُ): أضلته. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: ذهبت به، استهوته وأهوته واحد، أي: دعته إلى الهلكة، وقيل: أضلته.

(72)

وقوله: (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا). أي: نرجع عن الإيمان إلى الشرك، (بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى). قيل: بيان اللَّه هو البيان. وقيل: إن دين اللَّه هو الهدى وهو الدِّين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). قيل: هذا صلة قوله: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا) (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس على الصلة، ولكن على الابتداء: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، وقل لهم: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ (72) (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) قد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ... (73) قيل: قوله: (بِالْحَقِّ)، أي: خلق السماوات والأرض بالحق لم يخلقهما باطلا؛ كقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا). قيل: لم يخلقهما باطلا، ولكن خلقهما بالحق، وهو يحتمل وجوهًا: قيل: خلقهما للعاقبة؛ لأن كل أمر لا عاقبة له فهو باطل ليس بحق، فإنما خلق السماوات والأرض وما بينهما للعاقبة وذلك لأمر عظيم؛ كقوله: (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6). وقيل: قوله: (بِالْحَقِّ)، أي: خلقهما ليمتحن فيهما ولمحنة سكانهما، لم يخلقهما لغير شيء. وقيل: (بِالْحَقِّ)، أي: خلقهما بالحكمة من نظر فيهما وتدبر؛ للدلالة على أن لهما خالقًا ومدبرًا، والدلالة على أن مدبرهما ومنشئهما واحد، فإذا كان كذلك كان خلقهما بالحق بالحكمة والعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُنْ فَيَكُونُ).

قد ذكرنا أن قوله: (كُن) هو أوجز كلام في لسان العرب يعبر به فيفهم منه، لا أَنْ كَانَ مِنَ اللهِ كاف أو نون، لكنه ذكر - واللَّه أعلم - ليعلموا أن ليس على اللَّه في الإحياء والإنشاء بعد الموت مؤنة؛ كما لم يكن على الخلق في التكلم بـ " كن " مؤنة، ولا يصعب عليهم ذلك؛ فعلى ذلك ليس على اللَّه في البعث بعد الموت مؤنة ولا صعوبة. والثاني: ذكر هذا لسرعة نفاذ البعث؛ كقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ)، أخبر أن خلقهم وبعثهم ليس إلا كخلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة؛ وكقوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، يخبر لسرعة نفاذ الساعة وبعثهم، وذلك أن الرجل قد يلمح البصر وهو لا يشعر به؛ فعلى ذلك القيامة قد تقوم وهم لا يشعرون. والثالث: يذكر هذا - واللَّه أعلم - أن البعث بعد الموت والإحياء إعادة، وإعادة الشيء عندكم أهون من ابتداء إنشائه؛ وعلى ذلك يخرج قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي: هو أهون عليه عندكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -.: (قَوْلُهُ الْحَقُّ). يحتمل: (قَوْلُهُ الْحَقُّ)، أي: البعث بعد الموت حق على ما أخبر. ويحتمل: (قَوْلُهُ الْحَقُّ)، أي: ذلك القول منه حق يكون كما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ الْمُلْكُ) أي: ملك ذلك اليوم؛ كقوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)؛ وكقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، ذكر هذا - واللَّه أعلم - لما لا ينازعه أحد في ملك ذلك اليوم، وقد نازعه الجبابرة في الملك في الدنيا، وإن لم يكن لهم ملك ولا ألوهية. ويحتمل قوله: (وَلَهُ الْمُلْكُ)، أي: ملك جميع الملوك له في الحقيقة؛ كقوله: (مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -. (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: النفخ: هو الروح، والروح من الريح، والروح إنما تد - خل، بالنفخ (فَنَفَخنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يكون هناك في الحقيقة نفخ، ولكن يذكر لسرعة نفاذ الساعة؛ لأن

(74)

الرجل قد يتنفس وهو لا يشعر به، فذكر هذا لسرعة نفاذ الساعة؛ لأنه ليس شيء أسرع جريانًا ونفاذًا من الريح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على حقيقة النفخ وهو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي الصُّورِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: في صور الخلق، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل فلا ندري كيف هو، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى أن فيه ما ذكرنا من سرعة نفاذ البعث. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَالِمُ الْغَيْبِ). أي: يعلم ما يغيب الخلق بعضهم من بعض. (وَالشَّهَادَةِ). ما يشهد بعضهم بعضًا. أو يحتمل عالم الغيب، أي: يعلم ما يكون إذا كان كيف كان، أو يعلم وقت كونه، والشهادة: ما كان وشوهد؛ يخبر أنه لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه. (وَهُوَ الْحَكِيمُ): في خلق السماوات والأرض، وخلق ما فيهما، والحكيم: في بعثهم، والحكيم، هو واضع الشيء موضعه. (الْخَبِيرُ) بكل شيء. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ).

قيل: آزر: هو اسم أبي إبراهيم، عليه السلام. والحسن يقرأ: (آزرُ)، بالرفع ويجعله اسم أبيه. وقال آخرون: هو اسم صنم، فهو على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر أصنامًا آلهة. وقوله: (أَتَتَّخِذُ). استعظامًا لما يعبد من الأصنام دون اللَّه؛ لأن مثل هذا إنما يقال على العظيم من الفعل. وقال أبو بكر الكيساني: قوله: (آزر) هو قيل: هو اسم عيب عندهم؛ كأنه قال: يا ضال أتتخذ أصنامًا آلهة؛ كقول الرجل لآخر: يا ضال. وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة كان اسم أبيه أو اسم صنم. وفي الآية دلالة أن أباه كان من رؤساء قومه بقوله: (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). وفيه دلالة أن لا بأس للرجل أن يشتم أباه لمكان ربه؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - سماه ضالا. وفيه دلالة أن الإيمان والتوحيد يلزم أهل الفترة في حال الفترة؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - سماهم ضلالا وهو لم يكن في ذلك الوقت رسولًا، إنما بعث رسولًا من بعد، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: ضلالًا لا شك فيه ولا

(75)

شبهة، وهو ما ذكر في آية أخرى حيث عبد ما ذكر؛ حيث قال: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، هذا الضلال البين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) ذكر كذلك - واللَّه أعلم - على معنى كما أريناك ملكوت السماوات والأرض والآيات؛ كذلك كنا أرينا إبراهيم. و (نُرِي) بمعنى: أرينا وذلك جائز في اللغة، و " كذلك " لا تذكر إلا على تقدم شيء، لكن الوجه فيه ما ذكرنا كما أريناك من السماوات والأرض من الآيات والحجج والبراهين؛ كذلك كنا أرينا إبراهيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: سلطان السماوات والأرض. وقيل: الشمس والقمر والكواكب. وقيل: فرجت له السماوات السبع، حتى نظر إلى ما تحت العرش وما فيهن؛ وكذلك فرجت له الأرضون حتى رأى ما فيهن. وقيل: (مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): خبئ إبراهيم - عليه السلام - من الجبابرة في سرب، فجعل اللَّه في أصابعه رزقًا، فإذا مص إصبعا من أصابعه وجد فيها رزقًا، فلما خرج أراه اللَّه الشمس والقمر، فكان ذلك ملكوت السماوات، وملكوت الأرض: الجبال والبحار والأشجار. وقيل: نظر إلى ملك اللَّه فيها حتى نظر إلى مكانه ورأى الجنة، وفتحت له الأرضون حتى نظر إلى أسفل الأرضين، فذلك قوله: (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا)،

قال: أري مكانه في الجنة. وقيل: أجره الثناء الحسن. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) من الملك؛ وكذلك قال أبو عبيدة، وهو كجبروت ورحموت ورهبوت؛ فكذلك ملكوت. وأصله: ما ذكر من الآيات والعجائب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ). الإيقان بالشيء هو العلم بالشيء حقيقة بعد الاستدلال والنظر فيه والتدبر؛ ولذلك لا يوصف اللَّه باليقين، ولا يجوز لله - تعالى - أن يقال: موقن؛ لما ذكرنا أنه هو العلم الذي يعقب الاستدلال، وذلك منفي عنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75). قيل في قوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ) أي: كما أريناك ملكوت ما ذكر، فقوله: (نُرِي) بمعنى أرينا. وقوله: (وَكَذَلِكَ) له وجهان: أحدهما: أنه كما أريناك ما أيقنت به أن الربوبية لله، وأنه الواحد لا شريك له من الآيات والأدلة، أريناه -أيضًا- ما ذكر حتى أيقن، فهو - واللَّه أعلم - على التسوية بين الأسباب الدالة على الوحدانية لله والربوبية في المعنى، وإن كانت لأعيانها مختلفة، وعلى أن طريق المعرفة الاستدلال بما أنشأ اللَّه من الدلالة لا السمع والحس، وإن كان في حجة السمع تأكيد. والثاني: أن يكون (وَكَذَلِكَ نُرِي) على ما أظهر من الحجج على قومه؛ وهو كقوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)، وأعطاه ما أراه وأشعر قلبه من

الحجج التي ألزم قومه بها أنطق بها اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لسانه ليلزم حججه خلقه، والله الموفق. (مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): الملك في الحقيقة من الوجه الذي يكون آية للإيقان ودليلا للإحاطة بالحق. ثم اختلف في وجه ذلك: فمنهم من قال: هو ما أرى بصره، أعني: بصر الوجه؛ نحو الذي ذكر من فتح السماء حتى رأى ما فيها من العجائب والآيات إلى العرش، أو حيث قد زوى الأرض حتى رأى ما فيها من أنواع الخلق إلى الثرى، أو حيث بلغ. ومنهم من قال: رفع إلى السماء حتى كانت الأرض بمن فيها له رأي العين، وكان له - صلوات اللَّه عليه مثل هذا من الأمور؛ نحو: أمر النار بالهجرة إلى حيث لا ضرع ولا زرع، وما جعل رزقه في أصابعه، وأمر بلوغ صوته في قوله - تعالى -: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)، أن كان على ما سمع منه، واللَّه أعلم. ومنهم من قال: هو ما أرى بصر قلبه من وجوه العبر وأنواع الأدلة عند التأمل في خلق اللَّه بالفكر من غير أن كان في الخلق تغير على الأحوال التي كانت عليه، وهو أحق من يكون له في الذي كان كفاية عن حدوث أحوال تدل إذ هي حجج اللَّه يستدل على قومه، من الوجه الذي جعل لجميع الخلق، لا من جهة خصوص آيات؛ فثبت أن ذلك كان له بهذا الوجه. ثم هو يخرج على وجوه؛ منها: ما رأى من تسخير القمر والشمس والنجوم، وقطعها في كل يوم وليلة أطراف السماء والأرض جميعًا، ومسيرها تحت الأرض إلى أن يعود كل إلى مطلعه، يسير كل ذلك ما فوق الأرض إلى السماء، واستواء أحوال ذلك على ما عليه حد في كل عام وشهر، لا يزداد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر، مع

(76)

عظيم ما بها من المنافع لأنواع دواب الأرض والطير جميعًا حتى يوقن كل متأمل أن مثل هذا لا يعمل بالطباع إلا أن يكون له مدبر حكيم جعله ذلك الطبع وسواه على ما شاء من الحد، وألا يتسق الأمر على التدبر والحكمة، إلا أن يكون مدبر ذلك، بحيث لا يحتاج إلى معين، ولا يجوز أن يكون له فيه منافع، ثم هو بذاته عليم قدير، وما في الأرض من تدبير الليل والنهار وأنهما يتعاقبان أبدًا، ويسيران يقهران ما فيها من الجبابرة والفراعنة، حتى إن اجتمع جميع أهل الأرض على زيادة في واحد أو نقصان، أو تقديم أو تأخير؛ لما لهم من الحاجة، أو بما فيهم من القوة والقدرة مع معونة الجميع لهم في ذلك لم يتهيأ لهم، ولا بلغ توهم أحد في احتمال ذلك حتى يصير عند وجود كل كان الآخر لم يكن قط، ثم عند العود إليهم كأنه لم يفارقهم قط، مع ما أودع أهل الأرض بهما من المنافع، وعليهم فيها أنواع مضار، ولهما سلطان على أعمارهم، على ما فيهما من أثر التسخير والتذليل الذي كل مقهور بالآخر، إذا جاء سلطانه وبلغ حده، وليس في واحد منهما امتناع عن قهر الآخر، وإن كان هو الظاهر القوي جريا جميعًا على حد واحد وسنن واحدة، ولا على ذلك على ما دل عليه الأول، مع ما فيهما من أثر العيث أمرًا ظاهرًا لا يحتمل أن يجهله إلا سفيه معاند، واللَّه أعلم. ثم النور والظلمة والظل ونحو ذلك الذي يبسط بسعة جميع أطراف السماء والأرض يستر واحد كل شيء، ويبدي آخر عن كل شيء، ويحيط الثالث بكل شيء، ثم تعلق منافع الأهل بها على اختلافها، وبالسماء والأرض على تباعد ما بينهما، وبالسهل والجبل والبحر والبر على تضاد معانيهما؛ وعلى ذلك جميع الأمور، فكان - صلوات اللَّه عليه - بما أرى من المعنى وغيره من الموقنين أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وجه إليه نفسه، وأن كل شيء نسب إليه الألوهية، محال أن يكون فيه وله إمكان ذلك، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ. . . (76) إلى قوله: (وَمَآ أَنا مِن الْمُشركِينَ). تكلموا في تأويل الآية على وجوه ثلاثة:

فمنهم من جعل الأمر على ما عليه الظاهر: أنه غير عارف بربه حق المعرفة إلى أن عرف من الوجه الذي بأن له عند الفراغ من آخر ما نسب إليه الربوبية أنه لا يعرف من جهة درك الحواس ووقوعها عليه، ولكن من جهة الآيات وآثار العقل، فقال: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .) الآية، لكن أهل هذا القول اختلفوا على وجوه ثلاثة: أحدها: ما روي في التفسير أنه ربّي في السرب، ولم يكن نظر إلى شيء من خلق السماء، فنظر عن باب السرب في أوّل الليل، فرأى الزهرة بضوئها وتلاللَّهِا، وكان في علمه أن له ربا وأنه يرى، فلم ير أضوأ منها ولا أنور، فقال: هذا ربي، فلما أفل وله علم أن الرب دائم لا يزول، فقال: لا أحبُّ، بمعنى: ليس هذا برب؛ كقوله: (مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ)، أي: ليس لنا، وقول عيسى حيث قال: (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ)، بمعنى: ما قلت ذلك، لكن أهل هذا التفسير حملوا الأفول على غيبوبته بنفسه، وهو عندنا على غيبوبته في سلطان القمر وقهر سلطان القمر، لما طلع سلطان النجم، وعنده أن الرب لا يقهر وأن سلطانه لا يزول؛ وعلى ذلك أمر القمر والشمس بظلمة الليل، وفي ذلك أنه لو كان عنده أن الرب لا يقهر وأن سلطانه لا يزول وأنه لا يرى، لأنكر من ذلك الوجه أن يكون ربه بل أقر به، وأنكر الأفول والزوال، وهذا ينقض قول من يصفه بالزوال والانتقال من حال إلى حال. ومنهم من يقول: كان هذا أمنه في وقت، لم يكن جرى عليه القلم سمع الخلق يقولون في خلق السماء والأرض ونحو ذلك، وينسبون ذلك إلى اللَّه؛ وعلى ذلك أمر جميع أهل الشرك؛ كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وقوله: (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ. . .)، إلى قوله: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ)

ثم رآهم عبدوا الأصنام وسموها آلهة، فتأمل فوجدها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، علم أن مثلها لا يحتمل أن يكون يخلق ما ذكر، وأن الذي ذلك فعله لعلي عظيم، يجب طلب معرفته من العلو بما كان يسمع نسبة الملائكة إلى السماء ونزول الغيث منها، ومجيء النور والظلمة وكل أنواع البركات وغيرها منها، فصرف تدبير الطلب الذي نسب إليه الخلق إليها. ثم أوّل ما أخذ في التأمل والنظر لم يقع بصره على أحسن وأبهى من الذي ذكر، فظنه ذلك، ثم لما قهر وقد كان علم بأن خالق من ذكر لا يجوز أن يقهر، فمن ذلك علم أنه ليس هو وقال لِمَنْ قَهَرَ، وذلك إلى أن قهر الليل ضوء الشمس، وصار بحيث لا يجري له السلطان، ورأى في الكل آثار التسخير والتذليل، ولم ير فيها أعلام من له الأمر والخلق، فعلم أن الرب لا يدرك من ذلك الوجه، ولا يعرف من جهة الحواس، فرجع إلى ما سمع من أنه خلق السماوات والأرض، فوجه نفسه إليه بالعبودية، واعترف له بالربوبية بما في الخلق من آثار ذلك، وفي القول من تسمية من له الخلق ربا وإلها، فآمن به، وذلك كان أول أحوال احتماله علم الاستدلال وبلوغه المبلغ الذي من بلغه يجري عليه الخطاب، ولا قوة إلا باللَّه. ومنهم من قال: إنه كان بالغًا قد جرى عليه القلم، وقد كان رأى ما ذكر غير مرة، لكن اللَّه لما أراد أن يهديه ألهمه ذلك وألقاه في نفسه، فانتبه انتباه الإنسان لشيء كان عنه غافلا من قبل، فرأى كوكبًا أحمر يطلع عند غروب الشمس، فراعاه إلى أن أفل، فأراد إذن من اللَّه قربة، وعلم أن ربه لا يزول ولا يتغير، ففزع إليه وقال: (لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)؛ وكذا ذكر في القمر والشمس إلى أن عرف اللَّه، فتبرأ مما كانوا يشركون، وتوجه بالتوحيد والعبادة إليه؛ وإلى هذا التأويل ذهب الحسن. الأول: روي عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

والثاني: قال به جماعة أهل الكلام، ونحن نتبرأ إلى اللَّه أن نجعله رجلا بالغًا جرى عليه القلم، وهو كان - عن اللَّه - بهذه الغفلة حتى يتوهمه في معنى نجم أو قمر أو شمس، مع ما يرى فيها الظهور بعد أن لم يكن، والأفول بعد الوجود، ثم آثار التسخير والعجز عن التدبير بما هو في جهد وبلاء، ومن له يحمل في راحة وسرور، ثم لا يرى في شيء من العالم أو له معنى يدل على رجوع التدبير إليه، فيتحقق له القول بذلك، والله يصفه بقوله: (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، قيل: سليم من الشرك لم يشبه بشيء، وقال: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)، وما يذكرونه إنما آتاه على نفسه إذ هو في الغفلة عنها، والجهل بمن له الآيات شريك قومه، وقد قال - أيضًا - (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ومعلوم أن ذلك على معاينته أو أنه قد أرى كلا منهما، ولكن على ما بينت من الوجهين وفيهما حقيقة ذلك. وليس في قوله: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) دلالة الشك في الابتداء، أو الجهل في الحال التي يحتمل العلم به فسمى به عَزَّ وَجَلَّ، ولكن على أنه على ذلك الوجه يكون الإيقان ممن لا يقع عليه الحواس، ولا يوجب علمه الضرورات، إنما هو الاستدلال بالآثار أو تلقى الأخبار، ولا قوة إلا باللَّه.

وذلك كقوله: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)، لا عن وضع كان، وقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، لا أن كانوا من قبل في الظلمات، وقول يوسف - عليه السلام -: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) لا عن كونه فيها؛ وهكذا أمر الإيقان: أن يكون العبد في كل وقت موقنا باللَّه، وأن لا إله غيره، لا عن شك فيما تقدمه من الوقت أو الجهل، فمثله أمر إبراهيم، عليه السلام. والوجه الثاني - مما تكلم في التأويل: أن يكون إبراهيم - عليه السلام - كان مؤمنًا في ذلك الوقت، عارفًا بربه حق المعرفة، ولكنه كلم قومه كلام مستدرج بإظهار المتابعهّ لهم على هواهم؛ فيكونون به أوثق وإليه أميل، وذلك أبلغ في الحجاج وألطف في المكيدة، فيبين لهم ما أراد من غير جهة النقض والعناد، فبدأ بتعظيم ما عظموه؛ إذ هم

قوم كانوا يعظمون النجوم، وبالعلم بأمرها أخبروا نمرود بولادة من يهلك على يده هو ويزول ملكه، وهذا كما ذكر أنه نظر نظرة في النجوم في مقاييسها وعلمها؛ لا أنه نظر إليها، ثم قال الذي ذكر لا من حيث علم النجوم، ولكن من حيث علمه أنه يموت ومن يَمُت يسقم، لكن أراهم الموافقة في العلم الذي لهم في ذلك الباب دعوى؛ فكذلك ما نحن فيه. وعلى ذلك أمر الند الذي كان يعبده قوم عظَّمه الحواريُّ الذي أرسل إليهم، حتى اطمأنوا إليه وصدروا عن تدبيره وبلوا بعد، وكاد يحيط بهم، فدعاهم إلى دعاء الند ليكشف لهم؛ إذ لمثله يعبد حتى أيسوا، فدعاهم إلى اللَّه فكشف عنهم، فآمنوا به، فمثله الأول. وإلى هذا التأويل يذهب الْقُتَبِيّ، لكنه ذكر أنهم كانوا أصحاب نجوم وكهانة، ومن ذلك قوله لا يعبد النجم ولا يراه ربا فكيف أظهر الموافقة بتسمية النجم ربا، ثم النقض عليه بالأفول؟! ولكن ذلك لو كان فإنما كان في قوم يعبدون النجوم والشمس والقمر، فألزمهم بالأفول؛ إذ فيه تسخير وغلبة سلطان على سلطان، وهذا الوجه يجوز أن يظهر على إضمار معنى في نفسه مستقيم: كالمكره على عبادة صليب يقصد قصد عبادة اللَّه ونحوه،

والمكره على شتم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقصد قصد مُحَمَّد آخر يصوره في وهمه ونحو ذلك، فهو على ما قال: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، على جعل (إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) شرطا في نفسه في قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، واللَّه أعلم. وقيل في الاستدراج من غير هذا الوجه، على التسليم أنهم أهل كهانة ونجوم، وهو أنه لما رآهم يعبدون الأصنام والأوثان، دعاهم من طريق المقابلة؛ إذ هم مالوا إلى ذلك بما رأوا من حسن ذلك في البصر، بما قد زين بأنواع الزينة وحلي بأنواع الحلي، فأراهم أنه يعبد النجم وما ذكر، وأن الذي ذكر أحسن وأعظم نورًا وضياء؛ إذ هو بجوهره ونفسه كذلك، وما كانوا يعبدون بما فعلوا به وجعلوه كذلك؛ ليكره إليهم عبادتهم الأصنام، ويستنقذهم عما اعتادوه بالمعنى الذي ذكرت، ثم ألزمهم فساد ما مالوا إليه وقبلوا منه، قبل أن يقر ذلك في قلوبهم وتطمئن إلى ذلك أنفسهم، بما أظهر من فساد أن يكون الذي بذلك الوصف من التسخير أو ملكه على شرف الزوال، أو يصير بحيث يقر في قلوبهم عبادة من لا يشهدونه وقت العبادة؛ فيلزمهم على ذلك عبادة المستحق لها. أو أن يقول: إذا كانت النجوم وما ذكر مع ضيائها ونورها وكثرة منافع الخلق بها لم تصلح لها الألوهية عند الجميع بالأفول والتسخير، فالذي كانوا يعبدون على ما سخرهم كانوا تحت البشر أذلاء، لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع أحق ألا يكون له الربوبية، وألا توجه إليه العبودية، واللَّه أعلم. فهذا النوع من الاستدراج فيما لو ظهر أنهم لم يكونوا يتخذون النجوم أربابًا يعبدونها؛ وكذلك الذي ذكره الْقُتَبِيّ. والتأويل الثالث للآية يخرج مخرج الإنكار والاستهزاء، ويكون في ذلك معنى الاستدراج؛ إذ هو الإلزام من حيث لا يشعر به، أو نقض أسباب الشبه درجة فدرجة في حلول المقت ولزوم المقصود بتعاطي ذلك الابتداء بالكشف عن الأسباب. ثم قيل في هذا بأوجه: أحدها: أنهم كانوا يعبدون النجوم وما ذكر، ويدعون إلى ذلك الأولاد والصبيان - وإبراهيم منهم - فيما كانوا يدعونه إليه، فقال لما رأى النجم: هذا الذي تعبدون ربي،

أي: إلى عبادته تدعونني، أي: هذا ربي الذي تدعونني إلى عبادته، فلما رآه طالعًا سائحًا غائبًا ثبت عنده أنه سخر، فقال: لا أحب عبادته، لكن ذا قد يكون في خاص نفسه متفكرًا في الذي دعوه إليه؛ ليعرف دفع قولهم من الوجه الذي يقر ذلك في القلوب إذا قابلهم به. وقد يكون في ملأ منهم يظهر لهم قوله: (هَذَا رَبِّي) على إضمار: تدعونني إليه؛ ليلزمهم بما بأن له فساد الربوبية، فيكون استدراجًا أيضًا؛ لأنه ألزمهم بعد ظهور الوفاق منه لهم. وقد يكون ذكر هذا الذي تدعونني إليه أنه ربي سرا، ويهزأ بهم بإظهار الموافقة، يبين لهم ذلك بما ألزمهم أن الابتداء لم يكن على المساعدة؛ إذ ذلك المعنى الذي به ألزم كان ظاهرا عنده في الابتداء وعندهم جميعًا. والثاني: أن يكون قوله: (هَذَا رَبِّي) على ما يقال: هذا فلان الذي تخبرونني عنه، بمعنى: أهذا هو؟! على إنكار أنه ليس بالمحل الذي أخبرتموني عنه، أو على الاستفهام ليقرره عنده. وأي الوجهين كان فقد هزئ بهم، وظهر في المتعقب أن الأول كان على الهزء بهم والإنكار، أو الاستفهام؛ وذلك كقوله: (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ)، على أنهم لم يخلقوا كخلقه، يوضح قوله: (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) في الأول: (لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ). ويجوز أن يكون هذا أضمر في قوله: (هَذَا رَبِّي)، أي: رب هذا ربي إلى آخر ما ذكر، ثم رجع إليه عند التقرير عندهم أنه لا يليق بالربوبية الذي ظنوا أنه ساعدهم عليه. ثم قد بينا الدليل على أنه لم يكن كافرًا في ذلك الوقت مع ما قد ثبت من عصمة الرسل عن الكبائر، فكيف يبلون بالكفر واللَّه يقول: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) وكل متمكن فيه الكفر شريك أمثاله، فلا وجه لتخصيص الأهل. ثم جملة ذلك أن اللَّه تعالى لو أراد أن يبين حقيقة الحال، أو كانت بنا إلى معرفة

حقيقة ذلك من المراد والوقت حاجة في أمر الدِّين - لكان يبين ذلك، أو يرد في ذلك عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكن العلم بحقيقة ذلك إذ هو علم الشهادة بما ليس لنا، وعلينا بالوصول عمل تكلف، ولا تكلف الشهادة بوقت القول، وهو متمكن فيه فحقه أن يتأمل وجه الحكمة في ذكر القصة وما فيها من الحجة في أمر الدِّين، فهو - واللَّه أعلم - يخرج على وجوه: أحدها: على جعل ذلك حجة لرسالة رسوله؛ إذ هو من أنباء الغيب، ونبي اللَّه نشأ بمكة ولم يكن ثم من يعلمه ذلك، ولا فارق قومه واختلف إلى من عنده علم الأنبياء بتوارثهم كتب الأنبياء، ولا كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ممن يخط بيمينه أو يقف على المكتوب؛ دل أنه علمه باللَّه سبحانه وتعالى، مع ما كان في القصة حجج التوحيد ودفع عبادة الأصنام وتسفيه أهل ذلك، فلم يحتمل أن يكون تعليم مثل ذلك من الدافعين لذلك المدعين على إبراهيم اليهودية والنصرانية؛ وبعد فإن كتبهم بغير لسانه، وفي العبارة بلسان غيره توهم الاختلاف والتغيير، فلا يحتمل الاحتجاج بمثله بما يحتمل الإنكار والدفع. الثاني: وفيه استعطاف قوم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ هم من ذرية إبراهيم - عليه السلام - بما يدعوهم إلى دين آبائهم، مع ما كانوا هم أصحاب تقليد وحفظ آثار الآباء، فألزمهم القول في آبائهم بما لا مدفع لهم القول بغير الذي قلدوا؛ إذ إبراهيم - عليه السلام - عند جميع المشركين إمام يؤتم به أحق من كل أب، مع ما كان كل مولود على دينه مذكورًا محفوظًا في الخلق، ومن خالفهم فهو ممحوق الاسم والذكر جميعًا، فكان في ذلك أعظم الدليل أن هَؤُلَاءِ من الأنبياء أحق بالتقليد من الذين اتبعوه؛ وعلى ذلك اتفاق أهل الكتاب على موالاة إبراهيم من غير أن تهيأ لهم دفع ما أثبت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من توحيده، ولا ما قرره عندهم من دينه بشيء يجدونه خلافًا لذلك في كتبهم. والثالث: أن إبراهيم - عليه السلام - صرف معرفة الرب من جهة خلقه، ودان بدينه من جهة النظر في الآيات والبحث عنها، دون أن يقلد أباه أو قومه؛ ليعرف سبيل طلب

الحق ووجه اتباعه؛ ليكون ذلك تذكرة لجميع ذريته. والرابع: أنه ذكر الخبر عن أحواله بمخرج ظاهر يوهم المكروه، وله وجه الصرف إلى ما أليس، فيه نفار عنه للطبع، ولا يأباه للعقل؛ ليمتحن عباده بالقول فيه والوقف في أمره. والخامس: ليعلم أن المحاجة في الدِّين على قدر ما تحتمله العقول لازمة؛ إذ بها أفحم إبراهيم قومه وأظهر دين ربه، فيبطل بذلك قول كثير من المسلمين الذين يكرهون المناظرة في الدِّين، ويرون في ذلك تقليد الإسنادين وظواهر ما جاءت به الآثار، التي في اتباع أمثالها تناقض عند العقلاء، ولا قوة إلا باللَّه. والسادس: أن المناظرة تكون بوجهين: بطلب الدلالة في تثبت القول، وبإظهار الفساد بما يتمكن فيه من العيب؛ إذ هو رد ما ادعوا من الربوبية فيمن ذكر، بما في ذلك من آثار التدبير لغيره؛ وكذلك قال في الأصنام: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، وقال: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي)، وقال في موضع آخر: (الَّذِي خَلقَنِي)، إلى آخر ما أخبر؛ فمرة أبطل قولهم بالمعنى الذي بضده احتج في ثبات قوله، وجائز في كل ذلك أن يقول لهم: ما الدليل على ما تدعون لما تذكرون من الربوبية؟ والسابع: جواز التسليم بإظهار الموافقة، وإن كان المسلم بحقيقة ذلك منكرا وله دافعًا، إذا كان في المساعدة بذلك في الظاهر نيل الفرصة والظفر بالبغية؛ إذ على ذلك خرجت مناظرته قومه، وعلى ذكر ما احتج به في قوله: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، إذ قال خصمه: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، وإقباله على حجة هي أوضح من ذلك وأقهر للعقل وألزم في الطبع، فقال: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ

الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ). والثامن: أن يعلم أن اللَّه لم يهمل القوم في شيء من الأزمنة دون أن يجعل لهم أدلة للحق يظفرون بها لو تأملوا، ولا ألزم خلقه في زمان من الأزمان بشيء لو بحث عنه لا يوقف عليه ولا يتهيأ له؛ ولذلك أظهر الحجج وآثار البينات؛ ليعلم أنه جعل أوامره كلها تالية الأدلة والبراهين؛ ليقطع بها عذر من تأبى نفسه القيام بها. والتاسع: أن يعلم أنه لا أحد يقوم بالحجاج ولا ينطق بحسن البيان إلا بعطية الله وامتنانه عليه بما ينطق به لسانه ولوفقه للقيام به بقوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ). ثم العاشر: أن يكون بفضله ينال الدرجات في أمر دينه، ويرتقي إلى منازل الفضل والشرف بمشيئته؛ كما قال: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَا)، وأنه متى شاء الرفع كان، والله أعلم. وقد قال بعض أصحاب الإمامة في تأويل الآية: زعم أنهم أخذوه من شرح على أن تأويل النجم: المأذون، والقمر: اللاحق، والشمس: الإمام، بمعنى: أنه قال للمأذون: هذا ربي عنى به رب التربية رباه بالعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا أَفَلَ).

أي: فني ما عنده رغب عنه وقال: لا أحب هذا، ثم ظفر باللاحق، ثم كذلك بالإمام، ثم توجه نحو التالي بالقبول من الرسول؛ إذ التالي عندهم هو الذي فطن ما ذكر، فلما جاوز درجة المتم - وهو الإمام - صار إلى درجة الرسالة، وهو القابل من التالي بالخيال والمصور للشرائع عندهم، فألزموا بهذا عبادة أرباب، وأن الارتفاع من درجة إلى درجة بأُولَئِكَ. وذلك أمر متناقض على المتأمل؛ لأنه لما فني ما عند المأذون صار إلى اللاحق، والمأذون كان به مأذونًا فلم يكن الثاني بما يصير إليه أحق من الأول؛ إذ لو كان به صار مأذونًا ولو كان ثم درجة أخرى، فإما أن يكون ينال تلك في الوقت الذي يلقى المأذون ذلك إلى غيره أو لا: فإن كان لا ينال فلا أسفه من المأذون؛ حيث امتنع عما يُعْليه إلى الدرجة الثانية وبلغ غيره أو ينال معه، فإذا صار هو معه في درجة المتم فكيف قال: لا أحبه، وهو آثر الذي ذلك وصفه؟! ثم كيف قال لا أحب وذهاب ما به أخذ بحظه عن الأخذ من الآخر؟! أو كيف صار ربه قبل أن يربيه، فلما رباه تبرأ من ربوبيته وآثر ربا آخر؟! فإذا عاقبة شكره وسعى ربه في شأنه كفرانه به؛ وكذلك درجة فدرجة حتى يكفر بالتالي ثم بالعقل، ثم يصير إلى رب العالمين، وهو الربُّ في الابتداء والانتهاء، لا رب لأحد سواه جل عن الشركاء؛ إذ إليه حاصل الأمر ومصير الخلق، ولو كان كل مرتق حدا يرتقي أَخر لكانت تلك الحدود يكون أبدا آخرها، فيكون الكل توالى أو مطلقًا، ويبطل الأولاء والمأذونون والأئمة جميعًا، وقد كرم اللَّه - تعالى - عليا - كرم الله وجهه - عن هذا الخيال، وعصمه عن هذا الوسواس، والحمد لله. * * * قوله تعالى: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا

(80)

تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ... (80) ذكر محاجة قومه ولم يبين فيما حاجوه، لكن في الجواب بيان أن المحاجة فيما كانت، وهو قوله: (قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ). ثم تحتمل المحاجة في اللَّه: في توحيد اللَّه ودينه. وتحتمل في اتباع أمر اللَّه وطاعته. وذكر في بعض القصة عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ): في آلهتهم وخوفوه بها، وقالوا: إنا نخاف آلهتنا، وأنت تشتمها ولا تعبدها، أن تخبلك وتفسدك. وذلك محتمل؛ وهو كقول قوم هود لهود - عليه السلام - (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ). ثم قال لهم إبراهيم - عليه السلام -: لما لا تخافون أنتم منها؟.

قالوا: كيف نخاف ونحن نعبدها؟! قال: لأنكم تسوون بين الصغير والكبير، والذكر والأنثى، أما تخافون الكبير إذ سويتموه بالصغير، وما تخافون الذكر إذ سويتموه بالأنثى؟! ويحتمل أنهم خوفوه باللَّه بترك عبادة آلهتهم، لما كانوا يقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ويقولون: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، فخوفوا إبراهيم باللَّه بترك عبادتهم لما كان عندهم أن عبادتهم إياها تقربهم إلى الله

(81)

زلفى وترك العبادة لها يبعدهم، فقال: (وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ) وقد هداني، ولا أخاف مما تشركون به. ويحتمل قوله: (وَقَدْ هَدَانِ) أما ذكرنا في قوله (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ)، الدِّين والتوحيد وهداني طاعته والاتباع لأمره فقال: كيف أخاف وقد هداني. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) هذا يحتمل وجهين. الأول: يحتمل لا أخاف إلا إن عصيت ربي شيئًا، فعند ذلك أخاف، وأما إذا هداني ربي فإني لا أخاف بتركي عبادتهم. والثاني: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي) إلا أن يبتليني ربي بشيء من المعصية، فعند ذلك أكون في مشيئته إن شاء عذبني، وإن شاء لم يعذبني. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا). أي: علم ذلك كله عنده عصيت أو أطعت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) عن ابن عَبَّاسٍ، (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) به من الأصنام (وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) يقول: عذرًا في كتابه (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) أي: أهل دينين أنا وأنتم (أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أني أعبد إلهًا واحدًا، وأنتم تعبدون آلهة شتى؟! وقيل: إنهم كانوا يخوفونه بتركه عبادة آلهتهم وإشراكه إياها في عبادة اللَّه، فقال: وكيف أخاف ما أشركتم أنتم باللَّه من الآلهة، ولا تخافون أنتم بما أشركتم باللَّه غيره ما لم ينزل به عليكم سلطانًا؟! أي: حجة بأن معه شريكًا. ثم قال: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) وإنا أو أنتم من عبد إلها واحدًا يأمن عنده،

(82)

أحق، أم من عبد آلهة شتى صغارا وكبارًا ذكورًا وإناثًا؟! أو أن يقال: إني كيف أخاف آلهتكم التي تعبدون من دون اللَّه بتركي عبادتها، وهي لا تملك ضرا إن تركت ذلك، ولا نفعًا إن أنا فعلت ذلك، ولا تخافون أنتم بترككم عبادة إلهي، وهو يملك الضر إن تركتم عبادته، والنفع إن عبدتموه، فأي الفريقين أحق بالأمن: من عبد إلها يملك الضر والنفع، أو من عبد إلها لا يملك ذلك؟! فقيل: رد عليه قومه فقالوا: (الَّذِينَ آمَنُوا ... (82) برب واحد يملك الضر والنفع، (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ) قيل: لم يخلطوا تصديقهم وإيمانهم بشرك، ولم يعبدوا غيره دونه، (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ): من الضلالة والشرك. قيل: الظلم - هاهنا -: الشرك؛ روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:

(83)

لما نزلت هذه الآية: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول اللَّه، فأينا لا يظلم نفسه؟! قال: " ليس ذلك إنما هو الشرك، أو لم - تسمعوا ما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأصحابه: ما تقولون في هاتين الآيتين: (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)؛ فقالوا: (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا): ثم عملوا له واستقاموا على أمره، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)، أي: لم يذنبوا فقال: لقد حملتمونا على أمر شديد، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ): بشرك، (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا): عليها فلم يعدلوا عنها بشرك ولا غيره. فإن ثبثت هذه الأخبار فهو ما ذكر فيها أن الظلم هو الشرك، وإلا احتمل الظلم ما دون الشرك أن من لم يظلم ولم يذنب فهو في أمن من اللَّه، ومن ارتكب ذنبًا أو ظلمًا فله الخوف، وهو في مشيئة اللَّه: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له وعفا عنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ... (83) الآية: ينقض

قول من يقول بأن إبراهيم كان غير مؤمن في ذلك الوقت ولا عارفًا بربه؛ لأنه أخبر أنه آتاه حجته على قومه، ولو كان هو على ما قالوا لكانت الحجة التي آتاه عليه، فلما أخبر أنه آتاه حجته على قومه، دل أنه ليس على ما قالوا، ولكن كان عارفًا بربه مخلصًا له على ما سبق ذكره. فإن قال قائل: إن الحجة التي أخبر أنه آتاها إبراهيم على قومه هي قوله: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ. . .) إلى آخر ما ذكر. فيقال: إن هذه ليست بمحاجة، إنما هو تقرير التوحيد والدِّين. ألا ترى أنه قال: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) الآية، والمحاجة ما ذكر في قوله: (لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)، وقوله: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وغيرها من الآيات التي فيها وصف توحيد الربّ - عَزَّ وَجَلَّ - وألوهيته وفساد آلهتهم، من ذلك قوله: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)، وقوله: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، وقوله: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. . .)، إلى قوله: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ). وفيه دليل نقض قول المعتزلة؛ لأنه قال: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) والإيتاء هو الإعطاء، والنجوم والشمس، والقمر وما ذكر قد كانت؛ دل أن الذي آتى إبراهيم هو محاجته قومه بما ذكرنا واحتجاجه عليهم بذلك؛ دل أن له في محاجة إبراهيم قومه صنعًا حيث أضافها إلى نفسه، وهو أن خلق محاجته قومه، وباللَّه العصمة. وقوله - تعالى -: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ): الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، وهو ما بين سفههم في عبادتهم الأصنام، حيث قال في غير آية وعلى نمرود حين قال: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. . .) إلى آخر الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ). فيه -أيضًا- دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه قد شاء لكل أحد أن يبلغ المبلغ الذي إذا بلغ ذلك يصلح للنبوة والرسالة، لكنهم شاءوا ألا يبلغوا ذلك المبلغ،

(84)

يجعلون المشيئة في ذلك إلى أنفسهم دون اللَّه، واللَّه أخبر أنه يرفع درجات من يشاء وهم يقولون - لا يقدر أن يرفع، بل هم يملكون أن يرفعوا درجات أنفسهم؛ فدلت الآية على أن من نال درجة أو فضيلة إنما ينال بفضل اللَّه ومنه. ثم قوله: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ): تحتمل الدرجات وجوهًا. تحتمل: النبوة، وتحتمل: الدرجات في الآخرة أن يرفع لهم. وتحتمل: الذكر والشرف في الدنيا لما يذكرون في الملأ من الخلق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). أي: حكيم في خلق الخلائق، خلق خلقًا يدل على وحدانيته، ويدل على أنه مدبر ليس بمبطل في خلقهم، ثم عليم بأعمالهم وعليم بمصالح الخلق وبما يصلح لهم، أوبما لا يصلح، والحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير. * * * قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ). يحتمل ما ذكرنا من رفع الدرجات ما ذكر من هبة هَؤُلَاءِ. وفيه دليل أن ما يكون له من الفضل في هبة أولاده يكون ذلك في أولاد أولاده.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ): الهداية هدايتان: هداية إصابة الحق، وهداية العلم بالحق، وهي هداية البيان، فهذه الهداية مما يشترك فيها المسلم والكافر جميعًا. وأما هداية إصابة الحق: فهي خاصة للرسل والأنبياء والمسلمين جميعًا. والهداية - هاهنا - هي إصابة الحق لا العلم بالحق؛ لأنهم اشتركوا جميعًا في العلم بالحق: الكافر والمسلم. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ): ذرية إبراهيم. وقيل: ذرية نوح كانوا جميعًا من ذرية نوح وإبراهيم ومن ذكر من الرسل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

(87)

أي: كذلك نجزي المحسنين، بالذكر والشرف والثناء الحسن إلى يوم القيامة؛ كما جزى هَؤُلَاءِ الرسل بالذكر والشرف والثناء الحسن في ملأ الناس. ويحتمل أن يذكروا في ملأ الملائكة؛ كما ذكروا في ملأ الخلق في الأرض. ويحتمل: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وفي الآخرة بالثواب ورفع الدرجات والجزاء الجزيل، ثم ذكر في فريق: أنه (كذَلِكَ نجَرى الْمُحْسِنِينَ)، وذكر في فريق آخر: (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ)، وذكر في فريق: (وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)، وهذا - واللَّه أعلم - ليس على تخصيص كل فريق بما ذكر من الذكر، ولكن على الجمع أنهم محسنون صالحون مفضلون على العالمين. ثم يحتمل التفضيل لهم بالنبوة: أنهم فضلوا على العالمين بالنبوة. ويحتمل: أنهم كانوا مفضلين على العالمين بالإحسان والصلاح، لو لم يكن لهم رسالة ولا نبوة. ثم يحتمل أنه سماهم محسنين باختيارهم الحال التي كانوا أهلا للرسالة والنبوة، فإن كان هذا فهم الرسل خاصة. ويحتمل: محسنين باختيارهم الهداية وإصابة الحق، فإن كان هذا فهو مما يشترك الأنبياء وأهل الإسلام فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) أما آباؤهم: من تقدمهم، وذرياتهم: من تأخرهم، وإخوانهم: الذين يقارنونهم. وقيل: ذرياتهم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: المؤمنين من بعدهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ). يحتمل: اجتباهم بالنبوة والرسالة. (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ): فذلك لهم خاصة. ويحتمل: اجتبيناهم بالتوحيد ودين الإسلام، فذلك يعم الأنبياء والمؤمنين جميعًا؛ لأنه اجتباهم بذلك جميعًا.

(88)

ويحتمل: اجتباهم بما ذكر من رفع الدرجات والفضائل، ويكون صلة قوله: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)، وذلك -أيضًا- يعم الرسل والمؤمنين، واللَّه أعلم بذلك. وفي قوله: (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ. . .) الآية: دلالة أن من آبائهم وذرياتهم من لم يجتبهم بقوله: (وَمِنْ)؛ إذ " من " هو حرف للتبعيض. * * * قوله تعالى: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أي: ذلك الهدي الذي هدى هَؤُلَاءِ فبهداه اهتدوا. وفي الآية دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه قد شاء أن يهدي الخلائق كلهم لكن لم يهتدوا، وعلى قولهم لم يكن من اللَّه إلى الرسل والأنبياء من الهداية والفضل إلا كان ذلك إلى جميع الكفرة، فالآية تكون مسلوبة الفائدة على قولهم؛ لأنه ذكر أنه يهدي من يشاء وهم يقولون: شاء أن يهدي الكل لكن لم يهتدوا، فإن كان كما ذكروا لم يكن لقوله: (مَنْ يَشَاءُ) فائدة؛ دل أنه من الخلائق من قد شاء ألا يهديهم إذا علم منهم أنهم لا يهتدون ولا يختارون الهدى، وباللَّه التوفيق.

(89)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). هذا بناء على الحكم فيهم لو أشركوا إلا أنهم لا يشركون؛ لأن اللَّه قد عصمهم واختارهم لرسالته واختصهم لنبوته، فلا يحتمل أن يشركوا، لكن ذكر هذا؛ ليعلموا أن حكمه واحد فيمن أشرك في اللَّه غيره وضيعا كان أو شريفًا. وقوله: (لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): من الحسنات والخيرات التي كانت قبل الإشراك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) قيل: الكتب التي أعطى الرسل. (وَالْحُكْمَ) قيل: العلم والفقه والفهم. وقيل: الأحكام التي أعطاهم، والنبوة هي أنباء الغيب؛ وقد ذكرنا هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ). قيل: (بِهَا) كناية عن أنباء الغيب، والنبوة التي ذكر. وقيل: (بِهَا) كناية عن الكتب التي أنزلها على الرسل وقيل: هي كناية عن الآيات والحجج التي أعطى رسوله. وقوله: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ). اختلف فيه قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا) - يعني: أهل مكة - (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ): أهل المدينة من الأنصار والمهاجرين؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ.

(90)

وقيل: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)، يعني: من عد من الرسل والأنبياء. وقيل: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)، يعني: أهل قرابتك وأهل وصلتك، فقد وكلنا بها قومًا من غير أهل قرابتك ليسوا بها بكافرين. وقيل: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ)، يعني: أهل زمانك، (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا): من تقدمهم من آبائهم وأجدادهم، (لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ). وقيل: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ)، يعني: أهل الأرض، (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا)، يعني: أهل السماء، (لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ). قال الحسن - رحمه اللَّه -: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ)، يعني: أمتك، فقد وكل الله بها النبيين والصالحين من الأمم الخالمة، (لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)، واللَّه أعلم بذلك وهو كما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ... (90) يحتمل فبهداهم الذي هدوا هم، اهدِ أنت أمتك.

ويحتمل: فبهداهم الذي هدوا هم اهتد أنت؛ يأمره - عَزَّ وَجَلَّ بالاقتداء بإخوانه الذين مضوا من الرسل. والهدى: هو اسم ما يدان به ليس هو اسم الأفعال، لا يقال: لتارك الصلاة والزكاة والصيام: هداك، إنما يقال ذلك لمن دان بضد الهدى.

أمر رسوله أن يقتدي بهم بذلك، وذلك يدل على أن الأنبياء والرسل كانوا على دين واحد، وأن الدِّين لا يحتمل النسخ والتغيير. ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) أخبر أنه شرع لنا الدِّين الذي وصى به نوحًا، وذلك يدل على أن الدِّين واحد لا يحتمل النسخ، وأما الشرائع: فهي مختلفة؛ لأنها تحتمل النسخ، وتحتمل الأمر بالاقتداء بهم ما ذكر. (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) أي: اقتد بمن تقدم من الرسل، ولا تأخذ على تبليغ الرسالة أجرا كما لم يأخذوا هم. وفي قوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) دليل نقض قول من يجيز أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم ورواية الحديث وغير ذلك من العبادات؛ وكذلك قوله:

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)؛ كأنه - واللَّه أعلم - يجعل لهم العذر في ترك الإجابة له بما يلحقهم من ثقل الأجر والغرم، واللَّه أعلم. وفيه -أيضًا- دلالة نقض مذهب القرامطة؛ لأنهم يعرضون مذهبهم على الناس، ويأخذون منهم المواثيق والجعل في ذلك، وإنما أخذ المواثيق من الرسل على تبليغ الرسالة إلى قومهم، وأمروا بتأليف قلوب الخلق، وفي أخذ الجعل منهم نفور قلوبهم وطباعهم عن ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ). * * * أي: ما هذا القرآن إلا ذكرى، أي: عظة وزجر للعالمين. قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ

(91)

وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... (91) قيل: نزلت سورة الأنعام في محاجة أهل الشرك إلا آيات نزلت في محاجة أهل الكتاب، إحداها هذه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. . .) الآية، وذكر في موضع آخر: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وقال في آية أخرى (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا. . .) الآية. ثم قال بعض أهل التأويل: ما عرفوا اللَّه حق معرفته. وقال غيرهم ما عظموا اللَّه حق عظمته؛ ذكروا أن هَؤُلَاءِ لم يعظموا اللَّه حق عظمته، ولا عرفوه حق معرفته، ومن يقدر أن يعظم اللَّه حق عظمته، أو أن يعرفه حق معرفته، أو من يقدر أن يعبد اللَّه حق عبادته؟! وكذلك روي في الخبر: " أن الملائكة يقولون يوم القيامة: يا ربنا ما عبدناك حق عبادتك "، مع ما أخبر عنهم أنهم: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) وقال: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ)، فهم مع هذا كله يقولون: " ما عبدناك حق عبادتك "، ومن يقدر أن يعرفه حق معرفته، أو يعظمه

حق عظمته؟! ولكن تأويله - واللَّه أعلم - أي: ما عرفوا اللَّه حق المعرفة التي تعرف بالاستدلال، ولا عظموه حق عظمته التي تعظم بالاسندلال، هذا تأويلهم، وإلا لا أحد يقدر أن يعرف اللَّه حق معرفته، ولا يعظمه حق عظمته حقيقة. وهو يخرج على وجهين: أحدهما: ما قدروا اللَّه حق قدره، ولا اتقوه حق تقواه مما كلفوا به وأطاقوه ومما جرى الأمر بذلك، وإنَّمَا تجري الكلفة منه على قدر الطاقة والوسع، وإلا لا يقدر أحد أن يعظم ربه حق عظمته ولا يتقيه حق تقواه، لكن ما ذكرنا مما جرت به الكلفة. والثاني: ما قدروا اللَّه حق قدره ولا حق تقاته على القدر الذي يعملون لأنفسهم، أي: لو اجتهدوا في تقواه وعظمته القدر الذي لو كان ذلك العمل لهم فيجتهدون، ويبلغ جهدهم في أذلك، ذلك فقد اتقوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ). لو كان هَؤُلَاءِ في الحقيقة أهل الكتاب ما أنكروا الرسل ولا الكتب؛ لأن أهل الكتاب يؤمنون ببعض الرسل وببعض الكتب، وإن كانوا يكفرون ببعض، لكن هَؤُلَاءِ أنكروا الرسل لما كانوا أهل نفاق، ويكون من اليهود أهل نفاق، كما يكون من أهل الإسلام، كانوا يظهرون الموافقة لهم، ويضمرون الخلاف لهم والموالاة لأهل الشرك، ويظاهرون عليهم؛ كما كان يفعل ذلك منافقو أهل الإسلام؛ كانوا يظهرون الموافقة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويضمرون الخلاف له، ويظاهرون المشركين عليه، فأطلع اللَّه رسوله على نفاقهم؛ ليعلم قومهم خلافهم، وأن ما كان من تحريف الأحكام وتغيرها وكتمان نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته إنما كان من هَؤُلَاءِ.

وذكر في بعض القصة أنها نزلت في شأن مالك بن الصيف، وكان من أحبار اليهود، وكان سمينا فدخل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يومًا فقال له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " هل تجد في التوراة أن اللَّه يبغض كل حبر سمين؟ قال: نعم، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: فأنت حبر سمين يبغضك اللَّه، فغضب فقال: ما أنزل اللَّه على بشر من شيء أنكر الرسل والكتب جميعًا، فأكذبه اللَّه تعالى، وأظهر نفاقه عند قومه، فقال: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)، قيل: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ)، يعني: صحفًا، أي: كتبتموه في الصحف، ثم تنكرون أنه ما أنزل اللَّه على بشر من شيء، أي: ما الذي كنتم كتبتموه إن لم ينزل اللَّه على بشر من شيء (تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)، يقول: تظهرون من الصحف ما ليس فيه صفة رسول اللَّه ونعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتخفون ما فيه صفثه ونعته وتغيرون. وقيل: (تُبْدُونَهَا) أي: تظهرون قراءتها (وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) مما فيه نعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو ما فيه من الأحكام التي لا تطيب بها أنفسهم من أمر الرجم والقصاص وغير ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ)، سمى - عَزَّ وَجَلَّ - جميع كتبه نورًا وهدى، وهو نور من الظلمات، أي: يرفع الشبهات،

ويجليها، وهدى من الضلالات، أي: بيانًا ودليلا من الحيرة والهلاك، وباللَّه العصمة والنجاة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) قال مجاهد: نزلت الآية في المسلمين؛ يقول: علموا ما لم يَعْلَمُوا ولا آباؤهم. وقال الحسن: الآية في الكفرة، أي: علمتم ما لم تعاموا أنتم ولا آباؤكم من تحريف أُولَئِكَ الكتاب وتغييرهم إياه. وقيل: وعلمتم ما في التوراة ما لم تعلموا أنتم ولم يعلمه آباؤكم. ثم قاله: (ثُمَّ ذَرْهُمْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) هو صلة قوله: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا) وقل يا مُحَمَّد اللَّه أنزله على موسى. وقيل: صلة قوله: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا)، قل يا محمد اللَّه: (وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ)، قال: قل يا مُحَمَّد اللَّه علمكم. ويحتمل أن يكون - عَزَّ وَجَلَّ - سخرهم حتى قالوا ذلك، فكان ذلك حجة عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ). هذا يحتمل وجهين: الأول، يحتمل: ذرهم ولا تكافئهم بصنيعهم؛ كقوله (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ).

(92)

الثاني: أنه قد أقام عليهم الحجج وظهرت عندهم البراهين، لكنهم كابروا وعاندوا، فأمره أن يذرهم لا يقيم عليهم الآيات والحجج بعد ذلك، ولكن يدعوهم إلى التوحيد لا يذر دعاءهم إلى التوحيد، ولكن يذرهم ولا يقيم عليهم الحجج. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي خَوْضِهِمْ)؛ أي: في باطلهم وتكذيبهم يعمهون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ... (92) قيل: القرآن أنزلناه مباركًا؛ سماه مرة: مباركًا، ومرة نورا، ومرة هدى ورحمة، ومرة شفاء، ومجيدًا وكريمًا وحكيمًا، وليس يوصف هو في الحقيقة بنور، ولا مبارك، ولا رحمة، ولا هدى، ولا شفاء، ولا مجيد، ولا كريم ولا حكيم؛ لأنه صفة ولا يكون للصفة صفة توصف بها، ولو كان هو في الحقيقة نورًا،

ورحمة، وهدى أو ما ذكر لكان يكون لكل واحد نورًا وما ذكر، فلما ذكر أنه عمى على بعض، وأخبر أنه يزداد بذلك رجسًا إلى رجسهم دل أنه ليس هو في الحقيقة كذلك؛ لأنه لو كان كذلك لكان لكل أحد، لكن سماه بهذه الأسماء: سماه نورًا لما يصير نورًا للمسترشدين، ويصير شفاء ورحمة للمتبعين ليشفوا من الداء الذي يحل في الدِّين. وسماه روحا لما يحيى به الدِّين. وسماهحكيمًا لما يصير من عرف بواطنه واتبعه حكيمًا. وكذلك سماه مجيدًا كريمًا لما يدعو الخلق إلى المجد والكرم، فمن اتبعه تخلق بأخلاق حميدة؛ فيصير مجيدًا كريمًا. وسماه مباركًا لما به ينال كل بركة، والبركة اسم لشيئين: اسم كل بر وخير والثاني: اسم لكل ما يثمر وينمو في الحادث، فمن اتبعه نال به كل بر وخير وكل ثمرة ونماء في الحادث؛ هذا وجه الوصف بما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب؛ لأنه كان يدعو الخلق إلى ما كان يدعو سائر الكتب التي أنزلها على الرسل، من توحيد اللَّه والنهي عن إشراك غيره في الألوهية والربوبية، ويدعو إلى كل عدل وإحسان، وينهى عن كل فاحشة ومنكر؛ وكذلك سائر الكتب دعت الخلق إلى ما دعا هذا، لم يخالف بعضهم بعضا، بل كانت موافقة بعضها لبعض؛ لذلك قال: (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) قيل: أم القرى: مكة، وسميت أم القرى لوجهين:

(93)

أحدهما: لأنها متقدمة، ومنها: دحيت الأرض على ما ذكر أهل التأويل. والثاني: سميت: أم القرى؛ لأنها مقصد الخلق في الحج، وفيها تقضى المناسك، وإليها يقصدون ويأمون، وإليها يتوجهون في الصلوات، وهي مقصد أهل القرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) أي: أهل أم القرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ). فَإِنْ قِيلَ: أخبر أن من آمن بالبعث يؤمن بهذا الكتاب، وأهل الكتاب يؤمنون بالبعث ولا يؤمنون به، فما معناه؟ قيل: يحتمل هذا وجوهًا: أحدها: أن يكون هذا في قوم مخصوصين إذا آمنوا بالبعث آمنوا به؛ كقوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)، هذا في قوم مخصوصين؛ لأنه قد آمن كثير منهم بالإنذار؛ فعلى ذلك الأول. والثاني: قوله: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) بالعلم والحجج آمنوا بالقرآن؛ لأن القرآن جاء في تأييد حجج البعث وتأكيده، فلا يجوز أن يؤمنوا بما يؤيده القرآن ولا يؤمنوا بالقرآن. والثالث: يحتمل أن يكون إخيارا عن أوائلهم: أنهم كانوا مؤمنين بالبعث بالآيات والحجج راغبين فيه، فلما جاء آمنوا به. وأمكن أن تكون الآية في المؤمنين، أخبر أنهم آمنوا بالآخرة وآمنوا بالقرآن؛ ألا ترى أنه قال: (وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ). ويحتمل أن الذين يؤمنون بالآخرة يحق لهم أن يؤمنوا بالقرآن؛ لأنه به يتزود للآخرة. ويحتمل غير ما ذكرنا من الوجوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ... (93) هذا في الظاهر استفهام وسؤال لم يذكر له جواب، لكن أهل التأويل فسروا فقالوا: لا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه كذبا، وهذا جواب له ليس هو تفسيره، لكن ترك ذكر

الجواب لمعرفة أهل الخطاب به وقد يترك الجواب لمعرفة أهله به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَظْلَمُ): أكثرهم قد ظلموا أو كلهم قد ظلموا؛ لكن كأنه قال: لا أحد أفحش ظلمًا ممن افترى على اللَّه؛ لأنه يتقلب في نعم اللَّه في ليله ونهاره وأحيانه، فهو أفحش ظلمًا وأوحش كذبًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ). في الآية دلالة أن نافي الرسالة عمن له الرسالة في الافتراء على اللَّه والكذب؛ كمدعي الرسالة لنفسه وليست له الرسالة، سواء، كلاهما مفتر على اللَّه كذبا؛ وكذلك من ادعى أنه ينزل مثل ما أنزل اللَّه، أو من ادعى أنه لم ينزل اللَّه شيئًا، فهو في الافتراء على اللَّه كالذي ادعى أنه ينزل مثل ما أنزل اللَّه النافي والمدعي في ذلك سواء شرعا؛ فعلى ذلك يكون نافي الشيء ومثبته في إقامة الحجة والدليل سواء، واللَّه أعلم. وذكر أهل التأويل أن قوله: (أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) نزل في مسيلمة الكذاب،

ونزل قوله: (وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) في عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح، لكن ليس لنا إلى معرفة هذا حاجة؛ هم وغيرهم ومن ادعى وافترى على اللَّه كذبًا سواء في الوعيد. وقوله: (وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ). ادعى بعضهم أنهم يقولون مثل ما قال اللَّه إنكارا منهم له؛ كقوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ). عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قوله: (فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ): نزعات الموت وسكراته وغشيانه (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ): يقول ملك الموت وأعوانه الذين معه من

ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، (بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ): يقول: ضاربون بأيديهم أنفسهم يقولون لها: اخرجي، يعني الأرواح، وهو قوله: (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) وهو عند الموت؛ وكذلك يقول قتادة. وقال الحسن: ذلك في النار في الآخرة ضرب الوجوه والأدبار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ)، أي: كثرة العذاب وشدته؛ يقال للشيء الكثير: الغمر؛ وهو كقوله؛ (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ)، أي: أسباب الموت، ولو كان هناك موت يموت لشدة العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ): بضرب الوبروه والأدبار، (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ): على حقيقة الخروج منها؛ كقوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا)، والأول ليس على حقيقة الخروج، ولكن كما يقال عند نزول الشدائد: أخرج نفسك. وقال مجاهد: هذا في القتال تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، يعني: الأستاه، ولكنه يكون - وهو كقول ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقتادة -: عند الموت. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: غمرات الموت: سكراته وشدائده، والغمر: هو الماء الكثير، والغمر: العداوة، والغمر: الذي لم يجرب الأمور، والغمر: الدسم، والغُمر: القدح

(94)

الصغير من الخشب، وغمرة الحرب: وسطها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ): قيل: عذاب الهون لا رأفة فيه ولا رحمة، أي: الشديد (بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ)، بأن معه شريكًا وآلهة، قوله تعالى: (وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)، أنه لم ينزل شيئًا ولم يوح إليه شيء، وإنما يوحي إليَّ وغير ذلك من الافتراء الذي ذكروا، وباللَّه العصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلََّ: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... (94) يحتمل هذا - واللَّه أعلم - وجوهًا: الأول: أي: أعدناكم وبعثناكم فرادى بلا معين ولا ناصر؛ كما خلقناكم أول مرة بلا معين ولا ناصر. والثاني: أعيدكم وأبعثكم فرادى بلا أعوان لكم ولا شفعاء يشفعون لكم يعين بعضكم بعضا؛ كما خلقناكم في الابتداء فرادى، لم يكن لكم شفعاء ولا أعوان. وقيل: يبعثكم وبعيدكم بلا مال ولا شيء من الدنياوية؛ كما خلقكم في الابتداء، ولم يكن لكم مال ولا شيء من الدنياوية. وجائز أن يكون قوله: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى) ليس معكم ما تفتخرون به من الخدم والأموال والقرابات التي افتخرتم بها في الدنيا؛ وليس معكم ما تفتخرون به، كما خلقناكم أول مرة. وجائز أن يكون قوله: (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) منفصلا عن قوله: (وَلَقَدْ جِئْتمُونَا)، لكن جواب سؤال: أن كيف يبعثون؟ فقال: أي تبعثون كما خلقناكم أول مرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) يحتمل وجهين: يحتمل تركتموه وراء ظهوركم لا تلتفتون إليه ولا تنظرون؛ كالمنبوذ وراء

ظهوركم، إنما نظرتم إلى أعمالكم التي قدمتموها. والثاني: لم تقدموا ما خولناكم، ولم تنتفعوا منه، بل تركتموه وراء ظهوركم لا تنتفعون به، إنما منفعتكم ما قدمتموه وأنفقتم منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَوَّلْنَاكُمْ). قيل: أعطيناكم. وقيل: رزقناكم. وقيل: مكناكم؛ وهو واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ). أنهم كانوا يجعلون لله شركاء في عبادته وألوهيته، ويقولون: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) و: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، يقول اللَّه: وما نرى معكم شفعاءكم، الذين زعمتم أنهم شركاء لله في عبادتكم، وزعمتم أنهم شفعاؤكم عند اللَّه بل شُغِلُوا هُم بأنفسهم؛ يخبر عن سفههم وقلة نظرهم فيهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ): قرئ بالرفع والنصب جميعًا. فمن قرأ بالرفع يقول: لقد تقطع تواصلكم.

ومن قرأ بالنصب يقول: لقد تقطع ما كان بينكم من الوصل. يخبر عَزَّ وَجَلَّ عن قطع ما كان بينهم من التواصل، وتعاون بعضهم بعضا في هذه الدنيا، أنهم كانوا يتعاونون ويتناصرون بعضهم بعضا - يخبر أن ذلك كله ينقطع في الآخرة، ويصير بعضهم أعداء بعض، ويتبرأ بعضهم من بعض؛ كقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُو)؛ وكقوله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)؛ وكقوله - تعالى -: (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً)؛ وكقوله: (سَيَكفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ) الآية؛ يصير المعبودون أعداء للعابدين، والعابدون أعداء للمعبودين، وتصير الوصلة والمودة التي فيما بينهم في

(95)

هذه الدنيا عداوة، والرحم والقرابة اللتين كانتا بينهم منقطعًا، حتى يفر بعضهم من بعض؛ كقوله - تعالى -: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)، الآيات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ). أي: ذهب عنكم وبطل ما كنتم تزعمون أنهم شفعاؤكم عند اللَّه، وباللَّه العصمة والنجاة. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى). قيل: فالق الحب والنوى كما قال اللَّه - تعالى -: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)؛ وكقوله تعالى: (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُم)، أي: خلقكم يخبر أنه خالق الحب والنوى، خص الحب والنوى بالذكر لما منهما خلق جميع ما في الدنيا من الأنزال والحبوب؛ كقوله تعالى: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) منذ ما خلق ما في الدنيا من البشر، فأضاف ذلك إليه؛ فعلى ذلك لما خلق هذه الأنزال كلها من الحب والنوى، ومنها أخرج، أضاف إليها ذلك، واللَّه أعلم. ويحتمل: أن يكون ليس بإخبار عن ابتداء إنشاء، ولكن إخبار عن لطفه. والفلق: هو الشق، يخبر أنه يشق النواة مع شدتها وصلابتها، ويخرج منها نبتًا أخضر لينًا، ما لو اجتمع كل الخلائق على إنفاذه وإخراج مثله من غير أذى يصيب ذلك النبت ما قدروا عليه، يخبر عن لطفه وقدرته، أي: من قدر على هذا لقادر على إعادة الخلق

وبعثهم بعد إماتتهم وإفنائهم، وإن لم يبق لهم أثر؛ كما قدر على هذا، يعرفهم قدرته أنها غير مقدرة بقدرة الخلق وبقوتهم، بل خارجة عن قوتهم؛ لأن قوته وقدرته ذاتية أزلية بلا سبب، وقوتهم وقدرتهم بأسباب؛ وكذلك ما يشق من الورق الضعيف اللين الشجر والنخل مع شدته وصلابته، ما لو اجتمع الخلائق كلهم على شق ذلك الشجر بذلك الورق مع لينه ما قدروا عليه، يعرفهم لطفه وقدرته أنه لا يعجزه شيء. وفيه أن ذلك فعل واحد؛ لأنه لو كان فعل عدد لكان إذا أراد هذا شقه منع الآخر عن ذلك. وفيه أنه على تدبير خرج لا جزافًا؛ حيث اتفق ذلك في كل عام على قدر واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ). إن الحب والنوى التي ذكر ميت، فيخرج منهما النبات الأخضر حيًّا، ثم يميت ذلك ويخرج منه حبًّا ونوى. وفيه دلالة البعث بعد الموت؛ يقول: إن الذي قدر على إخراج النبات الأخضر الحي من حبة ميتة أو نواة ميتة، وليس فيها من أثر ذلك الحي شيء - لقادر أن يبعثهم ويحييهم بعد الموت، وإن لم يبق من أثر الحياة شيء، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي: ذلكم الذي يفعل ذلك هو اللَّه - تعالى - لا الأصنام التي تعبدونها وأشركتم في عبادتكم لله وألوهيته أي أيُّ حجة تصرفكم عما ذكر؟ أي: لا حجة لكم في صرف الألوهية عنه إلى غيره، ولا صرف العبادة إلى الأصنام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). قيل: فأنى تصرفون عما ذكر من دلالات وحدانيته وألوهيته وربوبيته. والإفك: هو الصرف في اللغة؛ كقوله: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا)،

(96)

أي: لتصرفنا. وقيل: تؤفكون: تكذبون، أي: ما الذي حملكم على الكذب؟ والكذب والصرف واحد في الحقيقة؛ لأن الكذب هو صرف قول الحق إلى الباطل، وهما واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ ... (96) هو يحتمل الوجهين اللذين ذكرتهما في قوله: (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى): خبر عن ابتداء خلقه. ويحتمل الشق، أي: يشق النهار من الليل، والليل من النهار بعد ما تلف كل واحد منهما حتى لم يبق له أثر، ففيه دليل البعث والإحياء بعد الموت، أي: أن الذي قدر على إنشاء النهار من الليل والليل من النهار بعد ما تلف وذهب أثره - لقادر على إنشاء الخلق، وبعثهم بعد الموت وذهاب آثارهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا). جعل اللَّه الليل سكنًا وراحة للخلق، والنهار معاشًا لهم يعيشون فيه، وجعلهما آيتين من آيات ربوبيته ووحدانيته مسخرين، يغلبان الخلائق ويقهرانهم، ويكونون تحت سلطانهما ويجريان على سنن واحد؛ ومجرى واحد دل أن لهما مدبرا خالقًا عليما، ولو كانا يجريان بطباعهما لكان يختلف جريانهما، ولم يتسق، فدل اتساقهما وجريانهما مجرى واحدًا أن لغير فيهما تدبيرا؛ وكذلك الشمس والقمر جعلهما مسخرين لمنافع الخلق؛ لنضج الأنزال وينعها، ولمعرفة عدد الأيام والشهور والسنين، ويجريان مجرى

(97)

واحدًا ومسلكًا واحدًا غير مختلف " دلّ ذلك أنهما كانا بمدبر عليم حكيم. وفي قوله: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) ودلالة نقض قول المعتزلة؛ لأن الإصباح هو فعل الخلق؛ لأنه مصدر أصبح، وكذلك السكن هو فعل الخلق، ثم أضاف ذلك كله إلى نفسه؛ دل أنه خالق أفعالهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) واختلف فيه؛ قال أبو عبيد: هو من الحساب، وهو جمع حساب، يقال: حساب وحسبان؛ مثل: شهاب وشهبان؛ وهو كقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ). وقيل: (حسبانًا) أي: جريانا، يجريان ويدوران أبدًا لا يستريحان؛ دل أنهما كانا بغير مسخرين للخلق؛ لأنهما لو كانا بطباعهما لكانا يستريحان. وقيل: حسبانًا، أي: ضياء؛ كقوله: (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا)، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). أي: ذلك الجريان الذي ذكر، أو تلك المنافع التي جعلت فيها تقدير العزيز العليم. قال الحسن: العزيز: هو الذي لا يعجزه شيء، والعزيز: هو الذي به يعز كل عزيز. وقال بعض أهل التأويل: العزيز: المنيع في سلطانه، المنتقم من أعدائه، العليم بمصالح الخلق وبما كان ويكون وبحوائجهم، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... (97) والمراد منه: الظلمات، وذكر في قوله: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)

وأراد بالظلمات: الشدائد والأهوال التي تصيبهم. ألا ترى أنه قال: (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)، عند الشدائد والأهوال كانوا يدعون ربهم تضرعًا وخفية، على ما ذكرهم هاهنا عظيم سلطانه وقدرته لما يدفع عنهم الشدائد وينجيهم من الأهوال التي تنزل بهم، فالدافع عتهم ذلك هو لا الأصنام التي يعبدون من دون اللَّه ويشركونها في عبادته. ويذكر في قوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) عظيم ما أنعم عليهم بما جعل لهم من السماء نجومًا ليهتدوا بها للطرق والمسالك في البحار والبراري عند أشتباهها عليهم. وفيه دليل وحدانية الرب وتدبيره وحكمته؛ لأنه جعل في السماء أدلة يهتدون بها، ويستدلون على معرفة الطرق مع بعد ما بينهما من المسافة، وتسوية أسباب الأرض بأسباب السماء، وتعلق منافع بعضها ببعض؛ ليعلموا أنه كان بواحد مدبر عليم حكيم؛ إذ لو كان بعدد أو بمن لا تدبير له ولا حكمة، لم يحتمل ذلك، ولم يتسق ما ذكرنا؛ دل أنه كان بالواحد العليم الحكيم، مع علمهم أن الأصنام التي يعبدونها وأشركوها في عبادته لا يقدرون على ذلك، لكنهم يعبدونها ويشركونها في ألوهيته سفهًا منهم وعنادًا، وبالله العصمة والتوفيق. وفي قوله: (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)، وقوله: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ) وقوله: (جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا)، وغير ذلك من الآيات التي ذكر تذكير نعمه وإحسانه إليهم ليتأدى بذلك شكرهم وجعل السعي له. وجائز أن يستدل به على تذكير قدرته وسلطانه: أن من قدر على ما ذكر لا يحتمل أن يعجزه شيء. وفيه تذكير تدبيره وعلمه وحكمه على ما ذكرنا من اتساق الأمور والحال على أمر

(98)

واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ): قيل: صرفنا الآيات، أي: صرفنا كل آية إلى موضعها الذي يكون لهم دليلا عند الحاجة إليها. وقيك: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ) قد، يينا الآيات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، أي: لقوم ينتفعون بعلمهم وإذا انتفعوا بها صارت الآيات لهم؛ لأن من انتفع بشيء يصير ذلك له؛ لذلك ذكر لقوم يعلمون؛ لأنهم إذا لم ينتفعوا بها لم تصر الآيات لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) فيه دلالة أنه يبدئ ويعيد من غير شيء؛ لأنه أخبر أنه خلق البشر كله من نفس واحدة، والخلائق كلهم لو اجتمعوا ما احتملت الأرض، ولم تكن الخلائق بأجمعهم في تلك النفس الواحدة، دل أنه قادر على الابتداء والإعادة لا من شيء: إذ لم يكن لتلك النفس التي خلق الخلائق منها تقدمة شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ). قال الحسن: مستقر في الآخرة بعمله الذي ختم به: إن ختم بعمل الخير يبقى أبدًا في الخير، وإن ختم بشر يبقى أبدًا في شر، ومستودع في أجله، بنتقل من وقت إلى وقت ومن حال إلى حال. وقيل: مستقر في الدنيا. ويشبه أن يكون مستقر ومستودع في كل حال وكل وقت مستقر في أرحام النساء ومستودع في أصلاب الرجال، وهو قول عامة أهل التأويل، وقيل مستقر في القبر، ومستودع في الدنيا، ويشبه؛ أن يكون (فَمُسْتَقَرٌّ)، في حال القيام حتى ينتقل إلى حال أخرى، (وَمُسْتَوْدَعٌ) لما هو على شرف الانتقال إلى أخرى. وجائز

(99)

أن يكون قوله (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ): مستقر، في الآخرة بالجزاء لأعمالهم التي عملوا، ومستودع في الدنيا. ويحتمل: مستقر بالليالي، ومستودع بالنهار، والأول لبني آدم خاصة. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره، والعلم ما يعرف نفسه؛ ولهذا لا يقال: اللَّه فقيه، ويقال: عالم؛ لأنه عالم بالأشياء بذاته لا بأغيارها ونظائرها، والفقيه: هو الذي يعرف الأشياء بأغيارها ونظائرها ودلائلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ... (99) يذكرهم عَزَّ وَجَلَّ عظيم منته بما ينزل من السماء من الماء، ويخرج به نبات كل شيء؛ كما ذكرهم من النعم بما جعل لهم من الشمس والنجوم؛ ليهتدوا، بها في الظلمات واشتباه الطريق، وما جعل الليل للسكون والراحة، والنهار للمعاش والتقلب، وما جعل لهم من الشمس والقمر، وجعل لهم فيهما من المنافع من نضج الأنزال والزروع وينعهما ومعرفة عدد السنين والحساب والآجال التي يجعلون للعقود، وغير ذلك من النعم التي أنعمها عليهم؛ لئلا يرجعوا شكر هذه النعم إلى غيره، ولا يتخذوا إلهًا سواه، وقد ذكرنا أن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك في إثبات الوحدانية له والألوهية لله، وإثبات الرسالة والنبوة، وإثبات البعث بعد الموت؛ لأنهم كانوا ينكرون ذلك كله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ). يحتمل قوله: (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ)، ما بالخلق حاجة إليه؛ ليعلم أن كل ما يخرج في الأرض أصله من الماء به ينبت مما يكون غذاء البشر وغذاء الحيوان كلهم والطيور؛ كقوله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)، يذكرهم عظيم ما جعل

لهم في الماء من المنافع، على ما أخبر أنه به يخرج نبات كل شيء، وبه حياة كل شيء، ثم من الأوقات ما لو نزل من السماء ماء لم يُنبت؛ دل أنه إنما ينبت بتدبير غير لا بالماء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا). قيل: به يخرج أول ما يخرج خضرا يكون ابتداء كل نبت أخضر، ثم يتحول إلى لون آخر، ومنهم من قال: به يعني بالماء وهو ما يبقى أخضر لولا الماء وإلا يبس وتغير عن حال ابتدائه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا) ويخبر عن لطفه وصنعه بما يخرج من الحب متراكبًا بعضه على بعض، ما لو اجتمع الخلائق كلهم لم يقدروا على تركيب مثله؛ ليعلموا أن لغير في ذلك تدبيرا وصنعا. وفيه دلالة أنه قد ينشئ الأشياء من لا شيء ولا سبب، وإن كان قد أنشأ بعضها بأسباب؛ نحو أن أخرج من الحبة والنواة نباتا أخضر، ولم يكن في الحب نبات ثم أخرج، من ذلك النبات الأخضر حبوبًا، ولم تكن الحبوب في النبات؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الأشياء لا من شيء ولا سبب. وفيه نقض قول الدهرية في كون الأشياء في شيء واحد كما هي؛ لأنه لا يحتمل أن يكون عشرة آلاف نواة أو حبة في نواة واحدة أو في حبّة واحدة، أو تكون الشجرة مع طولها وغلظها وعظمها في نواة أو حبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ النَّخْلِ). أي: يخرج من النخل طلعها بالماء، وفيه من عظيم لطفه وتدبيره أن جعل النخيل والأشجار تتشرب بعروقها الماء، ثم ينتشر ذلك في أصلها إلى أغصانها، ثم يخرج منه ويظهر خضرًا؛ ليعلم عظيم تدبيره ولطفه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ). قيل: القنوان: العروق يكون فيها التمر والثمار، واحدها: قنو.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (دَانِيَةٌ): قال الحسن: دانية بعضها إلى بعض مجتمعة غير متفرقة، على ما يكون من الأعناب والثمر والحبوب، فإن كان هذا فهو في الكل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: دانية: قريبة ملتزقة بالأرض، يناله القائم والقاعد جميعًا. وعن ابن عَبَّاسٍ: (قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ): قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ). أي: أخرج بالماء جنات وكروما. (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) قيل: أخرج بالماء -أيضًا- الزيتون والرمان أو قَالَ بَعْضُهُمْ: (الزيتون والرمان)، (مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) أي: يشبه ورق الزيتون في المنظر ورق الرمان. (وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ): ثمرتها في اللون والطعم، ولكن هو على الكل على كل الثمار، ولا يشبه بعضها بعضًا: منها ما يشبه ساق هذا بساق آخر والثمار والحبوب مختلف. ومنها ما يشبه في اللون، والطعم مختلف. ومنها ما يشبه في الطعم، واللون مختلف. ليعلموا أن لغير في ذلك تدبيرا وصنعًا لطيفًا لم يكن كذلك بالماء؛ لأنه لو كان كذلك بالماء لكان لا يختلف كل هذا الاختلاف في اللون والطعم والساق والورق؛ دل أنه كان كذلك لغير - عليم مدبر حكيم - أنشأه على ما أراد بلطفه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ): يحتمل الأمر بالنظر وجوهًا: أي يحتمل: انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أي: كيف يقلبها، ويحولها من حال إلى حال، ومن لون إلى لون، وأنه يخرج في ساعة لطيفة ما لو اجتمع الخلائق على تقديره ومعرفته أي كم خرج وأي مقدار خرج لم يقدروا عليه؛ ليعلموا أنه قادر على

(100)

إحياء الخلق بمرة واحدة. وفي إنزال المطر من السماء مع بعدها آية عجيبة وحكمة بالغة، وهو أن ينزله واحدًا واحدًا حتى لا يختلط بعضه ببعض مع كثرة المطر وازدحامه وبعد السماء ما لو اجتمع الخلائق على حفظ مثله ما قدروا عليه دل أنه كان بمدبر عليم حكيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). قد ذكرنا أنها تصير آيات لمن صدق بها وآمن، وأما من عاند وكابر ولم يتأمل فيها لم يفهم ما فيها من عجيب آياته وعظيم منته. وفي قوله: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) وجهان آخران من الحكمة: أحدهما: أن انظروا إلى ثمره إذا أثمر أنه أول ما يخرج يخرج على لون واحد وعلى قدر واحد وعلى طعم واحد، ثم يختلف ألوانها وطعمها وتتفاوت أقدارها؛ ليعلموا أنه كان بتدبير واحد عليم حكيم قادر على خلق الأشياء بلا سبب؛ لأنه لو كان كذلك بسبب لا بتدبير فيه كان سبب هذا كله واحدًا، فيجيء أن يخرج كله على سنن واحد؛ دل أنه خالق بذاته لا بسبب. والثاني: أن انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أنه جعل ما يطيب منه للبشر، وعلمهم أسبابا يتخذون بها الطيبات من ذلك من نحو النضج والطبخ وغيره، وجعل لغيرهم من الحيوان كما هو خارج من الأرض؛ ليعلموا أن غيرهم من الحيوان والدواب إنما جعلهم لمنافع البشر مسخرين لهم، وأن البشر هم المقصودون في خلق الأشياء كلها، وبالله الحول والقوة، وله المنة والفضل. * * * قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) أي: قالوا لله شركاء؛ وكذلك قوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ) أي: يقولون لله البنات، أو وصفوا لله، دليله ما ذكر في آخره: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) دل هذا أن قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) أي: وصفوه

بالشركاء والولد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (شُرَكَاءَ الْجِنَّ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا كقوله: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا). وقيل: إنهم لم يعبدوا الجن، ولا قصدوا قصد عبادة الشيطان؛ حيث قال: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)؛ لأن جميع أهل الكفر على اختلاف مذاهبهم يبغضون الشيطان، ويلعنون عليه، ولكن معناه: أن الشيطان هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام والأوثان، فإذا عبدوا الأصنام بدعائه فكأنهم عبدوه إذ بأمره وبدعائه يعبدونها. أو أن يكون كما روي في الخبر " أن الشمس إذا طلعت تطلع بين قرني شيطان "، فإذا

عبدوها فكأنهم عبدوا الشيطان مثل هذا يحتمل، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: فإذا صاروا كأنهم عبدوا الشيطان، ومن ذكر من الجن بدعائهم إلى ذلك، وبأمرهم بذلك حتى نسب وأضاف العبادة إليهم، كيف لا صار المؤمنون كأنهم عبدوا الرسل؛ لأنهم إنما عبدوا اللَّه بدعاء الرسل وبأمرهم؟ قيل: لأن الرسل إنما دعوهم إلى عبادة اللَّه وأمروهم بذلك؛ لأن اللَّه - تعالى - أمرهم بذلك، وأما أُولَئِكَ إنما دعوهم إلى عبادة من ذكر بذات أنفسهم. وفي قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) إخبار لأوليائه وتذكير لهم حسن صنيعه إلى أعدائه من الإنعام عليهم، والإحسان إليهم، وقبح صنيع أُولَئِكَ إليه من وصفهم إياه بالولد والشركاء؛ ليعاملوهم معاملة الأعداء أو معاملة أمثالهم (وَخَلَقَهُمْ) أي: يعلمون أنه هو خلقهم، ثم يشركون غيره في ألوهيته وعبادته، لا يوجهون شكر نعمه إليه. والثاني: قوله: (وَخَلَقَهُمْ)، أي: خلق هذه الأصنام التي يعبدونها، ويعلمون أنها مخلوقة مسخرة مذللة، فمع ما يعلمون هذا يشركون في ألوهيته وعبادته، فكيف يكون المخلوق المسخر شريكًا له؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ). هم كانوا فرقًا وأصنافا؛ منهم من يقول بأن عيسى ابنه وهم النصارى، ومنهم من يقول بأن عزيرًا ابنه وهم اليهود، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات اللَّه، فقال:

(101)

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)، وقال: (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ)، وقال: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ). قال: أَنِفْتُم أنتم من البنات؛ كيف نسبتم البنات إليه؟! في هذه الآية تصبير لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أذاهم بقوله، مع كثرة ما كان لهم من اللَّه من النعم والمنن يشركون في عبادته غيره؛ فأنت إذا لم يكن منك إليهم شيء من ذلك فأولى أن تصبر على أذاهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ). أي: يعلمون هم أن ليس له ولد ولا شريك؛ ولكن كانوا يكابرون، ويحتمل (بِغَيْرِ عِلْمٍ): على جهل يقولون ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ). هو حرف تعظيم وتنزيه جعل فيما بين الخلق: به يعظمون، وبه ينزهون، وبه ينفون كل عيب فيهم؛ فعلى ذلك ذكر عند وصف الكفرة بالولد والشريك والعيوب؛ تنزيهًا وتبرئة عن كل عيب وصفة، وتعاليًا عن جميع ما قالوا فيه، وهو - واللَّه أعلم - كما يقولون: معاذ اللَّه؛ تعظيمًا وتبريئًا من ذلك. وفي قوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) ونقض قول المعتزلة؛ لقولهم: إن صفات اللَّه ليست إلا وصف الواصفين، فلو لم يكن إلا وصف الواصف، لا غير لكان لا معنى لذم بعض الواصفين وحمد بعضهم؛ فثبت أن في ذلك صفة سوى وصف الواصفين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ... (101)

قوله: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: أنشأهما بلا احتذاء ولا امتثال بغير، وقوله هذا يرد على القرامطة قولهم؛ لأنهم يقولون: خالق، ولا يقولون مبدع، ويقولون: المبدع الثاني هو أول مخلوق خلق منه جميع العالم، فلو كان أول خلق خلق مبدعًا فهو مبدع، والإبداع: هو إحداث شيء لم يسبق له أصل ولا مثال؛ ولهذا يقال لمن أحدث في دينه شيئًا: مبتدع؛ لأنه أحدث فيه شيئًا لم يسبق له أصل ولا مثال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ). أي: من قدر على إبداع السماوات والأرض، لا عن أصل سبق ولا عن مثال تقدم؛ فأنى يقع له الحاجة إلى الولد؟! والولد في الشاهد إنما يتخذ؛ لإحدى خصال ثلاث: إما للانتصار على الأعداء والانتقام منهم، وإمّا لوحشة تأخذهم، وإما لحاجة تمسهم؛ فاللَّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك كله فأنى يتخذ ولدًا؟! والثاني: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ)، أي: تعرفون أن الولد لا يكون في الشاهد إلا عن صاحبة وليست له صاحبة، فأنى يكون له ولد؛ كأن الخطاب كان في قوم ينفون عنه الصاحبة، وإنما الحاجة إلى الصاحبة؛ للشهوات التي مكنت فيهم؛ فالشهوة هي التي تقهر المرء وتحمله على الحاجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ). فيه نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر أنه خلق كل شيء، وعلى قولهم: لم يخلق جزءًا من ألف جزء من الأشياء؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه لم يخلق أفعال العباد، ولا حركاتهم، ولا سكناتهم، ولا قيامهم، ولا قعودهم، ولا شيئًا من ذلك، ثم لا يجوز أن تصرف الآية إلى الخصوص، وهو يخرج مخرج الامتداح، ولو جاز أن يصرف هذا على شيء دون شيء لجاز لغيرهم أن يصرفوا قوله: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إلى شيء دون شيء وكذلك قوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وعلى قول المعتزلة هو خالق بعض الأشياء ليس هو بخالق الأشياء كلها؛ على ما أخبر فلئن جاز صرفه إلى بعض الأشياء دون بعض؛ لجاز - أيضًا - صرف قوله (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).

(102)

وقيل: إلى بعض دون بعض، حفظ بعض الأشياء ولم يحفظ الكل، فإن لم يجز هذا؛ لأنه خرج مخرج الامتداح؛ فعلى ذلك لا يجوز صرف الأول إلى بعض دون بعض؛ لأنه امتداح، ولئن جاز أن يقال بأن العبد هو خالق ذلك، جاز أن يقال: هو خالق الكل، والقادر عليه؛ فهذا سمج بيِّن، نسأل اللَّه العصمة عن السرف في القول، والزيغ عن الحق؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) أي: ابتدع خلق السماوات والأرض، وما ذكر من أنواع المنن والنعم التي أنعمها عليهم؛ من نحو: ما جعل لهم من النجوم؛ ليهتدوا بها في الظلمات، وما ذكر أنه أنشأهم من نفس واحدة، وما ذكر من إنزال الماء من السماء، وإخراج ما أخرج به من النبات والثمار والحبوب والأعناب، وغير ذلك من عجيب حكمته، ذلك كله باللَّه الذي (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، منشئ ذلك كله. (فَاعْبُدُوهُ). أي: إليه وجهوا شكر نعمه، ولا توجهوا إلى غيره، قال الكيساني: بديع السماوات والأرض، وبادع السماوات والأرض واحد؛ كما يقال: عليم وعالم، و (بدع) و (ابتدع): بمعنى واحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو مثل قوله: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ... (103) قيل: كنى بالأبصار عن الخلق؛ كأنه مال: لا يدركه الخلق، وهو يدرك الخلق، وإنما كنى بالأبصار عن الخلق؛ لما بالأبصار تدرك الأشياء ويحاط بها؛ لذلك كان معنى الكناية، واللَّه أعلم. وقيل: هو على حقيقة الأبصار، وكذلك بصر القلب؛ لما به نفع المعارف، فإن كان بصر الوجه، ففيه دليل إثبات الرؤية؛

لأنه نفى عنه الإدراك، فلو لم يكن يحتمل الرؤية لم يكن لنفي الإدراك معنى؛ لأنه لا يدرك ما لا يرى؛ فدل نفي الإدراك على أن هنالك رؤية، لكنه لا يدرك ولا يحاط بها؛ على ما ذكر: (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)؛ إذ من الأشياء الظاهرة مما يقع عليها البصر يكون لها سر، وفيها خفاء؛ من نحو: البصر، والسمع واللسان، والأنف، واليد، وغير ذلك من الأشياء: مما لا يدرك حقيقة ماهيتها وكيفيتها ولا تقديرها: يبصر بالبصر أشياء لا يعرف حقيقة كيفية البصر ولا ماهيته، وكذلك السمع: لا يدري أنه كيف هو؟ ولا بم يسمع؟ وكذلك هذا في كل جارحة وحاسة: تجد اليوم خشونة الشيء الذي تمسه ولينه، لا تعرف: بم تجد ذلك وتعرفه؟ وكذلك الكلام من اللسان، والشم من الأنف لا يدري ما هو؟ وكيف؟ وبم يجد تلك الرائحة والنتن؟ فإذا كانت معارف الخلق في الأشياء الظاهرة التي يقع عليها البصر لا يدرك حقيقة ماهيتها، ولا يعرف كيفيتها، ولا يحاط بها علما؛ فاللَّه - سبحانه - الذي بحكمته وضع ذلك، وبلطفه ركب - أبعد عن الإدراك، وأحرى ألا يحاط به، ولا يدرك. وهذا يرد على المجسمة مذهبهم؛ لأنهم يصورون ربهم في قلوبهم، ويمثلونه، فعلى ذلك يعبدونه، فهم مشبهة. وأصله أن اللَّه - تبارك وتعالى - يعرف بالآيات والدلائل، لا بالمحسوسات

والمشاهدات، وكل شيء سبيل معرفته الآيات والدلائل: فهو غير محاط به ولا يدرك؛ فهو على ما وصف نفسه: (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)، (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)؛ لأن الإدراك والإحاطة إنما يقعان بالمحسوسات، لا بما يعرف بالآيات والدلائل، وعلى ذلك جاءت دلائل الرسل به نحو ما قال موسى - حين سأله فرعون -: (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)، وقال إبراهيم: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، وقال: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) دلالة على ألوهيته ووحدانيته من جهة الآيات والدلائل، لا من غيره. وعلى ذلك دل اللَّه الخلق على معرفة وحدانيته وربوبيته، بقوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا)، وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) إلى آخر ما ذكر، دلهم على ما به يعرفون ألوهيته ووحدانيته من جهة الآيات والدلائل، لا من جهة ما تقع به، الإحاطة والإدراك، وباللَّه الهداية والرشاد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). قيل: اللطيف: في أفعاله، الخبير بخلقه وبأعمالهم. وقيل: اللطيف: البار الرحيم. وقيل: اللطيف: هو العليم بخفيات الأشياء. والخبير بظواهر الأشياء. ثم هو اللطيف: العظيم، والعظيم في الشاهد: غير اللطيف، واللطيف: غير العظيم؛ لأن؛ العظيم في الشاهد هو الذي به كثافة، واللطيف: ما يلطف في نفسه ويرق، وكل واحد منهما. مما يناقض الآخر؛ ليعلم أنه لطيف عظيم، لا من الوجوه التي تعرف في الخلق؛ وكذلك، قوله -: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) هو أول وآخر وظاهر وباطن، وفي الخلق: من كان أولا لم يكن آخرًا، ومن

(104)

كان ظاهرًا لم يكن باطنا؛ ليعلم أنه أول وآخر وظاهر وباطن، لا من الوجه الذي يعرف ويقهم من الخلق؛ ولكن مما وصف نفسه. * * * قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ). قيل: بينات من ربكم. وقيل البصائر الهدى، بصائر في قلوبهم، وليست ببصائر الرءوس وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقيل: بصائر، أي: بيان، وهو واحد. وقيل: بصائر شواهد، أي قد جاءكم من اللَّه شواهد تدلكم على ألوهيته، وهو كقوله

(105)

تعالى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، أي: بل الإنسان من نفسه بصيرة، أي: شاهدة؛ فشهدت كل جارحة منهم على وحدانية اللَّه وألوهيته. ألا ترى أنه قال: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)؛ هذا - واللَّه أعلم - لأنهم كانوا يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان والأصنام، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)؛ فيقول: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) من الآيات والرسل ما لو اتبعتموهم، لكانوا لكم شفعاء عند اللَّه. والثاني: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ): ما لو تفكروا وتدبروا ونظروا فيها، لعرفوا أنها بصائر من اللَّه؛ لأن البشر أنشئوا بحيث ينظرون في العجيب من الأشياء؛ فكانوا على أمرين: منهم من نظر وتفكر وعرف أنها بصائر، لكنه عاند وكابر ولم يعمل بها، ومنهم من ترك النظر فيها؛ فعمي عنها، ما لو تفكروا ونظروا لتبين لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا). أي: أبصر الحق والهدى وعمل به، فلنفسه عمل، ومن أبصر وعمي عنها - أي: ترك العمل - فعليها ترك؛ كقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا). فَإِنْ قِيلَ: ذكر في آية أخرى: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) أخبر أن من هلك هلك عن بينة، ومن حي حي عن بينة، وهاهنا يقول: (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا): ذكر عمي عليها؛ فكيف وجه التوفيق بينهما؟! قيل: يحتمل قوله: (عَمِيَ) بعد ما تبين له، فترك العمل به؛ فعليها ذلك؛ لأنه أبصرها، وعرف أنها من اللَّه، لكنه عاندها وكابرها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ). أي: قد جاءكم بصائر من ربكم، فليس علينا إلا التبليغ؛ كقوله: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ... (105) أي: نردّها في الوجوه التي تتبين لقوم يطلبون البيان. أو نقول (نُصَرِّفُ الْآيَاتِ)، أي: نضع كل آية ونصرفها إلى الوجوه التي تكون بالخلق

إليها حاجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ). فيه لغات: دَرَسْتَ، ودَارَسْتَ. ودَرَسَتْ: قرأت، ودارست: تعلمت. وقيل: دارست أهل الكتاب: جادلتهم، ودرست بالجزم، قيل: تعاونت، فهذا

الاختلاف فيه؛ لاختلاف قول كان من الكفرة لرسول اللَّه؛ منهم من يقول: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، فهو تأويل دارست، ومنهم من يقول: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، فهو تأويل قوله: درست، ومنهم من يقول: (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، وهو تأويل درست؛ فعلى اختلاف أقاويلهم خرجت القراءة. ثم اختلف في تأويل قوله - تعالى -: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: لئلا يقولوا درست، فهو صلة قوله: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) لئلا يقولوا: درست. وقال الحسن قوله: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ)، أي: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ)؛ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ؛ لأن من قوله: إنه بعث الرسل، وأنزل الكتب؛ ليكون من الكافر قول كفر، ومن المؤمن قول إيمان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ). يخرج - واللَّه أعلم - على معنى التعجب: يعجب أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن قبح صنيع الكفرة وسوء معاملتهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد جاءهم بصائر من ربهم وبينات وحجج، ثم هم بعد هذا كله يستقبلونه بالرد والتكذيب. وهو على ما قلنا: إن اللَّه ذكر نعمه عليهم بما أنشأ لهم: من الأنعام، والجنات المعووشات، والزرع، والنخيل، وما أخبر عنه، وقد علموا ذلك كله، ثم جعلوا له بعد معرفتهم هذا (شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، ولا بينة؛ فهو على التعجب أنهم كيف جعلوا له شركاء، وقد علموا أن الذي جعل هذا كله لهم هو اللَّه؟! فعلى ذلك هذه الآية أنهم كيف قذفوه بالدراسة، وقد تبين لهم صدقه، وأنه من عند اللَّه بالآيات والدلائل، وبما كان لا يخط كتايا، ولا شهدوه يختلف إلى من عنده علم ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

(106)

أي: لنبينه يعني القرآن، وقيل البصائر التي ذكر لقوم ينتفعون بعلمهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله: (مِنْ رَبِّكَ)، وإنَّمَا أوحي إليه من ربه، ويكفي قوله: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)؟! ولكن معناه على الإضمار - واللَّه أعلم - كأنه قال للذي أوحى إليه على يديه: قل (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، ثم أمر نبيه باتباع ما أوحي إليه من ربه، أي: اعمل بما أوحي إليك. ثم الأمر بالعمل يحتمل وجهين: يحتمل: الأمر بالاعتقاد بذلك. ويحتمل: نفس العمل، أي: اعمل. ويشبه أن يكون الأمر بالاتباع ما أوحي إليه صدقًا في الخبر وعدلا في الحكم؛ كقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا). قيل: صدقًا في الأخبار، وعدلا في الأحكام؛ فعلى ذلك أمكن أن يكون الأمر بالاتباع اتباع ما أوحي إليه صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام، ثم على ما أمر نبيه باتباع ما أوحي إليه وأنزل من ربه أمر أمته كذلك، وهو قوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)، أمرهم باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ونهاهم عن اتباع من اتخذوا من دونه أولياء؛ فعلى ما نهاهم عن اتخاذ أولياء دونه قال في الآية التي أمر رسوله باتباع ما أوحي إليه من ربه؛ فقال: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) وقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) واحد؛ لأنه أمر باتباع ما أوحي إليه من ربه، ونهي أن يتبع دونه أولياء؛ لأنه أخبر أن لا إله إلا هو. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ). يحتمل: أمره بالإعراض عن المشركين وجوهًا:

(107)

يحتمل ألا تكافئهم على أذاهم؛ ولكن اصبر، ويحتمل الأمر بالإعراض عنهم: النهي عن قتالهم؛ كأنه نهى عن قتالهم في وقت. ويحتمل أن تكون الآية في قوم خاصة، قال: أعرض عنهم؛ فإنهم لا يؤمنون، ولا تقم عليهم الآيات والحجج؛ لما علم منهم أنهم لا يؤمنون، ثم على ما أمر نبيه بالإعراض عنهم أمر المؤمنين -أيضًا- بالإعراض عنهم، وهو قوله: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ... (107) قالت المعتزلة: المشيئة هاهنا مشيئة قهر وجبر، أي: لو شاء اللَّه لأعجزهم ومنعهم عن الشرك على دفع الابتلاء والامتحان. وأما عندنا: المشيئة: مشيئة اختيار، والطوع على قيام الابتلاء والامتحان، وبعد: فإن مشيئة الجبر هي خلقه، وقد كانوا جميعًا غير مشركين بالخلقة؛ فلا معنى لتأويلهم الذي تأولوا في المشيئة. ثم لا يحتمل أن يكون قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) مشيئة قهر وجبر؛ لأنه لا يكون في حال الجبر والقهر إيمان ولا كفر؛ إنما يكون ذلك في حال الاختيار والطوع؛ لأن الجبر والقهر يمنع من أن يكون له فعل حقيقة؛ بل يتحول الفعل عنه ويسقط، ويثبت للذي جبر وقهر؛ وذلك بعيد؛ فدل أنه ما ذكرنا، وباللَّه الرشاد. وفي قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) دلالة أن طريق الإسلام الإفضال والإنعام، ولله أن يخص به من كان أهلا للإفضال والإنعام باللطائف التي عنده، ويحرم بعضًا ذلك، وله أن يجعل بعضهم أهلا لذلك؛ إفضالا منه، ولا يجعل البعض؛ عدلا منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ). أي: لم يؤخذ عليك حفظ أعمالهم، أو لا تسأل أنت عن صنيعهم؛ إنما عليك التبليغ، وهو كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وكقوله - تعالى -: (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)، ونحوه.

(108)

وقيل: الحفيظ والوكيل واحد، وقيل: الوكيل هو الكفيل، وقد ذكرناه في غير موضع فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ... (108) نهانا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن سبِّ من يستحق السبَّ؛ مخافة سبِّ من لا يستحق السبَّ. فَإِنْ قِيلَ: كيف نهانا عن سبِّ من يستحق السبَّ؛ مخافة سبِّ من لا يستحق، وقد أمرنا بقتالهم، وإذا قاتلناهم قاتلونا، وقتل المؤمن بغير حق من المناكير، وكذلك أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتبليغ الرسالة والتلاوة عليهم، وإن كانوا يستقبلونه بالتكذيب؟! قيل: إن السبَّ لأُولَئِكَ مباح غير مفروض، والقتال معهم فرض، وكذلك التبليغ فرض يبلغ إليهم، وإن كانوا ينكرون ما يبلغهم، وكذلك القتال نقاتلهم، وإن كان في ذلك إهلاك أنفسنا وأصله أن ما خرج الأمر به مخرج الإباحة فإنه ينهى عما يتولد منه ويحدث، وما كان الأمر به أمر فرض ولزوم لا ينهى عن المتولد منه والحادث. ويجوز أن يستدل بهذا على تأييد مذهب أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: إن من قطع يد آخر بقصاص فمات في ذلك أخذ بالدية، وإذا قطع اليد بحدٍّ لزمه

فمات، لم يؤخذ بها؛ لأنه أبيح له قطع يده، والقصاص لم يفرض عليه، وفي الحدّ، تلزم إقامة الحد لله، فإذا كان قيامه بفعل أبيح له الفعل، ينهى عما يتولد منه، ويؤخذ به، واذأ كان قيامه بفعل فرض عليه، لم يؤخذ بما تولد منه؛ وعلى هذا يخرج قوله في الأمر بالختان إذا تولد من ذلك الموت؛ لأنه أمر بإقامة السنة، وكذلك الأمر

بالحجامة؛ لأنه يفرض عليه الحجامة في حال إذا خاف عليه الهلاك؛ إذا لم يحتجم وأما الأمر بالدق وغيره مما يشاكله: فهو - أمر إباحة، لا أمر إلزام؛ لذلك ضمن ما تولد منه؛ فعلي ذلك السب الذي يسب آلهتهم إذا حملهم ذلك على سب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وسب رسوله لا يسبون، وإن كانوا مستحقين لذلك؛ لأنه قد ينهى الرجل أن يعود نفسه السب؛ فعلى ذلك يجوز أن ينهوا عن سب آلهتهم؛ مخافة الاعتياد لذلك نهوا عن سبّ آلهتهم.

ثم ذكر في القصة أن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا يسبون آلهتهم فيسبون اللَّه؛ عدوا بغير علم، وذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذكر آلهتهم بسوء؛ فقالوا: لتنتهينَّ عن ذلك أو لنهجونَّ ربك. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذلك حين قال لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الآية، فقالوا عند ذلك ما قالوا؛ فنزل: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ)، ولكن لا ندري كيف كانت القصة، ولكن فيه ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ). قال الكيساني وأَبُو عَوْسَجَةَ: (عَدْوًا)؛ من الاعتداء، وهو مجاوزة الحد. وقال أبو عمرو: (عَدْوٌ): بالرفع، وقال: إنما العدو من عدو الرجلين؛ وكذلك قال في يونس: (عَدْوٌ).

وقيل: فلما نزل قوله: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا) الآية، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: " لا تسبوا ربكم فأمسكوا عن سبّ آلهتهم ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ). قال أبو بكر الكيساني: إن صلة قوله: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) أنهم كانوا يعبدون هذه الأصنام والأوثان؛ رجاء أن تقرب عبادتهم إياها إلى اللَّه؛ لا أنهم كانوا يعبدونها ويتخذونها آلهة دون اللَّه؛ فإذا سبّوا معبودهم فكأنهم سبوا اللَّه عدوًا بغير علم؛ إذ العبادة في الحقيقة لله، فيرجع سبّهم إياها إلى اللَّه؛ لذلك كان معنى السحت فقال؛ فعلى ذلك رجع قوله: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)؛ حتى امتنعوا عن سبّ اللَّه، فذلك الذي زين عليهم. وقال الحسن: قوله: (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)، أي: زينا عليهم أعمالهم فيما أمروا به، وفرض ويجب عليهم أن يفعلوا، لا فيما لا يفرض ولا يحل لهم أن يفعلوا. وكذلك يقول جعفر بن حرب والكعبي وغيرهما من المعتزلة: إنه زين عليهم

عملهم الذي فرض عليهم أن يعملوا وياتوا به، وأما ما لا ينبغي أن يقولوا فلا؛ كقوله: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) الآية ذكر في الإيمان: التزيين، وفي الكفر: التكريه، ويقولون: إنه أضاف التزيين إلى الشيطان بقوله: (زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)، وقوله: (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ)، والشيطان يزين لهم المعاصي والفسوق؛ فلا يحتمل أن يكون اللَّه يزين لهم ما يزين الشيطان؛ فدل أنه إنما يزين لهم ما يؤمرون به ويفرض عليهم، ولكن يضاف إليه التزيين ما أضيف إليه حرف الإضلال والإغواء. وأما عندنا: فالتزيين على وجهين: تزيين في العقول، وهو تحسين من طريق الآيات والبراهين، فذلك لا يحتمل فعل الكفر والضلال أن يكون مزينا من جهة الآيات والحجج. والثاني: تزيين في الطباع: بالشهوات، والأماني، وفعل كل أحد مزين بالشهوة والحاجة التي مكنت فيه، ولا شك أن كل كافر لو سئل عن فعله الكفر والضلال؛ فيقول: هذا الذي زين لي، وليس إضافة فعل التزيين إلى اللَّه بأكبر وأبعد من إضافة الإضلال والإغواء، وقد ذكرنا معنى إضافة الإضلال والإغواء إليه في غير موضع؛ فعلى ذلك التزيين. ويقولون -أيضًا-: إن التزيين: تزيين وعد وثواب؛ فالكافر متى يؤمن بالوعد في الآخرة والثواب فيها، وهو ليس يؤمن بالآخرة، فهذا بعيد.

(109)

ولا يحتمل ما قال الكيساني -أيضًا- لأنه لا كل الكفرة كانوا يعبدون الأصنام؛ ليقربهم ذلك إلى اللَّه زلفى؛ بل أكثرهم لا يعرفون أن لهم خالقًا وربًّا. وتحتمل إضافة التزيين إلى الشيطان على جهة التمني والتشهي؛ كقوله: (وَلَأُمَنِّيَنَّهُم) وإضافته إلى اللَّه على القدرة عليه والسلطان، أو أن يخلق أعمالهم مزينة عندهم مسولة. وإضافة فعل الضلال والغواية إلى الشيطان على الدعاء إليه والترغيب فيه، وإضافته إلى اللَّه على أن يخلق فعل الضلال منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ). قد ذكرناه. (فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). في جزيل الثواب، أو في أليم العذاب؛ فهو على الوعيد. * * * قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ). قالوا: جهد أيمانهم: أيمانهم باللَّه، فهذا يخرج على وجوه:

أحدها: أن الحنث في اليمين يخرج مخرج الاستخفاف والتهاون، وإن كان المسلم لا يقصد قصد الاستخفاف باللَّه تعالى، وإن كان في اليمين التعظيم، وفي الحنث استخفاف، ففي اليمين باللَّه جهد اليمين. ويحتمل وجهين سوى هذا، وذلك ما قيل: إن الكفرة كانوا لا يحلفون باللَّه إلا عند العظيم من الأمور، والجليل منها، وفي غير ذلك كانوا يحلفون بدونه؛ فسمي اليمين باللَّه جهد اليمين؛ تعظيمًا لله وتبجيلا. والثاني: يحتمل أنهم كانوا يحلفون بأشياء، ويؤكدون اليمين باللَّه ويشددونه؛ كقوله: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا). قيل: إنهم كانوا يقسمون جهد أيمانهم (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)، كانوا يسألون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آيات: لئن جاءتهم ليؤمنن بها؛ من نحو ما قالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا)، وكقولهم: (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا

كِتَابًا نَقْرَؤُهُ)، وغير ذلك من الآيات؛ فقال: (قُل) يا مُحَمَّد: (إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ) هو الذي يرسلها وينزلها، وأنا لا أملك إرسالها ولا إنزالها؛ كقوله: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ)، وغير ذلك من الآيات؛ إنباء منه أنه لا يملك إنزال ما كانوا يسألونه من الآيات، ثم قال: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) واختلف فيه: قال الحسن وأبو بكر الأصم: إنه خاطب بقوله: (وَمَا يشُعِرُكُم) أهل القسم الذين أقسموا باللَّه جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها؛ فقال: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ)، أي: ما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءكم آية ثم استأنف، فقال: (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)، وهكذا كان يقرؤه الحسن بالخفض: (إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) على الاستئناف

(110)

والابتداء. وقال غيرهم من أهل التأويل: الخطاب لأصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك أنهم لما قالوا: (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)؛ ظنوا أنهم لما أقسموا باللَّه جهد أيمانهم أنهم يؤمنون إذا جاءتهم آية، يفعلون ذلك ويؤمنون على ما يقولون؛ فقال لهم: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)، على طرح لا، أي ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون ويحتمل فيه وجهًا آخر غلى الإضمار، وكأنه قال: وما يشعركم فاعلموا أنها إذا جاءت لا يؤمنون على الوقف في قوله (وَمَا يشُعِرُكُم) ثم ابتدأ فقال: اعلموا أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وهذا كأنه أقرب. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن أهل الإسلام قالوا: إنهم - وإن جاءتهم آية - لا يؤمنون؛ فقال عند ذلك: (وَمَا يشُعِرُكُم) خاطب به هَؤُلَاءِ (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ). والثاني: أنهم، وإن آمنوا بها، إذا جاءت؛ فنقلب أفئدتهم من بعد. وعلى هذا التأويل أن خلق تقلب أفئدتهم وأبصارهم كقوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، أي: خلق زيغ قلوبهم؛ فكذلك الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) أي: نقلب أفئدتهم وأبصارهم بالحجج والآيات، ويردونها؛ فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة. وقال أهل التأويل: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ)، أي: نحول بينهم وبين

(111)

الإيمان لو جاءتهم تلك الآيات؛ فلا يؤمنون؛ كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن، يقلب في أفئدتهم وأبصارهم آيات وحدانيته وألوهيته؛ فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة. ثم تخصيص الأقئدة والأبصار دون غيرها من الجوارح؛ لأن القلب والبصر لا يقع إلا على ما يشهد به على وحدانية اللَّه وألوهيته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: إن هَؤُلَاءِ، وإن جاءتههم آية، فإنهم لا يؤمنون كما لم يؤمن أوائلهم من الأمم الخالية لما سألوا الآيات قبلهم؛ فكذلك هَؤُلَاءِ لا يؤمنون بها، وإن جاءتهم الآية بعد السؤال. وقال، غيرهم: قوله: (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي: قد جاءتهم آيات قبل هذا على غير سؤال، فلم يؤمنوا بها؛ فكذلك إن جاءتهم بالسؤال، فلا يؤمنون بها. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن مشركي العرب كانوا يقسمون باللَّه: أنه إن جاءهم نذير يؤمنون به، وهو قوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) يعنون - واللَّه أعلم - اليهود والنصارى، أي: لو جاءهم نذير ليكونون أهدى من اليهود والنصارى، (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا) يخبر أنهم كما لم يؤمنوا بالنذير عند سؤالهم النذير في الابتداء إذا جاءهم نذير، فكذلك -أيضًا- لا يؤمنون عند سؤالهم الآيات، وإن جاءتهم آيات. يخبر نبيه وإنهم ليسوا يسألون الآيات سؤال استرشاد، ولكن يسألون سؤال عناد ومكابرة، وهذا التأويل كأنه أقرب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ). إذا علم أنهم لا يؤمنون، تركهم في ظلمات ضلالتهم يعمهون، ويتحيرون، والعمه: الحيرة في اللغة. (قوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى ... (111) قيل: هذه الآية صملة قوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) إلى قوله: - (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا

إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)، ثم قال: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا) الآية: أخبر أنهم وإن نزل إليهم الآيات بعد السؤال منهم الآيات: من إنزال الملائكة، وتكليم الموتى - أنهم لا يؤمنون؛ إذ سؤالهم الآيات سؤال تعنت واستهزاء وعناد، لا سؤال استرشاد؛ لأنهم قد جاءتهم آيات لو لم يعاندوا لآمنوا بها، ثم إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون، وأن ما يسألون من الآيات إنما يسألون سؤال تعنت وعناد جعل فيهم خصالا على الخذلان من نحو قساوة القلب، حتى أخبر أن قلوبهم أقسى من الحجارة، ومن نحو البغض والجهالة، وغير ذلك من الخصال ما يدل على ما ذكرنا، وهو كقوله: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ)، يخبر عن تعنتهم ومكابرتهم. وفيه دليل أن الآيات لا تضطر أهلها على الإيمان؛ لأنه قال: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا. .) الآية، لو كانت آيهَ تضطرهم إلى الإيمان لكانت هذه، وهذا يدل على أن معنى قوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)، أنهم لا يؤمنون بالآية، ولكن إذا شاء أن يؤمنوا لآمنوا، ولو كانت الآيات تضطر أهلها إلى الإيمان به لكان لا آية أعظم من القيامة، ولا أبين منها، ثم أخبر عنهم أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وقال: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، قد كذبوا عند معاينتهم القيامة والعذاب؛ فهذا يدل على أن الآية لا تضطر أهلها إلى الإيمان بها، ويدل أن تأويل قوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)، أنهم يخضعون إذا شاء أن يخضعوا، لا أن الآية تضطرهم على الخضوع بالدلائل التي ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). قال الحسن: هذه المشيئة مشيئة القدرة، أي: لو شاء اللَّه أن يعجزهم حتى يؤمنوا، وهو كقوله - تعالى - (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ)، (وَلَوْ نَشَاءُ

لَمَسَخْنَاهُمْ)، ونحوه فهذه المشيئة؛ مشيئة القدرة، لكنا نقول: إنه أخبر أنه لو شاء أن يمسخهم لمسخهم؛ فقل -أيضًا-: إنه لو شاء أن يهديهم لهداهم، ولو شاء أن يهتدوا لاهتدوا، وكذلك يقول المعتزلة: إن المشيئة - هاهنا - مشيئة القهر والجبر، وقد ذكرنا ألا يكون في حال القهر والجبر إيمان؛ فيصير على قولهم: إلا أن يشاء اللَّه أن يؤمنوا فآمنوا فلا يكون إيمانًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا): اختلف في تلاوته وتأويله: أعن الحسن، قال (قُبُلًا): عيانًا، وعن قتادة كذلك (قُبُلًا): عيانًا: حتى يعاينوا ذلك معاينة. (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، وهو على ما ذكرنا إلا أن يشاء اللَّه أن يؤمنوا فيؤمنوا. وعن مجاهد: (قُبُلًا)، أي: أفواجا قبيلًا، وفي حرف أبي عمرو بن العلاء: (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا)، يقول: جيلا فجيلا. وفي حرف أبي: (قَبِيلًا)، أي: قبيلة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (قُبُلًا)، أي: جماعة جماعة، وقبلا، أي: أصنافًا.

(112)

ويقال: القبيل: الكفيل؛ كقوله: (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا)، أي: ضمينا كفيلا. قال الكيساني: من قرأها (قُبُلاً) فقد تكون جمع (القبيل)؛ مثل (الجبيل) و (الجُبُل)، وقد يكون (القبيل) -أيضًا- من معنى الإقبال؛ كقوله: من قبل ومن دبر. ومن قرأها (قِبَلا): أراد معاينة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا)، يقال أتانا الناس قبلا، أي: كلهم؛ وقبلا: من المقابلة، وتأويله ما ذكرنا: أن لو فعلنا هذا كله: من إنزال الملائكة إليهم، وتكليم الموتى إياهم، (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا)، فأخبروهم بالذي يقول مُحَمَّد إنه حق (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) لهم الإيمان فيؤمنوا، وفيه ما ذكرنا من الدليل أن الآيات لا تضطر أهلها إلى الإيمان بها إلا أن يشاء اللَّه أن يؤمنوا؛ فحينئذ يؤمنون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ). أي: لكن أكثرهم لا ينتفعون بعلمهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ... (112) قيل: كما جعلنا لكل نبي من قبل عدوا كذلك نجعل لك عدوا، ويحتمل

أن يكون صلة قوله: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ثم قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا)، قال الحسن: إن من حكم اللَّه أن بعث رسلا، وأن كل من اتبع رسله يكون وليا له، ومن عصى رسله يكون عدوا له، هذا حكم اللَّه في الكل. وقال جعفر بن حرب والكعبي وغيرهما من المعتزلة: إن قوله: (جَعَلْنَا)، أي: خلينا بينهم وبين ما اختاروا من الكفر والعداوة، يقال: جعل فلان كذا إذا كان مسلطًا على ذلك، وهو يقدر أن يمنعه عن ذلك؛ ويصير التأويل على قول المعتزلة، أي: لم نجعل لكل نبي عدوا؛ ولكن هم جعلوا أنفسهم أعداء لكل نبي. وقلنا نحن: إن قوله: (جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا)، أي: خلقنا لكل نبي عداوة كل عدو، والجعل من اللَّه: هو الخلق؛ كقوله: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا). وقوله: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ). (¬1) وقوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا). كل جعل أضيف إلى اللَّه فهو خلق؛ فعلى ذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا)، أي: خلقنا لكل نبي عداوة كل عدو، ولو كان الحكم على ما قال الحسن، وما قال أُولَئِكَ من التخلية لكان يجوز أن يضاف فعل الكفر وفعل الضلال إلى اللَّه، وذلك بعيد. والثاني: لم يوفق لهم فعل الولاية؛ لما علم منهم أنهم يختارون فعل العداوة على فعل الولاية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الشياطين كلهم يكونون من الجن، ثم إنهم يوحون إلى الإنس؛ فيكونون هم الذين يدعون الخلق إلى معصية اللَّه؛ فيكونُ من الجن وحيًا إلى الإنس، ومن الإنس إلى الخلق قولا ودُعاء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يكونُ من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، تدعو شياطين ¬

_ (¬1) قال الإمام فخر الدين الرازي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَعْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، بَلْ لَهُ مَعَانٍ أُخَرُ سِوَى الْخَلْقِ. أَحَدُهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفُرْقَانِ: 47]. وَثَانِيهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى وَهَبَ، نَقُولُ: جَعَلْتُ لَكَ هَذِهِ الضَّيْعَةَ وَهَذَا الْعَبْدَ وَهَذَا الْفَرَسَ. وَثَالِثُهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى الْوَصْفِ لِلشَّيْءِ وَالْحُكْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: 19]، وَقَالَ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: 10]. وَرَابِعُهَا: جَعَلَهُ كَذَلِكَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً [الْأَنْبِيَاءِ: 73] يَعْنِي أَمَرْنَاهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَقَالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: 124] فَهُوَ بِالْأَمْرِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ بِمَعْنَى التَّعْلِيمِ كَقَوْلِهِ: جَعَلْتُهُ كَاتِبًا وَشَاعِرًا إِذَا عَلَّمْتَهُ ذَلِكَ. وَسَادِسُهَا: الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ تَقُولُ: جَعَلْتُ كَلَامَ فُلَانٍ بَاطِلًا إِذَا أَوْرَدْتَ مِنَ الْحُجَّةِ مَا يُبَيِّنُ بُطْلَانَ ذَلِكَ، إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَهُمَا بِالْإِسْلَامِ وَالْحُكْمِ لَهُمَا بِذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: جَعَلَنِي فُلَانٌ لِصًّا وَجَعَلَنِي فَاضِلًا أَدِيبًا إِذَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ. اهـ (مفاتيح الغيب. 4/ 52).

الجن - الجن إلى معصية اللَّه وهكذا من دعا آخر إلى معصيته والكفر به، ويدعو شياطين الإنسِ الإنسَ إلى ذلك، يدعو كل فريق قومه إلى معصية اللَّه، وهكذا من دعا آخر إلى معصية اللَّه، فهو شيطان، وكذلك كبراء الكفرة ورؤساؤهم الذين كانوا يدعون أتباعهم وسفلتهم إلى الكفر والضلال باللَّه؛ فهم شياطينهم؛ ألا ترى أنه قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا). وقوله تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا). وقوله: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ). وغيره من الآيات؛ أن كلَّ من دعا غيره إلى معصية اللَّه والكفر به، فهو شيطان. والشيطان هو البعيدُ من رحمة اللَّه؛ شطن أي: بَعُدَ. وقيل: إن إبليس وكَّلَ شياطين الإنس، يضلونهم ويدعونهم إلى معصية اللَّه، ووكَّلَ شياطين بالجن يضلونهم. وهو تأويل الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) أي: يزين بعضهم لبعض القول غرورا، يغرون به. قَالَ الْقُتَبِيُّ - رحمه اللَّه -: زخرف القول غرورا: ما زين به وحسن وموه. وقال واصل: الزخرف: الذهب؛ ويقال: زخرف الشيء، أي: حسنه.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الوحي أن يَحْيَى بعينه أو بشفتيه، وهي إشارة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: لو شاء، ربك خلقهم خلقا لم يركب فيهم الشهوات والحاجات حتى أطاعوه ولم يعصوا؛ كما خلق الملائكة لم يركب فيهم الشهوات والحاجات والأماني، فلم يعصوه. وقالت المعتزلة: لو شاء ربك لأعجزهم وقهرهم؛ حتى لا يقدروا على معصية الله والكفر به فآمنوا واهتدوا. وعندنا أنه لو شاء ربك لهداهم لاهتدوا، لكن لما علم منهم أنهم يختارون الضلال على الهدى شاء ألا يهديهم. وقد ذكرنا قبح تأويلهم الآية في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) هذا يخرج على الوعيد لهم؛ كقوله: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا)، وكقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) أي:

(113)

ذرهم وما يختارون؛ فإنك تراهم في العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ... (113) قيل: ولتميل قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة إلى زخرف القول الذي كان يوحي ويلقي شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض (وَلِيَرْضَوْهُ) لما كان الذي أوحى وألقى بعضهم إلى بعض من زخرف القول الذي يوافق هواهم، وكل من ظفر بما يوافق هواه فإنه يرضى به؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا)، لأنهم كانوا لا يؤمنون بالآخرة ولا يرجون لقاءه وكانت همتهم هذه الدنيا ورضوا بها واطمأنوا فيها. ويحتمل قوله: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ) أي: إلى الكتاب (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)؛ أي: ليس ميل قبول منهم له، ولكن ميل طلب الطعن فيه، وهكذا كانت همة أُولَئِكَ الكفرة، وعادتهم طلب الطعن فيه، والأول أشبه. ثم إن كان زخرف القول الذي أوحى بعضهم إلى بعض من كبرائهم وعظمائهم، فقد أشرك - تعالى - هَؤُلَاءِ وأُولَئِكَ في الكذب الذي كان منهم كان من الكبراء الدعاء إلى ذلك، ومن الأتباع الرضا والإجابة؛، وكان منهم التزيينُ والزخزفة، ومن الأتباع القبولُ والرضا به، فقد اشتركوا جميعًا في ذلك الكذب، والقول: الغرور. وقوله: (وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) اختلف فيه: قال قائلون: قوله: (وَلِيَقْتَرِفُوا) يعني: هَؤُلَاءِ الأتباع (مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي: ليكتسبوا هَؤُلَاءِ الأتباع من الكذب ما كان. أُولَئِكَ يكتسبون من العذب. وقيل: (وَلِيَقْتَرِفُوا) أُولَئِكَ المتبوعون من الكذب (مَا هُم) يعني: هَؤُلَاءِ الأتباع (مُقْتَرِفُونَ) من القول الغرور والزخرف. ثم اختلف في الاقتراف: قَالَ بَعْضُهُمْ: الاكتسابُ؛ اكتسابُ كل شيء.

(114)

وقال قائلون: الاقترافُ هو موافقة الذنب والإثم واللَّه أعلم. قوله تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا): كان أُولَئِكَ الكفرة دعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى حكم يحكم بينهم في منازعة وقعت بينهم؛ إما في الرسالة وإما في الكتاب، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا) ثم بين فقال: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) كيف أبتغي حكما غير اللَّه وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا، ما تعلمون أنه من عند اللَّه نزل عجز الخلائق عن إتيان مثله. ثم اختلف في قوله: (مُفَصَّلًا) قيل مُفَصَّلًا، بالحجج والبراهين ما يعرف كل عاقل لم يكابر عقله أنه من عند اللَّه نزل. وقيل: مُفَصَّلًا بالأمر، والنهي، والتحليل، والتحريم، فيقول كيف أبتغي حكما غير ما أنزل اللَّه، وقد أنزل كتابًا مُفَصَّلًا مبينًا، فيه ما يحل وما يحرم، وما يؤتى وما يتقى، فلا حاجة تقع إلى غير اللَّه. وقيل: مُفَصَّلًا بالوعد والوعيد وما يكون له عاقبة؛ لأن العمل الذي يكون للعاقبة يكون فيه وعد ووعيد. وقيل: مُفَصَّلًا مفرقًا؛ أي: أنزله بالتفاريق لم ينزله مجموعًا جملة، ما يقع بمسامع

(115)

كل أحد علم ذلك وبيانه، فأنى تقع بي الحاجة إلى حكم غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) اختلف فيه: قيل: الذين آتيناهم الكتاب أي: أهل التوراة، والإنجيل يعلمون أنه منزل من ربك بالحق. وقيل: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ)؛ يعني: من أعطى هذا الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق؛ لما عجزوا عن إتيان مثله وتأليفه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ). يحتمل: لا تكونن من الممترين: أنهم قد غيروا ما في كتابهم من الأحكام ومن نعتك وصفتك. ويحتمل: فلا تكونن من الممترين: أنه من عند اللَّه نزل، مع علمه أن رسوله لا يكون من الممترين؛ ليعلم الخلق أنه إذا نهى رسوله عن مثل هذا، فغيره أحق. أو أن يخاطب من طلب حكم غيره، ويقول: لا تكونن من الممترين أنه من عند اللَّه نزل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ... (115) قيل: صدقا في الأنباء والوعد، وعدلا في الأحكام. تمت أنباؤه بالصدق وأحكامه بالعدل؛ حتى يعرف كل أحد صدق أنبائه وعدلَ أحكامه. وقيل: وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلا بالحجج والبراهين؛ لما يعرف كل من تأمل فيها ونظر صدقها وعدلها: أنها من اللَّه.

(116)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) هذا تفسيرُ التمام: أنها تمت تمامًا لا يردُ عليها النقص ولا الجور ولا الخلف، ليس ككلمات الخلقِ؛ أنها تبدل وتنقص وتمنع؛ لما يكون فيها من النقصان والفساد، فإنها تبدل وتنقص ويعجزون عن وفاء ما وعدوا، ويمنعون عن ذلك، فاللَّه يتعالى عن أن يبدل كلماته، أو يمنع عن وفاء ما وعد وأنبأ؛ إذ يجوز في حكمه. ويجوز أن يستدل بقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) لقول أصحابنا؛ حيث قالوا: من قال لامرأته: " أنت طالق أتم الطلاق وأعدل الطلاق " فإنه يقع بما وافق السنة، ليس يرجع ذلك إلى التمام وإلى العدد؛ لأنه أخبر أن تمت كلمته صدقًا وعدلا، والموافق للسنة هو الحق وهو العدل. ويحتمل الاستبدال لكلماته (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) أي: لا مبدل لوعده ووعيده؛ يكونُ ما وعد وأوعد. ويحتمل: لا مبدل لحججه وبراهينه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ السَّمِيعُ) أي: السميع بما ألقى الشياطين وأوحى بعضهم إلى بعض (العَلِيمُ) بأفعال هَؤُلَاءِ وإجابتهم إياهم وأهل التأويل يصرفونه إلى خاص من القول؛ وبعضهم يقولون: إن قوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) هو قوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). وقال آخرون: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعاه أهل الكفر إلى عبادة الأوثان. ولكن هو يرجع - واللَّه أعلم - إلى كل نبأ ووعد ووعيد وكل خبر يخبر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... (116) في

(117)

الآية دلالة أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا، أوعباد الأوثان، والأصنام؛ لأنه قال: (أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُضِلُّوكَ) لأنهم إلى الضلال كانوا يدعونه. ثم الخطاب وإن كان لرسول اللَّه في الظاهر، فهو لكل مؤمن؛ إذ معلوم أن رسوله لا يطيعهم فيما يدعونه إلى عبادة الأوثان في الأرض. وفيه أن في الأرض كان من يعبد اللَّه وكان على دين الأنبياء والرسل. وقوله: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ذكر في القصة أن أهل الكفر دعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى عبادة الأوثان، ويقولون: إنهم يعبدون اللَّه في الحقيقة؛ كقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ويقولون (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، كأنهم يعبدون الأوثان ويرتكبون الفواحش ويقولون اللَّه أمرنا بها فأخبر رسوله: أنك لو أطعت هَؤُلَاءِ إلى ما يدعونك من عبادة هذه الأصنام أضلوك عن سبيل اللَّه؛ لأنهم لا يعبدون هذه الأصنام إلا ظنُّا يظنون؛ كقوله: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) أي: ما يتبعون إلا الظن (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ما هم إلا يكذبون على اللَّه في قولهم: إن ذلك يقربهم إلى اللَّه زلفى، وقولهم: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) يعلم من يزيغ ويضل عن سبيله (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، ويعلم من يهتدي به. وفي قوله: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ). دلالة على أنه على علم منه بالضلال والتكذيب بعث الرسل إليهم وأرسل الكتب، لا عن جهل منه، لكن صار بعث ما بعث من الرسل والكتب إليهم حكمة على علم منه بما يكون منهم؛ لأنه إنما يبعث لمكان المرسل إليهم ولحاجتهم.

(118)

قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) صرف أهل التأويل الآية إلى أهل الكفر وقالوا: ما بالكم تأكلون ذبائحكم التي ذبحتم ولا تأكلوا ما ذبح اللَّه وذكاه صرفوا الخطاب به إلى أهل الشرك. والأشبه أن يصرف الخطاب به إلى أهل الإسلام؛ لأنه ذكر في آخره (إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) ومثل هذا لا يذكر في أهل الشرك إنما ذكر لخطاب أهل الإسلام، كقوله: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، وقوله: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، ونحوه من الآيات. فعلى ذلك: الأشبه أن يصرف الخطاب بها إلى أهل الإسلام؛ كأنَّ قومًا من أهل الإسلام منعوا أنفسهم عن التناول من هذه الذبائح واللحوم، فنهوا عن ذلك؛ من

نحو ما روي في بعض القصة: " أن نفرا من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هموا أن يخصوا أنفسهم وألا يعطوا أنفسهم شهواتهم وألا يتناولوا شيئًا من الطيبات، فنهوا عن ذلك. وقيل: فيهم نزل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) فيشبه أن يكون قوله: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)، فيهم أو لما علم أن قومًا من المتقشفة والمتزهدة يحرمون ذلك على أنفسهم، فنهوا عن ذلك. فإن كان ما قال أهل التأويل فهو - واللَّه أعلم - كأنه قال: فكلوا مما ذكر اسم اللَّه عليه إن كنتم بآياته مؤمنين، بما تعلمون أن الخلق والأمر له، وقد أنشأ لكم من الآيات

(119)

ما تعلمون به ذلك، فكيف تحرمون ما ذكر اسم اللَّه عليه، ثم أمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه، وعاتب من ترك الأكل مما ذكر اسم اللَّه عليه بقوله: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ... (119) ولم يبين بم وبأي وجه بالذبح أو بغيره؟ وكذلك قوله: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ)، ولم يبين من أي وجه، لكن الناس اتفقوا على صرف ذلك إلى الذبح، فكان الذبح مضمرا فيه؛ كأنه قال: كلوا مما ذبح بذكر اسم اللَّه عليه، وما لكم ألا تأكلوا مما ذبح بذكر اسم اللَّه عليه. ثم لا يخلو اتفاقهم بمعرفة ذلك: إما أن عرفوا ذلك بالسماع من رسول اللَّه، أو عرفوا ذلك بنوازل الأحكام؛ إذ ليس في الآية بيانُ ذلك. فكيفَما كان، ففيه دلالة نقض قول من يقول بأن من عرف نوازل الأحكام أو كان عنده رواية، فتركَ روايته، يفشَق؛ لأنه لما لم يذكر هاهنا النوازل ولا السماع دل أنه لا يفسق؛ إذ كان قوله: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) ذكر لمكان قول الثنوية؛ لأنهم

يحرمون الذبائح ويقولون: ليس من الحكمة إيلام من لا ذنب له. أو ذكر لمكان قول من يقول: إنكم أكلتم ما تذبحون بأيديكم ولا تأكلون ما تولى اللَّه قتله.

ثم قوله: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)، وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أباح - عَزَّ وَجَلَّ - من الأنعام ما ذكر اسم اللَّه عليه، وحظر ما لم يذكر اسم اللَّه عليه، ونهى عن أكله بقوله: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وبقوله: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)، جعل المهَلَّ لغير اللَّه ميتةً حراما، وجعل المذكور اسم اللَّه عليه ذكيًّا حلالا؛ فدل أن التسمية شرطٌ في أكل الذبيحة؛

لأنه لو لم تكن شرطا في حل الذبيحة لم يكن الْمُهلُّ به لغير اسم اللَّه ميتة حراما، ولأنه سمى ما لم يذكر اسم اللَّه عليه فسقا، والفسقُ هو الخروج عن أمر اللَّه؛ كقوله: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)، أي: خرج؛ فدل أن التسمية شرط فيها. ولهذا يحل لنا ذبائح أهل الكتاب إذا سمعناهم يذكرون اسم اللَّه عليه، وإن كانوا ما يذكرون في الحقيقة غير اللَّه؛ لأنهم لا يعرفون اللَّه حقيقة، ولكن إذا ذكروا اسم اللَّه عليه تحل لنا. ولا يحل ذبائح أهل الشرك؛ لأن أهل الشرك لا يرون الذبائح رأسًا؛ يذهبون مذهب الزنادقة، والزنادقة لا يرون الذبائح؛ يقولون لنا: إنكم تقولون: إن ربكم رحيم حكيم، وليس من الحكمة والرحمة أن يأمر أحدًا بذبح آخر ويقتله؛ فيأكلون الميتة ولا يرون أكل الذبيحة، ويقولون: ليس هذا أمرَ مَن كان موصوفًا بالرحمة أو بالحكمة. لكنا نقول: إن كراهة الذبح والنفور عنه نفور طبع وكراهته كراهة طبع لا كراهة العقل. فما يكرهه الطبع وينفر عنه يجوز أن يباح لما يعقب نفعًا في المتعقب نحو ما يباح الافتصاد والحجامة والتداوي بأدوية كريهة لنفع يعقب ويتأمل، وإن كان الطبع يكرهه وينفر عنه وليس هو مما يقبحه العقل إنما لا يجوز أن يباح بفعل ويؤمر به مما يقبحه العقل ويكرهه.

وأما كراهة الطبع ونفوره فإنه يجوز أن يباح لما ذكرنا ويرتفع ذلك بالعادة؛ فعلى ذلك الذبح كراهته كراهة الطبع لا كراهة العقل ونفوره. والثاني: أن هذه الأشياء كلها إنما خلقت لنا وسخرت لمنافعنا لم تخلق لأنفسها، فإذا كان كذلك يحل لنا ذبحها والتناول منها بأمر الذي أنشأها لنا وسخرها لنا. وبعد، فإن من مذهبهم أن العالم إنما كان بامتزاج النور والظلمة، والروحُ من النوراني والجسم من الظلماني ففي الذبح استخراج الروح ورده إلى أصله؛ إذ من قولهم: إنه يرجع كل إلى أصله في العاقبة، على ما كان في الأول. وأما الجواب عما قاله أهل الشرك: " أكلتم ما ذبحتم أنتم وتركتم ذبيحة اللَّه " فوجهان: أحدهما: ما قاله أهل التأويل: أن الخلق له وله الحكم عليهم؛ فأحل لهم هذا وحرم عليهم هذا. والثاني: تعبدنا بذكر اسمه عليها؛ فصار فيما ذكر اسم اللَّه إقامة عبادة تعبدنا بها، وفيما لم يذكر لم يكن عبادة؛ لذلك حل لنا ما كان في ذلك إقامة عبادة، ولم يحل لنا ما لم يكن فيها إقامة عبادة واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) هو في الظاهر أمر، لكن الأمر الذي يرجع إلى شهوات النفس ولذاتها فإنه يخرج على وجهين: إما أن يخرج على بيان ما يحل، أو النهي عما لا يحل؛ فهاهنا خرج على بيان ما يحل وتحريم ما لا يحل؛ كأنه قال: كلوا مما ذكر اسم اللَّه عليه، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللَّه عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).

هو صلة قوله: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي: ما لكم ألا تأكلوا وقد بيِّن لكم ما حرم عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير. (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ) لأن أهل الشرك والزنادقة كانوا لا يرون أكل الذبيح، ويأكلون الميتة والدم فلهم خرج الخطاب (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وقد بين لكم ما حرم عليكم، وهو الميتة والدم: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ). قال الحسن: له أن يتناول من الميتة حتى يشبع؛ لأنه أحل له التناول، وعلى قولنا: لا يحل له الشبع؛ لأنه إنما أحل عند الاضطرار أوهو غير مضطر إلى

الشبع. ويقول الحسن: لو ترك التناول منها حتى هلك لا شيء عليه؛ يقول: لأنه إنما أحلت له رخصة ورحمة، وليس على من لم يعلم بالرخص إثم، ولكن عندنا أنها أبيحت في حال الاضطرار؛ فإذا ترك التناول منها حتى هلك صار ملقيا نفسه في التهلكة، وقد حرم اللَّه علينا أن نهلك أنفسنا أو نلقيها في التهلكة بقوله: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، ولا فرق بين ترك التناول من الميتة - وقد أحل لنا التناول منها - حتى مات وبين ترك التناول من غيرها من الأطعمة المحللة، أو يأتي بأسباب إتلاف النفس؛ فهما سواء. ويقول -أيضًا-: له أن يتناول عند الاضطرار من مال غيره بلا بدل، وإذا نهى صاحبه عن ذلك يضمن بدل ذلك بالغًا ما بلغ فهذا بعيد. لا يجوز أن يتناول من مال غيره ولا يلزمه البدل، وإذا نهاه عن ذلك يلزمه البدل؛ لأن

من كان له حق التناول من مال آخر بغير بدل، ثم إذا نهى أو منع يلزمه البدل دل أنه

(120)

ليس له التناول إلا ببدل، وقد ذكرنا هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، دل هذا على أن الكل منهم لم يكونوا يضلون؛ ولكن البعض، هم الأئمة منهم والرؤساء؛ لأن الأتباع منهم كانوا لا يضلون الناس؛ إنما كانوا يضلون الكبراء منهم والعظماء، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ). وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ... (120) اختلف فيه: فقيل: وذروا ظاهر الإثم بظاهر الجوارح وباطنها، ظاهر الجوارح من نحو: اليد، والرجل، واللسان، والعين. وباطن الجوارح: القلوب، والضمائر. وقيل: ذروا الإثم في ملأ من الخلق، وفي الخلاء منهم. وقيل: ظاهر الإثم: ما ذكرنا، وباطنه: الزنا. قال أبو بكر الكيساني: الزنا هاهنا لا يحتمل؛ لأن الآية في ذكر أما يحل من الأطعمة وما لا يحل، ولكن يجوز أن ابتدأ النهي عن الزنا، وإن كان أول الآية في ذي الأطعمة؛ ويصير قوله: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) كأنه قال: وذروا المآثم كلها ما ظهر منها وما بطن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ). لا يتركون وما عملوا؛ ولكن يجزون جزاء ما عملوا من الإثم، وهو وعيد

(121)

لمن (يَكسِبُونَ الإثمَ) ويصرون عليه ولا يتوبون ولا ينقلعون عنه حتى ماتوا على ذلك بما ذكر. وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ... (121) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الميتة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أهل به لغير اللَّه. وقلنا نحن: هو ما لم يذكر اسم اللَّه عليه؛ لأن اللَّه قد صرح بتحريم الميتة بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) وصرح بتحريم ما أهل لغير اللَّه به بقوله: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ): فإذا كان الميتة وما أهل لغير اللَّه به تصريح وتحريم في غير هذا الموضع؛ رجع هذا الخطاب إلى تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه وكذلك صرح بتحريم الميتة وما أهل لغير اللَّه به بقوله؛ (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا. . .) الآية؛ فقوله - تعالى -: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) كان لا يجد في ذلك الوقت ثم وجد ما لم يذكر اسم اللَّه عليه محرمًا في حادث الوقت، وكذلك وجد كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير محرمًا في حادث الأوقات، كان لا يجد في ذلك الوقت محرمًا إلا ما ذكر، ثم وجد أشياء

محرمة من بعد. وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل قوله: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ): حين قالوا: ما قتلتم وذبحتم أنتم فتأكلونه، وما قتل ربكم فتحرمونه، وأنتم تعظمون ربكم؟! وهو من زخرف القول الذي يوحي بعضهم إلى بعض ما ذكر (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ). لكنا نقول إن ما ذبح وقتل هو ذبيح باللَّه، وقتيل به أيضا؛ فقد أذن لنا بأكل بعض الذبيح وحرم أكل بعض، ولله أن يفعل ذلك، له أن يأذن في أكل بعض وتحريم أكل بعض، على ما أذن لنا في أكل بعض ما خلق اللَّه من الأنعام ولم يأذن في أكل بعض؛ فعلى ذلك قد أذن في أكل بعض ما ذبح به وقتل ولم يأذن في بعض، وهو كله ذبيح بالله وقتيل به، وله ذلك. والثاني: أن الخلق كله له ملكه، ولا يقال لأحد في ملكه: لم فعلت ذا؟ ولم تفعل ذا؟ إنما يقال ذلك في غير ملكه: كشريك يقول لشريكه: لم تعطني حقي، ولم توفر على نصيبي، فأما أن يقول في ذي ملك في ملكه فلا. والثالث: ما ذكرنا: أنه تعبدنا بذكر اسم اللَّه عليه فكان في ذكر اسم اللَّه عليه إقامة عبادة؛ لذلك لم يجز هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)، أخبر أنه ما لم يذكر اسم اللَّه عليه فسق، كما أخبر أن التناول من الميتة وما أهل لغير اللَّه به فسق، والفسق: هو الخروج عن أمر اللَّه، والذي ترك ذكر اسم اللَّه عليه: خارج عن أمر اللَّه - تعالى - كالميتة التي ذكرنا، فإن قال قائل: إن قول اللَّه: (لَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)؛ فكيف يجوز لكم أن تطلقوا أكل الذبيحة إذا ترك ذكر اسم اللَّه ناسيًا؟! قيل الخطاب بهذا لم يرجع إلى الذبيحة التي ترك ذكر اسم اللَّه عليها ناسيًا، لأن الذبائح إنما هي من عمل القصَّابين والصبيان؛ فهم لم يعودوا أنفسهم ذكر اسم اللَّه حتى يؤاخذوا بها على حفظ ذلك.

وهذا أصلنا: أن من لم يعود نفسه فعلًا يعذر في تركه وارتكابه في حال السهو والنسيان؟! كالأكل في شهر رمضان ناسيًا؛ لأنه عود نفسه الأكل والشرب، والصوم هو الكف عما اعتاد؛ فعذر في التناول منه والعود إلى العادة على السهو؛ لأنه يشتد على الناس حفظ النفس على خلاف العادة، ولأن اللَّه - تعالى - قال: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)، ولا خلاف في أن من نسي أن يسمي اللَّه على ذبيحة - فليس بفاسق؛ وإنما يفسق من تركها عامدًا؛ فدل أن الخطاب بالآية رجع إلى الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدًا. فَإِنْ قِيلَ: ليس يجوز أن يكون قوله: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ): يريد به أن الذي يأكل منها إذا لم يسم اللَّه عليها عامدً أو ساهيًا - فاسق، وإن كان هذا هو التأويل؛ فالآية على الأكل، الدليل، على أن، قوله: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) إشارة إلى الذبيح الذي ترك ذكر اسم الله عليه عمدًا، دون أن يكون ذلك، إشارة إلى أن الأكل من تلك الذبيحة فسق - قول اللَّه - تعالى -: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ): فكان الإهلال بالذبيحة لغير اللَّه فسقًا لمن فعله؛ فوجب أن يكون ترك اسم اللَّه على الذبيحة فسقًا ممن تعمده، وذلك يوجب أن يكون قول اللَّه: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) خاصًّا في المتعمد لترك التسمية. فَإِنْ قِيلَ: كيف لم تجعلوا تارك التسمية ناسيًا كتاركها عمدًا؛ كما قلتم في التكبيرة الأولى في الصلاة: إن عمده وسهوه سواء؟

قيل: من قبيل أن الذبيحة إذا تعمد صاحبها ترك التسمية عليها إنما حرمت بنص القرآن؛ لأنه فسق فقلنا: متى زال الفسق عن الذابح زال التحريم عن الذبيحة؛ لأن التحريم إذا وقع لعلة، فزالت العلة - زال التحريم، ولم نقل: إن صلاة التارك للتكبيرة الأولى فسدت صلاته؛ لأنه فسق بتركه التكبيرة عمدًا؛ فيلزمنا أن نفرق بين سهوها وعمدها؛ بل فسدت صلاته لأنه صلى بغير تكبير؛ فالتارك للتكبير عامدًا أو ساهيًا؛ تارك؛ فهما سواء، وروي في الخبر ما يؤيد ما قلنا: رُويَ عن راشد بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ذبيحةُ المسلم حلالٌ سمى أو لم يسم ما لم يتعمد ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل ذبح ونسي أن يذكر اسم اللَّه، قال: " اسم اللَّه في قلب كل مسلم؛ فليأكل ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ). أهل التأويل صرفوا تأويل هذا إلى أن زخرف القول الذي يوحي بعضهم إلى بعض، في الآية الأولى هو مجادلتهم في الذبيحة " حيث قالوا: ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه، وما قتل اللَّه فلا تأكلونه؟! يعنون: فتلك مجادلتهم إياهم، ولكن يجادلون في هذا في وحدانية اللَّه - تعالى - وفي إثبات الرسالة، والبعث بعد الموت، وفي كل شيء؛ حيث قالوا: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) فأخبر أنهم لو أطاعوهم إنهم لمشركون أي: لو أطعتموهم فيما يجادلونكم ويوحون إليكم (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).

(122)

قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا). يشبه أن يكون المثل الذي ضرب اللَّه للمؤمن والكافر في الآية أن من كان في ظلمات البطن لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل شيئًا، ثم أخرج من ذلك؛ فأبصر وسمع وعقل كمن ترك في تلك الظلمات ولم يخرج منها لا يبصر، ولا يسمع، ولا يعقل، يقول - واللَّه أعلم -: لا يستوي من أخرج من ظلمات البطن بعد ما كان لا يبصر، ولا يسمع، ولا يعقل، ولا يفهم، ثم أبصر وسمع وعقل - والذي ترك في تلك الظلمات على الحال التي كان كما هو: لا يبصر، ولا يسمع، ولا يعقل؛ فعلى ذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق ويسمع ويعقل كل خير ويعلمه، وجعلنا له نورا يمشي به في الناس بنوره، وله أصحاب يدعون الناس إلى الهدى والخير - والكافر: الذي لا يبصر الخير ولا يسمع ولا يعقل، وليس له أصحاب يدعونه إلى الهدى والخيرات، أي: ليس هذا الذي يبصر ويسمع ويعقل كالذي لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل. وجائز أن يكون المثل الذي ضرب اللَّه: أن يكون المؤمن والكافر جميعًا حيين في الجوهر، لكن المؤمن اكتسب ما به يحيا أبدًا من العلم، والقرآن، والإيمان.

والكافر لم يكتسب من ذلك شيئًا؛ فهو كالميت الذي لا يبصر ولا يسمع الحق ولا يعقل. ويحتمل هذا المثل وجهًا آخر، وهو أن المؤمن يكتسب في الدنيا الخيرات، والأعمال الصالحة، ويكون له نور في الآخرة بالأعمال التي اكتسب في الدنيا، ويمشي بنور ذلك فيما بين الناس في الآخرة، وأما الكافر فإنه لم يكتسب من ذلك شيئًا؛ فيبقى في الظلمات، كقوله: (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ): والمعتزلة يقولون: هم جعلوا لأنفسهم نورا يمشون به في الناس، وقد أخبر أنه هو الذي يجعل لهم ذلك النور؛ فذلك تحريف منهم ظاهر للقرآن. وكذلك قوله: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)؛ وهم يقولون: هو قدير على بعض الأشياء. وقال: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ): وهم يقولون: هو خالق بعض الأشياء. وقال: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)، وهم يقولون: يشاء ألا يفعلوا ما فعلوا، ولكن فعلوا غير ما شاء اللَّه. وكذلك قوله: (جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا): وهم يقولون: لم يجعل لكل نبي عدوا وهم جعلوا أنفسهم لهم أعداء. وكذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا): وهم يقولون: جعل الأكابر فيها؛ لئلا يمكروا فيها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: كما زينا للمؤمنين عبادة اللَّه كذلك زينا للكافرين عبادة اللَّه، لكنهم عاندوا وصرفوا العبادة إلى غير اللَّه، وهو تأويل المعتزلة.

وقال قائلون: زين لهم أعمالهم التي يعملونها. ثم اختلف في الذي زينها: قال الحسن: زين الشيطان أعمالهم لهم. وقال غيره: زينها الأكابر على الأصاغر. وقال قائلون: زينها اللَّه، ولكن ما أضيف إلى الشيطان من التزيين والإضلال إنما يضاف إلى ما يدعوهم ويحثهم على ذلك ويوحي إليهم، وما يضاف إلى الأكابر: القول والدعاء إلى ذلك، وما يضاف إلى اللَّه من: التزيين، والإضلال، والإزاغة، وغير ذلك يضاف للخلق، أي: خلق منهم: فعل الضلال، وفعل التزيين، وفعل الزيغ، يضاف إلى اللَّه خلقًا، وإلى الشيطان والأكابر: دعاء ووحيًا وإلقاء، على هذا يخرج جميع الإضافات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا). أي: جعل في كل قرية من أهل الكفر أكابر مجرميها، وعظماءها، كما جعل في قريتك أكابر مجرميها؛ يصبر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ذلك ليعلم أنه ليس بمخصوص هو بهذا دون غيره من الأنبياء. ثم اختلف في قوله: (جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا)، وقد ذكرنا أقاويلهم في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا)، ثم قوله: (جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا). قالت المعتزلة: لم يجعل الأكابر فيها ليمكروا فيها؛ ولكن لما وسع الدنيا وبسطها عليهم مكروا فيها، وكذلك قالوا في قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) لا يجوز أن يخلقهم لجهنم؛ ولكن لما عملوا أعمال الكفر والضلال صاروا لجهنم. وقالوا: هو على الإضمار؛ كأنه قال: كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لئلا

يمكروا أفيها، لكنهم مكروا فيها لما ذكرنا. لكن قوله: (جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا) ليكون أدعى وأظهر للحجج؛ لأنه لو كان بعث الرسل أكابر لكان الناس يتبعون الأكابر وإن لم يأتوا بالحجج وغيرهم لا يتبعون إلا بالحجج والآيات. ومنهم من يقطع قوله: (لِيَمكُرُوا فِيهَا) عن قوله: (جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ)، يقول: معناه: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، ثم قال: (لِيَمْكُرُوا فِيهَا)، أي: ما جعل ذلك لهم ليمكروا. ومنهم من يقول: هو إخبار عمَّا إليه صار أمرهم؛ كقوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا): وهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنًا؛ إنما التقطوه ليكون لهم وليًّا، لكنه لما صار في العاقبة عدوا لهم أخبر عما آل إليه أمره؛ فعلى ذلك قوله: (لِيَمْكُرُوا فِيهَا): أخبر عما إليه صاروا من المكر. وعندنا: لا يخلو هذا إما أن يقال: إنه يخلقهم لغير المكر والضلال، وهو يعلم أنهم لا يكونون لما يخلقهم؛ فذلك ليس فعل حكيم: أن يعمل عملا يعلم أنه لا يكون، نحو: من يبني بناء يعلم أنه لا يسكن، أو يقصد قصد موضع يعلم أنه لا يصل إليه؛ فهو بالقصد عابث ليس بحكيم؛ فعلى ذلك اللَّه - سبحانه - لا يجوز أن يخلقهم للهدى والعبادة له مع علمه أنهم لا يكونون لما يخلقهم، أو أن يخلقهم لذلك وهو لا يعلم أنهم يكونون كذلك؛ فهو جهل بالعواقب؛ فاللَّه يتعالى عن ذلك؛ فدل أنه خلقهم ليكونوا على ما علم أنهم يكونون ويختارون ذلك. وقوله: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا): كان عند اللَّه أنهم يلتقطونه ليكون لهم عدوًّا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ). أي: ما يشعرون أن عاقبة مكرهم ترجع إليهم أو واقع فيهم. وأصله أن اللَّه - تعالى - جعلهم وخلقهم على ما علم منهم أنهم يختارون ويكون

(124)

منهم ذلك. وقوله: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ... (124) يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن غاية سفههم وتعنتهم وأنهم على علم يعاندون ويتكبرون على رسول اللَّه لأنهم علموا أن ما نزل على رسول اللَّه آية، وأنه رسول حيث قالوا: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللَّه وعلموا أن الرسالة لا تجعل إلا في المعظم عند اللَّه والمفضل لديه حيث تمنوا أنهم لا يؤمنون حتى يؤتوا من الآيات مثل ما أوتي رسل اللَّه، ولو لم يكن كذلك لم يكونوا يتمنون إيتاء ما أوتي الرسل، وعلموا أن هذا القرآن الذي أنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آية وحجة، وأنه من عند اللَّه نزل؛ حيث قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وعلموا -أيضًا- أن الرسالة لا تجعل إلا في عظماء من البشر وكبرائهم؛ حيث قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، لكنهم ظنوا أنها إنما تجعل في العظماء الذين هم عند الخلق عظماء؛ فقال اللَّه - تعالى -: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) فتناقضت أقاويلهم وحجاجهم بما ذكرنا من إقرارهم بالرسل والآيات، وتفضيلهم على غيرهم من البشر ثم قال: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). جملة جواب ما قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) على أن يقال: إنكم عرفتم أن اللَّه عالم قادر؛ فهو أعلم حيث يجعل رسالته. ثم اختلف في قوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: جعل الرسالة في أوساط الناس أظهر للحجج وأبين من جعلها في أكابر الناس وعظمائهم في الدنياوية؛ لأن الناس مجبولون على اتباع الأكابر والأعاظم؛ فلو جعلت الرسالة فيهم لكانت الحجج لا تظهر؛ لأنهم جبلوا على اتباعهم، وأما أوساط الناس في الدنياوية: إذا جعلت فيهم الرسالة لظهرت الحجج والبراهين؛ لأنهم لم يجبلوا على اتباع الأوساط من الناس؛ فكان اتباعهم للحجج والبراهين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) أي لا تجعل الرسالة فيمن

(125)

يضيع وليس هو بأهل لها ولا موضعها؛ لأنه لو جعل لكان في ذلك تضييع الرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ). أخبر أن من تكبر على رسول اللَّه وعانده يكن له عند اللَّه: صغار، ومذلة، وعذاب شديد؛ بصنيعهم الذي صنعوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ... (125) قيل: سئل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن هذه الآية؛ فقال: " نورٌ يُقذف فيه "؛ فقالوا: وهل لذلك من علامة قال: " نعم، إذا دخل النورُ في القلب انشرحَ وانفسح "؛ قالوا يا رسول اللَّه، وهل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال: " نعم، الإنابةُ إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعدادُ للموت قبل نزول الموت "؛ فلو ثبت هذا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكان هذا انشراح الصدر للإسلام فقليلا ما يوجد على هذا الوصف، إلا أن يريد به: الاعتقاد واليقين بما ذكر. ثم اختلف في تأويل قوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا). قال بعض أهل التأويل: الإرادة صفة فعل كل فاعل يفعل على الاختيار؛ كأنه قال: فمن يهد اللَّه يشرح صدره للإسلام، ومن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجا. وقال فريق من المعتزلة من نحو جعفر بن حرب والكعبي وهَؤُلَاءِ: تأويله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ)، أي: من قَبِلَ هداية اللَّه في الابتداء شرح اللَّه صدره بعد ذلك بخيرات؛ ثوابًا لما قبل من الهداية، ومن ترك قبول هداية اللَّه في الابتداء عاقبه اللَّه بضيق صدره؛

عقوبة له في ترك قبول الهداية؛ إذ لله أن يهدي الخلق كلهم وأن يشرح صدرهم للإسلام، لكنهم لم يهتدوا. وقال فريق منهم: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) طريق الجنة في الآخرة شرح صدره في الدنيا للإسلام، ومن يرد اللَّه أن يضله طريق الجنة في الآخرة جعل صدره في الدنيا ضيقًا حرجًا؛ فيقال لهم: كذلك هو - كما يقولون - قد قلتم: إنه أراد أن يضلهم، ثم يقال لهم: تقولون إنه أراد أن يهدي الخلق كلهم ويشرح صدرهم للإسلام، ثم تقولون: إنه يضل طريق الجنة في الآخرة؛ فهذا على زعمكم جور؛ لأنه أراد في الدنيا أن يهديهم ويريد في الآخرة -أيضًا- لهم أن يضلهم عن طريق الجنة لأُولَئِكَ بعينهم فذا جور على قولكم. وظاهر الآية يرد قولهم وينقض مذهبهم؛ لأنه قال: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ. . .) جعلهم على صنفين: صنف أراد منهم أن يهديهم، وصنف أراد أن يضلهم: من علم منه أنه يختار الهدى ويقبله أراد أن يهديه ويشرح صدره للإسلام، ومن علم منه أنه يختار الضلال أراد أن يضله ويجعل صدره ضيقًا حرجًا، ولا يجوز أن يريد هو ممن يعلم منه أنه يختار الضلال وعداوته الولاية منه؛ لأن ذلك من الضعف: من أراد عداوته وهو يريد ولايته، أو يريد منه غير الذي علم كونه منه واختاره. والمعتزلة يقولون: قد أراد أن يهدي الكل لكنهم أرادوا ألا يهتدوا فلم يهتدوا، غلبت إرادتهم إرادة اللَّه - تعالى - فذلك وحش من القول سمج؛ فنعوذ باللَّه من السرف في القول والزيغ عن الحق، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ضَيِّقًا حَرَجًا). قيل: الحرج ضيق الضيق، وهو شدة الضيق: وصف قلب المؤمن بالسعة والفسح، ووصف قلب الكافر بالضيق والحرج، وليس قلب هذا في رأي العين أوسع من قلب الآخر، لكنه - واللَّه أعلم - وصف قلب المؤمن بالسعة؛ لما انتفع بقلبه في الدنيا والآخرة، والكافر لم ينتفع بقلبه؛ فوصفه بالضيق والحرج، وهو كما وصف الكافر بالصمم والبكم والخرس؛ لما لم ينتفع بهذه الحواس، وكذلك سماه ميتًا؛ لما لم ينتفع بحياته، وسمى المؤمن حيًّا؛ لما انتفع بحياته؛ فعلى ذلك هذا: وصف الكافر بضيق الصدر؛ لما لم ينتفع به.

(126)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ). قيل: كالمتكلف للصعود إلى السماء لا يقدر عليه. وقيل: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ): كأنما يشق عليه الصعود. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما تصعد في شيء ما تصعده في الخطبة، أي ما يشق عليَّ شيء ما شق عليَّ الخطبة. وقوله: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ). اختلف في الرجس قيل: الرجس: الإثم، أي: كما جعل قلوبهم ضيقة حرجة بكفرهم كذلك يجعل في قلوبهم الإثم. وقيل: الرجس: اللعن والغضب، أي: جعل في قلوبهم اللعن والغضب؛ دليله قوله: (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ). * * * قوله تعالى: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا). لم يشر بهذا إلى شيء لكن يحتمل قوله: (وَهَذَا): الإسلام الذي سبق ذكره: أن يشرح به صدر المؤمن، ويحتمل قوله: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا): الذي يدعى إليه الخلق، وهو التوحيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ)، أي: بينا وأقمنا دلائل التوحيد وحججه، وقد ذكرناه. (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ). أي: لقوم يت ظون بالمواعظ. ويحتمل: لقوم يقبلون الدلائل والحجج، ولا يكابرون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... (127) يحتمل السلام اسم الجنة أي: لهم الجنة؛ كقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)

ويحتمل السلام: هو اسم اللَّه، أي: لهم دار اللَّه، وهي الجنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، قيل: هو أولى بهم، أي: أولى بالمؤمنين؛ كقوله: (فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)، ويحتمل قوله: (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ)، أي: حافظهم وناصرهم. وقد ذكرنا فيما تقدم " يَصَّعَّدُ " و " يصَّاعد " و " يَصْعد ": كله لغات، والمعنى واحد. والضيق: قال الكيساني: الضيق من الضيق في المعاش، فأما في الأمر فإنه الضَيق، ومنه قوله: (وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ). وأما قوله: (حَرَجًا) ففيه لغتان: حَرَج وحَرِج، قَالَ الْقُتَبِيُّ: الحرج: الذي ضاق فلم بجد منفذا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحرج: الضيق، يقال منه: حرج يحرج حرجا؛ فهو حرج. قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)

(128)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ... (128) يعني: من تقدم ذكره من الجن، والإنس، أو نحشر الأولين والآخرين. (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ). هو على الإضمار؛ كأنه قال: يوم نحشرهم جميعًا أيا معشرأ الجن والإنس، ثم نقول للجن: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ)، كقوله: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) أي: يقولون: ما نعبدهم إلا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّه زلفى؛ فكذلك هذا هو على الإضمار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ). قال أهل التأويل في قوله: (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي: أضللتم كثيرًا من الإنس، وهم قد استكثروا من الأتباع من الإنس: في عبادة غير اللَّه، ومخالفة أمر الله وتوحيده أو: قد استكثرتم عبادا من الإنس. (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: تعاون بعضنا ببعض في معصية اللَّه ومخالفة أمره: هَؤُلَاءِ بالدعاء وأُولَئِكَ بالإجابة. وقال قائلون: ربنا استمتع بعضنا ببعض أي: انتفع بعضنا ببعض بأنواع المنافع: ما ذكر - في بعض القصة - أن الرجل من الإنس إذا سافر فأدركه المساء بأرض القفر خاف؛ فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه؛ فيأمن في ذلك بالتعوذ إلى سيدهم؛ فذلك استمتاع الإنس بالجن؛ فذلك قوله: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) الآية. وأمَّا استمتاع الجن بالإنس فهو ما يزداد لهم الذكر والشرف في قومهم، يقولون: لقد سودتنا الإنس. ويحتمل استمتاع الجن بالإنس ما ذكر - إن ثبث - أنه جعل طعامهم العظام التي يستعملها الإنسان، ويكون ذلك غذاءهم، وعلف دوابهم أرواث دواب الإنس.

وقال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت الإنس، فعلمت ذكر جواب الإنس لهم، ولم يذكر جواب الجن لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا). قيل: الموت. وقيل: البعث يوم القيامة؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث؛ فأقروا عند ذلك: بأنا قد بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وكنا كذبناه، أقروا بما كانوا ينكرون. (قَالَ) أي، اللَّه: (النَّارُ مَثْوَاكُمْ) أي مقامكم. (خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ). اختلف فيه: قال الحسن: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ): وقد شاء اللَّه، أن يخلدهم في النار. وقال غيره: الاستثناء من وقت البعث إلى وقت الخلود، وهو وقت الحساب أووقت الحساب، هو وقت الثنيا، (خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) وما داموا في الحساب. وقيل: الاستثناء للمؤمنين الذين اتبعوهم في فعل المعاصي والجرم ولم يتبعوهم في الاعتقاد؛ ففيه دليل إدخال المؤمنين النار بالمعاصي، والعقوبة لهم بقدر معصيتهم، ودليل إخراجهم منها، إن ثبت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) ويحتمل وجوهًا ثلاثة: أحدها: أن خلود الآخرة أكبر من خلود الدنيا؛ لأن خلود الدنيا على الانقضاء، وخلود الآخرة لا على الانقضاء. والثاني: وقع الثنيا قبل دخولهم في النار. والثالث: لمن لم يتبعهم في الكفر.

(129)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). أي: حكيم بما حكم ووضع كل شيء موضعه، عليم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) الآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأن الولاية إنما تكون بأفعالهم ثم أضاف الولاية إلى نفسه دل أنه من اللَّه في ذلك صنع، وهو أن خلق سبب الولاية، منهم، ثم ذكر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض بقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض بقوله: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ... (130) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يكن من الجن رسل إنما كان الرسل من الإنس، لكنه أضاف إلى الفريقين جميعًا؛ كقوله: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)، وإنما يخرج من أحدهما، وكقوله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا): وإنما جعل في واحدة منهن، وكقول الناس: في سبع قبائل مسجد واحد: وإنما يكون في واحد منها، وقد يضاف الشيء إلى جماعة والمراد منه واحد؛ فعلى ذلك ما ذكر من إضافة الرسل إلى الإنس والجن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان من الفريقين جميعًا: الرسول من الجن جني، ومن الإنس إنسي؛ لأن الجن يسترون من الإنس، فإنما يرسل إلى الإنس رسلا يظهرون لهم؛ فبعث إلى كل فريق الرسول من جوهرهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان الرسل من الإنس إلى الفريقين جميعًا، وكان من الجن نذير؛ كقوله: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ. . .) الآية. ذكر النذر منهم

ولم يذكر الرسل، ومرتبة النذر دون مرتبة الرسل، كرتبة الأنبياء من الرسل، ولكن يجوز أن يقوي الرسل - وإن كان من الإنس - على الإظهار لهم، وليس فيما يسترون عنهم منع بعث الرسل إليهم من الإنس، وليس لنا إلى معرفة هذا حاجة؛ إنما الحاجة إلى معرفة الآيات والحجج التي يأتي بها الرسل، وقد عجز الخلائق جميعًا عن إتيان مثل هذا القرآن؛ لقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) فقد أعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وإن كان الجن أقوى على الأشياء من الإنس؛ فدل أنه آية ودل عجز الجن عن ذلك وإن كانوا أقوى على أن غيرهم أعجز. ألا ترى: أنه أنزل هذا القرآن على لسان العرب ثم عجزوا هم عن إتيان مثله؛ فدل عجزهم عن ذلك على أن العجم له أعجز. وجائز أن يكون الرسل إن كانوا من الإنس فإن الجن يستمعون من الرسل؛ فيلزمهم الحجة والعيل بذلك والتبليغ إلى قومهم، من غير أن يعلم الرسل بذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي). يحتمل يتلون عليكم آيأتي، ويحتمل: (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) يبينون لكم ما في آيات وحدانيته وألوهيته، وآيات البعث الذي تنكرون. (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)، أي: لقاء يومكم الذي تلقون ودل قوله: (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) على أن ذلك إنما يقال لهم في الآخرة. (قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا). هذا منهم إقرار لما كان منهم من التكذيب؛ كقوله: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ)، أي شهدنا على أنفسنا بأنا كنا كذبنا الرسل في الدنيا بما قالوا وأخبروا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).

(131)

إن للدنيا معنيين: ظاهرًا وباطنًا، فيكون للظاهر غرور من كان نظره إلى الظاهر، يغره، ولها باطن ومن نظر إلى ذلك الباطن يعظه. أما ظاهرها: من تزيينها، وزخرفها فالكافر نظر إلى ظاهرها فاغتر بها. وأما باطنها: فهو انتقالها من حال إلى حال وزوالها وفناؤها فمن نظر إلى ذلك اتعظ به ويعلم معناها ويعرف أنه لم يخلق لهذه ولكن لعاقبة تتأمل. ثم إضافة الغرور إليها، أي: يكون منها ما لو كان ذلك من ذي عقل وذهن كان ذلك غرور. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ). هذا اعتراف بما كان منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ). يحتمل قوله: (ذَلِكَ) ما تقدم من قوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)، ونحوهما من الآيات التي ذكر فيها العذاب. ويحتمل ذلك إشارة إلى الهلاك الذي كان بالأمم الخالية: أن لم يكن يهلك القرى بظلم ظلموا أنفسهم إهلاك تعذيب واستئصال إلا بعد ما يقدم الوعيد لهم في ذلك وسؤال كان منهم بالعذاب، ولا يهلك -أيضًا- وهم غافلون عن الظلم والعصيان، لا أنه لا يسعه؛ ولكن سنة فيهم ألا يهلك إلا بعد تقدم ما ذكرنا؛ لئلا يحتجوا فيقولوا: (لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وإن لم يكن لهم الاحتجاج بذلك لما مكن لهم وركب فيهم ما به يعرفون أنه لم يخلقهم ليتركهم سدى؛ ولكن خلقهم لعاقبة، لكن سنته قد مضت في الأمم الماضية: أنه لا يهلك قومًا إهلاك تعذيب واستئصال إلا بعد ما يسبق منه وعيد وإنذار، والعلم لهم بالظلم، وظهور العناد منهم والمكابرة، والسؤال بالعذاب سؤال تعنت، وذلك منه فضل ورحمة، لا أنه لا يسعه ذلك.

(132)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ... (132) استدل بعض الناس بظاهر هذه الآية أن الجن لهم ثواب بالطاعات وعقاب بالمعاصي؛ لأنه أخبر أن لكل أمنهم، درجات مما عملوا، وإنما تقدم ذكر الفريقين جميعًا بقوله: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) وقوله، (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ): ذكر ما كان من الفريقين جميعًا من المعاصي والجرم؛ فعلى ذلك قوله: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ): راجع إلى الفريقين جميعًا، لكل درجات منهم: إن عملوا خيرا فخير، وإن عملوا شرا فشر وبه قال أبو يوسف ومُحَمَّد - رحمهما اللَّه - واحتجوا لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - أن قوله: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ) إنما ذكر على أثر آيات كان الخطاب بها للكفرة دون المؤمنين؛ فعلى قوله: (وَ (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) ويكون لهم هذا الوعيد خاصة، ويكون قوله: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ)، أي: دركات ومراتب من العذاب والعقاب؛ مما عملوا من المعاصي والتكذيب للرسل، ولأن الثواب لزومه لزوم فضل ومنَة، والعذاب توجبه الحكمة؛ لأن في الحكية أن يعاقب من عصاه وخالف أمره وأمّا الثواب فوجوبه الفضل؛ لأنه كان من اللَّه إلى الخلق من النعم والإحسان أما لو حمدوا كل حمدهم، ما قدروا على أن يؤدوا شكر واحد من ذلك، فتكون طاعتهم شكرًا لما أنعم عليهم، فإذا كان كذلك لا يكون لأعمالهم ثواب إلا بالبيان من اللَّه، كما لا يقال للملائكة: إن لهم ثوابًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)، يحتمل وجهين: وما ربك بغافل عن أعمالهم التي يعملونها في معصية اللَّه - تعالى - ولكن يؤخر تعذيبهم؛ رحمة منه، وهو كقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ. . .) الآية. والثاني: عن علم بأعمالهم، وصنيعهم خلقهم، لا عن جهل، لكن خلقهم على علم

(133)

بذلك؛ لما كان ضرر أعمالهم ومنافعها ترجع إليهم لا إليه. قوله تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ)، هذا يرد على الثنوية مذهبهم؛ لأنهم يقولون: إنه إنما - خلق الخلائق لمنافع نفسه؛ لأنه ليس بحكيم من فعل فعلا لا يقصد منفعة نفسه، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه غني بذاته، وإنما يقصد غيره المنفعة بفعله لحاجة تقع له، وضرورة تصيبه يقصد بالفعل، قصد قضاء الحاجة ودفع الضرورة عن نفسه. فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - فهو الغني بذاته، إنما خلق الخلائق لمنافع أنفسهم، وهو غني عن خلقه على ما أخبر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ). يحتمل: غني عن تعذيب أُولَئِكَ الكفرة، أي: لا لمنفعة له في تعذيبهم يعذبهم أو لحاجة له؛ ولكن الحكمة توجب ذلك. أو أن يكون صلة قوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ). يقول: لم يرسل إليكم، ولا امتحنكم بالذي امتحنكم لحاجة نفسه أو لمنفعة له؛ إذ هو غني بذاته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُو الرَّحْمَةِ). يحتمل وجهين: يحتمل: ذو الرحمة فلا يعجل عليهم بالعقوبة. والثاني: ذو الرحمة لما خلق الخلائق، وجعل لبعض ببعض الانتفاع بهم والاستمتاع، وإنما خلقهم لمنافع أنفسهم. ويحتمل قوله: (ذُو الرَّحْمَةِ): مَنْ قَبِلَ رحمته صار أهلا لها، فأما من لم يقبل رحمته فإنه ذو انتقام منه.

(134)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ). لأنه غني بذاته لم يخلقكم لمنافع نفسه أو لحاجته، إن شاء أذهبكم واستخلف غيركم، ولو كان خلقه الخلق لمنافع نفسه لكان لا يذهب بهم ويستخلف من بعدهم ما يشاء. (كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ). يخبر عن غناه عنهم، وعن سلطانه، وقدرته أنه يقدر على إهلاككم واستئصالكم وإنشاء قوم آخرين. كأن خلق الخلائق من جواهر مختلفة لا توالد فيهم، ثئم جعل في الآخر التوالد والتناسل ويستخلف بعض من بعض بالتوالد والتناسل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ ... (134) من الوعد والوعيد. أو أن يكون قوله: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ): من النصر لرسوله والمعونة له لآت وكائن. (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ). قيل: بفائتين ربكم. وقيل: وما أنتم سابقين اللَّه بأعمالكم الخبيثة حتى لا يجزيكم اللَّه بها. وأصله: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)، أي: لا تعجزون ربكم عن تعذيبكم وعقوبتكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ... (135) قيل: على جديتكم. وقيل: على منازلكم وجدتكم. ولكن تأويله - واللَّه أعلم -: (عَلَى مَكَانَتِكُمْ) أي: ما أنتم عليه، ثم يحتمل هذا وجوهًا: يحتمل (عَلَى مَكَانَتِكُمْ)، أي: على ما أنتم عليه من أمر الدِّين، (إِنِّي عَامِلٌ): على ما أنا عليه من أمر الدِّين؛ كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

ويحتمل أن يكونوا هموا أن يمكروا برسول اللَّه؛ فقال: امكروا بي إني ماكر بكم؛ كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ). ويحتمل أن يكونوا يطلبون الدوائر والهلاك على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويكيدونه؛ كقوله: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ)، هذه الكلمة تستعمل في انتهاء المكابرة غايتها وجود المعاندة غايتها بعد الفراغ من الحجج والآيات؛ كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). يحتمل فسوف تعلمون من تكون له العاقبة. ويحتمل: فسوف تعلمون بالهلاك من كان محقا بالوعيد. أو سوف تعلمون من المحق بما أوعد وخوف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) يحتمل: لا يفلح الظالمون، ما داموا في ظلمهم. ويحتمل: أن يكون ذلك في قوم مخصوصين. ويحتمل: في الآخرة: لا يفلح الظالمون. * * * قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)

(136)

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن سفههم من وجوه: أحدها: أنهم كانوا يجعلون لله نصيبًا مما كان لله في الحقيقة مع علمهم أن اللَّه هو الذي أنشأ لهم تلك الأشياء وهو ذرأها، ثم يجعلون لله في ذلك نصيبًا وللأصنام نصيبًا، يسفههم لأنهم إذا علموا أن اللَّه هو الذي ذرأ لهم تلك الأشياء وأنشاها لهم، فإليه الاختيار في جعل ذلك لا إليهم إذ علموا، أنهم إنما يملكون هم بجعل الله لهم، وهو المالك عليها حقيقة. والثاني: ما يبين سفههم -أيضًا- أنهم يجعلون لله في ذلك نصيبًا وللأصنام نصيبًا من الثمار والحروث وغيرها، ثم إذا وقع أشيء، مما جعلوا لله وخالط ما جزءوا وجعلوه لشركائهم تركوه، وإذا خالط شيء مما جعلوا لشركائهم، ووقع فيما جعلوه لله أخذوه وردوه على شركائهم وانتفعوا به، وتركوا الآخر للأصنام إيثارًا للأصنام عليه، وإعظاما لها. أو إذا زكا نصيب الأصنام ونما، ولم يزك نصيب اللَّه، ولم ينمُ تركوا ذلك للأصنام، ويقولون: لو شاء اللَّه لأزكى نصيبه، وإذا زكا الذي كانوا يجعلون لله، ولا يزكو نصيب الأصنام أخذوا نصيب اللَّه فقسموه بين المساكين وبين الأصنام نصفين. يسفههم - عَزَّ وَجَلَّ - بصنيعهم الذي يصنعون ويبين عن جوهرهم بإيثارهم الأصنام، وإعظامهم إياها، والتفضيل في القسمة والتجزئة، مع علمهم أن اللَّه هو الذي ذرأ ذلك وأنشأه لهم، وأن الأصنام التي أشركوها في أموالهم وعبادتهم لله لا يملكون من ذلك شيئًا. وذلك منهم سفه وجور؛ حيث أشركوا في أموالهم وعبادتهم مع اللَّه أحدًا لا يستحق بذلك شيئًا، وهو كما جعلوا لله البنات، وهم كانوا يأنفون عن البنات، كقوله: (وَإِذَا بُشِّرَ

(137)

أَحَدُهُم بِالأُنثَى. . .) الآية: وقال: (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ)، وقال: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى)، تأنفون أنتم عن البنات وتضيفونهن إليه؟! فهو إذًا جور وظلم؛ فعلى ذلك تفضيل الأصنام في القسمة وإيثارهم إياها على اللَّه، وإشراكهم مع اللَّه، مع علمهم أنه كان جميع ذلك باللَّه، وهو أنشأه لهم - جور وسفه. ثم أخبر أنهم: (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ). أي بئس الحكم حكمهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... (137) أي: كما زين لهم جعل النصيب للأصنام والتجزئة لها، وصوف ما خلق اللَّه لهم عنه إلى الأصنام كذلك زين لهم قتل أولادهم. أو كما زين لهم تحريم ما أحل اللَّه لهم من السائبة والوصيلة والحامي كذلك زين لهم شركاؤهم قتل أولادهم. وأصله: أن الشفقة التي جعل اللَّه في الخلق لأولادهم والرحمة التي جبلت طبائعهم عليها تمنعهم عن قتلهم، وخاصة أولادهم الضعفاء والصغار، وكذلك الشهوة

التي خلق فيهم تمنعهم عن تحريم ما أحل اللَّه لهم، لكن زين لهم ذلك شركاؤهم، وحسنوا عليهم تحريم ما أحل لهم وقتل أولادهم، فما حسن عليهم الشركاء وزين لهم من تحريم ما أحل لهم وقتل أولادهم غلب على الشفقة التي جبلت فيهم، والشهوة التي خلق ومكن فيهم. ثم اختلف في شركائهم: قَالَ بَعْضُهُمْ شركاؤهم: شياطينهم التي تدعوهم إلى ذلك. وقيل: شركاؤهم: كبراؤهم ورؤساؤهم الذين يستتبعونهم. ثم يحتمل: قتل الكبراء أولادهم؛ تكبرا منهم وتجبرا؛ لأنهم كانوا يأنفون عن أولادهم الإناث، وقتل الأتباع؛ مخافة العيلة والفقر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُرْدُوهُم). قيل: ليهلكوهم، إنهم كانوا يقصدون في التحسين والتزيين الإرداء والإهلاك، وإن كانوا يرونهم في ذلك الشفقة، وكذلك كانوا يقصدون بالتزيين تلبيس الدِّين عليهم. وقوله - عزّ وجل -: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ). يحتمل: وجوهًا: قَالَ بَعْضُهُمْ: لو شاء اللَّه لأهلكهم فلم يفعلوا ذلك. وقيل: لأعجزهم ومنعهم عن ذلك؛ كقوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ). وقيل: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ)، أي: لأراهم قبح فعلهم؛ حتى لم يفعلوا. وأصله: أنه إذا علم منهم أنهم يفعلون ما فعلوا ويختارون ما اختاروا من التزيين ولبس الدِّين عليهم شاء ما فعلوا واختاروا، وقد ذكرنا ذلك في غير موضع.

(138)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ). أي: ذرهم ولا تكافئهم بافترائهم على اللَّه. ويحتمل: ذرهم وما يفترون؛ فإن اللَّه يكافئهم ولا يفوتون. ويحتمل: ذرهم وما يفترون؛ فإن ضرر ذلك الافتراء عليهم، ليس علينا ولا عليك، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ ... (138) قيل: هذه الآية صلة قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) هذا الذي جعلوا للشركاء هو الحجر الذي ذكر في هذه الآية؛ لأنهم كانوا لا ينتفعون بذلك ويحرمونه، وهو حجر. وأصل الحجر: المنع، وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الحجر: ما حرموا أنفسهم من أشياء: من الوصيلة، والسائبة، والحامي، وتحريمهم ما حرموا من أشياء: كانوا يحلون أشياء حرمها اللَّه، ويحرمون أشياء أحلها اللَّه في الجاهلية من الحرث والأنعام. وفي حرف أُبي، وابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: (حرج)، على تأخير الجيم وتقديم الراء. وعن الحسن: (حُجْرٌ)، برفع الحاء.

وأصل الحجر: المنع، ممنوع: محجور، يقال: حجرت عليه، أي: منعته، والحجر أيضًا: موضع بمكة، والاحتجار: الاستئثار، وهو أن يأخذ الشيء ولا يعطي منه أحدًا شيئًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِلَّا مَنْ نَشَاءُ)، يعني: لا يطعمها إلا من يشاء الله بزعمهم؛ لأنهم كانوا يحرمون أشياء ويأتون أشياء فواحش، فيقولون: إن الله أمرهم بذلك؛ كقوله في الأعراف: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله (إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ) يعني: الذين سنوا لهم، أي: لا يطعمها إلا من يشاء أُولَئِكَ الذين سنوا ذلك، وحرموا ذلك على نسائهم؛ على ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن شئت قد ذكرت لكم أول من بدل دين إسماعيل، وبحر البحيرة والسائبة ". فعلى ذلك أضافوا المشيئة إلى أُولَئِكَ الذين سنوا لهم ذلك، وحرموا على إناثهم وأحلوا لذكورهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (إِلَّا مَنْ نَشَاءُ) هَؤُلَاءِ الرجال، كانت مضافة إلى الرجال دون النساء، وفي ذلك تسفيه أحلامهم؛ لأنهم كانوا ينكرون الرسالة لما كان يحرمون من الطيبات، ثم يتبعون الذي حرم عليهم الطيبات التي أحلها اللَّه لهم لأنهم ينكرون الرسالة

(139)

لما كان، من البحيرة، والسائبة، ونحوهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا) هو ما ذكر من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي، وهو الحجر الذي ذكر في هذه الآية، يجعلون تلك الأشياء لشركائهم، لا ينتفعون بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا). قيل فيه بوجوه: قيل: (لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا)، أي: لا ينتفعون بها؛ ليعرفوا أنعم اللَّه؛ ليشكروا اللَّه عليها. وقيل: (لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا)، أي: لا يذبحون للأكل، ولا يذكرون اسم الله عليها. ويحتمل: لا يذكرون اسم اللَّه عليها وقت الركوب؛ كما يذكر اسم اللَّه عليها وقت الركوب، وهو قوله: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا) الآية؛ لأنهم كانوا لا يركبونها؛ ولكن يسيبونها. وقيل: لا يحجون عليها. والأول كأنه أقرب: كانوا لا ينتفعون بها؛ ليعرفوا نعم اللَّه، ويشكروه عليها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ). بأن اللَّه أمرهم بذلك، وهو حرم عليهم، وهو أحل؛ فذلك هو الافتراء على اللَّه، أو بما أشركوا شركاءهم في عبادة اللَّه وفي نعمه. (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ... (139) قيل: هو صلة قوله: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ)، يحرمون على النساء،

(140)

ويحلون للرجال، يعني إذا ولدوا حيًا كان ينتفع بذلك رجالهم دون نسائهم، وإذا ولدوا ميتًا اشتركوا فيه الإناث والذكور ويذكر في هذا كله سفه أُولَئِكَ في صنيعهم، ويذكر - في قوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ) إلى آخر منته ونعمه التي أنعم عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَجْزِيهِم وَصْفَهُم). أي: افتراءهم على اللَّه، وتحريمهم ما أحل اللَّه لهم، وتحليلهم ما حرم عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ... (140) أخبر أنهم قد خسروا بقتلهم الأولاد، وتحريمهم ما أحل لهم ورزقهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ). وباللَّه الهداية والرشاد. * * * قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ). ذكر هذا - واللَّه أعلم - مقابل ما كان منهم من تحريم ما أحل اللَّه لهم ورزقهم من الحرث، والزرع، والأنعام، والانتفاع بها، فقال: أنشأ جنات وبساتين من تأمل فيها وتفكر، عرف أن منشئها مالك حكيم مدبر؛ لأنه ينبتها ويخرجها من الأرض في لحظة ما لو اجتمع الخلائق على تقديرها: أن كيف خرج؟ وكم خرج؟ وأي قدر ثبت؟ ما قدروا على ذلك؛ كقوله: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)، ويخرج من الورق

والثمار على ميزان واحد: ما لو جهدوا كل الجهد أن يعرفوا الفضل والتفاوت بين الأوراق والثمار ما قدروا، وما وجدوا فيها تفاوتًا. ويخرج -أيضًا- كل عام من الثمار والأوراق ما يشبه العام الأول؛ فدل ذلك كله أن منشئها ومحدثها مالك حكيم، وضع كل شيء موضعه، وأن ما أنشأ أنشأ لحكمة وتدبير لم ينشئها عبثًا؛ فله الحكم والتدبير في الحل والحرمة والقسمة، ليس لأحد دونه حكم ولا تدبير في التحريم والتحليل؛ (هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ)، وهذا لهذا وهذا لهذا؛ إنما ذلك إلى مالكها؛ فخرج هذا - واللَّه أعلم - مقابل ما كان منهم من قوله: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ)، وقوله: (هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ)، (وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا)، وقوله - تعالى -: (وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ)، وغير ذلك من الآيات التي كان فيها ذكر تحكمهم على اللَّه، وإشراك أنفسهم في حكمه. ثم اختلف في قوله: (مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ): قيل: معروشات: مبسوطات ما ينبت منبسطا على وجه الأرض، (وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ): ما يقوم بساقه، لا ينبسط على الأرض. وقيل: معروشات: ما يتخذ له العريش، من نحو العرجون والقرع وغيره، وغير معروشات: ما لا يقع الحاجة إلى العرش؛ من نحو: النخيل والأشجار المثمرة، وهما واحد. وقيل: على القلب، معروشات: ما تقوم بساقها، وغير معروشات: ما لا ساق لها، واللَّه أعلم. وتعريشه ما ذكر على أثره. (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ). منها ما يكون متشابهًا في اللون مختلفًا في الأكل والطعم، ومنها ما يكون مختلفًا في

اللون والمنظر متشابهًا في الطعم والأكل؛ ليعلموا أن منشئها واحد، وأنه حكيم أنشأها على حكمة، وأنه مدبر: أنشأها عن تدبير، لم ينشئها عبثًا. ومن الناس من يقول: إن قوله: (مُتَشَابِهَا) في الذي ذكر، وهو الرمان والزيتون؛ لأن ورقهما متشابه، والثمرة مختلفة. ومنهم من يقول: فيهما وفي غيرهما، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ). كأنه قال: كلوا من ثمره إذا أثمر، ولا تحرّموا؛ خرج على مقابلة ما كان منهم من التحريم، أي كلوا منها، ولا تحرموا؛ ليضيع ويفسد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ). ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - الإيتاء مما يحصد بعد ذكر النَّخيل، والزرع، والزيتون، والرمان، حبّا وغير حب، وما يقع فيه الكيل وما لا يقع، مجملا عاما ولم يفصل بين قليله وكثيره.

ففيه دلالة وجوب الصدقة والعشر في قليل ما تخرج الأرض وكثيره.

وكذلك قوله - تعالى - في سورة البقرة: (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ). وحديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " في كل ما أخرجت الأرض العشر، أو نصف العشر ". وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كتب إلى أهل اليمن بذلك.

وما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، قال: " فيما أخرجت الأرض - قليله وكثيره - العشر ". وخبر معاذ، قال: بعثني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا، أو عدله معافريًّا، وأمرني أن آخذ من كل أربعين مسنة، ومن كل ثلاثين تبيعًا، ومن كل ما سقت السماء العشر، وما سقي بالديالي نصف العشر.

إلى هذا كله يذهب أبو حنيفة - رحمه اللَّه - ويوجب الصدقة في قليل الخارج من الأرض وكثيره. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل الحق الذي ذكره اللَّه في قوله: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ): قال قوم هي صدقة سوى الزكاة؛ واحتجوا بأن الآية مكية، وأن الزكاة فرضت

بالمدينة، وهي منسوخة بآية الزكاة. وقال قوم: هي الزكاة، فإن نسخ إنما نسخ قدرها، لم ينسخ الحق رأسًا؛ لأنهم كانوا يتصدقون بالكل، فما نسخ إنما نسخ بآية الزكاة قدرها. ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). والإسراف في اللغة هو المجاوزة عن الحد الذي حد له كقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا

لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا). وقيل في قوله: (وَلَا تُسْرِفُوا)، أي: لا تمنعوا الكل ولكن كلوا بعضه، وآتوا حقه من بعضه. وقيل: الإسراف - هاهنا - هو الشرك؛ كأنه قال: ولا تشركوا آلهتكم فيما رزقكم اللَّه من الحرث والأنعام؛ فتحرموه ولا تنتفعوا به، والإسراف هو الذي لا ينتفع به أحد، وما كانوا جعلوا لشركائهم لا ينتفعون به هم ولا انتفع به أحد؛ يكون مقابل قوله: (هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ. . .) الآية. وأما أبو يوسف ومُحَمَّد - رحمهما اللَّه - فإنهما يذهبان إلى ما رُويَ عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمسة أواق صدقة " وعن أبي

سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، " لا صدقة في الزرع، ولا في الكرم، ولا في النخل، إلا ما بلغ خمسة أوسق "، وذلك مائة فرق.

وعن ابن عمر وعبد اللَّه بن عمرو وأبي هريرة - رضي اللَّه عنهم - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مثله. وما روى موسى بن طلحة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليس في الخضراوات صدقة " وعن عمر مثله، وعن عليٍّ مثله، وكذلك رُويَ عن جماعة السلف: أن لا صدقة إلا في الحنطة والشعير والحبوب، وقال أبو حنيفة - رحمة اللَّه عليه - معنى ذلك كله لا صدقة، تؤخذ إلا فيما بلغ خمسة أوسق "، وليس في الخضراوات صدقة تؤخذ، وما عليه في نفسه صدقة يؤديها هو. ثم إن كان ذلك الحق الذي ذكر في الآية الزكاة، فإن الآية تدل - واللَّه أعلم - على أن

زكاة الحب والثمار إنما تجب فيما بيّن: الجنات المعروشات وغير المعروشات؛ فدخل في ذلك - واللَّه أعلم - العنب، وغير العنب، والثمار كلها، وقال: (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ)، فدخل جميع ما تخرج الأرض من كل الأصناف التي سبق ذكرها، وقال: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، فجعل الحق الواجب فيه يوم يحصد؛ فيجوز أن يكون عُفي عما قبل ذلك. فإن كان هذا هو التأويل، فهو - واللَّه أعلم - معنى ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولو لم يكن قوله - تعالى -: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) عفوا عن صدقة ما يؤكل منه ما كان في ذلك فائدة؛ لأن الثمرة تؤكل ولا تصلح لغير ذلك إلا للوجه الذي ذكرنا، وهو أنهم كانوا يحرمونها ولا ينتفعون بها؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: كلوا وانتفعوا به، ولا تضيعوه. وإذا كان قوله: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) عفوا عن صدقة ما يؤكل منه، ظهرت فائدة الكلام، وهو على هذا التأويل - واللَّه أعلم - ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فالربع ".

وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليس في العرايا صدقة ".

وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يبعث أبا خيثمة خارصا للنخل، ويقول له: " إذا وجدت أهل بيت في حائطهم، فلا تخرص بقدر ما يأكلون ". وعن مكحول قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خفضوا على الناس في الخرص؛ فإن في المال العرية والوصية ". فدلت هذه الأحاديث على أنه لا صدقة فيما يؤكل من الثمر رطبًا إذا لم يكن فيما يأكلون إسراف. وقدر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لذلك الثلث أو الربع، وذلك - واللَّه أعلم - يشبه ما دلت عليه الآية على تأويل من جعل الحق زكاة؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)؛ فاحتمل أن يكون -أيضًا- معنى ذلك: ولا تسرفوا في الأكل؛ فيجحف ذلك بأهل الصدقة، ويحتمل أن يكون ذلك نهيًا عن الإسراف في جميع الأشياء، على ما ذكرنا من قبل. وإذا صح أن لا صدقة فيما يؤكل من الرطب والعنب والثمار بهذه الأخبار، وأن الصدقة إنما تجب فيما يلحقه الحصاد يابسا يمكن ادخاره - فالواجب ألا يكون في شيء من الخضر التي تؤكل رطبة صدقة، وألا تكون الصدقة واجبة إلا فيما يبس منها، ويمكن أن يدخر.

(142)

فأما البقول والرطاب والبطيخ والقثاء والخيار والتفاح وأشباهها: فلا صدقة فيها، هذا كله يدل لأبي يوسف ومُحَمَّد - رحمهما اللَّه - إلا أنا لا نعلم مخالفا أن فيما يباع من الرطب صدقة، وإن كان يؤكل كهيئته، فهذا يفسد ما احتججنا به لأبي يوسف ومُحَمَّد ومن وافقهما، وتأويل ما روي " أن لا صدقة في الخضراوات "، " وليس في أقل من خمسة أوسق صدقة تؤخذ "، وإنما عليه في نفسه أن يؤديها، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ): على أُولَئِكَ خاصة في ذلك الوقت، أو يقول: وآتوا حقه ولا تصرفوا إلى الأصنام التي تصرفون إليها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ... (142) هو صلة قوله: (أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ) إلى آخر ما ذكر، وأنشأ - أيضًا - من الأنعام حمولة وفرشًا.

ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الحمولة: ما يحمل عليها أنشأها للحمل، والفرش: الصغار منها التي لا تحمل. وقيل: الحمولة: من نحو الإبل والبقر والبغال وغيرها من الحيوان، والفرش: هو الغنم والمعز التي تؤكل وأنشأها للحم. ويحتمل الفرش: ما يؤخذ من الأنعام، ويتخذ منه الفرش والبسط. وقال الحسن: الحمولة: ما يحمل عليها وهو خالص، والفرش: كل شيء من أنواع المال من الحيوان وغيره؛ يقال: أفرشه اللَّه له، أي: جعله له. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الحمولة: الإبل والخيل والبغال والحمير، وكل شيء يحمل عليه، وأما الفرش فالغنم. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الحمولة: الإبل، والفرش: البقر والغنم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحمولة: مراكب النساء، والفرش: ما يكون للنتاج. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الحمولة: كبار الإبل التي يحمل عليها، والفرش: صغارها التي لم تدرك أن يحمل عليها، وهي ما دون الحقاق، والحقاق: هي التي تصلح أن تركب، أي: حق ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ). قوله: (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) ووجهوا شكر ذلك إليه، (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) في تحريم ما أحل اللَّه لكم، وجعل ذلك لكم، رزقا؛ كقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا).

(143)

وقوله: (هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا)، وقوله: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا)، يقول: كلوا مما رزقكم اللَّه؛ وكذلك قوله: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ)، وانتفعوا به، (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): في تحريم ذلك على أنفسكم، واعرفوا نعمه التي أنعمها عليكم، ووجهوا شكر نعمه إليه، ولا توجهوها إلى غيره. ثم قوله: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ). قيل: آثار الشيطان. وقيل: أعمال الشيطان. وقيل: دعاء الشيطان وتزيينه، وكله واحد. وأصله: أن كل من أجاب آخر إلى ما يدعو إليه ويأتمر بأمره، يقال: قد اتبع أثره، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ). أي: إنه فيما يدعوكم إلى تحريم ما أحل اللَّه لكم ورزقكم - يقصد قصد إهلاككم وتعذيبكم، لا قصد منفعة لكم في ذلك، وكل من قصد إهلاك آخر فهو عدوّ له، وهو يخرج على ما ذكرنا من تذكير المنن والنعم التي أنعمها عليهم، يقول: هو الذي جعل لكم ذلك؛ فلا تصرفوا شكوه إلى غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ... (143) إلى آخر ما ذكر. أي: أنشأ -أيضًا- ثمانية أزواج، على ما ذكر: أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، وأنشأ من الأنعام -أيضًا- حمولة وفرشًا، وأنشأ -أيضًا- ثمانية أزواج مما عد علينا. ويحتمل أن يكون قوله: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ. . .) إلى آخر ما ذكر هو تفسير قوله: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا) ويكون (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) التي ذكر في الآية بيان الحمولة والفرش التي ذكر في الآية الأولى. ثم في قوله: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ): في الآية تعريف المحاجة مع الكفرة وتعليمها من اللَّه؛ لأنهم كانوا يحرمون أشياء على الإناث ويحللونها

للذكور؛ كقوله: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ)؛ فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ): يعرفنا المحاجة معهم، وطلب العلة التي بها حرم، فقال: (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ)، فإن قالوا: حرم الذكر، فيجب أن كل ذكر محرم، ثم من الذكور ما يحل، فتناقضوا في قولهم، وإن قالوا: حرم الأنثى، فيجب أن كل أنثى -أيضًا- تكون محرمة، فإذا لم تحرم كل أنثى ظهر تناقضهم؛ لأنه لا يجوز أن يجب حرمة شيء أو حله لمعنى، ثم يرتفع ذلك الحكم والمعنى موجود، أو حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فإن كان لهذا، فيجب أن لكل مشتمل عليه أرحام الأنثيين محرم، فإذا لم يحرم ذلك دل أن التحريم لم يكن لهذا. وفيه دلالة أن الحكم إذا وجب لعلة، فذلك الحكم واجب ما دامت العلة قائمة

موجودة، وفيه الأمر بالمقايسة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). أي: ليس عندهم علم يعلمون ذلك وينبئونه، ذكر - هاهنا - (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): في مقالتكم: إنه حرم، وقال في الآية التي تليها: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا)، أي: بتحريمها، أي: ليس لكم شهداء على تحريم ما تحرمون: لا من جهة الكتاب، ولا رسول، ولا استدلال؛ لأن العلوم ثلاثة: علم استدلال وهو علم العقل، وعلم المشاهدة والعيان وهو علم الحس، وعلم السمع والخبر؛ فيخبر أنه ليس لهم من هذه العلوم شيء. أما علم الاستدلال: فلا عقل يدل على تحريم ما حرمتم. ولا علم مشاهدة؛ لأنكم لم تشاهدوا اللَّه حرم ذلك. ولا علم من جهة السمع والخبر؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون بالكتب، ولا صدقوا الرسل فيقولون: أخبرنا الرسل بتحريم ذلك، أو وجدنا في الكتب حُرْمتها، فبهتوا في ذلك وضجروا.

وفي الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد ونبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم كانوا لا يحرمون هذه الأشياء ظاهرا فيما بينهم، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نشأ بين أظهرهم منذ كان صغيرًا إلى كبره، وعرفوا أنه لم يختلف إلى أحد عرف ذلك، ثم أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -، عن حل ما حرموا وفساد ما صنعوا؛ ليدلهم أنه إنما عرف ذلك باللَّه، وبه علم حل ما حرموا، وحرمة ما أحلوا، لا بأحد من الخلائق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا). أي: لا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه كذبا؛ لأنه هو الذي أنشأهم وأنشأ لهم جميع ما يحتاجون إليه ويقضون حوائجهم، وبه كان جميع نعمهم التي يتنعمون ويتقلبون فيها؛ فلا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه كذبا، فقال: حرم كذا ولم يكن حرم، أو: أمر بكذا ولم يكن أمر. ألا ترى: أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)، و (قِيلًا)، فكما لم يكن أحد أصدق منه حديثًا، فعلى ذلك لا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه كذبا بعد علمه: أنه هو الفاعل لذلك كله، وهو المنشيء ما ذكر. وقوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ). في الظاهر استفهام، ولكن في الحقيقة إيجاب؛ لأنه لا يحتمل الاستفهام؛ كأنه قال: لا أحد أفحش ظلمًا ممن افترى على اللَّه كذبا على الإيجاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ). لأنه يقصد بالافتراء على اللَّه قصد إضلال الناس وإغوائهم. (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). أي: لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر والظلم. وقيل: (لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي أنهم يختمون بالكفر. ويحتمل: لا يهديهم؛ إذا كانوا هم عند اللَّه ظلمة كفرة، وإن كانوا عند أنفسهم عدولا على الحق.

(145)

قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ). قوله: (قُلْ لَا أَجِدُ) يحتمل وجهين: أحدهما، أي: لا أجد مما تحرمون أنتم فيما أوحي إليَّ، وأما مما لا تحرمون فإنه يجد. والثاني: لا أجد فيما أوحي محرما في وقت، ثم وجده في وقت آخر. وأيهما كان فليس فيه دليل حل سوى ما ذكر في الآية على ما يقوله بشر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ). مثل هذا الخطاب لا يكون إلا في معهود أو سؤال، وإلا مثل هذا الخطاب لا يستقيم على الابتداء. فإن كان في معهود فهو يخرج جواب ما كانوا يحرمون من أشياء من الأنعام والحرث، وما ذكر في الآيات التي تقدم ذكرها، وما كانوا يحرمون من البحيرة والسائبة، والوصيلة، والحامي؛ فقال: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا): مما تحرمون أنتم، (عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا). أو كان جواب سؤال في نازلة؛ فقال: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) إلا فيما ذكر في الآية، أو لم يجده محرما في وقت إلا ما ذكر، ثم وجده في وقت آخر، ففي أيهما كان لم يكن لبشر علينا في ذلك حجة؛ حيث قال إن الأشياء كلها محللة مطلقة بهذه الآية: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) إلا ما ذكر: من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير اللَّه به، فقال: لا يحرم من الحيوان إلا ما ذكر. ويقول: إن النهي الذي جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه نهى عن كل ذي ناب من

السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير "، إنما هو خبر خاص من أخبار الآحاد، وخبر

الواحد لا يعمل في نسخ الكتاب، وقد قال: (لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا).

وبعد: فإن ذلك الخبر من الأخبار المتواترة؛ لأنه عرفه الخاص والعام،

وعملوا به وظهر العمل به حتى لا يكاد يوجد ذلك يباع في أسواق المسلمين؛ دل أنه من المتواتر. قال الشيخ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وعندنا أن لفظة " التحريم " على الإطلاق لا تقال إلا في النهايات من الحرمة، ونحن نقول: لا تطلق لفظة التحريم في الحيوان إلا فيما ذكر في الآية من الميتة، والدم المسفوح، والخنزير، ولكن يقال: منهي عنه مكروه، ولا يقال: محرم مطلقا، ويقال: لا يؤكل ولا يطعم. وبعد: فإن الآية لو كانت في غير الوجهين اللذين ذكرناهما، لم يكن فيها دليل حل ما عدا المذكور في الآية؛ لأنه قال: (لَا أَجِدُ)، ولم يوجد في وقت، ثم وجد في وقت آخر، وهذا جائز. وفي قوله: (مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) دلالة أن الجلد يحرم بحق اللحمية؛ لأنه أمكن أن يشوى فيؤكل؛ فحرمته حرمة اللحم، فإذا دُبغ خرج من أن يؤكل؛ فظل هو

مخرج، عن قوله: (عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ. . .) هو، واللَّه أعلم. ثم في قوله: (مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ. . .) الآية دلالة أن الحرمة التي ذكر في قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ. . .) إلى آخر ما ذكر حرمة الأكل والتناول منها؛ لأنه لم يبين في تلك الآية ما الذي حرم منها سوى ما ذكر حرمته تفسرها هذه الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا) دل هذا أن الحرمة في تلك الآية الأكل والتناول منها؛ وكذلك قوله: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ): ذكر الحل، ولم يذكر الحكم، لماذا؟ ثم جاء التفسير في هذه الآية أنه للأكل، ثم الميتة التي ذكر أنها محرمة ليست هي التي ماتت حتف أنفها خاصة. ألا ترى أنه ذكر: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)، (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ). وقال: (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ)، كل هذا الذي ذكر لم يمت حتف أنفه، ولكن بأسباب لم يؤمر بها؛ فصارت ميتة؛ فدل أن كل مذبوح أو مقتول بسبب لم يؤمر به فهو ميتة، لا يحل التناول منها إلا في حال الاضطرار. وفي قوله: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا). دلالة أن المحرم من الدم هو المسفوح، والدم الذي يكون في اللحم ويخالط اللحم ليس بحرام، والدم المسفوحُ حرامٌ.

(146)

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المسفوح المصبوب؛ تقول: سفحت: صببت. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: مسفوحًا، أي: سائلا. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المسفوح: هو الذي يهراق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَحْمَ خِنْزِيرٍ). ذكر اللحم وذكر حرمة الميتة؛ ليعلم أن الخنزير بجوهره حرام، والميتة حرمتها لا بجوهرها، لكن لما اعترض؛ لذلك قلنا: إنه لا بأس بالانتفاع بصوف الميتة ووبرها وعظمها، ولا يجوز من الخنزير شيء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ). قيل: غير باغ: يستحله في دينه، ولا عاد، أي: ولا متعد بألم يضطر إليه فأكله. وقد ذكرنا أقاويلهم والاختلاف في تأويله في صدر الكتاب. (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ)، لأكله الحرام في حال الاضطرار، (رَحِيمٌ)، حيث رخص الحرام في موضع الاضطرار، وهذا -أيضًا- قد مضى ذكره في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ... (146)

قيل: مثل هذا النعامة والبعير. وقيل: كل ذي ظفر: مثل الديك، والبط، والبعير، وكل ما لم يكن منفرج

الأصابع والقوائم. وقيل: حرمنا كل ذي حافر من نحو حمار الوحش والوز وغيره. وقيل: (حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ): كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع، ومن الدواب: كل ذي ظفر منشق؛ مثل: الأرنب والبعير وأشباههما، وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - والأشبه أن يكون ما ذكر من تحريم كل ذي ظفر عليهم هو ما يحل أكله لا ما يحرم وهو ما ذكر بعضهم أنه البعير والغنم لأنه ذكر، في آية أخرى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. . .) الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا). قيل: تحرم شحوم بطونهما، ومن الثروب، وشحم الكليتين. (أَوِ الْحَوَايَا). وهي المباعر والمصارين، أي: الشحم الذي عليهما. (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ). قيل: الألية. وقيل: قوله: (إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا): هو سمن اللحم، قيل فيه أقاويل مختلفة في هذا، وفي الأول في قوله: (حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)، لكن ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة؛ لأن تلك شريعة قد نسخت، والعمل بالمنسوخ حرام، فإذا لم يكن علينا العمل بذلك فليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة كان ذا أو ذا، وإنَّمَا علينا أن نعرف: لم كان ذلك التحريم عليهم؟ وبم كان تحريم هذه الأشياء عليهم؟ فهو - واللَّه أعلم - ما ذكر في قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا. . .) الآية، أخبر أن ما حرم عليهم من الطيبات؛ بظلمهم للذين ظلموا؛ ولذلك قال اللَّه - تعالى -: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ). أخبر أن ذلك جزاء بغيهم الذي بغوا. والثاني: أنهم كانوا يدعون ويقولون: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، يقول: لو كنتم صادقين في زعمكم أنكم أبناء اللَّه وأحباؤه، لكن لا أحد يعاقب ولده أو حبيبه بأدنى ظلم، ولا يحرم عليه الطيبات، فإذا كان اللَّه حرم عليكم الطيبات، وجزاكم بتحريم أشياء؛ عقوبة لكم بظلمكم وبغيكم - ظهر أنكم كذبتم في دعاويكم، وافتريتم بذلك على اللَّه.

(147)

وفيه دليل إثبات رسالة مُحَمَّد ونبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنهم كانوا يحرمون هذه الأشياء فيما بينهم، ولا يقولون: إنهم ظلمة، وإن ما حرم عليهم كان بظلم كان منهم وبغي، ثم أخبرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن ما حرم عليهم من الطيبات إنما حرم بظلمهم وبغيهم؛ دل أنه إنما أخبر بذلك عن اللَّه، وبه عرف ذلك؛ فدل أنه آية من آيات نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ). أي: ذلك التحريم عقوبة لبغيهم وظلمهم. (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) أي: إنا لصادقون، بالإنباء أن ذلك كان بظلمهم وبغيهم، أو إنا لصادقون في كل ما أخبرنا وأنبانا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ... (147) قال الحسن: فإن كذبوك فيما تدعوهم إليه وتأمرهم به: من التصديق، والتوحيد له، والربوبية فقل: ربكم ذو رحمة واسعة، إذا رجعتم عن التكذيب، وصدقتم وعرفتم أنه واحد لا شريك له، يغفر لكم ما كان منكم في حال الكفر، ويكفر عنكم سيئاتكم التي كانت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). كأنه على التقديم والتأخير، كأنه يقول: فإن كذبوك فقل: (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). ثم قل: (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ): يسع في رحمته العفو إذا تبتم. وقال غيره من أهل التأويل: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) يا مُحَمَّد حين أنبأتهم بما حرم الله عليهم بظلمهم وبغيهم، (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) لا يهلك أحدًا وقت ارتكابه المعصية، ولا يعذبه حالة ذلك، لكنه يؤخر، (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ) أي: عذابه إذا نزل بقوم مجرمين بجرمهم، واللَّه أعلم.

(148)

قوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ). قيل: الآية في مشركي العرب. قالوا ذلك حين لزمتهم المناقضة، وانقطع حجاجهم في تحريمهم ما حرموا من الأشياء، وأضافوا ذلك إلى اللَّه، وهو صلة قوله: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ. . .) إلى آخر ما ذكر إلى قوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا)، فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا عند ذلك إلى هذا القول: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)، فيقول اللَّه لنبيه: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): من الأمم الخالية رسلهم كما كذبك هَؤُلَاءِ، وكانوا يقولون لرسلهم ما قال لك هَؤُلَاءِ: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا. . .) إلى آخر ما ذكر. ثم اختلف في تأويل قوله: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) إلى آخر ما ذكر. قال الحسن، والأصم: إن المشيئة - هاهنا -: الرضا؛ قالوا: رضي اللَّه بفعلنا وصنيعنا، حيث فعل آباؤنا مثل ما فعلنا، وصنعوا مثل ما صنعنا، فلم يحل اللَّه بينهم وبين ذلك، ولا أخذ على أيديهم، ولا منعهم عن ذلك، فلو لم يرض بذلك منهم لكان يحول ذلك عنهم ويمنعهم عنه.

وإنما استدلوا بالرضا من اللَّه والإذن فيه بما كانوا يخوفون إياهم الهلاك والعذاب بصنيعهم الذي كانوا صنعوا، ثم رأوهم ماتوا على ذلك ولم يأتهم العذاب، فاستدلوا بتأخير نزول العذاب عليهم على أن اللَّه رضي بذلك، واللَّه أعلم. وليس للمعتزلة في ظاهر هذه الآية أدنى تعلق؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه - تعالى - قد ردّ ذلك القول الذي قالوا، وعاتبهم على ذلك القول بقوله: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا)، وأوعدهم على ذلك وعيدًا شديدًا، فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى اللَّه تعالى في ذلك على ما تضيفون أنتم لم يكن يرد ذلك عنهم، ولا عاتبهم على ذلك، ولا أوعدهم وعيدًا في ذلك؛ دل أنه لا يجوز أن يقال ذلك، ولا إضافة المشيئة إليه في ذلك. فنقول - وباللَّه التوفيق -: إن المشيئة - هاهنا - تحتمل وجوهًا: أحدها: ما قال الحسن والأصم من الرضا؛ قالوا: إن اللَّه رضي بذلك. والثاني: الأمر والدعاء إلى ذلك؛ يقولون: إن اللَّه أمرهم بذلك، ودعاهم إلى ذلك. والثالث: كانوا يقولون ذلك على الاستهزاء والسخرية، لا على الحقيقة، وهكذا أمر المجوس أنهم إذا قيل لهم هذا: لم لا تؤمنون وتسلمون؟ يقولون ما قال هَؤُلَاءِ: لو شاء اللَّه لآمنا ولا أشركنا؛ فهذا العتاب الذي لحقهم والوعيد الذي أوعدهم إنما كان لما قالوا ذلك استهزاء منهم، أو لما ادعوا من الأمر والدعاء على اللَّه وافتروا عليه، أو الرضا أنه رضي بذلك. على هذه الوجوه الثلاثة تخرج المشيئة في هذا الموضع - واللَّه أعلم - لا على ما قاله المعتزلة، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) هي كلمة حق، لكن قالها استهزاء وهزؤا، فلحقه العتاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) أي: هل عندكم من بيان وحجة من اللَّه فتبينوه لنا وتظهروه على زعمكم أن اللَّه أمركم بذلك ودعاكم إليه أو ترككم على ذلك لما رضي بذلك دون أن أمهلكم ليعذبكم، أو ليس قد ترك من خالفكم في ذلك، ثم لم يدل تركه إياهم على أنه رضي بذلك، فقال اللَّه:

(149)

(إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ). أي: ما تتبعون في ذلك إلا الظن. (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي: ما هم إلا يخرصون ويكذبون في ذلك، ليست لهم حجة ولا بيان على ما يدعون من الأمر والدعاء إلى ذلك، والترك على ما هم عليه من الرضا به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ... (149) قيل: الحجة البالغة: التي إذا بلغت كل شبهة أزالتها، وكل غافل نائم نبهته وأيقظته. وقيل: الحجة البالغة: التامة القاهرة، الظاهرة على كل شيء، الغالبة عليه، لم تبلغ شيئًا إلا قهرته وغلبته. وقال الحسن: الحجة البالغة في الآخرة: لا يعذب أحدًا ولا يعاقبه إلا لحجة تلزم، لا يعاقب بهوى أو انتقام أو شهوة على ما يعاقب في الشاهد ولا غيره، ما من أحد من الخلائق إلا ولله عليه الحجة البالغة، أما الملك المقرب: فإن اللَّه جبله على الطاعة فلا يعصيه، منًّا من اللَّه عليه طولا وفضلا، فهو مقصر عن شكر نعمة اللَّه عليه، وأما النبي المرسل والعبد الصالح: فلله عليهما السبيل والحجة من غير وجه. ثم تحتمل الحجة البالغة وجوهًا: أحدها: هذا القرآن الذي أنزله على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آية معجزة وحجة بالغة ما عجز الخلائق عن إتيان مثله، فدل عجزهم عن إتيان مثله على أنه آية من آيات اللَّه، وحجة من حجج اللَّه أرسلها إلى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: أنه جعل في كلية الخلائق والأشياء ما يشهد أن الخلائق والأشياء كلها له شهادة خلقه، وتدل كلية الأشياء على وحدانيته، فهو حجة بالغة. والثالث: ألسن الرسل وأنباؤهم؛ حيث لم يؤاخذوهم بكذب قط فيما بينهم، ولا جرى على لسانهم كذب قط، ولا فحش؛ عصمهم - عَزَّ وَجَلَّ - عن ذلك، فدل ذلك على أنهم إنما خصوا بذلك؛ لما أن اللَّه جعلهم حججًا وآيات على وجه الأرض حجة بالغة، وباللَّه العصمة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) في تحريم الأشياء وتحليلها، ليس لهَؤُلَاءِ الذين يحرمون أشياء لهم في تحريمهم حجة، إنما يحرمون ذلك بهوى أنفسهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ). قال الحسن: المشيئة - هاهنا -: مشيئة القدرة، وقال: لو شاء قهرهم وأعجزهم حتى لم يقدروا على معصية قط؛ على ما جعل الملائكة جبلهم على الطاعة حتى لا يقدروا على معصية قط، ثم هو يفضل الملائكة على الرسل والأنبياء والبشر جميعًا، ويقول: هم مجبورون على الطاعة، فذلك تناقض في القول لا يجوز من كان مقهورًا مجبورًا على الطاعة يفضل على من يعمل بالاختيار مع تمكن الشهوات فيه، والحاجات التي تغلب صاحبها وتمنعه عن العمل بالطاعة، أو يقول: فضلهم بالجوهر والأصل، فلا يجوز أن يكون لأحد بالجوهر نفسه فضل على غير ذلك الجوهر؛ لأن اللَّه - تعالى - لم يذكر فضل شيء بالجوهر إلا مقرونًا بالأعمال الصالحة الطيبة؛ كقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26). وغيره. وقوله: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ)، وقوله: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، ونحوه، لم يفضل أحدًا بالجوهر على أحد، ولكن إنما فضله بالأعمال الصالحة؛ لذلك قلنا: إن قوله يخرج على التناقض، وتأويل قوله: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) عندنا ظاهر، لو شاء لهداهم جميعًا، ووفقهم للطاعة، وأرشدهم لذلك، وهو كقوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ. . .) الآية، فإذا كان الميل إلى الكفر لمكان ما جعل لهم من الفضة والزينة، فإذا كان ذلك للمؤمنين آمنوا، ثم لم يجعل كذلك، دل هذا على أن قولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) هو الأمر والرضا، أو ذكروا على الاستهزاء؛ حيث قال: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ). والمعتزلة يقولون: المشيئة - هاهنا - مشيئة قسر وقهر، وقد ذكرنا ألا يكون في حال القهر إيمان، وإنَّمَا يكون في حال الاختيار، والمشيئة مشيئة الاختيار، ولا تحتمل مشيئة الخلقة؛ لأن كل واحد بمشيئة الخلقة مؤمن، فدل أن التأويل ما ذكرنا.

(150)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا ... (150) الذي تحرمون أنتم من الوصيلة، والسائبة، والحامي، وما حرموا من الحرث والأنعام (فَإِنْ شَهِدُوا). أن اللَّه حزمه (فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ). كيف قال: (هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) دعاهم إلى أن يأتوا بالحجة، فإذا أقاموها لا تشهد معهم، لكن هذا - واللَّه أعلم - أنهم يعلمون أن التحريم إلى اللَّه، ليس إلى أحد من الخلائق، فإن شهدوا بأنه حرم، فلا تشهد معهم؛ فإنهم شهدوا بباطل. ويحتمل: أن يكون أمره أن يسألهم شهداء من أهل الكتاب يشهدون لهم بأن اللَّه حرم هذا؛ لأن هَؤُلَاءِ كانوا أهل شرك، وعبدة الأوثان يسألون أهل الكتاب وأهل الرسل يشهدون لهم بذلك، فإن شهدوا فلا تشهد معهم أي: لا يشهدون لهم بذلك، فلا تشهد أنت -أيضًا- معهم؛ على الإخبار أنهم لا يشهدون؛ وهو كقوله: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ. . .) الآية، أخبر عن المنافقين أنهم قالوا: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. . .)، ثم أخبر عنهم أنهم (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ. . .) الآية، لكنه أخبر أنهم لا يقاتلون رأسًا، وإلا لو نصروهم لا يولون الأدبار؛ فعلى ذلك قوله: (هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ)؛ لأنهم لا يشهدون، واللَّه أعلم. ويشبه أن يسألوا حتى يأتوا بآبائهم حتى يشهدوا؛ لأنهم كانوا يقولون: إنا وجدنا عليها آباءنا، واللَّه أمرنا بها، وإن اللَّه رضي بصنيع آبائنا؛ حيث لم يهلكهم، وتركهم على ذلك، فيسألون أن يأتوا بأُولَئِكَ حتى يكونوا هم الذين يشهدون على ذلك، فلن يجدوا إلى ذلك سبيلا أبدًا؛ وهو كقوله: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، فلا يجدون أبدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا). دل أن ما كانوا يحرمون إنما يحرمون بهواهم، لا بحجة وبرهان. (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

(151)

أي: يعدلون الأصنام في العبادة والألوهية بربهم. قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)، يقول: تعالوا أقرأ عليكم ما حرم ربكم، وأبين لكم ما حرم بحجة وبرهان، وأن ما حرمتم أنتم حرمتم تقليدًا منكم لآبائكم، أو حرمتم بهوى أنفسكم، لا حرمتم بأمر أو حجة وبرهان. ثم بين الذي حرم عليهم فقال: (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا). الشرك حرام بالعقل، ويلزم كل من عقل التوحيد ومعرفة الرب؛ لما كان منه من تركيب الصور وتقويمها بأحسن صور يرون ويعرفون أنه لم يصورها أحد سواه، ولا قومها، ولا يشركه آخر في ذلك، وما كان منه إليكم من أنواع الإحسان والأيادي، فكيف تشركون غيره في ألوهيته وربوبيته؟! فذلك حرام بالعقل والسمع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا). يخرج على وجهين: أحدهما: على الوقف والقطع على قوله: (عَلَيْكُمْ)، والابتداء من قوله: (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)؛ كأنه لما قال: (أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ).، فقالوا: أي شيء الذي حرم علينا ربنا؟ فقال: (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا). والوجه الآخر: على الوصل بالأول، ولكن على طرح " لا "؛ فيكون كأنه قال: حرم ربكم عليكم أن تشركوا به شيئًا، وحرف " لا " قد يطرح ويزاد في الكلام.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). أي: برًّا بهما. فَإِنْ قِيلَ: قال - تعالى -: (أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)، وهاهنا يأمر بالإحسان إليهما، ولم يذكر المحرم؟ قيل: في الأمر بالإحسان إليهما تحريم ترك الإحسان؛ فكأنه قال: حرم عليكم ترك الإحسان إلى الوالدين، وفرض عليكم برهما والإحسان إليهما. ثم فيه: إنكم تعرفون بالعقل أن الإحسان إلى الوالدين واجب، والإساءة إليهما حرام عليكم، ولم يكن منهما إليكم من الإحسان أكثر ممّا كان من اللَّه إليكم، فكيف تختارون الإساءة إلى اللَّه والإشراك في عبادته غيره، ولا تختارون الإساءة إلى الوالدين؟! بل تختارون الإحسان إليهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ). إنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر والفاقة، فهو مما حرم عليهم، وهذا يدل على أن الحظر في حال لا يوجب الإباحة في حال أخرى؛ لأنه قال: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ

إِمْلَاقٍ)، ليس فيه إباحة القتل إذا لم يكن هنالك خشية الإملاق، لكن ذكر هذا؛ لأنهم أإنما، كانوا يقتلون في ذلك الحال، ففي ذلك خرج النهي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ). أي: على ما يخرج لكم من الزرع والثمار، والنبات، فرزقكهم من ذلك، فعلى ذلك يرزق أولادكم مما يخرج من الأرض من النبات والزروع والثمار، فلا تقتلوهم، فإذا لم تقتلوا أنفسكم خشية الفقر والفاقة، كيف تقتلون أولادكم لذلك؛ فالذي يرزقكهم هو الذي يرزق أولادكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ). يحتمل قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا)، أي: لا تواقعوها. ويحتمل: لا تدنوا منها، ولكن اجعلوا بينكم وبين الفواحش والمحرمات حجابًا من الحلال، وهكذا الحق على المسلم ألا يدنو من الحرام، ويجعل بينه وبين ذلك حجابًا وسترًا من الحلال. ثم اختلف في قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ): قيل: الفواحش: الزنا، ما ظهر منها: المخالطة باللسان، والمجالسة معهن، (وَمَا بَطَنَ): فعل الزنا نفسه؛ كانوا يجتمعون، ويجالسونهن، ولكن لا يجامعونهن بين أيدي الناس، ثم إذا خلوا بهن زنوا بهن. وقيل: كانوا يزنون بالحرائر سرا، وبالإماء ظاهرًا؛ فحرم ذلك عليهم. وقيل: (مَا ظَهَرَ مِنهَا): نكاح الأمهات، (وَمَا بَطَنَ): هو الزنى، وكان

نكاح الأمهات ظاهرًا، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وسعيد بن جبير، رضي اللَّه عنهما. وقيل: الفواحش: المحرمات جملتها، فما ظهر منها: فيما بينهم وبين الخلق، وما بطن. فيما بينهم وبين اللَّه تعالى. وقيل: (مَا ظَهَرَ مِنهَا): ما يكون بالجوارح، (وَمَا بَطَنَ): ما يكون بالقلب. وعن مجاهد قال: (مَا ظَهَرَ): الجمع بين الأختين، وتزوج الرجل امرأة أبيه وما بطن منها: الزنى، وما حرم أيضا. ويحتمل قوله: (مَا ظَهَرَ): ما يرى غيرُهُ ويبصر، (وَمَا بَطَنَ): ما يكون بالعين والقلب؛ على ما رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " العينان تزنيان، واليدان تزنيان " وما بطن: يكون زنى العين والقلب؛ لأنه لا يعلمه غير الناظر، واللَّه أعلم؛ فيصير كأنه ذكر التحريم في كل حرف من ذلك، أي: حرم عليكم الشرك، وحرم عليكم ترك الإحسان إلى الوالدين، وحرم قتل الأنفس إلا بالحق؛ فيصير كأنه ذكر التحريم في كل من ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ). قيل: بالحق: إذا ارتد يقتل به، وفي القصاص، وفي الزنى إذا كان محصنًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ). (ذَلِكُمْ) يعني: المحرمات التي ذكر (وَصَّاكُمْ بِهِ) اختلف فيه: قيل: (وَصَّاكُمْ بِهِ): فرض عليكم. وقيل: (وَصَّاكُمْ بِهِ): أمركم به. وقيل: (وَصَّاكُمْ بِهِ): بين لكم المحرم. وكله يرجع إلى واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أنه لم يحرم إلا ما ذكر ولم يحرم ما حرمتم

(152)

أنتم من الأنعام وغيرها. و (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي: لكي تنتفعوا بعقولكم. أو نقول: إن ذلكم وصاكم به لتعقلوا؛ لأن حرف " لعل " من اللَّه على الوجوب، أي يعقلون عن اللَّه بما خاطبهم به وأمرهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ... (152) قال أبو بكر الكيساني: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ)؛ أي: لا تأكلوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن. وقال: ثم اختلف في الوجه الذي يحسن: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو أن يعمل له فيأكل من ماله أجرًا لعملِهِ. وقال آخرون: يأكله قرضًا، وذلك مما اختلفوا فيه. وقال غيرهم: هو أن ينتفع بدوابه، ويستخدم جواريه، ونحو ذلك، وقال: وذلك مما لا يحتمل تأويل الآية. وعندنا أن الآية باحتمال هذا أولى؛ لما يقع لهم الضرورة في استخدام مماليكه، وركوب دوابه، والانتفاع بذلك؛ لما يقع لهم المخالطة بأموال اليتامى؛ كقوله: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)، فإذا كان لهم المخالطة، لا يسلمون عن الانتفاع بما ذكرنا. وقال الحسن: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، أي: إلا بالوجه الذي جعل له، والوجه الذي جعل له هو أن يكون فقيرًا، وهو ممن يفرض نفقته في ماله، فله أن يقرب ماله، وعندهم أن نفقة المحارم تفرض في مال اليتيم إذا كانوا فقراء، فبان أن

جعل له التناول في ماله، وإن كان لا يفرض نفقته في ماله. ثم الآية تحتمل وجهين عندنا: أحدهما: ألا تقربوا مال اليتيم إلا بالحفظ والتعاهد له، أمر كافل اليتيم أن يحفظ ماله ويتعاهده. والثاني: يقرب ماله بطلب الزيادة له والنماء؛ ولذلك قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - بأنه يجوز لكافل اليتيم إذا كان وصيًّا أن يقرب ماله بيعًا إذا كان ذلك خيرًا لليتيم؛ إذا وقع له الفضل، وطلب له الزيادة والنماء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ). قال أبو بكر: قوله: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي: حتى يبلغ الوقت الذي يتولى أموره؛ كقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا. . .) الآية. وقال غيره من أهل التأويل: الأشد: ثمانية عشر سنة. ويشبه أن يكون الأشد هو الإدراك، أي حتى يدركوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) يشبه أن يكون قوله: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ) في اليتامى أيضًا، أمر أن يوفوا لهم الكيل والميزان، ونهاهم ألا يوفوا لهم على ما نهاهم عن قربان مالهم إلا بالتي هي أحسن، وكذلك قوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)، أمكن أن يكون هذا في اليتامى أيضًا، أي: إذا قلتم قولا لليتامى، فاعدلوا في ذلك القول، وإن كان ذا قربى منكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا). أي: بعهد اللَّه الذي عهد إليكم في اليتامى، أوفوا بقوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا)، وغير ذلك؛ أوفوا بما عهد إليكم فيهم. ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ): في اليتامى وفي غيرهم في كل الناس، وهو لوجهين: أحدهما: أن في ترك الإيفاء اكتساب الضرر على الناس، ومنع حقوقهم، فأمر بإيفاء ذلك كقوله: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ). والثاني: للربا؛ لأنه لزم مثله كيلا في الذمة، فإذا لم يوفه حقه وأعطاه دونه، صار ذلك الفضل له ربا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). يحتمل هذا وجهين: يحتمل: لا نكلف أحدًا ما في تكليفنا إياه تلفه، وإن كان يجوز له تكليف ما في التكليف تلفه؛ كقوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ. . .) الآية، وعلى ما أمر من بني إسرائيل بقتل أنفسهم. والثاني: لا نكلف أحدًا ما في تكليفنا إياه منعه؛ نحو: من يؤمر بشيء لم يجعل له الوصول إلى ذلك أبدًا، ويجوز أن يؤمر بأمر وإن لم يكن له سبب ذلك الأمر بعد أن يجعل لهم الوصول إلى ذلك السبب؛ نحو: من يؤمر بالصلاة وإن لم يكن معه سبب ذلك وهو الطهارة، ونحو: من يؤمر بالحج بقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) هذا يدل على أن من جعل في وسعه الوصول إلى شيء، يجوز أن يكلف على ذلك، ويصير باشتغاله بغيره مضيعًا أمره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا). قال بعض أهل التأويل: هذا في الشهادة؛ كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. . .) الآية. ويحتمل قوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا): كل قول، والقول أحق أن يحفظ فيه العدالة من الفعل؛ لأنه به تظهر الحكمة من السفه، والحق من الباطل؛ فهو أولى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) أي: بعهد اللَّه الذي عهد إليكم في التحليل والتحريم، والأمر والنهي، وغير ذلك.

(153)

(ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). ذكر - هاهنا - (تَذَكَّرُونَ)، وفي الآية الأولى: (تَعْقِلُونَ)، وفي الآية الأخيرة: (تَتَّقُونَ)، إذا عقلوا تفكروا واتعظوا، وعرفوا ما يصلح وما لا يصلح أثم اتقوا المحرمات وما لا يصلح. أو. (تَذَكَّرُونَ)، أي: تتعظون بما وعظكم به وزجركم عنه، وتعقلون مهالككم وتتقون محارمكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) يحتمل وجوهًا: يحتمل: (وَأَنَّ هَذَا) الذي ذكر في هذه الآيات من أمره ونهيه، وتحريمه وتحليله (صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) على ما قاله أهل التأويل: إنها آيات محكمات، لم ينسخهن شيء في جميع الكتب، وهنّ محرمات على بني آدم كلهم. ويحتمل قوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا): الذي دعا إليه الرسل من كل شيء هو صراطي مستقيمًا (فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)؛ لأن الرسل يدعون إلى ما يدعون بالحجج والبراهين. ويحتمل قوله: (هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) أصل الدِّين، ووحدانية اللَّه، وإخلاص الأنفس له على غير إشراك في عبادته وألوهيته، وأن يكون قوله: وأن الذي جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو الذي ذكر في القرآن، وإلا ذكر هذا ولم يشر إلى شيء بعينه، فيحتمل ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). أمر - عَزَّ وَجَلَّ - باتباع ما ذكر من الصراط المستقيم، ونهى عن اتباع السبل؛ لأن غيره من الأديان المختلفة والأهواء المتشتتة لا حجة عليها ولا برهان، وما ذكر من الصراط المستقيم هو دين بحجة وبرهان، لا كغيره من الأديان، وإن كان يدعي كلٌّ مِنْ ذلك أن الذي هو عليه دين اللَّه وسبيله. (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُو) المحرمات والمناهي والمعاصي التي ذكر في هذه الآية، أو لعلكم، تتقون السبل والأديان المختلفة. وأصله: أن السبيل المطلق: سبيل اللَّه، والدِّين المطلق: دين اللَّه، والكتاب المطلق: كتاب اللَّه.

(154)

قوله تعالى: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا). اختلف فيه؛ قال الحسن: قوله: (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)، أي: من أحسن صحبته، تمت نعمة اللَّه وكرامته عليه في الآخرة. وقيل: (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)، يعني: على المحسنين والمؤمنين، و " على " بمعنى: للذي أحسن وللذي آمن، ويجوز " على " في موضع اللام؛ كقوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) أي: للنصب. وقتادة قال: فمن أحسن فيما آتاه اللَّه، تمت عليه كرامة اللَّه في جنته ورضوانه، ومن لم يحسن فيما آتاه اللَّه، نزع اللَّه ما في يده، ثم أتى اللَّه ولا عذر له. وقال أبو بكر الكيساني في قوله: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ): أي: ثم آتيناكم من الحجج والبيان تمامًا من موسى وكتابه، أي: موسى وكتابه مصدق وموافق لما أعطاكم؛ بهقوله: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً. . .) الآية. ويحتمل: تمام ما ذكرنا تمامًا بالنعمة والكرامة. ويحتمل: تمامًا بالحجة والبيان، وتمامًا بالحكمة والعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -. (عَلَى الَّذِي أَحسَنَ).

(155)

أي: للذي أحسن. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، أي: تبيانا لكل شيء، وهدى من الضلال والشبهات، ونعمة، ورحمة من العذاب والعقاب. (لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ). أي: ليكونوا بلقاء ربهم يؤمنون؛ هو على التحقيق. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) يقول: أتم له الكتاب على أحسنه على الذي بلغ من رسالته، وتفصيل كل شيء: بيان كل شيء (وَهُدًى)، أي: تبيانا من الضلالة (وَرَحْمَةً)، أي: نعمة، (لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ)، أي: بالبعث بعد الموت، (يُؤْمِنُونَ)، أي: ليكونوا مؤمنين بالبعث. ومنهم من يقول في قوله: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ): إنه وإن أتى بحرف الترتيب، فإنه على الإخبار؛ كأنه قال: ثم قد كنا آتينا موسى الكتاب تمامًا، معناه: وقد آتيناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ ... (155) يعني: القرآن أنزلناه. (مُبَارَكٌ). قال أبو بكر الكيساني: البركة هي التي من تمسك بها أوصلته إلى كل خير وعصمته من كل شر، وهو المبارك. وقال الحسن: هو المبارك لمن أخذه واتبعه وعمل به، فهو مبارك له، وسمي هذا القرآن مباركًا؛ لما يبارك فيه لمن اتبعه، هو مبارك لمتبعه والعامل به، وإلا من لم يتبعه فليس هو بمبارك له، بل هو عليه شدة ورجس؛ كقوله - تعالى -: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، فهو ما ذكرنا مبارك لمن اتبعه وتمسك به، وسمي مجيدًا -أيضًا- وكريمًا لمن اتبعه يصير مجيدًا

(156)

كريمًا، وكذلك سمي روحًا ووحيًا؛ لما يحيا به من اتبعه. وأصل البركة: هو أن ينتفع بشيء على غير تبعة، فهو البركة؛ وعلى ذلك يخرج قول الناس بعضهم لبعض: بارك اللَّه لك في كذا، أي: جعل لك فيه منافع لا تبعة عليك فيه؛ فعلى هذا يجيء أن يكون القرآن مباركًا بكسر الراء، لكن قيل: مبارك؛ لانتفاع الناس به. والبركة تحتمل وجهين: أحدهما: اسم لكل خير يكون أبدًا على النماء والزيادة. والثاني: اسم لكل منفعة لا تبعة عليه فيها، ولا مؤنة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا). أي: اتبعوا إشاراته، (وَاتَّقُوا) أي: اتقوا مخالفته (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)؛ أي: لكي ترحموا، من اتبع أوامره وإشاراته واتقى، نواهيه ومحارمه رُحِمَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) قال أهل التأويل: أنزل الكتاب على الطائفتين: اليهود والنصارى، ومن أنزل الكتاب على اليهود والنصارى إنما أنزله على المسلمين، لكن المعنى - واللَّه أعلم -: إنما أنزل الكتاب على طائفتين، أي: إنما يظهر نزول الكتاب التوراة والإنجيل عند الخلق بطائفتين من قبلنا سموا يهود ونصارى بالتوراة والإنجيل، وإلا لم يكن وقت نزول التوراة يهود، ولا وقت نزول الإنجيل نصارى. ثم قوله: (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ) هو صلة قوله: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ) لئلا تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من فبلنا ولم ينزل علينا. ويجوز " أن " بمعنى " لن "، أي: لن تقولوا: إنما أنزل الكتاب؛ كقوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ)، أي: لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ).

(157)

أي: وقد كنا عن دراستهم لغافلين، ويجيء أن يكون عن دراستها؛ لأنها دراسة الكتب، لكن أضيف إليهم، أي: أُولَئِكَ القوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ... (157) هو على ما ذكرنا لئلا تقولوا: لو أنا أنزل علينا الكتاب. (لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ). أنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذا القرآن؛ قطعًا لحجاجهم، ومنعًا لعذرهم، وإن لم يكن لهم الحجاج والعذر، وعلى ذلك يخرج قوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) لا يكون لهم حجة على اللَّه، وإن لم ينزل الرسل والكتب. ثم يحتمل عذر هَؤُلَاءِ أن يقولوا: إنما أنزل الكتاب بلسانهم، لم ينزل بلساننا، ونحن لا نعرف لسانهم، وكنا عن دراستهم لغافلين، ولو كان لهم العذر والاحتجاج بهذا، لكان للعجم الاحتجاج والعذر في ترك اتباع القرآن؛ لما لم ينزل بلسان العجم، ولم يعرفوا هم لسانهم، أعني: لسان العرب، ثم لم يكن للعجم الاحتجاج بذلك؛ لما جعل لهم سبيل الوصول إلى معرفته؛ فعلى ذلك لا عذر للعرب في ترك اتباع ما في الكتب التي أنزلت بغير لسانهم؛ لما في وسعهم الوصول إلى معرفتها، والتعلم منهم، والأخذ عنهم، وهذا يدل على أنه يجوز التكليف بأشياء ليست معهم أسبابها، بعد أن جعل لهم سبيل الوصول إلى تلك الأسباب. والثاني: من احتجاجهم أن يقولوا: إن اليهود والنصارى قد اختلفت وتفرقت تفرقًا لا اجتماع بينهم أبدًا، فكيف نتبعهم في ذلك؟! فيقال: إن مذاهبهم وكتبهم إنما تفرقت بهم وبقولهم، فقد أنزل من الحجج والبيان ما يعرف ذلك الذي تفرق بهم، فلا حجة لهم في ذلك؛ وهذا كقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)، وقد جاءتهم آيات فلم يؤمنوا بها؛ فعلى ذلك قوله: (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا)، وقوله: (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ). وفي الآية دلالة على أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب؛ لأنهم لو كانوا أهل كتاب

صار أهل الكتاب ثلاث طوائف، وقد أخبر أنه إنما أنزل الكتاب على طائفتين، وذلك محال.

(158)

فَإِنْ قِيلَ: إنما هذا حكاية من اللَّه - تعالى - عن المشركين، قلنا: معناه - واللَّه أعلم -: إني أنزلت عليكم الكتاب؛ لئلا تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، فلم يقولوا ذلك، ولكن اللَّه قطع بإنزاله الكتاب حجتهم التي علم أنهم كانوا يحتجون بها لو لم ينزله، وإن لم يكن لهم في ذلك حجة ولا عذر، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ). قيل: القرآن. وقيل: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. (وَهُدًى). أي: هدى من الضلالة وكل شبهة. (وَرَحْمَةٌ). أي: ذلك منه رحمة ونعمة. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ). أي: لا أحد أظلم ممن كذب بآيات اللَّه. قيل: بآيات اللَّه: حجج اللَّه. وقيل: دين اللَّه، وقد ذكرناها في غير موضع. وقد ذكرنا أن قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ) حرف استفهام في الظاهر، ولكن ذلك من اللَّه على الإيجاب؛ كأنه قال: لا أحد أوحش ظلمًا ممن كذب بآيات اللَّه وصدف عنها وقوله: (وَصَدَفَ عَنْهَا) أي أعرض عنها (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) يعرضون ويبدلون. . . الآية ظاهرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا ... (158) قال أهل التأويل: ما ينظرون، وحرف " هل " هو حرف استفهام وتعجب، لكن

أهل التأويل قالوا: ما ينظرون، حملوا على الجواب؛ لأنه لم يخرج له جواب، فجوابه ما قالوا: ما ينظرون؛ كما قالوا في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي: لا أحد أظلم ممن كذب، هو جواب؛ لأن جوابه لم يخرج، فجوابه ما قالوا: لا أحد أظلم؛ لأنه سؤال واستفهام، فجوابه ما ذكروا؛ فعلى ذلك قوله: (هَل يَنظُرُونَ) هو استفهام ولم يخرج له الجواب، فجوابه: لا ينظرون؛ كقوله: (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً). ثم قوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ). هذا - واللَّه أعلم - يشبه أن تكون الآية في المعاندين منهم والمتمردين، الذين همتهم العناد والتعنت، خرج على إياس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، من أُولَئِكَ الكفرة، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حريصًا على إيمانهم مشفقًا على أنفسهم؛ حتى كادت نفسه تذهب حسرات عليهم؛ حرصًا على إيمانهم وإشفاقًا على أنفسهم؛ كقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) وكقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ. . .) الآية، ونحوه، فآيسه اللَّه - تعالى - عن إيمان أُولَئِكَ الكفرة؛ لئلا يطمع في إيمانهم وإسلامهم بعد ذلك، ولا تذهب نفسه حسرات عليهم؛ ليتخذهم أعداء ويبغضهم، ويخرج الشفقة التي في قلبه لهم، وليتأهب لعدوانهم، ويتبرأ منهم؛ كما فعل إبراهيم: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)، وكما قال لنوح: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ): آيسه اللَّه عن إيمان قومه إلا من قد آمن، ونهاه أن يحزن

عليهم وعلى فوت إيمانهم؛ فعلى ذلك هذا آيس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن إيمانهم، ونهاه أن يحزن عليهم؛ كقوله: (وَلَا تَحزَن عَلَيهِم)، إلى الوقت الذي ذكر أنهم يؤمنون في ذلك الوقت، وهو وقت نزول الملائكة وإتيانهم بآياتهم، وهو قوله: (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ). ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: تأتيهم الملائكة بقبض الأرواح مع اللعن والسخط؛ فعند ذلك يؤمنون باللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ) يوم القيامة، وهو كقوله: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ). على إضمار الأمر؛ كأنه قال: أو يأتي أمر ربك؛ على ما ذكر في سورة النحل: (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ). ثم الأمر فيه عذاب اللَّه؛ كقوله - تعالى -: (فَلَمَّا جَآءَ أَمرُنَا) يعني: عذابنا؛ فعلى ذلك في هذا: أمر اللَّه عذاب اللَّه، والأصل فيما أضيف إلى اللَّه في موضع الوعيد لا يراد به الذات، ولكن يراد به نقمته وعذابه وعقوبته؛ كقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)، لا يريد به ذاته، ولكن يريد به نقمته، وعذابه؛ كقوله: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ)، لا يريد به لقاء ذاته؛ وكذلك قوله: (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)، وغيرها من الآيات، لا يراد به ذاته، ولكن يراد به عذابه ونقمته. أو نقول: إن كل شيء يراد به تعظيمه، يضاف إلى اللَّه - تعالى - فيراد به تعظيم ذلك الشيء، أو تعظيم عذابه ونقمته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ): يحتمل بعض آياته ما قال - عز

وجل -: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. . .) الآية. كقوله (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ. . .) الآية. وكقوله: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. . .) الآية، ونحوه من الآيات، يؤمنون عند معاينتهم العذاب، ولا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت. ويحتمل ما قال أهل التأويل: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، وخروج الدابة، وعلى ذلك رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا "، وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، والدابة، وخويصة أحدكم، وأمر العامة "، وخويصة أحدكم: الموت، وأمر العامة: الساعة إذا قامت. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " التوبة معروضة حتى تطلع الشمس من مغربها "، ثم قال: " مهما يأتِ عليكم عام إلا والآخر شر " ونحوه من الأخبار. فإن ثبتت هذه الأخبار فهي المعتمدة. وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: " إذا خرج أول الآيات، طرحت الأقلام، وجست الخطبة، وشهدت الأجساد على الأعمال ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ). أخبر أن الإيمان لا ينفع في ذلك الوقت؛ لأنه ليس بإيمان اختيار في الحقيقة؛ إنما هو إيمان دفع العذاب والبأس عن أنفسهم؛ كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، وقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، أخبر أنهم لو ردوا إلى الدنيا، لعادوا إلى تكذيبهم الرسل وكفرهم باللَّه؛ فدل أن إيمانهم في ذلك الوقت إيمان دفع العذاب والبأس وإيمان خوف، وهو كإيمان فرعون؛ حيث قال: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، لم ينفعه إيمانه في ذلك الوقت؛ لأنه إيمان دفع الهلاك عن نفسه، لا إيمان حقيقة باختيار. والثاني: أنه في ذلك الوقت - وقت نزول العذاب - لا يقدر أن يستدل بالشاهد على الغائب؛ ليكون قوله قولا عن معرفة وعلم، وإنما هو قول يقوله بلسانه لا عن معرفة في قلبه فلم ينفعه إيمانه في ذلك الوقت؛ لما ذكرنا، وهو كقوله: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)؛ لأنه إيمان دفع الباس والعذاب، أو يبالغ بالاجتهاد؛ حتى يكون إيمانه إيمانًا باجتهاد؛ لذلك كان ما ذكرنا. أو أن يكون في طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، ودابة الأرض، وما ذكر من البلاء والشدة والعذاب ما يضطرهم إلى الإيمان به؛ فيكون إيمانهم إيمان اضطرار لا اختيار. ويشبه أن تكون الأخبار، التي رويت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لا تقبل التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها، وبعد خروج الدجال ودابة الأرض، أي: لا يثابون على طاعتهم، وإلا فمن البعيد أن يدعوا إلى الإيمان والطاعات، ثم إذا أتوا بها لم تقبل منهم، لكنه يحتمل ما ذكرنا بألا: لا يثابوا على ذلك، ويعاقبوا ما كان منهم من الكفر وكفران

النعم؛ لأن جهة وجوب الثواب إفضال وإحسان، وفي الحكمة ترك الإفضال بالثواب في الطاعات إذا كان من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من النعم ما يكون ذلك شكرًا له، والعقاب على الكفر مما توجبه الحكمة؛ لذلك كان ما ذكرنا واحدًا؛ ولهذا يخرج قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث قال: لا ثواب للجن على طاعتهم؛ لأن طريق وجوبه

الإفضال ولم يذكر لهم ذلك، ويعاقبون بما كان منهم من الكفران والإجرام؛ لما ذكرنا من المعنى الذي وصفنا، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا). عند معاينة العذاب والبأس والآيات، إذا لم تكن آمنت من قبل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا). أي: لا ينفع ذا إلا بذا: إذا عملت خيرًا ولم تكن آمنت لا ينفعها ذلك، ولم ينفعها إيمان عند معاينة العذاب والآيات، إذا لم تكن كسبت قبل ذلك خيرًا. وقيل: قوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)، أي: لا ينفع نفسًا إيمانها إذا لم تعزم ألا ترتد ولا ترجع عنه أبدًا. وقيل: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)، أي: لا ينفع نفسًا إيمانها، (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) أي: وكسبت في نصديقها التعظيم لله والإجلال؛ فعند ذلك تنفع صاحبها؛ لأنه لا كل تصديق يكون فيه التعظيم له والإجلال ينفي التعظيم والإجلال إذا لم يكن من التعظيم له. وقيل: (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)، أي: لم تكن عملت في تصديقها خيرًا قبك معاينة الآيات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)، هو يخرج على الوعيد، أي: انتظروا إحدى هذه الثلاث التي ذكرنا؛ فإنا منتظرون، وهو كقوله: (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)، وانتظروا العذاب؛ فإنا منتظرون بكم ذلك. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160).

(159)

قوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ... (159) عن عائشة وأبي هريرة - رضي اللَّه عنهما - قال أحدهما: [فتلكم في الكفرة] (¬1)، وقال الآخر: في أهل الصلاة. وقيل: هم الحرورية. وقيل: هم اليهود والنصارى. ولكن لا ندري من هم، وليس بنا إلى معرفة من كان حاجة. ثم يحتمل وجوهًا ثلاثة: يحتمل: فارقوا دينهم حقيقة؛ لأن جميع أهل الأديان عند أنفسهم أنهم يدينون بدين اللَّه، لا أحد يقول: إنه يدين بدين غير اللَّه. ألا ترى أنهم قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ): فهم وإن كانوا عند أنفسهم أنهم يدينون بدين اللَّه، فهم في الحقيقة فارقوا دينهم، وليسوا على دين اللَّه. ويحتمل قوله: فارقوا دينهم الذي أمروا به ودعا إليه الرسل والأنبياء - صلوات الله عليهم - فارقوا ذلك الدِّين. ويحتمل: فارقوا دينهم الذي دانوا به في عهد الأنبياء والرسل بدين اللَّه، ففارقوا ذلك الدِّين، واللَّه أعلم؛ كقوله: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)، وكقوله: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ. . .) الآية. كانوا مؤمنين به، وصاروا شيعًا، أي: صاروا فرقًا وأحزابًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ). ¬

_ (¬1) في الأصل هكذا [فتيكم في الكفرة] وهي عبارة غير مفهومة ولعل الصواب ما أثبتناه. واللَّه أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).

(160)

من الناس من صرف أتأويل قوله: (لَسْتَ مِنْهُمْ)، أي: لست أنت من قتالهم في شيء؛ كأنه نهاه عن قتالهم في وقت، ثم أذن له بعد ذلك، ثم نسخته آية السيف، وهذا بعيد. ويحتمل: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)، أي: لست من دينهم في شيء؛ لأن دينهم كان تقليدًا لآبائهم، ودينك دين بالحجج والبراهين؛ فلست منهم، أي: من دينهم في شيء. ويحتمل: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)، أي: لا تسأل أنت عن دينهم ولا تحاسب على ذلك؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية. أو يخرج على إياس أُولَئِكَ الكفرة عن عود رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى دينهم؛ كقوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ). يحتمل: أي الحكم فيهم إلى اللَّه؛ ليس إليك، هو الذي يحكم فيهم. أو أن يكون أمرهم إلى اللَّه في القتال، حتى يأذن لك بالقتال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). هو وعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) ليس في قوله: (فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) إيجاب الجزاء في السيئة، وفي قوله: (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) إيجاب الجزاء؛ لأنه قال: فله كذا؛ فيه إيجاب الجزاء، وإنَّمَا إيجاب الجزاء في السيئة بقوله: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، وغيره من الآيات. وقد ذكرنا أن إيجاب الجزاء والثواب في الحسنات والخيرات إفضالٌ وإحسان؛ لأنه قد سبق من اللَّه - تعالى - إلى كل أحد من النعم ما يكون منه تلك الخيرات جزاء لما أنعم عليه وشكرًا له، ولا جزاء للجازي إلا من جهة الإفضال والإكرام. وأما جزاء السيئة فمما توجبه الحكمة؛ لما حرج الفعل منه مخرج الكفران لما أنعم

عليه؛ فيستوجب بالكفران العقوبة والجزاء على ذلك. والثاني: أنه خرج الفعل منه في الخيرات والحسنات على موافقة خلقته وصورته وتقويمه وتسويته على ما خلقها اللَّه وأنشأها وبناها؛ فلم يخرج الفعل منه على خلاف ما هو بني عليه؛ فلم يستوجب به الجزاء. وأما السيئات: فهي إخراجها على خلاف خلقتها وتقويمها وصرفها إلى غير الوجه الذي كانت خلقتها وتقويمها؛ فاستوجب بذلك العقوبة والجزاء عليها؛ لقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا). ليس هو على التحديد حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه، إنما خرج - واللَّه أعلم - على التعظيم لذلك والإجلال؛ لأنه أخبر في النفقة التي تنفق في سبيل اللَّه أنها تزداد وتنمو إلى سبعمائة، ولا يجوز أن يكون في الحسنة التي جاء بها في التوحيد ما يبلغ إلى ما ذكر، وإذا جاء بنفس ذلك التوحيد لا يبلغ ذلك أو يقصر عن ذلك، ولكنها - واللَّه أعلم - على التعظيم له، أو على التمثيل؛ كقوله: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، ذكر هذا؛ لما لا شيء عند الخلق أوسع منها، وكقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ)، ومثله هو على التمثيل؛ خرج لعظيم ما قالوا في اللَّه، ليس على أنها تنشق أو تنفطر؛ فعلى ذلك الأول أنه يخرج لما ذكرنا، لا على التحديد له والوقف. ثم قوله: من جاء بالحسنة فله كذا، ومن جاء بالسيئة فله كذا: ذكر مجيء الحسنة ومجيء السيئة، ولم يقل: من عمل بالحسنة فله كذا، ومن عمل بالسيئة؛ ليعلم أن النظر إلى ما ختم به وقبض عليه؛ فكأنه قال: من ختم بالحسنة وقبض عليها فله كذا؛ لأنه قد يعمل بالحسنة، ثم يفسدها وينقضها بارتكاب ما ينقضه ويفسده من الشرك وغيره؛ على ما روي: " الأعمال بالخواتيم ".

ثم اختلف في قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها بعد التوحيد، ومن جاء بالسيئة بعد التوحيد فلا يجزي إلا مثلها. وقال بعض أهل التأويل: من جاء بالحسنة يعني بالتوحيد فله عشر أمثالها، لكنه ليس على التحديد لما ذكرنا، ولكن على التعظيم له والقدر عند اللَّه، أو على التمثيل. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها يعني: الشرك، لا يجزى إلا مثله. فكان التخليد في النار مثل الشرك؛ لأن الشرك أعظم السيئات. وفي الآية دلالة أن المثل قد يكون من غير نوعه؛ حيث أوجب في الحسنة من الثواب عشر أمثالها ومن السيئة مثلها، وليس واحد منهما من نوع الأصل والعمل الذي يثاب عليه. وقيل: من جاء بالحسنة في الآخرة: بالتوحيد، فله عشر أمثالها، في الأضعاف. ومن جاء بالسيئة في الآخرة، يعني: الشرك فلا يجزى إلا مثلها في العظم؛ فجزاء الشرك النار؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، والنار أعظم العقوبة، وذلك كقوله (جَزَآءً وِفَاقًا) أي: وفاق العمل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُم لَا يُظْلَمُونَ) جميعًا لا يزاد على المثل ولا ينقص مما ذكر.

(161)

قوله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164 قوله - عز وجل -: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). قال أبو بكر الكيساني: قوله (هَدَانِي)، أي: دلني ربي إلى صراط مستقيم، لكن هذا بعيد؛ لأنه خرج مخرج ذكر ما منَّ عليه بلطفه، وليس في الدلالة والبيان ذلك؛ إنما عليه البيان، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يدل على الهدى ويبين لهم طريقه. ثم أخبر أنه لا يهدي من أحب بقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، دل أن ذلك إكرام من اللَّه - تعالى - بالهداية بالتوفيق له والعصمة بلطفه، لا الدلالة والبيان. وكذلك قوله - تعالى -: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ)؛ فلو كان على الدلالة والبيان لكان منه ذلك، ثم أخبر إن المنة عليهم لله - تعالى - لا لرسوله؛ دل أنه لما ذكرنا من الهداية نفسها لا الدلالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (دِينًا قِيَمًا). قيل: قائمًا مستقيمًا لا عوج فيه؛ كقوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا) والعوج: هو الذي فيه الآفة، فأخبر أن لا آفة فيه ولا عوج. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ). إن أهل الأديان جميعًا يدعون أن الذي هم عليه هو دين إبراهيم، فأخبر أن دين إبراهيم هو الدين الذي عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا هم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَنِيفًا).

قيل: مسلما، والحنف: هو الميل، وهو حنيف، أي: مائل إلى دين اللَّه، أخبر أنه يدعو إلى دين اللَّه - تعالى - إلى الدِّين الذي كان عليه آباؤه وأجداده، أعني به: الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). برأه - عَزَّ وَجَلَّ - من الشرك. وقيل: كان حنيفًا خالضا لله مخلصًا لم يشرك أحدا في ربوبيته ولا في عبادته، على ما فعل أُولَئِكَ الكفرة. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحفصة: (دينًا قيما فطرتكم التي فطرتم عليها ملة إبراهيم حنيفًا). ويقرأ: (قَيِّمًا)، بالتشديد، و (قِيَمًا) بالتخفيف. أو يخرج قوله: (إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) على الشكر له والحمد على ما أنعم عليه وأفضل له، من الإكرام له بالهداية بالطريق المستقيم. والمستقيم يحتمل: القائم بالحق والبرهان وكذلك قوله؛ (دِينا قِيَمًا) بالحجج والبراهين، ودين أُولَئِكَ دين بهوى أنفسهم؛ ولذلك قال: (حَنِيفًا). وقوله: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

(162)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا). خاطب اللَّه بهذه الآيات رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمرادُ به: الخلقُ كله، فمن بلي بمثل ما كان بلي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من السؤال والدعاء، فله أن يقرأ أو يذكر ما في هذه الآيات. ولو كان المراد بالخطاب بهذا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة، لكان لا يقول له: (قُلْ)، ولكن يقول له: افعل كذا، ولا تفعل كذا؛ وعلى ذلك الخطاب في الشاهد في خطاب بعض بعضا ألا يقولوا: (قُل)؛ فدل أنه على ما ذكرنا، وكذلك قوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ): من استوصف صفات اللَّه، فعليه أن يصف له ما في سورة الإخلاص، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وغيره من الخلائق سواء في ذلك الخطاب. ثم في قوله: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. . .) الآية ذكر منَّته بما هداه، والاستسلام إلى شكر ما أنعم عليه. وفي قوله: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي) والأمر بإخلاص العبادة لله - عَزَّ وَجَلَّ - وإسلام النفس له في جميع أحواله محياه ومماته. وفي قوله: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا). فيه الدعاء إلى وحدانية اللَّه وربوبيته. ثم في قوله: (إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي) دلالة رد قول من يستثني في إيمانه؛ لأنه أمره أن يقول: (إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، من غير أن يأمره بالثنيا؛ فمن استثنى فيه لا يخلو استثناؤه من أحد معنيين: إما أن يكون لشك فيه. أو لكتمان ما أنعم اللَّه عليه؛ فعلى كل من أنعم اللَّه عليه أن يظهر ذلك، وأن يشكر له على ذلك؛ على ما أمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بذلك. وقوله: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). يخرج على وجهين: أحدهما: يخرج على الأمر بالدعاء لنفسه؛ لأنه قال: قل: أجعل صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. والثاني: على المنابذة مع أُولَئِكَ الكفرة والفجرة، يقول: أنا أجعل صلاتي وعبادتي

(163)

ومحياي ومماتي لله، لا أجعل لغيره شركاء، كما جعلتم أنتم لغيره شركاء في عبادته وصلاته ونسكه، واللَّه أعلم. ثم اختلف في قوله: (صَلَاتِي): قَالَ بَعْضُهُمْ: الصلاة المفروضة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصلاة: الخضوع والثناء؛ يقول: إن خضوعي وثنائي لله، والصلاة: هي الثناء في اللغة. وقوله: (وَنُسُكِي) اختلف فيه. قال الحسن: نسكي: ديني؛ كقوله: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا) أي: دينا. وقيل: نسكي ذبيحتي لله في الحج والعمرة وغيره. وقيل: نسكي: عبادتي، والنسك: اسم كل عبادة؛ وعلى ذلك يسمى كل عابد ناسكا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). أي: أنا حي وميت لله، لا أشرك أحدًا في عبادتي ونفسي، بل كله لله لا شريك له في ذلك. ويحتمل: أن يكون هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: قل إني أمرت أن أجعل صلاتي ونسكي لله، أو إني أمرت أن أدعو وأسأل اللَّه أن يجعل صلاتي ونسكي وعبادتي له، لا أشرك غيره فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) يحتمل قوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)، أي: وأنا أول من خضع وأسلم بالذي أمرت أن

(164)

أبلغ؛ لأنه أمر بتبليغ ما أنزل إليه، فيقول: أنا أول من أسلم بالذي أمرت بالتبليغ. ويحتمل: أن يكون لا على توقيت الإسلام؛ ولكن على سرعة الإجابة والطاعة له كقوله: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا): هو على الوصف بغاية العظم، ليس على أن بعضها أكبر وأعظم وبعضها أصغر؛ ولكن كلها أعظم وأكبر؛ فعلى ذلك هذا ليس على وقت الإسلام، ولكن لسرعة الإجابة، والطاعة له، والله أعلم. الإسلام: هو جعل النفس وكلية الأشياء لله سالمة، أي: أنا أول من جعل نفسه لله سالمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ... (164) يحتمل هذا وجهين: يحتمل: أغير اللَّه أبغي ربا وقد تعلمون أن لا رب سواه؟! ويحتمل: أغير اللَّه أبغي ربا سواه، وفي كل أحد أثر ربوبحته وألوهيته قائم ظاهر، وفيما تدعونني إليه أجد آثار العبودية والربوبية لله فيه، فكيف أتخذ ربا سواه؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا). يحتمل وجهين: الأول، يحتمل: لا تكسب كل نفس من سوء إلا عليها، أي: لا يتحمل ذلك غيره عنه في الآخرة؛ وكذلك قوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، وكقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ). الثاني ويحتمل: أن يكون قوله: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا)، أي: لا تكسب كل نفس - لو تركت وما تختار - إلا عليها، لكن اللَّه بفضله يمنع بعضها وما تختار على نفسها؛ كقول يوسف - عليه السلام -: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي): أخبر أنها كاسبة السوء إلا ما عصمها ربي. وجائز أن يكون على الإضمار؛ كأنه يقول: ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولها، ومثله جائز في القرآن؛ كقوله - تعالى -: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، وهو نذير

لقوم، بشير لقوم آخرين: نذير في حال، وبشير في حال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). هو على الوعيد وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان إذا كبر للصلاة، أتبع التكبير بهذه الآية: (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي. . .) إلى آخره. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة كبَّر، ثم قال: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي. . . . .) إلى قوله تعالى (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). وذكر أنه كان يدعو بعد ذلك دعاء طويلا. وروي عن عائشة، وأبي سعيد الخدري أنهما قالا كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذاء منكبيه، ثم يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ". فكان أبو حنيفة - رحمه اللَّه - يختار من ذلك هذا في الفرائض. وكذا روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قام إلى الصلاة، فكبر، ثم قال: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ". وكذلك روي عن أبي سعيد أنه كان إذا افتتح الصلاة قال: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ".

(165)

وكان أبو يوسف يستحب أن يقول بهذه الكلمات والكلمات التي رواها علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من غير إيجاب لذلك ولا حظر لما سواه. وكان أبو حنيفة - رحمه اللَّه - لا يستحب أن يزيد في الفرائض على ما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما روت عائشة - رضي الله عنها - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما روي عن عمر وعبد اللَّه - رضي اللَّه عنهما -. وأما في النوافل فله أن يزيد ما شاء فيها من الثناء والدعوات؛ فيحتمل أن يكون ما رواه علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من فعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان ذلك في النوافل. * * * قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ)، يعني أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جعلهم خلائف من تقدمهم من المكذبين والصديقين؛ ليعلموا ما حل بالمكذبين برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليحذروا تكذيبه والخلاف له، ويرغبوا في تصديقه والموافقة له والطاعة؛ ليكون لهم بمن تقدمهم عبرة في التحذير والترغيب، ويكون لهم بمن تقدمهم قدوة وعبرة؛ ليعرفوا صحبة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن كيف يجب أن يصحبوه ويعاملوه: من الإحسان إليه، والتعظيم له والتصديق، ويجتنبوا الإساءة إليه والتكذيب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ)، يعني: البشر كلهم، جعل بعضهم خلائف بعض في الوجود وفي الأحوال في الحياة، والموت، والغناء، والفقر،

والصحة، والسقم، وفي العز، والذل، وفي كل شيء، وفي الصغر، والكبر؛ ليكون لهم في ذلك عبرٌ ودليل على معرفة منشئهم وخالقهم؛ لأنه لو أنشأهم جميعًا معًا - لم يعرفوا أحوال أنفسهم وتغيرهم من حال إلى حال، ولكن أنشأهم واحدًا بعد واحد وقرنًا بعد قرن؛ ليعرفوا أحوال أنفسهم وانتقالهم من حال إلى حال؛ ليعرفوا أن منشئهم واحد؛ لأنهم لو كانوا جميعًا معًا - لم يعرفوا مبادئ أحوالهم من حال نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم من حال الصغر إلى حال الكبر، وكذلك هذا في جميع الأحوال: من الغنى والفقر، والصحة، والسقم، ولو كان كله على حالة واحدة - لم يعرفوا ذلك، لكن جعل بعضهم خلائف بعض؛ ليدلهم على ما ذكرنا. ويحتمل ما قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنهم صاروا خلف الجان، فالأول يكون في بيان صحبة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وحسن المعاملة معه. والثاني في بيان وحدانية الربِّ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ). يحتمل هذا في الأحوال، ويحتمل في الخلقة جعل لبعض فضائل ودرجات على بعض، وجعل بعضا فوق بعض بدرجات في الدنيا؛ ليكتسبوا لأنفسهم في الآخرة الدرجات والفضائل، على ما رغبوا في الدنيا في فضائل الخلقة ودرجات بعضها فوق بعض، ونفروا في الدون من ذلك؛ ليرغبهم ذلك في اكتساب الدرجات في الآخرة، وينفوهم عن اكتساب ما ينفرون عنه في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ). يحتمل: ليبلوكم فيما آتاكم من الأحوال المختلفة: من الفقر والغناء، والسقم والصحة، والصغر والكبر، وغير ذلك من الأحوال. ويحتمل: (فِي مَا آتَاكُمْ) من النعم، أي: ليبلوكم بالشكر على ما آتاكم من النعم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ).

قَالَ بَعْضُهُمْ هو إخبار عن سرعة إتيان العذاب؛ لأن كل آتٍ قريب كأنه قد جاء، كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ)، (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)، ونحوه: أنه إذا كان آتيًا لا محالة جعل كأنه قد جاء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك إنباء عن شدة عذابه لمن عصاه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ). قيل: يبتلي الموسر في حال الغناء، والصحيح في حال صحته، ويبتلي الفقير في حال فقره، والمريض في حال مرضه، والابتلاء من اللَّه - تعالى - على وجهين: إما أمرًا بالشكر على ما أنعم. أو صبرًا على ما ابتلاه بالشدائد، والابتلاء منه هو ما بين السبيلين جميعًا سبيل الحق وسبيل الباطل، وبين أن كل سبيل إلى ماذا أفضاه لو سلكه: لو سلك سبيل الحق أفضاه إلى النعم الباقية والسرور الدائم، وإن سلك سبيل الباطل أفضاه إلى عذاب شديد وحزن دائم. ثم خيره بين هذين؛ فهو معنى الابتلاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). للمؤمنين، وقد ذكرناه والحمد لله رب العالمين. * * *

سورة الأعراف

سُورَةُ الْأَعْرَافِ قيل إنها مكية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) الحمد لله العليم بخلقه، اللطيف لرشد عباده، ضرب لهم الآيات والبيان؛ لينقلهم بحكمته وتدبيره من الجهالة إلى العلم، ومن الضلالة إلى الهدى، ووصى رسوله أن يدعو عباده إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، فبعث محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى الناس كافة، وأنزل إليه الكتاب تلا فيه ما في الكتب الأولى؛ ليبين لأهل الكتاب والمشركين أن النبي الأمي العربي لم يعلم ما في الكتب الأعجمية إلا من عند اللَّه؛ ليكون ذلك أوضح لهم في الحجة. وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل الرسالة معروفًا عند الفريقين أنه لم يتل كتابًا، ولا خطَّه

بيمينه، ولا كان عندهم من شعرائهم، ولا المعروف بأنسابهم وعلم أنبيائهم؛

وذلك أبلغ في البرهان، فأنبأ فيه علم الغيوب، وفرض الفرائض، وحكم فيه الأحكام، وأنزل فيه الحجج بتأليف يعجز عنه من دون اللَّه؛ ليبين لهم أنه من عند اللَّه، فأنف قومه، وأبوا أن يستمعوه واستكبروا عليه، وقالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وقالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فأتاهم العليم الخبير من قبل أنفسهم وكبرهم؛ فأنزل في الكتاب كلامًا افتتح به السورة لم يكن من كلام قومه؛ فلما سمعوه ظنوا أنه بديع ابتدعه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كإبداعهم البلاغات والأوابد، وأنفوا أن يكون مُحَمَّد يقدر من ذلك على ما لا يقدرون، فتدبروا الكتاب ليعلموا صدوره بما بعده من الكلام، فسمعوا كلامًا مجيدًا حكيمًا، ونبأ عظيما، وحججًا نيرة، ومواعظ شافية؛ فدخل أكثرهم في الإسلام، وقعد عنه رجلان: معاندٌ متعمد، وجاهل مقلد لا ينظر، وفيما

(2)

أنزل مما وصف قوله: (كهيعص)، و (طسم) و (المص)، و (الر) وما أشبهها. فقال: (المص). ليعطف بها على النظر فيما بعدها. ثم ابتدأ فقال: (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) يقول: كتاب من ربك؛ لتنذر به عباده. (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ). يقول: فلا يضيقن صدرك عن الذي فرض اللَّه عليك فيه من البلاع إلى قومك، وبما فرض عليك من البراءة منهم، ومما يعبدون من دون اللَّه؛ فكأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخاف ما خافت الرسل من بين يديه، فقال موسى: (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) وقد كان يعرف قومه بالتسرع إلى القتل فيما ليس مثل ما يأتيهم به، فامنه اللَّه منهم بقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وقال في آخر هذه السورة: (ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ): يفهمونها عن اللَّه - تعالى - فإنها من أعظم آيات الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعلمه أنهم لا يصلون إلى ما يخاف منهم. وفي الأثر أن اللَّه - تعالى - لما أرسله إلى قومه، فقال: " أي رب إذا يثلغوا رأسي فيذروه مثل خُبزَة " فأمنه اللَّه - تعالى - من ذلك، فقال: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) من البلاع، ولا يضيقن صدرك بما فرض اللَّه عليك من العبادة والحكم الدي تخالف فيه قومك. ثم وصف الكتاب فقال: (وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ). يقول: يتذكرون بما فيه ويتدبرونه فيعلمون به الحق من الباطل، ويذكرون به ما فرض عليهم. ويحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطابًا خاطب اللَّه بها رسله يفهمونها لا

يفهمها غيرهم، على ما يكون لملوك الأرض بينهم وبين خواصهم إشارات يفهمها خواصهم ولا يفهمها غيرهم، هذا متعارف فيما بين الخلق أن يكون لهم فيما بينهم وبين خواصهم ما ذكرنا؛ فعلى ذلك يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطابات من اللَّه خاطب بها رسله - وهم خواصه - يفهمونها ولا يفهمها غيرهم، ثم وجهُ فهمهم يكون لوجهين: يخبرهم فيقول: إني إذا أنزلت إليكم كذا فمرادي من ذلك كذا، أو كان البيان والمراد منها مقرونا بها وقت إنزالها ففهموا المراد منها بما أفهمهم اللَّه وأراهم ما لم ير ذلك غيرهم؛ كقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) أرى رسله شيئا لم ير ذلك غيرهم، ولا أطلعهم على ذلك، فهو من المتشابه على غيرهم، وأما على الرسل فليس من المتشابه.

وقال الفراء: يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة المتفرقة التي أنزلها من أب ت ث إلى آخرها كأنه قال: إني جمعت هذه الحروف المقطعة فجعلتها كتابًا، فأنزلتها؛ من نحو: (المص) و (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ) و (المر) ونحوه، واللَّه أعلم بما أراد به ذلك. وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب مقدار ما حفظنا وفهمنا من أقاويل أهل العلم في ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ). قيل: الحرج: هو الضيق في الصدر، ثم يحتمل ضيق الصدر وجوهًا: يحتمل ضيق الصدر ما يحل عليه في ذلك من الشدائد والخطورات بتبليغه إلى الكفرة الذين نشئوا على الكفر والشرك، وخاصة الفراعنة والملوك الذين همتهم القتل والإهلاك لمن استقبلهم بالخلاف. أو أن يوسوس في صدره الشيطان أنه ليس من عند اللَّه، أو أن يقول له: إنه من أساطير الأولين؛ على ما قال أُولَئِكَ الكفرة: (مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ). ثم يحتمل قوله: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) على النهي، أي: لا يكن في صدرك منه حرج، أي: لا يضق صدرك مما حمل عليك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ)، أي: شك أنه من عند اللَّه نزل. وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي؛ لأنه بالنهي ما يكون عصمه. ويحتمل: ليس على النهي، ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك؛ كقوله:

(3)

(وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)، وكقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ): ليس على النهي؛ ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. ثم إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمنه عما كان يخاف من أُولَئِكَ بقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وأمنه من وساوس الشيطان؛ على ما روي في الخبر أنه قيل: ألك شيطان؟ فقال: " كان، ولكن أعنت عليه؛ فأسلم " أمَّن - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله عن ذلك كله؛ لما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتُنْذِرَ بِهِ). يحتمل أنه أمره أن ينذر به الكفرة، ويبشر به المؤمنين؛ كقوله: (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)؛ فعلى ذلك قوله: (لِتُنْذِرَ بِهِ) الكفرة. (وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ). أي: بشرى على ما ذكرنا، ويكون في الإنذار بشرى؛ لأنه إذا أنذر فقبل الإنذار، فهو له بشرى. ويحتمل قوله: (لِتُنْذِرَ بِهِ)، أي: الكل الموافق والمخالف جميعًا؛ كقوله: (لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، (وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)، أي: الذي ينتفع به المؤمنون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّبِعُوا ... (3) لا تتبعوا أُولَئِكَ في التحليل والتحريم وفي الأمر والنهي؛ لأنه ليس إلى الخلق

التحليل والتحريم. وقوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ). أمر المؤمنين أن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، على ما أمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يتبع ما أنزل إليه من ربه؛ كقوله: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)؛ ليعلم أن ما أنزل إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو منزل إلى المؤمنين جميعًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ). فيما ذكر، وما يحل وما يحرم، وما يأمر وينهى. (وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ). قيل: أربابًا، أي لا تتبعوا من دونه أولياء فيما يحلون ويحرمون، ويأمرون وينهون، أي: إنما عليهم اتباع ما حرم عليهم، واستحلال ما أحل لهم. وأما إنشاء التحليل والتحريم فلا. وقال بعض أهل التأويل: أولياء الأصنام، والأوثان. ولكن لا يحتمل هاهنا،

ولكن قد ذكرنا أنهم كانوا يتبعون عظماءهم في التحليل والتحريم؛ كقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وكانوا لا يتخذون أُولَئِكَ الأحبار أربابًا في الحقيقة، ولكن كانوا يتبعونهم فيما يحلون ويحرمون ويصدرون عن آرائهم؛ فسموا بذلك لشدة اتباعهم أُولَئِكَ في التحليل والتحريم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ). قال أهل التأويل: يعني بالقليل: المؤمنين، ولكن يحتمل قوله: (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)، أي: لا تتذكرون رأسًا؛ لأن الخطاب جرى فيه لأُولَئِكَ الكفرة، وفيهم نزلت الآية. * * * قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)

(4)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ... (4) قال أهل التأويل: كان يخوف أهل مكة بتكذيبهم الرسول بإهلاكه الأمم الخالية بتكذيبهم الرسل، بقوله: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا)؛ بتكذيبهم الرسل، فأنتم يا أهل مكة تهلكون بتكذيبكم الرسول، وإن كانوا لا يعرفون هم إهلاك الأمم الماضية أنه إنما أهلكوا بتكذيبهم الرسل، غير أنهم وإن كانوا لا يعرفون هم ذلك بأنفسهم؛ لما ليس عندهم كتاب - لكن يصلون إلى علم ذلك بمن عندهم الكتب - وهم أهل الكتاب - فيلزمهم الحجة، كالعجم وإن كانوا لا يعرفون الكتاب الذي أنزل بلسان العرب، فإن الحجة تلزمهم بذلك؛ لما كان لهم سبيل الوصول إلى علم ذلك بالعرب؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ، وإن لم يكن عندهم علم بإهلاك أُولَئِكَ؛ فتلزمهم الحجة بإعلام أهل الكتاب إياهم. وفي الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه أخبر عن إهلاك الأمم الخالية بتكذيبهم الرسل، وهو لم ينظر في كتبهم، ولا اختلف إليهم ليعلموه عن ذلك، ثم أخبرهم بذلك، فدل أنه إنما عرف ذلك باللَّه عَزَّ وَجَلَّ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ). قال أبو بكر الكيساني: البأس هو كل أمر معضل شديد من المرض والجرح وغيره، ويقول: روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما طعن قيل له: لا بأس عليك، فقال: إن كان في القتل بأس كفى بذلك. وأما غيره من أهل التأويل فقالوا: البأس: العذاب، " وبأسنا ": عذابنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ). البيات: بالليل، والقيلولة: بالنهار عند الظهيرة، وهما وقتا الغفلة أو وقتا الأمن.

(5)

أخبر أنه إنما يأتيهم عذابه في حال الغفلة، أو في حال الأمن؛ لئلا يكونوا غافلين عن أمره، ولا يكونوا آمنين عذابه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا ... (5) أي: ما كان دعواهم قبل نزول العذاب إلا أنهم قالوا: نحن على الحق وإن غيرهم على الباطل، فإذا جاءهم بأسنا اعترفوا بظلمهم؛ كقوله: (إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: فما كان دعواهم حين نزول العذاب (إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) يذكر في هذه الآية أنه يسألهم جميعًا: الرسل والمرسلين إليهم. وقال في آية أخرى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)، وقال: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، ولكن قوله: (لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) أي لا يسأل عما فعل وعن نفس ما ارتكب؛ كم أذنبت؟ وما فعلت؟ ولكن يسأل: لماذا فعلت؟ يسأل عن الحجة: لم أذنبت؟ ولم فعلت ذا؟ أو أن يسأل في وقت، ولا يسأل في وقت آخر. قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسأل عن ذنبه غيره، وإنما يسأل صاحبه وفاعله، يخبر - واللَّه أعلم - أن أمر الآخرة صلى خلاف أمر الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يؤاخذ غيره بذنب آخر وربما يسأل إحضار قريبه، وأما في الآخرة فإنه لا يؤاخذ غيره بذنب آخر كذلك كان ما ذكرنا.

(7)

أو أن يكون قوله: (لَا يُسْأَلُ): عما أظهر وأبدى؛ لكن يسأل عما أسر وأخفى؛ لأن الملائكة قد يكتبون ما أبدوه وأظهروه؛ كقوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) فيقع السؤال عما أسروا على التقرير، ولا يسأل بعد ذلك. وقوله: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ). قال بعض أهل التأويل: يسأل الرسل عن تبليغ الرسالة إلى الأمم، ويسأل قومهم: هل بلغ الرسل إليهم الرسالة؟ ويكون سؤالهم الرسل سؤال شهادة - كقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ. . . . .) الآية - أنه قد بلغ الرسالة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يسأل الملائكة عن تبليغ الرسالة إلى الأنبياء، ويسأل الأنبياء - عليهم السلام - عن تبليغ الملائكة إليهم، وأمكن أن يكون السؤال للرسل عما أجيبوا، وكان سؤال الأمم عما أجابوا الرسل؛ كقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ)، وكقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ). أو أن يكون سؤال القوم سؤال تقرير عندهم، وإقرار لما كانوا ينكرون التبليغ إليهم؛ كقوله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ). هذا السؤال سؤال تقرير وتعيير لا غير؛ لأنه كان يعلم أنه لم يكن قال لهم ذلك، لكنه سألهم سؤال تقرير؛ ليقروا بذلك؛ لئلا يقولوا: هو قال لهم ذلك؛ لأنهم قالوا: عيسى هو الذي قال لهم ذلك؛ فعلى ذلك الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) عن عملهم وصنيعهم؛ ولكن يسألون لما ذكرنا، واللَّه أعلم. يشبه أن يكون: (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) ذكر هذا؛ لما يحتمل أن يظن به الخفاء عليه؛ لما ذكر من المسألة لهم والسؤال، وهو الاستخبار عما يسر ويضمر؛ ليظهر ذلك، هذا هو معنى السؤال في الشاهد والاستخبار؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: (فَلَنَقُصَّنَّ

(8)

عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) على أن سؤاله ليس بسؤال استخبار واستظهار له؛ ولكن سؤال توبيخ وتقرير، أو سؤال شهادة؛ وعلى هذا يخرج الابتلاء منه والامتحان؛ لتقرير الأمر والنهي، لا لإظهار شيء خفي عليه، وإن كان في الشاهد يكون كذلك. أو أن يصير ما قد خفي عليهم باديًا ظاهرًا عندهم؛ فسمى ذلك الأمر منه والنهي؛ ابتلاء وامتحانًا؛ لما هو عند الخلق ابتلاء وامتحان، وإن كان عند اللَّه لا يحتمل ذلك؛ فسمي بالذي فيما بينهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ). قال الحسن: يكون ميزانًا له كفتان يوزن فيه الحسنات والسيئات؛ فمن ثقلت موازينه دخل الجنة، ومن خفت موازينه دخل النار. وقال غيره من أهل التأويل: يريد بـ " الموازين " الحسنات والسيئات نفسها؛ فمن رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار. إلى هذا ذهب أكثر أهل التأويل، ولا يحتمل ما قالوا. أما قول الحسن: ميزان له كفتان يوزن فيه الحسنات والسيئات - لا يحتمل؛ لأنه قال: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). إذا ثقلت إحدى الكفتين خفت الأخرى، وإذا خفت إحداهما ثقلت الأخرى؛ فكل واحدة منهما فيمن تثقل موازينه وتخف، وقد أخبر في الآية أن من ثقلت موازينه فأُولَئِكَ هم المفلحون، ومن خفت

موازينه (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ). ولا يحتمل -أيضًا- ما قال غيره من أهل التأويل: إنه أراد ب " الموازين " ْالحسنات، والسيئات؛ لأن الآية في المؤمنين والكافرين، فلا سيئة ترجح في المؤمن مع إيمانه، ولا حسنة ترجح في الكافر مع شركه، إلا أن يقال: إن توزن حسناته وتقابل بسيئاته دون إيمان، وكذلك الكافر تقابل سيئاته بحسناته دون الشرك؛ فذهبت حسناتهم التي كانت لهم في الدنيا بما أنعم اللَّه عليهم في الدنيا؛ فقد عجل لهم جزاء حسناتهم التي عملوا في الدنيا؛ بما أنعم عليهم في الدنيا. وأما المؤمن فيتجاوز عن سيئاته ويتقبل عنه أحسن ما عمل؛ كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ). أو أن يكون ما ذكر من الميزان هو الكتاب الذي ذكر في آية أخرى؛ كقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وكما قال: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوزن هو العدل؛ كقوله: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ)، لم يقل: نضع الموازين بالقسط، ولكن قال: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ)، والقسط: هو العدل، فهو إخبار عن العدل أنه يعدل بينهم يومئذ.

(9)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوزن يومئذ الحق، أي: الجزاء يومئذ الحق؛ يجزي للطاعة الحسنة والثواب، وللسيئة عقاب وعذاب، فهو حق. وقال بعضهم: قوله: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) أي: الطاعة حق، كل مطيع يومئذ فهو حق. ويحتمل أن يكون الوزن الحدود، والتقدير كقوله: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي: محدود مقدر؛ فعلى ذلك قوله: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)، أي: الحد يومئذ الحق، لا يزاد على السيئات، ولا ينقص من الحسنات التي عملوا في الدنيا، والله أعلم بما أراد بالوزن. ثم قال أهل التأويل في قوله: (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)، أي: غبنوا؛ وذلك أنه ما من أحد من مؤمن وكافر إلا وله في الجنة والنار منزل وأهل، فيرث المؤمن المنزل الذي كان للكافر في الجنة، ويرث الكافر المنزل الذي للمؤمن في النار؛ فذلك الخسران الذي خسروا، لكن هذا لا يحتمل أن يكون اللَّه - تعالى - يجعل للكافر في الجنة منزلًا وأهلًا مع علمه أنه لا يؤمن، ويختم على كفره، ويحتمل الخسران الذي ذكر هو أنهم خسروا في الدنيا والآخرة لما فات عنهم النعم التي كانت لهم في الدنيا ولم يصلوا إلى نعيم الآخرة، فذلك هو الخسران المبين في الدنيا والآخرة. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) قال الحسن: (بِآيَاتِنَا): ديننا يكذبون، ولكن كذبوا حججنا. (يَظْلِمُونَ) أي: يضعونها في غير موضعها، وهو ما ذكر من ظلمهم الآيات؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ثم المسألة فيمن ارتكب كل ذنب وكبيرة في حال كفره عمره ثم آمن في آخره، صار ما كان ارتكب في حال كفره من الكبائر مغفورًا معفوا عنه غير مؤاخذ بها، ومن ارتكب ذلك في حال إيمانه، وختم على الإيمان لم يعمل الإيمان في تكفيره وكان مؤاخذًا به، وذلك واللَّه أعلم؛ لوجهين:

أحدهما: أن ليس على الكافر أنفس أفعال الطاعات وأعينها، إنما عليه قبول تلك الأعمال، فإذا أسلم، فقد قبلها ولم يكن عليه في ذلك الوقت إلا القبول؛ لذلك لم يؤاخذ بما كان منه من الأعمال. وأما المؤمن فعليه أنفس أفعال تلك الطاعات، وتلك الأعمال، وقد كان منذ القبول آخذا بما كان منه التفريط في تلك الأعمال. والثاني: أن الكافر إذا أسلم بعد ما ارتكب من الكبائر؛ لم يجرح إيمانه، ولا أدخل فيه نقصًا؛ فلم يؤاخذ بما كان منه لما قدم على ربه بإيمان كامل. وأما المؤمن إذا ارتكب كبائر فقد جرح الإيمان، وأدخل فيه النقصان بعمله الذي يخالف الإيمان، ولا يوافقه؛ لذلك افترقا. ويشبه أن يكون قوله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) على التمثيل ليس على تحقيق الميزان والخفة، ولكن على الوصف بالعظم لأعمال المؤمنين وبالخفة والتلاشي لأعمال الكافرين؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ضرب لأعمال المؤمنين المثل بالشيء الثابت والطيب، ووصف أعمالهم بالثبات والقرار فيه، وضرب لأعمال الكافرين المثل وشبهها بالشيء التافه التالف، ووصفها بالبطلان والتلاشي كقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ): وصف أعمالهم بالطيب والثبات والقرار، ووصف أعمال الكافرين بالخبث والتلاشي والبطلان كقوله: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) وقال في آية أخرى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) وكقوله: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)، ونحوه من الآيات: وصف أعمال المؤمنين بالثبات

(10)

والقرار، وأعمال الكفرة بالذهاب والبطلان؛ فعلى ذلك قوله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) وصف بالعظم والقرار والثبات، وقوله: [(وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ)] وصف بالبطلان والتلاشي ألا يكون لهم من الخيرات: أشيء ينتفعون به، في الآخرة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) قال أبو بكر الكيساني: " مكناكم "، أي: ملكناكم في الأرض (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) تتعيشون بها، يذكرهم نعمه ومنته عليهم بما ملكهم في الأرض، وجعل لهم منافع ليشكروا عليها. وقال الحسن: " مكناكم "، أي: جعلناكم مستخلفين في الأرض: يذكرهم - عز وجل -أيضًا- نعمه عليهم بما جعلهم خلفاء الأولين، وجعل لهم معايش ويخوفهم زوال ذلك عنهم بما صار ذلك لهم بزوالها عن الأولين، وأمكن أن يذكرهم هذا بما جعل لهم مكان القرار، وموضعِ الانتشار والتقلب والتعيش، والبشر لا بد له من ذلك، وكله يرجع إلى واحد كقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا)، أي: جعلنا الحرم آمنًا لكم بحيث تأمنون فيه وتتقلبون وتتعيشون فيه، ويتخطف الناس من حولهم، فهو يذكر لهم عظيم نعمه ومننه التي جعلها لهم هذا إذا كان الخطاب به لأهل مكة، وإن كان الخطاب به للناس كافة، فيخرج على تذكير النعم لهم حيث جعل الأرض لهم بحيث يقرون فيها ويتقلبون فيها. وقوله عَزَّ وَجَلَّ (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) هو يحتمل وجوهًا، وكذلك قوله: (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ): أحدها: أنهم كانوا يقرون أنه خالقهم بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) كانوا يقرون بألوهيته ويصرفون العبادة إلى غيره؛ فلذلك قال:

(11)

(قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ). والثاني: ألا تشكرونه ولا تذكرونه ألبتَّة. والثالث: يحتمل (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) أي: المؤمنون يشكرون، ولا يشكر أُولَئِكَ، والمؤمنون قليل وهم أكثر. والرابع: أي: ليس في وسعهم القيام بشكر أجميع ما أنعم عليهم؛ لكثرة نعمه لا يتهيأ لهم القيام بشكر واحدة، فكيف يشكرون، الجميع؟! فذلك الشكر قليل. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) قال الحسن: قوله (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) أراد آدم خاصة؛ لأنه قال: (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أخبر: أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم بعد الخلق، ولو كان المراد منه نحن، لكان السجود بعد خلقنا، وقد كان السجود قبل ذلك. وقال غيره: المراد منه البشر كله؛ لأنه قال (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أخبر أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم، ولو كان المراد آدم بقوله (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) خاصة، لكان لابد أن يذكر آدم ثانيًا؛ فدل أنه أراد به ذريته. وقَالَ بَعْضُهُمْ خلقناكم: أي، آدم، (ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) في أرحامكم، ويحتمل ما قال الحسن، ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ) أي: قدرناكم من ذلك الأصل وهو نفس آدم؛ لأن الخلق هو التقدير؛ كما تقول: أنا خلقته، أي: قدرته،

(12)

يقول: - واللَّه أعلم - (خَلَقْنَاكُمْ): أي قدرناكم جميعًا من ذلك الأصل والكيان، ومنه صورناكم، (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ) أي: وقد قلنا للملائكة (اسْجُدُوا لِآدَمَ) وذلك جائز في اللغة. وقد يقول بعض أهل الكلام: إن النطفة هي إنسان بقوة، ثم تصير إنسانًا بفعل. ويقول بعضهم: هي كيان الإنسان، فجائز أن يكون إضافته إلى ذلك الطين كما هو كيان وأصل لنا. وقوله: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) قال الحسن: إبليس لم يكن من الملائكة، وذلك أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وصف الملائكة جملة بالطاعة له والخضوع بقوله: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وقال: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وغيره من الآيات ولم يكن من إبليس إلا كل سوء، وقال أيضًا: خلق الملائكة من نور وإبليس من نار على ما ذكر، والنار ليست من جوهر النور؛ دل أنه ليس من الملائكة. وقال في قوله: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ): مثل هذا يجوز أن يقال: دخل هذه الدار أهل البصرة إلا رجلاً من أهل الكوفة، دل الاستثناء على أن دخل هنالك أهل الكوفة؛ فعلى ذلك يدل استثناء إبليس على أن كان هناك أمر بالسجود لآدم لغير الملائكة أيضًا، ولكن ليس لنا إلى معرفة ذلك فائدة: أنه كان من الملائكة أو من غيره، إنما علينا أن نعرف أنه عدو لنا، وقد ذكرنا هذا فيما سبق. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ... (12) قيل: قوله: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أي: ما منعك أن تسجد على ما ذكر في آية أخرى وألا زائدة. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. . .) بم علم عدو اللَّه أن المخلوق من النار خير من المخلوق بالطين إلا أن يقال بأن النار جعلت لمصالح الأغذية،

(13)

فمن هنا وقع له ذلك أنها خير من الطين، فيقال: إن النار وإن جعلت لصلاح الأغذية؛ فالطين جعل لوجود الأغذية فالذي جعل لوجود الشيء هو أنفع وأكبر مما جعل لمصالحه، ولعل الأغذية تصلح للأكل بغيرها بالشمس وغيرها. وبعد فإن الطين مما يقوم للنار ويطفئها ويتلفها، والنار لا تقوم للطين ولا تتلفه؛ فإذا كان كذلك فلا يجوز أن يقع من هذا الوجه أنها أفضل وأخير من الطين. ثم اختلف في الجهة التي كفر عدو اللَّه إبليس: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن إبليس عدو اللَّه لم ير لله على نفسه طاعة بأمر السجود لآدم؛ لذلك كفر. وقال آخرون: إنما كفر عدو اللَّه لما لم ير الأمر بالخضوع والطاعة ممن فوقه لمن دونه حكمة؛ فكفر لما لم ير أنه وضع الأمر بالسجود موضعه، بل رآه - لعنه اللَّه - واضعًا أمرًا في غير موضعه. وقال غيرهم: كفر عدو اللَّه بالاستكبار والتكبر على آدم لا لمعنى آخر. وقيل: أول من أخطأ في القياس وزل فيه إبليس لعنه اللَّه. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ... (13) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَاهْبِطْ مِنْهَا)، يعني من السماء؛ لأنه لعنه اللَّه كان في السماء، فأمر بالهبوط منها؛ لما جعل السماء معدنًا ومكانًا للخاضعين المتواضعين، فأمر بالهبوط منها إلى مكان جعل ذلك المكان مكان الخاضعين والمتكبرين جميعًا وهي الأرض، والأرض معدن الفريقين جميعًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأمر بالهبوط منها أمر بالخروج من الأرض إلى جزائر البحور؛ لأن الأرض هي قرار أهلها وجزائر البحور ليست مكان قرار لأحد؛ ليكون فيها على

(14)

الخوف أبدًا؛ ألا ترى أنه قال: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) والبحار مما تميد بأهلها. ْوأمكن أن يكون الأمر بالهبوط منها أمرًا بالخروج من الصورة التي كان فيها إلى صورة أخرى لا يعرف أبدًا ولا يرى عقوبة له لتركه أمر اللَّه وارتكابه نهيه (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) في تلك الصورة أو في تلك الأرض؛ حتى لا يقر أبدًا، ويكون على خوف أبدًا. ويحتمل في السماء؛ لما ذكرنا. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) وجه صغاره: أنه ما من أحد ذكره إلا وقد لعنه، ودعا عليه باللعن، فذلك صغاره، وأمكن أن يكون صغاره؛ لما صيره بحال يغيب عن الأبصار، ولا يقع عليه البصر، أو لما طرده عن رحمة اللَّه. * * * قوله تعالى: (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أنظره إلى النفخة الأولى؛ لئلا يذوق الموت؛ فيصل حياة الدنيا بحياة الآخرة، وهو ما ذكر في آية أخرى: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وقَالَ بَعْضُهُمْ: أنظره إلى يوم البعث. وظاهر ما خرج من الخطاب أن يكون أنظره إلى يوم البعث؛ لأنه سأل ربه أن ينظره إلى يوم البعث حيث، قال: (أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، فقال: (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) خرج ذلك جوابًا لسؤاله، وما ذكر من الوقت المعلوم. وفي آية أخرى يجيء أن يكون هو ذلك اليوم. وقال غيره: أنظره ولم يبين له ذلك الوقت الذي أنظره إلى ذلك الوقت؛ حتى يكون أبدًا على خوف ووجل؛ ألا ترى أنه قال: (فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي

(16)

بَرِيءٌ مِنْكُمْ) لو كان الوقت الذي أنظره معلومًا عنده، لكان لا يخاف الهلاك بدون ذلك الوقت؛ دل أنه كان غير معلوم عنده. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) قال الحسن: قوله: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي)، أي: بما لعنتني. والإغواء هو اللعن كقوله (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)، أي: من الملعونين؛ فيعني ذلك قوله (أَغْوَيْتَنِي) أي: لعنتني. وقال أبو بكر الكيساني: أضاف الإغواء إلى نفسه؛ لما كان سبب ذلك منه، وهو الأمر الذي أمره بالسجود لآدم والخضوع له. ويجوز أن يضاف إليه ذلك؛ لما كان منه السبب نحو قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي)، فطلب منه الإذن بالقعود، ولا تكلفني بما لا أقوم فتفتنني بذلك، وقال: إنما أضاف ذلك إليه؛ لما كان منه سبب ذلك الافتتان؛ فعلى ذلك هذا. وقال بعض المعتزلة: هذا قول إبليس (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي) وقد كذب عدو اللَّه لم يغوه اللَّه؛ فيقال لهم فإن كان إبليس عدو اللَّه قد كذب في قوله (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي) فيما أغويتني فتقولون بأن نوحًا - صلوات اللَّه عليه - قد كذب حيث قال: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)، أضاف الإغواء إليه؛ دل هذا على أن إبليس لم يكذب بإضافة الإغواء إلى اللَّه. ولكن عندنا أنه أضاف الإغواء إلى نفسه؛ لما خلق فيه فعل الغواية والضلال، على ما ذكرنا في غير موضع، ليس كما قال هَؤُلَاءِ: إنه أضيف إليه لمكان ما كان منه سبب ذلك؛ لأنه لو جاز أن يضاف فعل الإغواء إليه لسبب الإغواء لجاز أن يضاف ذلك إلى الرسل والأنبياء؛ لأنه كان منهم الأمر لقومهم والدعاء إلى توحيد اللَّه، ثم كذبوا في ذلك؛ فكان سبب إغواء أُولَئِكَ هم الرسل، وذلك بعيد. وكذلك لو كان الإغواء هو اللعن، لكان كل لاعن عليه فهو مغويه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَغْوَيْتَنِي) أي: خذلتني. والوجه فيه: ما ذكرنا: أنه خلق فيه فعل الغواية والضلال، وكذلك من كل كافر خذله؛

(17)

لما علم منه أنه يختار الغواية والضلال. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) هو المكث، ليس على حقيقة القعود، ولكن على المنع عن السلوك في الطريق أو على التلبيس عليهم الطريق المستقيم والستر عليهم؛ لأن من قعد في الطريق منع الناس عن السلوك فيه. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قال: الحسن: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من قبل الآخرة؛ تكذيبًا بالبعث والجنة والنار، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) قال: من قبل دنياهم يزينها لهم ويشهيها إليهم، (وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) قال: من قبل الحسنات يثبطهم عنها، (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) قال: من قبل السيئات يأمرهم بها، ويحثهم عليها، ويزينها في أعينهم. وعن مجاهد: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) قال: من حيث يبصرون (وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) من حيث لا يبصرون. وقيل (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من قبل آخرتهم، فلأخبرنهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث، على ما ذكر الحسن. (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من قبل دنياهم: آمرهم بجمع الأموال فيها لمن بعدهم من ذراريهم وأخوف عليهم الضيعة، فلا يصلون من أموالهم زكاتها، ولا يعطون لها حقها، (وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) من قبل دينهم، فأزين لكل قوم ما كانوا يعبدون، فإن كانوا على ضلالة زينتها لهم، وإن كانوا على هدى شبهته عليهم، حتى أخرجهم منه، (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) من قبل اللذات والشهوات فأزينها لهم. هذا الذي ذكر أهل التأويل يحتمل. ثم ذكر الأمام والخلف وعن أيمان وعن شمال، ولم يذكر فوق ولا تحت؛ فيحتمل أن يدخل ما فوق وما تحت بذكر أمام واليمين والشمال والخلف؛ كقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا

مِنَ السَّمَاءِ)، دخل " ما فوق " بذكر ما بين أيديهم، ودخل " ما تحت " بذكر ما خلفهم؛ فعلى ذلك هذا يدخل " ما تحت " و " ما فوق " بذكر ما ذكر؛ فيصير كأنه قال: فيأتيكم من كل وجه. ويحتمل أنه لم يذكر هذا؛ لما أنه لا سلطان له على منع الأرزاق والبركات؛ لأن أرزاق الخلق والبركات مما ينزل من السماء من المطر، ويخرج من الأرض من النبات؛ فليس له سلطان يمنع إنزال المطر وإخراج النبات من الأرض، وله سلطان على غير ذلك. أو يكون لما يشغلهم ويشهيهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من اللذات والشهوات لما إذا رأى أشياء أعجبته أتبع النظر إليها واحدًا بعد واحد من أمام ووراء ويمين وشمال، ولا كذلك من تحت ولا من فوق أو أن يكون؛ لما رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما تلا هذه الآية قال: إن اللَّه منعه من أن يأتيهم من فوقهم، ولو كان ذلك لما نجا أحد، فأعمالهم تصعد إلى اللَّه، ورحمته تنزل عليهم. وقال قتادة: أتاك اللعين من كل نحو يا ابن آدم، غير أنه لا يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة ربك؛ إنما تأتيك الرحمة من فوقك. والذي ذكرنا أنه على التمثيل أنه يأتيه من كل جانب أشبه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) يخرج على وجهين: أحدهما: ليس على إرادة " بين " و " خلف " و " أيمان " و " شمال " ولكن على إرادة

(18)

الجهات كلها؛ كأنه يقول: لآتينهم من كل جهة. والثاني: ما ذكر الحسن وأهل التأويل: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ): الآخرة تكذيبًا بها، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ): الدنيا تزيينًا بها عليهم، (وَعَنْ أَيْمَانِهِ): الحسنات، (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ): السيئات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ). هذا من عدو اللَّه ظن ظنه لا قاله حقيقة، لكن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنه قد صدق ظنه بقوله: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ). * * * قوله تعالى: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اخْرُجْ مِنْهَا). يحتمل (مِنهَا): من السماء. ويحتمل من الأرض. ويحتمل من الصورة التي كان فيها على ما قلنا في قوله: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا). وقيل: الجنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَذْءُومًا مَدْحُورًا). قيل: [مَذْءُومًا] مَدْحُورًا، أي: مذمومًا ملومًا عند الخلق جميعًا. مدحورًا قيل: مقصيًّا مبعدًا عن كل خير. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: مذءوم ومذموم

(19)

ومدحور واحد مباعد مطرود. وقوله: (اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ). أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يملأ جهنم من إبليس ومن تبعه وأطاعه؛ لأنهم إنما يتبعونه ويطيعونه في الكفر والشرك باللَّه. تعلق الخوارج بظاهر قوله: (لمَن تَبِعَكَ مِنهُمْ)، وكل مرتكب معصية تابع له؛ لذلك استوجب الخلود. وقالت المعتزلة: كل مرتكب كبيرة بوعيد هذه الآية؛ لأنه تابع له. وعندنا: ليس لهم في الآية حجة في تخليد من ذكروا في النار؛ لأنه إنما ذكرت على أثر نقض الدِّين ورد التوحيد؛ فكأنه قال: لمن تبعك في نقض الدِّين ورد التوحيد لأملأن جهنم منكم أجمعين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا ... (19) كان السكون في موضع من القرار فيه والأمن؛ كقوله: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ)؛ لتقروا فيه وتأمنوا؛ فقوله لآدم: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أسكنهما عز وجل ليقروا فيها ويأمنوا من كل ما ينقصهما من تلك النعم التي أنعم عليهما؛ لأن الخوف، مما [ينغص] النعم ويذهب بلذتها، فلما أسكنهما عَزَّ وَجَلَّ الجنة أمنهما عن ذلك كله. ثم فيه أن أول المحنة والابتلاء من اللَّه لعباده إنما يكون بالإنعام والإفضال عليهم، ثم بالجزاء والعدل بسوء ما ارتكبوا؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ امتحن آدم أولًا بالإفضال والإنعام عليه؛ حيث أسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، ووسع عليه نعمه، ثم امتحنه بالشدائد وأنواع المشقة؛ جزاء ما ارتكبوا من التناول من الشجرة التي نهاه عن قربالها، فهو ما ذكرنا أن أشرط، امتحانه عباده في الابتداء يكون بالإفضال والإنعام، ثم بالعدل والجزاء لسوء صنيعهم.

ألا ترى أنه قال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أخبر أن ما يصيبنا هو من كسب أيدينا وهو جزاء ما كسبنا. وفيها وفي غيرها من القصص والذكر دليل إثبات، رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته؛ لأنه أخبر عما كان من غير أن اختلف إلى أحد ممن يعرف ذلك ولا نظر في الكتب التي فيها ذكرها، دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى. ثم اختلف أهل التأويل في الجنة التي أسكن عَزَّ وَجَلَّ آدم فيها وزوجته: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي الجنة التي يكون عود أهل الإسلام إليها في الآخرة، ولهم وعد عَزَّ وَجَلَّ تلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي جنة أنشأها لآدم ليسكن فيها في السماء، ولكن لا ندري ما تلك الجنة، وليس لنا إلى معرفة تلك الجنة حاجة، إنما الحاجة إلى ما ذكر من المحن. واختلف -أيضًا- في الشجرة التي نهي آدم عن قربانها: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة العلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة الحنطة. وقد ذكرنا أقاويل أهل التأويل واختلافهم في صدر الكتاب قدر ما حفظناه. وكذلك اختلفوا في وسوسة الشيطان لآدم وحواء: أنه كيف وسوس إليه ومن أين

(20)

كان، وهذا -أيضًا- قد ذكرناه في تلك القصة. والحسن يقول: إنما وسوس إليهما من الدنيا لا أن كان دخل الجنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وسوس إليهما من رأس الجنة ومن فيها بكلمتهما. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ). لم يرد به الدنو منها، ولكن أراد الذوق والأكل منها؛ لأنه قال: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ) دل أن النهي لم يكن للدنو منها، ولكن للذوق والأكل منها. وفيه: أن الامتحان من اللَّه مرة يكون بالحل، ومرة يكون بالحرمة؛ لأنه أذن له التناول مما فيها من أنواع النعم، وحرم عليه التناول من واحدة منها؛ فذلك محنة منه، ثم النهي عن التناول من الشيء يخرج على وجوه: أحدها: ينهى بحق الحرمة لنفسه، وينهى بحق إيثار الغير عليه، وينهى عن التناول منه لداء فيه وآفة، وينهى لما يخرج التناول منها بحق الجزاء فلم يكن بعد وقت الجزاء له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا ... (20) قوله: (مَا وُورِيَ) أي: ستر وغطي، وسوءاتهما: عورتهما، والسوءة: العورة في اللغة.

وفيه أنه يجب أن نكون على حذر من شر إبليس اللعين؛ لئلا يجد فرصة علينا؛ فإنه أبدًا على سلب النعم التي أنعمها اللَّه على عباده، حيث احتال كل حيلة؛ حتى أبدى لهما ما ووري وستر عنهما من العورة وعمل في إخراجهما من النعم واللذات، وأوقعهما في الشدائد والمشقة. وفيه أنه ليس حال عليه أشد من أن رأى أحدًا في النعم والسعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) قد ذكرنا معنى هذا -أيضًا- في صدر الكتاب.

(21)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) قال الحسن قاسمهما في وسوسته إياهما إني لكما لمن الناصحين وهذا الذي يقول الحسن يومئ إلى أن آدم قد علم أنه الشيطان. وقال أبو بكر الكيساني: إنه قد وقع عند آدم أن الشجرة التي نهاه ربه أن يتناول منها هي المفضلة على جميع الشجر، فلما وسوس إليه الشيطان، وقال له ما قال: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى)؛ فوافق ظنُّه قول اللعين وما دعاهما إليه، ثم اشتغل فنسي ذلك؛ فتناول على النسيان، والنسيان على وجهين: نسيان الترك على العهد، ونسيان السهو، ولا يحتمل أن يكون آدم ترك ذلك عمدًا؛ فهو على نسيان السهو، إلى هذا يذهب أبو بكر الأصم أو كلام نحوه. وقرأ بعضهم قوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلِكَيْنِ)، بكسر اللام من الملك؛ ذهب في ذلك إلى ما قال: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى). وقراءة العامة الظاهرة: (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ)، بنصب اللام من الملائكة، وقد ذكرنا جهة رغبة آدم في أن يصير ملكًا؛

(22)

حيث تناول منها، في صدر الكتاب على قدر ما حفظنا. * * * قوله تعالى: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ)، أي: أوردهما، يقال: دلاني فلان بحبل غرور، أي: أنه زين ألك، القبيح حتى يرتكبه، وأصل التدليه من الدلو، وهو من الدعاء، أي: دعاهما بغرور، ودعاؤه إياهما بغرور، هو قوله: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ

الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى)، وقوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ). وقوله: (بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا). فَإِنْ قِيلَ: كيف خصّ السوءة بالذكر، ومنته في اللباس في كل البدن لا في السوءة خاصة؟ وكذلك قوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ)، ذكر منته فيما أنعم علينا من ستر العورة وذلك في العورة وفي غيرها من البدن في دفع البرد والحرّ وغير ذلك؟! قيل: لأن كشف العورة مستقبح في الطبع والعقل جميعًا، وأما كشف غيرها من البدن فليس هو بمستقبح في الطبع ولا في العقل، وربما يبدي المرء لغيره من البدن سوى العورة عند الحاجة، ويستر عند غير الحاجة، وأما العورة فإنه لا يبديها إلا في حال الضرورة؛ لذلك كان ما ذكر. أو أن يقال: إن المفروض من الستر هو قدر الضرورة، والآخر يلبسه: إما بحق التجمل، وإما بحق دفع البرد والحرّ والأذى؛ لذلك كان تخصيصه بالذكر، وإلا المنة والنعمة عظيمة في لباس غيره من البدن. فَإِنْ قِيلَ: إن اللَّه كنى عن الجماع مرة باللمس ومرة بالغشيان، وعن الخلاء بالغائط، وهو المكان الذي تقضى فيه الحوائج، وكذلك جميع ما لا يستحسن ذكره

مصرحًا فإنما ذكره بالكناية، وهاهنا ذكر السوءة في العورة؟! قيل: السوءة والعورة هما كناية، لم يذكر الفرج ولا الذكر والدبر؛ فهو كناية. والثاني في ذكر تخصيص السوءة؛ وذلك أن قصد الشيطان إنما كان إلى إبداء عورتهما لا غير. ألا ترى أن ذلك لم يجعل لغير البشر عورة تستر؛ ولذلك خصّ الستر بالقبر إذا مات يقبر؛ لأجل عورته، ولا يقبر غيره من الدواب إذا هلك، ولا يستر في حال حياته؛ فخرج ذكر تخصيص السوءة لما ذكرنا أن اللعين قصد بذلك قصد إبداء عورتهما لا غير. ألا ترى أنه قال: (لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا) كان قصده إلى ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: طفقا، أي: أخذا، تقول طفقت أفعل كذا، أي: أخذت، والخصف: الخياطة في النعل والخف، وهو مستعار هاهنا. وقال مجاهد: يخصفان، أي: يرفعان كهيئة الثوب. وقيل: يخصفان: يغطيان. ثم قوله: (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ). إما حياء أحدهما من الآخر أو حياء من اللَّه تعالى؛ ولهذا نقول: إنه يكره للرجل في الخلوة أن يكشف عورته ويبديها، وعلى ذلك روي في الخبر أنه قال: " فاللَّه أحق أن

يُستَحيا منه " أو حياء أحدهما من الآخر؛ لما بدت لكل واحد منهما عورة صاحبه؛ ولهذا كره أبو حنيفة - رحمه اللَّه - أن ينظر الرجل إلى فرج زوجته، والمرأة إلى فرج زوجها. أو لما وقع بصر كل واحد منهما على عورته؛ فذلك يكره -أيضًا- أن ينظر المرء إلى فرجه. ألا ترى أنه قال: (لِيُبْدِيَ لَهُمَا) ولم يقل: ليبديهما؛ فهذا يدل على أنه لا ينبغي أن ينظر إلى فرج زوجته، ولا الزوجة إلى فرجه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ. . . . .) الآية. يحتمل قوله: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا) وحيا أوحى إليهما على يدي ملك؛ كقوله: (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) أضاف إلى نفسه؛ لما ينفخ فيه بأمره؛ فعلى ذلك هذا. أو إلهامًا؛ ألهمهما كقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ). وكقوله: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ). وكقوله (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)، ونحوه؛ وإنما هو إلهام.

(23)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ... (23) حيث أوقعناها في الشدائد وكد العيش. والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)، قال الحسن هن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه؛ بقوله: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ)، قال آدم ما

ذكر في الآية، وكذلك قال نوح: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وقال إبراهيم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، وقال نوح: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا) بعضه خرج على الأمر، وبعضه على السؤال، وكله على الدعاء والسؤال ليس على الأمر، وإن خرج ظاهره مخرج الأمر؛ لأن الأمر ممن هو دونه لمن فوقه دعاء وسؤال، وممن هو فوقه لمن دونه أمر، لو أن ملكًا من الملوك إذا أمر بعض خدمه بأمر أو بعض رعيته فهو أمر، وإذا أمره بعضُ خدمه أو رعيته - الأميرَ - شيئًا، فهو ليس بأمر، ولكنه سؤال ودعاء؛ فعلى ذلك دعاء الأنبياء - عليهم السلام - ربهم. فَإِنْ قِيلَ: إن الرسل سألوا ربهم المغفرة لزلاتهم، فلا يخلو: إما أن أجيبوا في ذلك، أو لم يجابوا؛ فإن لم يجابوا فيما سألوا، فهو عظيم، وإن أجيبوا في ذلك - والمغفرة في اللغة: الستر - كيف ذكرت زلاتهم في الملأ إلى يوم القيامة؟ قيل: لوجوه:

أحدها: أنهم لما ارتكبوا تلك الزلات عظم ذلك عليهم، واشتغلت قلوبهم بذلك؛ لعظيم ما ارتكبوا عندهم، لم يخطر ببالهم عند سؤالهم المغفرة ستر ذلك على الناس، وكتمانها عنهم بعد أن أجاب اللَّه بالتجاوز عنهم في ذلك. أو أن يقال: أراد بإفشاء ذلك وإظهاره إيقاظ غيرهم وتنبيههم في ذلك؛ ليعلموا أن الرسل مع جليل قدرهم، وعظيم منزلتهم عند اللَّه لم يحابهم في العتاب والتوبيخ بما ارتكبوا؛ فمن دونهم أحق في ذلك. أو أن ذكر ذلك؛ ليعلموا أنه ليس بغافل عن ذلك، ولا يخفى عليه شيء، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)، وقال: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، وقال: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، فأعلمنا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن آدم نسي أمر ربِّه؛ فقال قوم من أهل العلم: أكل آدم من الشجرة وهو ناس لنهي اللَّه إياه عن أكلها، وكان أكله منها ظلمًا منه لنفسه وعصيانًا لربِّه، وإن كان فعل ذلك ناسيًا. ثم إن اللَّه تفضل على أمة مُحَمَّد؛ فرفع عنهم في الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. وقال قوم يعني قوله: (فَنَسِيَ) أي: ترك أمر ربه من غير نسيان، وقالوا: هذا كقول اللَّه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم). ولا ندري كيف كان ذلك. وقال بعض أهل العلم: إن الخطأ والنسيان في الأحكام موضوع بهذا الحديث، فيقال: فما تقولون في قتل الخطأ: هل فيه الدية والكفارة؛ وما تقولون في رجل

أفسد متاع رجل وأحرقه ناسيًا أو مخطئا؟ فإن قالوا: ذلك لازم عليه؛ قيل فكيف قلتم: إن الحديث جاء في الأحكام، وأنتم توجبون الضمان؟ وقَالَ بَعْضُهُمْ وجه الحديث عندنا: أن الأمم قبل أمتنا كانت مأخوذة بالخطأ والنسيان فيما بينها وبين ربها، فرفع اللَّه تعالى الحرج عن هذه الأمة في ذلك؛ تفضلًا منه علينا من بين الأمم، فأما الغرامات والضمانات في الأحكام التي بين الناس فهي لازمة لهم خطأ فعلوا أو عمدا، واللَّه أعلم. وفي قوله: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) دلالة النقض على المعتزلة؛ لأنهم

يقولون: الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر. ثم من قوله: إن الرسل والأنبياء معصومون عن الكبائر، فزلة آدم لا شك أنها صغيرة لما ذكرنا، ثم قال: إن لم يغفر لكان من الخاسرين فإذا لم يكن له أن يعذبه فيصير وكأنه قال أجرمت وخطئت علينا لتكونن من الخاسرين، وفائدة تقدير آدم وحواء أن يكونا من الملائكة

(24)

لأن المَلَكَ كما ذكرنا أنه لا يفتر عن العبادة، ولا يعصي. . . ربه، ولا يحتاج إلى شيء من المؤنة، ومن قرأ: ملكين؛ لأن الملك يكون نافذ الأمر والنهي في مملكته، وذلك مما يرغب فيه. أو أن يكون أراد بذلك؛ ليشغلهما عن نهي ربهما؛ حتى ينسيا ذلك فيتناولا من تلك الشجرة على ما فعلا وفيما ذكر الخلود لأنه ليس بشيء ألذ ولا أشهى من الحياة. والأشبه أن يقال: إنه لم ينسيا نهي اللَّه إياهما عن التناول منها ولكن نسيا قوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)؛ لذلك تناولا، ولو ذكرا قوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) ما تناولا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ... (24)

(25)

عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: آدم وحواء وإبليس والحية. وقال الحسن: آدم ووسوسة الشيطان لأن من قوله: إن الشيطان لم يكن في السماء، إنما وسوس آدم وحواء من بعد؛ فالأمر بالهبوط لوسوسة الشيطان؛ ولذلك بقت في أولاده إلى يوم القيامة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: دل قوله: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) على أن الأمر بالهبوط إنما كان من السماء وكانوا في السماء. ثم قوله: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) كأن الأمر بالهبوط لم يكن معًا؛ لأن إبليس أمر بالهبوط حين أبى السجود وآدم وحواء حين تناولا من الشجرة، ثم جمعهم في الأمر بالهبوط؛ ليعلم أن ليس في الجمع بالذكر دلالة وجوب الحكم والأمر مجموعًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اهْبِطُوا) لا يفهم منه الهبوط من الأعلى. ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (اهْبِطُوا مِصْرًا) أي انزلوا فيه. وقوله: (عَدُوٌّ)، وهو عدو لنا إما بالكفر، وإما بالسعي في هلاكنا، وكل من يسعى في هلاكنا فهو عدو لنا ونحن عدو له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ). قيل: إلى منتهى آجالكم، وإبليس: إلى النفخة الأولى. ويشبه أن يكون هذا ليس على التوقيت، ولكن على الدوام والقرار فيها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) قيل: الأرض فيها تعيشون، وفيها تموتون عند انقضاء آجالكم، ومنها تخرجون في القيامة. * * * قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ

(26)

عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا ... (26) قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والحسن: أنزلنا ماء القراح من السماء ليتخذ منه اللباس ما يواري عوراتهم، ويتخذ منه الطعام والأشياء التي بها قوام أنفسهم. ويحتمل قوله: (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) أنزل الماء والأسباب التي بها يتخذ اللباس والأطعمة والأشربة، والعلم في ذلك الماء والأسباب، والعلم بذلك، وإلا ما عرف الخلق أن كيف يتخذ ذلك لباسًا والأطعمة والأشربة. وفيه دليل إثبات الرسالة؛ لأنهم لم يعرفوا ذلك إلا بوحي من السماء. أو أن يكون قوله: (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا)، أي: جعل لكم وأنشأ لكم ما تتخذون منه اللباس والطعام والشراب ليس على الإنزال، ولكن على أن جعل لكم ذلك؛ كقوله: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ). وقوله: (جَعَلَ لَكمُ) أي: أنشأ لكم (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ)، وهو أن خلق لنا ذلك. وفيه دليل خلق أفعال الخلق؛ لأنه إنما صار طعامًا بفعل من العباد لا أنه أنزل من السماء هكذا، ثم أخبر أنه جعل ذلك لنا، دل أنه خلق فعل الخلق فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرِيشًا)، قَالَ بَعْضُهُمْ: مالًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: معاشا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الريش والرياش: ما ظهر من اللباس، وريش ما ستر به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى). في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى)، بالرفع على الابتداء أي

لباس التقوى خير، ومن نصبه -أيضًا- فإنما ينصبه على الجواب لما تقدم؛ وإلا الحق فيه الرفع. ثم اختلف فيه أهل التأويل قال الحسن: لباس التقوى: الدِّين. وقال أبو بكر الأصم: القرآن.

وقيل: العفاف. وقيل: الحياء. وقيل: الإيمان، فكله واحد، أي: كل ما ذكر من لباس التقوى خير من اللباس الذي ذكر؛ لأن الدِّين والإيمان والقرآن والحياء يزجره ويمنعه من المعاصي فهو خير لأنه لباس في الدنيا والآخرة؛ لأن المؤمن التقي العفيف الحيي لا يبدو له عورة، وإن كان عاريًا من الثياب وأن الفاجر لا يزال تبدو منه عورته، وإن كان كاسيا من الثياب، لا يتحفظ في لباسه؛ فلباس التقوى خير، وهو كقوله (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) هذا التأويل للقراءة التي تقرأ بالرفع: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) على الابتداء. وأمَّا من قرأ بالنصب فهو رده إلى قوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا)، ثم أنزلنا عليكم -أيضًا- لباسًا تتقون به الحر والبرد والأذى؛ فيكون فيه ذكر لباس سائر البدن، وفي الأول ذكر لباس العورة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ). يحتمل قوله: (ذَلِكَ) الذي اتخذ منه اللباس والأطعمة والأشربة من آيات الرسالة؛ لأن كل ذلك إنما عرف بالرسل بوحي من السماء، وهو ما ذكرنا أن فيه دليل إثبات الرسالة. ويحتمل ذلك من آيات اللَّه أي: من آيات وحدانية اللَّه وربوبيته؛ لما جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بعد ما بينهما؛ دل ذلك أن منشئهما ومدبرهما واحد؛ لأنه لو كان تدبير اثنين، ما اتسق تدبيرهما؛ لاتصال منافع أحدهما بالآخر.

(27)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). أي: لعلهم يوفقون للتذكير، ولعلهم يتقون، أي: لعلهم يوفقون للتقوى، ولعلهم يوفقون للشكر لأنه حرف شك هذا يحسن أن يقال، واللَّه أعلم، أو نقول: لكي يلزمهم التذكر والتشكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ... (27) قَالَ بَعْضُهُمْ: خاطب به أهل مكة في تكذيبهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومخالفتهم أمره في ألا يخرجكم من الأمن والسعة، كما أخرج أبويكم من دار الأمن والسعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) أي: احذروا دعاءه إلى ما يدعوكم إليه؛ فإنه يمنع عنكم في الآخرة الكرامة والثواب؛ كما أخرج أبويكم من دار الكرامة والمنزلة. وقال أهل التأويل (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ)، أي: لا يضلنكم الشيطان ويغويكم، كما فعل بأبويكم: أخرجهما من الجنة. وقال آخرون: قوله: (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) بما تهوى أنفسكم، ومالت إلى شهواتها وأمانيها، كما أخرج أبويكم من الجنة بما هوته أنفسهما واشتهائهما، يحذرهم اتباع هوى النفس وشهواتها وأمانيها؛ فإن السبب الذي به كان إخراجهما هو هوى النفس وأمانيها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا). يحتمل قوله: (يَنْزِعُ) أي: نزع، عنهما لباسهما وهذا في القرآن كثير يفعل بمعنى فعل. ويحتمل على الإضمار؛ كأنه قال: أراد أن ينزع عنهما لباسهما؛ ليريهما سوءاتهما، وقد ذكر أن المفروض من الستر هو ستر العورة لا غير، احتيج إليه أو لم يحتج، وأمَّا غيره من الستر فإنما هو لدفع الأذى من الحر والبرد أو للتجمل، والمفتون بالشيء هو المشغوف به والمولع به. يقول: لا يمنعنكم عن دخول الجنة، كما أخرج أبويكم من الجنة، وكان قصده ما

ذكر من نزع اللباس وإبداء العورة وهو ما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ). قيل: قبيله: جنوده وأعوانه، حذرنا إبليسَ وأعوانَه؛ بما يروننا ولا نراهم، فإن قيل: كيف كلفنا محاربته، وهو بحيث لا نراه وهو يرانا ومثله في غيره من الأعداء لا يكلفنا محاربة من لا نراه أو لا نقدر القيام بمحاربته وليس في وسعنا القيام بمحاربة من لا نراه؟ قيل إنه لم يكلفنا محاربة أنفسهم، إذ لم يجعل، له السلطان على أنفسنا وإفساد مطاعمنا ومشاربنا وملابسنا، ولو جعل لهم لأهلكوا أنفسنا وأفسدوا غذاءنا، إنما جعل له السلطان في الوساوس فيما يوسوس في صدورنا، وقد جعل لنا السبيل إلى معرفة وساوسه بالنظر والتفكر، نحو قوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. . .) الآية، وقوله - تعالى -: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) علمنا ما به ندفع وساوسه وهمزاته، وجعل لنا الوصول إلى دفع وساوسه بحجج وأسباب جعلت لنا، فهذا يدل على أن اللَّه يجوز أن يكلفنا بأشياء لم يعطنا أسباب تلك الأشياء، بعد أن جعل في وسعنا الوصول إلى تلك الأسباب، وإن لم يكن لنا وقت التكليف تلك الأسباب، من نحو: الأمر بالصلاة، وإن لم نكن على الطهارة؛ إذ جعل في وسعنا الوصول إلى الطهارة، ونحو الأمر بأداء الزكاة، وإن لم

يكن وقت الأمر من نؤدي إليه حاضرًا، أو نحو الأمر بالحج وغيره من العبادات، وإن كان لا يصل إلى أداء ما افترض عليه إلا بعد أوقات مع احتمال الشدائد، وهذا يرد - أيضًا - على من يقول: إنه لا يلزم الأوامر والمناهي من جهلها، ولا يكلف إلا بعد العلم بها؛ لأنه يتكلف حتى لا يلزمه فرض من فرائض اللَّه وعبادة من عباداته؛ لأنه لا يكسب أسباب العلم؛ لئلا يلزمه ذلك، فهذا بعيد محال، والوجه فيه ما ذكرنا، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ). اختلف أهل الاعتزال فيه؛ قال أبو بكر الأصم: الجعل من اللَّه على وجوه: أحدها: السبب أي: أعطينا لهم السبب الذي به صاروا أولياء لهم، كما يقول الرجل لآخر: جعلتُ لك الدار والعبيد والمال، وهو لم يجعل له ذلك، ولكن أعطاه ما به صار ذلك، وهو إنما أعطاه سبب ذلك؛ فيضاف ذلك إليه؛ فعلى ذلك ما أضاف الجعل إليه؛ لما أعطاه السبب. وقال جعفر بن حرب: " الجعل " هو التخلية، خلى بينهم وبين أُولَئِكَ؛ فأضاف ذلك إليه بالجعل، كما يقال للرجل: جعلت عبدك قتالًا ضرابًا، إذا خلى بينه وبين ما يفعله، وهو قادر على منعه عن ذلك، فعلى ذلك فبما أضاف الجعل إلى نفسه: هو أن خلى بينهم وبين أُولَئِكَ، يعملون ما شاءوا.

(28)

وقال الحسن: من حكم اللَّه أن من عصى يكون عدوا له، ومن أطاع يكون وليًّا له، ومن أطاع الشيطان فهو وليه، ومن عصاه يكون عدوًّا له؛ فكذا حكم اللَّه - تعالى - في كل من أطاعه يكون وليًّا له، ومن عصاه يكون عدوًا له. وقال غيرهم من المعتزلة قوله: (جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)، أي: وجدناهم كذلك أولياء لهم. ولكن لو جاز إضافة ذلك إلى اللَّه - تعالى - كما ذكر هَؤُلَاءِ - لجاز إضافة ذلك إلى الأنبياء؛ لأنه قد كان منهم التخلية في ذلك، والتسمية لهم بذلك، والحكم على ما قال الحسن، فإذا لم يجز إضافة ذلك إليهم؛ دل أنه قد كان من اللَّه في ذلك صنع لم يكن ذلك من الأنبياء، وهو أن خلق منهم فعل الولاية لهم؛ لما علم منهم أنهم يختارون ولايتهم ويتولونهم؛ كقوله: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ)، وبالله العصمة والنجاة. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً). قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كل معصية فاحشة، والفاحشة: كل ما عظم فيه النهي، فإذا ارتكبوا ذلك فهو فاحشة. وقال مجاهد: فاحشتهم أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة. وقال غيره من أهل التأويل: الفاحشة هو ما حرموا من الحرث والأنعام والبنات، وغيره من نحو السائبة والحامي وغيره، لكن الفاحشة ما ذكرنا: أن كل ما عظم النهي فيه والزجر فهو فاحشة، والفاحشة هو ما عظم من الأمر، يعرف ذلك بوجهين:

أحدهما: يعظم ذلك في العقل، والثاني: بالسمع يرد فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا). ادعوا في ذلك أمر اللَّه ورضاه به، ويقولون: لو لم يرض بذلك ولم يأمر، لكان ينكلهم وينتقم منهم، يعنون آباءهم، فاستدلوا بتركهم وما فعلوا على أن اللَّه قد كان رضي بذلك، وأمرهم أن يفعلوا ذلك؛ فدل تركه إياهم على ذلك على أنه قد أمرهم بذلك، ورضي عنهم؛ كمن يخالف في الشاهد ملكًا من الملوك في أمره ونهيه، فإنه ينكله على ذلك وينتقم منه؛ إذا كان قادرًا على ذلك، فإذا لم يفعل ذلك به دل ذلك منه على الرضا به؛ فعلى ذلك اللَّه: لما لم ينتقم منهم ولم ينكلهم، دل ذلك على الرضا والأمر به. والثاني: كأنهم أخذوا ذلك من المسلمين لما سمعوا من المسلمين قالوا: " ما شاء الله كان " ظنوا أن ما كان من آبائهم كان بأمر من اللَّه ورضاه، لم يفصلوا بين المشيئة والأمر: المشيئة والإرادة هي صفة فعل كل فاعل يفعله على الاختيار، نحو أن يقال: شاء فعل كذا، أو أراد أمر كذا، ولا يجوز أن يقال: أمر نفسه بكذا، أو نهى نفسه عن كذا. وأما قولهم: إن لم ينكل آباءهم، ولم ينتقم منهم بما فعلوا، دل أنه رضي بذلك، فيقال: إن فيهم من فعل على خلاف فعلهم وغير صنيعهم ضد ما فعل أُولَئِكَ، ثم لم يفعل بهم ذلك؛ فهل دل ذلك على الرضا منه بذلك؛ فإن قلتم: بلى فقد رضي بفعلين متضادين. وإن قلتم: لا فكيف دل ذلك في أُولَئِكَ على الرضا والأمر، ولم يدل فيمن فعلوا بخلاف فعلهم؛ فهذا تناقض؟! وقد ذكرناه فيما تقدم، واللَّه أعلم. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُل) لهم يا مُحَمَّد. (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). إن اللَّه أمر بهذا وحرم هذا، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) الفحشاء: هو ما ذكرنا ما عظم النهي فيه، أو كل ما يشتد فيه النهي ويغلظ أو يكثر هو الفحشاء. ألا ترى أنه يقال لكل شيء يكثر: فحش، من نحو الكلام وغيره أنه إذا خرج عن حده

(29)

وجاوزه يقال: فحش؛ فعلى ذلك الفحشاء - هاهنا - هو ما جاوز حده في القبح، أو جاوز الحد من الكثرة، وهم قد أكثروا الافتراء على اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: بل تقولون على اللَّه ما لا تعلمون: إنه أمر بذلك. وقيل: قوله: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ) أي: تعلمون أنكم تقولون على اللَّه ما لا تعلمون؛ لأنهم لم يكونوا يؤمنون بالرسل، ولا كان لهم كتاب، فكيف تعلمون أن اللَّه أمركم بذلك، وهو كقوله: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) لا يجوز ألا يعلم اللَّه، ولكن على النفي لذلك، ليس كما تقولون وتنبئون، ولكن يعلم خلاف ذلك وضده، ويكون في نفي ذلك إثبات غيره؛ فعلى ذلك يعلمون أنهم يقولون على اللَّه ما لا يعلمون. وأسباب العلم بهذا: إما الرسل يخبرون عن اللَّه ذلك، وإما الكتاب يجدونه فيه مكتوبًا، فيعلمون فتتسع الشهادة بذلك، وهم قوم لا يصدقون الرسل، ولا يؤمنون بخبرهم، وليس لهم كتاب -أيضًا- يقرءونه، فما بقي إلا وحي الشيطان إليهم؛ كقوله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ... (29) والقسط: هو العدل في كل شيء: في القول والفعل وغيره، كقوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)، وكقوله - تعالى -: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ). وأصل العدل: هو محافظة الشيء على الحد الذي جعل له، ووضعه موضعه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ). اختلف فيه؛ قيل: (أَقِيمُوا)، أي: سووا وجوهكم نحو الكعبة، (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، أي: في كل مكان تكونون فيه، وهو كقوله: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي: اجعلوا بيوتكم نحو الكعبة؛ كقوله - تعالى -: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). وقيل: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ)، أي: اجعلوا عبادتكم لله، ولا تشركوا فيها غيره؛ كقوله: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، ويشبه أن يكون الوجه كناية وعبارة عن الأنفس؛ كأنه قال: أقيموا أنفسكم لله، لا تشركوا فيها لأحد شركًا كقوله: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ) أي بجعل نفسه لله سالمًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). يحتمل الدعاء نفسه، أي: ادعوه ربًّا خالقًا ورحمانًا، (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ): بالوحدانية والألوهية والربوبية. ويحتمل قوله: (وَادْعُوهُ)، أي: اعبدوه مخلصين له العبادة، ولا تشركوا غيره فيها. ويحتمل: أي دينوا بدينه الذي دعاكم إلى ذلك وأمركم به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). قال قائلون: هو صلة قوله: (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ)؛ كأنهم سألوا مما يعودون إذا بعثوا، فقال: (كَمَا بَدَأَكُم): خلقكم، (تَعُودُونَ) مثله. ويحتمل أن يكون هو صلة قوله: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)، يعودون كما كانوا في البداءة: الكافر كافرًا، والمؤمن مؤمنًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ): هو من الدائمة، ليس من الابتداء؛ لأنه

(30)

لا يجوز أن يقال لصبي: كافر أو مؤمن، وهو الدوام والمقام فيه إلى وقت الموت، وهو في الدنيا البداءة، وفي الآخرة الإعادة، وهو كقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وقوله: (يَبْدَأُ) ليس يريد ابتداء نشوئه؛ ولكن كونه في الدنيا؛ فعلى ذلك قوله: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. . . . .) الآية، يخرج على وجهين: أحدهما، أي: كما كنتم في الدنيا تعودون في الآخرة كذلك: المؤمن مؤمن والكافر على كفره. والثاني: كما أنشأكم في الدنيا لا من شيء؛ فعلى ذلك يبعثكم كذلك، لا يعجزه شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرِيقًا هَدَى ... (30) بما هداهم اللَّه بفضله. (وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ). بما اختاروا من فعل الضلال؛ فأضلهم اللَّه؛ كقوله: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) وقوله: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).

(31)

فيه دلالة لزوم الحجة والدليل في حال الحسبان والظن إذا كان بحيث الإدراك والوصول إليه؛ لأنه قال: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)، فيه أنهم عند أنفسهم مهتدون، ولم يكونوا، ثم عوقبوا على ذلك؛ دل أن الدليل والحجة قد يلزم، وإن لم يعرف بعد أن كيف يكون سبيل الوصول إلى ذلك، وهذا يرد قول من يقول بأن فرائض اللَّه لا تلزم إلا بعد العلم بها والمعرفة. * * * قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ). يحتمل أن يكون الخطاب - وإن خرج مخرج الأمر - بأخذ الزينة واللباس، فهو على النهي عن نزعها؛ لأن الناس يكونون آخذين الزينة وساترين عوراتهم غير بادين بها فإذا كان كذلك فهو على النهي عن نزع لباسهم وإبداء عوراتهم، وهو ما ذكر في بعض القصة أن أهل الشرك كانوا إذا طافوا بالبيت نزعوا ثيابهم، ويقولون: لا نطوف في ثيابنا التي أذنبنا فيها، فإن كان التأويل ما قال ابن عَبَّاسٍ وهَؤُلَاءِ: فيكون فيه إضمار؛ كأنه قال: خذوا زينتكم عند هذا المسجد، كما تأخذون عند كل مسجد سواء. وإلا خرج تأويل الآية على وجوه: أحدها: يقول: صلوا في كل مسجد، ذكر هذا لمن لا يرى الصلاة إلا في مسجده، على ما روي: " أن لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ". والثاني: يقول: صلوا بكل مسجد، وبكل مكان؛ كقوله - عليه السلام -:

" جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسجِدًا وَطَهُورًا ". والثالث: بجعل الزينة العبادة نفسها؛ بقوله: (خُذُوا زِينَتَكُمْ). ويحتمل ما ذكره أهل التأويل: كانوا يستعيرون من أهل مكة ثيابًا يطوفون فيها، فإن لم يجدوا بها طافوا فيها عراة بادين عوراتهم، فنهاهم اللَّه - تعالى - عن ذلك، وقال: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، أي: لا تنزعوا ثيابكم التي على عوراتكم؛ فهو على النهي عن نزع الثياب وإبداء العورة، وكذلك قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا). يخرج على النهي عما حرموا على أنفسهم من أنواع المنافع والنعم التي أحل اللَّه لهم: من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ومن نحو ما حرموا من الزرع والطعام، وكقوله: (وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا). خرج قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) على النهي عما حرموا مما أحل لهم، لا على الأمر بالأكل والشرب؛ لأن كل أحد يأكل ويشرب، ولا يدع ذلك؛ فدل أنه خرج على النهي عما حرموا؛ كأنه قال: لا تحرموا ما تحرمون، ولكن كلوا واشربوا وانتفعوا بها. فإن كان على ابتداء الأمر بأخذ الزينة، فهو - واللَّه أعلم - أمر بأخذ الزينة والتجمل عند كل مسجد، والمسجد هو مكان كل عبادة ونسك، على ما يكون في غير ذلك من الأوقات يتزينون ويتجملون عند اجتماع الناس؛ فعلى ذلك يكونون في مكان العبادة والنسك. أو أن يكون لما في المسجد من اجتماع الناس للعبادة، فأمروا بستر عوراتهم في ذلك.

(32)

ويكون قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا)، أي: كلوا واشربوا واحفظوا الحدّ في ذلك ولا تجاوزوه، وهو نهي عن الكثرة. أو ما ذكرنا أنه نهاهم عن التحريم وترك الانتفاع بها، وفي تحريم ما أحل اللَّه وترك الانتفاع بها إسراف. (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)؛ لأنه لا يحب الإسراف، وقد ذكرنا أن المفروض من الستر هو ما يستر به العورة، وأما غيره فإنما هو على دفع الأذى والتجمل. ألا ترى أنه قال: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)، وقال: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ)، منَّ علينا بما أنزل مما نستر به عوراتنا، وإن كانت له المنة في الكل، وذلك -أيضًا- قبيح في الطبع أن ينظر أحد إلى عورة آخر، وعلى ذلك جاءت الآثار في الأمر بستر العورة، روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " احفظ عورتك، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك "، فقيل: يا رسول اللَّه؛ فإن كان بعضنا في بعض؟، فقال: " إن استطعت ألا تظهر عورتك فافعل ". فقيل: فإذا كان أحدنا خاليًا، فقال: " فاللَّه أحق أن يُسْتَحْيا منه ". وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة "، ومثله كثير، وفيما ذكرنا كفاية؛ وعلى ذلك يخرج الأمر بالإخبار بستر العورة؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ. . . . .) الآية، لئلا تُرَى عورته؛ لأنه يكون جفاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ... (32)

قال أبو بكر الأصم: الزينة - هاهنا -: هي اللباس؛ لأنه ذكر على أثر ذلك اللباس، وهو قوله: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، والطيبات من الرزق: ما حرموا مما أحل الله لهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغير ذلك، مما كانوا يحرمون الانتفاع به؛ كقوله: (وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ). وقال الحسن: زينة اللَّه هي المرْكَب؛ كقوله: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)، جعل اللَّه ما يركب زينة للخلق، وهم كانوا يحرمون الركوب والانتفاع بها، فقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)، وقال: (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ): ألبانها ولحومها. وقال غيره من أهل التأويل: زينة اللَّه - هاهنا -: النبات وما يخرج من الأرض مما هو رزق للبشر، والدواب جميعًا؛ كقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ. . . .) وكقوله: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) سمى لنا ما أخرج من الأرض: زينة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ). اختلف فيه؛ قال الحسن: هي، يعني: الطيبات خالصة للمؤمنين في الآخرة لا يشاركهم الكفرة فيها، فأمّا في الدنيا فقد شاركوهم؛ فالتأويل الأول يخرج على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: قل هي للذين آمنوا خالصة يوم القيامة، وفي الحياة الدنيا لهم جميعًا؛ كقوله: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ). ويحتمل قوله: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)؛ لأنهم لم يحرموا الطيبات التي أحل اللَّه لهم، بل انتفعوا بها، وحرمها أُولَئِكَ ولم ينتفعوا بها، فكانت هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا؛ لما انتفعوا بها في الدنيا، وتزودوا بها للآخرة، وكانت لهم خالصة يوم القيامة، وإنما كان خالصًا لهم يوم القيامة، لما لا يكون لأهل الشرك ذلك؛ لما لم يتزودوا للمعاد، وقد كانت لهم في الدنيا لو لم يحرموها وانتفعوا بها.

وفي قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) دليل إباحة الزينة والتناول من الطيبات، وقد يحتمل أن يكون خرج على النهي والإنكار على ما كان يفعله أهل الشرك؛ من نحو تحريم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، فقال: قل من حرم ما حرمتم إذا لم يحرمه اللَّه. ألا ترى أنه قال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) يقول - واللَّه أعلم - لم يحرم ما حرمتموه من هذه الأشياء؛ ولكن حرم الفواحش وما ذكر، ولم يذكر جوابهم أنهم ماذا يقولون؛ فهو يخرج على وجهين: إن قالوا: حرمه اللَّه، فيقال لهم: من حرمه وأنتم قوم لا تؤمنون بالرسل والكتب؟! فإن قالوا: حرمه فلان، فيقال: كيف صدقتم فلانًا في تحريم ذلك، ولا تصدقون الرسل فمما يخبرون عن اللَّه - تعالى - مع ظهور صدقهم؟! يذكر سفههم في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ)؛ كأنه يقول: ليس لأحد تحريم ما ذكرنا؛ إنما التحريم إلى اللَّه، وإنما حرم ما ذكر، وقد يحتمل ما ذكرنا من نزعهم الثياب عند الطواف ويطوفون عراة، على ما ذكر في القصة، وإلى هذا يذهب ابن عَبَّاسٍ والحسن وقتادة وعامة أهل التأويل، وعلى ذلك يخرج ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. حيث قال: " ألا لا يطوفن بهذا البيت عريان ولا مُحْدث ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ). أي: نبين الآيات. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). أي: لقوم ينتفعون بعلمهم، أو نقول): (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ)، أي: كذلك نفصل حكم آية من حكم آية أخرى، نفصل هذا من هذا، وهذا من هذا. وقوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) إنه إذا لم يفهم من زينة اللَّه ما يفهم من زينة الخلق - لأن زينة الخلق ما يتزينون به ويتجملون - لا يجب أن يفهم من استوائه استواء الخلق، ولا

(33)

من مجيئه مجيء الخلق؛ لأن استواء الخلق هو انتقال من حال إلى حال، ولا يجوز أن يفهم منه ذلك، على ما لم يفهم من زينة اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... (33) يشبه أن تكون هذه الآية مقابل قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى)، كما خرج آخر الآية وهو قوله: (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)، مقابل الأول وهو قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، والنهي هناك نهي تحريم كالتنصيص على التحريم هاهنا، وتكون الفحشاء التي ذكر في هذه الآية الفواحش التي ذكر في تلك، والمنكر الذي ذكر هاهنا هو الإثم الذي ذكر في تلك، وذكر البغي هاهنا وهنالك. ثم الفحشاء: هو الذي ظهر قبحه في العقل، والسمع. والمنكر: هو الذي ظهر الإنكار فيه على مرتكبه. والإثم هو الذي يأثم المرء فيه.

والبغي: هو من مظالم الناس يظلم بعضهم على بعض.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفواحش هن الكبائر، والإثم هو الصغائر، والبغي هو أخذ ما عصم من مال أو نفس بعقد الإسلام، على ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أمرت أن أقاتل الناس؛ حتى يقولوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "، فكل ما صار معصومًا بالإسلام من مال أو نفس، فأخذ ذلك بغي وظلم إلا ما ذكر بحقها. وأصل البغي هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له. وقال أهل التأويل: الفواحش هي الزنى، ما ظهر منها علانية، وما بطن منها: سرًّا، لكن الفواحش ما ذكرنا أن ما أظهر قبحه، في العقل وفحشه السمع فهو فاحشة، والفواحش هي ما ذكرنا أن ما قبح في العقل والسمع وأفحش فيهما، فهي الفاحشة. وأصل المنكر: كل ما لا يعرف؛ كقول إبراهيم: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) والمنكر: ما أنكره العقل والسمع أيضًا.

(34)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا). أي: وحرم -أيضًا- أن تشركوا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا): ليس على أنه ينزل سلطانًا على الإشراك بحال؛ ولكن على أنهم يشركون باللَّه من غير حجج وسلطان؛ لأن أهل الإسلام هم الذين يدينون بدين ظهر بالحجج والآيات، وهم يدينون بدين لا يظهر بالحجج والآيات، ولكن بما هوت أنفسهم واشتهت. ويحتمل قوله: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا)، أي: عذرًا؛ لأنه يجوز أن يعذر المرء بحال في إجراء كلمة الكفر على لسانه عند الإكراه، ولا يصير به كافرًا إذا كان قلبه مطمئنا بالإسلام ومنشرحًا به؛ كقوله: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) أي: يشركون باللَّه من غير أن ينزل بهم حال عذر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). أي: يعلمون أنهم يقولون على اللَّه ما لا يعلمون أنه حرم كذا، وأمر بكذا. وقوله: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) يحتمل وجهين: أحدهما: أنكم تقولون على اللَّه ما لا تعلمون، هذا على الجهل، والأول على العلم؛ كقوله: (أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ) أي: تنبئون اللَّه بما يعلم أنه ليس ما تقولون. * * * قوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ): هو بعث الرسول إليها أي لا يهلكون إلا بعد، بعث الرسل إليهم، فإذا أتاهم الرسول، فكذبوه وعاندوا، فعند ذلك يهلكون، وهو كقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا). ويحتمل أن لكل أمة أجلًا لا تهلك قبل بلوغ أجلها لا تستأخر ولا تستقدم. فهذا يرد

(35)

على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن من قتل إنما هلك قبل بلوغ أجله، ويجعلون القاتل منه مستقدمًا لأجل ذلك المقتول، واللَّه - تعالى - يقول: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ): إذا جاء لا يستأخرون، وإذا لم يجئ لا يستقدمون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ... (35) قال أهل التأويل: (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)، أي: سيأتينكم رسل منكم، أو سوف يأتيكم يقصون عليكم ثم يحتمل قوله: (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي)، أي: هداي؛ كقوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، فعلى ذلك قوله (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) أي: هداي، (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). ويحتمل الآيات: الحجج والبراهين التي يضطر أهلها إلى قبولها إلا من عاند وكابر. (فَمَنِ اتَّقَى). اتقى الشرك. (وَأَصْلَحَ). وآمن باللَّه وعمل صالحًا. (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). وقوله: (فَمَنِ اتَّقَى) يحتمل: اتقى ما نهى الرسل أو اتقى المهالك، وأصلح فيما أمر به الرسل، أو أصلح أمره وعمله. (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في ذهاب ما أكرمهم به مولاهم ولا فوته؛ لأن [خوف الفوت مما ينقص النعم]. (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ): تبعاته وآفاته: يخبر أن نعيم الآخرة على خلاف نعيم الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) ظاهر تأويلها، وقد ذكرنا في غير موضع حتى لم يأخذوا على أحد منهم.

وفي قوله: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) له على خلقه منن كثيرة ونعم عظيمة، حيث بعث الرسل من جنس المرسل إليهم: أحدها: أن كل ذي جنس وجوهر يستأنس بجنسه وجوهره، ويستوحش بغيره، فمنَّ عليهم؛ حيث بعث الرسل من جنسهم وجوهرهم، يستأنس بعضهم ببعض ويألف بعضهم بعضًا؛ فذلك آخذ للقلوب وأدعى إلى الاتباع والإجابة. والثاني: بعث الرسل من قومهم الذين نشئوا بين أظهرهم، وعرفوا صدقهم وأمانتهم؛ ليعلموا أنهم صادقين فيما يدعون من الرسالة؛ حيث لم يظهر منهم الكذب والخيانة قط، حتى لم يأخذوا على أحد منهم الكذب. والثالث: أن الرسل لو كانوا من غير جنسهم وغير جوهرهم، لم يعرفوا ما أوتوا من الآيات والبراهين أنها آيات وحجج؛ لما لا يعلمون أن وسعهم لا يبلغ هذا، وطوقهم لا يصل إلى ذلك، وإذا كانوا منهم يعرفون ذلك إن أتوا بشيء خرج عن وسعهم أنها آيات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا). قال الحسن: ديننا. ويحتمل (بِآيَاتِنَا) حججنا أي: كذبوا بحججنا، فإذا كذبوا بحججه كفروا به؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يعرف من طريق الحس والعيان؛ ولكن إنما يعرف من طريق الحجج والآيات والدلائل؛ فيكون الكفر بآياته وحججه كفرًا به، ويشبه أن تكون آياته آيات الرسالة وحججها. ويحتمل آياته - هاهنا - رسله، أي: كذبوا برسلنا، سمى رسله آياته؛ لأن أنفس الرسل كانت آيات للخلق تدلهم على وحدانية اللَّه، ورسالتهم من أعلام جعلت من أنفسهم من صدقهم وأماناتهم. (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا). أي: استكبروا عن التدبر فيها والنظر.

(37)

(أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ). لأنهم يصحبون النار والسبب الذي يوجب لهم النار أبدًا؛ فسموا أصحاب النار بذلك؛ كما يقال: صاحب الدار وصاحب الدابة؛ لأنه هو يصحبها دائمًا؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ سموا أصحاب النار؛ لما هم يصحبونها دائِمًا أبدًا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ). قد ذكرنا فيما تقدم أن قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ): إنما هو حرف استفهام وسؤال لم يخرج له جواب، لكن أهل التأويل عرفوا ذلك، فقالوا: لا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه كذبا، أجابوا على ما عرفوا من السؤال؛ وإلا ليس قولهم: لا أحد أظلم، نفس قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ)، أي: لا أحد أفحش ظلمًا ولا أقبح ظلمًا ممن افترى على اللَّه كذبا، مع علمه أنه خالقه، وأنه متقلب في نعمه، وأحاطت به أياديه وإحسانه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أَظْلَمُ): أي لا أحد، أفحش ظلما ولا أقبح ظلمًا ممن افترى على اللَّه كذبًا. وقوله: (افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، قيل: الافتراء هو اختراع الكذب من نفسه من غير أن سبق له أحد في ذلك؛ كقوله: (يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ)، وأما الكذب، فقد يكون مما أنشأ هو أو مما قد سبق له أحد فسمع منه ثم افتراه على الله فهو أنواع: يكون بما قالوا: إن له ولدًا، وقالوا: إن له شريكًا وصاحبة، وبما عبدوا غير الله

وقالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) ويكون ما قالوا، (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) ويكون بما حرموا من أشياء على أنفسهم فأضافوا ذلك إلى اللَّه، ونحو ذلك من الافتراء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ). اختلف فيه: قال الحسن: إن من أطاع اللَّه في أمره ونهيه، وأطاع رسله، فقد كتبت له الجنة خالدًا فيها أبدًا، فذلك نصيبه وحظه من الكتاب الذي كتب له، ومن عصى اللَّه وخالف رسله، كتبت له النار خالدا فيها أبدًا، فهو نصيبه من الكتاب. وقال أبو بكر الكيساني: في قوله: (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ)، أي: حظهم من الخير والعقاب في الآخرة، وهو قول الْقُتَبِيّ ويحتمل وجهين آخرين غير هذين: أحدهما: ما حرفوا من الكتب وغيروها، ثم أضافوا ذلك ونسبوه إلى اللَّه؛ كقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وقوله - عز وجل -: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، فصار ما حرفوا هم وغيروه سنة فيهم يعملون بها إلى يوم القيامة، فينالون هم جزاء ذلك يوم القيامة. والثاني: قوله: (يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ) مما كتب لهم من الرزق والنعمة، يستوفون ذلك المكتوب لهم، ثم يموتون. ثم قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ). على هذا التأويل جاءتهم الرسل بقبض أرواحهم، وهو ظاهر.

(38)

وعلى تأويل من حمل ذلك على الجزاء في الآخرة: فهو يجعل المتوفَى في النار؛ لشدة العذاب، وإن كانوا لا يموتون، وهو كقوله: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ)، أي تأتيه أسباب الموت. وعلى تأويل من يجعل قوله: (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ): في الدنيا في استيفاء الرزق وما كتب لهم؛ يكون قوله: (حَتَّى) على الإثبات وعلى تأويل من يقول بأن ذلك في الآخرة فيجيء أن يكون على الصلة والإسقاط. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ). تقول لهم الملائكة في النار على تأويل هَؤُلَاءِ وعلى تأويل أُولَئِكَ: عند قبض أرواحهم، أو بعد قبض أرواحهم. وقوله: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، أي: تعبدون من دون اللَّه، وتقولون: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، وقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) أو الأكابر التي ذكر بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)، أين أُولَئِكَ الذين كنتم تعبدون من دون اللَّه؟! (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا). وهلكوا، أي: بطل عبادتنا التي عبدناهم؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ)، أي: هلكنا وبطلنا. (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ). فإن كان قوله: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ): الكبراء منهم والرؤساء يكون قوله: (ضَلُّوا عَنَّا)، أي: شغلوا بأمرهم عنا، وإن كان الأصنام يكون قوله: (ضَلُّوا عَنَّا) أي: بطل ما كنا نطمع من عبادتنا إياهم، وهو قولهم: (شُفَعَاؤُنَا عَندَ اللَّهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ... (38) قوله: (فِي أُمَمٍ) يحتمل مع أمم، وذلك جائز في اللغة؛ يقال: جاء فلان في جنده. وقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ).

المتبوعين والأتباع جميعًا معًا والعرب تضع حروف الخفض بعضها في موضع بعض؛ كقوله: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) قيل: مع عبادي. ويحتمل " في " موضعه كأن المتبوعين يدخلون النار قبل الأتباع فقيل لهَؤُلَاءِ الأتباع (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ). وفيه دليل أن الكفار من الجن يعذبون كما يعذب الكفار من الإنس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا). لعن الأتباع المتبوعين؛ لما هم دعوهم إلى ذلك، وهم صرفوهم عن دين اللَّه؛ كقولهم: (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا. . . .)، وكقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا. . . .)، وغير ذلك من الآيات. ولعن المتبوعون الأتباع؛ لما يزداد لهم العذاب بكثرة الأتباع وبقدرهم؛ فيلعن بعضهم بعضًا. وفيه دليل أن أهل الكفر وإن اختلفوا في مذاهبهم فهم إخوة وأخوات بعضهم لبعض، كالمؤمنين بعضهم إخوة وأخوات لبعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من التدارك، أي: حتى إذا تداركوا وتتابعوا فيها. وقيل: هو من الدرك؛ لأن النار دركات، لا يزال أهل النار يهوون فيها لا قرار لهم في ذلك؛ وفي القرار بعض التسلي والراحة، فلا يزالون يهوون فيها دركًا فدركًا. وقيل: ولذلك سميت هاوية. وقيل: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا)، أي: اجتمعوا فيها؛ فعند ذلك يتلاوم بعضهم بعضًا، فإن كان على التدارك فهو كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ). وإن كان على الاجتماع فهو للتضييق؛ كقوله: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ) ويجتمعون يلعن بعضهم بعضًا.

(39)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ). يحتمل قوله: (أُخْرَاهُمْ): الذين أكانوا، في آخر الزمان، (لِأُولَاهُمْ): الذين شرعوا لهم ذلك الدِّين. (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ). ويحتمل قوله: (أُخْرَاهُمْ) الذين دخلوا النار أخيرًا وهم الأتباع، (لِأُولَاهُمْ) الذين دخلوا النار أولًا، وهم القادة والمتبوعون، (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ)، يعني: القادة والسادة، (أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ) هو؛ كقوله: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)، ويشبه أن يكون قوله: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ): ليس على القول بعضهم لبعض، ولكن على الدعاء عليهم واللعن؛ كقوله: (وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا). وقوله: (فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: لكل ضعف النار؛ لأنها لا تزال تزداد وتعظم وتكبر فذلك الضعف، وذلك للأتباع والمتبوعين جميعًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لِكُلٍّ ضِعْفٌ)، أي: للمتبوعين والقادة ضعف، قال لهم مالك، أو خزنة النار، أو من كان: ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة بعد أن يقال لهم ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ). في الدنيا أن لكم ضعفًا منها. وقيل: (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ): للحال بأن لكل ضعفًا من النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ ... (39) يحتمل (أُولَاهُمْ) هو ما ذكرنا: الذين شرعوا لهم ذلك الدِّين، وسنوا لهم (لِأُخْرَاهُمْ) الذين كانوا في آخر الزمان.

(40)

ويحتمل (أُولَاهُمْ): الذين دخلوا أولًا، (لِأُخْرَاهُمْ): هم الذين دخلوا النار أخيرًا، وهم الأتباع. (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ). قيل فيه بوجهين: يحتمل ماكان لكم علينا من فضل في شيء؛ فقد ضللتم كما ضللنا، أي: لم يكن لنا عليكم فضل سلطان، ولا كان معنا حجج وآيات قهرناكم عليها، إنما دعوناكم إلى ذلك فاستجبتم لنا، وقد كان بعث إليكم الرسل مع حجج وآيات فلم تجيبوهم، وهو كخُطبة إبليس حيث قال: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ. . .) فيقول هَؤُلَاءِ القادة للأتباع مثل قول الشيطان لجملتهم. وقيل: قوله (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ)، يعني: تخفيف العذاب. أي: نحن وأنتم في العذاب سواء، لا فضل لكم علينا من تخفيف العذاب في شيء. أحد التأويلين في قوله: (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) يرجع إلى الآخرة والآخر إلى الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ). من الشرك والتكذيب لآيات اللَّه، وكذلك جزاء بما كانوا يكسبون ويعملون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ... (40) هذا قد ذكرناه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يعني بأبواب السماء أبواب الجنان؛ لأن الجنان تكون في السماء؛ فسمى أبواب السماء لأن الجنان فيها، ألا ترى أنه قال: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) وما يوعد لنا هو

الجنة، ثم أخبر أنها في السماء. ألا ترى أنه قال: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) أكأنه قال: لا تفتح لهم أبواب الجنان ولا يدخلون الجنة، - أيضًا. وقال آخرون: أبواب السماء هي أبواب السماء؛ وذلك أن أعمال المؤمنين ترفع إلى السماء وتصعد إليها أرواحهم، وأعمال الكفرة وأرواحهم ترد إلى أسفل السافلين؛ كقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، وقال في الكافر: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، فإذا كانت أعمال المؤمنين وأرواحهم ترفع إلى السماء وتصعد إليها، أخبر أن الكافرين، لا تفتح لهم أبواب السماء ولا لأعمالهم، ولكن ترد إلى السجين. وأمكن أن يكون على التمثيل ليس على تحقيق السماء؛ ولكن ذكر السماء لما أن السماء هي مكان الطيبات من الأشياء وقرارها، لا مكان الخبائث والأقذار، والأرض هي مكان ذلك، وأعمال الكفرة خبيثة؛ فكنى عن أعمالهم الخبيثة بالأرض لما أن الأرض هي معدن الخبائث والأنجاس. وكنى عن أعمال المؤمنين الطيبة بالسماء، وهو كما ضرب مثل الإيمان: بالشجرة الطيبة الثابتة وفرعها في السماء، وضرب مثل الكفر: بالشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض، ليس على أن يكون قوله: (وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) على تحقيق السماء، ولكن على الوصفت بالطيب والقبول؛ فعلى ذلك الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ). لا يستقيم مثله على الابتداء إلا على نوازل تسبق، خرج ذلك جوابًا لها؛ نحو قوله: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى. . . .) الآية. أو أن ذكروا أعمال أنفسهم أنهم يعملون كذا؛ فقال: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ

الْجَنَّةَ). فَإِنْ قِيلَ: كيف خوفهم بما ذكر من سدّ الأبواب عليهم، وجعل النار لهم مهادًا وغواشيًا، وهم لا يؤمنون بذلك كله، فكيف خوفوا به؟ قيل: إن المرء إذا خوف بشيء فإنه يخاف ويهاب ذلك، وإن لم يتيقن بذلك، ولا تحقق عنده ما خوف به؛ حتى يستعدّ لذلك، ويتهيأ وإن كان على شك من ذلك وظن؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ خوفوا بالنار وأنواع العذاب، وإن كانوا شاكين في ذلك غير مصدقين؛ لما يجوز أن يهابوا ذلك، أو أن يخوف بذلك المؤمنين؛ كقوله: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، وقوله: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). أو أن يكون التخويف لمن آمن منهم بالبعث؛ لأن منهم من قد آمن بالبعث والجزاء والثواب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) هذا على الإياس أنهم لا يدخلون أبدًا الجنة كما لا يدخل ما ذكر في سمّ الخياط فإنه لا يدخل أبدًا ثم قوله: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: حتى يدخل البعير في خرق الإبرة. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حتى يدخل الجمل الذي يشد به السفينة في خرق الإبرة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: يعني خرق الإبرة أو المسلة، والجمل: الحبل، والخياط: الإبرة

(41)

أو المسلة. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس بالجمل ذي القوائم أولكنه الجمل، يعني: القلس. وقال ابن مسعود: هو الجمل ذو القوائم - الأربع، واللَّه أعلم بما أراد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ). أي: كذلك نجزي كل مجرم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ ... (41) قيل: الفرش. (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ). هي اللحف أو الحواشي، ما يتغشاهم فيه النار تحيط بهم من تحت ومن فوق وأمام وخلف؛ كقوله: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: لا يتقي لما يحيط بهم العذاب، وهو كقوله - تعالى -: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ. . . .) الآية، أخبر أن النار تحيط بهم؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).

(43)

قال أبو بكر الكيساني: قوله: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ): ليس من جنس ما ذكر من قوله: (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)؛ لكنه صلة قوله: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ)، يقول فيما تقدم ذكره: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). وأما عندنا: فإنه يستقيم أن يجعل صلة ما تقدم، أي: لا نكلف نفسًا من الأعمال الصالحات إلا وسعها، بل نكلفها دون وسعها ودون طاقتها (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). وقال الحسن: قوله: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا): إلا ما يسع ويحتمل، وهو صلة قوله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا)، يقول: لا يكلف نفسًا إلا ما يسع ويحتمل، لا ما لا يسع ولا يحتمل. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ... (43) قأل الْقُتَبِيّ: الغل: الحسد والعداوة. وقيل: الغل والغش واحد، وهو ما يضمر بعضهم لبعض من العداوة والحقد. وقيل: الغل: الحقد. ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ): في الدنيا، ينزع اللَّه - عز وجل - من قلوبهم الغل، يعني: من قلوب المؤمين، ويجعلهم إخوانًا بالإيمان؛ كقوله: (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانً) الآية، أخبر أنهم كانوا أعداء (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالإيمان الذي أكرمهم به؛ حتى صاروا إخوانا بعد ما كانوا أعداء. قال الحسن: ليس في قلوب أهل الجنة الغل والحسد؛ إذ هما يهمان ويحزنان؛ إنما فيها الحب.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الآخرة، ينزع اللَّه - تعالى - من قلوبهم الغل الذي كان فيما بينهم في الدنيا، ويصيرون جميعًا إخوانًا؛ كقوله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ). وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال اللَّه - تعالى -: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ). وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت في علي وأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وابن مسعود وعمار وسلمان وأبي ذر - رضوان اللَّه عليهم أجمعين -

فينزع في الآخرة ما كان في قلوبهم من غش بعضهم لبعض في الدنيا من العداوة والقتل الذي كان بعد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والأمر الذي اختلفوا فيه، فيدخلون الجنة؛ هذا - والله أعلم - لأن الذي كان بينهم من الاختلاف والقتال كان دنيويا لم يكن؛ بسبب الدِّين، فذلك يرتفع في الآخرة ويزول، وأما العداوة التي هي بيننا وبين الكفرة: فهي لا تزول أبدًا في الدنيا والآخرة؛ لأنها عداوة الدِّين والمذهب، فذلك لا يرتفع أبدًا. ويشبه أن يكون قوله: (وَنَزَعْنَا) على ابتداء النزع، لا على أن كانوا فيه؛ كقوله - تعالى -: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، على ابتداء: المنع، أي: لولا إخراجه إياهم من ذلك، وإلا كانوا فيه؛ فعلى ذلك قوله: (وَنَزَعْنَا) أي: لم نجعل في قلوبهم الغل رأسًا، ولو تركهم على ما هم عليه لكان فيهم ذلك. وفيه دلالة أن لله في فعل العباد صنعًا؛ لأن الغش والغل، من فعل العباد يذمون على ذلك. ثم أخبر أنه نزع ذلك من قلوبهم، واستأدى منهم الشكر بذلك بقوله: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا. . . . .) الآية. وقد ذمّ من طلب الحمد على ما لم يفعل؛ فدل طلب الحمد منهم على أن له فيه صنعًا؛ بذلك طلب منهم الحمد، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ). ذكر هذا - واللَّه أعلم - لما علم عَزَّ وَجَلَّ من طباع الخلق الرغبة في هذه الأنهار الجارية في الدنيا، فيما يقع عليها الأبصار، فرغبهم في الآخرة بما كانت طباعهم وأنفسهم تميل إلى ذلك في الدنيا؛ ليرغبوا فيما أمر وينتهوا عما نهى، وكذلك جميع ما ذكر في القرآن من القصور والخيام والجواري والغلمان والأكواب والأباريق، وغير ذلك مما ترغب طباع الخلق في ذلك في الدنيا وتميل أنفسهم

إلى ذلك؛ وأعدها لهم في الآخرة ترغيبًا منه لهم في ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ)، قال الحسن وغيره: هدانا: دلنا لهذا. (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ). وأما عندنا: ليس هو هداية الدلالة والبيان؛ ولكن الهداية التي أكرمهم اللَّه بها بفضله ولطفه، وهي توفيقه إياهم إلى الهدى؛ لأنه خرج مخرج الامتنان والفضل، ولو كان دلالة وبيانًا لكان لا معنى لتلك المنة وذلك الفضل؛ لأن عليه الدلالة والبيان. والثاني: أنه لو كان على الدلالة والبيان لكان ذلك على كل أحد: على الرسل وغيرهم؛ لأن عليهم البيان والدلالة، فدل أنه ليس على الدلالة والبيان، ولكن غيره. والثالث: أنه لا أحد عند نفسه أنه يزيغ ويضل وقت ما هداه اللَّه ووفقه. وقد يجوز أن يكون ذلك في الدلالة والبيان؛ دلّ أنه لم يحتمل ما قال أُولَئِكَ من الدلالة والبيان، واللَّه الموفق. وقال بعض الناس: إن المعتزلة خالفوا اللَّه عما أخبر، وخالفوا الرسل عما أخبروا عن اللَّه تعالى، وخالفوا أهل الجنة والنار، وخالفوا إبليس: أما مخالفتهم اللَّه فقوله: (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) ونحوه. أما مخالفتهم الرسل فقوله: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ... ) الآية، وقول أهل النار قالوا: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ)، وقول إبليس: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي): هو أعلم باللَّه من المعتزلة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ). يحتمل وجوهًا: يحتمل جاءوا بالحق، أي: بالدِّين الذي هو حق، أو جاءوا بالأعمال التي من عمل بها كان صوابًا ورشدًا، وكل حق هو صواب ورشد، ويحتمل جاءت رسل ربنا بالحق، أي: بالصدق ونحوه.

(44)

(بِالْحَقِّ): له وجهان: أحدهما: بالحق الذي استحقه اللَّه على عباده. والثاني: أنهم جاءوا بالذي هو حق في العقول وصواب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ). قوله: (تِلْكُمُ): إنما يتكلم عن غائب، وهم فيها، لكن تأويله - واللَّه أعلم - أن تلكم الجنة التي كنتم وعدتم في الدنيا وأخبرتم عنها هذه. (أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). أي: أورثكم أعمالكم. وفيه دلالة أن الإيمان من جملة أعمالهم؛ حيث قال: أورثتموها بما كنتم تعملون، وإنما يورث ذلك بالإيمان وسائر الأعمال بل إنما يصح بالإيمان، ذكر أنهم أورثوا الجنة بما عملوا، وإن كانوا ينالونها بفضل اللَّه جزاء وشكرًا؛ لقولهم الذي قالوا: (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ ... (44) ما وعد المؤمنين - عَزَّ وَجَلَّ - الجنة وما فيها من النعيم واللذات والشهوات، بقوله: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)، وقوله: (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ): هذا الذي وعد للمؤمنين، ووعد الكفار النار، وما فيها من الشدائد وأنواع العذاب، فأقروا أنهم قد وجدوا ما وعدهم ربهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا): إن المراد بالحق الذي ذكر: الوعد الذي وعدهم وتفسير الحق الصدق، وإن كان الموعود فتأويله: وجدتموه كائنا حاضرا، وهو ما ذكرنا في قوله: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا). (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). أي: وجبت لعنة اللَّه على الظالمين الذين وعدوا في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) يحتمل الملك، ويحتمل غيره، وليس يعرف ذلك إلا بالخبر، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة. فَإِنْ قِيلَ: يذكر في الآية نداء أهل الجنة أهل النار، وأهل النار أهل الجنة، ونداء

(45)

بعضهم بعضًا لا يكون إلا بحيث يكون بعضهم قريبًا من بعض، وقد جاء في الأخبار من وصف الجنة وسعتها ما روي أن أقل ما يكون لواحد من الجنة مثل عرض الدنيا، وما ذكر أن الحور العين لو نظرت نظرة إلى الدنيا لامتلأت الدنيا من ضوئها ونورها، وكذلك من ريحها وعطرها، وقد جاء في وصف النار أن شرارة منها لو وقعت في - الدنيا لأحرقتها أو كلام نحو هذا؛ فإذا كان بعضهم من بعض بحيث يسمعون بعضهم نداء بعض، ألا يتأذى أهل الجنة بالنار، وألا ينتفع أهل النار بنعيم الجنة، وكيف يعرف ذلك؟ قيل - واللَّه أعلم وذلك أن اللَّه قادر -: أن يوقع نداء هَؤُلَاءِ بمسامع أُولَئِكَ ونداء أُولَئِكَ بمسامع هَؤُلَاءِ، مع بعد ما بينهما؛ فيسمع كل فريق نداء الفريق الآخر. أو أن يكون اللَّه - تعالى - ينقض بنية هذا الخلق، وينشئهم في الآخرة على غير هذه البنية، مع ارتفاع الآفاق أوالحجب فيسمع بعضهم من بعض من بعد الذي ذكر، وينظر بعضهم بعضا لأن في الدنيا الآفات، والحجب هي التي تمنع ذلك، فإذا ارتفع ذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم. أو يقرب الجنة من النار والنار من الجنة؛ بحيث يسمع بعضهم من بعض ما ذكر من النداء. أو يجعل ذلك في مسامعهم بما شاء وكيف شاء؛ كتسبيح الجبال وخطاب النمل وجوابه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... (45) الصد: يكون منع الغير، ويكون منع نفسه.

(46)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَبِيلِ اللَّهِ)، قيل: دين اللَّه. قال الحسن: سبيل اللَّه: دين اللَّه الذي ارتضى لعباده، وأمرهم بذلك، وإلى ذلك دعاهم رسله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) أي: يبغون الدِّين الذي فيه عوج، وهو دين الشيطان؛ كقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، فالعوج هو التفرق الذي ذكر في تلك الآية، وأمكن أن يكون قوله: (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا)، أي: طعنًا في دين اللَّه، وقد كانوا يبغون طعنًا في دين اللَّه. * * * قوله تعالى: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ). يشبه أن يكون ما ذكر من الحجاب ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) فأمكن أن يكون الحجاب المذكور بينهما هو السور الذي ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هم قوم استوت حسناتهم بسيئاتهم، لم يبشروا بالجنة حتى لا

يخافوا عقوبته، ولا أيسوا حتى لا يطمعوا ولا يرجوا دخولهم فيها. وقال آخرون: هم أهل كرامة اللَّه، أكرمهم بذلك، يرفعهم على ذلك السور لينظروا إلى حكم اللَّه في الخلق وعدله فيهم، وينظرون إلى إحسان اللَّه فيمن يحسن إليه، وعدله فيمن يعاقبهم. وقيل: هم الأنبياء. والأشبه أن الأنبياء يكونون على الأعراف يشهدون على الأمم؛ كقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) وقال قائلون: هم الملائكة، لكن ملائكة اللَّه ما يسمون رجالًا، ولم نسمع بذلك، واللَّه أعلم بذلك. ثم اختلف فيه: قيل: سموا أصحاب الأعراف، وهو سور بين الجنة والنار سمي بذلك؛ لارتفاعه، وكل مرتفع عند العرب أعراف، وهو قول الْقُتَبِيّ. وقال غيره: الأعراف: هو عرف كعرف الديك والفرس، وهو أيضًا من الارتفاع. وقال الحسن: هم أصحاب التعريف، يعرفون أهل النار عدل اللَّه فيهم وحكمه، وأن ما حل بهم من الشدائد وأنواع العذاب إنما حل بهم مما كان منهم في الدنيا من صدهم الناس عن سبيل اللَّه، واستكبارهم على الرسل، يعرفونهم أن ما نزل بهم إنما نزل بعدل منه، ويعرفون أهل الجنة فضل اللَّه وإحسانه إليهم أن ما نالوا هم إنما نالوا بفضل منه

وإحسان. أو قوم نصبهم اللَّه لمحاجة أهل النار؛ كصقوله: (مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) فهذه هي المحاجة التي يحاجون بهها أهل النار. أو أن يقال: هم قوم نصبوا يترجمون بين أهل الجنة وأهل النار، يؤدون كلام بعضهم إلى بعض، وينهون مخاطبات بعض إلى بعض، من ذلك قوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ)، وقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ)، ونحوه. واللَّه أعلم من هم؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)، قيل: المؤمن يعرف ببياض وجهه، والكافر: بسواد وجهه. ويحتمل ما قال الحسن: هو أن يعرفوا بالمنازل والأماكن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ). يعني: نادى أصحابُ الأعراف أصحاب الجنة. (أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ). ليس أن يقولوا سلام عليكم باللسان خاصة؛ ولكن في كل كلام سديد وقول حسن وصواب؛ كقوله: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)، أي: سديدا صوابًا، وكذلك قوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، ليس على أن يقولوا: سلام عليكم، ولكن يقولون لههم قولا صوابًا محكمًا؛ فعلى ذلك الأول. وقوله عَزَّ وَجَلَّ -: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ). اختلف فيه: قال عامّة أهل التأويل: هم أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة

(47)

وهم يطمعون دخولها. وقيل: هم كفار أهل النار يطمعون أن ينالوا منها؛ كقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)، إلى هذا الوقت كانوا يطمعون دخولها والنيل منها، ثمّ أيسوا بهذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم أهل الجنة يطمعون دخولها قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة، وقبل أن يدخل أهل النار النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ ... (47) قيل: وإذا صرفت أبصار أصحاب الأعراف إلى أهل النار. (قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). من شدة ما يرون من العذاب وما نزل بهم. وقيل: وإذا صرفت أبصار أهل الجنة تلقاء أصحاب النار، قالوا ذلك. وفي حرف أبي: وإذا قلبت أبصارهم نحو أصحاب النار، قالوا: عائذون بك أن تجعلنا ربنا مع القوم الظالمين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). إن كان ذلك الدعاء من الأنبياء أو من أهل كرامة اللَّه من الذين كانوا على الأعراف، فذلك منهم شهادة أنهم ظلمة وكفرة، ومعنى التعوذ منهم من النار؛ لأنهم لم يدخلوا الجنة بعد؛ فيخافون لقصور كان منهم في شكر المنعم، أو بالطبع يتعوذون كما يتعوذ كل أحد إذا رأى أحدًا في البلاء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ... (48) قال عامة أهل التأويل: يعرفون بسواد الوجوه وزرقة العيون، ولكن أمكن أن يعرفوا بالأعلام التي كانت لهم في الدنيا سوى سواد الوجوه؛ لأنهم يخاطبونهم بقوله: (قَالُوا مَا

(49)

أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ)، فلو لم يعرفوهم بآثار كانت لهم في الدنيا، لم يكونوا يعاتبونهم بجمع الأموال والاستكبار في الدنيا، ولا يقال للفقراء ذلك، إنما يقال للأغنياء؛ لأنهم هم الذين يجمعون الأموال وهم المستكبرون على الخلق؛ كقوله: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ). ويشبه أن يخاطب الكل، وفيهم من قد جمع واستكبر، وذلك جائز، هذا على تأويل من يجعل أصحاب الأعراف الذين استوت حسناتهم بسيئاتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ... (49) قال عامة أهل التأويل: أقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة، ولكن يدخلون النار، فتقول الملائكة لأهل النار: هَؤُلَاءِ الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). ويحتمل أن يكون القسم الذي ذكر في الآية كان منهم في الدنيا، كانوا يقسمون أنه لا يدخلون هَؤُلَاءِ الجنة، يعنون: أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ كقوله (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، كانوا يقولون: إن الذي هم عليه لو كان خيرًا لنالوا هم ذلك؛ إذ نالوا هم كل خير في الدنيا، يعنون أنفسهم؛ فعلى ذلك ينالون في الآخرة مثله، ونحو ذلك من الكلام الذي يقولون في الدنيا؛ فيقولون لهم في الآخرة: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ). وأمكن أن يكون قوله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) لأهل الجنة قبل أن يدخلوها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). قال الأصم: يكون الحزن في فوت كل محبوب، والخوف في نيل كل مكروه؛ كقول يعقوب: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)، ذكر الحزن عند فوت محبوبه، أوالخوف، عند نيل المكروه، ولكن عندنا الحزن إنما يكون بفوت الموجود من المحبوب، والخوف بما سيصيبه من المكروه.

(50)

قوله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ). قال الحسن: الماء مما رزقهم اللَّه، ولكن مكرر مثنى. وقال أبو بكر: طلبوا الماء؛ ليدفعوا عن أنفسهم ما اشتد بهم من الظمأ والعطش، ثم تقع لهم الحاجة إلى الطعام؛ لأن الرجل إذا اشتد به العطش والظمأ لا يتهيأ له الأكل. ولكن يشبه أن يكون طلب بعضهم الماء وبعضهم الطعام الذي رزقهم اللَّه، وهذا جائز، وإن لم يذكر؛ كقوله: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) لم يكن هذا القول من الفريقين؛ ولكن كان من اليهود (إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا)، ومن النصارى: (أَوْ نَصَارَى)، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ). قيل: هذا مقابل قولهم في الدنيا للمؤمنين: (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ قال لهم المؤمنون في الآخرة مقابل ما قالوا لهم في الدنيا: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ). وهذا - واللَّه أعلم - ليس على التحريم، ولكن على المنع؛ لأن الكفرة لا ينالون بعد أن نالوا ذلك حرامًا كان أو حلالًا، ولكن على المنع؛ كقوله - تعالى -: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ) ليس هو تحريم حرمة أكل، ولكن منع، ويشبه أن يكون ذلك محرمًا على المؤمنين إطعام الكافرين من ذلك.

(51)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا ... (51) قال الحسن: اتخذوا دينهم الذي كلفوا به وأمروا أن يأتوا به لهوًا ولعبًا. وجائز أن يكون قوله: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا) أي: اتخذوا دينهم الملاهي التي كانوا يلهون ويلعبون؛ كقوله: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) أي: اتخذوا دينهم الذي دانوا به لهوا ولعبا؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، وفي إنكارهم البعث إنكار الجزاء للحسنات والسيئات، وفي الحكمة إيجاب ذلك، فمن لم ير ذلك فهو لاه ولاعب، واللهو واللعب هو الذي لا عاقبة له، وكل من عمل عملًا لا عاقبة له فهو لعب ولهو، وكل من يعمل لعاقبة فهو ليس بلعب ولا لهو، وهم كانوا يعملون لا لعاقبة؛ لذلك كان لهوًا ولعبًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الحياة الدنيا لا تغر أحدًا، ولكن أضيف إليها التغرير لما كانت سببا من أسباب الاغترار بها، فاضيف إليها؛ كقوله: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا)، أضاف الفرار إلى الدعاء، وقد يضاف الشيء إلى سببه؛ كقوله: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) أي: يبصر به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أضيف ذلك إليها؛ لما كان منها من السبب من الهيئة ما لو كان ذلك من ذي العقل والتمييز كان ذلك غرورًا؛ من نحو التزيين وغيره. وجائز إضافة التغرير إليها على إرادة أهلها، أي: غرهم أهلها، وهم القادة والرؤساء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا). لا يجوز أن يضاف النسيان إلى اللَّه - تعالى - بحال، ولكن يجوز أن يقال: يجزيهم جزاء نسيانهم، فسمي الثاني باسم الأول، وإن لم يكن الثاني نسيانًا؛ نحو قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)، والثانية ليست بسيئة، ولكن جزاء السيئة، لكنه سماها باسم السيئة؛ لما هي جزاء لها؛ فعلى ذلك هذا، وكقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) والثاني ليس باعتداء، ولكنه جزاء الاعتداء، فسماه باسم الاعتداء؛ لما هو جزاؤه؛ فعلى ذلك سمى الثاني نسيانا؛ لأنه جزاء النسيان، وإن كان اللَّه لا يجوز أن ينسى، أو يسهو عن شيء، أو يغفل، ولأن في النسيان تركا، وكل منسي متروك، فيتركهم

(52)

في العذاب والهوان كما تركوا هم أمر اللَّه ونهيه في الدنيا. وقال الحسن: إن اللَّه لا ينسى شيئًا ولا يسهو، ولكن الكفرة يكونون على الكرامة والرحمة والمنزلة كالشيء المنسي، وعن العذاب والهوان لا، أو كلام نحو هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: " ما " هاهنا صلة؛ كأنه قال؛ وكانوا بآياتنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على ما ذكر، أي: اليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا، وكما كانوا بآياتنا يجحدون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) يحتمل بكتاب. أي: بيناه؛ والتفصيل: التبيين. ويحتمل قوله: (فَصَّلْنَاهُ) أي: فرقناه في إنزاله، لم ننزله جملة واحدة؛ كقوله: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ) أي: فرقناه في الإنزال على قدر النوازل بهم؛ ليعلموا حكم كل آية نزلت بالنوازل التي وقعت بهم، لا تقع لهم الحاجة إلى معرفة ما في كل آية نزلت عليهم على حدة، بل يعرفون ذلك بالنوازل. أو أنزله مفرقًا. أو أن يكون معرفة ما فيه من الأحكام إذا كان منزلا بالتفاريق أهون وأيسر على الطباع من معرفة ما فيه إذا نزل جملة. ثم قوله: (فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ) يحتمل وجوهًا: يحتمل: فصلناه، أي: بيناه بالحجج والبراهين على علم منه أن الخلائق لا تقوم بإتيان مثله؛ ليعلم أنه من عنده نزل. أو أنزله مفصلًا على علم منه بمن يصدقه ويتبعه، وبمن يكذبه ولا يتبعه. أو على علم منه بمصالح الخلق إن أنزله صلح الخلق، أي: على علم منه بمعاملة القوم إياه أنزله؛ لأن المنفعة في إنزاله للمنزل عليهم، لا للمرسل والمنزل، فضرر الرد والمنفعة لهم.

(53)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) قال أبو بكر: هو هدىً للكل: للمؤمن والكافر جميعًا، ورحمة للمؤمنين خاصة. وأمّا عندنا: فهو هدىً للمؤمنين، وعمى على الكافرين؛ على ما ذكر: (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)، خص المؤمنين بالهدى لهم؛ لأنهم هم المخصوصون بالانتفاع به دون أُولَئِكَ، وعلى أُولَئِكَ عمى ورجس؛ على ما ذكر، وصار للمؤمنين حجة على أُولَئِكَ، وقوله: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، هذا للكافرين، وقال للمؤمنين: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ... (53) أي: ما ينظرون إلا وقوع ما وعدهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من نزول بأس اللَّه بهم، أي لا يؤمنون إلا بعد وقوع البأس بهم، لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت: (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ)، والتأويل هو ما ينتهي إليه الأمر ويئول، وما يقع بهم من البأس الموعود لهم، وإيمانهم ما ذكر من قولهم: (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)، يعني: بالحق الواقع بهم من بأس اللَّه الذي كانت الرسل تعدهم، أي: إن ما وعدوا من وقوع الباس بنا كان حقًّا. ويحتمل قوله: (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) أي: بالتوحيد، أي: إن الذي جاءت به الرسل في الدنيا من التوحيد كان حقًّا. أو أن الذي أخبر الرسل عن هذا اليوم كان حقًّا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا). كأنهم إذا حل بهم ووقع ما أوعد لهم الرسول من البأس، تمنوا عند ذلك الشفعاء الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا؛ كقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ). أو طلبوا الشفعاء كما كانوا يطلبون في الدنيا شفعاء إذا بدا لهم أمر عظيم، فيشفع بعضهم بعضًا، ويعين بعضهم بعضًا في هذه الدنيا، فعلى ما كان لهم في الدنيا تمنوا في الآخرة ذلك، فإذا أيسوا عن ذلك وأيقنوا أن لا شفيع يشفع لهم، فعند ذلك قالوا: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، لا أنهم قالوا ذلك مجموعًا؛ كقوله: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا. . .) إلى قوله: (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: لو ردوا في الدنيا، لعادوا إلى ما نهوا عنه.

(54)

وقال آخرون: لو ردوا إلى المحنة إلى الأمر والنهي لصاروا إلى العمل الذي كانوا يعملون. ثم أخبر أنهم قد خسروا أنفسهم بعملهم الذي عملوا في الدنيا، وبعبادتهم غير اللَّه: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، أي: بطل عنهم ما كانوا يفترون أن هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عند اللَّه، وقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وغير ذلك من الافتراء؛ ذلك كله قد بطل عنهم، فبقوا حيارى، وانقطع رجاؤهم وأملهم الذي طمعوا. قوله: (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من رحمة اللَّه. وقيل: مما وعدوا لو أطاعوا. وقيل: أهلكوها. * * * قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ). وذكر ما بينهما في مواضع، ولم يذكر في مواضع، وذلك داخل في ذلك بقوله: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) الذي صنع ذلك (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا)، ثم جمع اليومين الأولين مع هذا الذي ذكر فيه وقال: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) ليعلم أن ذا خلق في يومين، ثم قال: (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، إلى قوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) فتصير ستة الأيام التي أبهمها في غير ذلك، واللَّه أعلم.

ثم قد بين - عَزَّ وَجَلَّ - فساد قول كل من عبد غيره، وعجز كل ذلك عما له يُعبد وجهله بمعنى العبادة، وخروجه عن الاستحقاق بما فيه من آثار التدبير، وعليه من دلالة التقدير واستحقاق جميع معاني الخلقة، ودخوله تحت الصنعة، وحاجته إلى من احتاج إليه كل مما هي التي تبعث على العبادة وتوجب إظهار الذلة والخضوع لمن هو كذلك في الخلقة والجوهر، فألزمهم الفزع إلى من يدلهم إلى الرب الحق، ويدعوهم إلى المعبود المتعالي عن الأشباه والأضداد بما يوجب الشبه والمشاكلة، وفي وجوب ذلك دليل جاعل أخذ له شكلا، وذلك آية الصنعة ودلالة الحدث، وفي تحقيق الضد خوف ذهاب وفساد فتضمحل الألوهية وتستوجب حق الدخول تحت التقدير، والقيام على ما شاء من له التدبير؛ جل اللَّه سبحانه عن توهم ذلك، فأكرم من بعثته الحاجة إلى معرفته ورفعته الخلقة إلى العلم بمن أنعم عليه واختصه من بين كثير من خلقه بما ركب فيه ما به يدبر أمر غيره، وبه يعرف قدر النعم عليه لمن أكرمه به؛ ليشكر له فيما أولاه ويحمده على ما أعطاه، فمن بإظهار ذلك على لسان رسوله الذي عرف خلقه بما نصب من أدلة صدقه، وأبان من حجج عصمته عن الكذب فيما ينبئ، وإصابته فيما يخبر، فقال: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ) أي، الذي لا ربَّ لكم سواه ولا لأحد من الخلائق، هو اللَّه الذي لا إله غيره؛ ليوجهوا إليه العبادة في الحقيقة، وليؤدوا إليه شكر ما أنعم عليهم، وإن كانت نعمه أعظم من أن يجزيها العباد، وحقه أجل من أن يقوم به العباد، ولولا أن اللَّه - سبحانه - لم يورد من البيان على ربوبيته، والدليل على ألوهيته سوى ما أنطق به على لسان رسوله بعد الإيضاح أنه لا ينطق إلا بالحق، ولا يقول إلا الصدق لكان ذلك بيانًا شافيًا، لكنه بفضل رحمته بين الأدلة التي تحقق ذلك وتعلم أنه كما جاء به رسوله، إلا أن يعانَد الحق ويكابَر العقل، فقال عَزَّ وَجَلَّ: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) إلى آخر ما ذكر دلالة خلق ما ذكر من آثار التدبير وعجيب التقدير الذي به قوام كل ممن يحتمل المنافع والمضار واتصال ما بين السماء والأرض على تباعد بعض من

بعض في المنافع مع جميع الأضداد التي من طبعها التنافر في أصل ما ذكر حتى صارت كالأشكال، بعد أن كانت السماوات والأرض مشبهة لا تشعر بما فيها من الحكمة، ولا بالذي فيه من أنه من أي وجه يقضي الحاجة؛ ليدل أن مدبر الكل واحد، وأنه عليم حكيم وضع كل شيء موضعه ودل كل ذي عقل على الوجه الذي يظفر بحاجته، ويقيم به أوده، ويصل إلى بغيته، وسخر الذي ذكر، فصير كلا من ذلك جاريا دائبًا بما لا ينتفع هو به، ولا مضرة عليه فيه؛ ليعلم أنه لغيره قدر ولحاجة غيره سير، وكذلك الذي جبل على القرار وأمسك عن الزوال من غير أن كان له في حقيقة أحد الوجهين نفع أو ضرر؛ ليعلم أن تدبير ذلك جرى لا له، ولكن لأهل الممتحنين الذين بهم يظهر العز والشرف ونيل الجود والكرم، ويعظم الملك والسلطان؛ إذ عندهم تمييز الأحوال، وتفريق الأمور، وتوجيه إلى حقه وإعطاء كل ذي فضل فضله. فيعلم من هذا وصفه أنه لم ينشأ عبثًا، ولا خلق باطلًا؛ إذ به يعظم قدر كل خلق، ويشرف جلالة كل جليل، لم يجز إمهال مثله، فيكون خلق الجميع لغير شيء مما في ذلك من فنائه وتبدّده الذي في الحكمة قصد مثله في العقل يوجب العبث ثبت أنه خلق للمحنة ولدار البقاء، لكن جعل البقاء جزاء، والفناء محنة؛ ليكون البقاء هو المنتهى، فيعظم القصد في الابتداء؛ إذ فاسد أن يجعل المحنة للبقاء، فيدل على حاجة الممتحن مع ما في ذلك زوال الجزاء؛ إذ محال تقديمه على ما له الجزاء، واللَّه الموفق. ثم الأصل أن اللَّه سبحانه جعل العقل جزءًا من عالمه، وجعله دليلًا لأهله في معرفة المساوئ والمحاسن، وعلمًا للتمييز بين الحكمة والسفه، وبين الإتقان والعبث، وجعله بالذي يعرف المحمود من المذموم، والمرغوب فيه من المزجور عنه، فلم يجز أن يكون إنشاء كل العالم على غير الحكمة؛ لأنه سفه، وهو بالذي جزء من العالم يعلم به الذميم من الحميد ثبت أنه أنشئ للحكمة. وعلى ذلك تقدير كل عاقل على احتمال ما يضره وينفعه بحق الجزاء والمحنة، فثبت أن ذلك للمحنة، وأن المحنة ثم الهلاك بلا جزاء ولا نقع للممتحن عبث -أيضًا- وسفه، فلزم به القول بالبعث وإثبات دارين مما كان لكل شاهد دليل غائب يحمد عليه أو يذم، وكذا فعل كل ذي عقل إنما هو لعاقبة يحمد عليها، أو بفعل عبث فيذم عليه. فعلى ذلك أمر تدبير هذه الدار من أخرى، فلا يجوز أن يخلي الجملة عن الدلالة، ولا

يخلو كل جزء منها؛ إذ جملة الأفعال عن العواقب، والواحد منها إذا خرج يصير عبثًا وسفهًا، فثبت بالذي ذكرت القول بالتوحيد، وبالدارين، وبالرسالة؛ إذ بها تعرف العواقب بما هي غائبة، وحقائق كل غائب تعرف بالإخبار عنها والدلالة عليها، ثم لا دلالة على ماهية الجزاء ولا بالشكر ولا العبادة، إنما الدلالة من حيث التدبير على العلم بها جملة، فلزم القول بالرسل، ولا قوة إلا باللَّه. ثم قوله: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) يحتمل وجهين. أحدهما: خلق أصول الأشياء التي يكون غيرها بحق التولد عن ذلك والانقلاب. ويحتمل أن يكون على خلق كلية كل شيء، مما عليه تركيب هذا العالم إلى أن يبدل بعالم آخر، لا يبيد ولا يفنى؛ فإن كان على الأول فهو ستة من السبعة التي عليها مدار المدد والأزمنة؛ إذ جعل - جل ثناؤه - جميع ما ذكر من الخلائق تحت الأزمنة والأوقات، ويزول بزوال مدارها، وكذلك عندنا كل الحوادث؛ إذ لكل منها بدء يصير

ذلك وقت ابتدائه، وذلك ينقض على الباطنية قولهم: المبدع الأول لا يقع عن الزمان والمكان، وأنه لا يبيد ولا يفنى، ولو كان كذلك لم يكن مبدعًا، ولكن كان قديمًا لا يقع عليه الإبداع، فلمّا وقت ثبت له البدء؛ فيجب وصفه بالوقت من حيث الابتداء، وهو - أيضًا - معلول عندهم، وعلته فيه وهو الإبداع، مما لو زالت علته لباد، وإذا ثبت أنه معلول ثبت أن علة أوجبته وأحدثته بعد أن لم يكن، فوجب له وقت به كان أو كان فيه، واللَّه أعلم. ثم على هذا كان إنشاء من ذكر في الأيام الستة، ولم يذكر في ذلك ممتحنًا؛ فيشبه أن يكون وقت كون الممتحنين يوم السابع، وبهم تم ظهور الملك، واستوى على العرش، وهو الملك إذا لم يكن قبل ذلك من له التمييز، ومعرفة الملك والسلطان، وقدر العلم بالمحامد والمعالي، وأضداد ذلك إنما يكون بأُولَئِكَ الذين ركب فيهم العقول، وأكرموا بالتمييز، ومما لهم يجعل العالم وهم المقصودون من الإنشاء؛ لذلك جعل كل من سواهم مسخرًا لمنافعهم، داخلًا تحت أفهامهم، مما يحتمل أكثر ذلك تدبير ليعلم أنهم قصدوا لأنفسهم، أو لمعرفة ما عليهم من شكر النعم والعبادة، فكان بهم ظهور تمام الملك، وبلوغه النهاية، فأخبر بالاستواء إذ هو وصف العلو والرفعة، ووصف التمام في الرتبة والقدر؛ كقوله: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) وذلك في معنى الاستواء على العرش؛ من حيث ظهور الملك، وبيان الحجة والربوبية للمستدلين والمعبرين. وإن كان التأويل هو الثاني يخرج على وجهين. أحدهما: ما قال بعض أهل التفسير: إن كل يوم من أيام الآخرة، وذلك ألف سنة، لم يبين لنا مقدار ذلك؛ فجائز أن يكون منتهى تدبير هذا العالم إلى ذلك ستة أيام، بمعنى ستة آلاف سنة على القدر الذي قدره اللَّه، ثم يكون اليوم السابع هو يوم القيامة، لا يبيد أبدًا، ولا ينقضي، فيه يبدل العالم، ويُقر كل ممتحن له بالملك والجلال، وإن كان كذلك في الأزل ففي ذلك اتفاق القول من طريق الاختيار، والعلم بذلك من كل جبار وغيره. وعلى نحو ما قيل: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) وقيل: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) وقيل: (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، ونحو ذلك. على أن له الملك أبدًا، وكذلك لم يكن يخفى عليه شيء، لكن ذلك مما يعلم كل أنه كذلك، فبذلك يتم ظهور كل معنى من ذلك، وإن كانت حقيقته موجودة قبل ذلك. وعلى ذلك القول: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)، ونحو ذلك.

إنه إذ ذلك يظهر لكل معلومه: فأضيف إليه بحرف الابتداء، وهو عن ذلك متعال؛ فعلى هذا جميع ما بيّنا، وبذلك ظهور تمام شرائط الملك، والاعتراف من الكل بذلك، واللَّه أعلم. والثاني: أن تكون تلك الأيام الستة على ما في علم اللَّه تعالى تقديرها، لا يعلمه أحد سواه إلا من طريق الجملة التي أدى، وقد بيِّن يومًا كخمسين ألف سنة، ويومًا كألف سنة حده لا يعلمه غيره، ثم كان يوم السابع يوم تبلى السرائر وتقع العقوبة والمثوبة، وهو المقصود من خلق العالم الأول؛ فيكون ما ذكرت من تمام الظهور، واللَّه الموفق. وعلى هذا لو قيل لما قيل يحملون العرش، (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) قيل: ليس أن المراد من هذا العرش الأوّل، وجائز أن يكون هذا هو السرير المعروف، منشأه من النور، ومما شاء؛ ليكرم به أولياءه يوم القيامة، والأول هو الملك الذي ظهر تمامه وعلوه على ما بينا. ثم لو كان العرش الذي قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، هو ما فهمه أهل التشبيّه من مكان، لم يكن ليجب أن يفهم من الاستواء عليه [الاستقرار].

وأن يكون لله مكان يوصف بالكون فيه وعليه؛ لأنه ليس في كون أحد في مكان - وإن جل قدره، وعظم خطره - رفعة ولا نباهة فيما يتعارف من أمر الملوك والأجلة، بل كل منسوب إلى مكان من جهة التمكين فيه والقرار، منسوب إلى استعانة وحاجة منه إليه، جل اللَّه عن ذلك، وعلى أنه إما أن يكون مثله أو أعظم منه، لكان له عديلًا بالعظمة أو دونه، ومن السخف الجلوس على مكان لا يطمئن به أو يقصر عنه، إذ قد يجوز أن يزاد فيه؛ فيكون أعظم منه، جل اللَّه عن هذا الوصف وتعالى. " بل كان ولا مكان فهو على ما كان يتعالى عن الاستحالة والتغير ": إذ هو أثر

الحدث، وأمارة الكون، بعد أن لم يكن، ولا قوة إلا باللَّه. ثم الأصل أنه لو كان فهو بإضافة اللَّه إلى العلو عليه تعظيمًا له، وعلى ذلك في كل شيء يضاف إلى اللَّه أو اللَّه إليه من جهة الخضوع فهو على تعظيم ذلك، لا على أن يفهم منه ما يفهم مثله من الخلائق؛ نحو القول بأن المساجد لله، وناقة اللَّه وزينة اللَّه، وحدود اللَّه، ونحو ذلك. فما بال المشبهة فهمت من إضافة الاستواء على العرش المعنى المكروه على احتمال الاستواء معاني سوى الذي ذكر، أو أن يقال: استوى: ثم واستوى: قصد، واستوى: علا، واستوى: استقر، واستوى: استولى؛ فإذا كان معناه يتوجَّه إلى هذه الوجوه، لم يحتمل أن يكون أحد يقدر من ذلك؛ إذ هو ما يتوجه إليه، ويعتمد عليه لولا الجهل به. ثم الأصل أن الإضافات إلى الأشياء يفترق المقصود بها، وإن كان في ظاهر المخرج واحدًا باختلاف مَنْ إليه القصد بالإضافة، والإضافة جميعًا. يقال: جاء الحق، وجاء فلان، وبيت فلان، وبيت اللَّه. وقيل في الملائكة: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً)، وقال في الفسقة: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ)، ونحو ذلك لا على الجمع في المعنى، فالاستواء الذي يتوجّه إلى وجوه أحق بذلك، واللَّه الموفق. ثم قد قيل في قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) بوجوه. أحدها: ما قال أبو بكر الأصم: هو على التقديم والتأخير، كأنه قال: إن ربكم اللَّه الذي استوى على العرش ثم خلق ما ذكر؛ فيكون معناه: خلق كذا، وقد استوى على

العرش؛ كقوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) بمعنى: وقد جعل منها زوجها، وعلى هذا ليس في قوله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ. . .) (. . . ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) الشبهة التي في الأول كما لم يكن في قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) إذا صرف إلى " عند " شبهة؛ فيكون: وقد استوى: خلق العرش؛ كقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) بمعنى: ثم خلق السماء أو قصد خلقها، ونحو ذلك. وقال الحسن: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أي: استوى عليه أمره، وصنعه، أي: لم يختلف عليه صنع العرش، وأمره - وإن جل - أمر غيره وصنعه، كقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) على استواء الأمر في التدبير والصنع. وقال الحسن: معناه: استولى على العرش، كما يقال، استوى فلان على بغداد، بمعنى: استولى. وقال قوم: معناه: استوى عليه، وهو فوق كل شيء في القدرة والعظمة، تعظيمًا له على غير اختلاف عليه في التحقيق بينه وبين غيره؛ كالذي ذكر بأن الأمر كله يوم القيامة له، والمساجد له، على التفصيل دون تخصيص له في ذاته من حيث ذلك. وقال قوم: إذ كان العرش فوق كل شيء في تقدير المعارف، فقال: هو علاه بمعنى لا يوصف في الخلق، ولكن على ما كان، ولا خلق. ونحن نقول - وباللَّه التوفيق -: قد ثبت من طريق التنزيل بأنه استوى على العرش، وقد لزم القول بأنه ليس كمثله شيء، وعلى ذلك اتفاق القول ألا يقدر كلامه بما عرف من كلام الخلق، ولا فعله به، وما يوجبه، ولا علمه، ولا ما قيل: هو رب كذا، أو مالك

كذا، لا يراد به المفهوم من الخلق، لكن الوجه الذي يليق به، وما يوجبه حق الربوبية؛ فمثله في الأول. ثم يلزم تسليم المراد لما عنده إذ لم يبينه لنا، وقد ثبت نفي ما يفهم من غيره. وبعد؛ فإن القول فيه بالمكان يفسد بالذي به يحتج بوجوه. أحدها: إن قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) إخبار عن فعله الذي في التحقيق، يضاف إليه في خلق الخلق على اختلاف المخرج في القول؛ نحو: أن ذكر مرة أبدع، ومرة (فَطَرَ)، (وَجَعَلَ)، (وَأَنزَلَ) وأثبت، وكتب، (وَأَعطَى)، وأنشأ، وغير ذلك من الألفاظ. حقيقة ذلك: أنه خلق إذ ذلك معنى فعله في الحقيقة، وعلى ذلك كون وفعل وأمر في بعض المواضع، ثم يجب توجيه كل من ذلك إلى الوجه الذي يليق فيه القول بخلق، وكذا في (هَدَى) (وأَضَلَّ) (وَزَيَّنَ) وأتقن وأحكم، ونحو ذلك.

فكذلك في قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) يجب أن يقابل ذلك بخلق؛ إذ هو إضافة إلى فعله. ثم يخرج على وجهين. أحدهما: ثم خلق العرش، ورفعه، وأعلاه، بعد أن كان العرش على الماء؛ كقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)، وليس ثم تَنَقُّل من حال إلى حال؛ إذ لو كان كذلك لكان يصير حيث ثم ينتقل من خلق إلى خلق فيما يخلق، فيكون في الوقت الذي يصير إلى العرش صائرًا إلى الثرى، وفي الوقت الذي يحدث خلق ما في الأرض؛ وما في السماء، متنقلًا من ذا إلى ذا، وذلك تناقض فاسد، وفي ذلك بطلان معنى القول بالاستواء على العرش، بل يكون أبدًا غير مستوٍ عليه حتى يفرغ من خلق جميع ما يكون أبدًا، وذلك متناقض فاسد، جل اللَّه عن هذا التوهم، وباللَّه التوفيق. والثاني: أن يكون قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أي: إلى العرش في خلقه، ورفعه، وإتمامه، دليل احتماله على ذلك أن على من حروف الخفض وقد يوضع بعض موضع بعض؛ كقوله: (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ)، بمعنى: عن الناس، وقوله: (إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِم)، بمعنى: عند ربهم، مع ما قال اللَّه: (إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)، (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)، بمعنى إليه، وعلى ذلك: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أي: إلى العرش وهو على الماء كما ذكر ما فرفعه وأتمه؛ كما قال: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) فخلق ما ذكر، واللَّه أعلم.

والوجه الثاني: المذكور في الآية من اسم الرب وخلق ما ذكر وتسخير الذي وصفه ثم لم يتوهم في شيء من ذلك المعنى الذي يضاف إلى الخلق أنه رب كذا أو سخر كذا أو صنع كذا ملحد ولا موحد فكيف احتمل قلبي المشبهي في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، لولا جهله به وتقديره بالذي عليه أمر نفسه، واللَّه الموفق. والثالث: أن الناس في خلق اللَّه الخلق مختلفون. فمنهم من جعله الخلق نفسه، دون أن يكون اللَّه بذاته يلحقه وصف سوى إضافة الخلق إليه في أن كان به، فعلى ذلك قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) إنما هو ما ذكر من غير أن كان سبحانه يلحقه وصف لم يكن له. ومنهم مَنْ يراه خالقًا بذاته؛ ليكون جميع الخلائق إلى الأبد بتكوينه الذي يعبر عنه بقوله: كن من غير أن كان ثَمَّ كاف أو نون على كون كل شيء عليه به من غير تغيير عليه، ولا زوال عما كان عليه إذ لا شيء غيره، فكل معنى لو حقق أوجب تغيرًا أو زوالًا أو قرارًا أو نحو ذلك، فاللَّه يجل عنه ويتعالى؛ إذ ذلك علم الحدث، وأمارة الغيرية، ولا قوة إلا باللَّه. والرابع: هو الذي يرى فعله على ما عليه فعل الخلق من التحرك والزوال والسكون والقرار، إضافة من ذلك وصفه إلى مكان دون مكان، وحال دون حال، محال فاسد؛ لذلك بطل القول بالمكان في جميع الأقاويل، وأيّد الذي ذكرت ما ختم به الآية من قوله: (تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وصف ذاته بالربوبية وبالتعالي عن جميع معاني المربوبين؛ إذ من حيث التشاكل يوجب خروجه من أن يكون ربًّا، والآخر من أن يكون مربوبًا، فإذا ثبت أن كل شيء من كل جهة مربوب؛ ثبتت سبحانيته من ذلك

الوجه، واللَّه الموفق. ثم قوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) هو على وجهين: أحدهما: إضمار ما بينهما على ما جرى الذكر به في غيره. والثاني: أن ذكر من وقت ابتداء الكون إلى الانتهاء لا على تحقيق ذلك في كل وقت كما يقال: كان كذا في شهر كذا، لا على إحاطة كلية أجزاء الشهر به؛ فمثله معنى (سِتَّةِ أَيَّامٍ) ومعنى التوقيت ليس على حاجة إلى ذلك؛ إذ الوقت داخل فيما خلق، لكن على وجوه، وإن كان اللَّه سبحانه وتعالى قادرًا على إنشاء جميع ما ذكر بدفعة واحدة: أحدها: ما ذكرت من معنى أن الأيام لمدار مدد الخلق وأطول ما عليه تفنى الأعمار. والثاني: على بيان منتهى العالم. والثالث: على إدخال كل ذلك مع علو درجات كثير منها وجلالة أقدارها في الأعين، حتى لا أحد ينظر إليها إلا بعين التعظيم، وحتى بكثير منها قام تدبير العالم وحتى عبد دون اللَّه تعظيمًا، وإن كان في ذلك دلالة خروجه عن الاستحقاق، فصيرها اللَّه داخلة تحت الأزمنة والمدد مقهورة بها، حتى لو أريد بكل جهد وحيل إخراج شيء من ذلك أو تخليص الجبابرة من ذلك، لما تهيأ لهم ليعلم ذلة الخلق وأمارات الحدث، وعلامة الحاجة، ثم كانت الأوقات مترادفة متتابعة، لو أسقطت عنها الأولية لبطل الكل، ولما جاوز الحساب بالواحد، ولما انتهى إلى ما هو بعد لما مضى ليعلم به أولية كل شيء من العالم، وحدثه مع ما جعلت الأيام تدور على أمر واحد بها بجميع المحتاجين ممن ذكرت، فثبت لذلك بأسماء معروفة أمكن قصد كل منها على الإشارة إليه باسمه المعروف يحفظ فيه المواعيد، ويعلم به ما يجب من الحقوق، ويبطل، واللَّه أعلم. ثم الأصل إذ جعلت هذه الدار دار المحنة، والمحنة إنما كونها تختلف الأحوال جعلت الأحوال مختلفة، نحو: موت وحياة، وصحة وسقم، وغنى وفقر، وجمع الخلق

على حالة منها بأضدادها، وفي ذلك الجهل باللذات والآلام، فيجب بذلك اختلاف الأحوال، وعلى ذلك جرى أمر خلق الخلائق، وعلى هذا أمر الأرزاق وغير ذلك، فعلى ذلك أمر خلق ما ذكر في أيام مختلفة ثم يجمع في البعث بمرة، وفي حال من حال اللذات، والبعث بمرة مع ما كان اختلاف الأحوال أقرب إلى الدلالة، وأوضح للحجة؛ فلذلك جعل في هذه الدار إلزام الحجة وإظهار المحنة والكلفة، واللَّه الموفق. والأصل أن العقول إنشاءات متناهية تقصر عن الإحاطة بكلية الأشياء، والأفهام متناقصة عن بلوغ غاية الأمور؛ إذ هن من أجزاء العالم الذي هو بكليته متناهٍ، وأسباب الإدراك التي يدرك بها باداء المشاعر التي تعجز عن كنه ما يقع عليها من الظواهر، فضلًا عما استتر منها، وإذا كان هذا وصف ما يدرك به مبلغ الحكمة، فهو قاصر عن الإحاطة بالحكمة الموضوعة من البشر، فمن رام الإحاطة بها أو بلوغ حكمة الربوبية من غير إشارة منه، فهو يظلم العقل، ويحمل عليه ما يعلم عجزه عنه، ومعلوم أن المذكور من الأيام في خلق ما ذكر حكمة بالغة، وإن قصرت العقول عن الإحاطة بها؛ إذ الذي قدَّرها هو الذي حمد الحكمة، وأوجب لأهل العقل في ذم السفه وأهله، فأوجب ذلك تحقيق الحكمة لذلك، وإن لم يبلغها إلا مقدار ما يكرم به، واللَّه الموفق. وقوله: (مُسَخَّرَاتٍ) ما ذكر، فكذلك سخرهن بالسير فيما يرجع إلى منافع الخلق، وجعل فيهن آية لولا العيان لم يكن يصدق به أحد ممن يجحد البعث والرسل ونحوهم، إذ الخبر عن سير جوهر واحد في اليوم الواحد مسيرة أكثر من ألف سنة، وتولد جواهر بمعونة من يبعد عنه مقدار خمسمائة عام، ونضج كل شيء وصلاحه به أبعد عن احتمال القبول من إعادة شيء بعد الفناء أو إرسال الرسل بإعلام ما خفي من المصالح والأمور، إذ ذلك أمر متعالم في صنع الخلق معاني ذلك فيما به تقلب الزمان من

الليل والنهار، ولكن اللَّه سبحانه أظهر لهم من قدرته، وعظيم حكمته بما بسط لهم الأرض، بغلظها وسعتها، ورفع عليها السماء بغير عمد ترى، فأقر كلًا من ذلك لحاجة أهلها إلى إقرارها، وسيَّر فيها بالتسخير ما ذكر؛ لحاجة الأهل في تسيير ذلك؛ ليعلم ألا يعجزه شيء ولا يخفى عليه أمر، ولا يدخل في تدبيره عوج، ولا في خلقه تفاوت، وأن الذي أظهر إذا قوبل بالذي وعد يضاعف عليه بوجوه له مع ما كان الذي أظهر هو إبداع على غير احتذاء، وإنشاء الإعادة. واللَّه الموفق. ثم من عجيب قدرته سبحانه في قوله: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) أن اللَّه تعالى يظهر النور في ابتداء النهار من طرف من أطراف السماء، والظلمة في أول الليل، ثم ينشر ذلك ويبسطه في جميع أطراف السماء والأرض، وما بينهما من جميع الأقطار والجوانب، في قدر لحظة بصر، وطرفة العين، ما لو أريد تقدير ذلك بالهندسة، وبجميع ما في الخلق من المقادير لما أحيط بالذي انبسط ذلك النور والظلام؛ ليعلم أن اللَّه على ما يشاء قدير، وأنه لو أراد لخلق جميع ما ذكر في أدق مدة وألطف وقت، وأنه القادر على البعث، وجميع ما جاءت به الرسل، على أنه بالذي ذكرت يلبس وجوه كلية الأشياء السنن، ويجليها بطرف عين بالتدبير، والعلم الذي له يوجب ذلك مما يعجز عن توهم مثله جميع الحكماء، فضلًا عن إدراكه؛ ليعلم أنه عليم لا يجهل، عزيز لا يعجزه شيء، حكيم لا يتفاوت صنعه، ولا يتناقض تدبيره، ولا قوة إلا باللَّه. وقريبًا من ذلك ما جعل في جوهر الإنسان من البصر الذي يبصر بأول أحوال الفتح

قدر خمسمائة سنة، والفكر الذي يبلغ به من غير أن يزول عن مكانه، منتهى مرجع الخلق من الجنة والنار، ويبصر به المعاد والمعاش، والعقل الذي يعرف حقائق من غاب عنه وحضر، مما له صورة وطينة أو إحداهما وما ليس له واحد من الأمرين على قصور الحواس عن إدراك صورة شيء لا طينة له؛ ليعلم أن الذي قدر على تقدير مثله في جوهر واحد وعلم كيف يصنع فيه؛ ليعلم ذلك العلم، قادر على كل شيء، حكيم، عليم. وهذا معنى ما قيل إن الإنسان هو العالم الصغير، بمعنى أنه يوجد فيه لكل أمر من الأمور للعالم الكبير فيه مثالًا، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (بِأَمْرِهِ). قال أبو بكر: يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أمره كما يقال: أتاه أمر اللَّه، أي: الموت، والعذاب، ونحو ذلك على إرادة ذلك الذي نزل به. والثاني: أن يطلعن ويغربن بأمر توحيد اللَّه والإيمان به بما هو فيهن من عجيب الحكمة، ورفع التقدير. وقال الحسن: بأمره الذي به كون الأشياء من " كن ". فالقول الأول هو قول من لا يرى خلق الخلق غير الخلق. والثاني قول من يرى " كن " عبارة عن التكوين الذي يكون به الخلق أبد الآبدين، من غير أن كان ثَمَّ في الحقيقة كاف أو نون. لكنه جاء ما يفهم به المراد من الكلام يراد في ذلك نفي الصعوبة عنه، وتيسير الأمر عليه، وذلك يكون في الحقيقة غير الخلق إذ أخبر في الخلق أنه كان به، وكل شيء يكون بشيء في المتعارف من القول يكون غيره. وكذلك قوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فيه وجهان: أحدهما: الإخبار عن تكوين الخلق الذي هو له.

والثاني: عن الأمر في خلقه بما شاء ولا يُرَدُّ شيء من أمره عن الوجه الذي أمر، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) يذهب بضوء النهار ظلمة الليل، وضوء النهار بظلمة الليل، إذا جاء هذا ذهب سلطان الآخر. (يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) قيل: سريعًا، وهو أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يظهر النور في ابتداء النهار في طرف من أطراف السماء، والظلمة في أول الليل، ثم ينشر ذلك في جميع أطراف السماء والأرض وما بينهما من جميع الآفاق والجوانب في قدر لحظة بصر وطرفة عين، ما لو أريد تقدير ذلك بجميع ما في الخلق من المقادير ما قدروا عليه؛ ليعلم أن اللَّه على ما يشاء قدير، وأنه لو أراد أن يخلق جميع ما ذكر أنه خلق في ستة أيام لقادر أن يخلقه في طرفة عين، لكنه خلقه في ستة أيام لحكمة في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) لا يكون مما ذكر طلب حقيقة، لكن ذكر الطلب؛ لأن ما كان من كل واحد منهما للآخر لو كان ممن يكون له الطلب كان طلبًا وهربًا من غلبة كل واحد منهما صاحبه، وهو ما ذكرنا في قوله تعالى: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) أنها أنشئت على هيئة وجهة لو كان ذلك ممن يكون منه التغرير كان غرورًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) أي: بتكوينه، أي أنشأها، وكَوَّنَها مسخر ات لهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ بأمره ينفعن البشر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الأمر ها هنا هو التكوين. وقيل: ألا له الخلق والتدبير في الخلق. وقيل: له الأمر في الخلق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ): تعالى اللَّه عما فهمت المشبهة من قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).

(55)

وقوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) قَالَ بَعْضُهُمْ: ادعوا، أي: اعبدوا ربكم؛ كقوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي)، ذكر في الابتداء الدعاء وفي آخره العبادة، فكان الأمر بالدعاء أمرًا بالعبادة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الدعاء ها هنا هو الدعاء، وقد جاء " أن الدعاء مخ العبادة "؛ لأن العبادة قد تكون بالتقليد، والدعاء لا يحتمل التقليد، ولكن إنما يكون عند الحاجة لما رأى في نفسه من الحاجة والعجز عن القيام بذلك؛ فعند ذلك يفزع إلى ربه، فهو مخ العبادة من هذا الوجه. وقال بعض أهل التأويل في قوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ) أي: وحدوا ربكم (تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً). قيل: (تَضَرُّعًا) خضوعًا، (وَخُفْيَةً) إخلاصًا. وقيل: (تَضَرُّعًا): ظاهرًا. (وَخُفْيَةً): سرًا. وأصله: أن اعبدوا ربكم في كل وقت وكل ساعة، أو ادعوا خاضعين مخلصين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): قيل: المجاوزين الحد بالإشراك باللَّه. وقيل: لا يحب الاعتداء في الدعاء؛ نحو أن يقول: اللهم اجعلني نبيًا أو ملكًا أو أنزلني في الجنة منزل كذا، وموضع كذا. وروي عن عبد اللَّه بن مغفل سمع ابنه يقول: " اللهم إني أسألك الفردوس "

وأسألك كذا، فقال له عبد اللَّه: سل اللَّه الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور ". ويحتمل الاعتداء في الدعاء: هو أن يسأل ربه ما ليس هو بأهل له؛ نحو: أن يسأل كرامة الأخيار والرسل. وأصل الاعتداء: هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له. وعن الحسن، قال في قوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً): علمكم كيف تدعون ربكم، وقال للعبد الصالح حيث رضي دعاءه: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا). وقال أنس، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عمل البر كله نصف العبادة، والدعاء نصف العبادة ". ومنهم من صرف قوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) إلى الدعاء، وقال: يكره للرجل أن يرفع صوته في الدعاء، ويروون على ذلك حديثًا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سممع قومًا يرفعون أصواتهم في الدعاء، فقال: " أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، ولكن. . . ".

(56)

وقوله: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) بعد ما بعث الرسل بإصلاحها من الدعاء إلى عبادة اللَّه، والطاعة، ويأمرون بالحلال، وينهون عن الحرام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا): بعد ما خلقها طاهرة عن جميع أنواع المعاصي، والفواحش، وسفك الدماء، وغير ذلك. ويقال: (بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) بعد ما أعطاكم أسبابًا تقدرون بها على الإصلاح، وما به تملكون إصلاحها. وجائز أن يكون المراد بإصلاح الأرض: أهلها، أي: لا تفسدوا أهلها؛ وهو كقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا)، والقرية لا توصف بالعتوّ، ولكن أهلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّّ - (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: خوفًا: لما كان في العبادة من التقصير، وطمعًا في التجاوز والقبول؛ لأنه لا أحد يقدر أن يعبد ربه حق عبادة لا تقصير فيها. وعلى ذلك رُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا يدخل الجنة أحد إلا برحمته، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟: قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته ". وعلى ذلك ما روى: " أن الملائكة يقولون يوم القيامة: ما عبدناك حق عبادتك ". ويجب على كل مؤمن أن يكون في كل فعل الخير خائفًا، راجيًا الخوف للتقصير، والرجاء للقبول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خوفًا من عذابه ونقمته، وطمعًا في جنته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). قال أهل التأويل إن الجنة قريب من المحسنين، ويقولون: أراد بالقريب: الوقوع فيها،

(57)

والنزول، ويحتمل أن يكون المراد بالرحمة صفته، فيكون تأويله: إن منفعة رحمة الله قريب من المحسنين. وقال الحسن: إن رحمة اللَّه - وهي الجنة - قريب من الخائفين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ) أي: إجابة اللَّه قريب إلى من استجاب دعاءه، ويحتمل ما ذكرنا من منفعة رحمة اللَّه قريب إلى من ذكر. ثم المحسنين يحتمل المحسنين إلى أنفسهم، أو المحسنين إلى خلقه، أو المحسنين إلى نعم اللَّه، أي: أحسنوا صحبة نعمه، والقيام لشكرها، واجتناب الكفران بها. أو يريد الموحدين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ... (57) يذكرهم عَزَّ وَجَلَّ في هذا حكمته وقدرته ونعمه؛ ليحتج بها عليهم بالبعث، أما حكمته فبما يرسل الرياح والأمطار، ويسوقها إلى المكان الذي يريد أن يمطر فيه ما لم يعاينوا ذلك وشاهدوه ما عرفوا، أنْ كيف يرسل المطر من السماء، وكيف يرسل الريح، ويسوق السحاب، ففي ذلك تذكير حكمته إياهم. وأما نعمه: فهو ما يسوق السحاب بالريح إلى المكان الذي فيه حاجة إلى المطر، فيرسل على ذلك المكان المطر، وذلك من عظيم نعمه؛ ليعلم أن ذلك كان برحمته، لا أنهم كانوا مستوجبين لذلك. وأما ما ذكرهم من قدرته: فهو ما ذكر من إحياء الأرض بعد ما كان ميتة؛ ليعلم أن الذي قدر على إحياء الأرض، وإخراج النبات والثمر بعدما كان ميتًا، لقادر على إحياء الموتى وبعثهم بعد موتهم، على ما قدر على إحياء الأرض بالنبات وإحياء النخل بالثمار بعدما كان علم كل أن لا نبات فيها ولا ثمار فيه؛ فإذا خرج النبات منها والثمار من النخيل على ما خرج في العام الأول، دل ذلك على وحدانيته وقدرته على إحياء الموتى وبعثهم بعدما ماتوا وصاروا ترابًا على قدر ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وفي قوله: (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) دلالة ألا تفهم من اليدين الجارحتين على ما يفهم من الخلق، كما لم يفهم أحد بذكر اليد في المطر الجارحة؛ لأنه لا جارحة له؛ فعلى ذلك لا يفهم من ذكر اليد له الجارحة من قوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) وكذلك قوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، لم يفهم من قوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) الجارحة للقرآن، فعلى ذلك لا يفهم مما ذكر، من يديه

الجارحة، ومن فهم ذلك فإنما يفهم لفساد في اعتقاده. وكذلك ما ذكر من الاستواء على العرش، والاستواء إلى السماء، لا يفهم منه ما يفهم من استواء الخلق؛ لأنه بريء عن جميع مشابه الخلق، ومعانيهم، وهو ما وصف حيث قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: يرسل الرياح - نَشْرًا - نَشَرًا - بُشْرى - والنشر: هو من جمع نشور، وهو من الإحياء، ونشرًا من التفريق، وبشْرى بالباء -: من البشارة، ثم قيل في قوله: " نشرًا " اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هو الذي يفرق ويسوق ذلك السحاب. وقيل: الريح هو الذي يرسل، ويسوق ذلك السحاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا) قيل: أقلت: حملت. وقيل: رفعت الماء، وهو واحد، ثقالًا مما فيه من الماء (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) إلى بلد ميت، (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ) أي: البلد. (فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: من كل الثمرات ما يشاهدون من الثمرات. كذلك يخرج الموتى بعد ما ماتوا وذهب أثرهم كما أخرج النبات والثمار من الأرض والنخل من بعد ما ماتوا وذهب أثر ذلك النبات وذلك الثمار، فعلى ذلك يخرج الموتى بعد ما ذهب أثرهم حتى لم يبق شيء. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ): وتتفكرون وتعرفون قدرته وسلطانه على الإحياء بعد الموت، أو تذكرون، أي: تتعظون. وبعد، فإن إعادة الشيء في عقول الخلق أهون وأيسر من ابتداء الإنشاء. ألا ترى أن الدهرية والثنوية وهَؤُلَاءِ قد أنكروا الإنشاء لا من شيء، ورأوا وجود الأشياء وخروجها وإعادتها عن أصل وكيان وهو ما ذكر. (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، أي: في عقولكم.

(58)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ... (58) ذكر المثل ولم يذكر المضروب، وأهل التأويل قالوا: ضرب المثل للمؤمن والكافر، ثم يحتمل ضرب المثل وجوهًا. أحدها: أنه وصف الأرض التي يخرج منها النبات بالطيب، ووصف الأرض التي لا يخرج منها النبات بالخبث، فعلى ذلك المؤمن لما كان منه من الأعمال من الطاعة لربه، والائتمار لأمره موصوف هو بالطيب، وجعله من جوهر الطيب، والكافر لما يكون منه من الأعمال الخبيثة، ولا يكون له من الأعمال الصالحة من الطاعة لربه خبيث، كما أن الأرض التي يخرج منها النبات الذي ينتفع به موصوفة بطيب الأصل والجوهر، والتي لا يخرج منها النبات ولا ينتفع به موصوفة بخبث الأصل. وأمكن أن يكون من وجه آخر، وهو أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل هذا القرآن مباركًا، شفاء للخلق على ما وصفه اللَّه تعالى في غير موضع من الكتاب، ووصف الماء الذي ينزل من السماء بالبركة والرحمة، فإذا نزل ذلك الماء المبارك في الأرض الطيبة الجوهر، خرج منها النبات، والأنزال ينتفع بها، وإذا نزل في الأرض السبخة الخبيثة، لم يخرج لخبث أصلها، فعلى ذلك هذا القرآن هو مبارك شفاء، فيسمعه المؤمن، فيتبعه، ويعمل به، والكافر يسمعه ولا يتبعه، ولا يعمل به، فصار مثل المؤمن الذي يسمع هذا القرآن ويتبعه ويعمل بما فيه، كمثل الماء الذي يدخل في الأرض فيخرج منه النبات؛ لطيب جوهرها وأصلها، والكافر مثل الأرض التي لا يخرج منها النبات لخبث أصلها وجوهرها، وأصله: أنه ضرب مثل الذي هو مستحسن بالعقل بالذي هو مستحسن

بالطبع؛ لأن ما حسن في الطبع فإنما معرفته حسن، وما حسن في العقل فإنما يعرف حسنه بالدلائل وهو غائب، فضرب مثل الذي معرفة حسنه بالعقل وهو غائب بالذي معرفة حسنه حس ومشاهدة فالإيمان حسن وغائب ضرب مثله بالذي طريق معرفة حسنه بالحس والمشاهدة، وهو ما ذكر من النبات الذي يخرج من الأرض، وذلك يدل على طيب أصلها وجوهرها، والتي لا تخرج شيئًا هو لخبث جوهرها وأصلها، فعلى ذلك المؤمن والكافر، ثم حسن عمل هذا وطيبه وقبح عمل الآخر وخبثه إنما يظهر في الآخرة وذلك يوجب البعث لأنهما جميعًا استويا في هذه الدنيا، فدل أن هنالك دارًا أخرى فيها يظهر الطيب من الخبيث طاب عمل المؤمن، وجميع ما يكون منه حسنًا لطيب أصله، وخبث عمل الكافر وقبح ما يكون منه لخبث أصله، كالأرض التي ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: " بإذن ربه " يحتمل بعلمه وتكوينه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا نَكِدًا). قال الحسن: خبيثًا، أي: لا يخرج إلا خبيثًا. وقال أبو بكر: نَكِدًا، أي: لا منفعة فيه. وقيل: إلا عسيرًا. وقيل: إلا قليلًا وهو واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ). أي: لقوم ينتفعون بالآيات. * * * قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)

(59)

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ... (59) كما أرسلناك إلى قومك ولست أنت بأول رسول؛ كقوله: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ). وفيه دلالة أن الإيمان يصح بالأنبياء والرسل، وإن لم تعرف أنسابهم؛ لأن اللَّه - عز وجل - ذكر الأنبياء والرسل بأساميهم، ولم يذكر أنسابهم، دل ذلك أن الإيمان يكون بهم إيمانا وإن لم تعرف أنسابهم؛ وكذلك يصح الإيمان وإن لم تعرف أسماؤهم؛ لأن هن الأنبياء هن لا يعرف اسمه، فيصح الإيمان بجملة الأنبياء، وإن لم تعرف أسماؤهم، وفي ذلك دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر عن رسالة نوح، فدل أنه باللَّه عرف ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). قيل: قوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ).، أي: وحدوا اللَّه، سموا التوحيد عبادة لأن العبادة، لا تكون ولا تصح إلا بالتوحيد فيها لله خالصا سمي بذلك مجازًا إذ يجوز أن يكون عبادة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). أي: ما لكم من الإله الحق الذي ثبتت ألوهيته وربوبيته بالدلائل والبراهين من إله غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنِّي أَخَافُ)، أي: إني أعلم أن ينزل عليكم عذاب يوم عظيم إن متم على هذا. أو قَالَ بَعْضُهُمْ: الخوف هو الخوف، وهو خوف إشفاق، وذلك يحتمل أن يكون في الوقت الذي كان يطمع في إيمان قومه، ثم آيسه اللَّه عن إيمان قومه بقوله: (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). هو يوم عظيم للخلق؛ كقوله (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ). (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ

(60)

الْعَالَمِينَ)، وهو عظيم للخلق على ما وصف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ ... (60) هم أشراف قومه وسادتهم؛ كقوله: (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا. . . .)، الآية، وكانوا هم أضداد الأنبياء والرسل؛ لأنهم كانوا يدعون الناس إلى ما يوحي إليهم الشياطين، والرسل كانوا يدعون إلى ما يوحي إليهم اللَّه، وينزل عليهم؛ لذلك قالوا: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)؛ لأنهم ظنوا أن ما أوحى إليهم الشيطان هو الحق، وأن ما يدعو إليه الرسل هو ضلال وباطل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ ... (61) أي: لست أنا بضال؛ لأنه إذا نفى الضلال عنه، نفى أن يكون ضالاً، وهو حرف رفق ولين، وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل أن يعاملوا قومهم؛ لأن ذلك أنجع في القلوب، وإلى القبول أقرب. (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، والعالم هو جوهر الكل. ويحتمل قوله: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: لفي خطإ مبين، ثم يخرج على وجهين: أحدهما: نسبوه إلى الخطأ؛ لما رأوه خالف الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم القتل لمن خالفهم. والثاني: نسبوه إلى الخطأ؛ لأنه ترك دين آبائه وأجداده، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي ... (62) رسالته التي أمرني بتبليغها إليكم، قبلتم أو رددتم؛ أُوعدتم أوْ وعدتم، لأني أبلغها

(63)

على أي حال استقبلتموني، أو يقول: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي) رسالته التي أرسلها إليَّ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) يحتمل قوله: (وَأَنْصَحُ لَكُمْ): أي: أدعوكم وآمركم إلى ما فيه صلاحكم، وأنهاكم عما فيه فسادكم، والنصيحة هي الدعاء إلى ما فيه الصلاح، والنهي عما فيه الفساد، وتكون النصيحة لهم، ولجميع المؤمنين. روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، قال: " ألا إن الدِّين النصيحة قيل: لمن يا رسول اللَّه؟ قال: لله ولرسوله ولجميع المؤمنين ". قال الشيخ أبو الفدا الحكيم - رحمة اللَّه عليه -: النصيحة: هي النهاية من صدق العناية، ثم أخبر أنه يبلغهم رسالات به، ولم يبين فيم ذا؟! في كتاب أنزله عليه، أو بوحي في غير كتاب يوحى إليه، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى التصديق له فيما يبلغ إليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). قد أتاه من اللَّه العلم بأشياء ما لم يأت أُولَئِكَ مثله، وهو كقول إبراهيم - عليه السلام - لأبيه: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي) ويحتمل قوله: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ) من العذاب أنه ينزل بكم (مَا لَا تَعْلَمُونَ) أنتم إذا دمتم على ما أنتم عليه. وقوله: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... (63) أي: تعجبون بما جاءكم ذكر من اللَّه على يدي رجل منكم ما لا أقدر أنا ولا تقدرون أنتم على مثله، كانوا يعجبون وينكرون أن يكون رسل اللَّه من البشر بقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً)، ونحو ذلك كانوا ينكرون رسالة البشر وما ينبغي لهم أن ينكروا ذلك؛ لأنهم قد كانوا رأوا

(64)

تفضيل بعض البشر على بعض، وفي وضع الرسالة فيهم - أعني في الرسل - تفضيلهم، وذلك قد رأوا فيما بينهم، ولله تفضيل بعضهم على بعض؛ إذ له الخلق والأمر، ولكل ذي ملك وسلطان أن يصنع في ملكه ما شاء من تفضيل بعض على بعض وغيره. أو يقول: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ): على يدي رجل منكم، ولو كان جاء الذكر على من هو من غير جوهركم، كان في ذلك لبس واشتباه عليكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُنْذِرَكُمْ) عذاب اللَّه: (وَلِتَتَّقُوا) معاصيه (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ): إن اتقيتم ما نهاكم عنه، أو كان في قومه من يجوز أن يرحم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) يعني نوحًا فيما دعاهم إلى عبادة اللَّه ووحدانيته، ونهاهم عن عبادة غير اللَّه، أو كذبوه فيما آتاهم من آيات يبوته ورسالته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْجَيْنَاهُ). يعني نوحًا، والذين آمنوا في الفلك. (وَأَغْرَقْنَا). الذين كذبوا بآياتنا، إذا كان إهلاك القوم إهلاك تعذيب وعقوبة، ينجي أولياءه ويبقيهم إلى الآجال التي قدر دهم، ويكون ذلك نجاة لهم من ذلك العذاب الذي حل بالأعداء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): أي: بآياتنا، التي جعلناها لإثبات

(65)

رسالته ونبوته، ويحتمل: كذبوا بآياتنا التي أعطيناه لوحدانية اللَّه وألوهيته. (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ). عموا عن الحق. * * * قوله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا). أي: وأرسلنا هودًا إلى عاد، وهو على ما ذكر في نوح، وهو قوله: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)؛ فعلى ذلك قوله: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا)، أي: إلى عاد أرسلنا هودًا. ثم تحتمل الأخوة وجوهًا أربعة: أخوة النسب، وأخوة الجوهر، ويقال هذا إذا كان من جوهره، ولا يقال ذلك في غير جوهره، وأخوة المودة والمحبة، وأخوة الدِّين، ثم لم يكن بين هود وقومه أخوة الدِّين، ولا أخوة المودة، لكن يحتمل أخوة النسب؛ لأن البشر على بعد من آدم كلهم أولاده، فإذا كانوا كذلك فهم فيما بينهم بعضهم أخوة بعض؛ كأولاد رجل واحد، يكون

(66)

بعضهم أخوة بعض، وأخوة الجوهر على ما ذكرنا، يقال: هذا أخ هذا إذا كان من جنسه وجوهره، فهذين الوجهين يحتملان، والوجهان الآخران لا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). أي: اعبدوا اللَّه الذي يستحق العبادة و (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) أي: ليس لكم من معبود سواه، وهو المعبود في الحقيقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا تَتَّقُونَ). عبادة غير اللَّه، أو: أفلا تتقون اللَّه في عبادتكم غيره، وفي تكذيبكم هودًا، أو أن يقول: أفلا تتقون عذاب اللَّه ونقمته عليكم بمخالفتكم إياه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قد ذكرنا قول الملأ من قومه، أي: أشراف قومه وساد، تهم (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ). ذكر هاهنا ظنهم في تكذيبهم الرسول، وفي موضع آخر قطعوا في التكذيب وهو قوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ)، فكان قوله: (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) في ابتداء ما دعاهم إلى عبادة اللَّه ووحدانيته، كانوا على ظن فيه لما كان عندهم صدوقًا أمينًا قبل دعائهم إلى ما دعاهم، فلما أن أقام عليهم آيات الرسالة والنبوة وأظهر عندهم عيب ما عبدوا غير اللَّه، وأبطله، وتحقق ذلك عندهم - عند ذلك قالوا: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ليعلم أنهم عن عناد، كذبوا الرسل، فقال: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ ... (67) إن الرسل - عليهم السلام - كانوا أمروا أن يعاملوا الخلق بأحسن معاملة، وهو على ما أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ حيث قال له: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)، ونحوه، فعلى ذلك الرسل الذين كانوا من قبل كانوا مأمورين بذلك؛ لذلك قال لهم هود لما تلقوه بالتكذيب والتسفيه قال: ليس بي ما تقولون وتنسبونني إليه، (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ

(68)

رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أي: أدعوكم إلى وحدانية اللَّه، وعبادته، والتمسك بالدِّين الذي به نجاتكم، وكل من دعا آخر إلى ما به نجاته فهو ناصح له. ويحتمل قوله: (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)، أي: كنت ناصحًا لكم قبل هذا أمينًا فيكم، فكيف تكذبونني وتنسبونني إلى السفه، وأنا أمين على الرسالة والوحي الذي وضع الله عندي؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي): شئتم أو أبيتم. أو يقول: أبلغكم رسالات ربي خوفتموني أو لم تخوفوني، قبلتم عني أو لم تقبلوا. أو يقول: أبلغكم رسالات ربي، فكيف تنسبونني إلى السفه والافتراء على اللَّه؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) يحتمل قوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ) وجوهًا: أحدها: أنه جعلكم خلفاء قوم أهلكهم بتكذيبهم الرسل، ولم يهلككم، فاحذروا أنتم هلاككم بتكذيبكم الرسول كما أهلك أُولَئِكَ بتكذيبهم الرسل. أو أن يقال: جعلكم خلفاء قوم صدقوا رسولًا من البشر وهو نوح، فكيف كذبتموني في دعوى الرسالة لأني بشر ودعائي إلى عبادة اللَّه ووحدانيته؟! هذا تناقض. والثاني: أن اذكروا نوحًا وهو كان رسولاً من البشر، فكيف تنكرون أن يكون الرسول أبشرًا؛ وكان الرسل جميعًا من البشر. والثالث: أن اذكروا نعمة اللَّه التي أنعمها عليكم من السعة في المال، والقوة في الأنفس، وحسن الخلقة، والقامة، وكان لعاد ذلك كله؛ كقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7). . . .). هذا في السعة في المال، وأما القوة في الأنفس والقامة ما ذكر في قوله: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) أو قوله: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)، فيه وصف لهم بالقوة، وطول القامة، وعلى ذلك فسر بعض أهل التأويل. وقوله: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً) يعني: قوة وقدرة. وقال غيره: هو الطول والعظم في الجسم، وذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في عاد أشياء أربعة خصَّهم بها من بين غيرهم. أحدها: العظم في النفس؛ كقوله: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً).

(70)

والقوة، في قوله: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً). والسعة في الأموال بقوله: (بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ). وفضل العلم بقوله: (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الآلاء: هي في دفع البلايا، والنعماء هي في سوق النعماء إليه، ولكن هما واحد؛ لأنه ما من بلاء يدفع عنه إلا وفي ذلك سوق نعمة أخرى إليه؛ ولأن اللَّه - تعالى - ذكر في سورة الرحمن الآلاء بجميع ما ذكر إنما ذكر على سوق النعم إليه قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) حيث قال: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)، إلى آخر ما ذكر من السورة، وهو ذكر في سوق النعم لا في دفع البلايا. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). أي: تفلحون إن ذكرتم نعمه، وشكرتم له عليها، ولم تصرفوا عبادتكم وشكركم إلى غيره، أو يقول: لكي يلزمكم الفلاح، أو حتى تكونوا من أهل الفلاح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ... (70) هذا يدل أن رسالته التي يبلغها إليهم هي دعاؤه إياهم إلى عبادة اللَّه وحده وتركهم عبادة من دونه، حيث قالوا: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) ولا شك أنه إنما جاءهم ليعبدوا اللَّه وحده، وجاءهم ليذروا ما كان يعبد آباؤهم. ثم في قولهم تناقض؛ لأنهم كانوا ينكرون أن يكون من البشر رسول بقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ)، لم يرضوا برسالة البشر، ورضوا بألوهية الأحجار والخشب، ثم يقلدون آباءهم في عبادتهم غير اللَّه، وفي آبائهم من يعبد اللَّه لا يعبد غيره، وهم الذين نجوا مع نوح، فكيف لم

(71)

يقلدوا من نجا منهم، ولم يعبدوا غير اللَّه دون أن قلدوا الذين عبدوا غير اللَّه؛ فذلك تناقض، حيث اتبعوا من هلك منهم بتكذيبهم الرسل وعبادتهم غير اللَّه، ولم يتبعوا من نجا منهم. يذكر - عَزَّ وَجَلَّ - سفههم وتناقضهم في القول في إنكارهم الرسول من البشر، ولكن ذكر سفههم وتناقضهم بالتعريض لا بالتصريح، وكذلك عامة ما ذكر في كتابه من سفههم إنما ذكر بالتعريض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). إنه كان يعدهم العذاب إن لم يصدقوه فيما يدعوهم إليه، وترك تقليدهم آباءهم في عبادتهم غير اللَّه " وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ... (71) قَالَ بَعْضُهُمْ: الرجس: العذاب، أي قد وجب عليكم العذاب بتكذيبكم هودًا، وتقليدكم آباءكم في عبادتكم غير اللَّه، (وَغَضَبٌ): وهو العذاب أيضا. وجائز: أن يكون الرجس هاهنا الخذلان، وحرمان التوفيق والمعونة، أي: قد وقع عليكم ووجب الخذلان، وحرمان التوفيق باختياركم ما اخترتم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرجس: هو الإئم والخبث؛ كقوله - تعالى -: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)، وقوله: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وقوله: " اللهم إني أعوذ بك من الرجس " النجس الخبيث المخبث من الشيطان الرجيم ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا). ومجادلتهم ما قالوا: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ) ويحتمل في (أَشمَآ) أي: بأسماء سميتموها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ).

(72)

قيل: حجة، أي: لم ينزل لهم حجة في عبادتهم غير اللَّه. وقيل: السلطان هاهنا عذر، أي: لم ينزل لهم عذرًا في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْتَظِرُوا). أي: انتظروا أنتم وعد الشيطان. (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) وعد الرحمن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) أي: من حجة في تسميتهم الأصنام التي عبدوها دون اللَّه ما سموها آلهة وشفعاء ونحوه، كأنهم إنما جادلوه في تسميتهم آلهة وشفعاء، وأنْ ليس لهم حجة ولا عذر في عبادتهم غير اللَّه، ولا في إشراكهم غيره في العبادة والألوهية. (فَانْتَظِرُوا): قال الحسن: انتظروا أنتم مواعد الشيطان، (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ): لمواعد اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْجَيْنَاهُ ... (72) يعني هودًا (وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا). إن من حكم اللَّه أنه إذا أهلك قومًا إهلاك تعذيب، استأصلهم وأنجى أولياءه ونصر هم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) يحتمل قوله (بِرَحْمَةٍ مِنَّا): برحمته التي هداهم عَزَّ وَجَلَّ، ولولا رحمته ما اهتدوا، لكنه رحمهم فهداهم، فبرحمته اهتدوا، ويحتمل أنه إنما أنجاهم من العذاب برحمة منه، وإلا كانت لهم ذنوب وخطايا يستحقون بها العذاب، لكنه أنجاهم بإحمة منه وفضل، واللَّه أعلم. وفيه: أن من نجي إنما نجى برحمته وفضله، وإن كان رسولًا لا باستيجاب منه النجاة، وهو ما روي حيث قال: " لا يدخل الجنة أحد إلا برحمة اللَّه، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته ".

(73)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) قيل دابر الذين كذبوا أي: أواخر الذين كذبوا واستأصلهم فلم يبق منهم أحد، وقيل (وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا)، أي: أصل الذين كذبوا بآياتنا، ولم يبين لنا آياته التي أعطاها هودًا، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى ما أخبر أن ما حل بهم من العذاب إنما حل بتكذيبهم الرسول، وذلك كان سنة وحكمة في الأمم السالفة. * * * قوله تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا). قد ذكرنا أنه صلة قوله: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)، كأنه قال: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَخَاهُمْ) قد ذكرنا أنه تحتمل الأخوة وجوهًا أربعة: أخوة النسب، وأخوة الجوهر والشكل على ما يقال: هذا أخو هذا إذا كان من جوهره وشكله، وأخوة المودة والخلة، وأخوة الدِّين، ثم يحتمل أن يكون ما ذكر من أخوة صالح كان أخوهم في النسب، أو في الجوهر على ما ذكرنا في هود، ولا يحتمل أن يكون في المودة والدِّين، وأما أخوة النسب فإنه يحتمل لما ذكرنا أن بني آدم كلهم إخوة، وإن بعدوا؛ لأنهم كلهم من أولاد آدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). قد ذكرنا أن الرسل بأجمعهم إنما بعثوا ليدعوا الخلق إلى وحدانية اللَّه، والعبادة له؛ وأن لا معبود سواه يستحق العبادة من الخلق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قيل فيه بوجهين. قيل: (بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)، ما ذكر من الناقة التي جعلها اللَّه آية لرسالة صالح، وهي: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً). وقيل: (بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) آيات ظهرت لهم على لسان صالح، وجرت على يديه ما يدلّ على رسالة صالح ونبوته، لكنهم كابروا تلك الآيات في التكذيب وعاندوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً). وجه تخصيص إضافة تلك الناقة إلى اللَّه يحتمل وجوهًا، وإن كانت النوق كلها لله في الحقيقة: أحدها: لما خصت تلك بتذكير عبادته تعالى إياهم ووحدانيته تعظيمًا لها، على ما خصت المساجد بالإضافة إليه، بقوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)؛ لما جعلت تلك البقاع لإقامة عبادة اللَّه، فخصت بالإضافة إليه تعظيمًا لتلك البقاع فعلى ذلك هذه الناقة خصت بالإضافة إليه، لما جعلها اللَّه آية من آياته خارجة من غيرها من النوق

مخالفة بنيتها بنية غيرها؛ إما خلقة، وإما في ابتداء إحداثها وإنشائها أو في أي شيء كان، فأضافها إليه لذلك، واللَّه أعلم. ثم لا يجب أن يتكلف المعنى الذي له جعل الناقة آية؛ لأنه - جل وعلا - لم يبين لنا ذلك المعنى، فلو تكلف ذكر ذلك فلعله يخرج على خلاف ما كان في الكتب الماضية، فهذه القصص وأخبار الأمم الماضية إنما ذكرت في القرآن؛ لتكون آية لرسالة مُحَمَّد - صلوات اللَّه عليه وسلامه - فلو ذكرت على خلاف ما كان كان لهم في ذلك مقال. ويحتمل معنى الإضافة إليه وجهًا آخر، وهو: أنه لم يجعل منافع هذه الناقة لهم، ولا جعل عليهم مؤنتها، بل أخبر أنْ ذروها تأكل في أرض اللَّه، جعل مؤنتها فيما يخرج من الأرض، ليست كسائر النوق التي جعل مؤنتها عليهم، ومنافعها لهم بإزاء ما جعل عليهم من المؤن، فمعنى التخصيص بالإضافة إليه لما لم يشرك فيها أحدًا ولا في منافعها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ. دلالة أن تلك الناقة كان غذاؤها مثل غداء سائر النوق، وإن كانت خارجة عن طباع سائر النوق من جهة الآية؛ ليعلم أنها وإن كانت آية لرسالته ودلالة لنبوته فتشابهها لسائر النوق في هذه الجهة لا يخرجها عن حكم الآية، فعلى ذلك الرسل وإن كانوا ساووا غيرهم من الناس في المطعم والغذاء لا يمنع ذلك من أن يكونوا رسلًا، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ). يحتمل: لا تتعرضوا لها قتلًا ولا قطعًا ولا عقرًا لما ليست هي لهم، (فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ

(74)

أَلِيمٌ)، وفي مواضع أخر: (فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ)، فهذا يدل على أنه إنما أراد بالعذاب الأليم عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة؛ لأنه قد يأخذهم عذاب الآخرة بكفرهم، فالوعيد بأخذ العذاب لهم عذاب الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ ... (74) قد ذكرنا تأويله في قصة هود. (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ). قيل: أنزلكم فيها تتخذون من سهولها قصورًا. (وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - ما أنعم عليهم من سعة المال، وبسط الرزق لهم، وما خصهم من اتخاذ البيوت من الجبال دون غيرهم من الناس، خص هؤلا بسعة الرزق وبسط الأموال، وقوم هود بالقوة والبطش، بقوله: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)، وقال في آية أخرى: (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، وقال: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)، كان خصهم بفضل القوة والبطش والطول من بين غيرهم، وهَؤُلَاءِ بسعة الأرزاق لهم وبسط الأموال، (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ)، من السعة في الأموال والبسط، وبما جعلكم خلفاء من بعد عاد، وبما أقدركم على اتخاذ البيوت من الجبال لم يقدر على مثله أحد؛ لأن غيرهم من الخلائق إنما ينتفعون بالجبال على ما هي عليها، وأما هم فقد مكّن لهم على نحتها واتخاذها بيوتًا. (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). أي: اذكروا نعمته، ولا تشركوا في عبادتكم غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ... (75) قد ذكرنا أن الملأ من قومه هم كبراؤهم وسادتهم، استكبروا عليه لما رأوه دون أنفسهم في أمر الدنيا، فلم يتبعوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ).

(76)

فيه دلالة أن من المستضعفين من قومه من لم يكن آمن؛ حيث خص لمن آمن منهم. وفيه: أن أول من اتبع الرسل هم الضعفاء، وكذلك كان الأتباع للرسل جميعًا الضعفاء. وقولهم: (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ)، قول هَؤُلَاءِ الذين آمنوا بصالح وصدقوه في رسالته لم يخرج في الظاهر جواب ما سألوا؛ لأنهم قالوا: (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ)، إنما سألوهم عن علمهم برسالته، لم يسألوهم عن إيمانهم به، فهم إنما أجابوا عن غير ما سئلوا في الظاهر، لكن يجوز أن يكنى بالعلم عن الإيمان، فكأنهم قالوا لهم: تؤمنون بصالح وتصدقونه؟ لأن العلم بالشيء قد يقع بلا صنع، والإيمان لا يكون إلا بصنع منهم؛ فكأنهم إنما سألوهم عن الإيمان به؛ لذلك قالوا: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ). والثاني: كأنهم قالوا: بل علمنا أنه مرسل من ربه، وإنا بما أرسل به مؤمنون. وفيه: دلالة أن من مكن له من العلم بأسباب جعلت له يصل بها إلى العلم، لم يعذر بجهله في ذلك بعد ما أعطي أسباب العلم؛ حيث قالوا: أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه، أي: لا تعلمون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فيه دلالة أن الإيمان: هو التصديق في اللغة، والتكذيب: هو ضد ما يكون به التصديق؛ حيث أجابوا بالتكذيب لإيمانهم به؛ لقولهم: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فهَؤُلَاءِ لم يعرفوا جميع الطاعات إيمانًا على ما عرفه بعض الناس، إنما عرفوه تصديقًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ ... (77) أضاف هاهنا العقر إليهم جميعًا، وفي موضع آخر أضاف إلى الواحد بقوله: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ)، وفي سورة (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) كذلك أضاف إلى الواحد: (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا)، لكن فيما كان مضافًا إليهم

جميعًا يحتمل أن تولى واحد منهم عقرها بمشورتهم جميعًا، ومعونتهم، وتدبيرهم، وتراضيهم على ذلك، فأضيف إليهم ذلك لاجتماعهم على ذلك، وإلى الواحد فيما تولى جرحها ومنعها عن السير، ففيه دلالة لمذهب أصحابنا أن قطاع الطريق إذا تولى بعضهم القتل، وأخذ الأموال، ولم يتول بعضهم يتشاركون جميعًا: من تولى منهم، ومن لم يتول في حكم قطاع الطريق بعد أن يكون بعضهم عونًا لبعض، وكذلك إذا اجتمع قوم على قتل واحد، فتولى بعضهم القتل ولم يتول بعض بعد أن كانوا في عون أُولَئِكَ، فإنهم يقتلون جميعًا، وعلى ذلك يخرج قول عمر - رضِي اللَّه عنه - حيث قال: " لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم " وأهل صنعاء إذا اجتمعوا لا سبيل للكل أن يتولوا قتله، فدل أنه على العون والنصر لبعضهم بعضًا فيتشاركون جميعًا في القصاص على ما تشارك أُولَئِكَ جميعًا في العذاب: من تولى عقرها ومن لم يتول، بعد أن كان ذلك العقر بمعونتهم، وبتراضيهم على ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ... ) إنما أخذهم العذاب لما استعجلوا منه العذاب، وكذبوه فيما يوعدهم العذاب ويعدهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ). العتو: هو النهاية في التمرد، والخلاف لأمره على العلم منهم بالخلاف لا على

(78)

الغفلة والجهل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ... (78) قيل: الزلزلة. وقيل: الصيحة، وقال في آية أخرى (فأخذتهم الصيحة) وقال في آية أخرى: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ)، والقصة في ذلك كله واحد، فجائز أن يكون ذلك واحدًا، وإن اختلفت ألفاظه، وهو عبارة عن العذاب، وجائز أن تكون الصيحة لما صيح بهم صعقوا جميعًا فماتوا، وهو واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ). قيل: ميتين وقيل لازقين بالأرض قد ماتوا وذهبوا، ويقال: جثم الطائر: إذا لزق بالأرض، يقال: أجثمته، أي: ألزقته بالأرض، والمجثمة يقال: طائر يشد جناحاه

(79)

ورجلاه، ثم يوضع بالأرض، ثم يرمي بالنبل حتى يموت، يقال: جثمت الطائر، أي: شددت رجليه وجناحيه. يقال: جثم يجثم جثمًا: إذا فعل ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ ... (79) أي: أعرض عنهم، وخرج من بينهم حين علم أن العذاب ينزل بهم. وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، والنصيحة ما ذكرنا أن كل من دلّ آخر على ما به نجاته وسعى على دفع البلاء والهلاك عنه، فهو ناصح له، فعلى ذلك صالح وغيره من الرسل قد دلوا قومهم على ما به نجاتهم، وسعوا على دفع الهلاك عنهم، لكنهم لم يقبلوا النصيحة منهم. * * * قوله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ). ذكر في غيره من الأنبياء دعاءهم قومهم إلى عبادة اللَّه ووحدانيته، على ما قال نوح: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، وكذلك قال هود، وصالح، وشعيب، وغيرهم من الأنبياء، ولم يذكر في لوط ذلك هاهنا، ولا يحتمل أن لم يكن منه الدعاء إلى ما كان من غيره من الأنبياء إلى توحيد اللَّه وعبادته قبل النهي عن

الفواحش، والتعيير عليها، وهو ما ذكر في آية أخرى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163). لأنه كان من الأنبياء - صلوات اللَّه وسلامه عليهم - دعاء قومهم إلى عبادة اللَّه، ووحدانيته أولًا، ثم النهي عما ارتكبوا من الفواحش والمعاصي، والتعيير عليها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) قوله: (مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) يحتمل أن يكون منهم ما كان من سائر الأقوام تقليد الآباء في العبادة لغير اللَّه؛ كقولهم: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) وقولهم: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)، و (مُقْتَدُونَ)، وقوله: (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)، ونحو ما قالوا؛ فعلى ذلك من قوم لوط للوط لما دعاهم إلى عبادة اللَّه، ووحدانيته، فأجابوه بما أجاب الأقوام لأنبيائهم من التقليد لآبائهم؛ فقال: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ)، أي: تعملون أنتم أعمالًا لم يعملها آباؤكم، ولا تقلدون آباءكم في تركها من نحو ما ذكر من إتيان الفاحشة، فقال: (مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) يعيرهم، ويسفه أحلامهم في إتيان ما يأتون من الفاحشة التي لم يسبقهم أحد من العالمين، على علم منهم أن ذلك فاحشة. ألا ترى أنهم قالوا: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) دل هذا القول على أن ما يأتون من الفواحش يأتون على علم منهم أنها فواحش؛ حيث قالوا: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ). ثم قوله: (الْفَاحِشَةَ) لما في العقل والشرع؛ لأن ما حرم من المحرمات على الخلق، وأحل المحللات محنة منه لهم على ذلك، ثم جعل فيما أحل لهم من الأطعمة

والأشربة والاستمتاع بالنساء والجواري دوامًا لهذا العالم؛ لأنهم لو تركوا التناول من ذلك لهلكوا، فإذا هلكوا انقطع هذا العالم لما ينقطع نسلهم، ثم ركب فيهم الشهوات

(81)

والحاجات التي تبعثهم على التناول مما أحل لهم ليدوم هذا العالم؛ لأنه ما أحل لهم للشهوة خاصة، ولكن لما ذكرنا فأخبر أن ما يأتون هم هو فاحشة؛ لما ليس إتيانهم إياها إلا لنفس قضاء الشهوة، إذ ليس في ذلك دوام العالم وبقاؤه، فهو في العقل فاحش محرم، وإنْ لم يرد فيه النهي، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) الإسراف: هو الإكثار من الشيء، والمجاوزة عن الحد؛ كقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)، القتر: هو التضييق، والإسراف: هو الإكثار، حيث قال:

(82)

(وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)، فإذا كان الإسراف هو الإكثار من الشيء، فكأن لوطا سماهم مسرفين لما أكثروا من ذلك النوع من الفواحش، وجاوزوا الحد، والله أعلم. ويحتمل قوله: (قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) وجوهًا ثلاثة: أحدها: ما ذكرنا من إكثار الفعل. والثاني: مسرفون؛ لما ضيعوا ما أنعم اللَّه عليهم؛ حيث أعطى لهم الأزواج فضلًا منه ونعمة، حيث أخبر: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) وكقوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) ونحوه منَّ جلَّ وعلا بما جعل لهم من الأزواج، ثم هم لم يشكروه على ما أنعم عليهم، بل ضيعوها، وجعلوها في غير ما جعل هو لهم، فذلك إسراف منهم. والثالث: الإسراف: هو المجاوزة عن الحد الذي جعل لهم، فنهم قد جاوزوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) قوله: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا) كذا كان من قومه أجوبة ليس على أنه لم يكن منهم من أول الأمر إلى آخره هذا، ولكن لم يكن من جواب قومه وقت ما نهاهم عما ارتكبوا من الفواحش وعيَّرَهم عليها إلا ما ذكر: (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) لما ينهاهم ويعيرهم على ذلك، ويحتمل ما قال أهل التأويل: (يَتَطَهَّرُونَ): من أدبار الرجال.

(83)

وقيل: يتحرجون عن ذلك، ويعيبون عليهم، في ذلك. والثاني: ما كان جواب قومه لبعضهم إلا أن قالوا أخرجوهم وأما للوط كان منهم له أجوبة؛ كقوله: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا) كذا، وقال في آية أخرى: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ)، هذا فيما بينهم وبين لوط؛ ولأول فيما بينهم قَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: (أَخْرِجُوهُمْ)، أو لاختلاف المشاهد والمجالس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) الغابر: الغائب، يقال: غبرت، أي: غبت، أي: كانت من الغائبين عن لوط وأهله وقت العذاب. وقيل: من الغابرين، أي: من الباقين في العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا ... (84) اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: قلبت قرية لوط، وجعل عاليها سافلها على ما ذكر في الآية (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)، ثم أمطر على من كان غاب منهم الحجارة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قلبت القرية فأمطرت على أهلها كالمطر. وقال آخرون: قلبت الأرض وأمطر عليها حجارة من سجيل تسوى الأرض، أو كلام نحو هذا. ثم العذاب في الأمم لم يأتهم في الدنيا بنفس الكفر، ولكن لما كان منهم من استحلال أشياء حرمت عليهم، ومن قتل الأنبياء، وأذاهم، والمكابرات التي كانت منهم

(85)

بعد علمهم أنهم على باطل وعناد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ). هذا الخطاب جائز أنه ليس لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة، ولكن لكل أحد أمر بالنظر فيما حل بالأمم السالفة؛ بتكذيبهم الرسل، وعنادهم؛ ليكونوا على حذر من صنيعهم، لئلا يحل بهم ما حل بأُولَئِكَ. وجائز أن يكون الخطاب لرسوله خاصة، فإنْ كان له فكأنه أمره أن ينظر في عاقبة المجرمين ليرحمهم، ولا يدعو عليهم بالهلاك والعذاب. * * * قوله تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا). هو ما ذكرنا فيما تقدم، أي: أرسلنا شعيبا إلى مدين رسولًا. وقوله: (أَخَاهُمْ) قد ذكرنا فيما تقدم الأخوة وأنها تكون لوجوه: أخوة النسب، وأخوة الجوهر، وأخوة المودة والخلة، وأخوة الدِّين، فلا تحتمل أخوة الأنبياء أُولَئِكَ أخوة الدِّين والمودة، لكن تحتمل أخوة الجوهر والنسب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).

قد ذكرنا -أيضًا- أن الرسل إنما جاءوا، وبعثوا بالدعاء إلى توحيد اللَّه، والعبادة له، وأن لا معبود يستحق العبادة سواه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: كانت نفس شعيب بينة وحجة لقومه لكنا لا نعلم ذلك، غير أنا نعلم أنه كانت معه آيات وبراهين، لكن اللَّه لم يبين لنا ذلك، ونفس مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانت حجة وبينة بالأعلام التي جعلت له في نفسه؛ من ذلك الختم الذي كان بين كتفيه، والنور الذي

كان في وجه من كان في صلبه وقت كونه فيه، والضوء الذي رُوِيَ أنه كان وقت

ولادته، والغمام الذي أظله وقت غيبته عن أهله، وحفظه نفسه عن جميع ما كان يتعاطاه قومه من عبادتهم الأصنام وتعاطيهم الفواحش، فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان بريئًا من ذلك كله،

ولم يؤخذ عليه كذب قط، وقد كان نشأ بين أظهرهم، وغير ذلك من الأعلام التي كانت في نفسه ظاهرة لقومه، فلو لم يكن له آيات غيرها، لكانت واحدة منها كافية لمن لم يكابر، فكيف وقد كانت له آيات حسية وعقلية سوى ما ذكرنا تقهر المنصفين على قبولها! ويحتمل قوله: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: حجة على أنه رسول أو على توحيد اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ) وذكر في هود في قصته: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)، وليس في قوله: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ) أنهم كانوا لا يوفون ولكن فيما ذكر في سورة هود. (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ). ودل قوله: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) وإن الأشياء ملك لهم، وإن كانت في قبض أُولَئِكَ، وفي أيديهم، ثم يحتمل الأمر بإيفاء الكيل والميزان وجوهًا: أحدها: لما كانوا أمناء؛ لئلا تذهب عنهم تلك الأمانة التي كانت لهم في قومه. والثاني: لئلا يظلموا الناس في منع حقوقهم وأموالهم. والثالث: للربا، كان ما منعوا منه من الكيل والوزن ربا لهم، يدل على ذلك قوله: (بِالْقِسْطِ) ذكر العدل، فلو كان يجوز تلك الزيادة والنقصان إذا طابت أنفسهم بالزيادة والنقصان، لكان لا معنى لذكر القسط فيه؛ لأن من زاد آخر على حقه لم يمنع عن ذلك، ولم يذم، دل النهي عن ذلك على أنه للربا ما منعوا عن ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا). أي: بعد أن جعلها لكم صالحة لمعاشكم ومقامكم فيها، أو بعد ما أمر وبين لكم ما به صلاحكم وصلاح دينكم، أو بعد ما أرسل من الرسل ما بهم صلاح الأرض وأهلها. (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ).

(86)

قال بعض أهل التأويل: قوله: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)، أي: وفاء الكيل والميزان خير لكم من النقصان؛ لما ينمو ذلك الباقي ويزداد، فذلك خير لكم من النقصان الذي تمنعون، فلا ينمو شيئًا، وهو كقوله: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ). ويحتمل: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، أي: أمنكم في الآخرة خير لكم من نقصان الكيل والميزان في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ... (86) يحتمل ما قاله أهل التأويل: إن كبراء أهل الشرك ورؤساءهم كانوا يُقعدون في الطرق أناسًا يصدون الذين يأتون شعيبًا للإيمان من الآفاق والنواحي، ويكون معنى قوله: (مَنْ آمَنَ بِهِ) على هذا التأويل، أي: من أراد أن يؤمن به. ويحتمل قوله: (وَلَا تَقْعُدُوا) ليس على القعود نفسه، ولكن على المنع من إقامة الشرائع التي شرع اللَّه لشعيب؛ كقول إبليس: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ليس هو على القعود نفسه، ولكن على المنع؛ يمنعهم عن صراطه المستقيم، فعلى ذلك قوله: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ) كانوا يمنعون من آمن به عن إقامة الشرائع والعبادات التي دعوا إلى إقامتها، ويوعدون على ذلك

ويخوفونهم؛ فعلى هذا التأويل يكون معنى قوله: (مَنْ آمَنَ بِهِ) على وجود الإيمان،

(87)

وعلى التأويل الأول يكون: من أراد أن يؤمن به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا). قيل: تلتمسون لها أهل الزيغ. وقيل: تبغون هلاكًا للإسلام، وإبطالًا. وقيل: تبغون السبيل عوجًا عن الحق، وكله واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ). يحتمل وجهين: إذ كنتم قليلًا في العدد، فكثر عددكم زمن لوط، كأنهم إنما توالدوا من بقية آل لوط. ويحتمل: إذ كنتم قليلًا في الأموال والسعة في الدنيا فكثركم، أي: كثر لكم الأموال ووسع عليكم الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ). أمر بالنظر فيما حل بالأمم الخالية بإفسادهم في الأرض، وتكذيبهم الرسل؛ لأن من نظر في ذلك، وتفكر فيما حل بهم منعه ذلك عن الفساد في الأرض والتكذيب للرسل؛ إذ علم أن ما حل بهم إنما حل بهم لما ذكر، واللَّه أعلم. كأنه أمر بالنظر في الأسباب التي صار بها من تقدمهم أهل فساد، ونزل بهم الهلاك لينزجروا عن مثل صنيعهم، وإلا كانوا عند أنفسهم أهل صلاح لا أهل فساد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا ... (87)

(88)

قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان قوم شعيب قليلًا حين أدرك ذلك شعيب، وقوم آخرون معه يقول لهم ذلك شعيب عليه السلام، وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به، وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا يا معشر المؤمنين، (حَتَّى يحكمَ اللَّهُ بَيْنَنَا): يقضي عليهم بالهلاك، ولم يكن شعيب أمر بالقتال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ)، يعني المؤمنين، (آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ): من العذاب، (وَطَائِفَةٌ): يعني الكفار، (لَمْ يُؤْمِنُوا): بالعذاب، (فَاصْبِرُوا): يا معشر الكفار، (حَتَّى يحكمَ اللَّهُ بَيْنَنَا): في أمر العذاب في الدنيا، (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) ويحتمل غير هذا، وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ويقولون: اللَّه أمرهم بذلك في أشياء يفعلونها، ويقول هَؤُلَاءِ: إن الذي نحن عليه هو الذي أمرنا اللَّه بذلك، فيقول لهم: اصبروا حتى يحكم اللَّه بيننا بأنه بماذا أمر: بالذي عليه الكفار، أم بالذي نحن عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قد ذكرنا في غير موضع أن الملأ من قومه هم كبراؤهم ورؤساؤهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اسْتَكْبَرُوا) أي استكبروا، عن الخضوع والطاعة لمن هو دونهم عندهم؛ لأنهم كانوا يضعفون شعيبًا فيما بينهم ويزدرونه كقولهم له: (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) ثم لم يروا الأمر بالخضوع لمن هو دونهم في أمر الدنيا عدلًا، وهم إنما أخذوا من إبليس اللعين وإياه قلدوا حيث قال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)، حين أمر بالسجود لآدم، ولم ير اللعين الأمر بالخضوع لآدم من اللَّه عدلًا، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ لم يروا الخضوع لمن دونهم عندهم عدلًا؛ فاستكبروا عليه، فكفروا لذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ). قال الحسن: لنخرجنك، أي: لنقتلنك، والذين آمنوا معك من قريتنا. وقال غيره: لنخرجنك: الإخراج نفسه، أي: نخرجنك ومن معك من المؤمنين من قريتنا إن لم تتبع ديننا، وقد كان منهم للأنبياء المعنيين جميعًا التوعد بالقتل والإخراج

(89)

جميعًا؛ كما قال: (وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ)، وكقول قوم لوط للوط: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، وكقول قوم نوح: (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) وما أخبر عن قول هَؤُلَاءِ لرسولنا حيث قال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ)، قد كان من القوم إلى الأنبياء والرسل - عليهم السلام - المعنيان جميعًا التوعد بالقتل والإخراج جميعًا؛ فعلى ذلك يحتمل ذلك من قوم شعيب ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وكذلك كانوا يقولون للرسل جميعًا؛ حيث قالوا: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا. . .)، هكذا كانت عادة جميع الكفرة أنهم كانوا يخوفون الرسل بالإخراج مرة وبالقتل مرة ثانية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا). يحتمل قوله: (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) لما عندهم أنه كان على دينهم الذي هم عليه لما لم يروا منه عبادته لله فيما عبده سرا، فقالوا: (لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) على ما كان عندهم أنه على ذلك؛ وهو كما قالوا لصالح: (قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا) كان عندهم أنه على دينهم قبل ذلك، فعلى ذلك يحتمل قول هَؤُلَاءِ لتعودن من العود إلى ما كان عندهم أنه على ذلك. ويحتمل على ابتداء الدخول فيها والاختيار؛ كقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). على منع الدخول فيها؛ لا أنهم كانوا فيها، ثم أخرجهم فعلى ذلك الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ). يقول: لنعودن في ملتكم، وإن كنا كارهين، أي: قد تأبى عقولنا، وتكره طباعنا من الدخول في ملتكم فكيف نعود فيها؟ (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ... (89) يحتمل قوله: (إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ) وجوهًا ثلاثة:

أحدها: أن ذلك منه إخبار عن قومه لا عن نفسه، أي: افتروا على اللَّه كذبًا إن عادوا في ملتكم بعد إذ نجاهم اللَّه منها، وما يجوز لهم أن يعودوا فيها، وأما هو فإنما أجابهم عن نفسه بما ذكر في سورة هود: (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ). أجاب هو قومه كما أجاب غيره من الرسل قومهم حين أوعدوهم بالقتل والعقوبة، كما قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ "، وكما قال هود: (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ)، ونحو ذلك من الجوابات التي كانت من الأنبياء - عليهم السلام - لأقوامهم. ويحتمل أن يكون على الابتداء من غير أن كان فيها؛ كقوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ) رفعها ابتداء من غير أن كانت موضوعة، وكقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، إخراج ابتداء لا أن كانوا فيها ثم أخرجهم. ويحتمل ما ذكرنا أنه أجابهم على ما عندهم أنه كان على دينهم، فأجاب لهم على ما عندهم أنه على ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا) أي: ما يجوز لنا أن نعود فيها، وقول شعيب: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ) تعريض تسفيه منه إياهم أنكم قد افتريتم على اللَّه كذبًا لا تصريح؛ حيث لم يقل: قد افتريتم أنتم على اللَّه كذبًا، قال: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ)، وذلك منه تلطف بهم وترقق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا). اختلف في تأويله: قال الحسن: من حكم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن من قبل دينه وأطاع رسوله أن يكون وليًّا له، وسمى مؤمنًا، ومن رد دينه وعصى رسوله يتخذه عدوًّا له، ويكون كافرًا. وقال أبو بكر الكيساني: قوله: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا): أن يتعبدنا، ويمتحننا ببعض ما كانوا يتقربون به. ويشرع لهم ما يحل ويسع، لم يرد به الدِّين الذي هم عليه، لكن هذا لا يحتمل؛ لأن سؤالهم كان العود إلى ملتهم، فعلى ذلك خرج الثنيا. وقال أبو جعفر بن حرب: قوله: (إِلَّا أَن يشَآءَ اللَّهُ): إلا أن يأمرنا اللَّه بما يؤيسهم

بذلك على الإياس، وقطع الرجاء، أي: لا يشاء اللَّه ألبتَّة ذلك؛ كما يقال: كان كذا إن صعدت السماء، وكقوله: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) فعلت كذا، مما يعلم أنه لا يكون؛ فعلى ذلك هذا كله بعيد محال. أما قول الحسن: إن من حكم اللَّه أنه من رد دينه وعصى رسوله، أنه يكون من الكافرين، ومن قبل دينه وأطاع رسوله، يكون من المؤمنين، فليس فيه سوى أنه يقول: إنه يعلم من كفر به ومن آمن به، فلا معنى للاستثناء لو كان التأويل ما ذكر. وأما قول أبي بكر: إنه يتعبدهم ويمتحنهم بما يتقربون في دينهم وملتهم مما يجوز أن يأذن في ذلك، فذلك لا يحتمل؛ لأنه ذكر الملة التي كانوا هم عليها، فإليها ترجع الثنيا لا يجوز أن تصرف الثنيا، إلى غيرها.

وأما قول من يقول بالإياس وقطع الطمع عن ذلك: فذلك -أيضًا- بعيد؛ لأن الإياس إنما يكون فيما يعلم أنه لا يكون ألبتَّة من نحو ما ذكر من قوله: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)، ونحوه، وأمَّا مثل هذا فإنهم لا يفهمون منه الإياس وقطع الرجاء، بل كانوا يأتون بالفواحش، ويقولون: اللَّه أمرهم بذلك، فأنَّي يقع لهم الإياس بذلك؟! وأمَّا عندنا فإنه على حقيقة المشيئة، وذلك أن مَن علم اللَّه منه أنه يختار الكفر، ويؤثر ذلك على فعل الإيمان والطاعة - يشاء ذلك له على ما علم أنه يختار، ومن علم منه أنه لا يختار ذلك لا يشاء؛ إذ لا يجوز أن يعلم منه غير الذي يكون أو أن يشاء غير الذي علم أنه يكون منه؛ لأنه جهل وعجز. وأصله: أن شعيبًا خاف أن تسبق منه زلة ويصير منه الاختيار لذلك فيشاء الله بذلك الزيغ والضلال، وكذلك جميع الأنبياء خافوا ذلك؛ كقول إبراهيم - عليه السلام - حيث قال: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)، وقول يوسف حيث قال: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)، كان خوف الأنبياء - عليهم السلام - أكثر من خوف غيرهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا). معناه - واللَّه أعلم - أنه لا نعلم إلى ماذا تصير عاقبة أمرنا، وعلم اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا). قيل: على اللَّه اعتمدنا فيما تخوفُنَّنا من الإخراج، وإليه نلجأ في سلطانه وملكه، وبه نثق في وعده بما يعدنا من النصر والظفر على الأعداء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ).

(90)

قيل: قوله: (افْتَحْ)، أي: احكم بيننا وبين دومنا بالحق. روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما كنت أعلم ما معنى الفتح في الآية حتى تزوجت امرأة من بني كذا، فوقعت بيننا مخاصمة، فقالت لي: تعال حتى أفاتحك إلى فلان، فعند ذلك عرفوا أن المفاتحة هي المحاكمة. وقوله: (بِالْحَقِّ) قيل: هو العذاب الذي كان وعد لهم أن ينزل عليهم بتكذيبهم شعيبًا وبأذاهم إياه. ثم ليس، للمعتزلة أدنى تعلق بقوله: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ)، يقولون: هو الدعاء والسؤال، وإن كان لا يحكم إلا بالحق، فعلى ذلك يقولون في قوله: (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)، ونحوه وكذلك يقولون في قوله: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) لكن عندنا يخرج قوله: (احْكُمْ بِالْحَقِّ) و: (افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ) على وجوه: أحدها: يقول: ربنا افتح بيننا بحكمك وهو الحق. والثاني: يقول: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ في حادث الوقت كما حكمت في الوقت الماضي، وهو كقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وهو النبوة والهداية. والثالث: على استعجال العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ... (90) قد ذكرنا أن الملأ هم كبراؤهم وسادتهم، يقولون للأتباع والسفلة: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ). قال أبو بكر: لجاهلون، ثم يحتمل قوله: (إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) وجوهًا: أحدها: أن شعيبًا كان يحذر قومه بالتطفيف في الكيل والوزن، ويأمرهم بوفاء حقوق الناس، بقوله: فأوفوا الكيل ولا تكونوا كذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا

(91)

الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)، فيقول الكبراء والرؤساء للسفلة: لئن اتبعتم شعيبًا في دينه وما يأمركم به من وفاء الحق للناس، فإنكم إذًا لخاسرون للأرباح. والثاني: أنه كان يحذرهم ويمنعهم عن عبادة الأصنام والأوثان، ويدعوهم إلى عبادة اللَّه، ويرغبهم في ذلك، وهم كانوا يعبدون تلك الأصنام لتقربهم عبادتهم إياها إلى اللَّه زلفى، وتكون لهم شفعاء في الآخرة، فقالوا: لئن اتبعتم شعيبًا فيما يدعوكم إليه وينهاكم عنه، لكنتم من الخاسرين، لا شفعاء لكم في الآخرة. والثالث: أنهم كانوا يوعدون شعيبًا بالإخراج بقولهم: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ) فقالوا: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا) وهو يخرج لا محالة فتخرجون أنتم فصرتم من الخاسرين، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ... (91) قيل: الصيحة. وقيل: الزلزلة. قيل: أصابهم حر شديد، فرفعت لهم سحابة، فخرجوا إليها يطلبون الروح تحتها فلما كانوا تحتها، سال عليهم العذاب، ورجفت بهم الأرض، فهلكوا، وهو ما ذكر في آية أخرى عذاب يوم الظلة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ). قد ذكرنا قوله: (جَاثِمِينَ) فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)

(94)

هو - واللَّه أعلم - مقابل قولهم: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) وجواب لهم يقول: الذين كذبوا شعيبًا هم الخاسرون لا الذين اتبعوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا). قيل: كأن لم يعيشوا فيها، ولم ينعموا قط. وقيل: كأن لم يقيموا فيها. قَالَ الْقُتَبِيُّ: يقال: غنينا بمكان كذا وكذا، أي: أقمنا، ويقال للمنازل: مغان، واحدها: مغنى، ويقال: كأن لم يغنوا فيها، أي: كأن لم يكونوا فيها قط. وهو - واللَّه أعلم - لما كانوا يستقلون نعم اللَّه عليهم، ويستحقرونها، حتى قالوا: لبثنا يومًا أو بعض يوم، وقوله: (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ)، ونحوه، وكله إخبار عن قطع آثارهم أنه لم يبق منهم أحد يحزن عليهم أو يبكي عليهم، حتى قال شعيب: (فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ). وجائز أن يكون قول شعيب حيث قال: (فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) حين علم أنهم يهلكون، وينزل بهم العذاب، أي: لا أحزن عليهم على ما ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير، قال ذلك في الوقت الذي قال: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ) ويقول: كيف أحزن على قوم وعملهم ما ذكر. وقوله: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ). حين رآهم هلكى، فقال: فكيف آسى على قوم، أي: كيف أحزن على قوم قد كذبوني، واختاروا عداوتي، وصاروا علي أعداء، فكيف أحزن عليهم بالهلاك، وهم أعدائي. وقوله: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ). قد ذكرنا هذا. * * * قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ).

في الآية إضمار - واللَّه أعلم - من وجهين: أحدهما: قوله: وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها المكذبين له بالبأساء، وما ذكر، وإلا لا يحتمل أن يرسل إليهم رسولًا ثم يأخذهم بما ذكر من غير أن كان منهم رد وتكذيب له. والثاني: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ) أهلكناها (مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا) وقبل الهلاك (بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) ثم لم يأخذ اللَّه قومًا بالهلاك قبل أن يبعث رسولًا إليهم، وقبل: أن يغتروا هم ما أنعم عليهم بأنفسهم؛ كقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا. . . .) الآية؛ وقوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وقال: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)، وغير ذلك من الآيات، أخبر أنه لا يأخذهم بالعذاب والهلاك إلا بعد قطع العذر لهم من جميع الوجوه، وإن كان له الإهلاك قبل أن يبعث إليهم الرسول لما ركب فيهم من العقول السليمة مما بها يوصل إلى فهم كل ما جعل فيهم من آثار وحدانيته وآيات ربوبيته، وما جعل لهم من السمع والنطق ما به يوصل إلى سمع كل ما غاب والنطق بكل ما يريدون، ما لم يجعل ذلك لغيرهم من البهائم، وما أنعم عليهم من تصوير الصور ما لم يتمن أحد تحويله منها إلى غيرها من الصور، لكنه لا يهلكهم إلا بعد بعث الرسل إليهم لما أن الخلق على مراتب؛ منهم من يفهم بالعقل لا يحتاج إلى معونة السمع، وهم الحكماء والعلماء الذين يدركون الأشياء بالبديهة، ومنهم من لا يدرك إلا بمعونة السمع وهم كالصبيان، إنهم لا يدركون إلا بالسمع وفضل التنبيه، ومنهم من لا يدرك بالعقل ذلك ولا بالسمع حتى تصيبهم الشدائد والعبر في أنفسهم وفيما أنعم عليهم، وهم كالبهائم الذين لا عقل لهم ولا سمع، ولكن يعرفون الشدائد وما يصيبهم من البلاء، فعلى ذلك يمتحنهم عَزَّ وَجَلَّ، ويبتليهم بالشدائد والبلايا أولًا، فإن رجعوا عن ذلك وعرفوا نعمه، وإلا أهلكهم بعد ذلك فعند ذلك ينتهون ويتذكرون، وذلك قوله، (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).

(95)

وقوله: (بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) قد ذكرناه في صدر الكتاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ). أي: لكي يكون عليهم التضرع، أو لكي يلزمهم التضرع والتذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ... (95) وهو ما ذكر أهل التأويل السعة والرخاء بعد الشدة والقحط، وما حل بهم من البلايا (حَتَّى عَفَوْا). قيل: جمعوا وأكثروا، أي: كشف عنهم ذلك حتى كثروا فعند ذلك أهلكهم بغتة؛ لأن الهلاك في حال الشدة والبلاء لا يكون أخذا ببغتة؛ لأن كل من حل به بلاء وشدة يخاف فيه الهلاك فإذا أهلك في تلك الحال لم يكن أخذًا بالهلاك بغتة. ألا ترى أنه سمى الموت الذي يموت به المؤمن من غير مرض حل به بغتة، والذي يموت بمرض يتقدم الموت لا، وأن الموت في الوجهين جميعًا لا يعلم بحلوله، لكنه إذا لم يتقدمه مرض فهو لا يخاف منه، وإذا كان به مرض خاف منه فلم يكن فجأة، فعلى ذلك إذا أخذوا في حال الشدة لم يكن أخذًا بالبغتة لما يخافون فيه الهلاك، وإذا كانوا في سعة ورخاء لا يخافون فيؤخذون في تلك الحال، فذلك أخذ ببغتة. وقال: (حَتَّى عَفَوْا)،

(96)

قيل: كان أهلك بعضهم وترك بعضًا حتى عفوا، أي: كثروا من ذلك البعض، ولكن الوجه فيه ما ذكرنا من البأساء والضراء والشدائد والقحط، ثم كشف ذلك عنهم فكثروا، ثم أهلكهم، واللَّه أعلم. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ). قالوا: إن آباءنا قد كان ينزل ذلك بهم وتصيبهم مرة شدة ومرة نعمة ولم يكن ذلك بعقوبة لهم، فعلى ذلك ما يصيبنا من الشدائد والبلايا ليس ذلك بعقوبة لنا، ولكن دوران الدهر وتصرفه على الشدّة والبلاء مرة، ومرة على الخصب والسعة، ثم أخبر أنه أخذهم بغتة بعد قولهم: (قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ). * * * قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا). قيل: آمنوا واتقوا قبل أن يهلكوا بعد ما أصابهم من الشدائد والبلايا؛ (لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ. . . .) الآية. أي: لأعطوا كل خير ينال من السماء والأرض، والبركة ما ينال من كل خير على غير - مؤنة وقيل: البركة: كل شيء ينال بلا تبعة عليه ولا شدة - ذكر هاهنا أنه يفتح عليهم بركات من السماء والأرض لو آمنوا واتقوا، وذكر إذا لم يؤمنوا ونسوا ما ذكروا به أنه يفتح عليهم أبواب كل شيء، ولم يذكر البركة، ففيما لم يذكر البركة ينقصهم ما فتح عليهم من كل شيء ويسوؤهم وفيما ذكر فيه البركة بعد الإيمان لا يلحقهم من ذلك تبعة ولا غرم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يحتمل قوله: ولكن كذبوا النعم التي أنعمها عليهم، أي: الرسل، فأخذناهم بما كانوا يكسبون من التكذيب، واللَّه أعلم.

(97)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) خرج هذا في الظاهر مخرج الاستفهام، ولكن في الحقيقة على الإيجاب؛ كقوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ). . .)، الآية، هذا في الظاهر وإن خرج مخرج الشك والارتياب، فهو في الحقيقة على الإيجاب؛ كأنه قال: في قلوبهم مرض وارتابوا وخافوا أن يحيف اللَّه عليهم، فعلى ذلك قوله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى)، على الإيجاب، كأنه قال: قد أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا، (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى) الآية. ثم اختلف في قوله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) إلى آخر ما ذكر: قال الحسن: هذه الآيات في الأمم السالفة، أخبر عن أمنهم بنزول بأس اللَّه وعذابه بهم، لكن ذكر في هذه الأمة ليكونوا على حذر عن مثل صنيعهم. وقال الآخرون: هذه الآيات في قرى هذه الأمة لا في الأمم السالفة، يقول: أمن هَؤُلَاءِ بأسنا كما أمن أُولَئِكَ منه فإنهم إذا صنعوا مثل صنيعهم ينزل بهم في الآخرة من العذاب مثل ما أنزل بأُولَئِكَ في الدنيا من العذاب. وقوله: (بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ) و (ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أخبر أن العذاب إنما نزل بهم في حال الأمن وهو وقت النوم واللعب؛ لأنه هو وقت الغفلة والسهو، وآمن ما يكون الإنسان إنما يكون في حال النوم، وإنما نزل بهم في وقت الغفلة والسهو، يذكر بهذا - واللَّه أعلم - أهل مكة وغيرهم من الكفرة بتكذيبهم رسول اللَّه؛ لئلا يكونوا آمنين عن بأس أبدًا في وقت من الأوقات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) المكر في الشاهد: هو أن يراقب من عدوه حال غفلة لينتقم منه وينتصر، فإذا كان ما ذكرنا فسمى ما ينزل بهم من العذاب في حال الغفلة مكرًا، وعلى ذلك الامتحان فيما بين الخلق: هو استظهار ما خفي على بعضهم من بعض، فيأمرون بذلك وينهون، فسمى اللَّه - تعالى - ذلك امتحانا لمعنى الأمر والنهي، وإن لمحانت الخفيات عن الخلق ظاهرة له بادية عنده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ). فالآية على المعتزلة؛ لأنهم يأمنون مكر اللَّه في الصغائر حيث قالوا: الصغائر

(100)

مغفورة، ليس له أن يعذبهم عليها، فهو أمن من مكره، وييأسون من رحمته لقولهم في الكبائر: إنه ليس له أن يعفو عنهم، وقد أخبر (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) وهم قد أيسوا من رحمة اللَّه في الكبائر، وأمنوا مكره في الصغائر، فهاتان الآيتان على المعتزلة. وقوله: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ) أي: جزاء مكرهم سمي جزاء المكر مكرًا، كما سمى جزاء السيئة سيئة، وجزاء الاعتداء اعتداء، وإن لم يكن الثاني اعتداء، ولا سيئة، فعلى ذلك تسمية جزاء المكر مكرًا، وإن لم يكن الثاني مكرًا، واللَّه أعلم. ألا ترى أنه لم يجز أن يسمى مكارًا ولو كان على حقيقة المكر لسمي بذلك؛ فدل أنه جزاء، وجائز أن يكون المراد من مكره جزاء مكرهم سمّي الجزاء باسم المكر؛ لأنه جزاؤه؛ كقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)، والثانية ليست بسيئة. * * * قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا). على تأويل من يجعل الآية في الأمم السالفة، يقول: أو لم يوفقوا ولم يهدوا للصواب بهلاك أمة بعد أمة، وقوم بعد قوم، وعلى تأويل من يقول بأن الآية في هذه الأمة، يقول: ألم يبن لهَؤُلَاءِ الذين ورثوا الأرض من بعد هلاك أهلها أن لو نشاء أصبناهم بعذاب بذنوبهم، كما أصاب أُولَئِكَ العذاب بذنوبهم. وقوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا)، أي: من بعد هلاك أهلها. وقوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ) على إسقاط الواو والألف، أي: لم يهد للذين يرثون الأرض،

ثم يحتمل قوله: لم يهد لهم أولم يتفكروا بما أهلك الأولين وما حل بهم بتكذيبهم الرسل أنهم كانوا إذا تركوا التفكر والنظر فيهم وما نزل بهم لم يهد لهم. والثاني: قد هداهم لكن نفى ذلك عنهم لما لم ينتفعوا به، وهو ما نفي عنهم من السمع والبصر والعقل لما لم ينتفعوا به. ويحتمل على غير إسقاط وكأنه قال: أو لم يهد للذين يرثون الأرض، أو لم يهدهم الرسول قدرة اللَّه في إهلاك الأمم الخالية، فعلى ذلك، هو قادر على إهلاك الذين يرثون الأرض من بعد أهلها يحتمل هذه الوجوه التي ذكرنا. واللَّه أعلم. أو يقول: أو لم يهد لهم وراثة الأرض من بعد هلاك أهلها أنهم بما أهلكوا حتى يرتدعوا ويمتنعوا عن مثله. وقوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) يخرج على وجهين: أحدهما: قد هداهم وبين لهم أن من تقدمهم، إنما هلكوا بما أصابوا من ذنوبهم من التكذيب والعناد، لكن لم يهتدوا لعنادهم. والثاني: لم يهدهم لما لم يتفكروا فيها، ولم ينظروا، على التلاوة قرئت بإسقاط الواو. وقوله: (أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ). فإن كانت في الأمم السالفة، فقوله: أن لو نشاء أصبنا قومًا بعد قوم بذنوبهم. وإن كانت في المتأخرين فيكون قوله: أن لو نشاء أصبنا هَؤُلَاءِ بذنوبهم على ما أصاب أُولَئِكَ بذنوبهم، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون، والطبع يحتمل الختم، أي ونختم على قلوبهم، ويحتمل الطبع ظلمة الكفر، أي: ستر قلوبهم بظلمة الكفر؛ كقولهم: وكل شيء ستر شيئًا وتغشاه فهو طبع. (فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) يحتمل وجهين: يحتمل لا يسمعون لما لاينتفعون به. ويحتمل: لا يسمعون، أي: لا يجيبون؛ كقوله: سمع اللَّه لمن حمده، قيل:

(101)

أجاب اللَّه لمن حمده، أي: دعاءه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا ... (101) قوله: (تِلْكَ الْقُرَى) أي: قصصنا عليك: بما قص عليه من الأنبياء، يخبر رسوله أن القرى التي كانت من قبل قد سألوا رسلهم الآيات، فجاءوا بها، ولم يصدقوها، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ، إنك لو أتيت ما سألوك من الآيات لم يؤمنوا بها، ولم يصدقوها، يخبره عن تعنتهم ومكابرتهم وعنادهم. والثاني: يذكر أن الآيات ليس يجب أن يأتوا بها من الجهة التي يريدون، إنما يجب أن يأتوا بما هو حجّة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) يحتمل وجوهًا: يحتمل الأنباء التي أنبأت الرسل أقوامهم من نزول العذاب بهم بالتكذيب والكفر بها. ويحتمل البينات التي تدل على صدق الرسل بما يقولون ويخبرون بعد ما سألوهم الآيات، لكن ردوها رد عناد ومكابرة بعدما عرفوا أنها حق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ). أي: ما كانوا ليؤمنوا لما رأوا بأسنا بما كذبوا من قبل، أي: لا ينفعهم إيمانهم عند رؤيتهم بأس اللَّه؛ كقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ). ويحتمل: ما كانوا ليؤمنوا بسؤالهم الآيات إذا أتاهم الآيات بما كذبوا من قبل؛ لأن تركهم الإيمان وتكذيبهم الرسل ليس لما لم يكن لهم الآيات، ولكن للتعنت، فأخبر أنهم وإن سألوا الآيات فإنهم لا يؤمنون. والثالث: ما كانوا ليؤمنوا بما يخبرهم الرسول من إتيان العذاب بهم بما كذبوا من قبل من الأنباء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ... (102) يحتمل العهد المذكور وجوهًا ثلاثة: أحدها: عهد الخلقة؛ لما في خلقة كل أحد من الشهادة بالوحدانية له والألوهية، فلم يوفوا بتلك العهود بل نقضوها.

(103)

والثاني: العهد الذي أخذ اللَّه عليهم على ألسن الرسل؛ كقوله: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي. . . . .) الآية، فلم يوفوا بذلك. والثالث: ما أعطوا هم من أنفسهم من العهد؛ كقول فرعون لموسى: (يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ)، فلم يوفوا بما أعطوا هم من العهود. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ). أي: وقد وجدنا أكثرهم فاسقين بنقض العهد، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى). يحتمل قوله: ثم بعثنا من بعد هلاك قرون كثيرة موسى رسولًا بآياتنا إلى فرعون وملئه، يحتمل قوله: (بِآيَاتِنَا)، حججنا، ثم يحتمل حجج وحدانية اللَّه وألوهيته، ويحتمل آيات رسالته ونبوته، وعلى قول الحسن: بآياتنا: ديننا، وعلى ذلك يتناول جميع الآيات التي ذكرت في القرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ). إن موسى كان مبعوثًا إليهم جميعًا إلى فرعون والملأ والأتباع جميعًا، لا أنه كان مبعوثًا إلى فرعون وملئه خاصة دون الأتباع، وكذلك ذكر في مكان آخر إلى فرعون خاصّة، وهو بعث إليهم جميعًا، لكن يخرج تخصيص ذكر هَؤُلَاءِ القادة - واللَّه أعلم - لما أن

(104)

الذي ينازع الأنبياء والرسل هم الكبراء والرؤساء دون الأتباع والسفلة، والأتباع هم الذين يصدرون لآراء الكبراء، ويتبعونهم فيما يدعونهم إليه، وعلى ذلك سموا الكبراء والرؤساء أضداد الرسل، وإلا كان موسى مبعوثًا إليهم جميعًا؛ الوضيع منهم والرفيع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَظَلَمُوا بِهَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَظَلَمُوا بِهَا) أي: ظلموا بالآيات والحجج التي أتى بها موسى إلى فرعون وقومه، سمي ظلمًا؛ لأنهم سموا تلك الآيات سحرًا بعد ما عرفوا أنها منزلة من اللَّه، فوضعوها غير موضعها، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه. وقال قائلون: قوله: (فَظَلَمُوا بِهَا) أي: ظلموا نعم اللَّه التي أنعمها عليهم حيث عبدوا غيره، فصرفوا شكر تلك النعم إلى غير الذي أنعمها عليهم، فذلك ظلم، شكروا من لم ينعم عليهم وصرفوا عمن أنعم عليهم، واللَّه أعلم. ويحتمل: ظلموا الأتباع بتلك الآيات حيث منعوهم عن اتباع الرسول واستتبعوهم. أو يقول: ظلموا بها أنفسهم حيث تركوا اتباعها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ). هذا الخطاب في الظاهر لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكان المراد بالخطاب غيره، أمر كلًّا بالنظر في عاقبة المفسدين لما حل بهم بفسادهم؛ لأن من نظر في عاقبة ما حل بغيره بمعصية أو فساد يمتنع عن مثله، وأمكن أن يكون الخطاب لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لوجهين: أحدهما: لما له بما حل بهم بعض التسلي لأذاهم إياه؛ لأن من توسم حلول الهلاك على عدوه في العاقبة صبر على أذاه، ويكون له بعض التسلي في ذلك والثاني يذكرهم وينبئهم بما يحل بهم في العاقبة؛ ليمتنعوا عما ارتكبوا من المعاصي؛ لأن ذلك أزجر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) فَإِنْ قِيلَ: كيف قال إني رسول اللَّه وذلك يخرج في الظاهر مخرج الامتداح والتزكية، وقد نهينا عن ذلك؛ لأنه أخبر أنه بمحل الذي توضع الرسالة فيه، وأنه

(105)

أهلٌ لها؟ قيل: ليس فيه امتداح نفسه ولا تزكية له؛ لأنه إنما يذكر منة اللَّه تعالى أنه جعله بحيث توضع فيه الرسالة، وجعله أهلًا لها والتزكية والامتداح إنما يقع فيما هو فعله حقيقة لا فعل اللَّه، أو إن كان تزكية وامتداحًا فهو أمر بذلك، فجاز ذلك بالأمر. أو أراد بذلك تعريفه؛ لما كان من عادة الملوك أنهم إذا بعث بعضهم إلى بعض رسولًا فإنهم لا يستقبلون الرسل بالمكروه والشر، بل يعظمون الرسل ويكرمونهم، وإن كان بينهم معاداة، فذكر أنه رسول من ربِّ العالمين؛ لئلا يستقبل بالمكروه. وقوله: (مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قيل: العالم: هو جوهر الكل، وهو قول الفلاسفة. وقال أبو بكر الأصم: رب العالمين، أي: مليك الخلائق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... (105) قال أهل التأويل: إن موسى لما قال لفرعون إني رسول من رب العالمين فقال له كذبت فعند ذلك قال له موسى (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)، وأمكن أن يكون ذلك منه على غير تكذيب القول من فرعون ولكنه قال ذلك؛ لما أنه حقيق على كل أحد أكرمه اللَّه بالرسالة واختاره لها ألا يقول على اللَّه إلا الحق، أو أن يقول: إني رسول من ربّ العالمين حقيق على بعد ما أكرمني بالرسالة أن لا أقول على اللَّه إلا الحق. وقوله: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ): قد ذكرنا ألا يصح الابتداء بهذا إلا بعد أن يسبق من فرعون كلام خرج ذلك الكلام من موسى جوابًا لما كان منه، وهو ما قال أهل التأويل: أنه قال له: لما قال: إني رسول من رب العالمين إليك -: كذبت؛ لم يرسلك إلينا، وكلامًا نحو هذا؛ فعند ذلك قال: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي ما كان ينبغي لي أن أقول على اللَّه الكذب وهو كما، قال عيسى: (سُبْحَانَكَ مَا

يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ)، لما قال له: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كان ذلك القول من عيسى بعد ما ادعى قومه على عيسى أنه قال لهم ذلك، وكذلك قول الملائكة: (قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)، بعد ما قال لهم: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ)، فعند ذلك قالوا: (سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)، خرج ذلك القول منهم جواب ما تقدم، فعلى ذلك قول موسى: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)، خرج على تقدم قول كان منهم، والله أعلم. ومن قرأ: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) فتأويله: محقوق: عليَّ ألا أقول على اللَّه إلا الحق، ومن قرأ بتشديد (عَلَيَّ) فتأويله: حق عَلَيَّ ألا أقول على اللَّه إلا الحق.

(106)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ). يحتمل: (بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ما يبيّن وحدانية اللَّه تعالى وألوهيته. ويحتمل: ببينة الرسالة ما يبين أني رسول رب العالمين، غير كاذب عليه ولا مفتر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: لا تستعبدهم؛ فإنهم ليسوا بعبيد، لم يرد إرسالهم معه، ولكن طلب استنقاذهم من العبودة " كقوله: (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) دل قول فرعون: (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) أن موسى أراد بقوله: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ. . . .): الآية. ودل قوله: (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أنه لعنه اللَّه، قد كان عرف أنه ليس بإله، وعرف عبودة نفسه حيث طلب منه الآية على صدق ما ادعى من الرسالة، ولو كان عنده أنه إله، لكان قال لموسى: أنا الإله فمتى أرسلتك، ولم يطلب منه الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) قال أَبُو عَوْسَجَةَ الثعبان: الحيَّة: قال: كل حيّة تسمى ثعبانًا، والثعابين جماعة.

(108)

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الثعبان هي الحية الذكر. وقوله: (مُبِينٌ) أي: مبين أنها حية، وهو كما ذكر: (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى). (مُبِينٌ): لا يشك أحد أنها ليست بحية، ويحتمل (مُبِينٌ) أي: مبين أن ذلك التغيير والتحويل لا يكون إلا من اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) ذكر نزع يده ولم يذكر من ماذا، فهو ما ذكر في آية أخرى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي: من غير أذى ولا آفة، وقال أهل التأويل: من غير برص، ولكن عندنا: من غير سوء من غير أن تستقبح أو تستقذر؛ لأن خروج الشيء عن خلقته وجوهره مما يستقذر، فأخبر أنه لم يكن كذلك. فَإِنْ قِيلَ لنا: ما الحكمة في إدخال يده جيبه على ما هي عليه وإخراجه إياها بيضاء من غير أن كانت كذلك قبل أن يدخلها، وكذلك صيرورة العصا حيَّة بعد ما طرحها على الأرض دون أن تصير حيَّة وهي في يده قبل ذلك؟ قيل - واللَّه أعلم -: إنه إنما أراهم آيته بعد ما أخرج العصا عن سلطانه وتدبيره؛ ليعلم أنها إنما صارت لا بتدبيره وتغييره ولكن باللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وكذلك اليد صيرها آية بعدما غيبها عن بصره وتدبيره؛ ليعلم أنها صارت كذلك لا به ولكن باللَّه عَزَّ وَجَلَّ والآية: هي التي تخرج عن وسع الخلق وتدبيرهم.

(109)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) وقال في آية أخرى: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) يحتمل أن يكون فرعون قال للملأ: إن هذا كذا، ثم قال الملأ لقومه: إن هذا لساحر عليم، أراد - واللَّه أعلم - تلبيس ما أتى به موسى من الآية على قومه، وأراد بقوله: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ)، إغراء قومه عليه. والسحر عندنا هو من آيات الرسالة ولو كان ما أتى به موسى سحرًا كان ذلك

من آيات رسالته ونبوته؛ لأنه لا يستفاد إلا بعلم من السماء وخبر منها، وكذلك هذه الحرف والمكاسب التي تكتسب في الخلق؛ لأنه لا يعلم إلا بالوحي من السماء، لكنه ليس بآية على الإشارة، ولو كان ما أتى به سحرًا لكان له آية؛ لأنه نشأ بين أظهرهم لم يروه اختلف إلى ساحر قط ولا عرفوا أنه تعلم ذلك من أحد، فدل ذلك أنه من الآية، لكنه أخرج ذلك عما عرفوا من السحر لما لا أحد يعرف أنه لم يختلف فهب ذلك، ولا تعلم من أحد، فأخرجه عن وسع السحرة وتدبيرهم؛ ليعرف كل أحد أنه من آيات رسالته

(110)

ونبوته لا السحر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) كان موسى لا يريد أن يخرجهم من أرضهم، ولكن - واللَّه أعلم - كأنه قال فرعون لقومه: لو اتبعتم موسى وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه لأخرجتكم من أرضكم، لكن أضاف ذلك إلى موسى لما كان هو سبب إخراجهم، واللَّه أعلم. أو يقول: يريد أن يذهب بعيشكم الطيب وراحتكم وتلذذكم بأنواع التلذذ؛ لأنهم كانوا يستعبدون بني إسرائيل، ويستخدمونهم، ويستريحون هم وينعمون، فيقول للقبط: يريد أن يذهب بذلك كله عنكم. وجائز أن يكون موسى لم يكن يريد أن يخرجهم من أرضهم، ولكن يريد أن يخرجهم من دينهم الذي كانوا عليه، ولكنه كان يغري قومه عليه. وقوله: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ). دل هذا القول من فرعون أنه كان يعرف أنه ليس بإله ولا رب؛ لأنه لو كان ما يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) لكان لا يطلب من قومه الأمر والإشارة في ذلك، دل ذلك أنه كان يعرف عجزه وضعفه؛ لكنه يكابر ويلبس على قومه ويموه بقوله: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ). وقوله: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) هذا الحرف حرف إغراء وتحريش عليه، وقوله: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) هو حرف تقريب حيث جعل إليهم الأمر والإشارة، وجعلهم من أهل مشورته. وقوله: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) هذا الحرف لا يقال ابتداء إلا أن يكون هنالك تقدم شيء، فكأنه هم بقتله؛ كقوله: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)، فقالوا له: (أَرْجِهْ)، أي: أَخِّرْه واحبسه ولا تقتله ليتبين سحره عند الخلق جميعًا، كانوا يمنعون فرعون عن قتله. ألا ترى أنه قال: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى)، لو لم يكن منهم منع عن قتله لم يكن ليقول لهم: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى).

(112)

وقوله: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ). قَالَ الْقُتَبِيُّ: أَرْجِهْ وَأَخَاهُ هارون، يقول: احبسه، أي: أخره، ومنه قوله: ترجي من تشاء، ومنه سميت المرجئة. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أَرْجِهْ وَأَخَاهُ) ولا تقتلهما (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) أي: أرسل إلى المدائن الشرط، يأتون من المدائن حاشرين، أي: يحشرون عليك السحرة والناس. إلى هذا يذهب ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقوله: (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) لا تقتله حتى يأتوك بكل ساحر عليم، أي: ليجتمع كل أنواع السحر عنده، ليتبيِّن سحره، وإلا كان ساحر واحد كافيًا، ولكن أرادوا واللَّه أعلم بقوله: (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) ليجتمع جميع أنواع السحر عنده لتبين سحره. * * * قوله تعالى: (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114): في المنزلة والقدر عندي، هذا يدل أن همة الساحر ليس إلا الدنيا؛ لأنهم طلبوا من فرعون الأجر والقدر والمنزلة عنده إنْ كانوا هم الغالبين، ولا

(115)

يجوز من همته الدنيا، وما ذكر أن يكون له الرسالة بحال، وهمَّة الأنبياء كانت الدِّين وطلب الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) هذا ليس على إلقاء هذا، وترك أُولَئِكَ الإلقاء؛ لأنه لو كان على إلقاء أحدهما لكان لا يتبين السحر من الآية، لكن إلقاء الأول كأنهم قالوا: يا موسى إما أن تلقي أولًا أو نحن الملقون أول مرة، وهو كما ذكر في آية أخرى: (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى) وقول موسى: (أَلْقُوا ... (116) كأنه أمره ربه أن يأمر بذلك؛ قال موسى: (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) هذا يدل أن السحر إنما يأخذ الأبصار على غير حقيقة كانت له، وهو كالسراب الذي يرى من بعيد؛ كقوله: (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً. . .) الآية، فعلى ذلك السحر يأخذ الأبصار ظاهرًا، فإذا هو في الحقيقة باطل لا شيء، وكالخيال في القلوب لا حقيقة له، وكان قصدهم بالسحر استرهاب الناس، وتخويفهم به. ألا ترى أنه ذكر في آية أخرى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)، وقد ذكرنا أن ما جاء به الرسل لو كان سحرًا في الحقيقة، لكان ذلك حجة لهم في إثبات الرسالة؛ لأن قومهم لم يروهم اختلفوا إلى ساحر قط، فيدل ذلك أنهم إنما عرفوا ذلك باللَّه تعالى، وهو كالأنباء التي أتى بها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)، يخرج على وجهين: أحدهما: أخذ سحرهم بصره كما أخذ أعين الناس. والثاني: خاف أن سحرهم يمنع أُولَئِكَ عن رؤية حقيقة ما جاء به. وقوله: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) أي: أخذوا كقوله: (مَسْحُورُونَ). أي: مأخوذ أعينكم.

(117)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ... (117) فيه أن موسى كان لا يلقي عصاه إلا بعد الأمر بالإلقاء، وكذلك قوله: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) و (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ)، ونحوه، كان لا يضرب بالعصا، ولا يلقي إلا بعد الأمر بالإلقاء والضرب؛ ليعلم أن في ذلك امتحانًا لموسى فيما يؤمر بالإلقاء على الأرض لتصير حية، وفيما يأمره بالضرب بها الحجر والبحر، ولله أن يمتحن عبده بما شاء من أنواع المحن، وإلا كان قادرًا أن يفلق البحر على غير الأمر بالضرب بالعصا، وكذلك يفجر الحجر، ويشقه على غير ضرب بالعصا، وكذلك يصير العصا حية وهي في يده، ولكن أمره بذلك كله - واللَّه أعلم - امتحانا منه إياه وابتلاء، إذ هي دار محنة وابتلاء؛ إذ في زمن موسى كان السحر هو الظاهر، وكان الناس وقتئذ يعملون بالسحر، فجاء موسى من الآيات على رسالته بنوع ما كانوا يعملون به، ومن جنس ذلك؛ ليعرفوا بخروجه عن وسعهم أن ذلك أليس بسحر، ولكن آية سماوية، وكذلك ما جاء عيسى من الآيات جاء بنوع ما كان يعمله قومه، وهو الطب، فجاء بنوع الطب ليعلموا أنه بالله عرف ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ). قَالَ الْقُتَبِيُّ: تلقف: تلتقم وتلقم، اشتقاقه من اللقم والابتلاع.

(118)

وقوله: (مَا يَأْفِكوُنَ) قيل: ما يكذبون. قال الحسن: (تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) حبالهم وعصيهم. وقيل: (تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) ما جاءوا به من الكذب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَقَعَ الْحَقُّ ... (118) قيل: أي: ظهر الحق، (وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: (وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، أي: بطل ما عملوا من السحر. والثاني: (وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: ترك السحرة العمل بالسحر إذ ظهر الحق لهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ ... (119) أي: عند ذلك غلب السحرة؛ لأنهم قالوا لفرعون في الابتداء: (إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)، فذكر هاهنا أنهم غلبوا عند ظهور الحق، لا أنهم صاروا غالبين، وقوله: (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ) وليس غلبة القهر والقسر، ولكن غلبة بالحجج والبراهين، أي: غلبوا بالحجج والآيات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ). قال بعض أهل التأويل: رجع السحرة لما غلبوا صاغرين مذللين. لكن نقول: رجع فرعون وقومه إلى منازلهم مذللين لا السحرة؛ لأن السحرة قد آمنوا فلا يحتمل أن يوصفوا بالرجوع صاغرين مذللين، وقد رجعوا مع الإيمان. وقوله: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) اختلف فيه:

(121)

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَأُلْقِيَ)، أي: أمروا بالسجود، فسجدوا. وقال آخرون: قوله: (وَأُلْقِيَ)، أي: لسرعة ما سجدوا، كأنهم ألقوا، والآية ترد على المعتزلة؛ لأنهم ينكرون أن يكون لله تعالى في فعل العباد صنع، وهاهنا قد أضيف الفعل إلى غيرهم بقوله: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) دل أن لله في فعل العباد صنعًا. وهو أن خلق فعل السجود منهم. وقال جعفر بن حرب: يجوز أن يضاف الفعل إلى غير، وإن لم يكن لذلك الغير في ذلك الفعل صنع؛ نحو: ما يقال في السفر: إن هَؤُلَاءِ خلفوا أُولَئِكَ، وهم لم يخلفوا أُولَئِكَ في الحقيقة، ولا صنع لهم في التخليف، ثم أضيف إليهم فعل التخليف، فعلى ذلك هذا. يقال: إن لهم في ذلك صنعًا، وهو أنهم إذا لم ينتظروهم فقد خلفوهم، فلهم في ذلك صنع، فأضيف إليهم. أو أن يقال: إنهم لا يملكون تخليف هَؤُلَاءِ فأما اللَّه سبحانه وتعالى فهو قادر أن يلقيهم أي: بما يخلق منهم فعل السجود، فأضيف الفعل إليه لذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قال بعض أهل التأويل: إنهم لما قالوا: آمنا برب العالمين، قال لهم فرعون: إياي تعنون، فعند ذلك قالوا: لا، ولكن ربّ موسى وهارون، ولكن لا ندري هذا، وموسى أول ما جاء فرعون ودعاه إلى دينه قال له: (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فلا يحتمل أن يشكل عليه قولهم: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وإنهم إياه عنوا بذلك، وجائز أن يكون آمَنَّا بِرَبِّ الذي أرسل موسى وهارون رسولًا.

(123)

قوله تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) قوله: (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ). هذا يدلّ على أن الإيمان هو التصديق لا غير؛ لأنه لما قال السحرة (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وقال لهم فرعون: (آمَنْتُمْ بِهِ) وهم لم يأتوا بسوى التصديق، دل على أن الإيمان هو التصديق الفرد لا غير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا) هذا من فرعون نوع من التمويه على قومه كما قلنا في الابتداء (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) هو حرف التمويه والتلبيس على قومه فعلى ذلك قوله: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) هو تمويه منه وتلبيس على قومه، لئلا يؤمنوا كما آمن السحرة برب موسى. وقوله: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ). أي: شيء صنعتموه فيما بينكم وبين موسى، وهو كما قال في آية أخرى: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) هذا لجهله بأشدّ العقوبة والنكال، وإلا لم يوعدهم بقطع الأيدي والأرجل من

(125)

خلاف؛ إذ ذلك أيسر وأقل في العقوبة من القطع من جانب، والقطع من جانب أشد وأنكل من القطع من خلاف؛ إذ القطع من خلاف لا يمنع القيام ببعض المنافع، ولا يعمل في إتلاف النفس؛ إذ جعل ذلك حدّا في بعض العقوبات، ولم يجعل القطع من جانب عقوبة بحال، فدل أنه أشد وأنكل، ويعمل في إهلاك النفس، والقطع من خلاف لا يعمل، دل أنه لجهله ما قال. أو أن اختار القطع من خلاف ليكون مؤنة الصلب عليهم لا عليه؛ لأن المقطوع من خلاف قد يمكن له الصعود على الخشبة، والثاني: لا، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وقال في موضع آخر (لَا ضَيرَ)، هذا - واللَّه أعلم - يخرج على وجهين: أحدهما: على الإقرار منهم بالبعث، والإيمان به. والثاني: وعيد منهم لفرعون لعنه اللَّه؛ حيث أوعدهم بقطع الأيدي والأرجل والصلب وغير ذلك من العقوبات، فقالوا: إنا وأنت إلى ربنا منقلبون، فتجزى وتعاقب جزاء صنيعك بنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ... (126) قيل فيه بوجهين: قيل: قوله: (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا) أي: وما تعيب علينا، وتطعن إلا بما كان منا من الإيمان بآيات ربنا لما جاءتنا، وهو ما جاءهم من الآيات. وقيل: وما تعاقبنا وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا، وكان الحق عليك - وعلينا - أن تؤمن بها كما آمنا نحن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا). قوله: (أَفْرِغْ). قيل: أنزل علينا صبرًا. وقيل: أتمم لنا صبزا. وقيل: اصبب علينا صبرًا، وهو كله واحد. ثم يحتمل سؤالهم الصبر لما لعله إذا فعل بهم بما أوعد من العقوبات لم يقدروا على التصبر على ذلك، فيتركون الإيمان؛ لذلك سألوا ربهم الصبر على ذلك ليثبتوا على الإيمان به. (وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ). سألوا ربهم -أيضًا- التوفي على الإسلام، وهكذا كان دعاء الأنبياء، كما فال يوسف: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا. . .) الآية.

(127)

وكذلك أوصى إبراهيم، بنيه؛ حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، وهكذا الواجب على كل مسلم ومؤمن أن يتضرع إلى الله في كل وقت، ويبتهل إليه في كل ساعة؛ لئلا يسلب الإيمان لكسب يكتسبه؛ إذ الأنبياء والرسل - عليهم السلام - مع عصمتهم كانوا يخافون ذلك ليعلم أن العصمة لا تسقط الخوف، ولا تؤمن عن الزلات. وقوله: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) دلالة على أنهم علموا أنهم إذا أفرغ عليهم الصبر صبروا؛ إذ لو لم يعلموا ذلك لم يكن لسؤالهم الصبر معنى، فهذا على المعتزلة في قولهم: إنه يفرغ ولا يصبرون، وإنه قد أعطاهم غاية ما يصلح في الدِّين، فدل سؤالهم ذلك على أنه لم يعطهم، وأن عنده مزيدًا لو أعطى لهم ذلك كان. (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ... (127) قَالَ بَعْضُهُمْ: في إخراجكم من أرض مصر وإفسادهم العيش عليكم، أو ما ذكروا

من ترك عبادة فرعون وخدمته. (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) وقد قرئ: [(وَإِلِاهَتِكَ)] فمن قرأه: [(وَإِلِاهَتِكَ)] حمله على العبادة، أي: يذرك وعبادتك، ومن قرأه [(وَآلِهَتَكَ)]، وهو قول ابن عَبَّاسٍ ومجاهد، قالوا: إن

فرعون لعنه اللَّه، قد كان جعل لقومه آلهة يعبدونها؛ ليتقربوا بعبادتهم تلك الأصنام إلى فرعون، على ما كان يعبد أهل الشرك الأصنام دون اللَّه، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) فقالوا: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) التي جعلت لهم. وقال آخرون: إن فرعون كان يعبد الأصنام والأوثان على ما عبد غيره. وقال غيرهم: لا يحتمل أن يكون هو عبد الأصنام، ولكن جعل لقومه الأصنام على ما ذكرنا. ألا ترى أنه قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) ثم قال اللعين: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ) يعني: رجالهم، (وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)؛ لأنه لا يحتمل قتل الأبناء، ولم يكن منهم إليه صنع إنما كان ذلك من الرجال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قد كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل في العام الذي قيل له: إنه يولد مولود يذهب بملكك، ويغير دين أهل الأرض، فلم يزل يقتلهم في ذلك العام الذي قيل له: إنه يولد مولود يذهب بملكه، ويترك البنات، فذلك قوله: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) قيل: مسلطون عليهم. فَإِنْ قِيلَ لنا: ما الحكمة في ذكر هذه القصص والأنباء السالفة في القرآن؟ قيل: لوجوه - واللَّه أعلم -: أحدها: أن فيها دليل إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته؛ لأن هذه القصص والأنباء كانت في كتبهم ثابتة مبينة، وقد علموا أن لسانه كان على غير ما كانت كتبهم، وعرفوا أنه لم يختلف إلى أحد ممن يعرف ذلك؛ ليتعلم منه، ولا سمع عن أحد منهم ثم أنبأهم على ما كانت، دل أنه إنما عرف ذلك بمن يعلم علم الغيب.

(128)

والثاني: أن البشر جبلوا على حبِّ السماع للأخبار والأحاديث، وحبب ذلك في قلوبهم حتى إن واحدًا منهم يولد أحاديث وينشئها من ذات نفسه لأن يستمعوا في ذلك إليه ويسمعوا منه، فذكر لهم هذه الأنباء والقصص ليكون استماعهم إليها وسماعهم لها، وذلك أحسن وأوفق إذ أخبر أن ذلك أحسن القصص؛ بقوله: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ). والثالث: ذكر لهم هذا ليعلموا ما حل بهم في العاقبة من الهلاك والاستئصال، وأنواع العذاب لفسادهم وتكذيبهم الرسل، وما عاقبة المفسد منهم والمصلح؛ ليكون ذلك زجرًا لهم عن صنيع مثلهم. والرابع: ذكر ذلك ليعرفوا كيف كانت معاملة الأنبياء والرسل أعداءهم، ومعاملة الأعداء الرسل ليعاملوا أعداءهم مثل معاملتهم. والخامس: أنهم كانوا ينكرون أن يكون من البشر رسول، فأخبر أن الرسل الذين كانوا من قبل كانوا كلهم من البشر. والسادس: أنهم كانوا يعبدون هذه الأصنام والأوثان، ويقولون: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، فأخبر أن كان في آبائهم السعداء، وهم الأنبياء والأشقياء، فكيف اقتديتم أنتم بالأشقياء منهم؟! وهلا اتبعتم السعداء دون الأشقياء! والسابع: فيها أن كيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عرفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن يأمر به، ومن ينهى عنه. وأيضًا إن فيه ذكر الصالحين منهم بعدما ماتوا وانقرضوا فكانوا بالذكر كالأحياء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ... (128) يحتمل قوله: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ): على أداء طاعته، وبما يتقربون إلى اللَّه تعالى ويكون لهم زلفى لديه.

(129)

أو أن يقول لهم: استعينوا باللَّه بالنصر لكم والظفر، واصبروا على أذاهم والبلاء. (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ). يحتمل هذا وجهين: يحتمل أن يخرج ذلك من موسى مخرج الوعد لهم بالنصر والظفر على الأعداء، وجعل الأرض لهم من بعد إهلاك العدو، وهو كما ذكر في موضع آخر: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ). ويحتمل أن يخرج ذلك منه مخرج التصبر على الرضا بقضاء اللَّه - تعالى - أن الأرض له يصيرها لمن يشاء، فاصبروا أنتم على البلاء، وارضوا بقضائه. (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). قال الحسن: (وَالْعَاقِبَةُ)، أي: الآخرة للمتقين خاصة، وأمّا الدُّنيَا فإنها بالشركة بين أهل الكفر وأهل الإسلام، يكون لهَؤُلَاءِ ما لأُولَئِكَ، وأمَّا الآخرة فليست للكفار إنما هي للمؤمنين خاصة، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ. . .) الآية، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقال غيره: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي عاقبة الأمر بالنصر، والظفر للمتقين على أعدائهم، وإن كان في الدفعة الأولى عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ... (129) يخرج هذا على وجهين: أحدهما: أن يخرج مخرج استبطاء النصر والظفر لهم، كأنهم استبطئوا النصر

وإهلاك العدو والظفر عليهم، فقال لهم موسى عند ذلك: (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ). والثاني: أن يخرج ذلك منهم مخرج الاعتذار لموسى لما خطر ببال موسى أنهم يقولون: إن ما أصابهم من البلايا والشدائد إنما كان لسببه ولمكانه، فقالوا ذلك له اعتذارًا منهم له أن قد أصابنا ذلك نحن من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا؛ لئلا يوهم أنهم يقولون ذلك أو يخطر بباله ذلك، واللَّه أعلم. وجائز أن يكونوا قالوا ذلك على التعيير له والتوبيخ، يقولون: لم يزل يصيبنا من الأذى لسببك ولأجلك من قبل أن تأتينا من الاستخدام، ومن بعد ما جئتنا من أنواع الضرر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) والعسى من اللَّه واجب، فوعدهم إهلاك العدو واستخلافهم في الأرض. وقال بعض أهل التأويل في قوله: (أُوذِينَا): في سببك (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا) بالرسالة، يعنون بالأذى: قتل الأبناء واستخدام النساء، (وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) بالرسالة: من الشدائد التي أصابتهم من بعد، لكن الأول أقرب وأشبه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). يحتمل هذا -أيضًا- وجهين: أحدهما: أن يجعل لكم الأرض، ويوسع عليكم الرزق يمتحنكم في ذلك ويبتليكم، لا أنه يجعل لكم ذلك على غير امتحان تعملون ما شئتم في ذلك. والثاني: يمتحنكم بالشدائد والبلايا؛ لينظر كيف تصبرون على ذلك. ويحتمل وجهًا آخر وهو: أن يقول لهم: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تشكرون ربكم فيما أنعم عليكم. وقوله: (فَيَنظُرَ) كيف الواقع لكم من الجزاء والثواب. وقوله: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا): أمرهم - واللَّه أعلم - بطلب المعونة من اللَّه تعالى على قضاء جميع حوائجهم دينًا ودنيا، ويحتمل أن يكون على طلب التوفيق لما أمر به، والعصمة عما حذَّرَ عنه، وكذلك الأمر البين في الخلق من طلب التوفيق والمعونة من اللَّه، والعصمة عن المنهي عنه جرت به سنة الأخيار، وبالله المعونة.

(130)

ثم لا يصح ذلك على قول المعتزلة؛ لأن الدعاء بالمعونة على أداء ما كلف وقد أعطى؛ إذ على قولهم لا يجوز أن يكون مكلفًا قد بقي شيء مما به أداء ما كلف عند اللَّه، وطلب ما أعطى كتمان للعطية؛ وكتمان العطية كفران، فيصير كأن اللَّه أمر بكفران نعمه وكتمانها وبطلبها منه تعنتًا، وظن مثله باللَّه كفر، ثم لا يخلو من أن يكون عند اللَّه ما يطلب فلم يعط التمام إذًا، أو ليس عنده، فيكون طلبه استهزاء به؛ إذ من طلب إلى آخر ما يعلم أنه ليس عنده فهو هازئ به في العرف مع ما كان الذي يطلب إما أن يكون لله ألا يعطيه مع التكليف، فيبطل قولهم لا يجوز أن يكلف وعنده ما به الصلاح في الدِّين فلا يعطي، أو ليس له ألا يعطي فكأنه قال: اللهم لا تجر ولا تظلم ومن هذا علمه بربه فالإسلام أولى به، فهذا مع ما لا يدعو اللَّه أحد بالمعونة، وإلَّا ويطمئن قلبه أنه لا يزل عند المعونة، ولا يزيغ عند العصمة، وليس مثله يملك اللَّه عند المعتزلة، ولا قوة إلا باللَّه. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ). عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (بِالسِّنِينَ) قال: بالجوع، وقيل: بالقحط. ومجاهد: (بِالسِّنِينَ) قال: بالجوائح ونقص من الثمرات دون ذلك. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: بالسنين: بالجدب؛ يقال: أصاب الناس سنة: أي جدب. فَإِنْ قِيلَ: ذكر أنه أخذ آل فرعون، وكان فيهم بنو إسرائيل فما معنى التخصيص؟ قيل: يحتمل أن يكون ذلك لهم خاصّة دون بني إسرائيل، وإن كانوا فيهم؛ على ما ذكر

(131)

في بعض القصة أن القبط كانوا يشربون الدم وبنو إسرائيل الماء، أو كان الجدب والنقص من الثمرات يضر آل فرعون، ولا يضر بني إسرائيل؛ لما أنهم كانوا يأكلون للشهوة وبنو إسرائيل للحاجة، فمن يأكل للحاجة كان أقل حاجة إلى الطعام ممن يأكل للشهوة؛ فإذا لم يجدوا ما يأكلون للشهوة كان أضر بهم. ألا ترى أنه قيل: " يأكل المؤمن في معيٍّ واحد والكافر لسبعة أمعاء ". أو خرج تخصيص ذلك لهم لما أن في عقد بني إسرائيل أن لله أن يمتحنهم بجميع أنواع المحن: مرة بالشدة ومرة بالسعة، ومن عقد القبط لا، فأضيف إليهم ذلك لما لم يكن في عقدهم ذلك، وإن كانوا جميعًا في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). أي: يتعظون، " ولعل " من اللَّه واجب قد اتعظوا لكنهم عاندوا وكابروا، وإلا قد لزمهم الاتعاظ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ ... (131) أي: الخصب والسعة (قَالُوا لَنَا هَذِهِ)، أي: هذا ما كنا نعرفه أبدًا وما جرينا على اعتياده، أو أن يقولوا: لنا هذه بفرعون وبعبادتنا له. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ). قيل: الضيق والقحط. (يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى). وقالوا بشؤمه، وهذا كما قال العرب لمُحَمَّد: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ

(132)

عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)، كانوا يضيفون ما يصيبهم من الحسنة إلى اللَّه؛ لأنهم كانوا يقرون باللَّه، والقبط لا فيقولون ذلك من فرعون أو على الاعتياد. فقال: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)؛ فعلى ذلك قال ها هنا: (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ). ثم يحتمل هذا وجوهًا: قيل: جزاء تطيرهم عند اللَّه في الآخرة. وقيل: طائرهم وشؤمهم الذي كانوا تطيروا بموسى كان بتكذيبهم موسى، أضاف ذلك إلى ما عنده من الآيات؛ لأنهم بنزول تلك الآيات وإرسالها عليهم تطيروا بموسى، أوبتجدد، تلك الآيات تجدد تطيرهم وتشاؤمهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ)، أي: حظهم عند اللَّه، وكذلك قال في قوله: (أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ)، وهو كما ذكر: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) لما كذبوا تلك الآيات زاد ما نزل بهم من الآيات من بعد رجسًا إلى رجسهم، فعلى ذلك شؤمهم وطائرهم الذي كان بتكذيبهم موسى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى): من الطيرة، وهو من التشاؤم، يقال: تشاءمت بفلان، أي: قلت: هو غير مبارك، وتطيرت بفلان -أيضًا- مثله، ويقال: تبركت به إذا قلت: هو مبارك، ويقال: تطيرت واطيرت منه وبه. (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ)، أي: شؤمهم ذلك الذي يخافون منه هو من عند اللَّه، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): بأنه كان من عند اللَّه، كان بتكذيبهم موسى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)

قال أبو بكر الكيساني: تأويله: كل ما تأتينا به تزعم أنه آية، تريد أن تسحرنا بها، فما نحن لك بمؤمنين. وقال ابن عَبَّاسٍ، والحسن: هو: أي ما تأتينا (بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا. . .) الآية. وقوله " مَهْ " زيادة، وهو قول الْقُتَبِيّ، ومعناه: أي ما تأتنا. وقال الخليل: هو في الأصل " ما " " ما "، إحداهما زيادة، فطرحت الألف وأبدلت مكانها هاء؛ طلبًا للتخفيف. وقال سيبويه النحوي: قوله: (مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ) أي: مه أي كأنهم قالوا

(133)

له: مه، أي: اسكت، كما يقول الرجل لآخر: مه، أي: اسكت، " ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ". والسحر: هو التحيير، وأخذ الأبصار، ولا حقيقة له؛ كقوله: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا)، أي: متحيرًا، وقوله: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ). ثم دل قولهم: (مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أن ما قالوا: إن هذا ساحر، وإنه سحر عن علم بالآية والنبوة له قالوا ذلك، لا عن جهل وغفلة حيث قالوا: (مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) ذلك منهم إياس من الإيمان به، وقبول الآيات لأنهم أخبروا أنهم لا يقبلون الآيات، ولا يصدقونه في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ ... (133) إلى آخر ما ذكر. قال أهل التأويل: لما قالوا ذلك أرسل اللَّه بعد السنين ونقص الثمرات الطوفان والآيات التي ذكر، ويحتمل أن يكون هذا وإن كان مؤخرًا في الذكر فهو مقدم؛ لما قال: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ) (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ) إلى آخره. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي: يتعظون. ثم اختلف أهل التأويل في الطوفان: قَالَ بَعْضُهُمْ: الطوفان: الماء والمطر حتى خافوا الهلاك، وهو قول ابن عباس. وعن عائشة، قالت: " سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الطوفان، فقال: الموت "، فإن ثبت فهو. وقيل: الطوفان: هو أنواع العذاب.

والجراد: هو المعروف. والقُمَّل، قَالَ بَعْضُهُمْ: هو بنات الجراد، يقال: الدباء. وقيل: هو الجراد الصغار التي لا أجنحة لها. (وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ). قيل: مفصلات، أي معرفات، واحدًا بعد واحد، لم يرسل آية إلا بعد ذهاب أخرى، بعضها على إثر بعض. وقيل: مفصلات، أي: بينات واضحات، ما علم كل أحد أنه ليس من أحد

(134)

وليس من عمل السحر، ولكن آية سماوية إذ لو كان سحرًا لتكلفوا في دفعه، واشتغلوا بالسحر على ما اشتغلوا بسحر العصا والحبال، فإذ لم يتكلفوا في ذلك، ولم يشتغلوا بدفع ذلك، بل فزعوا إلى موسى ليكشف ذلك عنهم، ووعدوه الإيمان به، وإرسال بني إسرائيل معه، دل فزعهم إليه في كشف ذلك عنهم على أنهم قد عرفوا أنه ليس بسحر، ولكنه آية أقروا بها أنها ليست بسحر، وأنها آيات إلا أنهم فزعوا عند ذلك إلى موسى فقالوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) ووعدوه الإيمان به، وبعث بني إسرائيل معه إن كشف عنهم الرجز. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِمَا عَهِدَ عِندَك) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (بِمَا عَهِدَ عِندَك) ما عهد لك أنك متى دعوته أجابك. وقيل: (بِمَا عَهِدَ عِندَكَ) أنَّا متى آمنا بك وصدقناك كشف عنا الرجز، فقالوا: لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل. * * * قوله تعالى: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ). قيل: الرجز: ألوان العذاب الذي كان نزل بهم من الطوفان والجراد والقمل

(135)

والضفادع، والدم، وما ذكر. قالوا: (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) يحتمل أن يكون كلما حل بهم نوع من العذاب سألوا أن يكشف عنهم، فقالوا: لئن كشفت لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فلما كشف عنهم الرجز نكثوا ذلك، وعادوا إلى ما كانوا من قبل. ويحتمل أن يكون قولهم لموسى: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ): بعدما حل بهم أنواع العذاب، عند ذلك قالوا: (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) فلما كشف ذلك عنهم نكثوا عهدهم، وهو قولهم: لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن بك، وعادوا إلى ما كانوا، فعند ذلك كان ما ذكر من قوله: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) وقوله: (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ): بما تدعى بأنك رسول، (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ): أمكن أن يكون ليس على نفس الإرسال، ولكن على ترك الاستعباد، أي: لا نستعبدهم بعد هذا؛ لأنهم كانوا يستعبدون بني إسرائيل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) قال الحسن: قوله: (كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ) لو أطاعوا وأوفوا بالعهد الذي عهدوا ولكنهم لما نكثوا ذلك انتقم منهم وهذا الحرف يؤدي إلى مذهب الاعتزال؛ لأنهم يقولون: إن من قتل أو عذب تعذيب إهلاك إنما هلك قبل أجله، وأجله الموت، لكن هذا يصلح ممن يجهل العواقب، وأمَّا اللَّه سبحانه وتعالى يتعالى عن ذلك أن يجعل له أجلين؛ أحدهما: الموت، والآخر: القتل، ولكن جعل أجل مَنْ في علمه أنه يُقتل القتل، ومَنْ يموت حتف أنفه الموت، وكذلك ما روي في الخبر أن: " صلة الرحم تزيد في العمر "، أي: مَنْ علم منه أنه يصل رحمه، جعل عمره أزيد ممن يعلم أنه لا يصل رحمه، لا أنه يجعل عمره إلى وقت، ثم إذا وصل رحمه زاد؛ لما ذكرنا أن ذلك أمر مَنْ يجهل العواقب، وأما من يعلم ما كان وما يكون أنه لو كان كيف يكون - لا.

(136)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ... (136) يحتمل أن يكون قوله: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) ما ذكر على إثره من الغرق: (فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ). ويحتمل أن يكون قوله: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) من الطوفان وأنواع العذاب الذي كان حل بهم، ثم كان الإغراق من بعد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا). يحتمل الآيات التي جاء بها موسى على وحدانية اللَّه تعالى وربوبيته، وهي الحجج والآيات التي تقدم ذكرها من الطوفان والجراد والقمل، وما ذكر. وقال الحسن: بآياتنا: ديننا. وقوله: (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) قيل: معرضين مكذبين بها، لا أنهم كانوا على غفلة وسهو عنها، لكنهم أعرضوا عنها مكابرين معاندين كأنهم غافلين عنها، وجائز أن يكون: غافلين عما يحل بهم من العقوبة بتكذيبهم. وقوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ... (137) هو ما سبق من الوعد لهم بوراثة الأرض، وإنزالهم فيها، وهو قوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ)، وكقوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)، كان وعدهم الاستخلاف والإنزال في أرض عدوهم، ثم أخبر أنه أنزلهم وأورثهم على ما - وعدهم بقوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) باستعبادهم، وقوله:، (مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) قيل: فيه بوجوه: قيل: مشارق الأرض ومغاربها: مملكة فرعون مصر ونواحيها، ما يلي ناحية الشرق وناحية الغرب. وقيل: كان في بني إسرائيل من بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها من نحو ذي القرنين، وداود، وسليمان.

وقيل: مشارق الأرض ومغاربها: أن فضلوا على أهل مشارق الأرض ومغاربها؛ كقوله: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، قيل: على عالمي هذا الزمان، ثم تفضيله إياهم على البهائم بالجوهر، والخلقة، وعلى الجن بالرسالة والنبوة والمنافع، وعلى جوهرهم من بني آدم بالرسالة والحكمة والملك؛ كقوله: (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا). قيل: أرض الشام. وقيل: أرض مصر ونواحيها. وقيل: سماها مباركة لأنها مكان الأنبياء - عليهم السلام. وقيل: مباركة لكثرة أنزالها وسعتها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى).

قيل: هي الجنة، أي: تمت لهم الجنة بما صبروا، وقيل: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى) بما كان وعدهم أنه ينزلهم فيها، ويستخلفهم، تم ذلك الوعد لهم وهو كما قال: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) تم ما وعد لهم أن يمنَّ عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِمَا صَبَرُوا) يحتمل: بما صبروا على أذى فرعون، ويحتمل: (بِمَا صَبَرُوا) من أداء ما أوجب عليهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ): على الوقف على (وَقَوْمُهُ) (وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ): معطوف على قوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) (وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ): وهو من العرش الذي يتخذه الملوك. وقيل: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) -أيضًا-،أي: أهلكنا ما كانوا يعرشون. قَالَ الْقُتَبِيُّ: يعرشون، أي: يبنون، والعرش: بيوت، والعرش: سقوف. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ)، أي: أهلكنا وأفسدنا، (وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) عَرَش، يَعْرُش ويَعْرِش يعني: يبنون من البيوت والكروم والأشجار. وقيل في قوله: (كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ): يعني بالاستضعاف: قتل الأبناء واستحياء النساء بأرض " مصر "، ورثهم اللَّه ذلك.

(138)

وقيل في قوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى) هي النعمة التي أنعمها على بني إسرائيل بما صبروا على البلاء حين كلفوا ما لا يطيقون من استعباد فرعون إياهم، والكلمة التي ذكر ما ذكر في القصص من قوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ). * * * قوله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ). دل هذا على أن لله في فعل العباد صنعًا وفعلًا؛ حيث أضاف ونسب المجاوزة إلى نفسه، وهم الذين جاوزوا البحر، دل أن له في فعلهم صنعًا، وهذا ينقض على المعتزلة حيث أنكروا خلق أفعال العباد، وباللَّه المعونة والعصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ). العكوف: هو المقام والدوام، وقوله: (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ)، أي: وجدوهم عكوفًا على عبادة الأصنام مقيمين على ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا). يشبه أن يكون سؤالهم إلهًا يعبدونه لا على الكفر بربهم والتكذيب لرسوله، ولكن لما لم يروا أنفسهم أهلًا للعبادة لله، والخدمة له؛ لما رأوا في الشاهد أنه لا يخدم الملوك إلا الخواص لهم، والمقربون إليهم، ومن بعد منهم يخدم خواصهم، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ سألوا موسى إلهًا يعبدونه؛ لما لم يروا أنفسهم أهلًا لعبادة اللَّه، والخدمة له؛ لتقربهم

(139)

عبادة تلك الأصنام إلى اللَّه، ويخرج ذلك مخرج التعظيم لله والتبجيل، لا على الكفر وصرف العبادة عنه إلى غيره، وكذلك كان عادة العرب أنهم كانوا يعبدون الأصنام لتقربهم عبادتها إلى اللَّه زلفى، وكذلك ما ذكر في بعض القصة أن فرعون كان يتخذ لقومه أصنامًا يعبدونها؛ لتقربهم تلك الأصنام إليه زلفى، فعلى ذلك سؤال هَؤُلَاءِ لموسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا)، واللَّه أعلم. أو كان سؤالهم ذلك لما لم يروا في الشاهد أحدًا يخدم إلا لحاجة تقع له إلى ذلك، فرأوا أن اللَّه يتعالى عن أن يعبد ويخدم للحاجة، وهم يخدمون القادة والرسل ويعبدونهم لما رأوا أنهم ينالون من النعم، وأنواع المنافع من الرؤساء والكبراء؛ لذلك كانوا يخدمونهم، وأما أهل التوحيد فإنهم لا يرون العبادة لغير اللَّه؛ لأنه ما من أحد وإن بعد منزلته ومحله إلا وآثار نعم اللَّه عليه ظاهرة حتى عرف ذلك كل أحد، حتى لو بذل له جميع حطام الدنيا، أو أوعد بكل أنواع الوعيد؛ ليترك الدِّين الذي هو عليه، ما تركه ألبتَّة. وفي أمر موسى - صلوات اللَّه عليه - خصلتان، إحداهما: أن يعلم أن كيف يؤمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وكيف يعامل مرتكب الفسق والمنكر يعامل على ما عامل موسى قومه باللين والشفقة، وإن استقبلوه بالعظيم من الأمر والمناكير. والثانية: [ ..... ] ويحتمل أن يكون سؤالهم إلهًا يعبدونه لما أن أهل الكفر قالوا لهم: إن الرسل هم الذين أمروهم بعبادة الأصنام؛ كقوله: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، فعلى ما قالوا إن الرسل هم الذين أمروهم بذلك، سألوا موسى أن يجعل لهم إلهًا كما لهم آلهة. وقوله: (إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ ... (139) أي: أن عبادتهم لهَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ، أي: مهلكهم ومفسدهم. (وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

(140)

أي: باطل ما يأملون بعبادتهم هَؤُلَاءِ. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: التبار: الهلاك، وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المتبر: المفسد، يقال: تبرت الشيء، أي أفسدته، ويقال: رجل متبر، أي مفسد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) يحتمل قوله: فضلكم على العالمين بما هداكم ووفقكم للهداية بما لم يوفق ولم يهد أحدًا من العالمين من عالمي زمانكم. ويحتمل قوله: (أَبْغِيكُمْ إِلَهًا) دونه وقد فضلكم بما استنقذكم من استخدام فرعون وقهره إياكم وإخراجكم من يده، وأعطاكم رسولًا يبين لكم عبادة إلهكم الحق. وقوله: (أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ) يقول: أما تستحيون من ربكم أن تسألوا إلهًا تعبدونه دونه، وقد فضلكم بما ذكر من أنواع النعم، واللَّه أعلم، وهو ما ذكر في قوله: (وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. . . . (141) الآية، يذكرهم نعمه عليهم بما استنقذهم من فرعون وآله وأهلكهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسُومُونَكُمْ). قيل: يعذبونكم (سُوءَ الْعَذَابِ) قتل الأبناء، واستحياء النساء، فذلك قوله: (يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)، قيل في ذلك: يعني فيما أنجاكم من آل فرعون بلاء من ربكم عظيم، يعني: نعمة من ربكم عظيمة، ويقال: البلاء - بالمد -: هو النعمة، وبغير المد مقصورًا: الشدة. * * *

(142)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ). ذكر هاهنا ثلاثين ليلة ثم ذكر التمام بالعشر، وذكر في السورة التي فيها ذكر البقرة أربعين ليلة بقوله: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)، وهو واحد كان الميعاد له أربعين ليلة، لكن يحتمل ذكر ثلاثين مرة وعشرًا وجهين: أحدهما: أن ثلاثين ليلة كان لأمر وعشرًا كان لأمر آخر، فذُكِرَت متفرقة لما كان الأمرين مختلفين. والثاني: أنه كان في وقتين، كان هذا في وقت والآخر في وقت، والقصة واحدة، والميعاد واحد، فذكر التمام بعشر؛ كقوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، وإن كانت في وقتين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً). قيل: تم الميعاد الذي وُعِدَ له أربعين ليلة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي). فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قول موسى لأخيه هارون: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)، وهو كان مبعوثًا معه، رسولان إلى فرعون مشتركان في تبليغ الرسالة إلى فرعون بقوله: (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) وقوله: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وقوله: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا

(143)

رَسُولَا رَبِّكَ)، وقوله: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي)، فإذا كان هو رسولًا كموسى في تبليغ الرسالة، كيف احتاج إلى أن يقول موسى: اخلفني في قومي وهما - شرعًا - سواء في الرسالة؟ قيل: يحتمل هذا وجهين: يحتمل أن يكونا كما ذكر رسولين، لكن من ولى اثنين أمرًا لم يكن لواحد منهما أن ينفرد به إلا بأمر الآخر، فعلى هذا كأنه قال له: اخلفني في الحكم بينهم، وأصلح ذات بينهم، ولا تتبع من دعاك إلى سبيل المفسدين. أو يحتمل أن يكون موسى كان هو الرسول أولاً وكان إليه الحكم، وهارون كان دخيلًا في أمره ردءًا له على ما قال: (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي)، ولأن موسى كان هو المأمور بها أولًا والمبعوث إليهم دونه. ألا ترى أنه كان هو المناجي ربه دون هارون، وكان هو المعطَى الألواح دون هارون؛ كقوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)، وهو الذي قال: (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا)، وهو الذي نودي بالبركة دون هارون، وغير ذلك من الآيات، فإذا كان كذلك استخلفه موسى في قومه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ... (143) أي: لميعادنا الذي وعدناه. قوله تعالى: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ). لا يجوز لنا أن نصف كيفية الكلام وماهيته، سوى أنه أنشأ كلامًا وصوتًا أسمعه موسى كيف شاء بما شاء بكلام مخلوق وصوت مخلوق. (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي. . . .) الآية. قال قائلون: إن موسى لم يسأل ربَّه الرؤية لنفسه، ولكن سأل لقومه لسؤال القوم له؛ كقوله: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)، لكن هذا بعيد؛ لأنه لو كان سؤاله إياه لسؤال قومه، لكان لا يقول: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)، ولكن يقول: أرهم ينظرون إليك، فدل أنه لم يكن لذلك. وقال قائلون: لم يكن سؤال ربه رؤية الرب، ولكن سأل ربه رؤية الآيات والأعلام والأدلة التي بها يُرَى، وذلك جائز سؤال الرؤية: سؤال رؤية الآيات والأعلام، وذلك أيضًا بعيد؛ لأنه قد أعطاه من الآيات والأعلام ما لم يكن له الحاجة إلى غيرها من الآيات؛ من

نحو: العصا التي كان يضرب بها الحجر فَتَفْجُرُ منه اثنتي عشرة عينًا، وما كان من فرق البحر وإهلاك العدو، واليد البيضاء، وغير ذلك من الآيات، فإذا بطل ذلك، دل أنه سأل حقيقة الرؤية، والقول بها لازم عندنا في الآخرة، وحق من غير إدراك ولا تفسير، والدليل على ذلك قوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)، ولو كان لا يرى لم يكن لنفي الإدراك حكمة؛ إذ لا يدرك غيره بغير الرؤية، فمع نفي الإدراك وغيره من الخلق لا يدرك إلا بالرؤية لا معنى له، واللَّه الموفق.

وأيضا قول موسى: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ. . . .) الآية ولو كان لا يجوز الرؤية لكان منه جهل بربه، ومن يجهله لا يحتمل أن يكون موضعًا لرسالته، أمينًا على وحيه. وبعد فإنه لم ينهه ولا آيسه، وبدون ذلك قد نهى نوحًا وعاتب آدم وغيره من الرسل، وذلك لو كان لا يجوز لبلغ الكفر ثم قال: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي). فَإِنْ قِيلَ: لعله سأل آية ليعلم بها؟ قيل: لا يحتمل ذا؛ لوجوه: أحدها: أنه قال: (لَنْ تَرَانِي)، وقد أراه الآية. وأيضا أن طلب الآيات يخرج مخرج التعنت؛ إذ قد أراه الآيات على ما ذكرنا، وذلك

صنيع الكفرة أنهم لا يزالون يطلبون الآيات، وإن كانت الكفاية قد أثبتت، لهم فمثله ذلك أيضًا. وأيضا إنه قال: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي. . . .) والآية التي يستقر معها الجبل هي دون التي لا يستقر معها؛ ثبت أنه لم يرد بذلك الآية. وأيضًا محاجة إبراهيم - عليه السلام - قومه في النجوم وما ذكر بالأفول والغيبة، ولم يحاجهم بألّا يحب ربا يرى، ولكن حاجهم بألا أحب ربّا يأفل؛ إذ هو دليل عدم الدوام، ولا قوة إلا باللَّه. وأيضًا قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) ثم لا يحتمل ذلك الانتظار؛ لوجوه: أحدها: أن الآخرة ليست بوقت للانتظار، إنما هي الدنيا، وهي دار الوقوع والجود إلا في وقت الفزع، وقيل: أن يعاينوا في أنفسهم ما له حق الوقوع. والثاني: قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ): وذلك وقوع الثواب. والثالث: قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ): و (إلى) حرف يستعمل في النظر إلى الشيء لا في الانتظار. والرابع: أن القول به يخرج مخرج البشارة لعظيم ما نالوه من النعم، والانتظار ليس منه، مع ما كان الصرف عن حقيقة المفهوم قضاء على اللَّه، فيلزم القول بالنظر إلى اللَّه، كما قال على نفي جميع معاني الشبه عن اللَّه سبحانه على ما أضيف إليه من

الكلام والفعل والقدرة والإرادة أن يجب الوصف به على نفي جميع معاني الشبه،

وكذلك القول بالهيئة، فمن زعم أن اللَّه تعالى لا يقدر أن يكرم أحدًا بالرؤية، فهو يقدر في الرؤية التي فهمها من الخلق، وإذا كان القول بـ (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) وغير ذلك من الآيات لا يجوز دفعها بالعرض على المفهوم من الخلق، بل يحقق ذلك على نفي الشبه، فمثله خبر الرؤية. وأيضًا قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، وجاء في غير خبر النظر إلى اللَّه، وقد يحتمل غير ذلك مما جاء فيه التفسير، لكنه لولا أن القول بالرؤية كان أمرًا ظاهرًا، لم يحتمل صرف ظاهر لم يجئ فيها إليها ويدفع به الخبر، واللَّه أعلم. وأيضًا ما جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غير خبر أنه قال: " إنكم سترون ربَّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون "، وسئل: " هل رأيت ربك؟ فقال: بقلبي

قلبي "، فلم ينكر على السائل السؤال، وقد علم السائل أن رؤية القلب إذ هي علم قد علمه، وأنه لم يسأل عن ذلك، وقد حذر اللَّه المؤمنين عن السؤال عن أشياء قد كقوا عنها بقوله: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ)، فكيف يحتمل أن يكون السؤال عن مثله يجيء، وذلك كفر في الحقيقة عند قوم، ثم لا ينهاهم عن ذلك ولا يوبخهم في ذلك، بل يليق القول في ذلك، ويرى أن ذلك ليس ببديع، واللَّه الموفق. وأيضًا: إن اللَّه وعد أن يجزي أحسن مما عملوا به في الدنيا، ولا شيء أحسن من التوحيد، وأرفع قدرًا من الإيمان به؛ إذ هو المستحسن بالعقول والثواب الموعود من جوهر الجنة، حسنه حسن الطبع، وذلك دون حسن العقل؛ إذ لا يجوز أن يكون شيء حسنًا في العقول لا يستحسنه ذو عقل، وجائز ما استحسنه الطبع طبعا لا يتلذذ به كطبع الملائكة، ومثله في العقوبة؛ لذلك لزم القول بالرؤية لتكون كرامة تبلغ في الجلالة ما أكرموا به، وهو أن يصير لهم المعبود بالغيب شهودًا كما صار المطلوب من الثواب حضورًا، ولا قوة إلا باللَّه. ولا يحتمل العلم؛ لأن كلًّا يجمع على العلم باللَّه في الآخرة العلم الذي لا يعتريه الوسواس، وذلك علم العيان لا علم الاستدلال، وكثرة الآيات لا تحقق علم الحق الذي لا يعتريه ذلك، دليله قوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ. . . . .) الآية، وما ذكر من استعانة الكفرة بالكذب في الآخرة وإنكار الرسل عليهم، وقولهم:

(لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)، وغير ذلك. وبعدُ، فإنه إذ لا يجوز أن يصير علم العيان بحق علم الاستدلال، لم يجز أن يصير علم الاستدلال بحق علم العيان، فثبت أن الرؤية توجب ذلك. وبعدُ، فإن في ذلك العلم يستوي الكافر والمؤمن والبشارة بالرؤية خُصَّ بها المؤمن، ولا قوة إلا باللَّه. ولا نقول بالإدراك؛ لقوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)؛ فقد امتدح بنفي الإدراك لا بنفي الرؤية، وهو كقوله: (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)، كان في ذلك إيجاب العلم، ونفي الإحاطة، فمثله في حق الإدراك، وباللَّه التوفيق. وأيضًا إن الإدراك إنما هو الإحاطة بالمحدود، واللَّه يتعالى عن وصف الحدِّ؛ إذ هو نهاية وتقصير عما هو أعلى منه على أنه واحدي الذات، والحدُّ وصف المتصل الأجزاء حتى ينقضي مع إحالة القول بالحد؛ إذ كان كل ما يحد أو به يحد، فهو على ذلك لا يتغير، على أن لكل شيء حدّا يدرك سبيله نحو الطعم واللون والذوق والحد، وغير ذلك من الحدود وخاصية الأشياء، جعل اللَّه لكل شيء من ذلك وجهًا يدرك ويحاط به، حتى العقول والأعراض، وأخبر اللَّه تعالى أنه ليس بذي حدود وجهات من طرق إدراكه بالأسباب الموضوعة لتلك الجهات، وعلى ذلك القول بالرؤية والعلم جميعًا، ولا قوة إلا باللَّه. وبعدُ، فإن القول بالرؤية يقع على وجوه لا يعلم حقيقة كل وجه من ذلك إلا بالعلم بذلك الوجه حتى إذا عبر عنه بالرؤية صرف إلى ذلك، وما لا يعرف له الوجه بدون ذكر الرؤية لزم الوقف في ماهيتها على تحقيقها.

وأما الإدراك: فإنما هو معنى الوقوف على حدود الشيء. ألا ترى أن الظل في التحقيق يُرَى، لكنه لا يدرك إلا بالشمس، وإلا كان مرئيًّا على ما يرى لوقت نسخ الشمس، ولكن لا يدرك بالرؤية إلا بما يتبين له الحد، وكذلك ضوء النهار يرى لكن حده لا يعرف بذاته، وكذلك الظلمة؛ لأن طرفها لا يرى فيدرك ويحاط به، وبالحدود يدرك الشيء، وإن كان يرى لا بها؛ ولذلك ضرب المثل بالقمر؛ لأنه لا يعرف حده ولا سعته ليوقف ويحاط به ويرى بيقين، ولا قوة إلا باللَّه. والأصل فيه القول بذلك على قدر ما جاء، ونفي كل معنى من الخلق، ولا يفسر بما لم يجئ، واللَّه الموفق. ثم زعم الكعبي أن الغائب إذا لم يخرج عن الوجوه التي بها يعلم، فكذلك لا يرى إلا بالوجوه التي بها يرى من المباينة للمدى، ولما حل فيه المرئي بالمسافة والمقابلة واتصال الهواء والصغر وعدم الصغر والبعد، ولو جازت الرؤية بخلاف هذه لجاز العلم به. وقال الشيخ - رحمه اللَّه -: وهذا خطأ؛ لأنه قدر برؤية جوهره، وقد علم أن غير جوهره جوهر يرون من الوجه الذي لا يقدر على الإحاطة بجوهره فضلًا عن إدراكه ببصره؛ نحو الملائكة والجن وغيرهم مما يروننا من حيث لا نراهم، والجثة الصغيرة نحو البق، ونحو ذلك مما يرى لنا لو توهم مثل ذلك البصر لما احتمل الإدراك، ويرى الملك الذي يكتب جميع أفعالنا، ويسمع جميع أقوالنا على ما لو أردنا تقدير ذلك بما عليه جبلنا للزم إنكار ذلك كله، وذلك عظيم، وكذلك ما ذكر من نطق الجلود، وغيرها مما لو امتحن بمثلها أمر الشاهد لوجد عظيمًا. وبعدُ، فإنه في الشاهد يفصل بين البصرين في الرؤية والتمييز على قدر تفاوتهما بما اعتراهما من الحجب، مما لو قابل أحدهما حال الآخر على حاله وجده مستنكرًا، وإذا

كان كذلك يطل التقدير بالذي ذكر، واللَّه الموفق. وأيضًا: إنه في الشاهد بكل أسباب العلم لا يعلم غير العرض والجسم، ثم جائز العلم بالغائب خارجًا منه، فمثله الرؤية. والثالث: ما ذكرنا من رؤية الظل والظلمة والنور من غير شيء من تلك الوجوه. والرابع: أنه قد يجوز وجود تلك المعاني كلها مع عدم الرؤية، إما بالحجب أو بالجوهر، فجاز تحقيق الرؤية على نفي تلك المعاني نحو ما أجيب القائل بالجسم عند معارضته بالفاعل والعالم؛ إذ وجد جسم لا كذلك، فيجوز وجود ذلك ولا جسم، فمثله في الرؤية على أن البعد الذي يحجبنا الرؤية يجوز أن يبلغه بصر غيرنا، فصار ارتفاع الرؤية بالحجاب، فإذا ارتفع جاز، ولا قوة إلا باللَّه. وبعدُ، فإن الذي يقوله تقدير برؤية الأجسام، ولم يمتحن بصره بغير الأجسام والأعراض؛ إذ كيف سبيل الرؤية له. وبعدُ، فإن كل جسم يرى، وإن كانت الدقة والبعد يحجبان فيجوز ارتفاعهما عن بصر غير فيرى على ما يرى ملك الموت مَنْ بأطراف الأرض ووسطها مما لو اعتبر ذلك ببصر البشر، لما احتمل الإدراك، فثبت أن الذي قدر به ليس هو سبب تعريف ما يبصره، ولكن بسبب تعريف ما يحجب به البصر، فإذا ارتفع رأى مع ما كان المنفي رؤيته لذاته عرض، وإلا فكل جسم يرى، فإن لزم إنكار الرؤية لما ليس بجسم أو لما لا يرى إلا بما ذكر للزم الإقرار به؛ لأن الذي لا يرى لذاته هو العرض، وإلا فكل غير يرى، ولا قوة إلا باللَّه. وعورض بأمر الدنيا ومحال العرض بذلك لا تسقط المحنة وترفع الكلفة والدنيا هي لهما. ثم ذكر في أمر موسى أن ذلك على علم الإحاطة بالآيات، وقد بيّنا فساد ذلك، وما ذلك العلم بالذي يسأل وهو رسول بعث إلى ما به نجاة الخلق، وذلك لا يكون بغير الممتحن؛ إذ هو تبليغ الرسالة والدعاء إلى العبادة وهي محنة، بل سأل الرؤية؛ ليجل قدره وليعرف عظيم محله عند اللَّه، أو أن يكون اللَّه أمره به؛ ليعلم الخلق جواز

ذلك، وباللَّه التوفيق. ثم استدل بأنه لم ير من يعقل إنما أُري الجبل والجبل لا يعقل ليعلمه وليراه، فيقال له: ولو كانت الآية فالجبل لا يراها ولا يعقل، وإذا كان كذلك فالآية إذا صار اندكاك الجبل وانشقاقه لا أن أراه الآية يستدل بها، وفي هذا آية قد أرى موسى الآية، وهو اندكاك الجبل، واللَّه يقول: (لَنْ تَرَانِي)، وحملته على الآية، وقد رآها، ولا قوة إلا باللَّه. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى توبته لو كان سؤاله على الأمر؟ قيل: على العادة في الخلق من يحدثه عند الأهوال بلا حدوث ذنب، أو لما رأى من جلال اللَّه وعظمته فزع إلى التوبة وإحداث الإيمان به، وإن لم يكن ما يوجب ذلك، وذلك متعارف في الخلق. ويحتمل أن يكون قوله: (لَنْ تَرَانِي) كان عنده جواز الرؤية في الشاهد، واحتمال وسعه ذلك بما وعد اللَّه في الآخرة فرجع عما كان عنده، وآمن بالذي قال: (لَنْ تَرَانِي)، وإن كان في الأصل إيمانه داخلًا على نحو إحداث المؤمنين الإيمان بكل آية تنزل، وبكل فريضة تتجدد، وإن كانوا في الجملة مؤمنين بالكل، واللَّه الموفق. وقد بيّنا ما قالوا في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)، والأصل في الكلام أنه إذا كان على أمر معهود، أو يقرن به المقصود إليه صرف عن حقيقته، وإلا لا، وذلك نحو قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، و (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ). وأصله: أن من قال: رأيت فلانًا، أو نظرت إلى فلان، لم يحتمل غير ذاته، وإذا قال: رأيته يقول كذا، ويفعل كذا، أنه لا يريد به رؤية ذاته، فمثله أمر قصة موسى، وهذه الآية. وروي عن ضرار بن عمرو أنه أتى البصرة، فقال: يا أهل البصرة، إما أن كان

موسى مشبهًا، في ما أن كان اللَّه يُرَى؛ لأنه لو كان بالذي لا يرى فسأل ربَّه رؤيته، كان جاهلًا به، مشبهًا خلقه به، فدل أنه يرى. ثم الأصل أن من تأمل الذي ذكره الكعبي عرف أنه مشبهي المذهب؛ لأنه لم يذكر المعنى الذي له يجب أن تكون الرؤية بتلك الشرائط، إنما أخبر أنه كذلك وجد، وهو قول المشبهة أنه وجد كل فاعل في الشاهد جسمًا، وكذا كل عالم، فيجب مثله في الغائب، ثم ذكر معنى رؤية الجسم، ولم يذكر معنى رؤية غير الجسم حتى يكون له دليلًا. وبعدُ، فإنه نفي بالدقة والبعد وهما زائلان عن اللَّه تعالى، ثم احتج بامتداح الله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)، وقال: لا يجوز أن يزول فمثله عليه في قوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، وقوله: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يجوز أن يزول، ثم قد وصف اللَّه بالرؤية على إسقاط ما ذكر، فثبت أن ذلك طريق لا يؤدي عن كنه ما به الرؤية. فَإِنْ قِيلَ: كيف يرى؟ قيل: بلا كيف؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة، بل يرى بلا وصف قيام، وقعود، واتكاء، وتعلق، واتصال، وانفصال، ومقابلة، ومدابرة وقصر، وطول، ونور، وظلمة، وساكن، ومتحرك، ومجانس، ومباين، وخارج، وداخل، ولا معنى يأخذه الوهم أو يقدره العقل لتعاليه عن ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا. . . .) الآية. قال أبو بكر الأصم: تجلي بالآيات والأعلام التي بها يرى لا رؤية الذات، وكذلك قال في قوله: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ): إنه إنما سأل ربه الآيات والأعلام التي بها يُرَى لا رؤية الذات، وقد بينا بُعْدَه وإحالته؛ لما قد أعطاه من الآيات والأعلام: ما فيه غنية عن غيرها، فلا يحتاج إلى غيرها.

وقال الحسن: إن موسى سأل ربه الرؤية في غير وقت الرؤية، وهو يقر بالرؤية، لكنه يقول: سألها في الدنيا وبنية هذا العالم لا تحتمل ذلك. ألا ترى أنه قال: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، أخبر أن الجبل لا يستقر له، فكيف تستقر أنت؛ لكنه ينشيء بنية تحتمل ذلك. وقال الحسن: لذلك قال موسى: إِنِّي (تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أن ليس في الدنيا الرؤية، إلى نحو هذا يذهب الحسن، وقد ذكرنا نحن الوجه على قدر ما حضر لنا. وقال أهل التأويل: قوله: (تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ)، أي: ظهر، لكن لا يفهم من ظهوره ما يفهم من ظهور الخلق على ما ذكرنا في قوله: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، وغيرهما من الآيات، لا يقدر استواؤه باستواء الخلق، وكذلك مجيئه، فعلى ذلك ظهوره، وباللَّه العصمة. وروي أن في التوراة " أنه جاء من طور سيناء، وظهر من جبل ساعور واطلع من جبل فاران " وتأويله جاء وحيه

على موسى في طور سيناء، وظهر على عيسى في جبل ساعور، واطلع على مُحَمَّد في جبل فاران، ثم العجب أن كيف اجترأ موسى بالسؤال بسؤال مثله؟! (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)، لكنه يحتمل وجوهًا: أحدها: على الأمر بالسؤال على ذلك؛ ليعلم أنه يرى، ويعتقدوا ذلك. أو على الظن منه لما رأى أنه أعطاه أشياء لا يكون مثلها في الدنيا إنما يكون في الآخرة، خص بها؛ من نحو انفجار العيون من الحجر من غير مؤنة تكون لهم في ذلك من حفر الأنهار وإصلاحها وأنواع المؤن، ونحو ما أعطاهم من اللباس الذي ينمو ويزداد على قدر قامتهم وطولهم، ومن نحو ما أعطاهم من المن والسلوى على غير مؤنة ولا جهد، وذلك كله وصف الجنة، فلما رأى ذلك ظن أن الرؤية -أيضًا- تكون في الدنيا على ما كان له من أشياء لم يكن مثلها لأحد في الدنيا، أو لما رأى أنه سمع كلام ربه، وألقى على مسامعه كلامه لا من مكان، ولا من قريب، ولا من بعيد، ولا من أسفل، ولا من أعلى، ولا من فوق، ولا من تحت، لكنه سمعه بما شاء، وكيف

(144)

شاء، بلطفه، فعلى ذلك ظن أنه يجوز له أن يسأل ربه الرؤية، فيريه بما شاء كيف شاء بلطفه كما أسمع كلامه بلطفه لما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ... (144) سمى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - موسى وسائر الأنبياء - عليهم السلام - بأسماء الجوهر: موسى، وعيسى، ونوح وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وسمى نبينا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نبيًّا ورسولًا، وذلك يدل على تفضيله، وكذلك سمى سائر الأمم المتقدمة بـ (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)، و (يَا بَنِي آدَمَ)، وسمى أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وقال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) ونحوه،

(145)

فذلك يدل -أيضًا- على تفضيل أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غيرها من الأمم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي). كان مصطفى ومفضلًا بالكلام على الناس كافة الأنبياء وغيرهم؛ لأن اللَّه تعالى لم يكلم أحدًا من الرسل إلا بسفير سوى موسى؛ فإنه كلمه، ولم يكن بينهما سفير. وأما قوله: (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي) على أناس زمانه، وأهله خاصة، ويحتمل: برسالاتي التي بين موسى وبين اللَّه تعالى، وهذا ينقض على المعتزلة قولهم: إن الله تعالى لا يرسل رسولًا إلا وهو يستحق الرسالة، ولو كان طريقه الاستحقاق لا الإفضال والإحسان، لم يكن للامتنان معنى، دلَّ أن طريقه الإفضال والإحسان لا الاستحقاق، واللَّه أعلم. وعلى قول المعتزلة لا يكون اللَّه مصطفيًا موسى ولا غيره من الأنبياء، ولكن هم الذين اصطفوا أنفسهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) يخرج على وجهين: أحدهما: القبول، أي: اقبل ما أعطيتك؛ كقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً). ويحتمل قوله: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ)، أي: اعمل بما آتيتك بأحسن العمل، (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لنعمته التي أنعمها عليه، من التكليم والرسالة وغيرهما من النعم، والله الموفق. * * * قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). يحتمل قوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ) وجهين: أحدهما: أنه إنما أضاف ذلك إلى نفسه لما تولى كتابتها الملائكة البررة الكرام،

أضاف ذلك إلى نفسه تفضيلًا لهم وتعظيمًا على ما ذكر في الكتاب في غير موضع؛ من نحو قوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)، وقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، أخبر أن طاعة الرسول له طاعة، وغير ذلك، فكذلك هذا، واللَّه أعلم. أو أضاف ذلك إلى نفسه لما كان ويكون إلى يوم القيامة، إنما يكون بـ كن الذي كان منه في الأوقات التي أراد أن يكون، فعلى ذلك كَتْبُ تلك الألواح كان تحت ذلك الكن، وإن كان أضاف بعض تلك الأشياء إلى نفسه؛ كقوله: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) و (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا)، (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)، كذا وخلق لكم كذا (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ)، ونحو ذلك، فذلك كله كان تحت قوله: (كُنْ) فكان على ما أراد أن يكون، في الأوقات التي أراد أن تكون، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). يحتمل قوله: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ): مما يقع للعباد الحاجة إليه، ويحتمل: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) من أمره ونهيه، وحله وحرامه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَوْعِظَةً). قال: الموعظة: هي التي تحمل القلوب على القبول، والجوارح على العمل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الموعظة: هي التي تنهى عما لا يحل. قال أبو بكر: الموعظة: هي التي تلين القلوب القاسية، وتدمع العيون الجامدة، وتصلح الأعمال الفاسدة. قال الشيخ رحمه اللَّه -: وعندنا الموعظة: هي تذكر العواقب، وتحمله على العمل بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ).

قيل: تقصيلًا لما أمروا به، ونهوا عنه. وقيل: بيانًا لكل ما يحتاج إليه. وقوله: (فَخُذْهَا) يحتمل -أيضًا- وجهين: يحتمل قوله: (فَخُذْ)، أي: اقبل، على ما ذكرنا في قوله: (فَخُذ مَا آتَيتُكَ). ويحتمل: اعمل بما فيها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِقُوَّةٍ) قال أهل التأويل: بجد ومواظبة، ولكن قوله: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) القوة المعروفة، وعلى قول المعتزلة لا يكون أخذًا بقوة، وقد أخبر أنه أخذها بقوة؛ لأنهم يقولون: إن القوة تكون قبل الفعل، ثم يقولون: إنها لا تبقى وقتين، فيكون في الحاصل لو كانت قبل الفعل أخذًا بغير قوة دل أنها مع الفعل، وتقول المعتزلة: دل قوله: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) على أن القوة قد تقدمت الأمر بالأخذ، لكن لا يكون ما ذكروا؛ لأنه أمر باخذ بقوة دل أنها تقارن الفعل لا تتقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا). يحتمل قوله: (يَأْخُذُوا) ما ذكرنا من الوجهين القبول أو العمل، أي: مرهم يقبلوا بأحسن القبول. ويحتمل: مرهم يعملوا بأحسن ما فيها من الأمر، والنهي، والحلال، والحرام. ويحتمل قوله: (بِأَحْسَنِهَا)، أي: بما هو أحكم وأتقن. أو بأحسن مما عمل به الأولون؛ إذ فيه أخبار الأولين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ). قال بعض أهل التأويل: قال ذلك لبني إسرائيل: سأريكم دار الفاسقين، يعني: سنة الفاسقين، وهو الهلاك؛ كقوله تعالى: (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ). وسنته في أهل الفسق والكفر والهلاك.

(146)

وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ): جهنم، وأمكن أن يكون الخطاب للفسقة، سأريكم يا أهل الفسق دار الفاسقين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... (146) يخرج هذا على وجهين: أحدهما: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ) أي: سأصرفهم عن قبولها وتصديقها؛ إذ لم يستقبلوها بالتعظيم لها، بل استهزءوا بها واستخفوا بها على علم منهم أنها آيات من الله وحجة. والثاني: سأصرف عن وجود الطعن والقدح فيها والكيد لها، ثم إن كل واحد من هذين الوجهين يتوجه على وجهين: قال الحسن: إن للكفر حدًّا إذا بلغ الكافر ذلك الحد يطبع عليه، فلا يقبل ولا يصدق آياته بعد ذلك. والثاني: أنهم كانوا يتعنتون في آياته ويكابرون في ردها مع علمهم أنها آيات وحجج من اللَّه، فإذا تعانتوا صرفهم عن قبولها وتصديقها، وهو كقوله تعالى: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وقوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم)، أي: خلق منهم فعل الزيغ وفعل الانصراف، وهكذا كل من يختار عداوة اللَّه، فاللَّه لا يختار له ولايته، ولكن يختار له ما اختار هو. وأما قوله: (سَأَصْرِفُ) عن وجود الطعن فيها والقدح؛ وذلك أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل للرسل والأنبياء أضدادًا من كبراء الكفرة وعظمائهم، وكانوا يطعنون في الآيات، ويقدحون فيها، فأخبر أنه يصرفهم عن وجود الطعن فيها والقدح والكيد لها، أي: لا يجدون فيها مطعنًا ولا قدحًا. والثاني: قوله: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ) الهلاك والإبطال، بل هم المهلكون والآيات هي الباقية، ثم اختلف في الآيات:

(147)

قال الحسن: آيَاتِيَ: ديني، وتأويله ما ذكرنا أنهم إذا بلغوا ذلك الحد صرفهم عنها. وقال غيره: آياته: حججه وبراهينه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ). كانوا يتكبرون هم على الرسل لما لم يروهم أمثالًا لأنفسهم وأشكالًا، وهكذا كل من تكبر على آخر يتكبر لما لم يره مثالًا لنفسه ولا شكلًا، أو يتكبر لما يرى نفسه سليمة عن العيوب، ويرى في غيره عيوبًا، أو يرى لنفسه حقوقًا عليه فيتكبر، فإذا كان التكبر لهذا، فالخلق كلهم أكفاء بعضهم لبعض؛ لأنهم أمثال وأشكال، وفيهم العيوب والحاجات، فلا يسع لأحد التكبر على أحد، وإنما التكبر لله تعالى، فله يليق لما لا مثل له ولا شكل، منزه عن العيوب كلها والحاجات؛ لذلك كان هو الموصوف بالكبرياء والعظمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِغَيْرِ الْحَقِّ)، أي: ليسوا هم بأهل الكبر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) أمكن أن يكون قوله: (يَرَوْا)، أي: إن علموا أنه آية لا يؤمنون به أبدًا، هذا في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا. (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا). أي: وإن علموا أنه سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلًا ولا يتبعوه؛ مخافة أن تذهب بأسهم ومكانتهم (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) أي: وإن علموا، أن ذلك هو سبيل الغى والباطل يتخذوه سبيلًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا). يحتمل قوله: (ذَلِكَ) الصرف الذي ذكر عن آياته لما كذبوا الآيات بعد علمهم أنها آيات من اللَّه، (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) غفلة الإعراض والعناد لا غفلة الجهل والسهو. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ ... (147) أي: الذين كذبوا بالآيات والبعث بعد الموت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ). يحتمل هذا وجهين:

(148)

يحتمل: أنهم كانوا مؤمنين من قبل فكذبوا الآيات، فكفروا بها، فحبطت الأعمال التي كانت لهم في حال الإيمان، وبطلت. ويحتمل: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ): المعروف الذي كانوا يفعلون في حال الكفر؛ من نحو صلة الرحم، والصدقات وغيره من المعروف، والخيرات التي عملوا بها، حبط ثواب ذلك كله إذا لم يأتوا بالإيمان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). أي: ما يجزون إلا ما كانوا يعملون من الاستهزاء بالآيات والاستخفاف. * * * قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا). قوله: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى) كيفية وصف اتخاذ العجل ما ذكر في سورة طه بقوله: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ. . .)، الآية، وصف اللَّه - تعالى - قوم موسى بعضهم بالهداية، والعدالة، واتباع الحق بقوله: قوله تعالى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)، وبعضهم وصفهم بالسفَاهَة، وقلة الفهم والضعف في الدِّين بقولهم: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) وقال: هاهنا: اتخذوا العجل إلهًا عبدوه، يذكر هذا - واللَّه أعلم - لما لم يعرفوا نعم اللَّه ولم يتفكروا في آياته وحججه، يذكر هذا لنا لننظر في آياته وحججه والتفكر في نعمه، فنؤدي شكرها، ونتدبر في آياته وحججه لنتبعها ولا نضيعها على

ما ضيع قوم موسى. وقوله: (مِنْ بَعْدِهِ) أي: من بعد مفارقة موسى قومه. وقوله: (مِنْ حُلِيِّهِمْ)، وقال في موضع آخر: (أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ)، وكانت تلك الحلي عارية عندهم من قوم فرعون، بقوله: (أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) أضاف إلى فرعون، وأضاف هاهنا إلى قوم موسى، بقوله: (مِنْ حُلِيِّهِمْ) دل أن العارية يجوز أن تنسب إلى المستعير. وفيه دلالة أن من حلف: لا يدخل دار فلان، فدخل دارًا له عارية عنده يحنث. وقوله: (عِجْلًا جَسَدًا).

قَالَ بَعْضُهُمْ: صورته كانت صورة عجل، ولم يكن عجلاً في جوهره. وقيل: الجسد هو الذي لا تدبير له، ولا تمييز، ولا بيان؛ لكنه ذكر فيه هنا ما لا يحتاج إلى هذا، وهو قوله: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) لكنه كأنه قال: عجلًا له جسد يذكر سفههم أنهم عبدوا من لا تدبير له ولا كلام ولا سبب للذي يغتر به أو دعاء، واختاروا، الهيئة من وصفه ما ذكر. وقوله: (لَهُ خُوَارٌ) قيل: إن السامري قد أخذ قبضة من أثر الرسول، فألقى تلك القبضة في الحلي الذي ألقوه في النار؛ فصار شبه عجل له خوار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: صاغ من حليهم عجلاً؛ فنفخ فيه من تلك القبضة فخار خوارًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن السامري كان هيأ ذلك العجل الذي اتخذه بحال حتى إذا مسه وحركه: خار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان وضع في مهب الريح فيدخل الريح في دبره، ويخرج من فيه، فعند ذلك يخور. واللَّه أعلم. وقوله: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا). ذكر أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، وفي سورة طه: (وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) ليس فيه أنه إن كان يكلمهم أو يملك لهم ضرًا ونفعًا يجوز أن يعبد؛ ليعلم أن ذكر حظر الحكم في حالٍ لا يوجب إباحة ذلك في حالٍ أخرى. وفيه: أن امتناع العلة عن اطرادها يوجب نقضها، وإن كان اطرادها في الابتداء في معلولاتها لم يدل على صحتها.

(149)

وفي قوله: (لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) (وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) ذكر سفههم لعبادتهم شيئًا لا يملك لهم ضرّا ولا نفعًا. وقوله: (اتَّخَذُوهُ) أي: اتخذوه، إلهًا عبدوه، (وَكَانُوا ظَالِمِينَ) في عبادتهم العجل؛ لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها، والألوهية في غير موضعها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ... (149) هذا حرف تستعمله العرب عند وقوع الندامة وحلولها، وتأويله: لما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم، أي: ندموا على ما كان منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا) أي: لئن لم يرحمنا ربنا، ويوفقنا للهداية والعبادة له، ويغفر لنا لما كان منا من العبادة للعجل، والتفريط في العصيان (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ). ويحتمل قوله: (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا) ابتداء طلب الرحمة والمغفرة؛ كقوله: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ. . .) الآية. ويحتمل التجاوز لما كان منهم والعفو. وفي قوله: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ) بعد قوله: (لَهُ خُوَارٌ) دلالة أن الكلام هو ما يفهم منه المراد ليست الحروف نفسها؛ لأنه أخبر أن له خوارًا، ثم أخبر أنه كان لا يكلمهم، دل أن الصوت وإن كان ذا هجاء وحروف ليس بكلام، وذلك يدل لأصحابنا في مسألة: إذا حلف ألا يكلم فلانًا، ثم خاطبه بشيء لا يفهم مراده أن ذلك ليس بكلام، ولا يحنث.

(150)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ... (150) والأسف: هو النهاية في الحزن والغضب؛ كقوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)، هو النهاية في الحزن والأسف في موضع الغضب، وكقوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)، أي: أغضبونا، لكن الغضب يكون على من دونه، والأسف والحزن على من فوقه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (غَضْبَانَ) أي: لله على قومه لعبادتهم العجل، وتركهم عبادة اللَّه حزنا على قومه لما يلحقهم بعبادتهم العجل من العقوبة، وهكذا الواجب على من رأى المنكر أنه يغضب لله على مرتكب ذلك المنكر لمعاينته المنكر، ويأسف عليه لما يلحقه من العقوبة والهلاك؛ رحمة منه له ورأفة، ويلزم الشكر لربه؛ لما عصمه عن مثله، وكذلك وصف رسوله - عليه السلام - بالأسف والحزن لتكذيبهم إياه حتى كادت نفسه تهلك حزنًا عليهم؛ حيث قال: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، ذكر هذه القصة لنا؛ لنعرف: أن كيف نعامل أهل المناكير وقت ارتكابهم المنكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي). يخرج هذا على وجهين: أحدهما: بئسما خلفتموني: بئس ما اخترتم من عبادتكم العجل على عبادة اللَّه. والثاني: بئسما خلفتموني باتباعكم السامري إلى ما دعاكم إليه بعد اتباعكم إياي وأخي رسول اللَّه وما أمركم به ودعاكم إلى عبادة اللَّه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أعجلتم ميعاد ربكم؛ كقوله: (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا) أي: أعجلتم الوعد الحسن الذي وعد لكم ربكم، وهو قوله: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً). وقال آخرون: قوله: (أَمْرَ رَبِّكُمْ) أي: عذاب ربكم وغضبه بعبادتكم العجل

واتخاذكم له إلهًا، وقد سمى اللَّه تعالى العذاب في غير موضع من القرآن: أمرًا؛ كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ). قال أكثر أهل التأويل: ألقى الألواح، أي: طرحها على الأرض غضبًا منه، فوقع منها كذا وكذا، وبقي كذا، لكن لا يجوز أن يفهم من قوله: (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ) طرحها لا غير؛ ألا ترى أنه قال: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ)، ليس يفهم منه الطرح والإلقاء، ولكن إنما فهم منه الوضع، فعلى ذلك قوله: (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ) أي: وضع؛ لأنه أخذ رأسه ولحيته، أعني: رأس أخيه هارون، ولا سبيل له إلى أن يأخذ رأسه ولحيته والألواح في يديه، فوضعها على الأرض، ثم أخذ رأسه ولحيته يجرُّه إليه، على ما ذكر في سورة طه؛ حيث قال: (يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي) دل هذا أنه كان أخذ رأسه ولحيته جميعًا لشدة غضبه لله على صنيع قومه. وفي الآية دلالة العمل بالاجهاد؛ لأنه قال: (لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي)، ولا يحتمل أن يكون موسى يأخذ رأسه بالوحي لأمر من اللَّه، ثم يقول له هارون: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، ولا تفعل كذا. وفيه أيضًا: أن هارون لما قال له: (يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ) إنما قال ذلك بالاجتهاد؛ حيث قال: (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) لأنه لو كان يقول له بالوحي أو بالأمر، لم يكن ليعتذر إليه بقوله فلا تشمت بي الأعداء. وقوله: (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ). فيه دلالة أنه إنما أخذ شعر رأسه؛ لأنه لو كان أخذ رأسه، لكان لا يحتاج إلى أن يجره إليه؛ دل أنه كان أخذ بشعر رأسه. وكذلك قوله: (يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي)، فيه دلالة لأصحابنا أن من

(151)

مسح رأسه ثم أزال شعره، لم يسقط عنه حكم المسح، وإذا مسح على لحيته ثم سقطت زال عنه حكمه، ولزم غسل ذقنه؛ لما سمى الشعر رأسًا، وسمى اللحية لحية، وسقوطها يسقط حكم المسح، وسقوط شعر الرأس لا. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي). خرج هذا صلة قول موسى لهارون لما قال له: (يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)، فقال عند ذلك: (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي ... (151) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما خص أخاه بسؤال المغفرة؛ لأنهم جميعًا قد عبدوا العجل سوى أخيه هارون؛ لذلك خضه بسؤال المغفرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما قال ذلك جوابًا عما قال هارون: (فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ. . .) الآية. ويحتمل أن يكون تخصيص السؤال له بالمغفرة لما سأل ربه أن يجعل هارون له وزيرا بقوله: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)، لما سأل ربه أن يشركه في أمره، ويشد به أزره، فعلى ذلك خصَّه بسؤال المغفرة. والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). لأن كل من يرحم دونه إنما يرحم برحمته. وقوله؛ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ ... (152) أي: عبدوا العجل.

(153)

(سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: غضب من ربهم: عذاب في الآخرة لمن مات منهم على ذلك، (وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) والقتل والهلاك في الدنيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ): القتل، والهلاك، (وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الجزية والسبي والقهر. ويحتمل قوله تعالى: (وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وذكر الذم بصنيعهم وثناء الشر، على ما كان بصنيع الخيرِ المحمدةُ في الدنيا وثناءُ الخير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أي: قد نالهم غضب من ربهم؛ لما ذكر. والثاني: أن يكون هذا مذكورًا في كتبهم أن من اتخذ العجل معبودًا سينالهم غضب من ربهم، فإن كان هذا خبرًا عما في كتبهم، فسينالهم على الوعد الصحيح، وإلا على الخبر، أي: قد نالهم. (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ). أي: كذلك نجزي كل مفتر على اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا ... (153) قال أهل التأويل: قوله: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ) يعني: الذين عبدوا العجل. (ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وهو: في كل من عمل السيئات - أي سيئة كانت - إذا تاب عنها، وندم عليها، وطلب من اللَّه المغفرة، غفر له.

(154)

قوله تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ). الذي غضب لله على قومه بعبادتهم العجل. ولا يحتمل ما قاله أبو بكر الأصم: أن الغضب عقوبة وشتم؛ لأن الغضب معروف، لا بجوز أن يتأول ما قال هو. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَخَذَ الْأَلْوَاحَ). يعني: الألواح التي وضعها على الأرض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يعني في نسخة الألواح لما كانت نسخت من اللوح المحفوظ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى) أي: الكتب التي انتسختها بنو إسرائيل من تلك الألواح. وقوله: (هُدًى وَرَحْمَةٌ) أي: هدى من كل ضلالة، وبيان من كل غي وشبهة، ورحمة من كل سخط وغضب. (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ). أي: للذين يخشون ربهم فيعملون بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ... (155) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لِمِيقَاتِنَا)، أي: لتمام الموعدة التي وعد، وهو الأربعون

الذي وعد، ولكن لا ندري ما ذلك الميقات الذي ذكر؟ وقوله: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: السبعون الذين اختارهم موسى ليكونوا مع هارون، فَعُبِدَ العجل في أفنيتهم، فلم ينكروا ولم يغيروا عليهم، فأخذتهم الرجفة. وقال الحسن: إنهم جميعًا قد عبدوا العجل إلا هارون، فالرجفة التي أخذتهم إنما أخذتهم عقوبة لما عبدوا العجل، ولسنا ندري من أُولَئِكَ السبعون الذين اختارهم موسى؟ وأمكن أن يكون موسى اختار السبعين ليخرجوا معه؛ فيكونوا شهداء له على إنزال التوراة عليه وكلام ربه. وقيل: هم الذين تركهم في أصل الجبل، فلما جاءهم موسى بالتوراة قالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) وهلكوا لقولهم ذلك، وقد ذكرنا أنا لا ندري من كانوا؟ وقيل: اختارهم موسى ليتوبوا إلى اللَّه مما عمل قومهم. وقوله: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ). قال بعض أهل التأويل: لو شئت أمتهم وإياي بقتل القبطي. وقال آخرون: لو شئت أهلكتهم على نفس الإهلاك وإياي على القدرة، أي: تقدر على إهلاكي، ولكن لا تهلكنا لما لم يكن ما نستحقه ذلك، ويشبه أن يكون قوله:

(لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ) إهلاك فتنة وإياي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا). هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يقول - واللَّه أعلم -: لك أن تهلكنا ابتداء إهلاك السفهاء بما فعلوا. والثاني: يقول: لو شئت أهلكتهم وإياي من قبل، ولم تهلكنا يومنا؛ لأن موسى إذا - أتى قومه وأخبرهم أنهم أهلكوا بسبب كذا لم يصدقه قومه بذلك، ولكنهم يتهمونه، ويقولون: أنت فتلتهم على ما ذكر في بعض القصة أنه خرج بهارون إلى بعض الجبال فمات هارون هناك، فأخبر قومه بذلك فكذبوه، وقالوا: أنت قتلته؛ فعلى ذلك جائز أن يكون هاهنا خاف أن يتهمه قومه في أُولَئِكَ ولا يصدقوه فيما حل بهم. والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا). يحتمل هذا وجوهًا: يحتمل: يراد به التقرير. ويحتمل الإنكار والرد. ويحتمل الإيجاب. أما الإنكار: فيكون معناه: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، أي: لا تفعل ولا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، ومثل هذا قد يقال: يقول الرجل لآخر: أتفعل أنت كذا؟ على الإنكار، أي: لا تفعل؛ فعلى ذلك هذا. واللَّه أعلم. ويراد به: الإيجاب؛ كأنه قال: لك أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا، وما هي إلا

فتنتك أن يكون ذلك امتحانًا وابتلاء ابتداء، أي: تفعله امتحانًا وابتلاء لا تعذيبًا. ويحتمل أن يكون على الاستفهام، لكن لم يخرج له الجواب؛ كقوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)، وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ) ونحوه مما لم يخرج له جواب؛ فعلى ذلك هذا. ويجوز أن يكون إهلاكه إياهم محنة بتفريط كان من بعضهم، وإن كان بعضهم برآء من ذلك على ما كان من أهل المركز من العصيان، وكان الفشل والهزيمة عليهم محنة منه إياهم؛ كقوله: (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ. . .) الآية؛ فعلى ذلك هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ). قال أبو بكر: تضل بها، أي: تنهى من تشاء نهيًا ما لولا ذلك النهي لم يكن الفعل فعل الضلال، (وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) أي تأمره أمرًا ما لولا ذلك الأمر لم يكن الفعل، فعل الاهتداء، لكن حرف " من " إنما يعبر به عن الأشخاص دون الأفعال، فلو كان على ما ذكر هو، لقال: (تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ)، فإن لم يقل ذا، ثبت أنه ليس على ما ذكر. وتأويله عندنا: أنه يخلق فعل الضلال ممن يعلم أنه يختار ذلك، ويخلق فعل الهدى ممن يعلم أنه يختار ذلك، وهو خالق كل شيء. وأصل ذلك: أن جميع ما يضاف إلى اللَّه من طريق الأفعال على اختلاف الإضافة باختلاف وجوهها حقيقة، ذلك من اللَّه خلق ما أضيف إليه من الوجه الذي يحق وصفه بأنه خالقه؛ فعلى ذلك قوله: (تَهْدِي) و (تُضِلُّ). ويحتمل: توفق وتخذل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْتَ وَلِيُّنَا) أي: أنت أولى بنا. ويحتمل: أنت ولي هدايتنا. أو: أنت ولي نعمتنا. (فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ).

(156)

وأنت خير الراحمين؛ لأن كل أحد دونه إنما يرحم ويغفر برحمته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ... (156) تحتمل الكتابة الإيجاب، أي: أوجب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة أو الإثبات، أي: أثبت لنا وأعطنا في هذه الدنيا حسنة ويكون كقوله: (آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَاكْتُبْ لَنَا)، أي: وفق لنا العمل الذي نستوجب به الحسنة في الدنيا والآخرة. ويحتمل: اكتب لنا في الدنيا الحسنات، ولا تكتب علينا السيئات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً) تختم بها الدنيا وتنقضي بها، وإلا ما من مسلم إلا وله في هذه الدنيا حسنة أتاه إياها، وعلى ذلك يخرج قوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أنهم إنما سألوا حسنة لأن يختموا عليها، ويكون قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ)، كذا، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (هُدْنَا إِلَيْكَ)، أي: ملنا إليك. وقال غيرهم: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ)، أي: تبنا إليك. وقيل: لذلك سمت اليهود أنفسهم يهودًا، أي: تائبين إلى اللَّه، لكن لو كان كما ذكر، كان قوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا) أي: تائبا، وذلك بعيد، ولكن

إن كان لذلك سموا فهو - واللَّه أعلم - (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا)، أي: لم يكن على المذهب الذي عليه اليهود، وكذلك لم يكن على المذهب الذي ادعت النصارى أنه كان عليه، ولكن كان حنيفًا مسلمًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ). قال الحسن: يشاء أن يصيب عذابه من كفر باللَّه وكذب رسله، وشاء من أطاع الله وصدق رسله أن يصيب رحمته. ودل قوله: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ) أنه لما شاء أن يصيبهم عذابه شاء العمل والفعل الذي كان به يصيبهم؛ لأن حرف " مَن " إنما يعبر به عن بني آدم، وليس جائز أن يشاء لهم الإيمان ثم يشاء لهم أن يصيبهم عذابه، ولكن إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون ويختارون فعل الضلال على فعل الهداية، شاء لهم ما اختاروا. وقوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ). ما من أحد من مسلم وكافر إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا، بها يتعيشون ويؤاخون ويوادون، وفيها يتقلبون، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة، لا حظ للكافر فيها، وذلك قوله: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ): معصية اللَّه والخلاف له، (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، وهو كقوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) جعل طيبات الدنيا نعمها مشتركة بين المسلم والكافر، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، لا حظ للكافر فيها؛ فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة. ويحتمل قوله - واللَّه أعلم -: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) أنهم إنما سألوا الرحمة، فقال: سأكتبها للذين يتقون معاصي اللَّه ومخالفته، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) يحتمل: يؤتون الزكاة المعروفة. ويحتمل: تزكية النفس؛ كقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10).

(157)

ومعلوم أنه لم يرد به زكاة المال، ولكن زكاة النفس بالتوحيد والتقوى، وكذلك قوله: (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، هو تلك الزكاة لا الزكاة المعروفة زكاة المال؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وإن كان على الزكاة المعروفة فذلك في قوم ثقل عليهم واشتد إخراج الزكاة من أموالهم؛ كقوله: (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ. . .) كذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ). قد ذكرنا في غير موضع أن من آمن بآيات اللَّه وصدقها فقد آمن باللَّه وبرسله، ومن كذب بآياته كذب باللَّه وخالف رسله؛ لأن طريق معرفة اللَّه ورسله إنما هو من طريق الآيات والحجج، ليس من طريق المشاهدات والمحسوسات؛ لذلك كان الإيمان بالآيات إيمانًا باللَّه وبرسله، والتكذيب بها كفر باللَّه ورسله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ... (157) أي: يقفون أثر الرسول في كل سيرته، وفي كل أمره ونهيه، ويطيعونه؛ سماه رسولا ونبيًّا بقوله: (الرَّسُولَ النَّبِيَّ) والرسول: المبعوث على تبليغ الرسالة والمأمور بها على كل حال، والنبي: المنبئ لهم أشياء عند السؤال والاستخبار، والرسول هو المأمور بالتبليغ سألوه أو لم يسألوا شاءوا أو أبوا، وكان لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كلاهما: الإنباء والتبليغ؛ كقوله: (مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، وقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا). الأمي: ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ. . .) الآية.

(الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ). أي: يجدونه مكتوبًا في التوراة أنه رسول نبي، وأنه أمي.

قوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ). لئلا يقولوا: إنك أخذت هذا من الكتب المتقدمة ومن علومها وحكمتها، (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)؛ لئلا يقولوا: إنه من تأليفك، ويعلموا أنه من عند اللَّه جاء به، لا من ذات نفسه.

وفي قوله: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. . .) إلى آخر ما ذكر - دلالة إثباث رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن أُولَئِكَ لم يأتوا بالتوراة، والإنجيل فيقولون: لا نجد ما تذكر في التوراة والإنجيل؛ دل ذلك منهم على أنهم وجدوه كذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). أي: يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة أنه يأمر بما أمر اللَّه به، وينهى عما نهى الله عنه. (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ). ما أحل اللَّه لهم. (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) ما حرم اللَّه عليهم يجدونه في التوراة أنه لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء ولا يحل شيئًا ولا يحرم إلا بأمر من اللَّه له، لكنهم ينكرونه إنكار عناد ومكابرة؛ كقوله - تعالى -: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)، وغيره. ويحتمل قوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) الآية، أي: يأمرهم بما هو معروف في العقل وشهادة الخلقة، وهو التوحيد، وكذلك ينهاهم عما هو في العقل وشهادة الخلقة منكر، وهو الكفر رجميع المعاصي. (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) أي: يحل ما هو طيب في العقل والطبع، ويحرم ما هو خبيث في العقل والطبع جميعًا؛ لأن من الأشياء ما هو مستخبث في الطبع لم يجعل غذاء البشر فيه، وإنما جعل غذاءهم فيما هو مستطاب في الطبع بلغ غايته في الطيب، ولا كذلك جعل غذاء البهائم والأنعام؛ هذا محتمل، واللَّه أعلم. ثم المعروف الطيبات لو تركت العقول والطباع على ما هي عليه، لكانت لا حاجة تقع إلى رسول يخبر أن هذا معروف، وأن هذا طيب أو خبيث أو منكر، ولكن تعرف العقول والطباع ذلك كله، لكن يعترض العقول من الشبه فتمنعها من معرفة ذلك، فاحتاجت إلى رسول يخبر عن ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ). قيل: ما غلظوا على أنفسهم من الشدائد. وقيل: إصرهم: شدة من العبادة والعمل. وقيل: إصرهم: عهدهم. وقِيل: إصرهم: أي الثقل الذي كان بنو إسرائيل ألزموه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) أي: ذنبهم الذي كانوا يذنبون، أي: عقوبة الذنب الذي أذنبوا في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ). قال الحسن: إن اليهود قالوا: يد اللَّه مغلولة، أي: محبوسة عن عقوبتنا، فقال - عز وجل -: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا)، أي: غلت أيديهم إلى أعناقهم في النار، فأخبر أن أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما آمنوا به وصدقوه، رفعت تلك الأغلال التي كانت عليهم عن هذه الأمة بطاعتهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقِيل: الأغلال التي كانت عليهم: الشدائد التي كانت عليهم، من نحو ما لا يجوز لهم العفو عن الدم العمد، ولا أخذ الدية، وما لا يجوز غسل

النجاسات إلا العظم، وغير ذلك من الأشياء التي لم تحل لهم، فأحلت لهذه الأمة. ويحتمل أن يكون الإصر والأغلال التي كانت عليهم: من نحو ما حرم من أشياء بظلم كان منهم وتحريم؛ نحو قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ) وقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)، إلى قوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ)، حرمت تلك الأشياء عليهم؛ عقوبة لبغيهم وظلمهم الذي كان منهم، أخبر أنه وضع عن هَؤُلَاءِ ذلك، لم يحرم ذلك عليهم. وفي هذه الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أنه أمي، والأمي ما ذكر في قوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) كان لا يتلوه ولا يخطه بيده، ثم أخبر على ما كان في كتبهم من غير أن عرف ما في كتبهم، أو نظر فيها وعرف لسانهم؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه. وقوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ).

(158)

أي: صدقوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. (وَعَزَّرُوهُ). قيل: أعانوه بأموالهم. (وَنَصَرُوهُ). بأيديهم بالسيف. وقال الحسن: قوله: (وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) إنما هو كلام مثنى، وهو إعانة. وقيل: (وَعَزَّرُوهُ) أطاعوه (وَنَصَرُوهُ) أعانوه، وقيل: (عَزَّرُوهُ)، أي: عظموه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ). يعني: القرآن؛ سماه نورًا؛ لما ينير الأشياء عن حقائقها بالعقول؛ لأن النور في الشاهد هو الذي يكشف عن الأشياء سواترها؛ فعلى ذلك القرآن هو نور؛ لما يرفع الشبه عن القلوب، ويكشف عن سواترها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمى نورًا؛ لما ينير الأشياء ويعرف به ما غاب وما شهد، فيصير الغائب به له كالشاهد. * * * قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا). فيه دلالة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان مبعوثًا إلى الناس كافة، وكذلك روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " بعثت إلى الأحمر والأسود "، وسائر الأنبياء بعثوا إلى أقوام خاصة، وإلى البلدان والقرى المعروفة المحدودة. وفيه أنه لما خاطبه أن يقول للناس: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) أنه لا سبيل له إلى أن

يخاطب الناس والخلق جميعًا فيقول: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، ولكن إنما يكون ببعث الرسل إليهم، فينزل قول الرسول أنه رسول اللَّه إليكم منزلة قول نفسه: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)، فانتشر ذكره بتبليغ الرسل إليهم، كأنه هو بلغ ذلك وقال لهم: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)، أو أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - سخر الخلق حتى بلغ بعضهم بعضًا رسالته، حتى فشا خبره، وانتشر ذكره في جميع آفاق الأرض شرقًا وغربًا، وذلك من عظيم آيات نبوته ورسالته. ثم بيَّن أنه رسول مَنْ فقال: رسول (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ)، وذكر تخصيص السماوات والأرض وإن كان له ملك الكل؛ لما هما النهاية في ملك البشر عند البشر. أو ذكر هذا؛ ليعلموا أن من في السماوات والأرض له عبيده وإماؤه. أو ذكر هذا؛ ليعلموا أن التدبير فيهما جميعًا لواحد؛ حيث اتصلت منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا إلَهَ إِلَّا هُوَ) ذكر هذا؛ لأن العرب سمت كل معبود إلهًا، وهم كانوا يعبدون الأصنام دونه ويسمونها آلهة، فنفى الألوهية عمن يعبدونهم دونه، وأثبتها له، وأخبر أنه هو المستحق لاسم الألوهية والعبادة لا غيره؛ لأنه يحيي ويميت، ومن يعبدون دونه لا يملك الإحياء ولا الإماتة، وذكر هذا - واللَّه أعلم - الحياة والموت؛ لأنه ليس شيء ألذ وأشهى في الشاهد من الحياة، ولا أمرَّ ولا أشد من الموت؛ ليرغبوا في ألذ ما غاب عنهم، وينفروا عن الأمر والأكره مما غاب عنهم، واللَّه أعلم. أو ذكر أنه يحيي ويميت؛ ليدل أنه فعل واحد، لا عدد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ). كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو السابق إلى كل خير؛ فعلى ذلك دعا الخلق إليه؛ كقوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)؛ فعلى ذلك إنما أمر بالإيمان به بعد ما آمن هو.

وجائز أن يكون قوله: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ) أي: آمن رسول اللَّه باللَّه وكلماته التي كانت في الكتب الماضية، فأخبر بها على ما في كتبهم؛ ليعرفوا أنه إنما عرفها بالله تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَلِمَاتِهِ) اختلف فيه؛ قال عامة أهل التأويل: كلماته: القرآن. وذكر في بعض القراءات: " وكلمته " بلا ألف، فصرف التأويل إلى عيسى؛ كأنه قال: آمنوا باللَّه وبمُحَمَّد وبعيسى. ويحتمل أن يكون قوله: (وَكَلِمَاتِهِ) ما أعطاه من الحلال، والحرام، والأمر، والنهي، والحكمة، والأحكام التي أمر بها وشرعها لنا، على ما ذكر في إبراهيم أنه ابتلاه بكلمات فأتمهن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). قد ذكرنا الاتباع له، فإذا اتبعوه اهتدوا. * * * قوله تعالى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)

(159)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ... (159) قيل: أمة يدعون إلى سبيل الحق. (وَبِهِ يَعْدِلُونَ). أي: به يعملون وهو كقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ). فعلى ذلك يحمل الأول على الإضمار والدعاء إلى سبيل الحق، فقال الحسن: (يهدُونَ بِالْحَقِّ) أي: يعملون، بالحق وبه يعدلون فيما بينهم؛ لكن الأول أقرب، واللَّه أعلم. ثم قوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) جائز أن تكون الأمة التي أكرم من قوم موسى كانت في زمنهم يدعون الناس إلى الإيمان برسول اللَّه. أو أن تكون الأمة من قومه في زمن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقية من قوم موسى، مؤمنين به يدعون الناس إليه وبه يعملون. وقوله: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ... (160) قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو ما ذكره: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا) أي: جماعة. وقيل: (وَقَطَّعْنَاهُمُ)، أي: جعلناهم (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) فرقًا. وقال غيرهم: قوله: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) أي: جاوزنا بهم البحر، وجعلنا لهم اثنتي عشرة أسباطًا. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الأسباط: الأفخاذ، والسبط واحد. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الأسباط: القبائل، واحدها: سبط.

وقيل: الأسباط لهم كالقبائل للعرب. وقيل:، الفخذ دون القبيلة. وقيل: إن أولاد إسحاق تسمى: أسباطًا، وأولاد إسماعيل: قبائل وأفخاذًا؛ ولذلك يقال للعرب: قبيلة كذا، وفخذ كذا، ولسنا ندري كيف هو؟ وقيل: سبط الرجل: ولد ولده؛ على ما روي أن الحسن والحسين - رضي الله

عنهما - سبطا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ). قيل: دل قوله: (إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ) أنهم كانوا في المفازة، لا في البلدان والقرى؛ لأنهم لو كانوا في القرى، والقرى لا تخلو عن أنهار تجري فيها أو عيون الأرض. ألا ترى أنه قال: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ) دل أنهم كانوا في المفازة؛ لأنه هنالك تقع الحاجة إلى الغمام، وأما في القرى فلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: انفجرت؛ على ما ذكر في سورة أخرى. وقيل: إن هذه الكلمة بلسانهم، لا بلسان العرب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: تعبدهم عَزَّ وَجَلَّ بمعرفة كل منهم مشربه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن لئلا يزدحموا في ذلك فيقع في أولادهم التقاتل والإفساد والتنازع والاختلاف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى). فيه أن جميع مؤنتهم كانت من السماء بلا مؤنة ولا تعب على أنفسهم. وقوله - عز وبرل -: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ). ما ذكر من المن والسلوى وغيره. (وَمَا ظَلَمُونَا). لا أحد يقصد قصد ظلم اللَّه، ولكن إذا تعدوا حدود اللَّه التي جعل لهم وجاوزوها

(161)

فقد ظلموا أنفسهم؛ لما رجع ضرر ذلك التعدي إليهم. وهذه النعم التي ذكر لهم - جل وعلا - إنما جعلها لهم في حال العقوبة والابتلاء من المن والسلوى، والعيون، والغمام، ويدل هذا على أن عقوبات الدنيا قد يشوبها لذة ونعمة، وكذلك لذات الدنيا قد يمازجها شدائد وهموم، فإنما تخلص وتصفو هذه النعم في الآخرة، وكذلك العقوبة هنالك تخلص وتفارق اللذات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ ... (161) قال عامة أهل التأويل: قوله: (اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) بيت المقدس. وأمكن أن تكون القرية التي ذكر - هاهنا - هي الأرض التي ذكرت في سورة المائدة، وهو قوله: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ) أمرهم بالدخول فيها، ونهاهم عن الارتداد على أدبارهم، وأمرهم - هاهنا - بالسكون فيها، وأباح لهم التناول منها مما شاءوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُولُوا حِطَّةٌ). أي: ارجعوا إلى السبب الذي يحط الأوزار، لا قولهم: حط عنا كذا، وهو كما قال: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ)، أي: ائتوا بالسبب الذي به يغفر، وهو التوحيد. (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) الآية. قد مضى ذكر هذا في السورة التي فيها ذكر البقرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) هذا -أيضًا- ذكرناه فيها، سوى أنه ذكر - هاهنا - (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا)، وذكر في سورة البقرة: (فَأَنْزَلْنَا)، والقصة واحدة؛ ليعلم أن اختلاف الألفاظ لا يوجب اختلاف المعاني والأحكام، ولا تغييرها، وذكر هاهنا: (بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ)، وذكر، هنالك: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)، والفسق هو الخروج عن الأمر، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد كان منهم الأمران جميعًا: الخروج

(163)

عن أمر اللَّه، ووضع الشيء -أيضًا- في غير موضعه. أكرم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذه الأمة كرامات من الطاعة لرسولها، والخضوع له، والتعظيم له، حتى لم يخطر ببال أحد الخلاف له بعد ما اتبعه وآمن به، وأكرمهم -أيضًا- من الفهم والحكمة والفقه، حتى ذكر: كأنهم من الفقه أنبياء، وقوم موسى وغيرهم من الأمم لم يكونوا مثل ذلك؛ ألا ترى أن قوم موسى قد خالفوه في أشياء أمرهم موسى بها. * * * قوله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) قال بعض أهل التأويل: القرية التي كانت حاضرة البحر هي أيلة. وقال آخرون: أريحا.

ولسنا ندري ما تلك القرية، وليس لنا إلى معرفة تلك القرية حاجة؛ إذ لا منفعة لنا في معرفتها، ولو كانت لنا حاجة إليها لبين لنا عَزَّ وَجَلَّ. وقوله: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ. . . .). أمره بالسؤال عنها، ثم كان هو المبين لهم بقوله: (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ)، والسؤال هو الاستخبار، والإخبار أبدًا إنما يلزم المسئول دون المستخبر، لكن الاستخبار يكون من وجهين: أحدهما: ابتداء إخبار. والثاني: طلب التصديق، فهاهنا لم يحتمل ابتداء الخبر، وهو على طلب التصديق؛ كأنه قال: ألم يكن كذا؟ فيقولون: نعم؛ يصدقونه بما يقول لهم. وقال قائلون: لم يأمره بالسؤال حقيقة، ولكنه على التمثيل؛ كأنه قال: لو سألتهم يقولون لك كذا؛ كقوله: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) ليس على الأمر أن اسألهم، ولكن لو سألتهم كان كذا، وأجابوك بكذا، فعلى ذلك هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ). عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: ابتدعوا السبت فعظموه، فابتلوا فيه، فحرمت عليهم فيه الحيتان. وقال مجاهد: حرمت عليهم الحيتان يوم السبت، فكانت تأتيهم يوم السبت شرعًا بلا مؤنة أولا، تكلف، ابتلوا به، ولا تأتيهم في غير مثله. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (شُرَّعًا) هي التي قد دنت من الشط، والواحد: شارع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْبِتُونَ). أي: لا يدخلون في السبت؛ كما يقال: لا يربعون ولا يخمسون، أي: لا يدخلون

فيه، ويسبتون أي يدخلون فيه، وكذلك يربعون ويخمسون. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (شُرَّعًا) أي: شوارع، (إِذْ يَعْدُونَ) أي: يتعدون الحق، ويقال: عدوت على فلان: إذا ظلمته. وقال الكيساني: يقرأ: (يَسْبِتُونَ) بالرفع، ويقرأ بالفتح؛ فمن قرأها (يَسْبِتُونَ) بالفتح أراد سبتوا أي عظموا يقال: سبت يسبت سبتًا وسبوتًا إذا عظم، ومن قرأها برفع الياء أراد أنهم، دخلوا في السبت. وقال قائلون: قوله: (شُرَّعًا) أي: كثيرة، أي: تكثر لهم الحيتان يوم السبت، وهو اليوم الذي حرم عليهم الحيتان، وتقل في غير ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ابتلاهم اللَّه بتحريم السمك في السبت؛ ليرى الخلق المطيع منهم من العاصي. وقال قائلون: ابتلاهم بذلك لما كانوا يفسقون في السر؛ ليكون فسقهم وتعديهم ظاهرًا عند الخلق كما كان عند اللَّه؛ لئلا يقولوا عند التعذيب إنهم عذبوا بلا ظلم ولا تعد - واللَّه أعلم -. وذلك قوله: (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). وقال - قائلون في قوله: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ): إنما أمره أن يسألهم أما عذبهم اللَّه بذنوبهم؟ ثم أخبر عن ذنوبهم فقال: (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي: يعتدون في السبت.

(164)

وقوله: (شُرَّعًا) أي: شارعات من غمرة الماء، أي: خارجات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ... (164) وذكر في الأول أنهم كانوا ثلاث فرق: فريق عدوا، وتركوا أمر اللَّه، وارتكبوا ما نهوا عنه. وفريق نهوا أُولَئِكَ الذين اعتدوا وانتهكوا حرم اللَّه. وفريق، قيل: لم يعتدوا، ولم يرتكبوا نهيه، ولا نهوا أُولَئِكَ الذين اعتدوا، وهم الذين قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا. . .) الآية، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: هم كانوا ثلاث فرق: فرقة وعظت، وفرقة موعوظة، وفرقة ثالثة، وهم الذين قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ). وهو ما ذكرنا أنه ذكرهم في الابتداء ثلاث فرق، وذكر في آخر الحال فرقتين: فرقة هي التي هلكت بالاعتداء، وفرقة هي التي نهت ونجت. ثم اختلف أهل التأويل في الفرقة الثالثة: قَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا في الفرقة التي هلكت؛ لوجهين: أحدهما: لما لم ينهوا أُولَئِكَ الذين اعتدوا، وكان فرض عليهم النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، فإذا لم ينهوا أُولَئِكَ هلكوا وشركوا في العذاب؛ كقوله: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ. . .) الآية. والثاني: كانوا معهم لما نهوا الناهين بقوله: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ). وقال قائلون: كانوا في الناجين. قال الحسن: لأنهم كانوا نهوا أُولَئِكَ عن الاعتداء والظلم الذي كان منهم، وكان قولهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا) بعد ما نهوهم ووعظوهم فلم يتعظوا، فإنما قالوا لأُولَئِكَ:

(165)

(لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا) بعد ما نهوا ووعظوا، فقالوا: كيف تعظون قومًا لا يتعظون ولا ينتهون، فإنما قالوا ذلك بعد ما نهوا. وقال قائلون: هذا القول منهم نهي؛ لأنهم أتوا بوعيد شديد بقولهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)، فنفس هذا القول منهم نهي وزجر عما ارتكبوا؛ حيث أتوا بالنهاية من الوعيد، وهو الهلاك والعذاب الشديد. ولكنا لسنا نعلم أنهم كانوا في الهلكى أو في الناجين، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، ولو كان لنا حاجة إلى ذلك لبينه لنا - عَزَّ وَجَلَّ - ولم يترك ذلك لآرائنا، سوى أنه بين من نجا منهم بالنهي عن الظلم والعدوان، وبين من أهلك وعذب بالظلم والعدوان بقوله: (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ). قرئ بالرفع والنصب أيضًا (مَعْذِرَةً) فمن قرأ بالرفع أضمر فيه هذه؛ كأنهم قالوا: هذه معدْرة إلى ربكم؛ كقوله: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا)، قيل: هذه سورة أنزلناها. ومن قرأ بالنصب قال: (مَعْذِرَةً) أي: اعتذارًا منهم إلى ربهم (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) عما نهوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ... (165) أي: توكوا وأعرضوا عما ذكروا به.

(166)

(أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ). قَالَ الْقُتَبِيُّ: شديد؛ وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ. وقال غيره: أي: موجع، وهو واحد. وقال الحسن: (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ) على الوقف، ثم قال: (بئيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ ... (166) قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (عَتَوْا) أي: استكبروا؛ يقال: عتا يعتو عتوًّا، وكأن العتو هو النهاية في البأس، فكذلك قيل في قوله: (عَتَوْا) بائسًا، لكن سمي مرة: قساوة، ومرة: استكبارًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: حولت صورتهم وجسدهم صورة القردة، وكانت عقولهم على حالها عقول البشر لم تحول؛ ليعلموا تعذيب اللَّه إياهم وما أصابهم بهتكهم حرم اللَّه. وقال قائلون: حول طباعهم طباع القردة، وأما الصورة والجسد على حاله. وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة. وقوله: (خَاسِئِينَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من خسأ الكلب: صار قاصيًا مبعدًا؛ يقال: خسأته. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (خَاسِئِينَ): مبعدين؛ وكذلك قال في قوله: (اخْسَئُوا فِيهَا) أي: ابعدوا فيها وارجعوا فيها؛ يقال: خسأت فلانًا وأخسأته، أي: باعدته، فخسأ، أي: تباعد.

(167)

وقيل: الخاسئ: الذليل. وفي قوله: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ. . . .) إلى آخر ما ذكر من القصة وجهان: أحدهما: دليل إثبات الرسالة والنبوة له؛ حيث أخبر عما كان من غير نظر له في كتبهم، ولا اختلاف إلى أحد ممن له علم في ذلك؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى. والثاني: إنباء عن عواقب الظلمة والفسقة، وما حل بهم بظلمهم وانتهاكهم حرم اللَّه؛ ليكون ذلك زجرًا لنا عن ارتكاب مثله. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) قيل، تأذن: أي: قال ربك: ليبعثن. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) هو من الأذان، أي: أعلم ربك. وقوله: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ. . .) الآية قال: نزلت هذه الآية بمكة في شأن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن الكفار كانوا يمنعون من دار الإسلام واتباع مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - فوعدهم اللَّه ليبعثن عليهم من يقاتلهم ولأخذ منهم الجزية إلى يوم القيامة؛

(168)

جزاء ما كانوا يمنعون الناس عن اتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والإجابة له فيما يدعو إليه. وقال قائلون: هو في بني إسرائيل، وهو ما قال: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ. . .) إلى قوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا)، أخبر إن عادوا عدنا، ولم يبين إن عادوا عدنا بماذا، ثم بين في هذه الآية بقوله: (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ). وقال قائلون: هذا إنما كان في هَؤُلَاءِ الذين سبق ذكرهم في قوله: (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ). قال أبو بكر الأصم: الآية لا تحتمل في هَؤُلَاءِ؛ لأن من آمن منهم لا يحتمل ذلك، ومن صار منهم قرودًا لم يحتمل -أيضًا- بعد ما صاروا قرودًا، فهو - واللَّه أعلم - على الوجهين اللذين ذكرناهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ). يأخذهم في حال أمنهم، ليس كما يأخذ ملوك الأرض قومهم بعد ما يتقدم منهم إليهم تخويف، فعند ذلك يأخذونهم بالعذاب. أو أن يقال: سريع العقاب، أي: عن سريع يأخذهم عقابه. وقوله: (لَسَرِيعُ الْعِقَابِ): لمن كفر وكذب، غفور رحيم: لمن آمن وصدق بالله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ... (168) يحتمل: فرقناهم في وقت بعد ما كانوا مجموعين. ثم يحتمل الجمع وجهين: كانوا مجموعين ثم تفرقوا، فصار بعضهم كفارًا وبعضهم مؤمنين. أو كانوا مجموعين في المكان والمعاش والماء والكلأ ثم تفرقوا، فصاروا متفرقين في المكان والمعاش وغيره. أو كانوا في الدِّين واحدًا، ثم صاروا أصحاب أهواء. ويحتمل قوله: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا) أي: أمة بعد أمة، وجماعة بعد جماعة،

بعضهم خلفاء لبعض؛ على ماذكر: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ). فإن كان قوله: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ) في الدِّين والمذهب، فيكون تأويله: أمنهم الصالحون المؤمنون، ومنهم دون ذلك الكفار، ويكون قوله: (دُونَ ذَلِكَ) أي: غير ذلك كقوله يعيدونها دون اللَّه أي: غير اللَّه. وإن كان في المعاش، فبعضهم دون بعض في المعاش؛ وسع على بعض المعاش، وشدد على بعض وضيق، فيكون بعضهم دون بعض في المعاش والرزق. أو بعضهم دون بعض في الدِّين، بعضهم على الصلاح، وبعضهم أصحاب أهواء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ). ابتلى بعضهم بالخصب والسعة، وبعضهم بالشدة والضيق؛ ليذكرهم الموعود من الثواب في الحسنات، ويزجرهم الموعود من العقاب عن السيئات. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). يتوبون ويرجعون عن ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فهو يخرج على وجوه: أحدها: بلوناهم بالنعم والخصب والسعة؛ ليعرفوا فضل اللَّه وإحسانه فيرجعوا إليه بالشكر والثناء، و (وَالسَّيِّئَاتِ)، أي: بالبلايا في أنفسهم أو المصائب والضيق؛ ليعرفوا قدرة اللَّه وسلطانه، فيرجعوا إليه بالتضرع والفزع والدعاء والتوبة. والثاني: معناه: أي: بلوناهم بالحسنات والسيئات؛ ليتقرر عندهم أن غيرهم أملك بهم من أنفسهم، فيرجعوا إليه أبتسليم، النفس لأمره وحكمه. والثالث: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) المؤمن منهم والكافر، حتى إذا رأوا الاستواء في الدنيا وفي الحكمة التفريق بينهم، فيضطر الجميع إلى الإيمان بالبعث؛ إذ خروجهم من الدنيا على سواء. والرابع: أنه إنما جعل النعيم في الدنيا ليعرفوا لذّة الموعود في الآخرة، وكذلك الشدة، فابتلاهم بالأمرين جميعًا؛ ليستعدوا للرجوع إلى الموعود لهم في الآخرة، والله

(169)

أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ... (169) قال قائلون: هو صلة قوله: (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ)، والصالحون هم الذين آمنوا باللَّه، وحفظوا حدوده وحلاله وحرامه، (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني: الصالحين (فَخَلَفَ) لم يحفظوا حدوده ومحارمه. وقال قائلون: هو صلة ما تقدم من ذكر الأنبياء والرسل؛ كأنه أخبر أنه خلف من بعدهم خلف، يعني: خلف الرسل والأنبياء (وَرِثُوا الْكِتَابَ) ووهو كما ذكر في سورة مريم، وهو قوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)، وإنما ذكر هذا من بعد ذكر الأنبياء والرسل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرِثُوا الْكِتَابَ) علموا ما فيه. (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى). إن أهل الكتاب كانوا يأخذون الدنيا على أحد وجوه ثلاثة: منهم من كان يأخذها مستحلّا لها؛ كقوله - تعالى -: (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ). وكقوله: (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). ومنهم من كان يأخذها بالتبديل، أعني: تبديل الكتاب؛ كقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ. . . .) الآية وقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). ومنهم من كان تناول على ما تناول أهل الإسلام على قدر الحاجة، وهاهنا لا يحتمل الأخذ إلا أخذ الاستحلال أو التبديل، والأخذ بالاستحلال - هاهنا - أقرب، كانوا يأخذون عرض هذا الأدنى مستحلين له. (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) يحتمل هذا وجوهًا: يحتمل ما قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). فيغفر لنا؛ كانوا يستحلون أموال الناس ويأخذونها، ثم يقولون: سيغفر لنا؛ لأنا أبناء اللَّه وأحباؤه.

(170)

والثاني: يحتمل أنهم قالوا: سيغفر لنا، مع علمهم أنه لا يغفر لهم؛ لما كان في كتابهم ألا يغفر لهم إذا تناولوا مستحلين. أو أنهم إذا عوتبوا على ما فعلوا قالوا: سيغفر لنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ). يحتمل قوله: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِهِ) أنهم إذا استحلوا ذلك أضافوا ذلك إلى اللَّه، وقالوا: اللَّه أمرنا بذلك، فقال: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)، أي: لا يضيفوا إلى اللَّه ما استحلوا. أو أن يقال: أخذ عليهم ألَّا يقولوا: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) فيما يوجبون على اللَّه من مغفرة ذنوبهم التي لا يزالون يعودون لها، ولا يتوبون عنها. قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى) قال: يَأْخُذُونَه إن كان حلالًا أو حرامًا (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)، ومال: قوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ) بعد أنبيائهم، ورثهم اللَّه الكتاب، وعهد إليهم في سورة مريم (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)، (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى)، وهو ما ذكرنا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الخلف: الرديء من الناس ومن الكلام؛ يقال: هذا خلف من القول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ). أي: فرءوا ما فيه وعلموه. (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). أي: يتقون الشرك، أو يتقون مخالفة اللَّه ومعاصيه، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ما في كتابهم أن ترك مخالفة اللَّه خير في الآخرة. ثم أخبر عن المؤمنين فقال: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ... (170) ما فيه من الحلال، والحرام (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ).

(171)

قوله تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وقوله: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ). قيل: رفعنا الجبل؛ كقوله: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ). وقيل: نتق: قطع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حرف أخذ من كتبهم فلا ندري كيف كان. وقيل: حركنا؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. وقال أبو عبيد: كل شيء قلعته من موضعه فرميت به. ذكر هذا - واللَّه أعلم - ليصبر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على سفه قومه؛ لأن قوم موسى مع كثرة ما عاينوا من الآيات التي جرت على يدي موسى، وعظيم ما كان لهم من موسى من النعم؛ من استنقاذه إياهم من استرقاق فرعون، وإخراجهم من يده، وفرق البحر لهم، ومجاوزته بهم، وتفجير الأنهار من الحجر، وإنزال المن والسلوى لهم؛ فجميع ما كان لهم من موسى ما ذكرنا لم يقبلوا التوراة ولم يقروا بها إلا بعد رفع الجبل عليهم والإرسال، فعند ذلك قبلوا؛ يصبر رسولنا؛ لئلا يضجر على مخالفة قومه إياه وكثرة سفههم. ثم يحتمل أن يكون ما ذكر من رفع الجبل فوقهم وجهين: أحدهما: أنهم لما عاينوا ذلك آمنوا به وقبلوا الكتاب، لكن ذلك منهم إيمان دفع؛ إذ ذلك قهر، ولا يكون في حال القهر إيمان. والثاني: صيَّر ذلك آية عظيمة وحجة واضحة معجزة، فقبلوها وحققوا الإيمان به، ثم تركوا ذلك، يدل على ذلك ما ذكر في سورة البقرة؛ حيث قال: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ

ذَلِكَ). وقيل: فخلف من بعد بني إسرائيل خلف السوء وهم اليهود. (وَرِثُوا الْكِتَابَ)، قيل: التوراة عن آبائهم وأوائلهم. (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى) قالوا: رشوة (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) وكانوا يرتشون ويقولون: يغفر لنا؛ لأنهم زعموا أنهم أبناء اللَّه وأحباؤه (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ). قيل: رشوة مثله أخذوها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ). قالوا: لقد أخذ عليهم في التوراة ألَّا يستحلوا محرمًا، ولا يقولوا على اللَّه إلا الحق في التوراة (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ). وقوله: (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ). استحلال المحارم وأكلهم الحرام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ). قيل: بالتوراة ولا يحرفونه عن مواضعه، ولا يستحلون محرمًا (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ). أي: أيقنوا أنهم إن لم يقبلوا واقع بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ). قد ذكرنا هذا فيما تقدم. قوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) يحتمل وجهين: أحدهما: (خُذُوا)، أي: اقبلوا ما فيه. والثاني: اعملوا بما فيه. وفيه دلالة كون القوة مع الفعل. وقوله: (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) قيل: اعملوا بما فيه من الحلال والحرام، (لَعَلَّكُمْ

(172)

تَتَّقُونَ): العقوبة والمعصية. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) تكلم الناس في تأويل قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ. . . .) الآية؛ فمنهم من يقول: ذلك عندما خلق آدم، أخرج من يكون من ذريته مثل الذر، فعرض عليهم قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) لكن اختلفوا؛ فمنهم من يقول: جعل بالمبلغ الذي يجري على مثله القلم؛ وهو قول الحسن. ومنهم من يقول: عرض ذلك على الأرواح دون الأجساد. ومنهم من يقول: بلا عرض أنه خلق صنفين، فقال: هَؤُلَاءِ في الجنة، وهَؤُلَاءِ للنار، ولا أبالي. ومنهم من يقول: عرض الكل على ما عليه أحوالهم وآجالهم في الدنيا، واللَّه أعلم كيف كانت القصة، أو كيف ترى أحوال الفقر والغناء في الذر، أو كيف هَؤُلَاءِ في النار، ولا أبالي مع اجتماعهم على القول " ببلى " لما عرض عليهم في قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ). وقد رأينا في تلك الأخبار ما كان الكف عما له المراد، وبخاصة حفظ العوام وأهل الضعف عن تبليغها ألزم وأعظم في النفع وأبعد عن الشبهة من روايتها وتكلف الكشف عنها، فنسأل اللَّه العصمة عما به الهلاك، والتوفيق للنصح بما به نجاة كل سامع ودفع كل شبهة وحيرة، فإنه لا قوة إلا باللَّه. ومنهم من ذهب في تأويل الآية إلى المعروف من أمر ذرية آدم، والأخذ عن

الأصلاب، والإنشاء في الأرحام؛ على ما كان ويكون إلى يوم القيامة؛ على ما قال اللَّه - سبحانه وتعالى -: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. . .)، إلى قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)، وقال: (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا. . .) الآية، وقال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. . .). وقال: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارً. . .)، وغير ذلك مما احتج اللَّه به من أول ما جرى به تدبير البشر إلى آخر ما ينتهي به أمره، مما يعجز عن تقديره وسع الخلق، ويستتر عن عقولهم كيفية بدء ذلك، وما عليه تنقله من حال إلى حال في كل طرفة عين، ولحظ بصر، مع ما فيه من عجيب التدبير وحسن التقويم الذي لو تكلف الخلق تصوير مثله بكل أنواع الحيل من الأصول الظاهرة، بحيث يبصره كل بصر - لكان يعجز عنه، فكيف في الظلمات الثلاث، مع ما ركب فيه من العقل والسمع والبصر، وما جعل في كل ما أنشأ فيه، ومنه مما لا يبلغ الأوهام فضلًا عن الإحاطة بما في ذلك من الحكمة؛ ولذلك قال اللَّه: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، وكأن ذلك هو العهد إلى جميع الذرية وإشهاد أنفسهم عليهم، يتعالى من دبرهم على ذلك وأنشأهم على ما فيهم عن أن يكون له شريك، أو يقدر أحد قدره، فذلك هو معنى إشهادهم على أنفسهم، أي: جعلهم على أنفسهم شهودا أن يعلموا أن مدبرهم هو ربهم، لا ربّ لهم غيره، وأنه ليس كمثله شيء، مع ما في جعل ذلك ذرية يعرف كل بما يرى من عجزه تدبير ولده، وجهله بأحواله في حال كونه في رحم أبويه بيان على أنه لا كان بآبائه وأمهاته علم، ولكن برب العالمين، وذلك هو الذي يمنعهم عن القول بالغفلة عن ذلك؛ إذ قد علمه كل منهم لآجال كونهم في الوقت الذي لا يذكره أحد. والذي يبين أن هذا التأويل أحق من الأول ما دل عليه سياق الآية من ذلك قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ)، وأقاويل من ذكرت على الأخذ من ظهر آدم.

والثاني: قوله: (مِن ظُهُورِهِم) وفي قولهم: من ظهر آدم. والثالث: قوله: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) وفي التأويل ألا تقولوا، فكيف يحذرهم عن القول بذلك وقد علم أنهم كذلك، ليس أحد منهم يذكر ذلك، ولا مما يتقرر عنده لو نبه بكل أنواع التنبيه؟ والرابع: قوله: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ)، ما في ذلك العرض مما يمنع عن هذا القول، وأيضًا أنه أذكر في بعض ذلك القول بأن هَؤُلَاءِ، في النار ولا أبالي، وفي القرآن الجمع بينهم في القول بـ بلى، وذلك عد توحيدًا منهم مع ما في القرآن: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا. . .) الآية، (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ. . .) الآية، وفي إثبات ذلك إثبات الموت والحياة أكثر من العدد الذي جاء به القرآن في الكل، ولا قوة إلا باللَّه. ثم قد يتوجه التأويل الثاني في قوله: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) إلى أوجه. فأما ابتداء الآية فهو ذلك عند التحقيق؛ لأنه ذكر الأخذ من بني آدم ثم من ظهورهم، والمأخوذ من بني آدم ثم من ظهورهم هو النطف، وهو الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب، (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) أعلمهم ما منه أنشأهم وقلبهم من حال إلى حال، إلى أن تمت النسمة وظهرت البشرية على ما أعلم كل في ذريته خروج بدئه من تدبير والديه، وقيامه على ما عليه مداره وقراره، وبتدبير من لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه أمر؛ ليقولوا: إن الذي ذكر هذا هو ربهم الذي رباهم على ذلك، ليس كمثله شيء، فكان ذلك إعلامًا من اللَّه إياهم على أنفسهم، وشهادة منها بالخلقة أنه ربهم الذي رباهم وملكهم على ما جرى فيهم من تدبير اللَّه - جل ثناؤه - ولئلا يقولوا غدًا: إنهم عن هذا غافلين؛ إذ قد عرف ذا كل ذي عقل، وعرف أنه كان باللَّه - سبحانه وتعالى - لا بوالديه؛ ليجعلوا شرك الآباء والأمهات لأنفسهم حجة من حيث كانوا منهم، واللَّه أعلم. والثاني: أن يكون اللَّه أشهدهم على أنفسهم بما أراهم من أحوال ذريتهم في الانتقال

على أحوال على أن أنفسهم كذلك كانت دخل كل منهم بجوهرهم في ذلك التدبير؛ ليعلموا أن الذي دبرهم على ذلك دبر الكل، فيزول عنهم شبهة أن الكون بغير الرب الذي ليس كمثله شيء، فيزول عنهم به عذر الغفلة وعلاقة الشبهة بكفر الوالدين من حيث حق التبعية، أو سفه التقليد بما يعلم خروج الجميع من التدبير، ورجوع التدبير إلى غير؛ ليكون موضع الاستدلال بما أمرهم هو ودعاهم إليه، لا بما أمرهم به الآباء والأمهات. ثم القول ببلى يكون نطقًا، ويكون خلقة، ويكون جواب الفطرة بحق التأمل، فالنطق أنه لا يسأل أحد قبل التلقين إلا وهو يقول بالرب والخالق؛ وعلى ذلك قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ). والخلقة بما كان من حاجته إلى مقيم وإلى مدبر على شركة كل في ذلك إقرار له بالربوبية، وذلك معنى نفي التفاوت عن خلقه وفطرته بما يقلبه عن أحوال لو تأمل الخلائق إدراك كل حال منها ووجه التنقل وقدر التغير في كل حال لما تهيأ لهم؛ ليعلم أن في الفطرة شهادة بالتوحيد، وهذا معنى ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كل مولود يولد على الفطرة " أي: على حال لو تركت العقول والفكر فيها لشهدت بالتوحيد، وذلك أمعنى، قوله: (بَلَى) لا أن ثم قول لسان؛ بل نطق حال؛ كما قال الحكيم: كل صامت ناطق؛ لأن صمته دليل تدبير آخر، فهو ناطق بالبيان عن الواحد العزيز، ولا قوة إلا باللَّه. وقد يحتمل الإشهاد أن جعلهم شهداء على أنفسهم بالعبودة لله، وأنه ربهم والمالك عليهم، والقول بـ " بلى " بما يلزم ذلك بالتأمل؛ فكأنه قال، واللَّه أعلم. وفي الآية دلالة إثبات خلق اللَّه فعل الخلق، وقد أخبر اللَّه أنه أخذ ذلك، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: على ماذا يخرج تأويل السلف؟ قيل: لعلهم وجدوا فيه خبرًا ظنوا أن الآية تخرج عليه، فأولوها على ذلك، فإذا أريد

تسوية ذلك بالآية لابد من زيادات تلحق بها أو تخرج عنها، وإلا لا يخرج من ذلك عن أن يقول: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) أن يجعل " مِن " صلة؛ كأنه قال: وإذ أخذ ربك من بني آدم، وقد تكون كقوله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ). وبنو آدم يؤخذ من ظهر آدم كما يؤخذ ابن كل من ظهورهم، أي: أصل ابن كل من ظهره، وذكر ظهورهم؛ لما كان منسوبًا إليهم، وإن كان لو طرح حرف الصلة تزول الشبه، فحفظ في ذكرهم حق الوصل وإن كان حقه الإسقاط؛ كقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ. . .) الآية، وغير ذلك مما كنى عن أهل القرية باسمها، وعلى ذلك أجري ذكر الفعل وإن لم يكن لها في الحقيقة فعل؛ فعلى ذلك هذا، فيصير في التحصيل كأنه قال: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهره، ثم يكون المأخوذ الذي عرض عليه مجعولًا على حد يعقل الخطاب، ومعنى قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فأجاب بالذي ذكر. والخبر الذي فيه القسمة إما أن كان لا في هذا فوصل به، أو كان في الآية ذكر إجابة أحد الفريقين، أو كان بين الجميع اتفاق في هذا الحرف واختلاف فيما جاوز هذا، فالقسمة لما عداه، وقد يوجد في هذا القدر -أيضًا- اتفاق. ثم قوله: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). على إضمار بعث الرسل وإنزال الكتاب بالإخبار عن ذلك؛ لئلا يدعوا الغفلة بما كانت منهم ذلك بما أوقظوا ونبهوا، أو بما لا يحتجون بما اعترضهم من الغفلة؛ إذ قد قطع عذرهم بغير ذلك من الأدلة والرسل، واللَّه أعلم. أو لا يقولوا: (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ) أي: بعث الرسل، وإنزال الكتب لقطع هذا النوع من الشبه على الوجهين اللذين ذكرت؛ كقوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ. . .) الآية، وقوله: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ. . . .) الآية وقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ. . .) الآية، ويكون في التأويل الأول ظهور أمر الذرية للأولاد في الخروج عن تدبير الآباء والأمهات لقطع

(174)

الحجاج بهذين الحرفين، وفي الثاني نزول الكتب وإرسال الرسل مع ما أمكن جعل هذا في التأويلين جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ ... (174) هو على وجهين: أحدهما: على البيان، أي: نبين ما يكشف العمه ويزيل الشبهة. والثاني: أن نفرقها ونضع كل واحدة منها في أحق مواضعها وأولى ذلك؛ لقطع العذر ودفع العلل. وقوله: (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إن تأملوا ما هم عليه من الباطل، واللَّه أعلم. وقوله: (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). يخرج على وجوه: أحدها: أن يكون ذلك الإهلاك ليس هو التعذيب، لكنه الإماتة؛ كقوله - تعالى -: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ)، أي لك أن تميتنا إذ فعل السفهاء ما تبقيهم، وألا يبقيهم؛ لما يرجى من التوبة، أو يحدث منهم من لم يسفه، والإضافة إلى الجملة بوجهين أحدهما: على إرادة من سفه منهم. والثاني: على الكل؛ إذ الموت حق مكتوب على جميع البشر، لا على التعذيب، والثاني على التعذيب، على معنى: لا تفعل أنت ذلك، كما يقول الرجل: أنا أفعل هذا، أو أنت تفعل هذا؛ على التبري والتبرئة، وقوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ)، أي؛ تفعله ابتلاء لا تعذيبًا. والثالث: أن يكون على الإيجاب يجمعهم في ذلك، وإن كان الذي استحق بعضهم بحق المحنة؛ إذ له ذلك ابتداء، وذلك نحو أمر أحد بما ابتلاهم، وإن لم يكن منهم

(175)

جميعًا المعصية، وعلى ذلك أمر جميع أنواع المصائب يجمع فيها بين أهل الخير والشر بحق المحنة لا العقوبة، وإن كان ذلك في بعضهم عقوبة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا). اختلف أهل التأويل في نبأ هذا: قَالَ بَعْضُهُمْ: كان هذا نبيا فانسلخ منها، يعني: من النبوة وكفر بها. لكن هذا بعيد محال أن يجعل اللَّه الرسالة فيمن يعلم أنه يكفر به، أو يختاره لوحيه، وهو يعلم أنه ليس هو بأهل له؛ بقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان بلعم بن باعوراء أعطاه اللَّه - تعالى - آيات فكفر بها وانسلخ منها.

وقيل: أعطي الاسم المخزون الذي كان يستجاب له به، جميع ما يسأل ربه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان أمية بن أبي الصلت؛ على ما قال عنه - عليه السلام -: إنه " آمن شعره وكفر قلبه ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية في منافقي أهل الكتاب؛ قد كان أعطاهم اللَّه الآيات، فكفروا بها وكذبوها. ولكن لا ندري فيمن نزلت، وهو في جميع مكذبي الآيات، ليس يجب أن ننص واحدًا، أو يشار إلى واحد نزلت فيه، ولكن نقول: إنها في جميع مكذبي الآيات. وقوله: (فَانْسَلَخَ مِنْهَا): خرج منها، وقيل: نزع منها.

(176)

وقيل: تركها؛ وكله واحد. ثم يحتمل قوله: (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) أي: كانوا قبلوها مرة، ثم ردوها من بعد القبول. ويحتمل: أن لم يقبلوها ابتداء فخرجوا منها وكذبوها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ). فيه دلالة أن اللَّه لا يتبع الشيطان أحد ولا يزيغه إلا بعد أن كان منه الاختيار للضلال والميل إليه؛ حيث قال: (فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) إنما أتبعه الشيطان بعد ما كان منه الانسلاخ والنزع. وقوله: (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) قيل: كان في علم اللَّه أن يكون في ذلك الوقت من الغاوين. وقيل: كان من الغاوين، أي: صار من الغاوين إذا انسلخ منها وخرج، والغاوي: الضال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ... (176) يحتمل قوله: (لَرَفَعْنَاهُ بِهَا): عصمناه حتى لا ينسلخ منها ولا يكذب بها، أي: لو شئنا لوفقناه لها حتى يعمل بها. أو أن يقال: لو شئنا لعصمناه حتى لا يختار ما اختار، لكنه إذ علم منه أنه يختار ذلك ويميل إليه، شاء ألا يعصمه، ولا يوفقه، فكيفما كان فهو على المعتزلة؛ لأنه أخبر أنه لو شاء لرفعه بها، وكان له مشيئة الرفع، ثم أخبر أنه لم يرفع، ولو رفعه بها كان أصلح له في الدِّين؛ دل أنه قد يفعل به ما ليس هو بأصلح في الدِّين، وهم يقولون: إن، المشيئة - هاهنا - مشيئة القهر والقسر، لا مشيئة الاختيار، لكن ما ذكرنا أن الإيمان في حال الاضطرار والقهر لا يكون إيمانًا، فلا معنى لذلك، ولا يكون ذلك رفعًا؛ فيبطل قولهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ): هو ما ذكرنا؛ لما علم منه أنه يخلد إلى الأرض ويميل إليها، لم يعصمه ولم يرفعه. والإخلاد إلى الأرض: قال الحسن: سكن إلى الأرض.

وكذلك قال الكيساني: إن الإخلاد في كلامهم: السكون إلى الشيء والركون إليه. وقال أبو عبيدة: هو اللزوم للشيء. وفي قوله: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) دلالة أن الإزاغة من اللَّه وترك العصمة له؛ لما يكون من العبد الميل والركون إلى مخالفته، وترك الائتمار له، واتباع الهوى. قال قتادة: قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) يقول: لو شئنا لرفعناه من إيتائه الهدى، فلم يكن للشيطان عليه سبيل، ولكن يبتلى من عباده من يشاء. وقوله: (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) ذكر الأرض يحتمل أن يكون كناية عن الدنيا؛ كقوله: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). ويحتمل أن يكون كناية عن الذل والهوان؛ لأن كل خير وبركة إنما يطلب من السماء، وهم إذا اختاروا ذلك اختاروا الذل والهوان. وقال الحسن في قوله: (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) الآية، قال: حال الشيطان بينه وبين أن يصحب الهدى بما مناه وزين له واتبع هواه، (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) قال: هذا مثل الكافر، أميت فؤاده كما أميت فؤاد الكلب. وقوله: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) أي: ساء مثل الأفعال التي ضرب الله مثلها بانذي ذكر في القرآن، قال: (سَاءَ مَثَلًا)، صدق اللَّه وبئس المثل (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، فتدبروا وتفكروا في أمثال اللَّه التي ضرب واعقلوها؛ إلى هذا ذهب الحسن.

وقال غيره: وجه ضرب مثل الذي كذب بالآيات بالكلب، هو أن الكلب من عادته أنه يذل ويخضع لكل أحد؛ لما يطمع أن ينال منه أدنى شيء، ولا يبالي ما يصيبه من الذل والهوان في ذلك بعد أن ينال منه بشيء؛ فعلى ذلك الكافر والمكذب بالآيات لا يبالي ما يلحقه من الذل والهوان بعد أن يصيب من الدنيا شيئًا. ويشبه أن يكون وجه ضرب المثل بالكلب؛ لما أن من عادة الكلاب أنها إذا ظفرت بالجيف تنكب لها، حتى إذا ينادي لها وتدعى لا تكترث إليه ولا تلتفت؛ فعلى ذلك هذا الكافر ينكب لكل جيفة ويخضع، ولا يلتفت إلى ما نودي ودعي إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ). أي: يخرج لسانه ويتنفس تنفسًا أشديدًا. (أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ومعناه - واللَّه أعلم - أن الكلب إذا أصابه العطش والجوع لهث، وإذا لم يصبه لهث أيضًا، فعلى ذلك الكافر يميل إلى ذلك ويختار، أصابته شدة أو لم تصبه؛ أو كلام نحو هذا. وقال قتادة: هذا مثل الكافر، ميت الفؤاد كما أميت فؤاد الكلب. (ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) ضرب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مثل الكافر مرة بالكلب، ومرة بالميت، ومرة بالأعمى، ومرة بالتراب، ومرة بالأنعام،

(177)

ونحو هذا؛ وذلك لما فيه من معاني ما ذكر. وقوله: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ. . .)، وقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) أمر رسوله ليقص أنباء الأمم السالفة على هَؤُلَاءِ؛ ليكون زجرًا وتحذيرًا للكفار؛ ليعلموا ما حل بأُولَئِكَ بصنيعهم؛ ليحذروا عن مثل صنيعهم، ويكون عظة وتذكيرًا للمؤمنين؛ كقوله: (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) قد ذكرنا في غير موضع أن آياته، قيل: دينه. وقيل: حججه وبر اهينه. وقوله: (سَاءَ مَثَلًا) أي ساء مثل، الأفعال التي ضرب اللَّه مثلها بالذي ذكر في القرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) شهد اللَّه - تعالى - أن من هداه فهو المهتدي؛ أي: من هداه اللَّه في الدنيا فهو المهتدي في الآخرة، ومن يضلل اللَّه في الدنيا فهو الخاسر في الآخرة، فلو كانت الهداية البيان والأمر والنهي - على ما ذكر قوم - لكان الكافر والمؤمن في ذلك سواء؛ إذ كان البيان والأمر والنهي للكافر على ما كان للمؤمن فلم يهتد، فدل أن في ذلك من الله زيادة معنى للمؤمن لم يكن ذلك منه إلى الكافر، وهو التوفيق والعصمة والمعونة، ولو كان ذلك للكافر لاهتدى كما اهتدى المؤمن، ولو كان بيانًا لكان ذلك البيان من الرسل وغيره على قولهم؛ وكذلك قوله: (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) أخبر أن من أضله فقد خسر؛ دل أنه كان منه زيادة معنى، وهو الخذلان والترك، أو خلق فعل الضلال، وليس على ما يقوله المعتزلة أنه قد هداهم جميعًا، لكن لم يهتدوا؛ فيقال لهم: أنتم أعلم أم اللَّه؟! كما قال لليهود: (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)، فظاهر الآية على خلاف ما يقولون ويذهبون.

(179)

قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قالت المعتزلة: لم يخلقهم اللَّه - تعالى - لجهنم، ولكن خلقهم وذرأهم وأعطاهم من القوة ما يكسبون الجنة، غير أنهم عملوا أعمالا استوجبوا بها النار، فصاروا للنار بما عملوا من الأعمال، لا أن خلقهم لجهنم. ثم اختلفوا هم في تأويل قوله: (ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر ما إليه آل عاقبة أمرهم؛ كقوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) لم يلتقطوه ليكون لهم ما ذكر، ولكن إنما التقطوه ليكون لهم ما ذكر بقوله: (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)، لهذا التقطوه، لكنه صار لهم ما ذكر، أخبر عما إليه آل أمره؛ فعلى ذلك هذا، وكما يقال: . . . . . . . . . . . . لدوا للموت وابنوا للخراب ولا أحد يلد للموت ولا يبني للخراب، ولكنه أنبأ بما يئول إليه عاقبة أمره من الموت والخراب؛ إلى هذا يذهب عامة المعتزلة. وقال أبو بكر الأصم: الآية على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: ولقد ذرأنا كثيرًا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أُولَئِكَ لجهنم، وأُولَئِكَ كالأنعام. لكن هذا بعيد؛ لأنه لو جاز هذا في هذا لجاز مثله في جميع القرآن أن يجعل أول الآية في آخرها، وآخرها في أولها، فهذا محال.

وأما قولهم: إنه إخبار عما آل إليه عاقبة أمرهم، واستشهادهم بقوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ. . .)، فهو يصلح: لمن يجهل عواقب الأمور، يخرج ذلك منه على التنبيه والإيقاظ؛ لما لم يعرفوا عاقبة ما أبه أصار إليه الأمر، فأما اللَّه - سبحانه عالم السر والعلانية وما كان ويكون في الأوقات التي تكون - لا يحتمل ذلك. وقول الناس: لدوا للموت، وابنوا للخراب. فهو إنما يذكرون هذا عند التنبيه والإيقاظ لجهلهم بعواقب الأمور، وإن كانوا لا يبنون، ولا يلدون للموت والخراب، وما قصدوا له. وأما التأويل عندنا على ما ذكر في ظاهر الآية أنه خلق لجهنم كثيرًا من الجن والإنس، لما علم في الأزل أنهم يختارون فعل الكفر والأعمال الخبيثة التي يستوجبون بها النار خلقهم لجهنم؛ لما علم منهم ذلك في الأزل أنهم يختارون الأعمال الخبيثة فذرأهم على ما علم منهم أنهم يختارون ويكون منهم، وكذلك خلق المؤمنين للجنة؛ لما علم في الأزل أنهم يختارون فعل الهدى، ويعملون أعمالًا طيبة يستوجبون بها الجنة، خلقهم للجنة لا أن خلقهم للجنة مرسلًا أو خلقهم لجهنم مرسلا، ولكن لما ذكرنا، والله أعلم. وأما قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). إنما خلق منهم للعبادة من علم أنه يعبده ويطيعه، وأما من علم أنه يكفر به ويعصيه فهو إنما خلقه لما علم أنه يكون منه؛ فمن كان علم منه في الأزل أنه يكون منه العبادة خلقه للعبادة، ومن كان علم منه أنه يكون منه الكفر خلقه لذلك؛ لأنه لا يجوز أن يعلم منه المعصية وفعل الكفر فيخلقه على خلاف ذلك؛ دل أنه على ما ذكرناه، واللَّه أعلم. أو أن يقال: قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، الفريق الذي علم منه العبادة، لا الكل؛ دليله قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)، ولم

يقل: ذرأنا الكل؛ فهذه في فريق، وهذه في فريق آخر، وهذا التأويل يرجع إلى الخصوص؛ ألا ترى أن الصبيان والمجانين لم يدخلوا فيه؟! أو أن يكون قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي: إلا لأكلفهم العبادة وآمرهم بها؛ فإن كان هذا فهي على الكل: على الكافر والمؤمن جميعًا، واللَّه أعلم. ويحتمل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي: ما خلقت الجن والإنس إلا لتشهد خلقتهم على وحدانية اللَّه، وصرف العبادة إليه، وقد شهدت خلقة كل كافر ومؤمن على وحدانية اللَّه، وألوهمته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا). الفقه: هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره، أو معرفة الشيء بمعناه الدال على مدبره؛ فهَؤُلَاءِ الكفرة لم يفقهوا؛ لما لم ينظروا إلى الأشياء لمعناها وحقائقها، إنما نظروا إلى الأشياء لظواهرها، وكذلك قوله: (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا) لما نظروا إلى ظواهرها، لم ينظروا إلى معانيها وحقيقتها؛ ليدلهم على تدبير منشئها وحكمته. وكذلك قوله: (وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ) لما كانت للأنعام قلوب وأعين وآذان، لكن لا يفقهون معناها وحقيقتها، وإن كانوا يسمعون النداء، وينظرون ظواهر الأشياء؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الكفار، وإن كانوا يسمعون ويبصرون ما ذكرنا بعد أن لم

يفقهوا معانيها وتدبير مدبرها، فهم كالأنعام. وأصله: أنهم لما لم يستعملوا تلك الحواس فيما جعلت لهم، وإنما جعلت لهم لمعرفة حقائق الأشياء، وما أدرج فيها من المعاني والحكمة، فصاروا في الحقيقة كمن لا حواس له؛ إذ لم ينتفعوا بها انتفاع من لهم تلك؛ بل كانوا كمن ليس لهم تلك؛ لذلك نفى عنهم، واللَّه أعلم. وقال قائلون: نفى عنهم هذه الحواس؛ لما لم ينتفعوا بها انتفاع من لهم تلك؛ بل كانوا كمن ليس لهم تلك الحواس للمعنى الذي جعلت تلك الحواس، فهم كالأنعام، بل هم أضل؛ لأن هَؤُلَاءِ إذا ضلوا الطريق فهدوا وأرشدوا لا يهتدون ولا يرجعون عن ذلك، والدواب إذا ضلوا الطريق فهدوا اهتدوا، وعرفوا، ومالوا إليه، فهم أضل من الأنعام لما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَل هُم أَضَلُّ) لأن بنية الأنعام لا تحتمل فهم ذلك، وبنية هَؤُلَاءِ تحتمل؛ إذ جعل لهم عقولاً تميز وتعرف حكمة مدبرها ومنشئها، لكنهم ضيعوها، ولم يكن من الأنعام تضييع؛ لذلك كان أُولَئِكَ أضل. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) لما ختم اللَّه على قلوبهم؛ كقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) فمن ثَمَّ لم تفقه قلوبهم، ولم تبصر أعينهم، ولم تسمع آذانهم. وقال: ثم ضرب لهم مثلا فقال: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ) في الأكل؛ لأن همتهم ليست إلا الأكل والشرب، كهمة الأنعام والبهائم ليست همتهم إلا الأكل والشرب وقضاء الشهوة، فهي تسمع النداء ولا تعقل؛ فعلى ذلك الكافر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ) في فهم ما ألقي إليهم (بَلْ هُمْ أَضَلُّ)؛ لأنهم أعطوا سبب فهم ذلك، والأنعام لا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ)؛ لأن الأنعام تعرف ربها، وتوحده، وتذكره؛ لقول اللَّه - تعالى -: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، الآية، وكقوله: (كُلٌّ

(180)

قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَ)، وهَؤُلَاءِ لا يعرفونه، ولا يوحدونه؛ فهم أضل. أو أن يقال: هم أضل لا يهتدون وإن هدوا ودعوا، والأنعام تهتدي. أو هم أضل؛ لأنهم يُضلُّون وَيُضلُّون غيرهم، والأنعام لا. أو هم أضل؛ لأنهم لا ينتفع بهم، والأنعام ينتفع بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ هُمُ آلغَفِلُونَ). عن فهم ما ألقي إليهم وأمروا به. أو غافلون عما أوعدوا. وقوله: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ... (180) يحتمل هذا وجهين: يحتمل أنهم قد ظنوا أن في إثبات عدد الأسماء إيجاب إثبات عدد من الذات، فأخبر أن ليس في إثبات عدد الأسماء إثبات أعداد من الذات؛ إذ قد يسمي الشيء الواحد بأسماء مختلفة، ثم لا يوجب ذلك إثبات عدد ذلك ولا تجزئته؛ من نحو ما تسمي الحركة: حركة، عرضا، شيئًا، خلقًا، من غير أن أوجب ذلك إثبات عدد الحركة أو تجزئتها، وكذلك في جميع الأشياء؛ فعلى ذلك يخبر أنه ليس في إثبات عدد من الأسماء إثبات عدد من الذات؛ على ما ذكرنا. ويحتمل أن يكون خرج هذا مقابل قول كان منهم، وهو أن وصفوا اللَّه بشيء لا يحسن أن يوصف به، وأضافوا إليه أشياء لا يصلح أن تضاف؛ من نحو قولهم: يا خالق الخنازير، ويا خالق الخبائث، ويا إله القردة، ونحوه؛ فأخبر أن ادعوه بالأسماء الحسنى مما ثبت عند الخلق أنه مسمى به، من نحو ما أعطاهم؛ يقال: يا هادي، يا مرشد، ونحوه. ويقال بما أعطاهم من النعم: يا كريم، يا جواد، يا لطيف، ونحوه. ويقال: يا خالق، يا رازق، يا اللَّه، يا رحمن، يا رحيم؛ لما ظهر في أنفسهم من ألوهيته وربوبيته، فقال: لا تدعوا بكذا، ولكن ادعوا بالأسماء التي ثبت عند الخلق تحقيقها، وأنه يسمى بها، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم.

وقد روي على هذا المعنى أخبر؛ روي أن رجلاً دعا في صلاته فقال: يا اللَّه، ويا رحمن، ويا رحيم، فقال رجل من المشركين: أليس يزعم مُحَمَّد وأصحابه أنهم يعبدون إلهًا واحدًا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟! فأنزل اللَّه تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) ويحتمل قوله: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) أي: له الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى لا الأصنام التي تعبدونها، نحو ما سموها آلهة وأربابًا، فقال: هذه الأسماء التي تدعون بها الأصنام لله فادعوه بها، ولا تدعوا بها الأصنام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ). يحتمل أي: لا تكافئهم بصنيعهم ولا تجازهم بأذاهم إياك؛ فإن اللَّه هو المكافئ لهم والمجازي بصنيعهم؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). وقوله: (يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ). قيل: الإلحاد هو الجور والميل عن الحق، والوضع في غير موضعه، وهم سموا ملحدين لما سموا غيره بأسمائه، أو لإشراك غيره في أسمائه. أو سموا بذلك لما صرفوا شكر نعمه إلى غيره، وعبدوا دونه، مع علمهم أنه لم يكن منهم إليهم شيء من ذلك، إنما كان ذلك لهم من الله. قال ابن عَبَّاسٍ: الإلحاد: الميل، في جميع القرآن. وقيل: الإلحاد: التكذيب. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (يُلْحِدُونَ) أي: يجورون عن الحق ويعدلون. وأصله: الجور والميل.

(181)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). قال: هذه بشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر له، والظفر على أعدائه في الدنيا. وقال قائلون: هو حرف وعيد؛ أوعدهم - عَزَّ وَجَلَّ - بأذاهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) أي: يهدون الخلق بالحق الذي عندهم، وهو القرآن والكتب التي عندهم. وأمكن أن يكون الحق هو رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، به يهدون الناس، وبه يعملون. وجائِز أن يكون قوله: (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) أي: يدعون الخلق إلى سبيل اللَّه؛ على ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ). ويحتمل الحق - هاهنا - هو اللَّه؛ كقوله: (أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي: بالحق الذي يهدون يعملون؛ كقوله: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ. . .) الآية. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا). قد ذكرنا هذا في غير موضع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ). قال قائلون: هو صلة قوله: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فيه الوعد لرسول اللَّه بالنصر له، والظفر على أعدائه. والاستدراج: هو الأخذ في حال الغفلة من حيث أمن الرجل بغتة؛ كقوله: (فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ). وقال قائلون: الاستدراج: المكر، لكن معنى ما يضاف الاستدراج والمكر إلى الخلق غير المعنى الذي يضاف إلى اللَّه، والجهة التي تضاف إلى اللَّه غير الجهة التي تضاف إلى الخلق والجهة التي تضاف إلى الخلق مذمومة، والجهة التي تضاف إلى الله محمودة، وكذلك ما أضيف إلى اللَّه من المكر، والخداع والاستهزاء ونحوه، هو ما ذكرنا على اختلاف الجهات، والمعنى في الجهة التي تضاف إلى اللَّه غير الجهة التي تضاف إلى الخلق؛ لأن اللَّه - تعالى - يأخذهم بما يستوجبون ويستحقون بحق الجزاء والمكافأة، فلا يلحقه في ذلك ذم، وأما الخلق فيما بينهم يمكرون ويكيدون، لا على الاستحقاق والجزاء. وعن الحسن في قوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) قال: كلما جددوا لله معصية، جدد اللَّه لهم نعمة؛ ليستهزءوا ويأشروا ويبطروا، ثم يهلكهم.

(183)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يظهر لهم النعم وينسيهم الشكر. وجائز أن يكون ما ذكر من الاستدراج والمكر والكيد عبارة عن العذاب، أي: إن أخذي إياهم وعذابي شديد؛ حيث قال: (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، أي: عقوبتي شديدة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أي: كيدوه أنتم وأمهلهم وأكيد لهم؛ كقوله: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا. . .) الآية. فيخرج قوله: (وَأَكِيدُ كَيْدًا)، مخرج جزاء كيدهم؛ وكذلك قوله: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا)، أي: جزيناهم جزاء مكرهم؛ وكذلك قوله: (سَنمَنتَذ جهُم)، أي: نجزيهم جزاء استدراج وما هو عندهم كيد، وكذلك نفعل بهم ما هو عندهم مكر وخداع، وإن لم يكن من اللَّه مكر وخداع؛ كقوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، أي: إعادة الشيء عندع أهون من الابئ اء، وإنى شت الإعادة والابتداء أسواء على اللَّه؛، فعلى ذلك قوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ)، (كَيْدِي مَتِينٌ) ونحوه، أي: نفعل بكم ما هو استدراج وكيد عندكم، واللَّه أعلم. ودل قوله: (وَأُمْلِي لَهُمْ) وعلى أنه لم ينشئهم لحاجة له إليهم، أو لمنفعة له فيهم، ولكن أنشأهم لحوائج أنفسهم، ولمنافع ترجع إليهم، حتى إن عملوا نفعوا أنفسهم، وإن تركوا ضروا أنفسهم. - وقوله: (مَتِينٌ). قيل: شديد، أي: عقوبتي شديدة، والمتين: هو المحكم القوي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ... (184) إن الكفرة كانوا ينسبون رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إلى الجنون أحيانًا، والذي حملهم على ذلك - واللَّه أعلم - أنهم كانوا أهل العز والشرف في الدنيا، وكان لا يخالفهم أحد، ولا يستقبلهم بالمكروه إلا أحد رجلين: رجل ذو قوة وهيبة، وله أعوان

(185)

وأنصار، أو رجل به جنون؛ لأنهم كانوا يقتلون من يخالفهم في شيء من الأمر، فلما رأوا رسول اللَّه خالفهم واستقبلهم بما يكرهون، ولم يروا ماله أنصارًا ولا أعوانًا ظنوا أنه لا يخالفهم إلا بجنون فيه، فنسبوه إلى الجنون لذلك، واللَّه أعلم. ويحتمل أن تكون نسبتهم إياه إلى الجنون لما حرم عايهم عبادة الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها، وهم قد رأوا العقلاء منهم قد عبدوا الأصنام ولم يحرموا ذلك، فلما حرم ذلك عليهم ظنوا أنه إنما حرم ذلك لآفة، لذلك حملهم بالنسبة إلى الجنون، واللَّه أعلم. ثم عاتبهم بتركهم التفكر فيه بقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ)؛ ليتبين لهم أنه ليس به جنون، وذلك يحتمل وجهين: أنهم لو تفكروا في رسول اللَّه بما أخبرهم من المرغوب والمرهوب والمحذور في كتابهم على غير لسانهم، واختلاف منه إلى أحد منهم، ولا تعلم - لعلموا أنه رسول، وأن ما أخبر إنما أخبر باللَّه. أو أن يكون قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ)، أي: قد تفكروا فيه وعرفوا أن ليس به جنون؛ وكذلك في قوله: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . . . .) الآية، أي: قد تفكروا في ذلك، وعرفوا أن مثل هذا لم يخلق عبثًا باطلًا؛ كما يقال: أولم تفعل كذا، أي: قد فعلت، لكنهم عاندوا وكابروا آياته وحججه. وأمكن أن يكون قوله: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) أي: في أنفسهم، وفي أُولَئِكَ الذين عبدوا من الأصنام والأوثان؛ ليظهر لهم أنهم على باطل وسفه، وفي نبين لهم أن الحق هو ما يدعوهم إليه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لا ما كانوا هم عليه. وفيه دلالة أن الحق يلزم وإن كان لا يعلم ذلك إلا بالتنكر والتدبر؛ لما لحق هَؤُلَاءِ من الوعيد الشديد والعقاب العظيم لما تركوا هم التفكر، وكان لهم سبيل الوصول إلى معرفة ذلك. وقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ) أنه ليس به جنة:! هذا جواب من اللَّه. ويحتمل: لو تفكروا في صاحبهم، لعرفوا أنه ليس به جنة. ثم أخبر أنه نذير مبين، ليس كما يقولون: إنه مجنون؛ إذ معه آيات وبراهين، فهو نذير مبين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (185) يحتمل هذا على الابتداء.

ويحتمل على الصلة بالأول، وهو أنهم إذا تفكروا في ملكوت السماوات والأرض، عرفوا ألوهية اللَّه وربوبيته؛ لما يرون من اتصال منافع بعض ببعض على بعد ما بينهما، واتساق التدبير في ذلك، فعرفوا أن ذلك كله مسخر لمن له التمييز، وأن المقصود في خلقه أهل التمييز، فإذا عرفوا ذلك عرفوا أنهم يحتاجون إلى من يعرفهم ذلك، ويعلمهم ما يحتاجون في ذلك. ويحتمل على ابتداء الأمر بالتفكر في ملكوت السماوات والأرض (وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)؛ ليدلهم على وحدانية اللَّه، وربوبيته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ). كأن هذا نزل فيمن عرف صدقه، لكنه عاند في تكذيبه، فقال: (وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) يحذرهم؛ ليرجعوا إلى تصديقه، مخافة الخروج من الدنيا على ما هم عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ). هذا يتوجه وجهين: أحدهما: أنكم ممن تقبلون الأخبار والحديث، فإذا لم تقبلوا حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وخبره ولم تصدقوه، فبأي حديث بعده تقبلون وتصدقون، ومعه حجج وبراهين؟ والله أعلم. والثاني: أن يكون قوله: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) يعني، بعد القرآن يؤمنون، وهو كما وصفه: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ. . .) الآية، وقال: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)، فإذا لم تقبلوا هذا ولم تصدقوه وهو بالوصف الذي ذكر، وأنتم ممن تقبلون الحديث، فبأي حديث بعده تقبلون. وجائز أن يكون قوله: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) يريد به في الآخرة؛ يقول: إذا اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون، أي: لا حديث بعده يؤمنون به، والتأويل الآخر في الدنيا.

(186)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) وفي موضع آخر: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ)، ولو كانت الهداية الأمر والبيان على ما قاله قوم، لكان ذلك من غيره، وكذلك لو كان الإضلال والإزاغة والنهي هو التخلية، لكان ذلك يكون من غيره، وكل من أراد اللَّه أن يهديه أضله غيره، وكل من أضله اللَّه هداه غيره، فذلك محال مع ما في كل ما أضاف اللَّه الإضلال إلى الخلق ذمه، وفيما أضاف الهداية إليه مدحه، ثم أضافهما جميعًا إلى نفسه؛ دل أن هنالك زيادة معنى ليس ذلك في الإضافة إلى الخلق، وهو ما ذكر في غير موضع: إما خلق فعل الضلال من الكافر، وخلق فعل الاهتداء والإيمان من المؤمن، أو كان منه التوفيق والمعونة في الهدى، والخذلان في الكفر. وهذان الوجهان اللذان ذكرناهما لا يكونان من الخلق، إنما يكونان من اللَّه؛ لذلك كان معنى الإضافة إليه، وإنما يكون من الخلق الدعاء وغيره، لا ما قالته المعتزلة من البيان والأمر والنهي والتخلية؛ إذ لا يكون ذلك من الخلق، وباللَّه العصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ) أي: من أهانه اللَّه بالضلالة، فلا أحد يملك إكرامه بالهدى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ). لا ضرر يلحقه في طغيانهم؛ لذلك تركهم فيه، ودل ذلك على أنه لم ينشئهم لحاجة نفسه، ولا لدفع مضرة نفسه، ولكن لحاجة أنفسهم؛ كقوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)، وكقوله: (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، وهو حرف الوعيد. * * * قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

(187)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ... (187) قيل: (أَيَّانَ): متى قيامها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) أي: متى ثبوتها؛ يقال: رسا في الأرض: إذا ثبت، ورسا في الماء، ويقال للجبال: رواس؛ لثبوتها. ثم اختلف في السؤال عما كان: قَالَ بَعْضُهُمْ: كان السؤال عن الفناء وفناء الخلق وهلاكهم؛ لأنه قال في آخره: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) وونحوه قوله: (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً. . .) الآية، وذلك يكون في الدنيا. وقال قائلون: كان السؤال عن البعث وقيام الساعة؛ إنكارًا منهم إياها واستعجالا للعذاب؛ كقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا) وقولهم: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا. . .) الآية، وغير ذلك من الآيات؛ يدل على أن السؤال كان عن الساعة، وليس قوله: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) وأنه كان عن الفناء؛ إذ كانوا يعاينون الفناء؛ فلا يحتمل أن يكون السؤال عن ذلك. ثم يحتمل بعد هذا وجهين: أحدهما: إن كان السؤال من المكذب بها فهو سؤال استهزاء واستعجال لما ذكرنا، وإن كان من المصدق فهو سؤال استعلام وإشفاق؛ ليتأهبوا لها ويستعدوا؛ كقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا)، لما سمعوا من الآيات ما يقرب وقوعها؛ كقوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)، وقوله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ)، وقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)، ونحوه من الآيات، وما سمعوا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " بعثت أنا والساعة كهاتين ". وفي بعض الأخبار قال: " كادت الساعة أن تسبقني " وغير ذلك من الأخبار،

حملهم ذلك على السؤال عنها؛ ليتأهبوا لها ويستعدوا، زم أمره أن يقول: (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، أي: لا يكشفها ولا يظهر وقتها إلا هو، ليس كالأمور التي تجري على أيدي الخلق، ويكون لغيره فيها تدبير من اخراج الثمار والنبات والأمطار، وغير ذلك من الأمور التي تجري على أيدي الخلق ويكون لهم فيها تدبير، أعني الملائكة الذين سلطوا على حفظ المطر والنبات، وأما الساعة فإنها تقوم من غير أن كان لأحد من الخلائق تدبير فيها أو علم، وهو ما وصفها اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، أخبر أن أمر الساعة خارج عن تدبير الخلق؛ بل تقوم بتدبير اللَّه من غير أن يجريها على يد أحدٍ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). قيل: ثقلت على أهل السماوات والأرض. ثم اختلف فيه: قال قائلون: قوله: (ثَقُلَتْ) أي: خفيت على أهل السماوات والأرض، فذكر الثقل؛ لأن كل من خفي عليه شيء ثقل عليه، فذكر أنها ثقيلة عليهم؛ لخفائها عليهم. وقال قائلون: ثقل وقوعها على أهل السماوات والأرض؛ لكثرة أهوالها وشدة وقوعها. وأمكن أن يكون قوله: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على نفس السماوات والأرض؛ على ما ذكر في قوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) الآْية، وذلك من شدة هولها، ولكن إن كان على نفس السماوات والأرض، أي: لو كانت هي بحيث تعرف وتميز، وبنيتها بنية من يعرف ثقل شيء لثقلت عليها، وهو ما قلنا في قوله: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) والدنيا لا تغر أحدًا، أي: ما كان منها لو كان ممن يكون منه التغرير لكان تغريرًا؛ فعلى ذلك الأول.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا). اختلف فيه: قال قائلون: قوله: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا)، أي: مكرم مشرف عنده ذو منزلة فيعلمك عنها، وكذلك قيل: (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)، قيل: بارًّا رحيمًا. وقال قائلون: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) أي: عالم بها. وقال قتادة: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) بهم، كأنك تحب أن يسألونك عنها. وقال غيره: هو على التقديم والتأخير: يسألونك عنها كانك أحفي يعني كانك، استحفيت السؤال عنها حتى علمتها. ثم قال: (قُلْ) مالي بها من علم (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أنها كائنة. ويحتمل: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أنك لا تعلم أنها متى تكون؟ أو لا يعلمون ما عليهم وما لهم. وقال الحسن في قوله: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): إذا جاءت ثقلت على أهل السماوات والأرض، وكبرت عليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ثقل ذكرها على أهل السماوات والأرض. وقال قتادة: أثقل علمها على أهل السماوات والأرض. وأصله: ما ذكرنا، أي: خفي علمها على أهل السماء والأرض، وإذا خفي الشيء ثقل. وقوله: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) ما ذكرنا من التأويل، واللَّه أعلم.

(188)

وعلى قول بعضهم: الحفي: الخبير العالم، وقالوا: هو المشرف المكرم البار الذي لا يستخفي منه شيء ولا يلبس عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) قال بعض أهل التأويل: قوله: (لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا): الهدى والضلالة. وقال قائلون من أهل التأويل: لا أملك جرَّ النفع إلى نفسي ولا دفع الضر عنها (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)، أي: إلا إن أقدرني اللَّه على ذلك فأملك ذلك. ويشبه أن يكون قوله: (لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) قال ذلك؛ لئلا يتخذوه معبودًا، لا ينسبوه إلى اللَّه بالذي لا يليق النسبة به أنحو، ما قالت النصارى: (الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ)، (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات اللَّه؛ لعظيم ما وقع عندهم من محل هَؤُلَاءِ وقدرهم، فقال: (لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا)؛ لئلا ينسبوه إلى اللَّه من الوجه الذي نسب أُولَئِكَ، أظهر من نفسه العجز والعبادة، وهو ما قال عيسى صلوات اللَّه عليه حيث قال: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ. . .) الآية. وقال ابن عَبَّاسٍ في قوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا): وذلك أن أهل مكة قالوا: ألا يخبرك ربك يا مُحَمَّد بالتجارة المربحة فتتجر فيها فتربح، أو لا يخبرك بسنة القحط والجدوبة، أو يخبرك بوقت السعة والخصب؟! فقال عند ذلك: (وَلَو كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) من جدوبة الأرض والقحط؛ (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) يقول: لتهيأت لذلك (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) من الضر والشدة؛ إلى هذا ذهب عامة أهل التأويل. وقالوا في قوله: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ومن العمل الصالح. ولكن الوجه فيه غير ما ذهبوا إليه؛ لأنه إن كان لا يعلم متى يموت؟ لا يستكثر من

الخير ومن العمل الصالح، أو لو كان يعلم الغيب لاستكثر المال على ما قَالَ بَعْضُهُمْ؛ هذا بعيد. ولكن التأويل - واللَّه أعلم - أن يجعل قوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) أي: لا أعلم لكم نفعًا ولا ضرًّا، ولو كنت أعلم لكم الغيب لاستكثرت من الخير عند اللَّه، أي: لو كنت أعلم لكم ذلك لصدقتموني وآمنتم بي ولاستكثرت من الخير عند اللَّه بإيمانكم باللَّه وتصديقكم إياي. أو أن يقال: لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا، ولو كنت أملك لكم ذلك لاستكثرت من الخير؛ لأنكم إذا رأيتموني أملك نفع ما غاب عنكم ودفع ضر ما غاب، لآمنتم بي وصدقتموني، فأنا بذلك استوجبت عند اللَّه خيرًا كثيرًا، يجعل قوله: (وَلَو كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) جواب ما تقدم من الكلام، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) أي: لا أعلم الغيب إلا قدر ما أوحي إليَّ (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أعلم الغيب قبل أن يوحى إلي، ولو كنت أعلم ذلك لاستكثرت من الخير بذلك. وحاصل التأويل في قوله: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ): ما ذكرنا بتصديقكم إياي وإيمانكم بي، أو ما ذكرنا من السعة والخصب في الدنيا لأهله ولأصحابه، أو ما ذكرنا، أي: لو كنت أملك لكم نفع ما غاب عنكم ودفع ضرر ما غاب -أيضًا- لآمنتم بي وصدقتموني، فأنا بذلك استوجبت عند اللَّه خيرًا كثيرًا. وجائز أن يكون قوله: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أي: لو كنت أعلم من المصدق ومن المكذب لاستكثرت من الخير؛ لأنه لا يشتغل بمن يعلم أنه يرد ولا يجيب، وإنما يشتغل بمن يعلم منه أنه يجيب ولا يكذب، فيستكثر أتباعه والمطيعين لله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) هو صلة قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) كانوا يقولون: إن به جنونًا، فقال: (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) من النسبة إلى الجنون، ويقول: ما مسني السوء منكم: سوء ردٍّ وتكذيب؛ لأنه لو علم الذي يجيبه ويصدقه من الذي لا يجيبه ولا يصدقه، لم يمسه سوء من الرد والأذى؛ لأنه لا يشتغل به

(189)

يعد ما أقام عليه الحجة وعلم من المجيب منكم ومن الرادِّ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [ ..... ]. * * * قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا. . .) الآية. قال عامة أهل التأويل: إن آدم وحواء لما أهبطا تغشاها آدم، فحملت، فأتاها إبليس فقال: يا حواء، ما هذا الذي في بطنك؟ قالت: لا أدري، قال: لعله بهيمة من هذه البهائم: ناقة، أو شاة، أو بقرة، قالت: لا أدري، فأعرض عنها، فلما

أثقلت أتاها فقال: كيف تجدينك؟ قالت: إني لأخاف أن يكون الذي ذكرت، ما أستطيع القيام إذا قعدت إلا بجهد، قال: أفرأيت إن دعوت اللَّه يجعله إنسانًا مثلك ومثل آدم أتسمينه بي؟ قالت: نعم، فانصرف عنها، وقالت لآدم: لقد أتاني آت فخوفني بكذا، وإني لأخاف مما ذكر، فدعوا اللَّه في ذلك بقوله: (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا)، يقول: جعلته إنسانًا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، فكان هذا دعاؤهما قبل أن تلد، فلما ولدت أتاها إبليس وقال: ألا تسمينه بي كما وعدتني؟ قالت: نعم، ما اسمك؟ قال: اسمي الحارث، فسمته: عبد الحارث؛ فذلك قوله: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا)؛ على هذا حمل أهل التأويل الآية وإلى آدم وحواء صرفوها، وذلك وخش من القول، قبيح في آدم وحواء ذلك، ولو ثبت ما قالوا: إنهما سميا ولدهما باسمه ونسباه إليه، لم يكن في ذلك إشراك؛ إذ لو كان في مثله إشراك لكان فيما أضاف العبيد والمماليك إلى الخلق إشراك في ألوهيته. ثم التأويل عندنا على غير ما ذهبوا إليه - واللَّه أعلم - وهو أن قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) يعني: من آدم، (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا): حواء، أي: خلق الذكور كلهم من آدم، وخلق الإناث كلهن من حواء؛ كقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)، أخبر أن الأزواج خلقهن من نفس الأزواج، فلما أضاف الزوجات

إلى أنفس الأزواج وأنهن من أنفسهم خلقهن؛ كان قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) كل زوجة وزوج إذا تغشاها وحملت دعا آدم وحواء: (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) إذ جميع الأولاد أولادهما، يدعون اللَّه في ذلك ليكون صالحًا؛ فمن كان مسلمًا منهما كان بدعائهما؛ فعلى هذا التأويل يحصل دعاؤهما لأولادهما الذين يولدون إلى يوم القيامة؛ لأنهما أب وأم، وقد يدعو الوالدان لأولادهما بالصلاح والخير؛ على هذا يجوز أن يخرج تأويل الآية، وأما ما قال أُولَئِكَ فهو بعيد محال، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن العرب كان إذا ولد لهم أولاد ذكور ينسبون إلى الأصنام التي يعبدونها ويضيفون إليها؛ تعظيمًا لها؛ يقولون: ابن اللات، وابن العزى، وابن المناة، ونحو ذلك، وكانوا يقتلون البنات، وكان إذا أصابتهم الشدة يفزعون إلى الله ويتضرعون إليه؛ كقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وكقوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ. . . .) الآية (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ. . . .) الآية، فلما ذهب ذلك عنهم وانجلى عادوا إلى ما كانوا من قبلِ؛ كقوله: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)، وقوله: (ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ. . .) الآية، فإذا كان من عادة العرب ما ذكرنا، كان إذا حملت زوجة منهم وثقل ما في بطنها، جعلا يدعوان اللَّه ربهما لئن آتيتنا صالحًا ذكرًا وسلمت من الولادة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) يعني: ذكرًا (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ

فِيمَا آتَاهُمَا) أي: جعلا لله شركاء في الولد الذي ولد لهما، وينسبونه إلى الأصنام التي كانوا يعبدونها، فذلك قوله: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) فتعالى اللَّه عما يشركون، والله أعلم بذلك. وقال الحسن: الآية في مشركي العرب، إلا قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) فإن ذلك في آدم وحواء. ألا ترى أنه قال: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) دل أنه ما ذكرنا. وقال أبو بكر الأصم: قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهي نفس آدم (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أي: خلق كل نفس منكم من تلك النفس، وجعل لكل نفس منكم زوجة من تلك النفس ليسكن إليها؛ فعلى هذا التأويل يصرف آخر الآية إلى غير آدم وحواء. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله (فَمَرَّتْ بِهِ) أي: استمرت بالحمل، وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إن العرب كانت تعبد الأصنام تقليدًا لآبائهم وسلفهم، فيذكر سفههم أن النفس التي خلقتم منها لم تقلد أحدًا، ولم تشرك أحدًا، إنما اتبعت ما في العقل حسنه، أو ما في السمع من الأمر، فكيف اتبعتم أنتم النفس التي خلقتم منها، وهي لم تتبع إلا ما ذكرنا دون ما اتبعتم في الإشراك له آباؤكم. ولو كانت القصة في آدم على ما يقول أهل التأويل، فيكون للعرب بها تعلق واقتداء، فيقولون: إنه أشرك، ونحن نشرك، فدل أنه ليس على ما قالوا، ولكن على الوجوه التي ذكرنا. وفي قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) دلالة أن ليس لأحد من البشر على آخر فضل من جهة الخلقة والنسبة؛ إذ كلهم إنما خلقوا من نفس واحدة، وهم إخوة

(191)

وأخوات، وإن كان لأحد فضل على آخر فإنما يكون لأعمال يكتسبها، وأخلاق محمودة ومحاسن يختارها، وأما من جهة الخلقة فلا فضل لبعض على بعض؛ كقوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) يذكر سفههم أنهم يشركون في عبادته وألوهيته من يعلمون أنه لم يخلقهم، وإنَّمَا خلقهم اللَّه - سبحانه وتعالى - وهم مخلوقون؛ فصرف العبادة إلى غير الذي خلقهم سفه وجور. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) يسفههم -أيضًا- أن في الشاهد لا يخضع أحد لأحد ولا يشكر له إلا مجازاة لما سبق منه إليه من النعمة، أو لما يأمل في العاقبة من المنفعة، وأنتم تعبدون هذه الأصنام ولم يسبق منها إليكم شيء، ولا لكم رجاء يقع في العاقبة؛ فكيف تعبدونهم؟! (وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا) لا يدفعون عنهم الضر (وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي: ولا من قصد قصدهم بالكسر والإتلاف يملكون دفعه عن أنفسهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ). يحتمل هذا وجهين: يحتمل: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) يعني: الأصنام، (إِلَى الْهُدَى): ليهتدوا، (لَا يَتَّبِعُوكُم) أي: لا يجيبوكم ولا هم يهتدون. والثاني: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) إلى ما لكم إليه من حاجة (لَا يَتَّبِعُوكُم): لا يقضون ولا يملكون ذلك. ويحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين؛ يقول: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي: أهل مكة

(194)

(إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ) أي: لا يجيبوكم. وجائز أن يكون يخاطب به أهل مكة؛ يقول: وإن تدعوا الأصنام التي تعبدونها إلى الهدى لا يملكون إجابتكم؛ يسفههم في عبادتهم من حاله ما وصف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ). أمكن أن تكون الآية في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ كقوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) يعني: المشركين (إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ)؛ فعلى ذلك يخرج قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ). وأمكن أن يكون قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ) في الأصنام، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ... (194) يحتمل قوله: (تَدْعُونَ) أي: تعبدون من دون اللَّه، وقد كانوا يعبدون من دون الله أصنامًا وأوثانًا. ويحتمل (تَدْعُونَ) أي: تسمونهم من دون اللَّه آلهة. وقوله: (عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) في الخلقة والدلالة على وحدانية اللَّه في التدبير دونهم؛ لما قال: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا. . . .) إلى آخر ما ذكر، أي: ليس لهم ما ذُكِر فهم دونهم في التدبير والمعونة. ويحتمل قوله: (تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) الملائكة الذين عبدوهم أهم، عباد أمثالكم، فلا تسموهم آلهة، أي: لا تعبدوا عبادًا أمثالكم، ولكن اعبدوا من لا مثل له ولا نظير له. وإن كان قوله: (عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) الملائكة، فقوله: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا. . . . .) الآية، هو منه مقطوع منصرف إلى الأصنام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). ذكر الدعاء والاستجابة، ولم يبين في ماذا يستجيبون، ولا يجب أن تفسر الاستجابة في الشفاعة، أو في التقريب إلى اللَّه، أو في غيره؛ إلا أن يعلم أنهم كانوا يدعونهم بكذا،

(195)

ويطلبون منهم كذا وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنهم آلهة على ما تزعمون. أو (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فيما تزعمون أن عبادتكم إياها تفربكم إلى اللَّه زلفى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) يسفه عقولهم بعبادتهم الأصنام التي لا أرجل لهم يمشون بها يهربون ممن يقصدهم بالسوء، أو يقصدون بها قصد من أراد الضر بهم والسوء، وكذلك يعبدون ما لا أيدي لهم يبطشون بها ويدفعون عن أنفسهم من أراد السوء، أو يأخذون من يقصدهم، وكذلك قوله: (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ) يبصرون من يقصدهم بالسوء، (أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) من يشتمهم ويذكرهم بالسوء، يسفههم في عبادتهم من لا يملك دفع من يقصده بالسوء، إما هربًا منه، وإما قصدا منه إليه بالسوء، فإذا كانوا لا يملكون ذلك كيف تعبدونهم؟! وهو كقول إبراهيم - عليه السلام -: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، فإذا كانوا لا يملكون دفع ما يحل بهم، فكيف يملكون جر النفع إليكم، أو دفع الضر عنكم؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ). قال بعض أهل التأويل: خاطب به كفار مكة بقوله: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ) الذين تزعمون أنهم آلهة دون اللَّه. ويحتمل قوله: (شُرَكَآءَكُم) أي: ادعوا من شاركوكم في عبادة من دونه ثم كيدون. ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الكفار الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان من دون اللَّه، قال ذلك لهم رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بين ظهرانيهم: (ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ) فلم يقدر أحد الكيد به والضرر مع قوتهم وعدتهم بالكثرة والأعوان، وضعف رسول اللَّه، وقلة أعوانه؛ دل عجزهم عن ذلك أنه كان آية في نفسه، وأنه باللَّه - تعالى - ينتصر، وبه قوي على أعدائه، وذلك من عظيم آياته؛ لأنه قال ذلك لمن كانت همتهم

(196)

القتل والإهلاك لمن خالفهم فيما هم فيه، ثم لم يقدر أحد منهم الضرر به؛ دل أنه كان باللَّه حفظه، وكذلك سائر الأنبياء - صلوات اللَّه عليهم - حيث قالوا بين ظهراني قومهم - من نحو هود ونوح وهَؤُلَاءِ -: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ)، وقال نوح: (قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ. . . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) ذكر هذا على إثر قوله: (ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ)؛ كما ذكر هود: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ). وكما قال نوح: (إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ). فزعوا إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عند وعيد قومهم بالإهلاك، وعليه اعتمدوا، وبه وثقوا؛ فعلى ذلك رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي: هو وليي يحفظني، وهو يتولى حفظ الصالحين، أي: بتوليه صلحوا. أو يتولى ويحفظ الصالحين مقابل قول من ذكرنا من الرسل لقومهم. ثم قوله: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ) عَزَّ وَجَلَّ. يحتمل: حافظي وناصري. أو وَلِيِّي تدبيري اللَّه (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ). أو ولي أمري. أو أولى بي اللَّه (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ) الذي عجزت الخلائق عن إتيان مثله (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) يذكر سفههم بعبادتهم من عجز عن دفع الضرر عن نفسه، فضلاً أن يدفع ذلك عنهم أو يجروا إلى أنفسهم منفعة، وأخبر عن جهلهم أنهم يعبدون من لا يملك دفع ضر ولا جر نفع. وقوله: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يخاطب به المؤمنين بقوله:

(199)

وإن تدعو أهل مكة إلى الهدى، (لَا يَسْمَعُوا) أي: لا يجيبوا (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) أي: لا ينتفعون به، أو لشدة تعنتهم لا يبصرون. وجائز أن يكون يقول: وإن تدعوا الأصنام التي تعبدون إلى الهدى (لَا يَسْمَعُوا) أي: لا يجيبوا، ولا يملكون الإجابة. ويحتمل (لَا يَسْمَعُوا) حقيقة السمع، (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) على التمثيل، أي: كأنهم ينظرون إليك، وهم لا يبصرون حقيقة. * * * قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُذِ الْعَفْوَ) يتوجه وجهين: أحدهما: على حقيقة الأخذ. والثاني: على العمل بالعفو. فإن كان على الأخذ فهو على وجهين: الأول:، يحتمل أن خذ الفضل الذي لا حق فيه، وهو القليل من ذلك واليسير. والثاني: أن خذ ما يفضل من أنفسهم وحوائجهم من غير مسألة، أي: اقبل منهم ما أعطوك، ولا تلح في المسألة؛ كقوله: (وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا). أخبر أنه إن يسألهم أموالهم حملهم ذلك على البخل. وإن كان على العمل فهو على وجوه: أي: اعف عن الظلمة، عن ظلمهم، وأعرض عن السفهاء واحلم معهم؛ أمر رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أن يعامل الخلق بأشياء ثلاثة: أمر أن يعفو عن الظلمة عن ظلمهم، لا يكافئهم بظلمهم، وأمر أن يعرض عن السفهاء والجهال ويحلم معهم، وأمر أن يعامل المؤمنين باللين والرفق؛ ولذلك وصفه بالرحمة والرأفة بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

وروي عن عبد اللَّه بن الزبير قال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) قال: ما أنزل اللَّه هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وعن قتادة: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) قال: خلق حسن أمر اللَّه به نبيه ودعاه إليه. إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل، وإلى ذلك صرف تأويل الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو أخذ الفضل من المال على ما ذكرنا؛ فهو منسوخ بآية الزكاة. وروي في حرف ابن مسعود وأبي: (خذ العفو وأمر بالعرف وانه عن المنكر وأعرض عن الجاهلين). وفيه دلالة أنه أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمعروف: هو اسم كل خير، وأمره بأن يأخذ بالعفو عن الظلمة، على ما ذكرنا، وعلى ذلك روي عن عائشة قالت: كان رجل يشتم رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ويؤذيه، فدخل على رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فأوسع له، وأدناه، ورحب به؛ قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، أليس هذا كان يشتمك؟ قال: " بلى يا عائشة؛ إن من شرار الناس الذين يكرمون اتقاء شرورهم وألسنتهم " إلى مثل هذا دعى رسول اللَّه بالعفو والصفح عن الظلمة وترك المكافأة. وقوله: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي: مر الناس بالعرف، وهو ما تشهد خلقتك وتأمرك به أشياء ثلاثة، اثنان فيما بينه وبين ربه، والواحد فيما بينه وبين الناس؛ أما الاثنان اللذان فيما بينه وبين ربه: أحدهما: تأمر خلقته، وتشهد على وحدانية اللَّه، والدلالة على ألوهيته.

(200)

والثاني: تشهد على نعم اللَّه إليه فيدعوه إلى الشكر له فيما أنعم اللَّه عليه. وأما الوجه الذي تدعو خلقته فيما بينه وبين الناس: فهو ما ترغب نفسه في كل محاسن ومرغوب فيه، وتنفر نفسه عن كل أذى وسوء، فأمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يعامل الخلق بما ترغب نفسه وتطمع في المحاسن، وتنفر عنه وتكره، يفعل إليهم في كل ما ترغب نفسه فيه وتطمع، ويمتنع عن كل أذى وسوء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) قَالَ بَعْضُهُمْ: النزغة هي أدنى أفعال المعصية؛ وكذلك فسره ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - يقول: إذا أذنبت ذنبا فاستعذ باللَّه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) أي: يستخفنك، ويقال: نزغ شيئًا: إذا أفسده. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: النزغ: التحريك للفساد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) أي: يوسوسك الشيطان وسوسة فاستعذ باللَّه. ثم في الاستعاذة وجهان: أحدهما: أمره بالفزع إلى اللَّه عند ما يوسوسه الشيطان والالتجاء إليه؛ لما رأى نفسه عاجزة عن دفع ما يوسوس إليه، ورد ما يكون؛ فهو الدافع عنه ذلك وهو الراد. وقال الخليل: أعوذ باللَّه، أي: ألجأ إلى اللَّه - تعالى - وكذلك قوله: أستعيذ باللَّه، ومعاذ اللَّه معناه: أعوذ باللَّه، ومنه الإعاذة والتعوذ والتعويذ. وقال غيره: أعوذ باللَّه، أي: أمتنع باللَّه. وقيل: أعوذ باللَّه، أي: أتحصن باللَّه. وقيل: الاستعاذة: هي الاستغاثة باللَّه؛ لدفع ما اعترض له من الشيطان. وكله قريب بعضه من بعض. ثم الحكمة فيما جعل عدوهم من غير جنسهم من حيث لا يرونه ويراهم وجهان:

(201)

أحدهما: ليكونوا أبدًا على التيقظ والانتباه، غير غافلين عنه. والثاني: ليكونوا أبدًا فزعين إلى اللَّه - تعالى - متضرعين إليه، مبتهلين؛ ليكون هو الحافظ لهم، والدافع عنهم شره ووسواسه. وفيما أمر بالفزع إلى اللَّه والاستعاذة به عند نزغ الشيطان نقض على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: قد أعطاهم جميع ما يدفعون به وساوسه ونزغاته، حتى لم يبق عنده شيء يعيذه؛ فعلى قولهم يخرج طلب الإعاذة مخرج كتمان النعمة، أو مخرج الهزء به؛ أما الهزء به، لأنه يسأله ما يعلم أنه ليس ذلك عنده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وقرئ: (طيف من الشيطان)؛ فمن قرأ: (طيف) قال: أي، اللمة والخطرة

والشيء يغشيك. وقال: وأما الطائف فهو من الطواف. وقيل: الطيف: الوسوسة. وقيل: ما يأتيك من الشيطان. وقيل: الطائف والطيف سواء. وعن ابن عَبَّاسٍ: (إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) قال: إذا أذنبوا ذنبًا (تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) يقول: تذكروا ذنوبهم فتابوا منها، وكذلك قال في قوله: (يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ): هو أدنى ذنب يرتكبه، فإن كان على هذا فهو يخرج على النهي عن ذلك، فهو كالمخاطبات التي خاطب بها رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كقوله: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، وإن كان يعلم أنه لا يشك ولا يجهل ولا يشرك غيره في أمره؛ فعلى ذلك هذا الخطاب الذي خاطبه بقوله: (يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ). وإن كان ما ذكر هو من أدنى ذنب يرتكبه، فهو يخرج ذلك على تعليمه أمته أن كيف يفعلون إذا اعترض لهم ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ).

(202)

يحتمل أن يكون قولهأ: (اتَّقَوْا) مكائد الشيطان؛ إذا أصابهم شيء من ذلك تذكروا ذلك، فعرفوا أنه من الشيطان، (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي: أبصروا أنه من الشيطان. أو أن يقال: أي: هم من أهل البصر يبصرون عما اتقوا به أنه من الشيطان. ويحتمل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) المعاصي، إذا أصابتهم وسوسة من الشيطان تذكروا ذلك. وقال أهل التأويل: قوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي: اتقوا الشرك، لكن لا كل من اتقى الشرك يكون كما ذكر. وقوله: (إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا. . .) الآية. يحتمل وجوهًا: أحدها: إذا مسهم ذلك تابوا عما كان منهم؛ كقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً. . .) الآية. والثاني: (تَذَكَّرُوا) وجوه حيل دفع وساوسه. والثالث: (تَذَكَّرُوا) واستعاذوا به حيث أمرهم بالاستعاذة به عند النزغة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) قال بعض أهل التأويل: قوله: (وَإِخْوَانُهُمْ) يعني: إخوان الكفار الشياطين، (يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ) قالوا: في الشرك والمعصية، (ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ)، عنها؛ أي: لا ينتهون عنها، ولا يبصرونها كما أبصر الذين اتقوا عنها حين أبصروها. ويحتمل أن يكون قوله: (وَإِخْوَانُهُمْ) يعني: أصحاب الذين اتقوا، وهم شياطينهم من الإنس يدعونهم إلى دينهم، لكنهم لا يجيبونهم ولا يطيعونهم فيما يدعون إليه؛ إذ يجوز أن يكون لكل مؤمن شيطان من الإنس وشيطان من الجن؛ كقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) فقد دعا أُولَئِكَ شياطين الجن فتذكروا فلم يجيبوهم، ثم دعاهم شياطين الإنس -أيضًا- فلا يجيبونهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا). ظاهر الآية في سؤال أهل الكفر رسول اللَّه الآية أنهم كانوا إذا أتى لهم بآية استهزءوا

(204)

بها وتعنتوا، وإذا لم يأتهم بها سألوه الآية سؤال المستهزئين المتعنتين، وإذا لم يأتهم بها قالوا: (لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا): لولا ابتدعتها وأحدثتها وأنشأتها، وهلا أنشاتها من قبل نفسك، فقال: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي: لا أفتعلها، ولا أنشئها من نفسي، إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي. وأمكن أن يكون سؤال الآية من المؤمنين؛ فإن كان منهم فهو سؤال الاسترشاد؛ لما يزداد لهم بكل آية تنزل عليهم يقينًا وقوة في دينهم؛ كقوله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا. . .) الآية، (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا) الآية، وكقوله: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ. . .) الآية فإذا كان السؤال من المؤمنين فهو سؤال الاسترشاد وطلب زيادة الهدى، وإن كان من الكفار فهو سؤال الاستهزاء والتعنت، ثم أخبر أنه لا يتبع إلا ما يوحى إليه، ثم أخبر أنه (بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ). قيل: بيان، أي: هذا القرآن بيان من ربكم يبصر به من لم يعاند ولم يكابر عقله ككَ ما له وما عليه، وأنه البيان من الحق والباطل، (وَهُدًى) من الضلالة (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي: ورحمة من العذاب. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا. . . . .) الآية. أمر اللَّه - تعالى - بالاستماع إلى هذا القرآن والإنصات له إذا قرئ، وإن كان في العقل أن من خاطب آخر بمخاطبات يلزمه الاستماع إلى ما يخاطبه ويشافهه، فاللَّه - سبحانه - إذا خاطب بخطاب أولى أن يستمع له مع ما ذكر في غير موضع من القرآن آيات ما يوجب في العقل الاستماع إليه؛ كقوله: (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ)، وقوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) وغير ذلك من الآيات، ولا سبيل إلى أن يعرف أنه بصائر، وأنه هدى وما ذكر إلا بالاستماع إليه والتفكر فيه؛ فدل أن الاستماع لازم في العقل من له أدنى عقل؛ على ما ذكرنا من المخاطبات، لكنه ذكر -

هاهنا - الاستماع إليه - واللَّه أعلم - لوجهين: أحدهما: مقابل ما كانوا يقولون: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)، أمر - عَزَّ وَجَلَّ - المؤمنين بالاستماع إليه مكان قولهم: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ) وأمر بالإنصات مكان ما يقولون: (وَالْغَوْا فِيهِ). والثاني: يجوز أن يكون أمر بالاستماع إليه في الصلاة؛ على ما قال بعض أهل التأويل أنه في الصلاة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في حال الخطبة؛ لما يسبق إلى أوهامهم أنه لما اشتغلوا بغيرها من العبادات ولزموا أنواع القرب أن يسقط عنهم حق الاستماع، فأمر بالاستماع إليه، والإنصات له؛ ليعلموا أن حق الاستماع لازم في كل حال. ثم الاستماع إليه يكون لتفهم ما أودع فيه من الأمر والنهي، والوعد، والوعيد، وغيره، والإنصات للتعظيم والتبجيل. ثم الاستماع له لم يلزم لنفس التلاوة، ولكن إنما يلزم لما أودع فيه من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وغيره؛ ليفهموا ما فيه، ويقبلوه، ويقوموا بوفاء ذلك، وأمّا سائر الأذكار إنما صارت عبادة لنفسها؛ لذلك لم يلزم الاستماع إلى سائر الأذكار، ولزم لتلاوة القرآن. ولأن القرآن كلام اللَّه وكتابه، ومن الجفاء والاستخفاف أن يكتب إنسان إلى أخيه كتابًا لا ينظر فيه ولا يستمع له؛ فترك الاستماع إلى كتاب اللَّه أعظم في الجفاء والاستخفاف.

ولأن القرآن يجهر به، وسائر الأذكار لا تجهر، فإن كانت تجهر فيستمع لها كما يستمع إلى القرآن، واللَّه أعلم. وذكر في بعض القصة أن الآية نزلت في الصلاة؛ لأن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ في صلاته كانوا يقولون مثل ما قال، فنزلت الآية بالنهي عن ذلك، والأمر بالاستماع إليه والإنصات له. وذكر أنهم كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار؛ فنزلت الآية لذلك، فلا ندري كيف كانت القصة؟ وفيم كانت؟ وقد يحتمل ما ذكرنا آنفًا. ثم إن كانت الآية في الصلاة ففيه دلالة النهي عن القراءة خلف الإمام؛ لأنه أمر بالاستماع إليه والإنصات له، وعلى ذلك جاءت الأخبار؛ روي عن أبي العاليهَ قال: كان نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى قرأ أصحابه أجمعون خلفه، حتى نزل: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) فسكتوا. وعن علباء بن أحمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قرأ في صلاة الفجر " الواقعة "، وقرأها رجل خلفه، فلما فرغ من الصلاة قال: " من الذي ينازعني في هذه السورة " فقال رجل: أنا يا رسول اللَّه؛ فأنزل اللَّه: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) وغير ذلك من الأخبار. فقال قوم: إن الإنصات الذي أمر به المؤتم معناه ألا يجهر بقراءته، وليس فيه نهي أن يقرأ في نفسه.

وزعم بعضهم أن القارئ خفيا يسمى ناصتًا ومنصتًا، واستدل بما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا كبر سكت بين التكبير والقراءة، قلت: بأبي أنت، أرأيت سكاتك بين التكبير والقراءة، أخبرني ما تقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: " أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المغرب والمشرق " وغير ذلك من الدعوات، فقال هذا القائل: قد سمى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ القارئ مخفيا ساكتًا، والصامت مثل الساكت، فيجوز أن يسمي صامتًا، وهو أن يقرأ مخفيًا، كما يسمى ساكتا. قَالَ الْقُتَبِيُّ: غلط هذا القائل في تشبيه الصامت بالساكت؛ لأن الأسماء لا تقاس، قوله تعالى: وإنما يطلق في كل واحد منهما ما أطلقته اللغة فيه. ومما يبين غلطه أن اللَّه يقول: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)، فلو كان القارئ مخفيًا يسمى صامتًا ناصتًا ما كان مستمعًا، وإنَّمَا يكون مستمعًا صامتًا إذا صمت فلم يقرأ؛ فمن أطلق له أن يقرأ والإمام يقرأ فلم يستمع، ولا أنصت. ومما يدل على غلطه -أيضًا- أن العلماء جميعًا ينهون المؤتم عن القراءة وإمامه يجهر بالقراءة، وإنَّمَا يأمر من يأمره بالقراءة خلف الإمام أن يقرأ إذا سكت إمامه، ويأمر هَؤُلَاءِ الإمام أن يقف ساعة إذا فرغ من قراءته حتى يقرأ المؤتمون، فلو كانوا يجعلون القارئ في نفسه والإمام يقرأ جهرًا صامتًا ما أمروه بتأخير القراءة حتى يفرغ إمامه من القراءة؛ فهذا يبين غلط المستدل بحديث أبي هريرة في استدلاله. ومما يدل على أن المؤتم منهي عن أن يقرأ والإمام يجهر ما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم صلاة - فظن أنها الصبح - فلما سلم أقبل على الناس، قال: " هل يقرأ أحد منكم؟! فقال رجل: أنا، فقال النبي: " إني أقول: ما لي أنازع القرآن " قال أبو هريرة: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه النبي صلى اللَّه عليه

وسلم. فقال قوم: إن أبا هريرة قال: انتهى الناس عن القراءة خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فيما جهر فيه. فيقال: إن أبا هريرة لم يرو ذلك عن النبي. ثم مما يدل على أن المؤتم لا يقرأ جهر الإمام أو خَافَتَ قول النبي: " ما لي أنازع القرآن؟ " وقد علمنا أن المؤتم لم يجهر بقراءته؛ فيتأول متأول منازعته النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أنه شغله؛ فلا وجه لقوله: " ما لي أنازع القرآن؟ " إلا بنهيه المؤتم عن أن يقرأ، جَهَرَ إمامُه أو خَافَتَ. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يبين النهي عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه أو يخافت: ما روي عن عمران أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلى بأصحابه الظهر، فلما قضى صلاته قال: " أيكم قرأ بسبح اسم ربك الأعلى؟ " فقال بعض الناس: أنا يا رسول اللَّه، فقال: " قد عرفت أن بعضكم خالجنيها ". فبين عمران بن حصين أن الرجل خافت بقراءته؛ دل أن النهي الذي رواه أبو هريرة لم يكن في حال جهر الإمام دون مخافتته، وأن المؤتم منهي عن القراءة خلف الإمام في كل الصلوات. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنهي عن القراءة خلف الإمام أحاديث كثيرة منها: ما روي عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعمران بن حصين عنه، وما روي عن عبد اللَّه: كنا نقرأ خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خلطتم عليَّ القرآن ". فَإِنْ قِيلَ: لعلهم كانوا يجهرون بالقرآن، فنهى عن الجهر. قيل له: لم ينقل لنا في شيء من الأخبار أن المؤتمين كانوا يقرءون جهرًا، ولو كانوا يقرءون جاهرين، لأدّي ذلك إلينا كما أدّي أنهم كانوا يقرءون.

وفي ذلك وجه آخر: أنه لم يكن النهي عن الجهر خاصة، ولكن للقراءة نفسها ما روي عن أبي وائل قال: سألت عبد اللَّه ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام، فقال: أنصت، فإن في الصلاة شغلا، وسيكفيك ذلك الإمام. وعن عبد اللَّه بن شداد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ". وعن جابر بن عبد اللَّه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلَّى ورجل خلفه يقرأ، فنهاه رجل من أصحاب النبي عن القراءة في الصلاة، فتنازعا فيه، حتى ذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " من صلى خلف إمام فقراءة الإمام له قراءة ". وعن أبي موسى، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " وإذا قرأ الإمام فأنصتوا ". وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر

فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا " وغير ذلك من الأحاديث. وأكثر ما يحتج به المخالف لعلمائنا - رحمهم اللَّه - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن " يرويه عبادة ابن الصامت. قال سفيان: هذا عندنا فيمن يصلي وحده؛ فذلك يحتمل، والأحاديث التي جاءت مفسرة في النهي عن القراءة خلف الإمام. فإن قال: يترك المؤتم القراءة فيما يجهر فيه إمامه بحديث أبي هريرة، ويقرأ فيما يخافت بحديث عبادة بن الصامت؛ ليصلح حديث أبي هريرة وحديث عبادة جميعًا. قيل له: فهلا جعلته في المصلي وحده ليصح حديث عبادة، وحديث عمران بن حصين؛ لأن حديث عمران بن حصين، ينهى عن القراءة خلف الإمام، فيما خافت، وحديث أبي هريرة عن القراءة فيما يجهر فيه؛ فإن جعلت حديث أبي هريرة خارجًا عن عموم حديث عبادة، فذلك يوجب ألَّا يقرأ المؤتم فيما يجهر فيه إمامه ويخافت، ويقال له: هل رأيت فرضًا من فرائض الصلاة يسقط عن المؤتم في حال، ويجب عليه في حال؟

فإن قال: لا. قيل: ففي إسقاطك تلك القراءة عنه في حال الجهر ما أوجب عليك أن تسقطها عنه في حال المخافتة. وقد احتج بعض أصحابنا في ذلك بأن قالوا: وجدنا الرجل إذا جاء إلى الإمام وهو راكع فكبر ودخل في صلاته ولم يقرأ، فكل يجمع أن صلاته تجزئه، فدل ذلك أن القراءة غير فرض عليه. فإن قال: إنما أطلق له ذلك للضرورة. قيل: لو جاء إلى الإمام وهو ساجد، لم يعتد بتلك الركعة والضرورة قائمة، فلو كانت الضرورة تزيل فرضا لأزالت الركوع عمن لحق إمامه وهو ساجد، فهي لا تزيل فرض القراءة عمن لحق إمامه، ولكن لا يلزمه القراءة خلف الإمام؛ فلذلك أجزأته صلاته لا للضرورة التي ذكرت، واللَّه أعلم. وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا: لا قراءة على من خلف الإمام، منهم: علي، وابن مسعود، وجابر، وسعد، وأبو سعيد، وابن عمر، وابن عَبَّاسٍ، وزيد بن ثابت، رضي اللَّه عنهم. أما عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة. وعن عبد اللَّه قال: من قرأ خلف الإمام ملئ فوه ترابًا. وعن زيد بن ثابت قال: من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له. وعن سعد قال: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فمه جمرة. وعن ابن عمر كان إذا سئل: هل يقرأ أحد خلف الإمام؟ قال: لا، فإذا صلى أحدكم وحده فليقرأ.

(205)

وكان ابن عمر لا يقرأ خلف الإمام. وعن أبي سعيد أنه سئل عن القراءة خلف الإمام، قال: يكفيك ذلك الإمام. وعن ابن عَبَّاسٍ أن رجلاً سأله: أقرأ خلف الإمام؟ قال: لا. إلى مثل هذه الأحاديث ذهب أصحابنا، وعلى ذلك دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)

اختلف أهل التأويل في الذكر الذي ذكر في الآية؛ منهم من صرف التأويل إلى كل ذكر. ومنهم من صرفه إلى التلاوة؛ فإن كان ذكر الغدو والآصال كناية عن الليل والنهار فهو ذكر أحواله يذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بنعمه وإحسانه، وذكره بنعمه شكره، أو يذكره بقدرته وسلطانه، وذلك يحمله على الخضوع له والتواضع، أو يذكر أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وذلك يوجب الإقرار بالتقصير، والخوف لعقوبته، والرغبة في وعده؛ كأنه قال: واذكر ربك في كل حال من الليل والنهار إما شكرًا لنعمه وإحسانه، وإما الإقرار بالتقصير في أمره ونهيه، وإما الخوف لوعيده، وإما الرغبة لوعده، فكأنه قال: اذكر ربك تضرعًا وتواضعًا وخيفة مع الخوف. وإن كان تأويل الغدو والآصال كناية عن الغداة والعشي، فهو كناية عن التلاوة، وهو ما سبق من ذكر التلاوة من قوله: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) وقوله: (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى)، وهو كقوله: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) وتأويله - واللَّه أعلم -: ولا تجهر بصلاتك في بعض صلاتك، ولا تخافت في بعضها. أو أن يقال: لا تجهر الجهر العالي، ولا تخافت غاية المخافتة، ولكن بين ذلك. أو أن يقول: لا تشتغل بالجهر، ولا بالمخافتة، ولكن اقرأ لما فيه، فعلى ذلك قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ). وقرأ بعضهم: (وَخِفْيةً) وهو من الإخفاء؛ حيث قال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ)، وأما ظاهر القراءة فهو (وَخِيفَةً)، وهو من الخوف. وقال مجاهد: رخص اللَّه أن تذكره في نفسك تضرعًا وخيفة، وأنت خلف الإمام تسمع قراءته. (وَالْآصَالِ)، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: العشيات، الواحد: أصل وأصيل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ).

(206)

معلوم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن من الغافلين في حال، ولكن على النهي لأمته؛ كقوله: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) و (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ونحوه، نهاه أن يكونن ما ذكر؛ لما ذكرنا نهيا لغيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ... (206) قالت المشبهة: لو لم يكن بين اللَّه وبين الملائكة قرب الذات لكانوا هم والبشر بقوله: (عِنْدَ رَبِّكَ) سواء، لكان لا معنى لتخصيص الملائكة بذلك. لكن التأويل عندنا في قوله: (عِنْدَ رَبِّكَ): في الطاعة والخضوع، أو في الكرامة والمنزلة، ليس على قرب الذات، ولكن على ما وصف - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وقوله: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)، وصفهم بالطاعة له والخضوع؛ فعلى ذلك الأول، ليس على قرب الذات، ولكن على ما ذكر من الطاعة والخضوع. ألا ترى أنه قال: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، ليس على أنه في الأرض يقترب منه إذا سجد؟!. وأصل ما يضاف إلى اللَّه من جزئية الأشياء يخرج مخرج تعظيم تلك الجزئيات؛ كقوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)، خص المساجد بالإضافة إليه، وإن كانت البقاع كلها له؛ تعظيمًا لها، وكذلك قوله: الكعبة بيت اللَّه الحرام، وإن كانت البيوت كلها له، ونحو ذلك مما أضاف ذلك إلى نفسه من جزئيات الأشياء؛ تعظيمًا لذلك وإجلالا؛ فعلى ذلك الأول، أضافهم إلى نفسه إما لطاعة لهم إياه والخضوع، وإما لكرامة لهم والمنزلة، وإضافة كلية الأشياء إلى اللَّه تخرج مخرج تعظيم الرب؛ من ذلك قوله: (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)، وقوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ). ومن الناس من استدل بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية؛ لكنا نقول: إن الأفضل عند اللَّه الأطوع له والأخضع والأتقى والأقوم لأمره ونهيه؛ على ما ذكرنا: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، لا نشير أن هَؤُلَاءِ أفضل من هَؤُلَاءِ، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم.

وتأويل الآية - واللَّه أعلم - في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ. . .) الآية، أي: إنهم وإن لم تكن لهم حاجة إلى المأكل والمشرب وأنواع الحاجات لا يستكبرون عن عبادته، فأنتم مع حاجتكم إلى الأكل والشرب وأنواع الحوائج أحرى وأولى ألا تستكبروا عن عبادته. أو أن يقول: إن الذين تعبدون من الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، فأنتم أحق ألا تستكبروا عن عبادته؛ لأن من الناس من يعبد الملائكة، فخرج هذا جواب ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُسَبِّحُونَهُ). التسبيح: هو وصف الرب - عَزَّ وَجَلَّ - بالرفعة، والعظمة والجلال، والتعالي عن الأشباه والأمثال، وعما وصفه الملحدون. والتسبيح: هو تنزيه الرب وتبرئته عن جميع معاني الخلق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ يَسْجُدُونَ). السجود: هو الخضوع في الغاية، وليس في الآية دليل وجوب السجدة على من تلاها أو سمعها، إنما فيها الإخبار عن الساجدين أنهم سجدوا غير مستكبرين، وفي ذلك

ترغيب في السجود، إلا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - روي أنه سجد وسجد من معه. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد، حتى ما يجد أحدنا موضعًا يسجد فيه. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سجد في " ص ". وفي بعض الأخبار عن ابن عمر قال: كان رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقرأ القرآن في غير صلاته، فيسجد ونسجد معه. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قرأ سورة النجم، فسجد فيها، ولم يبق معه أحد إلا سجد، إلا شيخ كبير من قريش أخذ كفًّا من جص فرفعه إلى جبهته، فلقد رأيته قتل كافرًا. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ذكر سجود القرآن - أو عدّ - فقال: الأعراف، والرعد، والنحل، وبنو إسرائيل، ومريم، والحج - سجدة واحدة - والفرقان،

وطس، والم تنزيل، وص، وحم تنزيل، وقال: وليس في المفصل سجود. وعن ابن مسعود قال في السورة يكون في آخرها السجدة نحو الأعراف والنجم: إن شئت فاسجد ثم قم فاقرأ، وإن شئت فاركع. وعن ابن مسعود: كان يسجد في الأعراف، وفي بني إسرائيل، والنجم، و (إذا السماء انشقت)، و (اقرأ باسم ربك). واحتج بعض مشايخنا أن السجود على من تلا آية السجدة واجب: بما أجمع أهل العلم أن على المصلي إذا تلا الآية فيها السجدة أن يسجد في صلاته، فلو كان السجود تطوعًا ما كان لأحد أن يزيد في صلاته ما ليس منها؛ فدل ذلك على أن السجود واجب في الصلاة، وإذا كان في الصلاة واجبًا فهو على كل واجب. ومن الحجة لنا -أيضًا- ما روي أن النبي - عليه السلام - قرأ آيات فسجد فيها، فكان السجود فيها واجبًا، كما أنه لما صلى صلاة العيدين كانت واجبة. * * *

سورة الأنفال

سُورَةُ الْأَنْفَالِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) قوله - تعالى -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفَال قُلِ الأَنفَالُ لِلََّهِ وَالرَّسُول). اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: الأنفال: هي المغانم التي يغنمها المسلمون من أهل الحرب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأنفال: هي الفضول عن حقوق أصحاب الغنائم.

فإن كانت الأنفال الغنائم، فالسؤال يحتمل وجهين: يحتمل أنهم سألوا عن حلها وحرمتها؛ لأن الغنائم كانت لا تحل في الابتداء. قيل: إنهم كانوا يغنمونها ويجمعونها في موضع، فجاءت نار فحرقتها، فسألوا عن حلها وحرمتها، فقال: (الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، أي: الحكم فيها لله والرسول، يجعلها لمن يشاء. ويحتمل السؤال عنها: عن قسمتها، وهو ما روي في بعض القصة أن الناس

كانوا يوم بدر ثلاثة أثلاث: ثلث في نحر العدو، وثلث خلفهم ردء لهم، وثلث مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يحرسونه، فلما فتح اللَّه عليهم اختلفوا في الغنائم؛ فقال الذين كانوا في نحر العدو: نحن أحق بالغنائم، نحن ولينا القتال. وقال الذين كانوا ردءًا لهم: لستم

بأولى بها منا، وكنا لكم ردءًا. وقال الذين أقاموا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: لستم بأحق بها منا، كنا نحن حرسًا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتنازعوا فيها إلى رسول اللَّه، فنزل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ). وقال أبو أمامة الباهلي: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، قال: فينا نزلت معشر أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت فيه أخلاقنا، إذ انتزعه اللَّه من أيدينا فجعله إلى رسوله، فقسمه على السواء. ومجاهد وعكرمة قالا: كانت الأنفال لله والرسول فنسخها: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ). وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الأنفال: المغانم كانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خالصة، ليس لأحد فيها شيء، ما أصابت سرايا المسلمين من شيء أتوه به،

فمن حبس منه إبرة أو سلكًا فهو غلول، فسألوا رسول اللَّه أن يعطيهم منها، فقال: (قُلِ الأَنفَالُ لِلََّهِ وَالرَّسُولِ)، ليس لكم فيها شيء. ويحتمل أن تكون الأنفال هي فضول المغانم؛ على ما قَالَ بَعْضُهُمْ؛ نحو ما روي في الأخبار أن منهم من أخذ كبة فقال: اجعلها لي يا رسول اللَّه، وأخذ الآخر سيفًا وقال: اجعله لي، ونحو ذلك كانوا يسألون رسول اللَّه ذلك، فقال: (قُلِ الأَنفَالُ لِلََّهِ وَالرَّسُولِ). ويحتمل أن يكون سؤالهم عن التنفيل: أن ينفلهم الرسول بعد ما وقع في أيديهم، أو بعد ما انهزم الكفار وأدبر العدو، وإنما يجوز للإمام التنفيل في حال إقبال الحرب، وكذلك روي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: النفل ما لم يلتق الزحفان أو الصفان، فإذا التقيا فهو مغنم. وروي عن مصعب بن سعد عن أبيه سعد قال: نزلت في أربع آيات: جرى أنه يوم

بدر أصبت سيفًا، فأتيت به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقلت: نفلنيه، فقال: " ضعه ثم أقام، "، فقلت: يا نبي اللَّه، نفلنيه أجعل كمن لا عمل له؟! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ضعه من حيث أخذته "، فنزلت هذه الآية: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ). ثم قال سعد: دعاني رسول اللَّه فقال: " اذهب فخذ سيفك " فدل حديث سعد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم ينفل قبل الحرب أحدًا شيئًا منه مما لا يأخذه؛ لأنه لو كان نفلهم لم يمنع سعدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السيف الذي جاء به، ويدل على أن النبي لم يؤمر في الغنيمة بشيء حتى نزلت آية النفل، فرد اللَّه الأمر في الغنيمة إلى رسوله، فأطلق له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما رد الأمر إليه. ويجوز أن يكون النبي لم ينفل أحدًا قبل الحرب شيئًا، ولكنه كان ينفل مما يؤتى به من يشاء ممن قتل بغير إيجاب متقدم؛ يبين ذلك قول سعد: أجعل كمن لا عمل له؟! وحديث عبادة يخبر أن النبي نفل ما يأخذون من أهل الحرب قبل أن يأخذوه، وهذا موضع الاختلاف بين الحديثين، والظاهر من ذلك أن الفعل قد كان وقع في الغنائم؛ لأن اللَّه قد سماها أنفالًا قبل أن يحلها، فلولا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان نفلهم إياها قبل الحرب أو بعدها، لم يسمها اللَّه أنفالًا، واللَّه أعلم. وفي حديث عبادة أن قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) نزل بعد ذكر النفل، وأنه الحكم الناسخ الثابت، وكذلك قول ابن

عباس يدل على ذلك. وقد أجمع أهل العلم على ما ذكره عبادة في آخر حديثه، فقالوا جميعًا: إن الغنيمة

يخرج خمسها للأصناف الذين ذكرهم اللَّه إلا ما اختلفوا فيه من سهم ذوي القربى،

ثم تقسم الأربعة الأخماس بين أهل القسمة، وجعلوا للإمام أن ينفل السلب وغيره،

فيقول: " من قتل قتيلًا فله سلبه "، يحرض بذلك المقاتلة، وينفل السرية ويخرج من العسكر شيئا بعد الخمس، ومما أجمعوا عليه من قسمة الغنيمة أخماسًا نزول القرآن، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن الغنيمة لم تحل لأحد قبلنا، وقد أحلت لنا ".

وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لم تحل الغنيمة لقوم سود الرأس قبلكم، كانت نار تنزل من السماء فتأكلها "، فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم، فأنزل اللَّه - تعالى -: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا)، ونحو ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ) يحتمل وجوهًا: أحدها: يسألونك عمن له الأنفال، فقال: (قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ). والثاني: يسألونك الأنفال: على إسقاط عن، وقد كانوا يسألون الأنفال والمغانم. والثالث: يسأل كل عن نفل له الذي جعل له، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا). قال أهل التأويل: اتقوا اللَّه في أخذ الأنفال، ولكن في الأنفال وفي غيرها اتقوا معصية اللَّه ومخالفته في أمره ونهيه. (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ). أمر بإصلاح ذات البين؛ لما ذكر من عظيم منته ونعمه التي أنعم عليهم بقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، أخبر أنهم كانوا أعداء فألف بين قلوبهم،

(2)

وذلك من عظيم نعمه عليهم، فأمر - هاهنا - بإصلاح ذات البين؛ ليكونوا على النعمة التي أنعمها عليهم مجتمعين غير متفرقين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ). أي: أطيعوا اللَّه في أمره ونهيه، ورسوله في آدابه وسننه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). أو يقول: أطيعوا اللَّه فيما دعاكم إليه ورغبكم فيه، ورسوله فيما بين لكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). يعني: مصدقين به. * * * قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلى آخر ما ذكر. يحتمل وجوهًا: يحتمل قوله: إنما المؤمنون الذين حققوا إيمانهم بما ذكر من الأفعال. والثاني: إنما المؤمنون الذين ظهر صدقهم عندكم بما ذكر من الأفعال من وجل القلب والخشية والثبات واليقين على ما كانوا عليه، ليس كالمنافقين الذين كانوا مرتابين

في إيمانهم، كما وصفهم في آية أخرى؛ حيث قال: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى)، وكانوا إذا أنفقوا أنفقوا كارهين، وكانوا لا يذكرون اللَّه إلا قليلًا مراءاة للناس، وأما المؤمنون فهم الذين يقومون بوفاء ذلك كله حقيقة، فيظهر صدقهم بذلك، وهو ما وصفهم به في آية أخرى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). ويحتمل أن يكون على الاعتقاد خاصة، ليس على نفس العمل؛ كأنه قال: إنما المؤمنون الذين اعتقدوا في إيمانهم ما ذكر من وجل القلوب والخشية عند ارتكاب المعصية، والتقصير عن القيام بما عليه، وما يرتكب المؤمن من المعاصي إنما يرتكب عن جهالة ثم يتوب عن قريب؛ كقوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، يرتكب ذلك إما لغلبة شهوة، أو يعتقد التوبة من بعده، أو يرجو رحمة اللَّه وفضله في العفو عن ذلك، فيكون قوله: إنما المؤمنون الذين اعتقدوا لإيمانهم ما ذكر من الأفعال؛ وهو كقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)، هو على الاعتقاد والقبول له: أنهم إذا اعتقدوا ذلك وقبلوا، يخلى سبيلهم وإن لم يقيموا الصلاة وما ذكر وكذلك الأول يحتمل ذلك.

والرابع: يحتمل قوله: إنما المؤمنون هم الذين فعلوا هذا وأتوا بذلك كله، لكنهم أجمعوا: أن من آمن بقلبه وصدق كان مؤمنًا وإن لم يأت بغيره من الأفعال؛ نحو أن يؤمن ثم يخترم ويموت من ساعته مات مؤمنًا؛ فدل أنه لم يخرج ذلك على الشرط لما ذكرنا، ولكن على الوجوه الثلاثة التي ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) يخرج على وجوه: أحدها: يخبر أن المؤمن هو على وصف ما ذكر. أو يقول: إن المؤمنين الذين ينبغي أن يكونوا ما ذكر. أو يقول: إنما المؤمنون المختارون ما ذكر، جعل اللَّه تعالى ما ذكر من وجل القلب وغيره علمًا بين الذين حققوا الإيمان في الظاهر والباطن وبين الذين أظهروا الإيمان وأضمروا الكفر والخلاف، وكذلك ما ذكر في آية أخرى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) يحتمل قوله: (آيَاتُهُ): حججه وبراهينه إذا تليت عليهم ذلك يزداد لهم ثباتًا وقوة على ما كانوا، وأما المنافقون فإن الآيات التي نزلت كانت تزداد لهم بها رجسًا وبعدًا فإن المؤمنين يزيد لهم ذلك ثباتًا وقوة. أو ذكر الزيادة؛ لأن للإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت وكل ساعة، فإذا كان له حكم الحدوث والتجدد فهو زيادة على ما كان، فإن شئت سميتها زيادة وإن شئت سميتها ثباتًا. وقال أبو حنيفة - رحمه اللَّه -: يزيد الإيمان بالتفسير على الإيمان بالجملة، فإذا فسروا لهم وقالوا: فلان رسول ونبي، ازداد بذلك له إيمانًا وإن كان قد آمن به بالجملة، وكذلك الإيمان بجميع الكتب والأمر وإن كنا نؤمن في الجملة أن له الخلق والأمر، فإذا عرف ذلك الأمر ازداد له إيمانًا في ذلك - واللَّه أعلم - لأن من آمن باللَّه وأن له الخلق والأمر فقد أتى بعقدة الإيمان، فإذا جاء بالتفسير واحدًا بعد واحد ازداد له إيمانه بالتفسير على إيمانه بالجملة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي: على ربهم يتقون ويعتمدون في كل أمورهم لا يتوكلون على غيره إنما يتوكلون على اللَّه وليس كالمنافقين هم إنما يتوكلون على النعم التي أعطوا؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ

(3)

أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ)، ونحو ذلك، وأما المؤمن فإنه في جميع أحواله يتوكل على اللَّه ومنه يخاف، وإن كان يصل ذلك إليه ويجري على يد غيره فهو في الحقيقة من اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) بحق اللَّه الذي عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ... (4) يحتمل وجهين: يحتمل: أُولَئِكَ الذين حققوا إيمانهم. والثاني: أُولَئِكَ المؤمنون الذين وعد لهم وعدًا حقًّا، وهو ما وعد لهم من الدرجات والمغفرة حق لهم ذلك الوعد، واللَّه أعلم. (لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قيل: فضائل عند ربهم (وَمَغْفِرَةٌ) أي: يستر عليهم ذنوبهم التي كانت لهم في الدنيا في الجنة وينسونها؛ لأن ذكر ذلك [ينغص] عليهم نعمتهم التي أنعم عليهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) قيل: الحسن ورزق يكرم به أهله. * * * قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) لم يخرج لهذا الحرف جواب في الظاهر؛ لأن جوابه أن يقول: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق يفعل بك كذا، ثم أهل التأويل اختلفوا في جوابه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) يقول: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ) وكما كرهوا الخروج وجادلوك في قسمة الأنفال، جادلوك في أمر العير. ومنهم من يقول: جوابه في أمره بالقتال، يقول: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وهم كارهون لذلك كذلك يكلفك القتال وهم كارهون لذلك. ومنهم من يقول: جوابه في قوله: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) ويقول: كما أجبتم اللَّه في الخروج للقتال على غير تدبير منكم في ذلك ولا نظر، فعلى ذلك يجيبكم في النعاس أمنة منه وإنزال الماء من السماء والتطهير به وتثبيت الأقدام، على غير علم منكم ولا تدبير. ومنهم من يقول: قوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) غير متأهبين للقتال ولا مستعدين

(6)

له، كذلك يعدكم النصر والظفر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِالْحَقِّ) يحتمل وجوها، يحتمل: بالحق الذي لله عليهم من الأمر بالخروج والقتال، ويحتمل بالحق: بالوعد الذي وعد؛ إذ وعد لهم النصر والظفر، وقال بعض أهل التأويل (بِالْحَقِّ) أي بالقرآن، ولكن إن كان فهو ما ذكرنا بالأمر الذي يأمر القرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) يحتمل وجهين: يحتمل: فريقًا من المؤمنين في الظاهر وهم المنافقون كرهوا الخروج للقتال. ويحتمل: أن يكون المؤمنون في الحقيقة كرهوا الخروج للقتال كراهة الطبع لا كراهة الاختيار، لما أمروا بالخروج للقتال أوهم غير متأهبين للقتال، ولا مستعدين؛ فكرهت أنفسهم ذلك كراهة الطبع لما لم يكن معهم أسباب القتال، لا أنهم كرهوا أمر الله كراهة الاختيار. وفي هذه الآية دلالة أن الأمر قد يكون في الشيء وإن لم يعلم وقت الأمر فيما يؤمر، وفيه دليل جواز تأخر البيان؛ لأنهم أمروا بالخروج للقتال ولم يعلموا وقت الخروج على ماذا يؤمرون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) قيل: في القتال، وقيل: قوله: (فِي الْحَقِّ) الذي أمرت به أن تسير إلى القتال، ويحتمل أن يكون قوله: (فِي الْحَقِّ) الوعد الذي وعد لهم بالنصر والظفر. (بَعْدَمَا تَبَيَّنَ) يحتمل قوله: (بَعْدَمَا تَبَيَّنَ) الوعد الذي وعد لهم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بالنصر. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) فإن كانت الآية في المنافقين فهو ظاهر وهم كذلك، وصفوا بالكسل في جميع الخيرات والطاعات، كقوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا). وإن كان في المؤمنين الذين حققوا الإيمان فهو لما كانوا غير مستعدين للقتال ولا متأهبين له كانوا

(7)

كارهين لذلك كراهة الطبع لا كراهة الاختيار. وقال قائلون قوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) أي: وإن فريقًا من المؤمنين أجابوا ربهم وإن كانوا كارهين للخروج من شدة الخوف وإن كانوا من الخوف كانما يساقون إلى الموت، فأجاب اللَّه تعالى لهم بالنصر والظفر وأمنهم من ذلك الخوف، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) ذكر في بعض القصة أن عير قريش حين أقبلت من الشام، خرج أصحاب رسول اللَّه نحوهم على ما يخرج إلى العير غير متأهبين للحرب، وخرجت قريش من مكة تغيث عيرها فهي الطائفة الأخرى، ووعد لهم أن إحدى الطائفتين لهم إما العير وإما العسكر أنهم ينصرون عليهم (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) أي: التي ليس فيها حرب، ثم يكون لكم العير وهي أهون شوكة وأعظم غنيمة، كانوا يودون ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) لما لم تكونوا مستعدين للقتال والحرب، وكان بهم ضعف وفي أُولَئِكَ قوة وعدة، واللَّه أعلم. قال اللَّه تعالى: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) يحتمل - واللَّه أعلم - يريد أن يظهر الحق بأنه منه من غير وجود الأسباب منهم، وهو كما ذكر في قوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ)، أخبر أن في غلبة أُولَئِكَ مع ضعف أبدانهم وقلة عددهم وقصور أسباب الحرب من السلاح والعدة وغير ذلك، وقوة أبدان أُولَئِكَ وكثرة عددهم وعدتهم

(8)

وتأهبهم واستعدادهم لذلك - آية عظيمة، فأراد أن يظهر الحق بالآية؛ ليعلم كل منهم أنه إنما كان ذلك باللَّه لا بهم، وهو ما قال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)، أخبر أنه كان باللَّه ذلك لا بهم. ويحتمل قوله (بِكَلِمَاتِهِ) بالوعد الذي وعد رسول اللَّه بمكة بالنصر والظفر لهم، فأراد أن يظهر ذلك ويحققه. ويحتمل (بِكَلِمَاتِهِ) بعلمه وأمره. ويحتمل (بِكَلِمَاتِهِ) بحججه، أي يوجب الحق، ويظهر بحججه وبراهينه. ويحتمل (بِكَلِمَاتِهِ) البشارات التي بشر بها المؤمنين بالنصر لهم والظفر والعداوة التي كانت منهم. ويحتمل (بِكَلِمَاتِهِ) ملائكته الذين بعثهم أمددا لهم، يوم بدر على ما ذكر، فأضافهم إليه تعظيمًا لهم وإجلالًا، على ما سمى عيسى روح اللَّه وكلمته وموسى كليم اللَّه؛ تعظيمًا لهم وإجلالًا، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. (وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) يحتمل: يقطع آثار الكافرين يقتلون جميعا ويستأصلون حتى لا يبقى لهم أثر، ويحتمل: يقطع ما أدبرهم حتى لا يأتيهم مدد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) أي ليظهر الحق ويوجبه، يقال: حق كذا، أي وجب: ويحتمل ليظهر حق الحق ويظهر بطلان الباطل، أو أن يقال: قوله: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) ما ذكرنا: يجب الحق ويجيء ويذهب الباطل؛ كقوله: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، أي ذهب، فعلى ذلك هذا: يجيء الحق ويجب، ويذهب الباطل وإن كره المشركون فَإِنْ قِيلَ في قوله (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ). [وقوله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ (9)] كيف خافوا كل هذا الخوف حتى

وصفهم بشدة الخوف كأنما يساقون إلى الموت وقد وعد لهم النصر والظفر بقوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) كيف استغاثوا ربهم في ذلك وقد سبق منه لهم الوعد بالظفر والنصر. قيل: قد يمكن أن تصرف الآية إلى المنافقين، وهو قوله: (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) غير أنه ذكر في بعض القصة أنه لم يكن ببدر منافق بل كانوا كلهم مؤمنين حتى افتخر بذلك من شهد بدرا، أو إن كان في المؤمنين فهو ما ذكرنا لقلة عددهم وضعفهم وكثرة أُولَئِكَ وعدتهم كانوا كما وصف، واللَّه أعلم. لكن الآية تحتمل وجوهًا: أحدها: أمكن أن يكون الوعد لهم بالنصر بين لرسوله ولم يبين لهم؛ فألقى في قلوبهم الرعب والخوف لما لم يبين لهم الوعد بالنصر. أو بين لهم وبلغهم الوعد بذلك لكن لم يبين لهم الوقت متى يكون ذلك؛ ألا ترى أنهم أمروا بالخروج ولا يدرون إلى ماذا يؤمرون. والثالث: يجوز أيضًا أن بين لهم الوعد بالنصر وبلغهم ذلك، غير أنهم خافوا ذلك وكرهوا خوف طبع وكراهة النفس لا كراهة الاختيار، وجائز الخوف في مثل هذا وكراهة الطبع وإن كانوا على يقين بالنصر والظفر وتحقيق ذلك لهم. والرابع: يجوز أن يكون الوعد لهم بالنصر والظفر بالتضرع إليه والاستغاثة منه، على ما يكون في الدعوات، يكون شقاوة بعض ودخوله النار بمعاصي يرتكبها، وسعادة آخر ودخوله الجنة بخيرات يأتي بها فيصير من أهلها. والخامس: جائز أن يكون ذلك من اللَّه لهم محنة يمتحنهم بها كقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. . .) الآية، يحتمل معنى الآية الوجوه التي ذكرنا، والله أعلم. ثم اختلف في قوله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ. . .) الآية؛ قال بعضهم: هو صلة قوله: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ). قالوا قوله: (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) ألفان، وقوله: (بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ)، فيكون خمسة آلاف مسومين. ومنهم من يقول: ثلاثة كان في أحد؛ إذ ذكر على أثر قصة أحد، فإن كان ما ذكروا

(10)

فكأن قوله: (مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) إما في أرداف الكفرة وهو المتتابع، تابع أهل بدر المشركين وهم منهزمون، أو أن يكون الإرداف الإمداد فيكون ألفان. وقال بعض أهل التأويل: إن قوله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) هو رسول اللَّه، وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما رأى كثرة المشركين ببدر علم أنه لا قوة لهم إلا باللَّه، فدعا ربه وتضرع إليه، ولكن ذلك قولهم عندنا واللَّه أعلم، أعني قول المؤمنين؛ ألا ترى أنه قال: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ) بكذا واللَّه أعلم بذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، سوى أن فيه البشارة لهم بالنصر والطمأنينة لقلوبهم وإنباء أن حقيقة النصر إنما يكون باللَّه لا بأحد سواه، وذلك قوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ (10) لا يذله شيء ولا يعجزه (حَكِيمٌ) في أمره ونهيه لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء إلا وفيه حكمة، وفائدة ما ذكر من بعث مدد ألف ملك وثلاثة آلاف، وما ذكر لطمأنينة قلوب أُولَئِكَ المؤمنين، وإلا ملك واحد كاف لهم وإن كثروا لأنه يراهم ولا يرونه، وإهلاك مثله سهل. * * * قوله تعالى: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) ذكر النعاس بعد شدة خوفهم، والنعاس لا يكون ممن اشتد به الخوف ويغشيه إلا بعد الأمن، فذكر لطفه ومنته الأمن بعد شدة الخوف، ذكر عظيم ما منَّ عليهم من الأمن لما ذكر من إلقاء النعاس عليهم والنعاس إنما يكون بعد الأمن، بعد ما كان من حالهم ما ذكر حيث قال: (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).

وقوله: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) ذكر في بعض القصة أن المشركين سبقوا فأخذوا الماء؛ فبقي المسلمون في رمل لا تثبت أقدامهم عطشى، فوسوس إليهم الشيطان أنهم لو كانوا على حق ما بلوا يمثل ذلك في رمل لا تثبت أقدامهم عطشى؛ فأبدل اللَّه مكان الخوف أمنًا يأمنون به، وأنزل عليهم من السماء ماء ليطهرهم به ويشربون ويشدد به الرمل وتثبت أقدامهم، فذلك قوله: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) قال أهل التأويل: الرجز: وسوسة الشيطان التي وسوس إليهم. وقيل: الرجز: الإثم؛ أذهب ذلك عنهم؛ كقوله: (رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) ذكر هذا - واللَّه أعلم - على المبالغة في المنة أنه أخبر أنه أنزل من السماء ماء فضل عن حوائجهم حتى وجدوا ماء لتطهير أنفسهم وأبدانهم، وأذهب عنهم رجز الشيطان؛ ذكر السبب الذي به يذهب الرجز؛ لأن الرجز هو العذاب، فذكر الرجز والمراد منه سبب الرجز. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ). يحتمل: حقيقة تثبيت الأقدام. ويحتمل: الثبات على ما هم عليه. والربط: هو الشد لشيء، فيحتمل قوله: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ) أي شدها حتى لا

يزول أحدهم عما هو فيه، ولا يزيغ عن ذلك، وإن ابتلاه اللَّه - تعالى - بأنواع الشدائد والبلايا؛ ذكر في التوحيد والإيمان الربط والتثبيت بقوله: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) وقوله: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ)، وقوله: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وذكر في الشرك والكفر الطبع والختم والقفل ونحوه؛ فهو - واللَّه أعلم - عقوبة لهم لما اختاروا ذلك. وقوله: (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ). قيل: وسوسة الشيطان، وهو ما ذكر في بعض القصة أن المسلمين أصابهم ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم القنوط، ويوسوسهم، ويقول لهم: تزعمون أنكم أولياء اللَّه وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين، فأمطر اللَّه عليهم مطرًا شديدًا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب عنهم رجز الشيطان، ونشف الرمل حين أصابه المطر، فمشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم، وأمدَّ

(12)

اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة، فذلك قوله: (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ). ثم قال: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ... (12) الوحي وكان يسمى وحيا لسرعة قذفه في القلوب ووقوعه فيها؛ ولذلك سمى - واللَّه أعلم - وساوس الشيطان: وحيًا بقوله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) أي: يقذفون في قلوبهم، ويدعونهم إلى أشياء من غير أن علموا بذلك أنه ممن جاء ذلك، وما سبب ذلك؛ لسرعة قذفه ووقوعه في القلوب، وكذلك سمى الإلهام وحيًا لسرعة وقوعه في القلوب؛ قال - تعالى -: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ). وقيل: هو الإلهام؛ أي: ألهم النحل لتتخذ من الجبال بيوتًا، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ)، أخبر أن ليس له أن يكلمه إلا وحيًا، وهو ما ألهمه، سمى وحيًا لسرعة وقوعه في القلب وقذفه أفيه، على غير علم منهم أنه من أين كان؟ ومم كان. وفيه دلالة أن غيرًا هو الذي أخطر ذلك في القلوب وقذفه فيها، لا أنه يحدث ذلك بنفسه على غير إخطار أحد ولا قذفه، فإن كان ما قذف فيه خيرًا فهو من الملك، وإن كان شرًّا فهو من قذف الشيطان ووسوسته؛ ففيه دليل ثبوت الملك والشيطان، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنِّي مَعَكُمْ). قيل: إني معكم، في النصر، والمعونة، ودفع العدو عنكم. أو يقول: إني معكم في التوفيق.

ويحتمل أن يكون قوله: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ) أي: أخبر المؤمنين أني معكم بما ذكرنا من النصر والمعونة والدفع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا). أمر ملائكته أن يثبتوا الذين آمنوا بالنصر لهم والأمن، بعد ما كانوا خائفين فشلين جبنين لما أجابوا ربهم، مع ضعف أبدانهم، وقلة عددهم، فأبدلهم اللَّه مكان الخوف لهم أمنًا، ومكان الضعف القوة والنصر، ومكان الذل العز، وأبدل المشركين مكان الأمن لهم خوفًا، ومكان العز الذل، ومكان الكثرة الضعف والفشل؛ فذلك - واللَّه أعلم - قوله: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ). وقوله: (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا). جائز أن يكون نفس نزول الملائكة تثبيتهم؛ لأنهم سبب تثبيتهم، أو ثبتهم من غير أن علم المؤمنون بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ). قال قائلون: قوله: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ) إذا ظفروا بهم ووقعوا في أيديهم، فعند ذلك يضرب فوق الأعناق، وهو الفصل الذي يبين الرأس بالضرب؛ لما نهى عن المثلة، وفي الضرب في غير ذلك مثلة. ويحتمل قوله: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ)، أي: اضربوا الأعناق وما فوق الأعناق. (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) معناه - واللَّه أعلم - أي: اضربوا على ما تهيأ لكم من الأطراف وغيرها. وأما قوله: (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) في الحرب؛ لأنه لا سبيل في الحرب إلى أن يضرب ضربًا لا يكون مثلة؛ فكأنه قال: فاضربوا فوق الأعناق إذا قدرتم عليهم ووقعوا في أيديكم، (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) كيفما تقدرون، وحيثما تقدرون، واللَّه أعلم.

(13)

وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) يعني - واللَّه أعلم -: ذلك الضرب والقتل. (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ). أي: حاربوا اللَّه ورسوله، والمشاقة: الخلاف؛ خالفوا اللَّه ورسوله. (وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): له في الآخرة. وقوله: (ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) أي: ذلكم العقاب والعذاب. (فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ). بالخلاف لله ورسوله، والمحاربة معهم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ). كان أول الأمر بالقتال وفرضه كان لبذل الأنفس للهلاك؛ لأنه ذكر الزحف، والزحف هو الجماعة والعدد الذي لا يعد، وليس للواحد القيام للجماعة، فكان فرض القتال لبذل الأنفس للقتل؛ وعلى ذلك يخرج قوله: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) وليس في وسع الواحد القيام لعشرة إذا أحيط به، ويجوز أن يفرض بذل الأنفس للقتال؛ كقوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)، أخبر أنه لو أمر بذلك لم يفعل إلا القليل منهم، فجائز الأمر بذلك امتحانًا منه لهم، فإن احتمل ما ذكرنا كان قوله: (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) هو على التحقيق؛ إذ إلى ذلك يساقون. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر بذلك ليكون آية، ويعرف كل أحد

(16)

أنه إنما قام باللَّه، لا بقوة نفسه؛ إذ ليس في وسع أحد القيام لعشرة أو لجماعة بقوته إذا أحيط به، فهو على الآية إن كان فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ ... (16) والمتحرف للقتال: هو المتنقل من مكان إلى مكان للحرب، والمتحيز إلى فئة: هو الملتجئ إلى فئة على جهة العود إليهم والحرب، يقال: تحوزت وتحيزت، بالواو والياء جميعًا، وهما تحوز الحرب. وفيه النهي عن الانهزام والتولي عن العدو، إلا ما ذكر من التحرف للقتال أو التحيز إلى الفئة على جهة العود إليهم.

ثم أخبر أن من ولى دبره بسوى ما ذكر (فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). قالت المعتزلة: دل ما أوعد المتحرف بغير قتال والمتحيز إلى غير الفئة بقوله: (فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) - أن مرتكب الكبيرة يخلد في النار؛ لأنه ذكر في أول الآية المؤمنين، ولهم خرج الخطاب بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا)، ثم أوعد لهم الوعيد الشديد ما يوعد أهل النار غير أهل الإيمان؛ فدل أنه يخرج عن الإيمان بارتكاب الكبيرة، ويخلد في النار. وقالوا: لا يجوز صرف الآية إلى أهل النفاق؛ لما ذكر في القصة أنه لم يكن يوم بدر منافق. لكن هذا غلط؛ قال اللَّه - تعالى -: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ)، وإنَّمَا قالوا ذلك يوم بدر؛ كذلك ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ)، فإن كان مستثنى من قوله: (فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)، لم يكن فيه رخصة التولي، ولكن فيه دفع الوعيد الذي ذكر، وإن كان مستثنى من قوله: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ)، ففيه رخصة التولي إلى ما ذكر. ثم الدلالة على أنه مستثنى من هذا دون الأول ما جاء عن غير واحد من الصحابة توليه الدبر إلى ما ذكر، وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أنا فئة لكل مسلم ". وبعد، فإنه لم يكن لأهل الإسلام فئة يوم بدر يتحيزون إليها، فدل أنها في المنافقين

(17)

وأهل الكفر، واللَّه أعلم. ثم يقال: يجوز أن يكون ما ذكر من الوعيد لمعنى في التولية عن الدبر والإعراض، لا لنفس التولية عن الدبر؛ إذ قد ذكر التولية عن الدبر في آية أخرى، والعفو عن ذلك، وهو قوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا. . .) الآية. فَإِنْ قِيلَ: لعل التوبة مضمرة فيه، تابوا فعفا عنهم. قيل: إن جاز أن تجعل التوبة مضمرة فيها، جاز أن يضمر في التولية عن الدبر الردة، فليست تلك أولى بإضمار التوبة من هذه بإضمار الردة، وفي الآية معان تدل على الإضمار؛ إضمار ما يوجب الوعيد الذي ذكر - واللَّه أعلم -: أحدها: ذكر التحيز إلى الفئة، وإذا لم يكن للمسلم فئة يتحيز إليها، فإذا تحيز إنما يتحيز ليصير إلى العدو، فهو الردة التي ذكرنا. والثاني: ما ذكر في بعض القصة أنه لما اصطف القوم رفع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يديه، فقال: " يا رب، إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدًا "، ومن هرب أو ولى الدبر عن مثل تلك الحال، لم يول إلا لقصد ألا يعبد، فهو كفر. والثالث: قد وُعِدَ لهم النصر والظفر على العدو، فمن ولى الدبر، لم يول إلا لتكذيب بالوعد الذي وُعِدَ لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) قيل فيه بوجوه: يحتمل قوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ)، أي: لم تكن جراحاتكم التي أصابتهم بمصيبة المقتل، ولا عاملة في استخراج الروح، ولا كانت قاتلة، ولكن اللَّه - تعالى - صيرها قاتلة مصيبة المقتل، عاملة في استخراج الروح؛ لأن من الجراحات ما إذا أصابت لم تصب المقتل، ولا عملت في استخراج الروح.

وقوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ. . .) الآية. يخرج على وجوه: أحدها: أن العبد لا صنع له في القتل واستخراج الروح منه، إنما ذلك فعل اللَّه، وإليه ذلك، وهو المالك لذلك؛ لأن الضربة والجرح قد يكون ولا موت هنالك؛ وكذلك الرمي، ليس كل من أرسل شيئًا من يده فهو رمي، إنما يصير رميا باللَّه إنشاء السهم حتى يصل بطبعه المبلغ الذي يبلغ؛ فكأنه لا صنع له في الرمي. ألا ترى أنه لا يملك رد السهم إذا أرسله، ولو كان فعله لملك رده؛ ولهذا قال أبو حنيفة - رحمه اللَّه -: إن الاستئجار على القتل باطل. والثاني: قتلوا بمعونة اللَّه ونصره؛ كما يقول الرجل لآخر: إنك لم تقتله، وإنما قتله فلان، أي: بمعونة فلان قتلته؛ فعلى ذلك الأول. وقوله: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)، أي: ما أصاب رميك المقصد الذي قصدت، ولكن اللَّه بالغ ذلك المقصد الذي قصدتم. والثالث: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ)، أي: لم تطمعوا بخروجكم إليهم قتلهم؛ لأنهم كانوا بالمحل الذي وصفهم من الضعف وشدة الخوف والذلة كأنما يساقون إلى الموت، فإذا كانوا بالمحل الذي ذكر فيقول - واللَّه أعلم -: لم تطمعوا بخروجكم إليهم وقصدكم إياهم قتلهم؛ لما كان فيكم من الضعف وقوة أُولَئِكَ، ولكن اللَّه أذلهم، وألقى في قلوبهم الرعب والخوف حتى قتلتموهم؛ وكذلك قوله: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) لا يطمع الإنسان برمي كف من تراب النكبة بأعدائه، ولكن اللَّه رمى حيث بلغ ذلك، وغطى أبصارهم وأعينهم بذلك الكف من التراب؛ على ما ذكر في القصة أنه رمى كفًّا من تراب فغشى أبصار المشركين، فانهزموا لذلك.

(18)

ويحتمل أن تكون نسبة هذه الأفعال إلى نفسه وإضافتها إليها، لما نسب وأضاف كل خير ومعروف إلى نفسه؛ من ذلك قوله: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا. . .) الآية. وقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وغير ذلك من الآيات التي فيها إضافة الأفعال التي خلصت لله وصفت له؛ فعلى ذلك نسب فعلهم إلى نفسه؛ لخلوصه وصفائه له، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا). أي: نعمة عظيمة؛ حيث نصرهم على عدوهم مع ضعف أبدانهم، وقلة عددهم، وكثرة أعدائهم، وقوة أبدانهم وعدتهم، وهو ما ذكر في هلاك فرعون وقومه أنه بلاء من ربكم عظيم بقوله: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ). أي: سميع لدعائكم الذي دعوتم، وتضرعكم الذي تضرعتم إليه. أو أن يقول: (سَمِيعٌ)، أي: مجيب لدعائكم، (عَلِيمٌ): بأقوالكم وأفعالكم، التي تسرون وتعلنون، واللَّه أعلم. وقول - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) قوله: (ذَلِكُمْ)، أي: ذلك كان بهم من القتل والأسر والهزيمة لما أوهن وأضعف كيدهم تعالى. ويحتمل أن يكون صلة قوله: (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا)، أي: ذلك الإنعام والإبلاء الذي من اللَّه عليكم لما أوهن كيدهم، وذلك يكون في جملة المؤمنين، ما من مؤمن إلا وله من اللَّه إليه إبلاء وإنعام في كل حال لإيهانه كيد الكافرين. وقوله: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ... (19) الاستفتاح يحتمل وجوهًا ثلاثة: يحتمل الاستكشاف وطلب البيان، ويكون طلب النصر والمعونة؛ كقوله: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ

يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا)، أي: يستنصرون، ويكون طلب الحكم والقضاء بين الحق والباطل؛ يقال: فتح بكذا، أي: حكم به وقضى، فهو يخرج على وجهين: على طلب بيان المحق من المبطل، وطلب بيان أحق الدِّينين بالنصر والحكم؛ فقد بين اللَّه لهم أحق الدِّينين ما ذكر في القصة أن أبا جهل قال: اللهم اقض بيننا

وبين مُحَمَّد، فقال: اللهم أينا كان أوصل للرحم وأرضى عندك فانصره. ففعل الله ذلك، ونصر المؤمنين، وهزم المشركين، فنزلت هذه الآية. وقيل: إنه دعا: اللهم انصر أعز الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلين؛ فكان ما ذكرنا؛ فقد بين اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أحق الدِّينين، وأعز الجندين لما هزم المشركين مع قوتهم وعدتهم، وكثرة عددهم بفئة ضعيفة، ذليلة، قليلة العدد، وضعيفة الأبدان والأسباب - دل أنه قد بين لهم الأحق من غيره. وقيل: إنهم استفتحوا بالعذاب، وكان استفتاحهم ما قالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، فجاءهم العذاب يوم بدر، وأخبرهم يوم أحد: (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا. . .) الآية، والاستفتاح هو ما ذكرنا. قال الحسن: الفتح القضاء. ولذلك قال قتادة: قالوا: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء في يوم بدر؛ كقوله: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ. . .) الآية. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا): تسألوا الفتح، وهو النصر، (فَقَدْ جَاءَكُمُ) وهو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ). يحتمل قوله: وإن تنتهوا عما كنتم، فهو خير لكم يغفر لكم؛ كقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).

(20)

وقيل: وإن تنتهوا عن قتل مُحَمَّد، فهو خير لكم من أن ينتهي مُحَمَّد عن قتالكم. وقوله: (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) يحتمل: وإن تعودوا إلى قتال مُحَمَّد، نعد إليكم من القتل، والقتال، والأسر، والقهر. ويحتمل: وإن تعودوا نعد إلى البيان والكشف إلى ما كنتم من قبل البيان من التكذيب والكفر لمُحَمَّد، نعد إلى الانتقام والتعذيب؛ كقوله: (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ). بالنصر والمعونة. فَإِنْ قِيلَ: ذكر أنه لن تغني عنكم فئتكم وكثرتكم، وقد أغناهم كثرتهم يوم أُحد؛ حيث ذكر أن الهزيمة كانت على المؤمنين. قيل: هذا لوجهين: أحدهما: أن عاقبة الأمر كانت للمؤمنين، وإن كان في الابتداء كان عليهم فلن يغني عنهم ذلك؛ على ما ذكر؛ لأنه لو أغناهم ذلك لكان لهم الابتداء والعاقبة. والثاني: أنه لم تكن النكبة والهزيمة على المؤمنين إلا لعصيان كان منهم؛ لقوله: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ. . .) الآية، فما أصاب المؤمنين من النكبات إنما كان بسبب كان منهم، لا بالعدو؛ لذلك كان الجواب ما ذكر، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ). أي: أطيعوا اللَّه في أمره ونهيه، (وَرَسُولَهُ): في بيانه، وفيما دعا إليه. وقيل: أطيعوا اللَّه في فرائضه، ورسوله في سننه وآدابه. (وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ): آياته وحججه. (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) أي: لا تكونوا في الإيمان والتوحيد والآيات.

(22)

(كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا) بذلك (وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) أي: لا يجيبون، ولا يسمعون، ولا يؤمنون. ويحتمل أن يكون: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا): الآيات والحجج، (وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) أي: لا ينتفعون بسماعهم، أو لا يعقلون كالدواب وغيرها. قال أبو بكر الأصم: قوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) استثقالا، وبغضًا؛ أي: لا يستمعون إليه؛ لأن من استثقل شيئًا وأبغضه لم يستمع إليه؛ كقوله: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) تأويله - واللَّه أعلم -: أن الذي هو من شر الدواب عند اللَّه هو الأصم الذي لا ينتفع بسمعه، والأبكم الذي لا ينتفع بلسانه ونطقه؛ لأنهم لم ينتفعوا بسمعهم لما جعل له السمع، ولم ينتفعوا بنطقهم لما جعل له النطق، ولم ينتفعوا بعقلهم لما جعل له العقل، فهم شر الدواب؛ كقوله: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)، وأشر؛ لأن الدواب والأنعام انتفعت بهذه الحواس لما جعلت لها هذه الحواس، عرفت بهذه الحواس المهالك والمضار فتوقت عنها، وعرفت الملاذ والمنافع بها فترغب فيها وتقع، فانتفعت الدواب بالحواس التي جعلت لها لما جعلت، ولم يجعل لها هذه الحواس إلا للمقدار الذي عرفت وفهمت وانتفعت، وهَؤُلَاءِ الكفرة لم ينتفعوا بالحواس التي جعلت لهم لما جعلت له ذلك؛ ليعرفوا النافع لهم والملاذ في العاقبة كذلك ويعرفوا الضار لهم في العاقبة والمهلك فيتوقوا عنه، فلم ينتفعوا بحواسهم لما جعلت الحواس، والدواب انتفعت بها؛ لذلك كانوا أضل وأشر أمنها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ) الذين اكتسبوا الصمم الدائم والعمى الدائع، وذلك في الآخرة؛ كقوله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) وقوله: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)، أي: تركوا اكتساب البصر الدائم، والسمع الدائم، والحياة الدائمة والباقية، سماهم صمًّا وبكمًا وعميًا؛ لما لم يكتسبوا بصر القلب، ونطق القلب، وسمع القلب؛ فهذه هي الحواس التي تكون

(23)

بالاكتساب، ولم يكتسبوها، إنما لهم الحواس الظاهرة. أو يقول: شر الدواب التي لم ينتفعوا بالذي ذكر من الحواس، وتركوا استعمالها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) قيل: نزلت الآية في المردة من الكفرة. وقال ابن عَبَّاسٍ: هم نفر من بني عبد الدار، كانوا يسألون رسول اللَّه آية بعد آية، وقد أعطاهم آية بعد آية قبل ذلك لم يقبلوها، فقال: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) أنهم يقبلون جواب المسائل التي سألوا، لأوحى إليهم ولأسمعهم، ولكن علم أنهم وإن أسمعهم جواب مسائلهم - لا يقبلون. وقالت المعتزلة: دلت الآية أنه قد أعطاهم جميع ما كان عنده، لكنهم لم يقبلوا؛ لأنه قال: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ)، فدل أنه لم يكن عنده ما يعطي، وإلا لو كان عنده ما يقبلون لأسمعهم. لكن هذا بعيد؛ لأنه لم يقل: لو علم اللَّه عنده خيرًا لأسمعهم، ولكن قال: (وَلَو عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا)، فإنما نفى أن عندهم خيرًا. والوجه فيه ما ذكرنا أنه لو علم فيهم خيرًا يعملون به لأوحى إليهم وأسمعهم، لكنه علم أنهم لا يقبلون بقوله: (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)، أي: مكذبون بجواب ما سألوا تعنتًا وتمردًا منهم، وأخبر أنهم يسألون سؤال تعنت وتمرد، لا سؤال استرشاد. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ

(24)

خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ... (24) قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه الآية صلة قوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ)، يقول - واللَّه أعلم -: أجيبوا لله وللرسول إلى ما يدعوكم، وإن كانت أنفسكم تكره الخروج لذلك؛ لقلة عددكم، وضعف أبدانكم، وكثرة عدد العدو وقوتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ). بالذكر، والشرف والثناء الحسن في الدنيا، والحياة في الآخرة اللذيذة الدائمة، وإن متم وهلكتم فيما يدعوكم إليه، يكون لكم في الآخرة حياة الأبد. ويحتمل أن تكون الآية في جملة المؤمنين، أي: استجيبوا لله في أوامره ونواهيه، وللرسول فيما يدعوكم إليه، وإنَّمَا كان يدعو إلى دار الآخرة؛ كقوله - تعالى -: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)، ودار الآخرة هي دار الحياة؛ كقوله: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)؛ كأنه قال - واللَّه أعلم -: أجيبوا لله وللرسول، فإنه إنما دعاكم إلى ما تحبون فيها، ليس كالكافر الذي لا يموت فيها، ولا يحيا بتركه الإجابة. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ). يخرج على وجهين: يحول بين قلب المؤمن وبين الكفر. ويحول بين الكافر والإيمان. وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ). أمكن أن يخرج هذا على الأول، أي: اعلموا أن اللَّه يحول بين المرء وقلبه، يجعل القوي ضعيفًا، والعزيز ذليلًا، والضعيف قويًا، والذليل عزيزًا، والشجاع جبانًا، والخائف آمنًا، والآمن خائفًا، فأجيبوا للرسول بالخروج للجهاد، وإن كنتم تخافون لضعفكم

وقوتهم. ويحتمل في جملة المؤمنين، أي: من أجاب لله وللرسول إذا دعاه، يجعل قلبه هو الغالب على نفسه، والحائل بينه وبين ما تدعو إليه النفس، وإذا ترك الإجابة، يجعل نفسه هي الحائلة بينه وبين ما يدعو إليه قلبه والداعية إلى ذلك (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). وقيل: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ): بالطاعة في أمر القتال، (إِذَا دَعَاكُمْ): إلى الحرب، (لِمَا يُحْيِيكُمْ) يعني: بالحرب التي أعزكم اللَّه؛ يقول: أحياكم اللَّه بعد الذل، وقواكم بعد الضعف، وكان ذلك حياة. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) يخرج على وجهين: أحدهما: يستعجل التوبة قبل أن ينزل به الموت؛ يقول: أجيبوا لله وللرسول قبل أن

(25)

يحال بين المرء وبين التوبة بالموت. والثاني: يحول بين المرء وقلبه بالأعمال التي يكتسبها، ينشئ الفعل الذي يفعله طبع قلبه وختمه، وينشئ ظلمة تحول بينه وبين ما يقصده ويدعى إليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ... (25) قَالَ بَعْضُهُمْ: (لا) هاهنا صلة؛ كأنه قال: " واتقوا فتنة تصيبن الذين ظلموا منكم

خاصة ". أي: اتقوا الفتنة التي تصيب الظلمة منكم خاصة بظلمهم، وهي العذاب؛ كقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)؛ فعلى ذلك قوله: واتقوا فتنة تصيبن الذين ظلموا في الآخرة، وهي العذاب، وذلك جائز في الكلام؛ نحو ما قرأ بعضهم قوله: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)، بكسر الألف وطرح (لَا) (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)، أي: أنها وإن جاءت لا يؤمنون. وأما على إثبات (لَا): فإنه يحتمل وجوهًا:

(26)

قيل: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ)، أي: اتقوا أن تكونوا فتنة للذين ظلموا؛ كقوله: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، ووجه جعله إياهم فتنة للذين كفروا: هو أن يجعل العدو غالبًا عليهم منتصرين وهم المغلوبون، فيظنون أنهم على حق والمؤمنون على باطل؛ فذلك معنى دعائهم: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)؛ لئلا يقولوا: لو كانوا على حق ما غلبوا، ولا قهروا، ولا انْتُصِرَ منهم. وقيل: قوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا): نهى الأتباع منهم؛ أن يسعوا فيما بين الظلمة بالفساد، ولا يغري بعضهم على بعض، فيقع فيما بينهم الفساد، فيكون هَؤُلَاءِ الأتباع فتنة للذين ظلموا بإغراء بعضهم على بعض، وذلك معروف فيما بين الخلق في الظلمة، يغري الأتباع بعضهم على بعض؛ فذاك فتنة. ويحئمل وجهًا آخر: وهو أن اللَّه - تعالى - يغير الأحوال في الخلق: مرة سعة وخصبًا، ومرة قحطًا وضيقًا، ومرة غلبة العدو على الأولياء، ونحوه، ويدفع العذاب عن الظلمة بمن لم يظلم ما لم يشاركوا الظلمة، فإذا شاركوا أُولَئِكَ يحل بأُولَئِكَ بظلمهم، وأهل الصلاح والعدل بتركهم الظلمة، وأهل الفساد ولهم قوة المنع لهم عن ذلك؛ فيقول: (لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، ولكن تصيبهم وتصيبكم، فقال: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) أخذ الظلمة العذاب لمشاركة أهل العدل أُولَئِكَ، فيكونون فتنة لهم؛ كقوله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ). أو أن يدفع عن الظلمة البلاء والعذاب ما دام أهل العدل يأمرونهم بالمعروف، ويغيرون عليهم المنكر، فإذا تركوا ذلك، ولا يغيرون عليهم المنكر، نزل بهم البلاء، فيعمهم البلاء، الظالم وغيره. والفتنة على وجهين: الأول، فتنة الجزاء، جزاء أعمالهم، وتلك تأخذ أهلها خاصة. والثاني، فتنة المحنة، وتلك تعم الخلق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

إن أهل الإسلام في ابتداء الأمر كانوا قليلي العدد، مستضعفين عند الكفرة، حتى كانوا يخافون أن يسلب الكفرة أرواحهم، وكانوا لا يأمنون على أنفسهم بالمقام في البلدان؛ لقلة عددهم وضعفهم؛ خوفًا على أنفسهم وإشفاقًا فتركوا المقام بالبلدان، وخرجوا إلى الجبال والغيران، فأقاموا فيها، وأكلوا الحشيش والكلأ طعام الأنعام؛ خوفا على أبدانهم وإشفاقًا على دينهم، ثم إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - آواهم، وأنزلهم في البلدان والأمصار، وأيدهم ونصرهم على عدوهم، ورزقهم الطيبات طعام البشر بعد ما أكلوا الحشيمش طعام البهائم. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): ليلزمهم الشكر على ذلك، ولا يجوز لهم ألا يشكروا بعد ما أصابوا؛ ذكر هذا - واللَّه أعلم - لنكون نحن من الإشفاق في الدِّين مثل أُولَئِكَ حين هربوا منهم، واتخذوا الجبال والغيران بيوتًا، والحشيش طعاما، وتركوا أموالهم ونعمهم، ورضوا بذلك؛ إشفاقًا على دينهم. وقال عامة أهل التأويل: نزلت الآية في أهل بدر، وكانوا قليلي العدد والعدة، ضعيفي الأبدان، والعدو كثير العدد، وقوي الأبدان، فاشتد عليهم الخروج لذلك؛ كقوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ. . .) الآية.، فكيفما كان ففيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ). أي: إذ كنتم قليلًا. وفيه دلالة لقول أبي حنيفة - رحمه اللَّه - فيمن قال: هذا الشيء لفلان اشتريته منه، صدق، ويصير كأنه قال: هذا الشيء كان لفلان اشتريته منه؛ دليله قوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) أي: إذ كنتم قليلًا. وقوله: (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ). على هذا التأويل أي: بالملائكة.

(27)

(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ). المغانم التي رزقهم وأحل لهم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ). جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذه الأمة وسطًا عدلًا بقوله: (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)؛ فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا قد جعلكم اللَّه أمناء عدلا وسطًا، فلا تخونوا اللَّه فيه؛ كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ. . .) الآية، وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وقال. (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .)، أخبر أنه ألزمهم الأمانة - أعني: البشر - دون ما ذكر من الخلائق فمنهم من ضيّع تلك الأمانة؛ من نحو المنافقين والمشركين، وخانوا فيها، فلحقهم الوعيد بالتضييع، وهو قوله: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ. . .) الآية، فكأنه قال: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا، قد قبلتم أمانة اللَّه فلا تضيعوها، ولا تخونوا فيها؛ كما قال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ)، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)، وغيرها من الآيات التي فيها ذكر الأمانات، نهاهم أن يخونوا فيها، فيكونون كأنهم خانوا أمانتهم. ويحتمل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، إن أنفسكم وأموالكم لله، وهي عندكم أمانة استحفظكم فيها، فلا تستعملوها في غير ما أذن لكم؛ لأن من استحفظ أحدًا في شيء ووضع عنده أمانة، فاستعملها في غير ما أذن له - صار خائنا فيها ضامنًا؛ فعلى ذلك

أنفسكم وأموالكم لله عندكم أمانة استحفظكم فيها، فإن استعملتموها في غير ما أذن لكم فيها، خنتم اللَّه والرسول فيها، فتخونوا أماناتكم التي لكم عند اللَّه إذا ضيعتم

الأمانة؛ كقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ)، أي: لا تخونوا اللَّه والرسول، ولا تخونوا أماناتكم التي فيما بينكم. وأصله: أنه - عَزَّ وَجَلَّ - امتحنهم فيما امتحنهم لمنافع أنفسهم ولحاجتهم، فيصيرون فيما خانوا فيما امتحنهم كأنهم خانوا أنفسهم وخانوا أماناتهم؛ كقوله: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، وقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ. .) الآية. ثم خيانة المنافقين والمشركين في الدِّين، وخيانة المؤمنين في أفعالهم، فوعدهم التوبة عن خيانتهم، وأوعد أُولَئِكَ على ما خانو! بقوله: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). أن أنفسكم وأموالكم ليست لكم، إنما هي لله عندكم أمانة، فلا تخونوا فيها. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الأمانة: الأعمال التي ائتمن اللَّه عليها العباد، يعني: الفريضة؛ يقول: (لَا تَخُونُوا اللَّهَ)، أي: [لا تنقضوها]. ثم اختلف أهل التأويل في نزول الآية: قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في أبي لبابة؛ وذلك أنه قيل في بعض القصة: إن النبي - عليه

(28)

السلام - حاصر يهود قريظة، فسألوا الصلح على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات، فأبي النبي، إلا أن ينزلوا على الحكم، فأبوا، فقالوا: فأرسل إلينا أبا لبابة، وكان مناصحهم، فبعثه النبي إليهم، فلما أتاهم قالوا: يا أبا لبابة، أننزل على حكم مُحَمَّد؟ فأشار أبو لبابة بيده ألا تنزلوا على الحكم، فأطاعوه، وكان أبو لبابة ماله وولده معهم، فخان المسلمين؛ فنزلت الآية في شأنه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في شأن - حاطب بن أبي بلتعة - حيث فعل ما فعل أبو لبابة. وقيل: نزلت في شأن قوم بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عهد الذين كانوا يعبدون الأوثان والأصنام. لكنا لا ندري في شأن من نزلت، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، سوى أن فيه ما ذكرنا من النهي عن الخيانة في أمانة اللَّه، والأمر بحفظها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

(29)

أي: لم يعطهم الأولاد والأموال لعبًا وباطلا، أو لتكون لهم الأموال والأولاد، ولكن أعطاهم محنة وابتلاء، وكذلك جميع ما أنشأ في الدنيا من الأشياء إنما أنشاها لنا فتنة ومحنة؛ كقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. . .) الآية، وقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، وقال: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ. . .) الآية، وغيرها من الآيات؛ يدل على أن جميع ما أنشأ فتنة ومحنة يمتحن به البشر؛ كقوله: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي: محنة وابتلاء امتحنا به في أنواع التأديب والتعليم والحفظ والحقوق التي جعلها لهم عليهم، وهو كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ. .) الآية، وأوجب في الأموال حقوقًا امتحننا بأداء تلك الحقوق التي فيها، وكذلك في جميع ما أمر اللَّه به الخلائق بأمور ونهاهم إنما أمر ونهى لمنفعة الخلائق، ودفع الضرر عنهم، لا لمنفعة نفسه، أو ضرر، أو حاجة يدفع بها عن نفسه؛ إذ له ملك ما في السماوات والأرض، وهو العزيز بذاته لا تمسه حاجة، يتعالى عن ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ). لمن لم يخن اللَّه والرسول؛ وعدهم الأجر العظيم إذا قاموا بوفاء ما امتحنهم الله وابتلاهم به من الأموال والأولاد؛ حيث قال: (وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ عَظِيمٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ... (29) قال بعض أهل التأويل: إن هذه الآية صلة ما سبق من الأمر بالجهاد ببدر والخروج إليه؛ كأنه قال: إن تتقوا اللَّه وأطعتم اللَّه وأجبتم له فيما دعاكم إليه، (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)، يحتمل قوله: (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)، أي: يجعل خروجكم إليه وجهادكم آية عظيمة يظهر بها المحق من المبطل؛ كقوله: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)، وقال: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) أي: ليظهر الحق من الباطل، وقد كان بحمد اللَّه ذلك، وبانَ الحق من الباطل، والمحق من المبطل. وقيل: قوله: (فُرْقَانًا)، أي: مخرجًا في الدِّين من الشبهات.

(30)

وقيل: مخرجًا في الدنيا والآخرة. ويحتمل: (فُرْقَانًا) أي: بيانًا لما ذكرنا؛ جعل اللَّه - تعالى - التقوى مشتملة على كل خير، وأصلا لكل بر، وصيرها مخرجًا من كل شبهة، ومن كل ضيق وشدة، وجعلها سبيلًا يوصل به إلى كل لذة وسرور، وينال به كل خير وبركة؛ على ما ذكر في غير آي من القرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ): التي سبقت، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي: يستر عليكم ذنوبكم، لا يطلع أحدًا عليها، وذلك من أعظم النعم، وأصل المغفرة: الستر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). أي: عند اللَّه فضل؛ يعطيكم خيرًا مما تطمعون بالتقوى الذي ذكر. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ)، من الناس من يقول بأن هذه الآية صلة قوله - تعالى -: (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ)، كانوا ضعفاء أذلاء فيما بين الكفرة، خائفين فيما بينهم، فهموا أن يمكروا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والمكر به ما ذكر من القتل والإثبات؛ وهو الحبس والإخراج؛ كأنهم تشاوروا فيما بينهم، واستأمروا ما يفعل به، فذكر في القصة أن بعضهم أشاروا إلى القتل، وبعضهم إلى الحبس، وبعضهم بالإخراج؛ فكأن مشاورتهم

وأمرهم رجعت إلى أحد هذه الوجوه: إما القتل، وإما الحبس، وإما الإخراج ثم أخرج اللَّه رسوله من بين أظهرهم على الوجه الذي يكون مطيعًا لله، متعبدًا له فيما كان خروجه بأمره، فيكون خروجه على غير الجهة التي أرادوا هم به، وسمى خروجه هجرة، وليعلموا أنه إنما علم بكيدهم ومكرهم به باللَّه؛ لتكون آية من آيات نبوته ورسالته بعد خروجه من بين أظهرهم، ومفارقته إياهم كما كان له من الآيات وقت مقامه بين أظهرهم، وهو كما كان لعيسى آيات وقت مقامه بين أظهرهم، وآية كانت له بالرفع بعد مفارقة قومهم؛ فعلى ذلك الأول. ولو كانوا لم يتوافقوا بما ذكرنا من القتل أو الحبس دون الإخراج، لم يكن. ليخرج رسوله من بين أظهرهم، وهم قد هموا بإخراجه، واللَّه أعلم. وفي قوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ. . .) إلى آخر ما ذكر، تذكير ما أنعم على رسوله وأصحابه؛ لأنه آواهم إلى الأمن بعد ما كانوا خائفين فيهم، وأنزلهم المدينة بعد ما كانوا في الغيران في الجبال هاربين منهم، ورزقهم من الطيبات طعام البشر بعد ما كانوا يتناولون من طعام البهائم والسباع؛ يذكر نعمه عليهم باستنقاذه إياهم من بين ظهرانيهم، والحيلولة بينه وبين ما قصدوا وهموا بالمكر به والهلاك بقوله: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ). فيه من الوجوه احتجاجًا عليهم وجهان: أحدهما: ما ذكرنا أنهم تشاوروا فيما بينهم بالمكر به لم يطلعوا أحدًا، ثم علم ذلك هو فخرج؛ ليعلموا أن اللَّه هو الذي أطلعه على ذلك. والثاني: كان يخوفهم الهلاك بمكرهم برسوله، فخرج من بينهم من غير أن أصابه ما هموا به، وقد أصابهم من الهلاك الذي كان يخوفهم، وحل بهم ما كانوا هموا به وقصدوه، وذلك ما ذكر من مكر اللَّه بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أرادوا هم بمكرهم به شرًّا، وهو أن يطفئوا هذا النور؛ ليذهب هذا الدِّين وتدرس آثاره، وأراد أن يسلم منهم نفر ليكونوا أعوانًا ونصرًا له، ليأخذوا حظهم

(31)

بذلك؛ فهو خير الماكرين. وقيل: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ)، أي: أرادوا قتله، (وَيَمْكُرُ اللَّهُ): أراد قتلهم فقتلهم، ببدر، (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي: أفضل مكرًا منهم، غلب مكره مكرهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ)، أي: يجزيهم جزاء مكرهم. وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) يحتمل قوله: (آيَاتُنَا): آيات القرآن التي كان يتلو رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويحتمل آياته: حججه وبراهينه التي توجب التوحيد وتصديق الرسل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا). قالوا ذلك متعنتين؛ إذ كان يقرع أسماعهم قوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)، وقوله: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. . .) الآية، ثم لم يكن يطمع أحد منهم أن يأتي بمثله، وتكلفوا في ذلك؛ دل أن قولهم: (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) تعنت وعناد. (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) كذلك كان يقول العرب: إنه أساطير الأولين. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) وقوله: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ. .) الآية. يذكر نهاية سفههم، وغاية جرأتهم على اللَّه، وبغضهم الحق، مع علمهم أن اللَّه هو الإله، وأنه قادر على إنزال العذاب، وله السلطان على إمطار الحجارة بقولهم: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، فلم يبالوا هلاك أنفسهم؛ لشدة سفههم، وجرأتهم على اللَّه، وبغضهم الحق، وذكر

(33)

هذا - واللَّه أعلم - ليعلم الناس ما لحق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بدعاء هَؤُلَاءِ السفهاء إلى دين اللَّه الذين لم يبالوا هلاك أنفسهم؛ لشدة بغضهم الحق، وجرأتهم على اللَّه، وما يتحمل منهم من العظيم. وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) يحتمل قوله. (وَأَنْتَ فِيهِم) أي: في جملة المؤمنين أنه لا يعذب أحدًا في الدنيا ما دام هو فيهم، وما دام مؤمن فيهم بقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، أي: يؤمنون، وهو كما ذكر أنه أرسله رحمة بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ومن رحمته ألا يعذب أحدًا من أمته في الدنيا، إنما يؤخر ذلك إلى يوم التناد بقوله: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ. . .) وقوله: (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ). ويحتمل أن يكون قوله: (وَأَنتَ فِيهِم): في أهل مكة خاصة أنه لا يعذبهم ما دام هو فيهم، وما دام فيهم أحد من المسلمين؛ من نحو النساء والذراري؛ كقوله: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ. . .) الآية. أي: لا نعذبهم وأنت يا مُحَمَّد فيهم، أي: بين أظهرهم حتى نخرجك من بينهم، (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، أي: يصلون. وقيل: يؤمنون؛ وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولكن يعذبهم تعذيب القتال والجهاد، ولا يعذبهم تعذيب استئصال على ما أهلك سائر الأمم. ثم إن المعتزلة تعلقت بظاهر قوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، أي سيؤمنون؛ أي: لا يعذبهم ما دام يعلم أن فيهم أحدًا يؤمن في آخر عمره، أو من قولهم ألا يجوز لله أن يهلك أحدًا إذا كان في علمه أنه سيؤمن في آخر عمره؛ لقولهم في الأصلح: إن اللَّه لا يفعل بخلقه إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين؛ فعلى ذلك تأولوا ظاهر هذه الآية أنه لا يعذبهم م وهم يستغفرون، أي: سيؤمنون. لكن لو كان كما قالوا، لكان لا يجوز الجهاد معهم أبدًا، ويسقط الأمر بالقتال؛ إذ لعل فيهم من يسلم، فإذا أمره بالجهاد والقتال معهم، دل أن ذلك ليس ما توهموا، والله أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ): أي: وهم يدخلون في الإسلام. وقيل: يسلمون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ): بقية من بقي في مكة من المسلمين، فلما خرجوا منها قال: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ... (34) وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: فيكم أمانان: أحدهما: رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لقول اللَّه تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ). والآخر: الاستغفار؛ لقول اللَّه تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). قال: فذهب أمان، وهو رسول اللَّه، وبقي أمان، وهو الاستغفار. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: إن اللَّه جعل في هذه الأمة أمانين؛ لا يزالون معصومين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم؛ فأمان قبضه اللَّه إليه، وأمان بقي فيكم، وهو الاستغفار الذي ذكر. وروي عن عبد اللَّه بن عمر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان ساجدًا في آخر سجوده في صلاة الآيات، فقال: " أف! أف! "، فقال: " رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم؟ رب ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون ".

(34)

وعن بعضهم: أمانان أنزلهما اللَّه؛ أما أحدهما: فمضى، وهو نبي اللَّه، وأما الآخر: فأبقاه اللَّه - تعالى - بين أظهركم، وهو الاستغفار والتوبة. وفي إثبات قول السفهاء ودعائهم بإمطار الحجارة عليهم، وجعل ذلك كتابًا يتلى عليهم في الصلوات - أوجه ثلاثة من الحكمة: أحدها: تعريف لهذه الأمة المعاملة مع السفهاء عند ارتكاب المناكير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنهم إذا تمادوا في غيهم واستقبلوه بالمكروه والأذى ألا يترك الأمر لهم بالمعروف، ولا يؤيس من خيرهم اقتداء بالنبي أنه لم يترك دعاءهم، وأمرهم بالمعروف مع شدة سفههم وتمردهم. والثاني: ليعلم الخلق أن حجة اللَّه تلزم العباد وإن كانوا قد جهلوه، إذا كان التضييع جاء من قبلهم في ترك النظر والتفكر؛ إذ لو علموا حقيقة العلم أنه الحق، لم يكونوا ليدعوا على أنفسهم بالهلاك. والثالث: يكون فيه بيان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... (34) أي: ما لهم من عذر في صرف العذاب عن أنفسهم؛ إذ قد كان منهم من أنواع ما كان لو كان واحد من ذلك لكانوا يستوجبون العذاب؛ من تكذيبهم الرسول والآيات التي أرسلها إليهم، وصدهم الناس عن المسجد الحرام، وهو مكان العبادة، وسؤالهم بقولهم: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، أي: ليس لهم عذر في صرف العذاب عن أنفسهم، والاحتجاج على اللَّه أنه لم يرسل رسولاً بقولهم: (لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا. . .) الآية؛ بل أرسل إليهم الرسول، فكذبوه، وبعث إليهم الآيات فكذبوها، وصدّوا الناس عن المسجد الحرام، فلا عذر لهم في وجه من الوجوه أن يصرف العذاب عنهم، إلا أن اللَّه بفضله ورحمته يصرف العذاب عنهم ببركة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واستغفار المؤمنين، وإلا قد كان منهم جميع أسباب العذاب التي يستوجبونه بها.

(35)

وقوله: (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). أي: عن الصلاة فيه. ويحتمل أن يكونوا صدوا الناس عن رسول اللَّه، لكنه ذكر المسجد لما كان رسول الله فيه؛ لئلا يروا رسول اللَّه فيتبعوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ). أي: لم يكونوا أولياء ليصرفوا العذاب عن أنفسهم بالولاية، وهو صلة قوله: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ)، وهم ليسوا بأوليائه. ويحتمل قوله: (وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ): أنهم كانوا يصدون الناس عن المسجد الحرام؛ لما ادعوا أنهم أولياؤه، وأنهم أولى بالمسجد الحرام منهم، أخبر أنهم ليسوا أولياءه، إنما أولياؤه المتقون الذين اتقوا ما أتوا هم، أو أولياؤه الموحدون، لا الذين أشركوا غيره في عبادته وألوهيته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) قَالَ بَعْضُهُمْ: كان أحسن حالهم التي هم عليها هي حال الصلاة، فإذا كان صلاتهم مكاء وتصدية فكيف حالهم في غير الصلاة؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) وذلك أن النبي - عليه السلام - وأصحابه إذا صلوا في المسجد الحرام، قام طائفة من المشركين عن يمين النبي وأصحابه، فيصفرون كما يصفر المكاء، وطائفة تقوم عن يسارهم فيصفقون بأيديهم؛ ليخلطوا على النبي وأصحابه صلاتهم، فنزل قوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً). ثم اختلف في المكاء والتصدية؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: المكاء: هو مثل نفخ البوق، التصدية هي طوافهم على الشمال

(36)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: المكاء: الصفير؛ يقال: مكا يمكو، وهو مثل ما قيل للطائر: مكاء؛ لأنه يمكو، أي: يصفر، يعني: يصوت، والتصدية: هي التصفيق؛ يقال: صدى: إذا صفق بيديه. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المكاء: شبه الصفير، والتصدية: ضرب باليدين، وهو من الصدى؛ من الصوت. وقيل: المكاء: صفير كان أهل الجاهلية يلعبون به، والتصدية: الصد عن سبيل الله ودينه. وقوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ). قال بعض أهل التأويل: ذوقوا العذاب يوم بدر، وهو الهزيمة والقتل الذي كان عليهم يوم بدر. ويحتمل قوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ): في الآخرة؛ بكفرهم في الدنيا. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. . .) الآية. يذكرهم - واللَّه أعلم - النعم التي أنعمها عليهم؛ من أنواع النعم: أحدها: ما أنزلهم في بقعة خصَّت تلك البقعة وفضلت على غيرها من البقاع؛ وهو مكان العبادة، ثم صدوا الناس عن الدخول فيها والعبادة فيها، ومن ذلك بعث

الرسول منهم فيهم فكذبوه، وما أعطاهم من الأموال، فانفقوها في الصد؛ صذ الإنسان عن مكان العبادة وإقام العبادة فيه. ثم اختلف في معنى الصد؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: إن كفار قريش استأجروا لقتال بدر رجالا من قبائل العرب؛ عونًا لهم على قتال النبي - عليه السلام - وأصحابه؛ فذلك نفقتهم التي أنفقوا، فصار ذلك حسرة عليهم لما كانت الهزيمة عليهم. روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: تلك قد خلت؛ إن ناسًا في الجاهلية كانوا يعطون ناسًا أموالهم فيقاتلون نبي اللَّه، فأسلموا عليها، فطلبوها، فكانت عليهم حسرة. وعن سعيد بن جبير قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب، استأجر يوم أحد أجراء من الأحابيش من كنانة، فقاتلهم النبي، عليه السلام. ويحتمل أن يكون قوله: (تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) يوم القيامة، أي: النفقة التي أنفقوها تصير عليهم حسرة في الآخرة؛ لما أنفقوها في غير حل؛ لصد الناس عن سبيل

(37)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ). أي: يجمعون، وهو ظاهر، يجمعون إلى جهنم بكفرهم باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) جعل اللَّه - تعالى - الخبيث مختلطًا بالطيب في الدنيا في سمعهم، وبصرهم، ونطقهم، وجميع جوارحهم، ولباسهم، وطعامهم، وشرابهم، وجميع منافعهم من الغنى، والفقر وأنواع المنافع، جعل بعضهم ببعض مختلطين في الدنيا؛ على ما ذكرنا، لكنه ميز بين الطيب والخبيث في الآخرة بالأعلام، يعرف بتلك الأعلام الخبيث من الطيب؛ من نحو ما ذكر في الطيب: قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23). (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)، وقال في الكافرة: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)، وقال: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا) وقوله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا)، وقال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا. . .)، وغير ذلك من الآيات؛ ميز اللَّه - تعالى - بين الخبيث والطيب بالأعلام التي ذكرنا في سمعهم، وبصرهم، ووجوههم، ولباسهم، ومأكلهم، ومشربهم؛ حتى يعرفوا جميعًا با لأعلام. ويحتمل ما ذكر من التمييز بين الخبيث والطيب: بالمباهلة التي جرت بين أبي جهل وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ حيث قال أبو جهل: انصر من أهدانا سبيلًا، وأبرنا قسمًا، وأوصلنا رحمًا، فأجيب بنصر رسوله وأصحابه، فميز بين المحق والمبطل. ويحتمل ما ذكر من التمييز في الآخرة؛ كقوله: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يجعلهم دركات بعضها أسفل بعض؛ كقوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ). والثاني: يحتمل أن يجعل بعضهم على بعض مقرنين في الأصفاد.

(38)

(فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا) وقيل: يجمعه جميعًا بعضهم على بعض. ويحتمل قوله: (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا) إخبارًا عن الضيق؛ كقوله: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا). وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا)، أي: يجعله ركامًا بعضه فوق بعض. وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: ركمت المتاع: إذا جعلت بعضه فوق بعض. وقوله: (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ). الجهنم: هو المكان الذي يجمع أهل النار في التعذيب. * * * قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - غاية كرمه وجوده بما وعدهم من المغفرة والتجاوز عمّا كان منهم من الإشراك في ألوهيته، وصرف العبادة إلى غيره، وصدّ الناس عن عبادته وطاعته، ونصب الحروب التي نصبوا بينهم وبين المؤمنين، وغير ذلك من أنواع الهلاك، فمع ما كان منهم وعدهم المغفرة بالانتهاء عن ذلك؛ ليعلم غاية كرمه وجوده. والمغفرة تحتمل التجاوز أي يتجاوز عنهم؛ ما كان منهم لا يؤاخذهم بذلك.

ويحتمل: يستر عليهم معاصيهم التي كانت منهم، ولا يذكرون ذلك؛ لأنهم لو ذكروا ذلك تنغص عليهم النعم. وفيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر أنهم إن انتهوا وتابوا غفر لهم ما قد كان منهم، وإنَّمَا كانوا منتهين بالإيمان، ولم يجعل بين الإيمان والكفر منزلة ثالثة، وهم يجعلون بينهما منزلة ثالثة، ويقولون: إذا ارتكب كبيرة خرج من الإيمان، ويخلد في النار أبدًا، ولم يكن داخلًا في الكفر. وفيه دليل نقض قول من يقول بأن على الكافر فعل العبادات؛ من نحو الصلاة، والزكاة، والصيام؛ لأنه ذكر الانتهاء، والانتهاء عما كان من ترك العبادات القيام

بقضائها، وإذا ما تركوا، فلما لم يجب عليهم أداء شيء من ذلك، دل أنه لم يكن عليهم في حال كفرهم فعل تلك العبادات، إنما عليهم اعتقاد تلك العبادات؛ إذ لو كانت عليهم لكان الانتهاء بقضاء ذلك؛ كقوله - عليه السلام -: " من نام عن صلاة أو نسيها، فعليه أن

(39)

يصليها إذا ذكرها أو إذا استيقظ، وذلك كفارته "؛ وكذلك قوله - تعالى -: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)، ليس على الفعل، ولكن في حق الاعتقاد أنه لا سبيل إلى القيام بفعل ما ذكر إلا بعد حول ووقت طويل. وفي هذه الآية دلالة على أن ليس بين الشرك والإيمان منزلة ثالثة؛ على ما يقوله المعتزلة في صاحب الكبيرة؛ لأنه لو كان بين الكفر والإيمان منزلة ثالثة، لكانوا إذا انتهوا عن الكفر ولم ينتهوا عن تلك المنزلة لا يغفر لهم؛ على قولهم؛ فدل ما ذكر من المغفرة على أن ليس بينهما منزلة، ولكن إذا انتهوا عن الكفر دخلوا في الإيمان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى الكفر وقتال مُحَمَّد بعد ما انتهوا عنه، (فَقَدْ مَضَت. . .)، يعني: القتال. ويحتمل أن يكون قوله: (يَعُودُوا) أي: ما داموا فيه، لا أن كانوا خرجوا منه؛ نحو قوله - تعالى -: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، كانوا فيه، لا أن كانوا خرجوا منه ثم دخلوا في غير ذلك. ثم يحتمل وجهين بعد هذا: أحدهما: أن للكفر حكم التجدد في كل وقت. والثاني: ما ذكرنا أن ذكر العود فيه لدوامهم فيه وإن لم يخرجوا منه، وذلك جائز في اللسان؛ كقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) ابتداء إخراج من غير أن كانوا فيه، وكقوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ) ابتداء رفع، لا أن كانت موضوعة فرفعها من بعد؛ فعلى ذلك قوله: (وَإِنْ يَعُودُوا) يحتمل: أي: داموا فيه. وقوله: (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ). مضت، يحتمل ما ذكرنا من القتال. والثاني: سنة الأولين: الهلاك الذي كان. وقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)

قيل: الفتنة: الشرك، أي: قاتلوهم حتى لا يكون الشرك، (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ). ويحتمل قوله: (حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي: محنة القتال؛ كأنه قال: قاتلوهم إلى الوقت الذي ترتفع فيه المحنة، وهو يوم القيامة. وفيه دلالة لزوم الجهاد إلى يوم الدِّين، والفتنة: هي المحنة التي فيها الشدة،

(وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).

(40)

يخرج على وجهين: أحدهما: ويكون من الدِّين الذي هو الدِّين كله لله، لا نصيب لأحد فيه، وهو السبيل التي كانت للشيطان؛ كأنه قال: وتكون الأديان التي يدان بها دينًا واحدًا، وهو دين الله الذي يُدعى الخلق إليه، وبذلك بعث الرسل والكتب، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل أن يكون الحكم كله لله؛ كقوله: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)، أي: في حكم الملك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). وقوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ ... (40) قيل: ناصركم. وقيل: المولى: المليك. (نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ). أي: نعم الناصر والمعين، (وَنِعْمَ النَّصِيرُ)؛ لأنه لا يعجزه شيء. وقيل: (مَوْلَاكُمْ)، أي: أولى بكم. * * * قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى). قال عامة أهل التأويل: إن الغنيمة: هي التي أصاب المسلمون من أموال المشركين بالقتال عنوة، والفيء: ما يعطون بأيديهم صلحًا.

والغنيمة يأخذ الإمام الخمس منها، والباقي يقسم بينهم، والفيء يأخذه الإمام فيضعه في مصلحة المسلمين، وليس فيه الخمس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغنيمة والفيء واحد. ثم قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. . .) إلى آخر ما ذكر، ذكر الخمس، ولم يذكر الأربعة أخماس أنها لمن، لكنها للمقاتلة بقوله: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا)، فكانت الغنيمة كلها لمن غنمها بظاهر هذه الآية، إلا ما استثنى اللَّه منها بالآية الأولى، وهو الخمس، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم، وعلى ذلك تواترت الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن صحابته موقوفة من بعده. روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن المال - يعني الغنيمة - فقال: " لي خمسه، وأربعة أخماسه لهَؤُلَاءِ " يعني: المسلمين. وروي أنه قسمها بين المقاتلة، يعني: الأربعة الأخماس. وفي بعض الأخبار أن أبا الدرداء وعبادة بن الصامت والحارث بن معاوية كانوا

جلوسًا، فقال أبو الدرداء: أيكم يذكر حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث صلى إلى بعير من المغنم، فلما انصرف فتناول من وبر البعير، فقال: " ما يحل لي من غنائمكم ما يزن هذه إلا الخمس، ثم هو مردود فيكم ". وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت الغنائم تجزأ خمسة أجزاء، ثم يسهم عليها، فما صار لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو له. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت الغنيمة تغتنم على خمسة أخماس؛ فأربعة منها لمن قاتل عليها. وغير ذلك من الأخبار، وعلى ذلك اتفاق الأئمة. ومنهم من يقول: يقسم على ستة: سهم لله يجعل في ستر الكعبة، وسهم لرسوله ينتفع به. ومنهم من قال: يقسم على خمسة: سهم لرسوله، وأربعة أخماسه لمن غنم. ومنهم من يقول: يقسم على أربعة: سهم لرسوله، وثلاثة أرباعه لمن غنم. ثم قوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) تحتمل إضافة ذلك إلى نفسه وجهين: أحدهما: لما جعل ذلك لإقامة العبادات وأنواع البر والخير والقرب التي هي لله، فأضيف إليه على ما أضيفت المساجد إليه بقوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)، وإن كانت البقاع كلها لله، وكذلك ما سمى الكعبة: بيت اللَّه، وإن كانت البيوت كلها

لله؛ لما جعلها لإقامة العبادات وأنواع القرب، فأضيف إلى اللَّه ذلك؛ فعلى ذلك تحتمل إضافة ذلك السهم إلى اللَّه؛ لما جعله لإقامة العبادات والقرب وأنواع البر، واللَّه سبحانه أعلم. والثاني: أضاف ذلك إلى نفسه خصوصية لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذ كان ذلك لرسوله، وكان رسول اللَّه في جميع أحواله وأموره ألله، خالصًا، لم يكن لنفسه ولا لأحد من الخلق؛ فعلى ذلك جميع ماله وما كانت تحويه يده لم يكن له، إنما كان ذلك لله خالصًا، يصرف ذلك في أنواع القرب والبر؛ في القرابة، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، الأحياء منهم والأموات جميعًا، والقريب منهم والبعيد جميعًا. ألا ترى أنه قال: " إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة "، هذا يدل أن ما يتركه صدقة لا يورث عنه، ولو كان له لتوارث ورثته ما يورث عن غيره؛ دل أن نفسه وماله كان لله خالصًا، وكذلك جميع أموره لله. ألا ترى أنه روي في الخبر أنه كان يجوع يومًا، ويشبع يومًا، ويجوع ثلاثًا، وكان يربط الحجر على بطنه للجوع. فإذا كان ذلك، كان إضافة ذلك الخمس إلى اللَّه لخصوصية له، وخلوص نفسه وماله له، وإن كان جميع الخلائق وما تحويه أيديهم لله حقيقة، لكن لهم فيها الانتفاع وقضاء الحوائج والتدبير لأنواع التصرف في ذلك، ولمشاركته غيره في ذلك لم يخصه بالإضافة إليه، وإن كان ذلك كله لله حقيقة. ولما كانت نفس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما تحويه يده لله لا تدبير له في ذلك، ولا شرك لأحد فيه، خصّ بإضافة ذلك إليه وكله لله حقيقة، وهذا كما قال - واللَّه أعلم -: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، وقال: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ)، وقال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، وقال: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا)، خصّ بالذكر ملك ذلك اليوم والبروز له؛ لما ينقطع يومئذ تدبير جميع ملوك الأرض، ويذهب سلطانهم

عنهم، ويصفو البروز له، وإن كان الملك في الأحوال كلها والأوقات جميعًا، وكذلك البروز له، والمصير إليه، وإن كان ذلك راجعا إليه في كل الأحوال؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. ثم ليس في ظاهر الآية دليل أن المراد بقوله: (وَلِذِي الْقُرْبَى) قرابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بل في ظاهرها دلالة أنه أراد به قرابة أهل السهام في ذلك؛ لأنه خاطب به الكل بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)، وظاهره أنه أراد به قربى من خاطب، وكان الخطاب لهم جميعًا. ألا ترى أنه لم يفهم من قوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ)، قرابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن قرابة المخاطبين، وكذلك لم يرجع قوله: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، إلى قرابة رسول اللَّه بل إلى قرابة المخاطبين به؛ فعلى ذلك الظاهر من قوله: (وَلِذِي الْقُرْبَى)، إلا أن يقال: أراد قرابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بدلالة أخرى سوى ظاهر الآية، وهو ما روي أنه قسم الخمس بين بني هاشم، وما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مالي من هذا المال إلا الخمس، والخمس مردود فيكم " وما روي أن نجدة كتب إلى ابن عَبَّاسٍ يسأله عن سهم ذي القربى فكتب إليه: كتبت تسألني عن سهم ذي القربى لمن هو؟ وهل هو لنا أهل البيت، وقد كان عمر دعانا إلى أن ينكح منه

أيمنا، ويقضي منه مغرمنا، فأبينا إلا أن يسلمه إلينا، فأبى ذلك علينا. فدل فعل عمر هذا على أن التأويل في الخمس كان عنده أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يصل به قرابته، ويسد بالخمس حاجتهم؛ إذ كان جعل سبيل الخمس ما ذكرنا أنه لله، بمعنى أنه يصرف في وجوه التقرب إليه، فلو كان الخمس حقًا لجميع القرابة أعطى من ذلك غنيهم وفقيرهم، وما يأخذه الأغنياء من الخمس فإنه لا يجري مجرى الصدقة، ولا يجري مجرى القرابة، فبان بذلك أنه لا يعطى منه أغنياؤهم؛ بل يصرف إلى فقرائهم على قدر حاجتهم؛ إذ لم يكن له مكاسب سواه يصل بها كما يكون لغيره من الناس من المكاسب وأنواع الحرف. ومما يدل على أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعطى بعض القرابة دون بعض: ما روي عن جبير بن مطعم قال: لما قسم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، أتيت أنا وعثمان، فقلنا: يا رسول اللَّه، هَؤُلَاءِ بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك اللَّه فيهم، أرأيت بني المطلب أعطيتهم ومنعتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: " إنهم لا يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد "، وشبك بين أصابعه. وقوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ. . .) إلى آخر ما ذكر، بين أن خمس الغنيمة يصرف في وجوه البرّ والقرب إلى اللَّه، ثم فسر تلك الوجوه فقال: (وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى

وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)، فكانت تسمية هذه الأصناف - واللَّه أعلم - تعليمًا لنا أن الخمس يصرف فيمن ذكر من أهلها دون غيرهم، وليس ذلك إيجابًا منه لكل صنف منهم شيئًا معلومًا، ولكن على بيان الأصل والموضع، وهو كقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. . .) الآية، حمل أصحابنا ذلك على أن الصدقة لا تجوز إلا لمن كان من أهل هذه الأصناف دون غيرهم، ولم يحملوا الأمر على أن لكل صنف منهم شيئًا معلومًا محدودًا، ولكن على بيان أهلها، وعلى ذلك روي عن جماعة من الصحابة - رضي اللَّه عنهم - منهم: عمر، وعلي، وحذيفة، وابن عَبَّاسٍ، وجماعة من السلف ممن يكثر عددهم، قالوا: إذا وضعت الصدقة في صنف واحد أجزأك.

فلو كان لأهل كل صنف الثمن منها، كان المعطى بها صنفًا واحدًا مخالفًا لما أمر به؛ فعلى ذلك قوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى. . .) الآية، معناه - والله أعلم - أن الخمس الذي يتقرب به من الغنيمة إلى اللَّه لا يستحقه إلا الرسول ومن كان من الأصناف التي ذكرها، فإلى أيهم دفع ذلك الخمس أجزأه. وإذا كان التأويل ما وصفنا لم يكن لأحد من أهل هذه الأصناف أن يدعي منه خمسًا ولا ربعًا، ولكن يعطى كل من حضر منهم بقدر فاقته وحاجته، وعلى قدر ما يراه الإمام، فإذا جاء فريق آخر، أعطوا مما يدفع إلى الإمام من ذلك الخمس من المال كفايتهم.

وكذلك روي عن ابن عمر أن ابن عَبَّاسٍ قال: كان عمر يعطينا من الخمس نحوًا مما كان يرى أنه لنا، فرغبنا عن ذلك، وقلنا: حق ذي القربى خمس الخمس، فقال عمر: إنما جعل اللَّه الخمس لأصناف سماها، فأسعدهم بها أكثرهم عددًا وأشدهم فاقة، فأخذ ذلك ناس. وتركه ناس، وكذلك فعل عمر لما ولي الأمر؛ روي عن ابن عَبَّاسٍ قال: عرض علينا عمر أن يزوج من الخمس أيمنا، ويقضي منه مغرمنا، فأبينا عليه إلا أن يسلمه إلينا، فأبى ذلك علينا. فدل فعل عمر على أن القرابة يعطون من الخمس قدر حاجتهم وما تسد به فاقتهم؛ إذ لو كان الخمس حقا لجميع القرابة أعطى من ذلك غنيهم وفقيرهم. ومما يدل أيضًا على أن الخمس لو كان حقًّا لجميع القرابة غنيهم وفقيرهم؛ لقسمه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيهم كما قسم أربعة الأخماس بين المقاتلة؛ بل أعطى منه بعض القرابة وحرم بعضًا كما ذكرنا في جبير ابن مطعم. ومما يدل -أيضًا- أن ذلك لأهل الحاجة منهم دون الكل: ما روي أن الفضل ابن عَبَّاسٍ وفلان دخلا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو يومئذ عند زينب بنت جحش، فقال: يا رسول اللَّه، أنت أبر الناس وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح.

فجئناك لتأمرنا على هذه الصدقات، فنؤدي إليك ما يؤدي العمال، ونصيب منها ما يصيبون، فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه ثانيًا، حتى جعلت زينب تلمح إلينا من وراء الحجاب ألا تكلماه، ثم قال: " ألا إن الصدقة لا تنبغي لآل مُحَمَّد، إنما هي أوساخ الناس ادعوا إليَّ محمية، " - وكان على الخمس - ونوفل بن الحارث بن أعبد، المطلب، فجاءاه، فقال لمحمية: " أنكح هذا الغلام ابنتك: للفضل " فأنكحه، وقال

لنوفل: " أنكح هذا الغلام ابنتك " فأنكحه، ثم قال لمحمية: " أصدقهما من الخمس " وكذا دل هذا على أن الحق لهم فيه لأهل الحاجة منهم. ومما يدل أيضا على ذلك ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ما لي من هذا المال إلا الخمس، والخمس مردود فيكم " لم يخص القرابة بشيء منه، كان سبيلهم سبيل أمر المسلمين يعطي من يحتاج منهم كفايته؛ وعلى هذا أمر الأئمة الراشدين، ولم يغيره علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ولي الأمر، وكان ذلك عندنا مما لا يجوز مخالفتهم عليه. فَإِنْ قِيلَ: لو كان قرابة النبي إنما يعطون من الخمس على سبيل الفقر والحاجة، فهم على هذا يدخلون في عموم المساكين، فما وجه ذكره إياهم إذن؟ قيل: إن اللَّه تبارك - وتعالى - قال في الصدقات: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ)، ثم روي عن النبي - عليه السلام - قال: " لا تحل الصدقة لمُحَمَّد ولا لآل مُحَمَّد ". فلو لم يسهم لهم في الخمس، جاز أن يقول قائل: لا يجوز أن يعطوا من الخمس، وإن كانوا فقراء؛ كما لا يجوز أن يعطوا من الصدقة وإن كانوا فقراء، فكان سبب ذكر اللَّه إياهم في الخمس لذلك، واللَّه أعلم. ثم اختلف أهل العلم بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في سهم الرسول وسهم ذي القربى. فقال طائفة: سهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للخليفة من بعده، وسهم ذي القربى لقرابة الخليفة. وقال طائفة: سهم القربى لقرابة الرسول. وقال الحسن: سهم القرابة لقرابة الخلفاء. وقال غيره: القرابة قرابة رسول اللَّه. وقد ذكرنا أنه يحتمل أنه كان له يصل به قرابته بحق الصلة، أو يعطيهم بحق القرابة ما دام حيًّا. ثم قد ثبت عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا نورث، ما تركناه صدقة "، فإذا لم يورث عنه ما قد حازه من سهامه، فكيف يورث عنه ما غنم بعد وفاته؟! ولو كان سهمه

الذي لم يلحقه موروثًا عنه، كان سهمه الذي قد حازه أحرى أن يورث عنه، فإذا لم يورث الذي قد حازه وملكه عنه، لا يورث الآخر، واللَّه أعلم. وعن عائشة أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال أبو بكر: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل مُحَمَّد في هذا المال حق الغنائم " أي: من الغنائم، واللَّه، لا أدع أمرًا رأيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصنعه فيه إلا أصنعه. وفي بعض الأخبار قال: " لا يقسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا، ما تركت سوى نفقة عاملي ومؤنة نسائي فهو صدقة ". وعن عمر: كان لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مما أفاء اللَّه عليه نفقة سنة، ويجعل ما بقي في مال اللَّه. وروي -أيضًا- عنه أنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء اللَّه على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

وكانت له خالصة، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح. فهذه الأخبار تبين أنه لم يورث سهم النبي بعد وفاته، فهي تدل على ألا نقدر بعد موت النبي من خمس الغنائم للخليفة شيئًا، وأن ذلك إنما كان خصوصًا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كالصفي الذي كان له خاصة دون غيره، وكما لم يوجف عليه المسلمون بخيل

ولا ركاب، فكان له ذلك خاصة، فليس لأحد غير النبي - عليه السلام - خصوص من الخمس؛ كما ليس له خصوص من الصفي وغيره، وإذا كان الأمر في سهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما وصفنا، ولم ينقص من الخمس الذي هو لله شيء بعد موت النبي، ويخرج ذلك الخمس كله من الغنيمة - فذلك يدل على أن الخمس ليس لأهل هذه السهام حقا مقسومًا، ولكن يعطون منه بقدر فاقتهم. ويدل ذلك -أيضًا- على أنه لا يجب لكل صنف من هذه الأصناف سهم معلوم؛ لأنا قد رددنا سهم النبي من الخمس على سائر السهام، فكما جاز أن يرد عليهم سهم النبي، فكذلك يجوز أن يجعل سهم اليتامى أو بعضه للمساكين إذا حضروا وطلبوا ولم يحضر اليتامى؛ لأن المعنى في الآية - واللَّه أعلم - ألا يعطى إلا من كان من أهل هذه الأصناف فقد وضع الحق في موضعه، ولم يتعد به إلى غيره. ثم الخطاب في قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) لا يحتمل كلا في نفسه؛ كالخطاب بأداء الزكاة وغيرها من الحقوق، بل الخطاب راجع إلى الجماعة الذين غنموا. ألا ترى أن العسكر أو السرايا إذا دخلوا دار الحرب، فتفرقوا فيها، فغنم واحد منهم - يجب ضم ذلك إلى جميع العسكر والسرايا، فعند ذلك يخرج الخمس منه؟! دل أن الخطاب بذلك راجع إلى جماعة، وهي الجماعة التي لهم منعة يقومون للعدو، لا أنه خاطب كل أحد في نفسه؛ فهذا يدل على أن الواحد أو الاثنين إذا دخلوا دار الحرب بغير إذن الإمام فغنم غنائم لا يخمس، ولكن بسلم الكل له، وأمَّا الغنيمة نفسها لا يحتمل أن ترجع إلى أحد معلوم، أو مقدار محدود؛ كالزكاة وسائر الحقوق؛ لأن الغنيمة شيء يؤخذ من أيدي الكفرة، وإنما يؤخذ قدر ما يظفر به ويوجد؛ فلا يحتمل أن يرجع الخطاب به إلى قدر، دون قدر؛ بل القليل من ذلك والكثير سواء، لا حد في ذلك ولا مقدار، ليس كالزكاة وغيرها من الحقوق التي جعل فيها حدًّا، ومقدارًا للوجه الذي ذكرنا. وأما المصيبون لها والآخذون فلهم في ذلك مقدار، وهم الذين لهم منعة. ثم نذكر مسألة في قسمة السهام بين الرجالة والفرسان، وإن لم يكن في الآية ذكر ذلك:

روي عن ابن عمر قال: أعطى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر الراجل سهمًا، والفارس ثلاثة أسهم سهمًا له وسهمين لفرسه. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: أسهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر للراجل سهمًا، وللفارس ثلاثة أسهم، سهما له وسهمين للفرس. وعن زيد بن ثابت أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعطى الزبير يوم خيبر أربع أسهم: سهم ذي القربى وسهم له وسهمين للفرس. ثم روي -أيضًا- عن ابن عمر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم للفارس سهمين، وللراجل سهمًا. وعن المقداد أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أسهم له يوم بدر سهما، ولفرسه سهمًا. وعن علي قال: للفارس سهم. وعن المنذر قال: بعثه عمر في جيش إلى مصر، فأصاب غنائم، فقسم للفارس سهمين وللراجل سهم فرضي بذلك عمر. فجعل بعض أهل العلم ما ذكر في هذه الأحاديث من الإسهام للخيل، وقول بعض الرواة ثلاثة أسهم للفرس سهمين. وقول بعضهم: أسهم للفارس سهمين - اختلافًا وتضادا، فحملوا على التناسخ، وقد يجوز ألا يكون كذلك، وقد تكون زيادته التي زادها النبي للفرس على سهم إن كان محفوظًا ثابتًا لنفل نفله للأفراس حينئذ؛ ترغيبًا منه للمقاتلة في اتخاذها

وتحريضًا؛ كما يجوز أن يقول الإمام: من قتل قتيلًا فله سلبه، ومن جاء برأس كذا فله كذا؛ يحرض بذلك المقاتلة في القتال؛ فعلى ذلك زيادة سهم لمكان الأفراس ترغيبًا منه وتحريضًا على اتخاذها. فأما إذا كثرت الأفراس، فإن سهمانها لا تكون أكثر من سهمان أصحابها؛ لأن الفارس كثر غنمه من فرسه، فإن لم يزد عليه لم ينقص عنه بسهم. وكان أبو حنيفة - رحمه اللَّه - يسهم للفارس بسهمين، وأبو يوسف - رحمه اللَّه - يرى أن يسهم للفرس سهمين، ولصاحبه بسهم. واحتج في ذلك بقوله: قال اللَّه - تعالى -: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ)، فكانت النضير خالصة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن لمن حضرها من المسلمين شيء؛ إذ لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وقد أتوها مشاة، فلما منع الرجالة من السهمان؛ لاستغنائهم في فتحها عن الخيل، جاز أن تزاد الخيل في السهمان على سهمان الرجالة، إذا كان الرجالة يمنعون السهام، وإن حضروا إذا لم يلجئوا إلى ركوب الخيل. لكن الحجة على هذا ما ذكرنا أن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يحاربوا على النضير فرسانًا ولا رجالة، ولو احتاجوا إلى الحرب لاحتاجوا إلى الخيل، فمن حيث لم يحاربوا عليها لم يستحقوا منها شيئًا، وإنَّمَا ذكرنا اللَّه - تعالى - على سهولة أمرها،

وأنهم لم يحاربوا عليها خيلا ولا ركابًا، وإذا لم يحاربوا على مدينة فغنموا مالا، فهو مصروف في مصالح المسلمين لا تجري فيه السهام، فكانت النضير على ما ذكر خالصة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، يأخذ منها نفقة نسائه، ويصرف سائرها إلى مصالح المسلمين. ومن الدليل على أن النضير لو احتيج فيها إلى حرب حاربهم النبي وأصحابه رجالة وجرت في غنائمهم القسمة -: أن قومًا من المسلمين لو حاربوا اليوم على مدينة من مدائن الشرك رجالة، قسم ما يغنم منها؛ كما يقسم لو كان معهم فرسان. ومن الدليل على ذلك -أيضًا-: أن الرجالة إذا كانوا مع الفرسان في الحرب، قسم لهم كما يقسم للفارس خاصة، فلو كانت الغنيمة إنما تقسم لسبب الخيل ما أعطى الرجالة منها شيئًا؛ إذ لا أفراس لهم، وذلك يفسد ما ذكرنا لأبي يوسف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)، ثم قال: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ) أي: وإن تولوا هم وقد آمنتم أنتم، فاعلموا أن اللَّه مولاكم، ليس بمولى لهم. وقالت طائفة: قوله: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ) ليس على الشرط على ألا تكون غنيمة إذا لم يكونوا مؤمنين، ولا يجب العدل في القسمة إذا كانوا غير مؤمنين، ولكن على التنبيه والإيقاظ؛ كقوله: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، ليس على أنه لا يجب أن يذروه إذا لم يكونوا مؤمنين، ولكن على ما ذكرنا؛ فعلى ذلك الأول، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ). قيل: قوله: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا): الملائكة الذين أرسلهم يوم بدر لنصرة المؤمنين، وأنزل عليهم المطر حتى شدّ الأرض بذلك، فاستقرت أقدامهم وثبتت بعد ما كانت لا تقر الأقدام فيها ولا تثبت، وشربوا منه ورووا بعد ما أصابهم العطش؛ إذ كان المشركون أخذوا المال.

(42)

وقوله: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ). قيل: يوم فرق بين الحق والباطل؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل يوم بدر آية؛ حيث غلب المؤمنون المشركين مع قلة عددهم، وضعف أبدانهم، وفقد الأسباب التي بها يحارب ويقاتل، وكثرة العدو وقوتهم، ووجود أسباب الحرب والقتال؛ ليعلموا أنهم غلبوا أُولَئِكَ وهزموهم بنصر اللَّه إياهم، فكان آية فرق المحق منهم والمبطل. وقيل: هو يوم الفرقان، ويوم الجمع: جمع النبي والمؤمنين، وجمع المشركين، ويوم الافتراق: افتراق المشركين من المؤمنين أنهزامهم، وهو كما سمى يوم القيامة: (يَوْمَ الْجَمْعِ) في حال، ويوم الافتراق في حال أخرى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى ... (42) قَالَ بَعْضُهُمْ: العدوة القصوى: شفير الوادي الأقصى، والعدوة الدنيا: شفير الوادي الأدنى. وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: العدوة: الشفير، شفير الوادي. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: العدوة: ناحية الوادي التي تليهم، وقال: إنما سميت الدنيا؛ لأنها دنت منك، والآخرة؛ لأنها استأخرت. وقيل في حرف ابن مسعود: (إذ أنتم بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى). وقال أبو معاذ: العِدْوَة والعُدْوَة لغتان، والركب والركبان والركاب والراكبون كله لغة. قال في حرف حفصة: (إذ أنتم بالعدوة القصيا).

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِذْ أَنْتُمْ): معشر المؤمنين، (بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا): من دون الوادي على الشط مما يلي المدينة، (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى): من الجانب الآخر مما يلي مكة، يعني: مشركي مكة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ). يعني: أصحاب العير على ساحل البحر، أو على الماء. وقال قتادة: جمع اللَّه المشركين والمسلمين ببدر على غير ميعاد، وهما شفيرا الوادي، كان المسلمون بأعلاه، والمشركون بأسفله، (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ): أبو سفيان انطلق بالعير في ركب نحو الحرب. وقيل: إذ أنتم بأدنى المدينة، وهم بأقصى مما يلي مكة؛ على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ). يحتمل: أن: لو علمتم أنكم تخرجون إلى الحرب دون العير، لم تخرجوا إلا بميعاد لتتأهبوا للحرب والقتال فاختلفتم في الميعاد، إما للخروج نفسه، وإما للميعاد نفسه: أتخرجون أو لا تخرجون أو منكم من يؤخر الخروج عن وقت الميعاد، ومنكم من لا يخرج رأسًا لينقضي ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا). يحتمل: لينجز اللَّه ما كان وعد من الظفر والنصر. أو ليقضي اللَّه أمرًا كان في علمه مفعولا، أن إحدى الطائفتين أنها لكم؛ كأنه قال: [(وعد اللَّه مفعولا)]، أي: منجزًا.

ويحتمل القضاء: إنثاء وخلق، ولكن لينشيء اللَّه ما قد علم أنه يكون كائنًا، والله أعلم. وقوله: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ). قال بعض أهل التأويل: ليكفر من كفر بعد ذلك عن بينة وحجة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان على الحق، وكان صادقًا ويؤمن من آمن على مثل ذلك. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) قال: ليموت من مات، (وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) يقول: عن بيان وحجة. وهو - واللَّه أعلم - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد كان أتاهم بآيات حسية، فسموه ساحرًا، وأخبرهم بالأنباء الماضية التي كانت في كتبهم، فقالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، وقالوا: إنه معلم (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ). وقد كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخالفهم في جميع صنيعهم من عبادتهم الأصنام والأوثان دون اللَّه، وكان يخوفهم ويوعدهم بأشياء، وكان لا يخافهم، وهم كانوا رؤساء كبراء، لا يخالفهم أحد في أمرهم ونهيهم إلا من كان به جنون، فلما رأوا رسول اللَّه خالفهم في جميع أمورهم نسبوه إلى الجنون، وقالوا: (سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)، و (مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ)؛ فأراد اللَّه أن يجعل له آية عظيمة؛ حتى لا يقدروا بالنسبة إلى شيء مما كانوا ينسبونه من قبل، فوعدهم النصر والفتح يوم بدر بعد ما علم أُولَئِكَ ضعف المؤمنين، وقلة عددهم، وقوة أنفسهم، وكثرة عددهم؛ لتكون حياة من حيي بعد ذلك عن بينة، وموت من مات على مثل ذلك، وإن كان له من الآيات ما لو لم يعاندوا ولا يكابروا عقولهم، لكانت واحدة منها كافية. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في ذكر القصة من أولها إلى آخرها، وهم قد علموا ذلك كله وشاهدوه؟! قيل: يذكرهم اللَّه - واللَّه أعلم - الحال التي كانوا عليها أمن الضعف والقلة والخوف وفقد أسباب الحرب والقتال وكثرة العدو وقوتهم ووجود أسباب الحرب والقتال؛ ليعلم الخلق أن النصر والغلبة ليس يكون بالكثرة، والقوة والأسباب؛ ولكن باللَّه - عز

(43)

وجل - لئلا يكلوا إلى الكثرة، ولا يعتمدوا على القوة، ولا يضعفوا، ولا يجبنوا، ولا يخافوا غيره؛ ليعرفوا أن ما أصابهم من الهزيمة والغلبة أصابهم لمعصية كانت منهم، أو إعجابًا بالكثرة، واعتمادًا بالقوة والأسباب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ... (43) اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) المنام نفسه، كان اللَّه يرى رسوله المشركين في منامه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه بما رأى، فقالوا: رؤيا النبي حق، القوم قليل، ليس كما بلغنا أنهم كثير. فلما التقوا ببدر، قلل اللَّه المشركين في أعين المؤمنين؛ تصديقًا لرؤيا رسول اللَّه. وقال الحسن: قوله: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) أي: في عينيك اللتين تنام بهما، وهو في اليقظة؛ لأنه ذكر أنه قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " تنام عيني ولا ينام قلبي "، وإنما أراه إياهم قليلا في العين التي بها ينام، وهما عينا الوجه، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لصاحب لي: تراهم سبعين، فقال: أراهم مائة، حتى أخذنا رجلا منهم، فسألناه، فقال: كنا ألفًا. فإن كان التأويل هذا الثاني أنه أراهم رسوله قليلا في اليقظة بالذي ينام، فهو ظاهر. وإن كان أراه إياهم في المنام حقيقة، فلقائل أن يقول: إن رؤيا الرسول وحي، فكيف أراه إياهم قليلا وهم كثير خلاف ما هو في الحقيقة؟! قيل: يحتمل أن يكون أراه بعضهم لا الكل، فهو حقيقة ما أراه إياهم؛ فكذلك قيل، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون أرى أصحابه إياهم قليلًا، وإن أضاف ذلك إلى رسول اللَّه؛ دليله ما ذكر في آخره؛ حيث قال: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ)، وذلك في القرآن كثير أن يخاطب به رسوله والمراد به غيره.

ألا ترى أنه قال: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) ومعلوم أن نزول هذه الآية بعد وفاة والديه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ) أي: لجبنتم. (وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ). أي: اختلفتم في أمر القتال والحرب. (وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ). قيل: سلم وأتم للمسلمين أمرهم على عدوهم، فهزمهم ونصرهم عليهم. ويحتمل قوله: (سَلَّمَ) أي: أجاب للمسلمين؛ لما استعانوا واستنصروه بالنصر والظفر لهم. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). أي: عليم بما في قلوب المؤمنين من الجبن والفشل وأمر عدوهم، واللَّه أعلم.

(44)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يحتمل قوله: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ. . .) الآية، لما رأوا الملائكة لأنفسهم أنصارًا وأعوانًا؛ إذ كان قد وعدهم النصر والإعانة بالملائكة، وكان العدو مع الملائكة فاستقلوا؛ لأن العدو وإن كانوا كثيرًا فهم قليل مع الملائكة، فرأوهم قليلا على ما كانوا، وقلل هَؤُلَاءِ في أعين هَؤُلَاءِ؛ لأنهم كذلك كانوا قليلا، فرءوا على ما كانوا، ولم يروا الملائكة. وقال بعض أهل التأويل: قلل هَؤُلَاءِ في أعين هَؤُلَاءِ، وهَؤُلَاءِ في أعين هَؤُلَاءِ، إذا التقوا؛ ليغري بعضهم على بعض وليجترئ بعضهم على بعض على القتال، واللَّه أعلم. وقوله: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا). هو ما ذكرنا أنه لينجز ما كان وعدهم من النصر والظفر للمؤمنين، والغلبة والهزيمة على أُولَئِكَ، وكذلك ذكر في القصة أن قوله: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)، في بدر فيه وعد ذلك؛ كقوله: (كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا). ويحتمل قوله: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ)، أي: ليخلق اللَّه وينشئ ما قد علم أنه يكون كائنًا، أو ليفصل بين الحق والباطل مما قد علم أنه يكون. وقال بعض أهل التأويل: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ): في علمه، (مَفْعُولًا): كائنًا؛ يقول: فيوجب أمرًا لابد كائن؛ ليعز الإسلام وأهله بالنصر، ويذل الشرك وأهله بالقتل والهزيمة، واللَّه أعلم. وهو قريب مما ذكرنا. (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). أي: إلى اللَّه يرجع تدبير الأمور وتقديرها، له التدبير في ذلك في الدنيا والآخرة. وذكر في بعض القصة أن أبا جهل - لعنه اللَّه - لما رأى قلة المؤمنين ببدر قال: واللَّه لا يعبد اللَّه بعد اليوم، فأكذبه اللَّه وقتله، فقال: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لا إلى الخلق، واللَّه أعلم. وأمر بدر من أوله إلى آخره كان آية، حتى عرف كل أحد ذلك، إلا من عاند وكابر عقله.

(45)

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا). قيل: الفئة: اسم جماعة ينحاز إليها، وهو من الفيء والرجوع، يفيئون إليها ويرجعون. ذكر - هاهنا - الفئة، أوذكر في الآية التي تقدمت الزحف، وهو قوله: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا) مكان الفئة، ونهى أُولَئِكَ عن تولية الأدبار بقوله: (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ)، وقال هاهنا: (فَاثْبُتُوا)؛ ليعلم أن في النهي عن تولية الأدبار أمر بالثبات، وفي الأمر بالثبات نهي عن تولية الأدبار، فيكون في النهي عن الشيء أمر بضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده، واللَّه أعلم.

(46)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا). قال أبو بكر الكيساني: قوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ): فيما تعبدكم من طاعته، ووعدكم من نصره، ولا تنظروا إلى الكثرة فتظفروا. ويحتمل قوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ) فيما لكم من أنفسكم وأموالكم، أي: إن أنفسكم وأموالكم له، إن شاء أخذها منكم بوجه تتقربون به إلى اللَّه، فاذكروا اللَّه على ذلك، وهو ما ذكر في قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. . .) الآية. ويحتمل: اذكروا اللَّه كثيرًا في النعم التي أنعمها عليكم. أو يقول: اذكروا المقام بين يدي رب العالمين، وذلك بالذي يمنعكم من المعاصي والخلاف لأمره، وبعض ما يرغبكم في طاعته؛ فيكون على هذا التأويل الأمر بذكر الأحوال. ويحتمل الأمر بذكر اللَّه باللسان، وذلك بعض ما يستعان به في أمر الحرب (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تفلحوا، بالنصر والظفر، أو (تُفْلِحُونَ) أي: تظفرون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... (46) أطيعوا اللَّه فيما يأمركم بالجهاد والثبات مع العدو، ورسوله فيما يأمركم بالمقام في المكان، والثبات، وترك الاختلاف والتنازع في الحرب، وذلك بعض ما يستعان به في الحرب. (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا). أي: لا تنازعوا رسوله فيما يأمركم في أمر الحرب وعما ينهاكم؛ كقوله: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ)؛ لأنكم إذا تنازعتم اختلفتم وتفرقتم، فإذا تفرقتم فشلتم وجبنتم؛ فلا تنصرون ولا تظفرون على عدوكم؛ بل يظفر بكم عدوكم.

(47)

أو أن يقال: لا تنازعوا؛ لأنكم إذا تنازعتم تباغضتم، فيفشلكم التباغض بأنفسكم، في الجهاد مع العدو، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -، (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يذهب نصركم وظفركم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تذهب ريح دولتكم. ويحتمل: (رِيحُكُمْ)، الريح التي بها تنصرون، وعلى ذلك ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور "، وهو ما ذكرنا: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا). وقوله: (وَاصْبِرُوا). أي: اصبروا للجهاد ولقتال عدوكم. (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). بالنصر والظفر. وفي هذه الآية تأديب من اللَّه للمؤمنين، وتعليم منه لهم فيما ذكرنا، أي: في أمر الحرب وأسباب القتال والمجاهدة مع العدو؛ لأنه أمرهم بالثبات، وأمرهم بذكر اللَّه، ونهاهم عن التنازع والاختلاف، وذلك بعض ما يستعان به في الانتصار على عدوهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ ... (47) قوله: (بَطَرًا)، أي: كفرًا بنعم اللَّه؛ كقوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً. . .) الآية؛ فعلى ذلك خرجوا من ديارهم كفرًا بأنعم اللَّه؛ لأنهم خوجوا إلى قتال مُحَمَّد، وهو من أعظم نعم اللَّه على خلقه وهم كفروا تلك النعم حيث خرجوا لقتاله. وكذلك قالوا في قوله: (بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)، أي: كفرت.

(48)

وقوله (بَطَرًا)، كفرانًا وتكبرًا، أي: خرجوا متكبرين كافى ين. (وَرِئَاءَ النَّاسِ) يحتمل ومراءاتهم وجهين: أحدهما: ومراءاتهم في الدِّين؛ لأنهم قالوا: اللهم انصر أهدانا سبيلًا، وأوصلنا رحمًا، وأقرانا ضيفا عندهم أنهم على حق، وأن المؤمنين على باطل. ويحتمل: ومراءاتهم في أمر الدنيا؛ لأنهم كانوا أهل ثروة ومال، وأهل عدة وقوة، خرجوا مرائين للناس. وقوله: (وَرِئَاءَ النَّاسِ) لأنهم كانوا أهل الشرف عندهم، فخرجوا لمراءاة الناس. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). أي: يصدون الناس عن دين اللَّه؛ أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن خروج أُولَئِكَ الكفرة أنهم خرجوا لما ذكر، فكان فيه أمر للمؤمنين بالخروج على ضد ذلك؛ كأنه قال: اخرجوا على ضدّ ما خرجوا هم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ). أي: علمه محيط بهم، لا يغيب عنه شيء من مكائدهم وحيلهم والمكر برسول اللَّه في الدفع عنه والنصر له. والثاني: محيط بما يعملون، يجزيهم ويكافئهم، ولا يفوت عنه شيء؛ على الوعيد، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: زين لهم الشيطان أعمالهم بالوساوس، وقال: (لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ)، وإنما قال لهم هذا ووسوس لهم لما ألقى إليهم: إنكم أهل حرم الله وسكان بيته وحفاظه، فيقول: يدفع عنكم نكبة هَؤُلَاءِ، يعني: أصحاب محمدٍ كما دفع عنكم فيما كان من قبل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ). قيل: مجير لكم: مغيث؛ فعلى هذا التأويل كان قوله: (وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ)؛ كأنه يخبر عن اللَّه أنه يغيثهم كما أغاثهم من قبل في غير مرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الشيطان تمثل في صورة رجل يقال له سراقة بن مالك بن جعشم، فأتاهم فقال: لا ترجعوا حتى تستأصلوهم، فإنكم كثير وعدوكم قليل فتأمن عيركم ونحو هذا من الكلام. وقال صاحب التأويل الأول: لا يحتمل هذا؛ لأن أهل مكة كانوا جبابرة، وأهل قوة وبطش وبأس، فلا يحتمل أن يصدروا عن آراء رجل هو دونهم وهم بالوصف الذي ذكرنا. وعلى هذا التأويل أنه تمثل به فلان يكون قوله: (وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ) ما ذكر في بعض القصة أن أبا جهل وأصحابه اعتزلوا واستشاروا فيما بينهم، فأتاهم إبليس متمثلا بسراقة، فامتنعوا عنه واستأخروا، فلما رأى ذلك منهم، فقال: إني جار لكم وكان جارًا لهم؛ فتأويل هَؤُلَاءِ أشبه بما ذكر في آخر الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ)، أي: رجع مستأخرًا مقبلا

(49)

بوجهه إليهم فقال: (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ): إذا عاقب. قيل: رأى جبريل مع الملائكة ينزلون، فخاف منهم؛ ففيه دلالة أنه كان يخاف الهلاك قبل يوم الوقت المعلوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) قَالَ بَعْضُهُمْ: الذين في قلوبهم مرض هم المشركون (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ). وعن الحسن: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر؛ فسموا منافقين. وقال بعض أهل التأويل: إن قوما كانوا أسلموا بمكة، فأقاموا بها مع المشركين، ولم يهاجروا إلى المدينة، فلما خرج كفار مكة إلى بدر خرج هَؤُلَاءِ معهم، فلما عاينوا قلة المؤمنين وضعفهم، شكوا في دينهم وارتابوا فقالوا: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ)، يعنون: أصحاب مُحَمَّد. يقول اللَّه: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) فيثق بوعده في النصر ببدر؛ لقولهم: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ)، (فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ): لا يعجزه شيء. وقوله: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ)؛ لأنه لم يكن معهم عدة ولا أسباب الحرب من السلاح وغيره، فلم يكونوا يقاتلون إلا بقوة دينهم. وقوله: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ). فَإِنْ قِيلَ لنا: ما الحكمة في ذكر قول المنافقين في القرآن حتى نتلوه في الصلاة؟! قيل: ذكر - واللَّه أعلم - لنعرف عظيم منزلة الدِّين وخطير قدره في قلوبهم، أعني: قلوب المؤمنين، وذلك أنهم بذلوا أنفسهم للهلاك؛ لخروجهم لقتال عدوهم مع ضعفهم،

وقلة عددهم، وكثرة أعدائهم وقوتهم؛ رجاء أن يسلم لهم دينهم، يذكره لنا لنعرف عظيم محل الدِّين في قلوبهم؛ ليكون محل الدِّين في قلوبنا على مثل قدره. وفي قوله: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ) دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد؛ لأنهم إنما قالوا ذلك سرا فيما بينهم، فأطلع اللَّه رسوله على ذلك؛ ليعلم أنه عرف ذلك باللَّه. ثم اختلف في قوله: (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: هم المشركون، قال المنافقون والمشركون للمؤمنين: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم قوم أسلموا وقد كانوا ضعفاء في الإسلام والدِّين، فلما خرجوا إلى بدر، فرءوا ضعف أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقوة أُولَئِكَ القوم قالوا عند ذلك: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ). وقد ذكر في بعض القصة أن قومًا كانوا أسلموا بمكة، ثم أقاموا مع المشركين ولم يهاجروا إلى المدينة، فلما خرج كفار مكة إلى قتال بدر خرج هَؤُلَاءِ معهم، فلما عاينوا قهلة المسلمين شكوا في دينهم وارتابوا، فقالوا مع المنافقين: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ)، يعنون: أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال اللَّه: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ): من المؤمنين فيثق به في النصر ببدر؛ لقولهم: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ). وقوله: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): يجيء أن يكون هم المنافقون؛ على ما فسره في آية أخرى، فإن كان على ذلك فيكون على إسقاط الواو، وكأنه قال: يقول المنافقون الذين في قلوبهم مرض، إلا أن يقال: إن المنافقين هم الذين أضمروا الكفر حقيقة، والذين في قلوبهم مرض هم الذين لم يضمروا الكفر، لكنهم ارتابوا وشكوا، واعترضهم شك وارتياب من بعد إذ رأوا تأخر الموعود. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ) يخرج على وجهين: أحدهما: قالوا: غر هَؤُلَاءِ الموعود الذي وعدهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الفتوح لهم والنصر في الدنيا؛ يقولون: غَرَّ هَؤُلَاءِ ذلك الموعود الذي كانوا به من الفتوح والنصر الذي وعدهم. والثاني: يقولون: غَرَّ هَؤُلَاءِ الموعود الذي وعدوا في الآخرة من النعيم الدائم والحياة الدائمة.

(50)

فيكون أحد التأويلين بالموعود في الآخرة، وهو بالإسلام يكون، والثاني بالموعود في الدنيا، وهو الفتح والنصر الذي ذكرناه. وقوله: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ). لما رأوا أنهم تركوا آباءهم وأولادهم وجميع شهواتهم، وبذلوا أنفسهم للقتال؛ ليسلم لهم دينهم؛ لذلك قالوا: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ) لما لم يكن خروجهم وبذلهم أنفسهم لذلك إلا إشفاقًا وخوفًا على دينهم، وطلبوا - لما بذلوا أنفسهم - حياة الأبد في الآخرة فقالوا: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ) واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ). أي: اعتمد على اللَّه في حرب بدر - على ما ذكر أهل التأويل - والنصر فيه. وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ). لا يعجزه شيء، يعز من يشاء بالنصر، ويذل من يشاء بالقتل والهزيمة. أو يتوكل على اللَّه في كل أموره، ويكل إليه أموره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَزِيزٌ حَكِيمٌ). العزيز في هذا الموضع: هو الغالب، حكيم لما أمر بالقتل. * * * قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية مقابلة قوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ)؛ يقول - واللَّه أعلم -: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا)، أي: يقبض أرواح الذين كفروا كيف يقبضون أرواحهم، وكيف يضربون وجوههم وأدبارهم؛ كأنه قال - والله أعلم -: لو رأيت الحال التي تقبض فيها أرواحهم وما ينزل بهم، لرأيت أن ما عملوا من

(51)

صد الناس عن سبيل اللَّه، واستكبارهم على المؤمنين، وخروجهم لقتال أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما عملوا بأنفسهم، لا بالمؤمنين. وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ). يحتمل ما ذكر من فعل الملائكة يوم بدر؛ لأن الآية ذكرت في قصة بدر. ويحتمل أن يكون ذلك في كل كافر أن الملائكة يفعلون به ما ذكر؛ كقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ. . .) الآية، هذا في كل كافر. وقوله: (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ). ليس على إرادة حقيقة الوجه والدبر، ولكن على إرادة إيصال الألم إليهم بكل ضرب وبكل جهة؛ كقوله: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)، ليس على إرادة التحت والفوق، ولكن على إرادة إحاطة العذاب بهم؛ فعلى ذلك الأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يضربون وجوههم في أحال، إقبالهم على المؤمنين، وإدبارهم وانهزامهم منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) ذكر تقديم اليد، وإن كان الكفر من عمل القلب؛ لما باليد يقدم في العرف. وقوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). في الآية دلالة الرد على المجبرة؛ لأنهم لا يجعلون للعبيد في أفعالهم صنعًا، يجعلون حقيقة الأفعال لله، وذكر (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)، فلو لم يكن لهم صنع، لم يكن لقوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) معنى، وكذلك قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، فلو لم يكن لهم حقيقة الفعل، لكان الئعذيب ظلمًا؛ دل أن لهم فعلا، واللَّه أعلم. قوله: (لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). فيما شرع من القتال، والإهلاك، والتعذيب في الآخرة؛ لأنه مكن لهم ما يكسبون به النجاة والحياة الدائمة، فما لحقهم مما ذكر، إنما كان باكتسابهم واختيارهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) قَالَ بَعْضُهُمْ: صنيع هَؤُلَاءِ، أي: صنيع أهل مكة بمُحَمَّد كصنيع فرعون وقومه

(53)

بموسى يعني في التكذيب والكفر بآياته. وقال قائلون: صنع اللَّه بأهل مكة من العقوبة كصنيعه بفرعون وآله ومن سبق من الأمم من الإهلاك والتعذيب، وقد فعل بأهل مكة يوم بدر بسوء معاملتهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كما فعل ذلك بفرعون وآله بسوء معاملتهم موسى. (كَدَأبِ). قيل: كصنيع. وقيل: كفعل. وقيل: كأشباه. وقيل: كعمل؛ وهو واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ). وقوله: (شَدِيدُ الْعِقَابِ)، أي: لا يضعفه شيء يمنعه عما يريد. وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) أي: ذلك العذاب والعقاب الذي ذكره. (بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). قال قائلون: النعمة التي أنعمها عليهم هم الرسل الذين بعثهم إليهم والكتب التي أنزلها عليهم ألم يكن، مغيرا لتلك النعم (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) بالتكذيب والرد وترك القبول، وهو كقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا. . .) الآية. وقال قائلون: قوله: (لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، أي: حتى يصرفوا شكر نعمه إلى غير اللَّه ويعبدون دونه، أي: لا يغير النعم التي أنعمها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم، يعبدون غير اللَّه، ويشكرون غير الذي أنعم عليهم، فعند

(54)

ذلك غير اللَّه ما بهم من النعمة، وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ: نعمة من النعم إن تولوا عن شكرها، غير اللَّه عليهم وأخذها منهم. والثاني: يحتمل النعمة الدِّينية، وهو تكذيبهم الرسل وردهم الكتب بعد ما أقسموا أنهم يكونون أهدى من إحدى الأمم، واختيارهم الشرك والكفر على الإسلام والتوحيد، فإذا اختاروا تغيير ذلك، غير عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). يخرج على وجهين: أحدهما: النعمة الدنيوية، لا تتغير تلك عليهم إلا بتغيير من قبلهم؛ إما بترك الشكر لها، وإما بصرفه إلى غير الذي أنعمها عليهم، ولو غيرت عليهم غيرت ببدل، فليس ذلك - في الحقيقة - تغيير (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). قيل: أي: سميع لشكر من يشكره ويحمده، عليم بزيادة النعمة إذا شكر. ويحتمل: (سَمِيعٌ) أي: مجيب، (عَلِيمٌ): بمصالحهم. ويحتمل أنه سميع لما أسروا من القول وجهروا به، عليم بما أضمروا من العمل والشرور. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) فَإِنْ قِيلَ: ما فائدة تخصيص ذكر آل فرعون من بينهم؟ وما الحكمة في تكرار قوله: (آلِ فِرْعَوْنَ)؟ قيل: لما كانوا أقرب إلى هَؤُلَاءِ من غيرهم ممن كان قبلهم. ألا ترى أنه قال: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا). أو أن يذكر أهل الكتاب منهم؛ لما كانوا ينكرون بعث الرسل من غيرهم، ويقولون: إن محمدًا أمي بعث إلى الأميين مثله، فقال: إن موسى لم يكن من القبط، فبعث رسولا إليهم؛ فعلى ذلك مُحَمَّد وإن كان أميًّا فبعث إلى الأميين وغيرهم، واللَّه أعلم بذلك. وأما فائدة التكرار - واللَّه أعلم -: فهو أنه ذكر في الآية الأولى الأخذ بالذنوب والتعذيب، ولم يبين ما كان ذلك العذاب، فبين في الآية الأخرى أن ذلك العذاب هو

(55)

الإهلاك والاستئصال؛ حيث قال: (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ. . .) الآية. ويحتمل قوله: (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) في الآخرة بكفرهم بآيات اللَّه في الدنيا؛ ذكر في إحدى الآيتين العذاب في الآخرة، وفي الآية الأخرى الإهلاك في الدنيا؛ لأنه ذكر في الآية الأولى الكفر بآيات اللَّه، ولم يبين ذلك، وذكر في الآية الأخرى التكذيب بآياته، فبين اللَّه أن الكفر بآياته هو تكذيبها، والتكذيب إنما يكون في الأخبار، وكذلك التصديق. وفيه دلالة أن الإيمان هو التصديق؛ لأنه جعل مقابله وضده التكذيب. وفيه أن الإيمان ليس هو المعرفة؛ لأن مقابلها الجهل باللَّه، ليس هو التكذيب، لكن بالمعرفة يكون التصديق، وبالجهل يكون التكذيب. * * * قوله تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) ذكر هاهنا شر الدواب عند اللَّه الذين لا يؤمنون وذكر، في آية أخرى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)، هم شر الدواب؛ حيث سمعوا الآيات والحق وعقلوها فلم يؤمنوا بها، أي: لم ينتفعوا بما عقلوا مما وقع في مسامعهم، ومما درسوا كمن لا سمع له ولا لسان، نفى عنهم ذلك؛ لما لم ينتفعوا بما عقلوا. ويحتمل أن يكون في الآخرة، أي: يبعثون يوم القيامة صمًّا بكمًا عميًا؛ لما لم ينتفعوا في الدنيا بهذه الحواس؛ كقوله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا. . .) الآية.

(56)

وقوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ). (الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) وهو كما ذكر في آية أخرى: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)، أخبر أن الذين كفروا وكذبوا بآياته أضل من الأنعام، وقد ذكرنا فائدة قوله: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) في موضعه. ويحتمل قوله: (شَرَّ الدَّوَابِّ) أي: شر من يدب على وجه الأرض من الممتحنين (الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)، ثم ليكونوا بهذا الوصف إذا ختموا بالكفر وترك الإيمان. ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: نزل في بني قريظة؛ حيث عاهدوا رسول اللَّه، ثم أعانوا مشركي مكة على رسول اللَّه بالسلاح وغيره، فأقالهم رسول اللَّه، وكانوا يقولون: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم ثانية، فنقضوا العهد، فذلك قوله: (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56): نقض العهد، أو لا يتقون الشرك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزل قوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ. . .) إلى آخر الآية، في المردة والفراعنة من الكفار، كانوا عقلوا ما سمعوا ودرسوا، ولكن غيروه فلم يؤمنوا به؛ على هذا حمل أهل التأويل تأويل الآية إلى ما ذكرنا، وإلا صرف الآية إلى أهل النفاق أولى؛ لأنهم هم المعروفون بنقض العهد مرة بعد مرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ... (57) قيل: تأمرنهم في الحرب. وقيل: تلقينهم في الحرب. وقيل: تجدنهم في الحرب. (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ). قيل: نكل بهم من بعدهم، أي: اصنع بهم ما ينكلون من خلفهم، أي: يمتنعون. وقيل: فعظ بهم من خلفهم، أي: من سواهم. الآية نزلت في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون، وكانت عادتهم نقض العهد، فأمر - عز

وجل - رسوله أن ينكل هَؤُلَاءِ؛ ليكون ذلك عبرة وزجرًا لمن بعدهم إن لم يكن ذلك لهم زجرًا، فيكون في تنكيل هَؤُلَاءِ منفعة لغيرهم، إذا رأي غيرهم أنه فعل بهَؤُلَاءِ ما ذكر يكون ذلك زجرًا لهم عن مثل صنيعهم؛ ولهذا قال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)، من رأى أنه يقتل به امتنع عن قتل آخر، فيكون في ذلك حياة الخلق. وكذلك جعل اللَّه في القتال مع العدو ونصب الحرب فيما بينهم رحمة؛ لأن في الطباع النفار عن القتل، فإذا رأى أنه يقتل بتركه الإسلام أجاب إلى ذلك؛ إشفاقًا على نفسه، وخوفًا على تلف مهجته، فيكون في القتال رحمة، وكذلك جميع ما جعل الله فيما بين الخلق من العقوبات في النفس وما دون النفس جعل زواجر وموانع عن المعاودة إلى مثله؛ فعلى ذلك قوله: (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ): عظة وزجرًا لمن بعدهم. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). لكي يذكروا النكال فلا ينقضوا العهد، وكذلك كل مرغوب في الدنيا ومرهوب جعل دواعي وزواجر لموعود في الآخرة، وجعل كل لذيذ وشهي في الدنيا لما وعد في الآخرة في الجنة، وكل كريه وقبيح زاجرًا له عن الموعود في الآخرة في النار؛ على هذا بناء أمر الدنيا. والتشريد: قال أبو عبيدة: معناه من التفرقة، أي: فرق بهم.

(58)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي: افعل بهم فعلا من العقوبة والتنكيل يتفرق به من وراءهم من الأعداء. قال: ويقال: شرد بهم: سمع بهم، بلغة قريش. وقيل: نكلهم، أي: اجعلهم عظة لمن وراءهم وعبرة، وهو ما ذكرنا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: التنكيل: التخويف والرد عما يكره، والنكال: العذاب. وقال غيره: (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ)، أي: اخلفهم بهم بما صنع هَؤُلَاءِ. وقال أبو عبيدة: التشريد في الكلام: التبديد والتفريق؛ وبعضه قريب من بعض. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (فَشَرِّدْ بِهِمْ)، أي: نكل بهم حتى يخافك من خلفهم، والشريد: الطريد، والشريد -أيضًا-: القليل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله تخافن: تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء. أي: لا تفعل بهم مثل ما فعلوا من الخيانة فتكون أنت وهم في الخيانة سواء؛ لأن عندهم أنكم معاهدون على عهد بعد عهد، ولكن انبذ إليهم، ثم ناصب فيما بينهم الحرب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على حقيقة الخوف، يقول: إذا خفت منهم النقض أو الخيانة (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ)، أي: ألق إليهم نقضك؛ لتكون أنت وهم في العلم بالنقض سواء. قال أبو عبيدة: قوله: (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ)، أي: أظهر لهم أنك عدو، وأنك مناصب لهم؛ حتى يعلموا ذلك فيصيروا على ذلك سواء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (سَوَاءٍ)، أي: على أمرين. قال أبو عبيد: قال غير واحد من أهل العلم: (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ): أعلمهم أنك

تريد أن تحاربهم؛ حتى يصيروا مثلك في العلم؛ فذلك السواء. قال الكيساني: السواء: العدل. وقال: (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ)، أي: سر إليهم، وقد علموا بك وعلمت بهم. وبعضه قريب من بعض. وحاصل التأويل: هو التأويلان اللذان ذكرتهما، واللَّه سبحانه أعلم. وأصل العهد ما ذكر عَزَّ وَجَلَّ في آية أخرى، وهو قوله: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) أمر - عَزَّ وَجَلَّ - بإتمام العهد إلى المدة، إذا لم ينقضونا شيئًا ولم يخونوا، ولم يظاهروا علينا أحدًا منهم، فإذا فعلوا شيئا من ذلك فلنا أن ننقض العهد الذي كان بيننا وبينهم. وكذلك ابتداء العهد فيما بيننا وبينهم إذا سألونا ليس للإمام أن يعطي لهم العهد إذا لم يكن في العهد منفعة للمسلمين - منفعة ظاهرة - وخير لهم، فعلى ذلك ما دام يرجو في العهد منفعة للمسلمين وخيرًا لهم فعليه مراعاة ذلك العهد وحفظه، فإذا خاف منهم أو اطلع على خيانة منهم، فله نقضه، واللَّه أعلم. ثم إذا كانت تلك الخيانة من جملتهم أو ممن له منعة، فله أن يناصبهم الحرب، وإن لم ينبذ إليهم. وإذا كان ذلك من بعض على سبيل التلصص والسرقة، فليس له أن يحاربهم إلا بعد النبذ إليهم.

(59)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تحسبن الذين نجوا وتخلصوا منك - يا مُحَمَّد - من المشركين يوم بدر أني لا أظفرك بهم في غيره من الحروب والمغازي، وأنهم يفوتون ويعجزون الله عن ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ولا تحسبن الذين كفروا أنهم يعجزون ويفوتون عن نقمة الله وعذ ابه. وقرأ بعضهم بنصب الألف: (أنهم لا يعجزون)، فمن قرأ بالنصب طرح " لا " وجعلها صلة، وقال: لا تحسبن أنهم يعجزون. وأما قراءة العامة: فهي بالخفض: (إِنَّهُمْ) فهو على الابتداء، فقال: إنهم لا يعجزون على الابتداء. وقيل: العجز: السبق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ... (60) قَالَ بَعْضُهُمْ: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ولا تخرجوا إلى الحرب في المغازي، كما خرجتم إلى بدر بلا سلاح ولا قوة؛ لأنه أراد أن يجعل حرب بدر آية؛ ليميز بين المحق والمبطل، وبين الحق والباطل؛ لذلك أمركم بالخروج إليها بلا سلاح ولا عدة،

وأما غيرها من الحروب والمغازي فلا تخرجوا إليها إلا مستعدين لها. وبعد: فإنهم إنما تركوا الاستعداد طاعة لربهم، وفي الاشتغال بالاستعداد ترك للطاعة له، وأمر - عَزَّ وَجَلَّ - بالاعتداد لهم ما استطاعوا من الأسباب؛ لما أن ذلك أرهب للعدو من ترك الاستعداد، وإن كان - عَزَّ وَجَلَّ - قادرًا أن ينصرهم على عدوهم بلا سبب يجعله لأنفسهم، وهو كقوله: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ). فأمر اللَّه بالأسباب في الحروب، وإن كان قادرًا على نصر أوليائه على عدوه بلا سبب، لكنه أمر بالأسباب؛ لما أن جميع أمور الدنيا جعلها بالأسباب، من نحو الموت والحياة وجميع الأشياء، وإن كان يقدر على إبقاء الإنسان والخلائق جميعًا بلا غذاء يجعل لهم، والموت بلا مرض ولا سبب، ولكن فصل بما ذكرنا. ثم اختلف في قوله: (مِنْ قُوَّةٍ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: القوة: الرمي، وعلى ذلك رووا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) فقال: " ألا إن القوة الرمي "، قال ذلك ثلاثًا. ويحتمل قوله: (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ): ما تقوون به في الحروب. قَالَ بَعْضُهُمْ: الفوة: السلاح. وقال غيرهم: الخيل. وأمكن أن تكون جميع أسباب الحرب. وفيه دلالة أن القوة التي هي أسباب الفعل يجوز أن تتقدم، ويكون قوله: (لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ)، أراد استطاعة الأسباب لا استطاعة الفعل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، أمر برباط

الخيل والإعداد للحرب؛ رهبة للعدو. (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) اختلف أهل التأويل فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ترهبون برباط الخيل المشركين. وقال: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ). اليهود والنصارى، وهَؤُلَاءِ الذين كانوا فيما بينهم يرهب هَؤُلَاءِ أيضًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ): المنافقين الذين كانوا فيما بينهم لا يعرفونهم كانوا طلائع للمشركين وعيونًا لهم يخبرونهم عن حال المؤمنين ما يرهب هَؤُلَاءِ أيضًا. وقال آخرون: قوله: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ): هم الشياطين، ورووا على ذلك خبرًا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " هم الشياطين "، وقال: " لن يخبل الشياطين إنسانًا في داره فرس عتيق ". ويحتمل أن يكون قوله: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) هم الأعداء الذين يكونون من بعد إلى يوم القيامة (لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)، فإن كان ذلك، ففيه دلالة بقاء الجهاد إلى يوم القيامة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ): الشياطين، (لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) وهو كقوله: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ). فَإِنْ قِيلَ: أي رهبة تقع للشياطين فيما ذكر من رباط الخيل والسلاح الذي ذكر؟ قيل: يكون لهم رهبة في قمع أوليائهم، أو يكون لأوليائهم رهبة نسب ذلك إليهم، وذلك كثير في القرآن. وقوله: (عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ). سمى عدوًا لله وعدوًا للمؤمنين؛ ليعلم أن من اعتقد عداوة اللَّه صار عدوًا للمؤمنين، ومن اعتقد ولاية اللَّه صار وليا للمؤمنين، ومن كان وليًّا للمؤمنين يكون وليًّا لله.

(61)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ). أخبر أن ما أنفقوا في سبيل اللَّه يوفى إليهم ذلك، إما الخلف في الدنيا؛ كقوله: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)، وإما في الآخرة الثواب. (وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) يحتمل وجهين: يحتمل: (وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ): فيما يأمركم بالجهاد في سبيل اللَّه، واتخاذ العدة والإنفاق فيها؛ إذ أنفسكم وأموالكم لله له أن يأخذها منكم. والثاني: (وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) وفي الثواب في الآخرة، أي: يعطيكم الثواب في الآخرة أو الخلف في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ... (61) قرئ بالنصب: (لِلسَّلْمِ)، وقرئ بالخفض: (لِلسِّلْمِ).

وقال أهل اللغة: من قرأ بالنصب: (لِلسَّلْمِ)، حمله على المصالحة والموادعة، ومن قرأ بالخفض: (لِلسِّلْمِ)، جعل ذلك في الإسلام. وتأويله - واللَّه أعلم -: أي: إذا خضعوا للصلح وطلبوه منك فاجنح لهم، أي: مل إليهم، ولا يمنعك عن الصلح معهم ما كان منهم من نقض العهد؛ على ما ذكر في قوله: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ)، يقول: لا يمنعك عن الصلح إذا طلبوا ذلك ما كان منهم من النقض ونكث العهود. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ). ولا تخف خيانتهم ونقضهم العهد، فإن اللَّه يطلعك ويكفيك على ذلك. ومنهم من قال: قوله: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ)، أي: إذا خضعوا وتواضعوا للإسلام، فاقبل منهم واخضع لهم؛ كقوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أمره بخفض الجناح لهم. ذكر - هاهنا - أنهم إذا طلبوا الصلح منا يلزمنا أن نعطيهم، وإذا لم يطلبوا منا ذلك لا يحل لنا أن نطلب منهم الصلح، إلا أن نضطر إلى ذلك، وهو ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)، نهانا أن ندعوهم إلى الصلح ولنا قوة وعدة للقتال معهم، وأما إذا كانوا طلبوا منا ذلك أولا فيجابون إلى ذلك. ويحتمل ما ذكرنا، أي: لا يمنعك ما كان منهم من نقض العهد. وقوله: (فَاجْنَحْ لَهَا) يحتمل ذكره بالتأنيث، أي: للمسالمة والمصالحة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السلم هو مؤنث؛ كقول القائل: السلم تأخذ منا ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

(62)

فَإِنْ قِيلَ: ما المعنى في قول من قال بالإسلام بقوله: (فَاجْنَحْ لَهَا) وهو كان يدعو إلى الإسلام، وهو لا شك أنه كان يقبل منهم الإسلام؟ قيل: يحتمل أن يكون الأمر بالقبول أمرًا بترك المؤاخذة بما كان منهم في حال نقض العهد؛ لأن من قولنا: أن ما أصابوا في حال العهد من الجراحات والأخذ يتبعون بها ويؤاخذون إذا أسلموا، وإذا نقضوا العهد ثم أصابوا شيئًا من ذلك ثم أسلموا، لم يؤاخذوا بذلك، فيحتمل أن يقول له: فاجنح لها، ولا تؤاخذهم بما كان منهم في حال نقض العهد. وقال الحسن: هذا منسوخ، نسخه قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ نسخه قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نسخه قوله: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ). والوجه فيه ما ذكرنا: أن الإمام إذا رأى الصلح والموادعة نظرًا للمسلمين، أجابهم إلى ذلك وصالحهم، فإذا طلبوا منه الصلح وبالمسلمين قوة القتال والحرب معهم، لم يجبهم إلى ذلك، وما ذكر هَؤُلَاءِ من نسخه فذلك لا نعرفه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ). في الصلح ويخونوك. (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ). أي: مكنك اللَّه منهم؛ كقوله: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ). فأمكن منهم، وإن كان قوله: (فَاجْنَحْ لَهَا) في الإسلام، فيكون قوله: (فَإِنَّ

(63)

حَسْبَكَ اللَّهُ) أي: يطلعك اللَّه على ما في قلوبهم من النفاق، أي: وإن خفت منهم أنهم يظهرون لك الإسلام في الظاهر ويكونون في السر على ما كانوا من قبل، فلا يمنعك ذلك عن قبول الإسلام منهم، فإن اللَّه يطلعك على ذلك، ويكفيك ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ). يحتمل قوله: (وَبِالْمُؤْمِنِينَ): بالملائكة الذين أنزلهم معونة للمؤمنين يوم بدر. ويحتمل: بالمؤمنين الذين كانوا معه، فأخبر أنه يؤيده بنصره وبنصر المؤمنين، وكان النصر له باللَّه في الحقيقة، فقوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، النصر من اللَّه مرة يكون بالأسباب بالمؤمنين، وبغير ذلك من الأسباب، ومرة باللطف منه بلا سبب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) قَالَ بَعْضُهُمْ: ألف بين قلوبهم بالدِّين الذي اجتمعوا عليه؛ كقوله: (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ)، أخبر أنهم كانوا أعداء ما داموا في الكفر، فلما أسلموا صاروا إخوانا. ولكن عندنا الإسلام يوجب التأليف والاجتماع بينهم، ولكن يجوز ألا يوجد التأليف - وإن وجد الإسلام؛ ليعلم أن اللَّه هو الذي يؤلف بينهم بلطفه وفضله لقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ). وقد يجوز أن يكون ما ذكر من تأليف القلوب يكون مرة بالدِّين، ومرة باللطف من اللَّه، فإذا كان الخلاف والعداوة بينهم بسبب الدِّين فإنه إذا وجد الوفاق ارتفع الخلاف والعداوة، وإذا كان للأطماع فهو يرتفع باللطف من اللَّه. (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). عزيز: لا يعجزه شيء، حكيم: في أمره وحكمه. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

(64)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) قَالَ بَعْضُهُمْ: حسبك اللَّه وحسبك من اتبعك من المؤمنين، أي: كفاك اللَّه في العون والنصر لك، وكفاك المؤمنين -أيضًا- فيما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حَسْبُكَ اللَّهُ): نصر اللَّه، وحسبك نصر المؤمنين، وهو على ما ذكر: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ). والأول أشبه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ... (65) التحريض على القتال يكون بوجهين: أحدهما: أن يعدهم من المنافع في الدنيا، ويطمع لهم ذلك، من نحو ما جاء من التنفيل: أن من فعل كذا فله كذا، أو يعدهم المنافع في الآخرة؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. . .) الآية، وما ذكر من الثواب في الآخرة بالنفقة التي ينفقونها في سبيل اللَّه؛ كقوله: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). فما ذكرنا فيه وعد المنافع لهم في الدنيا والآخرة، ووعد النصر لهم. والثاني: يكون التحريض بضرر يلحق أُولَئِكَ، ونكبة تصل إليهم؛ كقوله: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ. . .) الآية، إلى قوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)، جمع اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في هذه الآية جميع أنواع الخير الذي يكون في القتال مع العدو، من وعد النصر للمؤمنين عليهم، وإدخال السرور في صدورهم، ونفي الحزن عنهم، وتعذيب أُولَئِكَ بأيديهم. وفيه إغراء على العدو بقوله: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ)، فذلك كله يحرض على القتال، ويرغبهم في الحرب مع العدو، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الآية. اختلف في معنى هذا:

(66)

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا. . .)، على الأمر، كأنه قال: ليكن منكم عشرون صابرون يغلبوا؛ أمر العشرة القيام للمائة؛ وقالوا: دليل أنه على الأمر قوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) الآية، ولو لم يكن على الأمر والعزيمة، لم يكن لذكر التخفيف معنى. وقال آخرون: هو على الوعد أنهم إذا صبروا وثبتوا لعدوهم غلبوا عدوهم؛ على ما أخبر: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ. . .) الآية. ليس على الأمر؛ لأنه قال: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)، أخبر أنهم إذا صبروا غلبوهم، وهو كذلك - واللَّه أعلم - إذ ظاهره وعد وخبر. والأشبه: أن يكون على الأمر، ليس على الخبر، على ما ذكرنا من قوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ). ما لهم وعليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ... (66) فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا)، وقد كان يعلم أن فيهم ضعفًا وقت ما أمر العشرة القيام لمائة، والعشرين لمائتين؟! قيل: أمر بذلك مع علمه أن فيهم ضعفًا، وإن كان في ذلك إهلاك أنفسهم، وذلك منه عدل؛ إذ له الأنفس إن شاء أتلفها بالموت، وإن شاء بالقتل بقتل العدو، والتخفيف منه رحمة وفضل، أمر الواحد القيام لعشرة على علم منه بالضعف ابتداء؛ امتحانا منه، وله أن يمتحن عباده بما فيه وسعهم وبما لا وسع لهم فيه، وفي الحكمة ذلك؛ إذ له الأنفس، له أن يتلفها كيف شاء بما شاء، وهو ما ذكر بقوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ. . .) الآية. ولو لم يكن له في الحكمة ذلك لا يحتمل أن يكتب ذلك عليهم. والثاني: يعلم فيهم الضعف كائنًا شاهدًا كما علم أنه يكون، وهو ما ذكرنا في قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ. . .) الآية، أي: يعلمه مجاهدًا كما علم أنه يجاهد؛ فعلى ذلك هذا. ثم ذكر العشرة والعشرين يحتمل على التحديد. ويحتمل لا على التحديد.

ألا ترى أنه ذكر في الناسخ عددًا غير العدد الذي في المنسوخ؛ ذكر العشرين لمائتين، وفي الناسخ ذكر الألف لألفين بقوله: (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ). فإن كان لا على التحديد فيلزم الواحد القيام لاثنين، وفي الأول الواحد لعشرة؛ وعلى ذلك روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا لقي الرجل رجلين من الكفار فاستأسر، فلا فداء له علينا، فإذا لقي ثلاثة فأسر، فعلينا فداؤه. ولم يجعل للواحد الفرار من اثنين؛ حيث لم يوجب عليه الفداء، وقد جعل له الفرار عن ثلاثة؛ حيث جعل عليه الفداء. وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال ذلك. ويحتمل على التحديد، إذا كمل العدد الذي ذكر لم يسع الفرار، ويلزمهم القيام لهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يلزم. وكذلك قال الحسن: أمر أن يصبر عشرون لمائتين، إن فروا منهم لم يعذروا، وأن يصبر الألف لألفين، إن فروا منهم لم يعذروا. قال: ثم أنزل اللَّه: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) فأمر أن يصبر مائة لمائتين، وإن فروا منهم لم يعذروا، وأن يصبر الألف لألفين، إن فروا منهم لم يعذروا؛ فإن كان على التحديد، فهو على ما يقولون أنهم ما لم يكونوا منعة فإنه يسعهم ألا يقاتلوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الصبر: هو حبس النفس على ما أمر اللَّه، وكفها عن جميع شهواتها ولذاتها، فإذا فعل ذلك غلب على العدو وقهره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصبر: هو أن يوطن نفسه في القتال مع العدو ويحبسها في ذلك. والشكر، قيل: هو أن يبذل نفسه وما تحويه يده لله، لا يجعل لغيره، فيكون الشكر والصبر في الحاصل سواء، وإن كانا في العبادة مختلفين؛ لأن الشكر: هو بذل النفس وما حوته يده لله، والصبر: هو الكف والإحباس على جميع ما أمر اللَّه، وأداء ما فرض الله عليه، فإذا حبسها عن غيره يكون باذلًا؛ ولهذا سمي الصبر إيمانًا بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. . .) الآية، ذكر الصبر - هاهنا - مكان ما ذكر في غيرها الإيمان بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الآية.

(67)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). في النصر لهم على عدوهم والغلبة عليهم. * * * قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ). قالا أبو بكر الكيساني: عاتب اللَّه رسوله وأصحابه في أخذ الأسارى بقوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ). وبالغ في العتاب في أخذ الفداء من الأسارى بقوله: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ). وكذلك روي عن رسول اللَّه أنه لما استشار أصحابه في الأسارى، أشار أبو بكر إلى أخذ الفداء، وعمر إلى القتل، فقال: " لو نزل من السماء عذاب ما نجا إلا عمر ". عاتبهم بالأخذ أخذ الأسارى، وأشد العتاب في أخذ الفداء، وأمر بالقتل وضرب الرقاب بقوله: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، إنما أمر بضر الرقاب وضرب البنان، وكذلك يخرج قوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) على العتاب؛ إلى هذا يذهب أبو بكر الأصم. وعلن بن عَبَّاسٍ قال: لم يكن الأنبياء - صلوات اللَّه عليهم - فيما مضى يكون لهم أسارى حتى يثخنوا في الأرض. وعن سعيد بن جبير قال: لا يفادى أسارى المشركين، ولا يمن عليهم حتى يثخنوا بالقتل، ثم تلا: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)؛ إلى هذا ذهب هَؤُلَاءِ. وقوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى). يخرج تأويل الآية على وجهين:

(68)

أحدهما: يقول: ما كان لنبي أن يأخذ من الأسرى الفداء، (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي: يغلب، حتى إذا أخذ الفداء وسرحهم بعد ما غلب في الأرض، يكون رجوعهم إلى غير منعة وشوكة، وإذا لم يغلب في الأرض، أي: حتى يصير الدِّين كله لله؛ كقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية، هذا كان لمن قبله، فرخص لرسوله ذلك. وقيل في قوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) بوجوه: أحدها: ما قال أبو بكر الأصم: تأويله: لولا كتاب من اللَّه سبق ألا يعذب المخطئين في عملهم على خلاف أمره، وإلا لمسكم العذاب فيما أخذتم من الأسارى والفداء منهم عذاب عظيم. وقال آخرون: قوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ): أي: أحل الغنائم لهذه الأمة، وإلا لمسكم العذاب فيما أخذتم واستحللتم عذاب عظيم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لولا كتاب من اللَّه سبق أنهم يتوبون عما عملوا من الأخذ وغيره، وأنه يتوب عليهم، وإلا لمسكم العذاب أبذلك وأمكن أن يكون التأويل في غير هذا كان في قوله: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، دلالة إباحة الأمر ورخصته؛ لأنه قال: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ) وهو الإبانة من المفصل الذي تبان به الرءوس، وذلك قلما يمكن في القتال، ولا يقدر إبانة الرءوس في الحرب، إنما يمكن ذلك بعد ما أخذوا أو وقعوا في أيديهم. وأما ما ذكر من ضرب البنان: فهو في الحرب؛ لأنه في الحرب إنما يضرب فيما ظفر ووجد السبيل إلى ذلك، ففيه دلالة. وتأويل قوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) يحتمل أن يكون ملحقًا على ما سبق من قوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ. . .) الآية، أي: لولا أن من حكم اللَّه أن يجعل لكم الظفر على إحدى الطائفتين، وإلا لمسكم العذاب بمجادلتكم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

ومخالفتكم إياه في الخروج وإرادتكم العير. أو أن يقال: لولا أن من حكم اللَّه ألا يعذب أحدًا ولا يؤاخذه في الخطأ في العمل بالاجتهاد وإلا (لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، ويكون قوله: (أَخَذْتُمْ) أي:

عملتم. ثم قالت المعتزلة: في قوله: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) دلالة على أن اللَّه لا يريد ما أراد العباد إذا أرادوا المعصية؛ لأنه أخبر أنهم أرادوا عرض الدنيا، وهو يريد الآخرة، فهم أرادوا المعصية، وهو يريد لهم الآخرة. ولكن التأويل عندنا أن قوله: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)، أي: تريدون عرض الدنيا، واللَّه يريد حياة الآخرة وعرضها. وبعد، فإنه قد كان اللَّه أراد لهم الآخرة وحياتها، وهم أرادوا العير وعرض الدنيا، وقد كان ما أراد اللَّه لهم لا ما أرادوا هم، أي: اختار لهم غير ما اختاروا هم. وأصله أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أراد الآخرة لأهل بدر، فكان ما أراد، ولأُولَئِكَ الكفرة النار، فكان ما أراد؛ كقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ). والأشبه أن تكون الإرادة هاهنا - المودة والمحبة، أي: تودون وتحبون عرض الدنيا، واللَّه يريد الآخرة، وهو ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) كانوا يودون أن القتال مع غير ذات الشوكة؛ حتى تكون لهم الغنائم. والإرادة التي تضاف إلى اللَّه تخرج على وجوه ثلاثة: أحدها: الرضا؛ كقوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) كانوا يستدلون بتركه إياهم على أن اللَّه قد رضي بصنيعهم. والثاني: الإرادة: الأمر؛ كقوله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا). والثالث: الإرادة هي صفة فعل كل فاعل يخرج فعله على غير سهو وغفلة ولا طبع؛ بل يخرج على الاختيار.

وقال بعض أهل التأويل: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استشار في أسارى يوم بدر أصحابه، فقال لأبي بكر: " يا أبا بكر، ما تقول فيهم؟ " فقال: يا رسول اللَّه؛ قومك وأهلك، فاستبقهم واستأمنهم، لعل اللَّه يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول اللَّه؛ كذبوك وأخرجوك، قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد اللَّه بن رواحة: يا رسول اللَّه، انظر واديًا كثير الحطب، فأدخلهم فيه وأضرمه عليهم نارًا، فقال له العباس: قطعت رحمك، فسكت رسول اللَّه فلم يجبهم شيئًا، ثم قام فدخل، فقال ناس: يقول بقول أبي بكر، وقال ناس: يقول بقول عمر، وقال ناس: يقول بقول عبد اللَّه، ثم خرج عليهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إن اللَّه ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين، وإن اللَّه ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى؛ حيث قال: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ)، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى؛ حيث قال: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ)، وقال: يا عمر، إن مثلك كمثل نوح؛ حيث قال: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) ولا يسألن أحد منكم إلا بفداء أو ضربة عنق "، قال عبد اللَّه: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول اللَّه، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي حجارة في ذلك اليوم، حتى قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إلا سهيل بن بيضاء "، فأنزل اللَّه: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) إلى آخر ما ذكر.

ثم يحتمل قوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) قبلكم، وأما أنتم فقد أحلت لكم الأسارى والغنيمة، ويدل -أيضًا- ما روي من الأخبار والآيات على أنه إذا أثخن في الأرض جاز له الأسر؛ لأنه لو لم يجز ذلك كما لا يجوز قبل الإثخان في الأرض، زالت فائدة الخصوص، وقد بين اللَّه ذلك بقوله: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ). ثم اختلف أهل العلم في فداء الأسارى بالمال؛ قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان ذلك يوم بدر والمسلمون قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل اللَّه - تعالى - في

الأسارى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)، فجعل النبي والمؤمنين بالخيار: إن شاءوا فدوهم. وعن الحسن قال: يصنع به ما صنع رسول اللَّه بأسارى بدر يمن عليه أو يفادي. وقال غيرهم بخلاف ذلك. وقال أصحابنا: إن احتاج الإمام إلى مال فاداهم. وقد دل ما ذكرنا من الآيات والأخبار على جواز الفداء بعد الإثخان فيهم، فإن لم يكن إلى المال محتاجًا فله قتلهم؛ لأن ذلك إنكاء في العدو وأشد لرهبتهم من المؤمنين، وقال: وله أن يسترقهم، فهو كما قالوا: إذا كان الأسير من أهل الكتاب أو من العجم، فأما عرب عبدة الأوثان فلا يسترقون؛ لأنا لا نعلم أحدًا منهم استرقه النبي لما أسره، ولم

(69)

يبلغنا أن أبا بكر استرق واحدًا من أهل الردة، وكيف يجوز استرقاقهم وقد قال اللَّه - تعالى -: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ). وأمَّا الفداء والقتل: فقد ظهر من فعل رسول اللَّه في أسارى بدر. وفيما روي من الاستشارة - استشارة النبي أصحابه في الأسارى - دلالة العمل بالاجتهاد، وفيما روي في الخبر عن نبي اللَّه - عليه السلام - قال لأبي بكر، وعمر: " يا أبا بكر ويا عمر، إن ربي يوحي إلي أن أشاوركما، ولولا أنكما تختلفان ما عصيتكما، أو ما عملت بخلاف رأيكما فيه " - أنه لا يجوز لأحد أن يخالفهما، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لولا أنكما تختلفان ما عصيتكما، أو ما عملت بخلاف رأيكما ". ثم ما أخذ من الأسارى من الفداء لا يدري على أي وجه أخذ على الترك أو الرد إلى أوطانهم من غير أن تركهم بالجزية؛ إذ من قولهم ألا يجوز أخذ الجزية منهم، والترك على ذلك. وفي الآية دلالة ذلك، وهو قوله: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ). وفي الخبر: " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " إلا أن يقال: إن المفاد إلا التي ذكر كان هذا، وهذا كان بعده، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (حَلَالًا طَيِّبًا) واحد، كل حلال طيب، وكل حرام خبيث، وإنما يطيب إذا حل، ويخبث إذا حرم، ولكن يحتمل قوله: (حَلَالًا) بالشرع، (طَيِّبًا) في الطبع، وكذلك الحرام هو حرام بالشرع، وخبيث بالطبع، وإنما يتكلم بالحل والحرمة من جهة الشرع، والطيب والخبيث بالطبع. والطيب: هو الذي يتلذذ به ولا تبعة فيه؛ لأن خوف التبعة ينغص عليه ويذهب بطيبه ولذته. وجائز ما ذكر من الطيب - هاهنا - لما أن أهل الشرك كانوا يأخذون الأموال ويجمعونها من وجه لا يحل، وبأسباب فاسدة، فيكرهون التناول منها إذا غنموها لتلك الأسباب

الفاسدة، فطيب قلوبهم بقوله: (طَيِّبًا). وفيه دليل جواز التقلب في البيع الفاسد وطيب التناول منه، وإن كان مكتسبًا بأسباب

(70)

فاسدة بعد أن يكون بإذن؛ فعلى ذلك الأول يحتمل ما ذكرنا. وفيه دلالة أن أهل الكفر لا يؤاخذون بالأفعال التي كانت لهم في الكفر، ولا ما كانوا تركوا من العبادات؛ لما ليست عليهم، إنما يؤاخذون بالاعتقاد. وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ). فيما أمركم به ونهاكم عنه فلا تعصوه. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). لمن تاب ورجع عما فعل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) قال عامة أهل التأويل: إن الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب وأصحابه، وكذلك يقول ابن عَبَّاسٍ: قالوا للنبي: آمنا بما جئت به، ونشهد إنك رسول اللَّه؛ فنزل: (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا)، أي: إن يعلم اللَّه اعتقاد الإيمان والتصديق له في قلوبكم، (يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ)، أي: إيمانا وتصديقًا، فيخلف عليكم خيرًا مما أصيب عليكم. لكنها فيه وفي غيره: من فعل مثل فعله فهو في ذلك سواء، يكون له من الموعود الذي ذكر ما يكون له. وقوله: (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا). وهو الإيمان الذي علم أنهم اعتقدوا في قلوبهم. وقوله: (يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ). أي: آتاكم خيرًا - وهو الإيمان - مما أخذ منكم من المال الذي ذكر في القصة.

(71)

ويجوز " يفعل " مكان " نعل "؛ كقوله: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ)، أي: قال المنافقون، وذلك كثير في القرآن؛ فعلى ذلك قوله: (يُؤْتِكُمْ خَيْرًا). ويحتمل قوله: (يُؤْتِكُمْ) أيضًا، أي: يثيبكم ويعطيكم أفضل مما أخذ منكم في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ) لما كان في الشرك؛ كقوله: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ)، للذنوب، وذو تجاوز، (رَحِيمٌ) يرحم في الإسلام. ويحتمل قوله: (يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء، أو ما أخذ منهم بمكة؛ أخبر أنه يؤتهم خيرًا من ذلك في الدنيا من الأموال وغيرها. والإثخان: قال ابن عَبَّاسٍ: القتل. قال أبو معاذ: (يثخنون)، أي: يذلون، المثخن: الذليل. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي: يثخن في أهل الأرض، يكثر القتلى والجراحات؛ يقال: أثخنت في القوم: إذا أكثرت فيهم القتل والجراحات، ويقال: ضربه حتى أثخنه، أي: ضربه حتى لا يقدر على القيام، وهو ما ذكر مُحَمَّد في بعض مسائله: أنه إذا رمى صيدا بسهم فأصابه حتى أثخنه، ثم رمى آخر بسهم فأصابه - فإنه للأول؛ لما أنه صيره بالإثخان خارجًا من أن يكون صيدًا، وهو الضرب الذي وصفناه. وثخن يثخن ثخانة فهو ثخين، وثخن يثخن ثخونة واحد، أي: غلظ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) يحتمل أن تكون الآية صلة ما سبق من الآيات، وهو قوله: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. . .) الآية، وقوله: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ. . .) الآية، وغير ذلك (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً) ونحوه، فقال: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ): في نقض العهد وغير ذلك من الأمانات، (فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ

مِنْ قَبْلُ) يحتمل قوله: فقد خانوا اللَّه من قبل، فيما عاهدوا أن يوفوا ذلك كقولهم: (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، فقد أنجاهم اللَّه عن ذلك فلم يكونوا من الشاكرين، وكقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ)، فقد آتاهم اللَّه ذلك فلم يفوا ما عاهدوا، وغير ذلك من العهود التي عاهدوا، والأمانات التي اؤتمنوا فيها، فخانوا اللَّه في ذلك. أو ما عهد إليهم في أمر مُحَمَّد، وإظهار نعته وصفته في كتبهم، فكتموا ذلك، وحرفوه، وأظهروا خلاف نعته وصفته، فذلك منهم خيانة، فيقول: إنهم قد خانوا اللَّه من قبل، فأمكن اللَّه منهم، فإذا خانوك يمكنك اللَّه منهم أيضًا. وقوله: (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أمكن منهم، أي: انتقم منهم جزاء خيانتهم، وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمكنك حتى انتقصت منهم. وقوله: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ) ليس على الإرادة، ولكن على وقوع فعل الخيانة؛ كأنه قال: وإن خانوك فقد خانوا اللَّه من قبل، لكنه ذكر الإرادة؛ لما هي صفة كل فاعل مختار؛ لما لا تكون الأفعال إلا بإرادة. وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ): بما يسرون ويضمرون من الخيانة ونقض العهود، (حَكِيمٌ): في أمره وحكمه حيث أمكنك منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) أي: خانوك بعد إسلامهم بالكفر بك. (فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) أي: فقد كفروا باللَّه قبل هذا؛ يقول: إن خانوك أمكنك منهم فقتلتهم وأسرتهم؛ كما فعلت بهم ببدر. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ): بخلقه، (حَكِيمٌ): في أمره. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ

(72)

كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... (72) قوله: (آمَنُوا)، أي: صدقوا آيات اللَّه وحججه، أو صدقوا رسوله في جميع ما جاء به؛ كأنه مقابل قوله: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ)، ذكر - هاهنا - التصديق مكان التكذيب في ذلك. وقوله: (وَجَاهَدُوا): في إظهار دين اللَّه ونصره. (بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي: بذلوا ذلك. (وَالَّذِينَ آوَوْا) أي: ضموا النبي. (وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) قال ابن عَبَّاسٍ وعامة أهل التأويل: الولاية التي ذكرت في الآية في التوارث، جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى المدينة، وكذلك قالوا في قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يعني: الميراث. وروي عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة " والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة. وعن جرير بن عبد اللَّه، عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال:. . . كذلك روي. وعن المسعودي عن القاسم قال: آخى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين أصحابه، فآخى بين

عبد اللَّه بن مسعود والزبير بن العوام أخوة يتوارثون بها؛ لأنهم هاجروا وتركوا قراباتهم، حتى أنزل اللَّه آية المواريث.

وعن ابن عَبَّاسٍ في قوله: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ)، قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرثون الأنصار دون رحمهم بالأخوة التي آخى النبي بينهم، فلما نزل قوله: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ)، نسخها: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من النصر، والنصيحة، والرفادة، ويوصي له ولا ميراث. وعن الحسن في قوله - تعالى -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) فكان المسلطون يتوارثون بالهجرة، فكان الأعرابي لا يرثه المهاجر، والمهاجر لا يرثه الأعرابي، فحرضهم بذلك على الهجرة، حتى كثر المسلمون، فأنزل اللَّه - تعالى -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ. . .) الآية، فورث الأعرابي المهاجر وتوارثوا بالأرحام. إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل، وكانوا يرون أن الهجرة كانت مفترضة، فزال فرضها بقول النبي - عليه السلام -: " لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية ". وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: انقطعت الهجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، فإنما كانت الهجرة إلى اللَّه ورسوله، والمؤمنون يفرون بدينهم من أن يفيئوا عنه، وقد أفشى اللَّه الإسلام. هذا الذي ذهب هَؤُلَاءِ في قوله: (بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) في التوارث محتمل. ويحتمل غير هذا، وهو أن قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا. . .) إلى قوله: (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أي: بعضهم أولياء بعض، في تمام الولاية، في التناصير، والتعاون، والحقوق، والديانة، فهم أولى بعضهم ببعض من الذين آمنوا ولم يهاجراوا؛ لأنهم آمنو اوهاجروا، أي: تركوا منازلهم وأهلهم وقراباتهم وبلدهم الذي كانوا فيه مقيمين؛ إشفاقًا على دينهم، واستسلامًا لهم ولأنفسهم، والأنصار آووهم، وأنزلوهم في منازلهم، وبذلوا أنفسهم وأموالهم، وتحملوا جميع مؤنتهم من غير أن كان سبق منهم إليهم شيء، فصاروا لهم أعوانًا وأنصارًا، فصار بعضهم أولياء بعض في تمام ما ذكرنا من الولاية: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)، أي: (مَا لَكُمْ مِنْ

وَلَايَتِهِمْ)، أي: من تمام ما ذكرنا من ولاية الدِّين، وليس لهم ولاية التناصر، والتعاون، والحقوق، والمنافع التي تكتسب بالدِّين. وفي قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه جل وعلا أبقى في المهاجرين الذين لم يهاجروا اسم الإيمان، وكانت الهجرة عليهم مفروضة، وهم في تركهم الهجرة مرتكبين كبيرة، فدل أن صاحب الكبيرة لا يزول عنه اسم الإيمان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ). أي: أولو الأرحام إذا آمنوا وهاجروا بعضهم أولى ببعض من غيرهم؛ لأنهم إذا آمنوا وهاجروا ولهم قرابة سابقة ورحم متقدم، كانوا هم أولى من غيرهم الذين لا قرابة بينهم ولا رحم؛ إذ اجتمع فيهم الرحم، والمعونة، والنصر، والديانة، والحقوق، اجتمع فيهم أشياء أربعة، وفي أُولَئِكَ ثلاثة، فهم أولى بهم من غيرهم؛ هذا على التأويل الذي ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ). يعني: الذين لم يهاجروا؛ يحتمل وجهين: الأول: يحتمل: إذا طلبوا منكم المعونة والنصرة على عدوهم، فعليكم النصر والمعونة لهم، إذا لم يكن بينكم وبين أُولَئِكَ ميثاق. والثاني: إذا علمتم أنهم يخشون على أنفسهم من عدوهم ويخافونه فانصروهم (إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) أي: إذا استنصروكم في الدِّين على قوم بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم، أي: وليس عليكم أن تنصروهم، تأويله: حتى تنبذوا إليهم العهد؛ يقول: إذا استنصركم يا معشر المهاجرين - إخوانكم المؤمنين الذين لم يهاجروا إليكم فأتاهم عدوهم من المشركين فقاتلوهم ليردوهم عن الإسلام - فانصروهم، ثم استثنى فقال: (إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ)؛ يقول: إن استنصروكم الذين لم يهاجروا إلى المدينة على أهل عهدكم، فلا تنصروهم. (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): في المعونة، والنصرة، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

(73)

قرئ بالخفض: (وِلَايَتِهِمْ)، وبالنصب جميعًا: (وَلَايَتِهِمْ) أعني: بنصب الواو وخفضها، وكذلك التي في الكهف: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ. . .) الآية. بالخفض والنصب جميعًا. ثم قال بعض أهل الأدب: الولاية - بفتح الواو -: النصرة والمعونة، والولاية - بخفض الواو -: السلطان، أي: السلطان لله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الولاية - بالخفض -: المعونة والنصرة، والولاية: السلطان. وقال آخرون: هما سواء، وهو النصرة والمعونة، والولاية في الإمارة والسلطان، والولاية في الدِّين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... (73) على قول ابن عَبَّاسٍ وعامة أهل التأويل: بعضهم أولياء بعض في التوارث؛ على ما قالوا في المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض. ويحتمل ما ذكرنا أن بعضهم أولياء بعض في التناصر، والتعاون، والدِّين، والحقوق جميعًا؛ على ما ذكرنا في المؤمنين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ). قيل: فيه بوجوه:

(74)

أحدها: أن إخوانكم الذين لم يهاجروا إذا استنصروكم على عدوهم فلم تنصروهم، تكون فتنة في الأرض وفساد كبير، أي: إن لم تكونوا بعضكم أعوانًا وأنصارًا لبعض، على ما كان أهل الكفر بعضهم أنصارا لبعض غِلبكم العدو وقهركم، فيكون في ذلك فتنة وفساد، ويكون كقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ). وقال بعصهم: قوله: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ) ملحق بقوله: (إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ)، أي: إذا استنصركم إخوانكم على قوم بينكم وبينهم ميثاق فنصرتموهم، تكن فتنة وفساد كبير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) فيما أمركم به من جعل التوارث فيما بين المؤمنين، وجعلتم الميراث والتوارث فيما بينكم وبين الكفار (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر المواريث، ثم ذكر في آخر الآية: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وما ذكر من ترك حدود اللَّه، وطاعة رسوله، وجعل الميراث في غير ما أمر - عَزَّ وَجَلَّ - (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) أي: ضموا رسول اللَّه والمهاجرين ونصروهم. (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا). أي: المهاجرون والأنصار الذين ضموا (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)؛ لما حققوا إيمانهم بأعمالهم؛ لأنهم هاجروا من بلادهم وأهلهم وأموالهم؛ إشفاقًا على دينهم، واستسلامًا له، وأجابوا رسول اللَّه وأطاعوه في ذلك، وأُولَئِكَ الأنصار ضموهم إلى أنفسهم وأنزلوهم في منازلهم، وبذلوا لهم أنفسهم وأموالهم، ونصروهم على عدوهم، فقد حققوا جميعًا إيمانهم بأعمالهم التي عملوا. ويحتمل قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي: صدقًا في السر والعلانية، ليس كإيمان

(75)

المنافقين يكون في العلانية ولا يكون في السر؛ كقوله: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. . .) الآية، وقال: (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ. . .) الآية. ويحتمل قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)، أي: وعدهم وعدًا حقًا، وهو ما ذكر في آية أخرى: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). ويحتمل: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)، أي: أُولَئِكَ المؤمنون الذين حققوا الإيمان به. وظ له: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). أي: حسن يكرم أهله به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) أي: من آمن بعد هَؤُلَاءِ وهاجروا بعد مهاجرة أُولَئِكَ، فإنهم يلحقون أوائلهم في جميع ما ذكر في أُولَئِكَ الذين هاجروا من قبل؛ يذكر هذا - واللَّه أعلم - لنعمل نحن على ما عمل أُولَئِكَ من الهجرة، والنصرة، وبذل الأنفس والأموال، وغير ذلك للدِّين، على ما بذل أُولَئِكَ وأشفقوا على دينهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ). هم ما ذكرنا أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض بالتركة والتوارث من جملة المؤمنين، فإذا لم يكن أولو الأرحام فجملة المؤمنين أولى؛ على ذلك يخرج قول أصحابنا:

إن أولي الأرحام بالميراث أولى من جملة المؤمنين، وهو بيت المال، فما دام واحد من هَؤُلَاءِ فهو أولى بالميراث، وعلى ذلك يخرج قولهم في العقل: إنه على ذوي الأرحام ما داموا هم، فإذا لم يكن أحد منهم فهو على جملة المؤمين في بيت المال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بالعباد وما يكون منهم، و (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بما يحتاجون وما لا يحتاجون، وهو حرف وعيد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ). أي: بعضهم أولى ببعض في حق التوارث من المؤمنين الذين هاجروا، فنسخت هذه الآية حكم الميراث الذي ذكر في قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)؛ لأنه كان جعل التوارث بينهم بحق الإيمان والهجرة، ثم نسخ ذلك وجعل الميراث بالرحم؛ حيث قال: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)؛ وكذلك ما ذكر في سورة الأحزاب حيث قال: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) فإذا لم يبق من الرحم أحد فبعد ذلك يكون جملة المؤمنين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي كِتَابِ اللَّهِ).

في حكم اللَّه، أو (فِي كِتَابِ اللَّهِ)؛ لأنه ذكر في كتاب اللَّه. ثم لزوم الهجرة على الذين هاجروا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى الذين تأخرت هجرتهم سواء، قد سوى بينهم في اللزوم، وجمع بين المهاجرين والأنصار في حق الشهادة لهم بالتصديق والإيمان؛ حيث قال: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤنِوُنَ حَقأ)، وجمع بينهم في حق الولاية وما يكتسب بها من المنافع؛ حيث قال: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)، وجمع بينهم في الثواب والدرجة؛ حيث قال: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، وجمع بينهم في هذه الخصال وإن قدم ذكر المهاجرين في غير واحدة من الآيات؛ لما كانوا مستوين في الأسباب التي استوجبوا ذلك؛ لأن من المهاجرين من ترك الأوطان والمنازل، والخروج منها والمفارقة عن أهليهم وأموالهم، وكان من الأنصار مقابل ذلك: إنزالهم في منازلهم وأوطانهم، وبذل أموالهم، وقيام أهليهم في خدمتهم؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه تعالى أعلم، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. * * *

سورة التوبة

سُورَةُ التَّوْبَةِ قوله تعالى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال بعضهم من أهل التأويل: ذلك في قوم كان بينهم وبين رسول اللَّه عهد على غير مدة مبينة، فأمر بنقض العهد المرسل وجعله في أربعة الأشهر التي ذكر في قوله: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي في قوم كان لهم عهد دون أربعة أشهر، فأمر بإتمام أربعة أشهر؛ ودليله قوله: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ). وقال أبو بكر الكيساني: الآية في قوم كانت عادتهم نقض العهد ونكثه؛ كقوله: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ)، فأمر أن يعطي العهد أربعة أشهر التي ذكر في الآية ثم الحرب بعد ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لما نزل قوله: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) بعث رسول اللَّه، عليا إلى الموسم ليقرأه على الناس، فقرأ عليهم: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) من العهد غير أربعة

(2)

أشهر (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). على ما ذكرنا حمل هَؤُلَاءِ كلهم قوله: (بَرَاءَةٌ) على النقض. وعندنا يحتمل غير هذا، وهو أن قوله: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في إمضاء العهد ووفائه، والبراءة هي الوفاء، وإتمامه ليس على النقض؛ لأنه قال: إلى الذين عاهدتم من المشركين والبراءة إليهم هي الأمان والعهد إليهم، ولو كان على النقض لقال: " من الذين عاهدتم من المشركين " فدل أنه هو إتمام إعطاء العهد إليهم، وإمضاؤه إليهم، ويؤيد هذا ما قال بعض أهل الأدب: إن البراءة هي الأمان؛ يقال: كتبت له براءة، أي: أمانًا؛ هذا الذي ذكرنا أشبه مما قالوا، أعني: أهل التأويل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) أي؛ سيروا واذهبوا في الأرض (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) أي: في مدة العهد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي). أي: اعلموا أن المؤمنين وإن أعطوا لكم العهد في وقت فإنكم غير معجزي الله وأولياءه، ولا فائتين عنكم في تلك المدة. (وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) الخزي: هو العذاب الفاضح الذي يفضحهم ويظهر عليهم. ويحتمل أن يكون ذلك العذاب والإخزاء الذي ذكر في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)

قَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، أي: إعلام، ومنه أذان الصلاة، وهو الإعلام؛ يقال: آذنتهم إيذانًا. وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) يكون في قوله: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) دلالة ما قال أهل التأويل من النقض؛ لأن قوله: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) يكون فيه انقضاء العهد وإتمامه إلى المدة التي ذكر، ويكون ما روي في الخبر وذكر في القصة أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما نزل (بَرَاءَةٌ) بعث أبا بكر على حج الناس، يقيم للمؤمنين حجهم، وبعث معه بـ (بَرَاءَةٌ) السورة، ثم أتبعه علي بن أبي طالب، فأدركه فأخذها منه، ورجع أبو بكر إلى النبي، فقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: بأبي أنت وأمي، نزل فِيَّ شيء؟ قال: " لا، ولكن لا يبلغ غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنت صاحبي في الغار، وأنت أخي في الإسلام، وأنت ترد على الحوض يوم القيامة؟! " قال: بلى يا رسول اللَّه. فمضى أبو بكر على الناس، ومضى علي بن أبي طالب بالبراءة، فقام على بالموسم، فقرأ على الناس: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ): من العهد، غير أربعة أشهر؛ فإنهم يسيحون فيها. ثم قوله: (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ). قال عامة أهل التأويل: هو يوم النحر؛ لأن فيه ذكر طواف البيت وحج البيت.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو يوم عرفة؛ لأنه هو الذي يوقف فيه بعرفة، وبه يتم الحج على

ما روي في الخبر: " الحج عرفة، ومن أدرك عرفة بليل وصلى معنا بجمع، فقد تم حجه وقضى تفثه، بإدراكه يتم الحج، وبفوته يفوت ". وعن الحسن أنه سئل فقيل له: ما الحج الأكبر؟ فقال: سنة حج المسلمون والمشركون جميعًا، اجتمعوا بمكة، وفي ذلك اليوم كان لليهود عيد، وللنصارى عيد، لم يكن قبله ولا بعده، فسماه اللَّه الحج الأكبر. قال أبو بكر الأصم: لا يحتمل أن يسمي اللَّه عيد النصارى واليهود يوم الحج الأكبر، وهو يوم نزول السخط عليهم واللعنة، ولكن جائز أن يسمى بذلك؛ لاجتماع الخلائق فيه من كل نوع؛ على ما سمي يوم الحشر يومًا عظيما؛ كقوله: (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ

لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). وقوله: (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ). أي: إن تبتم عما كنتم عليه فهو خير لكم؛ لأنهم يأمنون من الرعب الذي كان في قلوبهم ويكون ذلك الخوف والرعب في قلوب المشركين؛ على ما روي في الخبر أنه قال: " نصرت بالرعب مسيرة شهر ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ): عما ذكرنا، (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) أي: غير فائتين من نقمة اللَّه وعذابه. ويحتمل قوله: [(إِنْ تُبْتُمْ)] عن نقض العهد فهو خير لكم في الدنيا، والأول: فإن تبتم وأسلمتم فهو خير لكم في الدنيا والآخرة. وروي في بعض الأخبار عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل: بأي شيء بعثت؟ قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان بينه وبين النبي - عليه السلام - عهد فعهده أربعة أشهر، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الحرم مشرك بعد هذا. وفي بعض الأخبار: ولا يحج المشرك بعد عامه هذا، وكذلك قال في الآية الأخرى: (فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)، ففيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد؛ لأنه قال في ملأ من الناس بالموسم: لا يحج مشرك بعد هذا، مع كثرة أُولَئِكَ وقوتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم، ثم لم يتجاسر بعد ذلك النداء أحد أن يدخل مكة للحج وغيره، دل أن ذلك كله كان باللَّه - تعالى - لا بهم. ثم من الناس من استدل بالخبر الذي روي أنه بعث أبا بكر الصديق على الحج وبعث معه ببراءة، ثم أتبعه عليًّا، فأدركه فأخذها منه، ورجع أبو بكر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: هل

نزل في شيء؟ قال: " لا، ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني " - على أن عليًّا هو المستحق للخلافة، وهو الأحق بها دون أبي بكر؛ حيث قال: " لا يبلغ عني غيري أو رجل مني ".

(4)

لكن يحتمل أنه وَلَّى ذلك عليًّا؛ لما كان من عادة العرب أنهم إذا عاهدوا عهدًا أنه لا ينقض ذلك عليهم إلا من هو من قومهم، فولى ذلك عليًّا؛ لئلا يكون لهم الاحتجاج عليه فيقولون: لم ينقض علينا العهد. أو أن يقال: ولى عليًّا أمر الحرب، وهو كان أبصر وأقوى بأمر الحرب من أبي بكر، وولى أبا بكر إقامة الحج والمناسك، فكان أبو بكر هو المولى أمر العبادات، وعلي أمر الحروب، والحاجة إلى الخلافة لإقامة العبادات. أو أن يقال: إن أبا بكر كان أمير الموسم، وعليَّا كان مناديه، فالأمير في شاهدنا أجل قدرًا وأعظم منزلة من المنادي، وأمر عليًّا ذلك؛ لما أن ذلك كان أقبل وأسمع من غيره من الأمير نفسه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا (4) قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا صلة قوله: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ). أمر بإتمام العهد للذين لم ينقضوا المسلمين، ولا ظاهروا عليهم أحدًا، وأما الذين كانت عادتهم نقض العهد ونكثه فإنه لا يتم لهم، ولكن ينقض، وكذلك تأولوا قوله: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ): النقض. ويحتمل أن يكون صلة قوله: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، ويكون العذاب الأليم هو القتل والأسر؛ كأنه يقول: وبشر الذين كفروا بالقتل والأسر (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا). ثم يحتمل قوله: (لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا) أي: لم يخونوكم شيئًا ما داموا في العهد، (وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا) أي: لم يعاونوا ولا أطلعوا أحدًا من المشركين عليكم، (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ)؛ كقوله: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) أمر بالنبذ إليهم عند خوف الخيانة، وأمر بالإتمام إذا لم يخونوا ولم

(5)

يظاهروا عليهم أحدًا. ودل قوله: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) على أن قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) أي: غير معجزي أولياء اللَّه في عذاب الدنيا؛ لأنهم جميعًا سواء في عذاب الآخرة، مشتركون فيه. وقوله: (إِلَى مُدَّتِهِمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: مدة القوم أربعة أشهر بعد يوم النحر لعشر مضين من ربيع الآخر لمن كان له عهد، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم، خمسون ليلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إلا الذين عاهدتم من المشركين بالحديبية فلم يبرأ اللَّه ورسوله من عهدهم في الأشهر الأربع ثم لم ينقصوكم في الأشهر الأربع، (وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا) أي: لم يعينوا على قتالكم أحدًا من المشركين، أي: إن لم يفعلوا ذلك (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) وهو الأربعة الأشهر (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ): الذين اتقوا المعاصي والشرك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) قَالَ بَعْضُهُمْ: الأشهر الحرم هي أشهر العهد والأمان، فإذا انسلخ تلك الأشهر ومضت، (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأشهر الحرم هي الأشهر التي خلقها اللَّه وجعلها حرامًا؛ كقوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: حيث وجدتموهم وخذوهم في الأماكن كلها؛ لأن " حيث " إنما يترجم عن مكان، وأمر بقتلهم في الأماكن كلها؛ لأنه لم يخص مكانًا دون مكان.

وقال آخرون: هو في الأماكن كلها إلا مكان الحرم، دليله ما ذكر في السورة التي ذكر فيها البقرة، وهو قوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)، وقال: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، أمرهم بقتالهم في الأماكن كلها إلا المسجد الحرام. وأمكن أن يكون أنهم يقتلون إلا أن يدخلوا الحرم، فإذا دخلوا الحرم وقد نهوا عن الدخول فيه والحج هنالك، على ما روي أن عليا نادى بالموسم: ألا لا يحجن بعد العام مشرك - فإذا دخلوا يقتلون، ويكون دخولهم فيه بعد النهي كابتداء مقاتلتهم إيانا، فإذا قاتلونا عند المسجد الحرام قاتلناهم؛ كقوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَخُذُوهُمْ) قيل: ائْسِروهم. وقوله: (وَاحْصُرُوهُمْ) قيل: احبسوهم، (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)، والمرصد الطريق؛ كأنه أمر بقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) بقتلهم إذا قدروا عليهم، وأمكن لهم ذلك، والأسر عند الإمكان والحبس إذا دخلوا الحصن، وحفظ المراصد عند غير الإمكان؛ لئلا يغروا، ويقال: أرصدت له، أي: انتظرت أن أجد فرصتي، ويقال: تر صد ته، أي: انتظرته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (كُلَّ مَرْصَدٍ) أي: كل طريق يرصدونكم؛ كأنه أمر بذلك؛ ليضيق عليهم الأمر؛ ليضجروا وينقادوا. وفيه دليل النهي عما يحمل إلى دار الحرب من أنواع الثياب والأمتعة وما ينتفعون به؛ لأنه أمر بالحصر وحفظ الطرق والمراصد؛ ليضيق عليهم الأمر ويشتد، فينقادوا، وفيما يحملون إليهم توسيع عليهم. وقوله: (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) يحتمل أن يكون قوله: (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ) أي: أقيموا عليهم الحجج والبراهين؛ ليضطروا إلى قبول ذلك، فإذا انقادوا لكم وإلا فاقتلوهم حيث وجدتموهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ): قَالَ بَعْضُهُمْ أمر اللَّه في أول الآية بقتل المشركين، فقال: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ

وَجَدْتُمُوهُمْ) وقال: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)، فوجب بظاهر الآية أن نقاتل من آمن ولم يقم الصلاة ولم يؤت الزكاة؛ لأن اللَّه - تعالى - إنما رفع القتل عنهم بالإيمان واقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإذا لم يأتوا بذلك فالقتل واجب عليهم، وكذلك فعل أبو بكر الصديق لما ارتدت العرب ومنعتهم الزكاة حاربهم حتى أذعنوا بأدائها إليه. روي عن أنس قال: لما توفي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ارتدت العرب كافة، فقال عمر: يا أبا بكر، أتريد أن تقاتل العرب كافة؟! فقال أبو بكر: إنما قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إذا شهدوا أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن محمدًا رسول اللَّه، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، منعوني دماءهم وأموالهم " واللَّه لو منعوني عناقا مما كانوا يعطون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قاتلتهم عليه. قال عمر: فلما رأيت رأي أبي بكر قد شرح عرفت أنه الحق. وفي بعض الأخبار قالوا: نشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ونصلي، ولكن لا نزكي، فمشى عمر والبدريون إلى أبي بكر، فقالوا: دعهم؛ فإنهم إذا استقر الإسلام في قلوبهم وثبت أدَّوْا، فقال: واللَّه، لو منعوني عقالا مما أخذ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قاتلتهم عليه، قيل: أو قاتل رسول اللَّه على ثلاث: شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وقال اللَّه: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)، واللَّه لا أسأل فوقهن ولا أقصر دونهن، فقالوا: إنا نزكي، ولكن لا ندفعها إليك، فقال: واللَّه حتى آخذها كما أخذها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأضعها مواضعها. وقال آخرون: قوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) في قبولهم والاعتقاد بهما دون فعلهما، لما لا يحتمل حبسهم ومنعهم إلى أن يحول الحول فيؤخذون بأداء الزكاة - دل على أنه على القبول والإقرار بذلك، واستدلوا بما روي في بعض الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " وقالوا في بعض الأخبار: أمرت أن أقاتل

الناس حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وإني رسول اللَّه، فإذا قالوا ذلك: عصموا مني. . . " كذا، وفي بعضها: " حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وإني رسول اللَّه، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك منعوا مني. . . " كذا دل ما ذكرنا من الزيادات والنقصان أن ذلك في قوم مختلفين، وأنه على القبول لذلك والاعتقاد، لا على الفعل نفسه، فمن كان لا يقر بشيء من ذلك، فإذا قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كان ذلك منه إيمانًا في الظاهر، ومن كان يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ولا يقول: مُحَمَّد رسول اللَّه، فإذا قال ذلك كان ذلك منه إيمانا، ومن كان يقر بهذين ولا يقر بالصلاة والزكاة، فإذا أقر بذلك كان ذلك منه إيمانًا، فهو على الإقرار به والاعتقاد، لا على الفعل، ألا ترى أن للأئمة أن يأخذوا منهم الزكاة شاءوا أو أبوا؟! فلو كان الأداء من شرط الإيمان لكانوا غير مؤمنين بأخذ هَؤُلَاءِ. واختلف الصحابة والروايات في الحج الأكبر: روي عن عبد اللَّه بن الزبير عن أبيه قال: قال النبي - عليه السلام - يوم عرفة: " هل تدرون أي يوم هذا؟ " قالوا: نعم، اليوم الحرام، يوم الحج الأكبر، قال: " فإن اللَّه قد حرم دماءكم وأموالكم عليكم إلى يوم القيامة كحرمة يومكم هذا ". وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن الحج الأكبر، فقال: يوم عرفة. وعنه: أنه وقف عليهم يوم عرفة فقال: إن هذا يوم الحج الأكبر، فلا يصومنه أحد. وعن ابن الزبير يقول: يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر. وفي بعض الأخبار عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه خطب على ناقة حمراء يوم النحر، فقال رسول اللَّه: " أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر ". وفي بعض الأخبار عن ابن عمر قال: رأيت أو قال: سمعت - رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول

يوم النحر عند المحراب في حجة الوداع، فقال: " أي يوم هذا؟ "، قالوا: هذا يوم النحر، قال: " فأي بلد هذا؟ " قالوا: بلد حرام، قال: " فأي شهر هذا؟ "، قالوا: شهر حرام، قال: " هذا يوم الحج الأكبر، فدماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة هذا البلد في هذا اليوم "، ثم قال: " هل بلغت ". وعن الحارث قال: سألت عليًّا عن الحج الأكبر، فقال: يوم النحر. وعن المغيرة بن شعبة: أنه خطب يوم العيد، فقال: " هذا يوم النحر، ويوم الأضحى، ويوم الحج الأكبر ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " الحج الأكبر: يوم النحر ". وفيه قول ثالث: ما روي أنه كان في كتاب رسول اللَّه الذي كتبه لعمرو بن حزم: " والحج الأصغر العمرة ". وعن ابن عَبَّاسٍ: العمرة: هي الحجة الصغرى. وسئل عبد اللَّه بن شداد عن الحج الأكبر، فقال: الحج الأكبر يوم النحر، والأصغر العمرة.

فأما حديث عمرو بن حزم: فهو حكاية عن كتاب، وليس فيه بيان عن يوم الحج الأكبر، إنما يذكر فيه الحج الأصغر، ولولا خبر علي وابن عمر لجاز أن يقال: يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر؛ لأنه يقضي فيه فرض الحج وهو الوقوف، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج، وجاز أن يقال: هو يوم النحر؛ لأنه فيه يقضي طواف الزيارة، وهو فرض ويقضي فيه أكبر مناسك الحج؛ بل يوم النحر أولى أن يكون يوم الحج الأكبر؛ لأن الحاج يفعل في يوم عرفة فرضًا من فرائض الحج، وهو الوقوف، ويقضي في يوم النحر فرضًا آخر من فرائضه، وهو طواف الزيارة، ويقضي مع ذلك أكثر مناسك الحج، فقد استوى هذان اليومان في أنه يُقْضَى في كل واحد منهما فرض من فرائض الحج، وزاد يوم النحر على يوم عرفة بما يفعل في يوم النحر من مناسك الحج، ولا يفعل في يوم عرفة شيئًا من النسك إلا الوقوف بعرفة. واحتج بعض الناس بفرضية العمرة بما رواه عمرو بن حزم أن الحج الأصغر هو

العمرة، والأكبر هو الحج، بما سميت العمرة حجًّا، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم. وعن علي وأبي هريرة وابن أبي أوفى - رضي اللَّه عنهم - أنهم قالوا: الحجة الكبرى: يوم النحر. وعن عمر وابن عَبَّاسٍ أنهما قالا: يوم عرفة. * * * قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)

(6)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ... (6) وقد قال: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) الآية، فأمر بالآية الأولى عند الوجود بالإجارة، وفي هذه بالقتل والأسر، وأمر في الأولى بتبليغه مأمنه، وفي هذه بأن يقعد له كل مرصد، وحال هذه هي حال الأولى في رأي العين، ويتهيأ له في كل وقت يظفر به أن يستجير؛ لما ذكر، وفي كل حال يرصد له أن يحتال ليرد إلى مأمنه، وفي ذلك زوال القيام بما في إحدى الآيتين في الظاهر، فألزم ذلك طلب المعنى الموفق بين الأمرين من طريق التأمل بالأسباب التي هي تدل على حق المعاملة بالآيتين جميعًا. فقال أصحابنا: إنه إذا قصد نحو مأمن أهل الإسلام غير مظهر أعلام الحرب، ولا بما يدل أنه على ذلك مجيئه؛ بل يمشي مشي من ينقلب لحاجة، ومن يتعاهد ومن ينادي إليه بالاستجارة - فيجار. ولو كان مقبلا نحو مأمننا، كالطالب لأحد، عليه أعلام الحرب، لكنه كالغافل عن الذين يرصدون له أو الذين لهم منعة ولا قوة به - فلا يقبل قوله، وذلك على تسليم الأمر الغالب من الأحوال؛ إذ لا وجه لعلم الحقيقة في ذلك، وعلى ذلك عامة الأمور بين أهل الدارين، وما ذكرت من الآية في لزوم ذلك الاعتبار؛ إذ لا وجه له غيره هو دليله، واللَّه أعلم. ثم دل قوله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ) بعد العلم بأنه من مأمنه لا يقدر على الاستجارة لبعد مأمن كل من مأمن الآخر، ثم لا يكون مأمن الفريقين في إحدى الدارين؛ لما كان تحقيق أمن كل فريق منهما نفي أمن الآخر؛ إذ به خوفه؛ فثبت أنه قد يؤذن له بالخروج للاستجارة من مأمنه والدخول في مأمن المسلمين إلى أن يبلغوا مساكنهم فيستجيروا؛ فلذلك لا يوجب ذلك الوجود حق الأسر ولا القتل، ويجب رده لو لم يجر، ولم يسع تعرضه لشيء من ذلك.

ثم قوله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ) من غير أن يبين استجارته لماذا، يحتمل أن يكون ترك بيانه؛ لما في الجواب ذلك بقوله: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، وذلك كقوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ)، أنه في الجواب بيان ما استفتوا. ويحتمل أن يكون ذلك لازم أن يسمع كلام اللَّه بمعنى حجته لأي وجه دخل بأمان. وذلك قريب؛ لأنا أمرنا بالتضييق عليهم ليسلموا، فإذا أبحنا لهم الدخول للحاجات بلا غرض، تذهب منفعة التضييق، فيكون المقصود بالعهد لما يرون من آثار الإسلام، وحسن رعاية أهل الإسلام، ويسمعون حججه وما به ظهور الحق فيه، رجاء أن يجيبوا، فلذلك يؤذنون، وإن كان في ذلك قضاء حاجاتهم. وقد روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لم يكن يقاتل حتى يدعو؛ إلى الإسلام، فيما قد كان دعاهم غير مرة، فذلك المعنى عند الأمان أولى، واللَّه أعلم.

قوله: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) فالأصل أن حقيقة الكلام لا تسمع بالكلام نفسه؛ إذ الذي به يؤدي حروف الكلام بما يقلب الحروف ويؤلفه ولا صوت له يسمع؛ نحو

اللسان، والشفة، ونحو ذلك، وإنما يسمع بصوت يهيج من حيث الجارحة التي يتكلم وقوله فيبلغ كلامه أو حروف كلامه المسامع، فالسمع يقع على الصوت الذي به يدرك الكلام ويفهم، فصار سمع الكلام في الأصل مجازًا لا حقيقة؛ فعلى ذلك ما قيل من سماع كلام اللَّه. ثم هو يخرج على وجوه: أحدها: أن يسمع المعنى الذي جعل له الكلام وهو الأمر، والنهي، والتحريم والتحليل، ونحو ذلك، وذلك مما ينسب إلى اللَّه، فقيل بذلك كلام اللَّه؛ لما إليه ينسب إلى الأمر به والنهي، ونحو ذلك. والوجه الثاني: أن يكون اللَّه ألفه ونظمه على ما أعجز خلقه عن مثله، فينسب إليه بما منه تأليفه على ما هو عليه، وإن كان مسموعًا من غيره؛ على ما تنسب القصائد إلى مبدعيها، والكتب إلى مؤلفيها، والأقاويل إلى الأوائل التي منهم ظهرت، وإن لم يكن الذي يقوله في الحقيقة قوله أو كلامه بما كان منه البداء الذي عليه يتكلم؛ فمثله معنى قوله: " حتى يسمع كلام اللَّه ". والثالث: أن يكون ذلك؛ لما بكلامه يعبر، وبه يوصف أن له كلامًا، وبه يرجع إلى ذلك، وإن كان اللَّه - تعالى - يجل عن الوصف لكلامه بالحروف، والهجاء، والأبعاض، ونحو ذلك، فلما كان إليه المرجع، وإن كان حد ذلك غير متوهم هنالك ولا متصور، فنسب إليه؛ كما قال اللَّه - تعالى -: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)، وقال: (خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ)، من غير توهم كلية العالم في ذلك التراب أو النفس الواحدة؛ لما إليه مرجع الكل نسب إليه؛ فعلى ذلك أمر الكلام، وذلك على ما قيل من لقاء اللَّه والمرجع إلى اللَّه والمصير بما لا تدبير لأحد هنالك ذكر المصير إليه؛ لأن لذلك من صيرورة إليه - في الحقيقة - ورجوع لم يكن من قبل، فمثله لما قيل: كلام اللَّه. ثم اللَّه - تعالى - يجل عن التصوير في الأوهام أو التقدير في العقول فعلى ذلك

صفته بل ذلك أحق وأولى، إذ نجد صفات الخلق لا تحد ولا تصور في الأوهام ولا تقدر بها العقول، إلا من طريق القول بالحقيقة لهم على ما هن أغيار لهم، فاللَّه - تعالى - المتعالي عن التصور في الأوهام ووصفه بالعلم، والكلام، ونحو ذلك، أحق في إبطال توهم ذلك، فتدبر فيه. وقال الثلجي: يقال: كلام اللَّه، على الموافقة، لا على الحقيقة؛ كما يقال: ذا قول فلان، وكلام فلان، وليس غيره كلام المتكلم به، فالقائل الشاهد. وقال أبو بكر: فهذا يدل على أن كلام اللَّه يسمع من وجوه؛ فكأنه يذهب إلى مثل ما يقال: يعرف اللَّه من وجوه، على تحقيق الوجوه، فمثله كلامه واللَّه أعلم من غير توهم المعنى الذي به يعرف عن اللَّه - سبحانه - كذلك سماع كلامه. وفي قوله: (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) دلالة أنه لم يقبل ما سمع وعرض عليه؛ إذ لو قبل لكان يكون مأمنه هذه الدار، لا تلك، ولكان يحق عليه الخروج منها، لا العود إليها. ثم معلوم أن كلام اللَّه هو حجته، وأن الحجة قد لزمته؛ لوجهين: أحدهما: ما ظهر عجز الخلق عن مثله، وانتشر الخبر في الآفاق على قطع طمع المقابلين لرسول اللَّه بالرد، الباذلين مهجهم وما حوته أيديهم في إطفاء نوره، فكان ذلك حجة بينة لزمتهم. والثاني: أن جميع ما يتلى منه لا يؤتى عن آيات إلا وفيها مما يشهد العقول على قصور أفهام الخلق عن بلوغ مثله من الحكمة وعجيب ما فيه من الحجة؛ مما لو قوبل بما فيه من المعنى وما يحدث به من الفائدة، ليعلم أن ذلك من كلام من يعلم الغيب، ولا يخفى عليه شيء، وإذا كان كذلك صار هو بالرد مكابرًا، وحق مثله الزجر والتأديب أنه لم يفعل ألما لم يكن يضمن أمانة القبول، ولا أن يعارضه بالرد، وذلك أعظم مما فيه الحدود، فالحد أحق ألا يقام عليه، واللَّه أعلم. ثم قوله: (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) ويحتمل وجهين:

(7)

أحدهما: أن يدعه ولا يمنعه عن العود إلى مأمنه؛ ليعلم أن حكم تلك الدار لم يزل عنه، وأنه لا تلزم الجزية إلا عن طوع أو دلالة عليه. والثاني: أن يكون عليه حفظه إلى أن يبلغه مأمنه بدفع المسلمين عنه، وفي ذلك لزوم حق الأمان الجميع بإجارة بعض، وعلى ذلك كل مسلم. ثم سماع كلام اللَّه يخرج على القرآن، وفيه ما ذكرت من الدلالة، وعلى سماع أوامر اللَّه ونواهيه في حق الفرض عليه، وعلى سماع حجج النبوة وآيات الرسالة والتوحيد من القرآن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ). أي: ما لهم وما عليهم. ويحتمل نفي العلم: بما لم ينتفعوا بما علموا. ويحتمل ذلك تعليم من مع رسول اللَّه كيفية معاملة الكفرة؛ إذ هم لم يكونوا يعلمون من قبل، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) هو - واللَّه أعلم - أن كيف يستحقون العهد، وكيف يُعْطَى لهم العهد، وقد نقضوا العهود التي بينهم وبين ربهم وبين رسول اللَّه؟! فأما العهود التي بينهم وبين ربهم فهي عهد الخلقة؛ إذ في خلقة كل أحد الشهادة على وحدانية اللَّه وألوهيته، والشهادة على الرسالة. وما عهد إليهم في كتبهم من إظهار صفة مُحَمَّد ونعته للخلق، فنقضوا ذلك كله ونقضوا العهود التي بينهم وبين رسول اللَّه ولم يحفظوها؛ يقول - واللَّه أعلم -: كيف يستحقون أن يُعْطَى العهد لهم، وقد نقضوا العهد الذي عهد اللَّه إليهم والعهود التي أعطاهم رسول اللَّه؟! لا يستحقون ذلك، إلا أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضله وإحسانه أذن أن يعطي لهم العهود: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)، أي: أوفوا لهم العهد إذا أوفوا لكم وإن انقضت المدة؛ يقول - واللَّه أعلم -: إذا استقاموا لكم في وفاء العهد، فاستقيموا لهم في وفائه، وإن انقضت المدة.

(8)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). استثنى الذين عاهدوا عند المسجد الحرام، يحتمل ألا يُعطى العهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام. ويحتمل قوله: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ)، فإنهم إن وفوا لكم فأوفوا لهم، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) إن اللَّه يحب من اتقى الشرك واتقى كل جور وظلم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) يقول: كيف تعطون لهم العهد وكيف يستحقون العهد، ولو ظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلا ولا ذمة؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: وكيف لا تقاتلونهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً)، قال: الإل: اللَّه، والذمة: العهد. وقيل: الإل: القرابة. وقيل: الإل: العهد، والذمة، وكذلك ذكر في حرف حفصة: (لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً). وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الإل: العهد. قال: ويقال: القرابة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإل: القرابة. وقال أبو عبيدة: الإل: العهد، والذمة: التذمم.

(9)

وقال ابن عَبَّاسٍ: الإل: اللَّه، بمنزلة جبريل، تفسيره: عبد اللَّه؛ لما قيل: جبريل هو عبد اللَّه. وقيل: الإل: الحرم؛ يقول: كيف تعطونهم العهد وهم وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم القرابة ولا العهد، ولا يرقبوا الحرم فيكم؟! وقد كانوا يحفظون فيما بينهم القرابة والرحم حتى يعاون بعضهم بعضا ويناصر، إذا وقع بين قرابتهم ورحمهم وبين قوم آخرين مباغضة وعداوة، وكانوا يرقبون حرم اللَّه حتى لا يقاتلون في الأشهر الحرم وعند المسجد الحرام، وكانوا يحفظون العهود فيما بينهم من قبل، ولا يرقبونها فيكم ولا يحفظونها. هذا - واللَّه أعلم - تأويل قوله: (لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً)، وقد كانوا يرقبون من قبل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ). بأنهم يوفون العهد ويحفظونه. (وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ) إلا النقض. وقوله: (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) في نقض العهد. والفسق: هو الخروج عن أمر اللَّه؛ كقوله: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) يحتمل: حججه وبراهينه. ويحتمل: آيات القرآن ومُحَمَّد. ويحتمل: آياته: دينه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ). أي: صدوا الناس عن متابعة النبي. وقيل: صدوا الناس عن دين اللَّه الإسلام. (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). أي: بئس ما عملوا بصدهم الناس عن دين الإسلام ومتابعة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ... (10) هذا قد ذكرناه.

(11)

(وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ). في نقض العهد، والاعتداء: هو المجاوزة عن الحد الذي جعل لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) قال بعض أهل التأويل: انظروا إلى كرم ربكم وجوده، قوم قد افتروا على اللَّه كذبًا، وكذبوا رسول اللَّه، وهموا بقتله وإخراجه من بين أظهرهم، وطعنوا في دينهم، وعملوا كل بلية من نصب الحروب والقتال فيما بينهم، ثم إنه وعدهم التوبة والمغفوة والتجاوز عما كان منهم بقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، وجعل فيما بينهم الأخوة والمودة بقوله: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)، وقال: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، وقال: (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، وغير ذلك من الآيات، وفيه أن من كان له بمكان آخر ذنب أو جفاء، فإذا رجع عن ذلك وتاب لزمه أن يتجاوز عنه وألا يذكر بعد ذلك ما كان منه من الذنب؛ على ما جعل اللَّه فيما بين هَؤُلَاءِ الأخوة والمودة إذا تابوا، وقال: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) وقد كان منهم ما كان، ومن حق الأخوة ألا يذكر ما كان منهم من المساوئ. ثم قوله: (فَإِنْ تَابُوا) من الشرك وما كان منهم. وقوله: (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ). يحتمل قوله: (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) وجهين: الأول: يحتمل: الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة، زكاة المال، وهو ما ذكرنا فيما تقدم من الإقرار بهما والاعتقاد والقبول لذلك دون فعلهما، وهو في الكبراء والقادة الذين كانوا يأنفون عن الخضوع لأحد، ولا يؤتون الزكاة، ولا يتصدقون؛ لما ظنوا أنهم يخلدون في الدنيا؛ إشفاقًا على أنفسهم. والثاني: يحتمل أن يكون المراد من الصلاة: الخضوع والخشوع، لا الصلاة المعروفة، والمراد من الزكاة زكاة النفس وإصلاحها، فإن كان هذا فهو لازم في الأوقات كلها، ما من وقت إلا وله على كل أحد الخضوع له والخشوع له، ويزكي نفسه ويصلحها، وهو كقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا). وقوله: (وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي: نبين الآيات لقوم يعلمون ينتفعون بعلمهم.

(12)

ويحتمل: (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي: لقوم إذا نظروا فيها وتدبروا يعلمون لا لقوم لا يعلمون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) قوله: أيمانهم: العهود نفسها كقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا). يحتمل قوله: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) أيمانهم، أيمانًا يحلفونها بعد إعطاء العهد توكيدًا؛ لئلا ينقضوا العهد إذ عادتهم نقض العهد ونكثه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أطعنهم، في الدِّين ظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ). أي: أئمة الكفرة، وتخصيص الأمر بمقاتلة الأئمة؛ لما أن الأتباع أبدًا يقلدون الأئمة، ويصدرون عن آرائهم وتدبيرهم، فإذا قاتلوهم اتبع الأتباع لهم. والثاني: لنفي الشبه أي: ليس الأئمة منهم كأصحاب الصوامع، وإن كانوا هم أئمة في العبادة، فلا تترك مقاتلتهم؛ كما تترك مقاتلة أصحاب الصوامع؛ لأن أصحاب الصوامع قد عزلوا أنفسهم عن الناس وعن جميع المنافع، وحبسوها للعبادة، والأئمة ليسوا كذلك. والثالث: خصّ الأئمة بالقتال؛ لأنهم إذا قتلوهم لم يبق لهم إمام في الكفر، فيذهب الكفر رأسًا، وهو كقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ. . .) الآية. وقوله: (إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ). يحتمل: (لَا أَيْمَانَ لَهُمْ) أي: لا عهد لهم بعد نقضهم العهد، أي: لا توفوا لهم العهد الذي كان لهم إذا نقضوا.

(13)

ويحتمل: (لَا أَيْمَانَ لَهُمْ) أي: لا يعطي لهم العهد مبتدأً بعدما نقضوا العهد؛ لأنهم اعتادوا نقض العهد. والثاني: قال ذلك في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا. وفيه لغة أخرى: (لَا إِيْمَانَ لَهُم)، بكسر الألف: (لَا إِيْمَانَ لَهُمْ) أي: لا يؤمنون أبدًا فإن كان كذلك وذلك في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا. وفائدة قوله: (إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ) تخرج على وجهين: أحدهما: أن أهل العهد إذا نقضوا العهد ينقض ذلك، ويتركون على النقض، ويقاتلون بعد النقض، وليس كأهل الذمة إذا نقضوا الذمة لا يتركون على ذلك، ولكن يردون إلى الذمة ولا تنقض الذمة فيما بينهم. وقال الحسن: قوله: (لَا أَيْمَانَ لَهُمْ) يقول: لا تصديق لهم. وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ). عن نقض العهد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) أي: كيف لا تقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم، وأيمانهم ما ذكرنا، وهو حرف الإغراء على مقاتلة من اعتقد نقض العهود والتحريش عليهم (وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ). يحتمل قوله: (وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ): القتل، أي: هموا بقتله، وفي القتل

(14)

إخراجه. أو هو إخراجه من المدينة، على ما ذكر في بعض القصة: أن اليهود قالوا لرسول اللَّه: إن مكان الأنبياء والرسل بيت المقدس، لا المدينة، فانتقل إليه. وفي الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه معلوم أنهم أسروا في أنفسهم وفيما بينهم إخراجه وقتله، لا أنهم أظهروا ذلك، ثم أخبرهم بذلك، دل أنهم إنما علموا أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). يحتمل قوله: (وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) في نقض العهد، أي: هم بدءوكم بنقض العهد. ويحتمل: بدءوكم بالقتال أول مرة والإخراج. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) أي: لا تخشوهم واخشوا اللَّه؛ فإنهم لا يقدرون أن تصل إليكم نكبة إلا بإقدار اللَّه إياهم، فلا تخشوهم واخشوا اللَّه. ويحتمل قوله: (أَتَخْشَوْنَهُمْ) فاللَّه القادر بنصركم وبقهر عدوكم (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): إذ هو القادر على منعهم عنكم ونصركم عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) علم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كراهة القتل وثقله على الخلق، فأمر المؤمنين بمقاتلة الكفرة، ووعدهم النصر. والتعذيب بأيديهم: يحتمل وجهين: الأول: يحتمل: القتل والإهلاك. والثاني: يحتمل الأسر والسبي. (وَيُخْزِهِمْ) يحتمل أيضًا وجهين: الأول: يحتمل: الهزيمة والإذلال. والثاني: يحتمل قوله: (وَيُخْزِهِمْ): في الآخرة؛ كقوله: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)، الخزي: العذاب الذي فيه الفضيحة والذلة. وفي قوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) دلالة نقض قول المعتزلة؛ لقولهم: إنه لا قدرة لله على أفعال الخلق، وقد أخبر أنه يعذبهم بأيديهم، ولو كان غير قادر على

(15)

أفعالهم، كان يعذبهم بيده لا بأيديهم. (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ). وعدهم النصر عليهم والظفر وخزي الكفرة، وهو ما ذكر: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) وكذلك في قوله: (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)، دلالة نقض قولهم أيضًا، لأنه أخبر أنهم يصيبهم العذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين؛ كما ذكرناه. وقوله: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). يحتمل أن تكون قلوبهم توجعت وتألمت بكفرهم باللَّه وتكذيبهم الرسول، فوعدهم شفاء صدورهم، وذلك يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم يسلمون، فيصيرون إخوانًا، فيدخل فيهم السرور والفرح بإزاء ما حزنوا وتألموا، وذلك شفاء صدورهم. والثاني: يشف صدورهم بالقتل والهزيمة، يقتلون ويهزمون، ففي ذلك شفاء صدورهم، لما تألمت وتوجعت بالتكذيب والكفر باللَّه وآياته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) هذا يحتمل -أيضًا- وجهين: يذهب الغيظ الذي كان في قلوبهم بتكذيبهم رسول اللَّه وكفرهم بآيات اللَّه بإسلامهم يسلمون فيكونون إخوانًا. أو يقتلون ويهلكون فيذهب عنهم الغضب الذي كانوا غضبوا عليهم بالذي ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) أي: من شاء عذب، ومن شاء تاب عليه. وفي الآية دلالة الرد على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: شاء أن يتوب على جميع الكفرة، لكنهم لا يتوبون، فأخبر أنه يعذب بعضًا ويتوب على بعض، فإنما شاء أن يعذب غير الذي شاء أن يتوب عليه وشاء أن يتوب على غير الذي شاء أن يعذبه.

(16)

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). بما كان ويكون، أي: عن علم بما كان منهم خلقهم، لا عن جهل؛ إذ خلقه إياهم ليس لمنافع نفسه وحاجته، إنما خلقهم لحاجتهم ومنافعهم (حَكِيمٌ) وضع كل شيء موضعه. ويحتمل: (عَلِيمٌ): بما كان من هَؤُلَاءِ من التكذيب لرسول اللَّه والكفر بآياته، (حَكِيمٌ) أي: فيما جعل عليهم من القتل والتعذيب والخزي كأنه وضع الشيء موضعه. * * * قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ). وأيضًا قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، وقوله أيضًا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية، وقوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكوا. . .) الآية هذه الآيات كلها في المنافقين الذين أظهروا الإيمان باللسان، وأروا المؤمنين الذين حققوا الإيمان وأخلصوا الإسلام الموافقة لهم، فقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) على ما أظهرتم من الإيمان باللسان فلا تبتلون بالقتال؛ جعل لله - تعالى - القتال مع الكفرة - واللَّه أعلم - وأمر به لمعنيين: أحدهما: تطهيرًا للأرض من الكفر؛ كقوله - تعالى -: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ). والثاني: امتحانًا للمنافقين؛ ليبين نفاق من أظهر الإيمان باللسان مراءاة، وصدق من أظهره حقيقة؛ ليعرف المحق المخلص من المنافق المرائي؛ لأن القتال هو أرفع أعلام يظهر بها نفاق المنافق؛ لأنهم إنما كانوا يظهرون الموافقة لهم؛ طمعًا في الدنيا؛ لتسلم

لهم المنافع التي كانوا ينتفعون بها، وفي الأمر بالقتال خوف الهلاك، فإذا خافوا الهلاك على أنفسهم امتنعوا عنه؛ كقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا) خوفًا وإشفاقًا على أنفسهم؛ لما ذكرنا أنهم إنما كانوا يظهرون الإيمان باللسان؛ ليسلم لهم ما طمعوا من المنافع؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) الآية، هذا وصف المنافق. وأما المؤمن المحق للإيمان، المخلص للإسلام: فإنه يسلم نفسه لله في جميع أحواله، وإن كان فيه تلف نفسه؛ لما لم تكن عبادته لله على حرف ووجه كالمنافق، ولكن على الوجوه كلها، والأحوال جميعًا، عبادته تكون لله، لا يمنعه خوف الهلاك عن القتال؛ بل نفسه تخضع لذلك وترضى، ولا كذلك المنافق. وقد ذكرنا أن حرف الاستفهام من اللَّه يكون على الإيجاب والإلزام. ثم قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ) يحتمل وجهين: أحدهما: أي: قد حسبتم أن تتركوا على ما أظهرتم من الموافقة والخلاف في السر، ولا تبتلون وتمتحنون بما يظهر منكم ما أضمرتم، فلا تحسبوا ذلك. والثاني: (أَمْ حَسِبْتُمْ) أي: لا تحسبوا أن تتركوا على ذلك، ولا تمتحنوا بالجهاد والقتال. أحد التأويلين يخرج على النهي، والثاني على الإخبار عما حسبوا، وعما عندهم. ثم قوله: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ). أي: ليعلم من قد علم أنه يجاهد مجاهدًا، ويعلم ما قد علم أنه يكون كائنًا، لا على حدوث علمه بذلك؛ إذ هو موصوف بالعلم بكل ما يكون في وقت ما يكون على ما يكون؛ فيكون قوله: ليعلم المجاهدين من كذا، وليعلم الصابرين من كذا؛ أي: ليعلم من قد علم أنه يجاهد مجاهدًا، وليعلم ما قد علم أنه يكون كائنًا؛ لأنه لا يجوز أن يوصف اللَّه بالعلم بما ليس يكون أنه يعلمه كائنا، كما لا يجوز أن يوصف أنه يعلم من الجالس القيام في حال جلوسه، ومن المتحرك السكون في حال حركته، ومن المتكلم السكوت في حال كلامه، إنما يوصف بالعلم على الحال الذي عليه الخلق، لا يوصف بالعلم في حال غير الحال الذي هو عليه، واللَّه الموفق. ويحتمل هذا وجهًا آخر: أن فيما أضاف العلم إلى نفسه كان المراد منه أولياؤه؛

كقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، أي: إن تنصروا أولياءه ينصركم، أو إن تنصروا دينه ينصركم، أو إن تنصروا رسوله ينصركم؛ فعلى ذلك قوله: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)، أي: ليعلم أولياءه المنافق المرائي، والمؤمن المحقق المخلص، وليبين لهم، كقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ)، أي: يخادعون أولياءه إذ اللَّه لا يخادع ولا ينصر؛ إذ هو ناصر كل أحد، ولا يخفى عليه شيء، عالم بما يكون في وقت ما يكون. أو أن يكون المراد من العلم الذي ذكر المعلوم، وذلك جائز في اللغة جار، وفي القرآن كثير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً). أي: لم يجدوا ملجأ يلجئون إليه من دون ما ذكر، ولو وجدوا ذلك لاتخذوا ذلك، ولكن لما لم يجدوا لم يتخذوا؛ كقوله: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) الآية. أخبر أنهم لو وجدوا ملجأ يلجئون إليه لولوا، ولا يظهرون ذلك. وقوله: (وَلِيجَةً) قال بعض أهل الأدب: الوليجة: البطانة من غير المسلمين، وأصلها من الولوج، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطًا ودودًا، وجمعه: الولائج. وقال البعض: الوليجة أصلها من الدخول؛ كقوله: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) يقال أيضًا: فلان وليجة فلان، أي: خاصته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوليجة: الخيانة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوليجة: ما يلجأ إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة؛ وبعضه قريب من

(17)

بعض. (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). هو على الوعيد خرج. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) قال بعض أهل التأويل: نزلت الآية في العباس بن عبد المطلب أنه أسر يوم بدر، فأقبل ناس من المهاجرين والأنصار، منهم علي بن أبي طالب وغيره، وعيروه بالكفر باللَّه، والقتال مع النبي، وقطيعة الرحم، فقال: ما لكم تذكرون مساوئنا وتذرون محاسننا؟! فقالوا: أَوَلكم محاسن؟ قال: إي واللَّه، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب البيت، ونَسقي الحاج ونفك العاني. فأنزل اللَّه ردًّا عليه. لكن في آخر الآية دلالة أنه لا يحتمل أن تكون في العباس؛ على ما قالوا؛ لأنه

قال: (أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ) والعباس قد أسلم من بعد، فلا يحتمل هذا الوعيد بعد الإسلام. وقال غيرهم من أهل التأويل: قوله: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ)، أي: ما كان بالمشركين عمارة مساجد اللَّه، إنما كان بهم خراب مساجد اللَّه، إن المساجد إنما تعمر بالذكر فيها، والصلاة وإقامة الخيرات؛ كقوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) الآية، وهم لم يعمروها لذكر اسم اللَّه فيها، إنما عمروها لذكر الأصنام والأوثان، فكان بهم خراب المسجد، لا العمارة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) على ما عندهم؛ لأن الذي منعهم عن الإيمان باللَّه حبهم الدنيا وميلهم إليها، فما ينبغي لهم أن يعمروها وينفقوها، ويضيعوا أموالهم فيها، ولا ينتفعوا، أي الذي منعهم عن التوحيد والإيمان حبهم الدنيا، وشهواتهم، وميلهم إليها؛ فعلى ما عندهم ما ينبغي لهم أن يعمروها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) أي: ما كان على المشركين أن يعمروا مساجد اللَّه؛ لأنهم لا ينتفعون بها في الآخرة، ولا يؤمنون بالآخرة، وإنما يقصد بعمارة المساجد والإنفاق عليها الثواب في الآخرة، وهم لا يؤمنون بها، فتضيع نفقتهم في ذلك؛ إذ لا مقاصد لهم ولا منفعة، إنما ذلك على المسلمين. ويجوز " له " بمعنى عليه؛ كقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، أي: فعليها. وقوله: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) يحتمل هذا: أي: ما كان بالمشرك عمارة مساجد اللَّه، إنما تكون عمارته بمن آمن باللَّه واليوم الآخر، لا بمن أشرك بالله وكفر بالآخرة. وقوله: (شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)، أي: على نفس مُحَمَّد ومن آمن معه؛ سماهم أنفسهم؛ لأنهم من قرابتهم وأرحامهم، وقد سمى اللَّه المتصلين بهم بذلك؛ كقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) وقوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)؛ فعلى ذلك الأول يحتمل ما ذكرنا. أو (شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) عند الضرورات عند نزول العذاب بهم، وعند

(18)

الهلاك؛ كقوله: (فَلَمَّا رَأَوا بَأْسَنَا) الآية، وغير ذلك من الأحوال التي كانوا يقرون بالكفر ويرجعون عنه، شهدوا عليهم بالكفر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) أي أنفسهم، تشهد بالكفر عليهم؛ لأن خلقتهم تشهد على وحدانية اللَّه، وأنفسهم تشهد على فعلهم بالكفر، وهو ما قال اللَّه - تعالى -: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، قيل: بل الإنسان من نفسه بصيرة، أي: بيان من نفسه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)]، إلى آخر الآية. في قوم ماتوا على الكفر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) الوجوه التي ذكرنا في قوله: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) إن لم يكن عليهم، فذلك كله على المسلمين أي: عليهم عمارة المساجد، وبهم تعمر المساجد، ولهم ينبغي أن يعمروها. (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) قد ذكرناه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أمر أن يخشوا اللَّه، ولا يخشوا غيره، ثم ذكر - هاهنا - (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخشية: العبادة؛ كأنه قال: ولم يعبد إلا اللَّه. (فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) والعسى من اللَّه واجب، أي كانوا من المهتدين. * * * قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ

(19)

اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) وقوله: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... (19) في الآية إضمار فعل أو فاعل لكي تصح المقابلة؛ لأنه إنما يقابل فعل بفعل، أو فاعل بفاعل، لا يقابل فعل بفاعل، ولا فاعل بفعل، فهاهنا ذكر السقاية وعمارة المسجد مقابل من آمن باللَّه، فهو - واللَّه أعلم -: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد كإيمان من آمن باللَّه واليوم الآخر؟! أو أن يقال: أجعلتم القائم بإصلاح سقاية الحاج وعامر المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر؟! ليكون مقابلة شخص بشخص، أو فعل بفعل. ثم لا يصح أن يجمع بين الكافر والمؤمن، فيقال: لا يستويان عند اللَّه، وإن كان الكافر قد أتى بالمحاسن، إلا أن يقال: ليس من فعل محاسن في حال كفره ثم آمن من بعده كمن آمن وفعل محاسن وهو مؤمن، هذا يجوز أن يجمع فيقال: لا يستوون عند اللَّه، وأما الكافر الذي مات على الكفر وإن عمل خيرات، والمؤمن الذي عمل الصالحات فمات على ذلك، فيجمع فيقال: لا يستويان فلا. أو أن يقابل بالجهاد الذي ذكر: لا يستوي من بذل نفسه للقتل والتلف كمن سقى الحاج وعمر المسجد الحرام ولم يبذل نفسه لذلك؛ فأما أن يقال: لا يستوي الكافر والمؤمن، فذلك غير محتمل؛ لأنه إنما يقابل الشيء بالشيء إذا قرب بعضه من بعض، وأما عند البعد منه فلا يقال ولا يقابل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). ما داموا في ظلمهم، وما داموا اختاروا الظلم، لا يهديهم وقت اختيارهم الظلم، أو لقوم مخصوصين، وقد ذكرنا معناه في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) قوله: (آمَنُوا)، أي: صدقوا رسول اللَّه في جميع ما يخبر عن اللَّه أنه صادق، وفي جميع ما دعا إليه

وأمرهم به ونهاهم عنه أنه محق، وإلا كانوا مؤمنين باللَّه؛ كقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، كانوا مؤمنين باللَّه، لكنهم يكذبون الرسل ورسالتهم. أي: فارقوا آباءهم وإخوانهم وعشيرتهم وأموالهم ومنازلهم وبلدهم، وهجروا جميع ما تحبه أنفسهم وتهواه، وتميل إليه القلوب مما ذكر في الآية التي تتلو هذه الآية، وفارقوا ذلك الكل؛ إشفاقًا على دينهم؛ ليسلم ما لو أعطوا قبل الإسلام الدنيا وما فيها مما أوعدوا بكل وعيد وخوف، ما فارقوا آباءهم وإخوانهم وعشائرهم وأولادهم الذين ذكر في الآية، ثم إذا أسلموا فارقوهم وأجابوا رسول اللَّه في ذلك ابتغاء مرضاة اللَّه، وطلبًا لرضوانه؛ ليعلم عظيم قدر الدِّين في قلوبهم، وخطير منزلته عندهم؛ ليعلم أن محن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعظم وأشد من محننا؛ لأن محنهم كانت على خلاف عادتهم وخلاف ما طبعوا عليه؛ لأن الإنسان مطبوع على حب ما ذكرنا، مجبول عليه، فهم مع ذلك تركوا وفارقوا ذلك، وتحملوا كراهة ذلك؛ ابتغاء مرضاة ربهم. وأما محننا: فإنها على سبق من العادة، فهي أهون وأيسر. وقوله: (وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ). أي: بذلوا لله ألذ الأشياء وأحبها وهي الأموال والأنفس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ). قال بعض أهل التأويل: من صدقوا بتوحيد اللَّه، وهاجروا إلى المدينة، وجاهدوا العدو بأموالهم وأنفسهم - أعظم درجة عند اللَّه من الذين افتخروا بعمران البيت وسقاية الحاج وهم كفار. وكذلك قالوا في قوله: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) ولكن الوجه في ذلك عندنا ومعنى المقابلة: أُولَئِكَ الذين ذكر أعظم درجة عند اللَّه من الذين أسلموا أمن بعد ولحقوا. وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

(21)

الفوز: هو الظفر في اللغة، أي: أُولَئِكَ هم الظافرون بنعيم اللَّه وكرامته، والناجون من عذاب اللَّه ونقمته (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) يحتمل قوله: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ): بالنصر لهم في الدنيا، والظفر لهم على عدوهم؛ كقوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ)، إلى آخر ما ذكر، كله إنما كان برحمته. ويحتمل رحمة منه: الثواب لهم في الآخرة والكرامة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرِضْوَانٍ). أي: يبشرهم -أيضًا- أن ربكم عنكم راض. (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ). أي: يبشرهم بجنات لهم فيها نعيم مقيم دائم، وكرامة. (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) قال الحسن: ما سمى اللَّه عظيمًا فهو عظيم لا تدرك عظمته. * * * قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تحتمل الولاية: الموافقة لهم في الحقيقة في الدِّين، ومن تولاهم - في الحقيقة - فهو منهم، وهو ظالم، فإن كان هذا فهو ظالم لا شك، فلم يكن لقوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) معنى. وتحتمل الولاية: الموافقة لهم في الظاهر على غير حقيقة، لكن إظهار على غير

حقيقة يباح في حال إضرار عند خوف الهلاك وذهاب الدِّين، فيجوز أن يكون قوم أسروا الإيمان في أنفسهم وكتموه، ويظهرون الموافقة لهم في الظاهر؛ إشفاقًا على دينهم، وخوفًا على أنفسهم، فيباح لهم ذلك؛ لما ذكرنا. فلما أن جعل اللَّه الهجرة، وجعل للمؤمنين مأوى وأنصارًا يلجئون ويأوون إليهم - لم يعذروا في إظهار الموافقة لهم، وإن كانوا في السر ليسوا على دينهم؛ لما ذكرنا. فهذا يدل على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه في غير اضطرار يصير كافرًا؛ على ما جعل هَؤُلَاءِ أولياء الكفرة حقيقة ظلمة مثلهم إذا تولوهم في الظاهر، وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك، وهذا أشبه، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ. . .) الآية، لم يعذروا في تركهم الهجرة؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ إذا أظهروا الموافقة لهم بعد ما جعل لهم المأوى والأنصار، صاروا هم - في الحقيقة - كذلك، نهانا عن موالاة الكفرة جملة بقوله: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ) وقال: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ)، وقال: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) هذا النهي لنا في جملة الكافرين، ثم نهانا عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء؛ كقوله: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ)، ثم نهانا أن نوالي المتصلين من الآباء والأمهات وغيرهم من القرابات؛ لما تقع الشبه في موالاة المختصين بهم، فخص النهي فيه، وكذلك في تخصيص اليهود والنصارى؛ لما بيننا وبينهم موافقة في التوحيد والكتب، فخص النهي في ذلك. ثم الولاية التي نهانا عنها تخرج على وجوه:

(24)

أحدها: المودة والمحبة، أي: لا تودوهم ولا تحبوهم. والثاني: ألا نتخذهم موضع سرنا وبطانتنا؛ كقوله: (لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً. . .) الآية. والثالث: ولاية الطاعة لهم، أي: لا تطيعوهم؛ كقوله: (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ) الآية، وقوله: (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ)، نهانا أن نحبهم ونودهم، ونهانا -أيضًا- أن نتخذهم موضع سرنا، ونفشي إليهم سرائرنا، ونهانا أن نطيعهم فيما يدعوننا إليه ويسرون - والله أعلم - للخلاف الذي بيننا وبينهم في الدِّين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ). أي: اختاروا الكفر على الإيمان، والمحبة - هاهنا - محبة الاختيار والإيثار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ... (24) هو مقابل قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)، إلى آخره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ) وما ذكر، أي: إن كان طاعة هَؤُلَاءِ ورضاهم أححت إليكم من طاعة اللَّه وطاعة رسوله ورضاه، وأحب من جهاد في سبيله (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ): هو حرف وعيد، أي: انتظروا (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، أي: بعذابه. وقال أهل التأويل: حتى يأتي بأمره في فتح مكة. ودل ما ذكر في قوله: (إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) على أن المراد من قوله: (لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ) الآباء والأبناء جميعًا، (وَإِخْوَانَكُمْ) الإخوان، وجميع المتصلين بهم؛ دليله ما ذكر في آخره؛ حيث قال: (إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ)، ذكر الأبناء والأزواج والعشيرة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: اكتسبتموها. وقال أبو بكر الأصم: (وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا)، أي: أموال جعلوها حلالًا وحرامًا، ويقولون: اللَّه أذن لنا في ذلك؛ كقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ).

(25)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا). كانوا يخشون فواتها وذهابها، لا الكساد؛ إذ في الهجرة تركها رأسًا. * * * قوله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ). أي: نصركم في مواضع كثيرة كان فزعكم إلى اللَّه - تعالى - ونصركم يوم حنين -

أيضًا - بعد ما هزمكم العدو بإعجابكم بالكثرة فصرفكم الفزع إلى اللَّه، ونصركم - أيضًا - يوم حنين. (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا). يعني: الكثرة. يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - منته عليهم وفضله أن النصر والظفر متى كان إنما كان باللَّه، لا بكثرتهم وقوتهم؛ لأنه لو كان على الكثرة لوكلوا إليها. فَإِنْ قِيلَ: قد أمرنا بأخذ العدة والقوة ما استطعنا بقوله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. . .) الآية، فإنما أمرنا بما يعجبنا، فما معنى النهي عن الإعجاب بالكثرة والقوة؟ وكذلك نهانا عن التأسي على ما فاتنا، ونهانا أن نفرح بما يؤتينا، وقد كلفنا الشكر لما آتانا، والصبر على ما فات منا، فلو لم نفرح بما آتانا لم يلزمنا الشكر، ولا الصبر بما فاتنا، فما معناه؟ معناه - واللَّه أعلم - أنه نهانا أن نفرح بما يؤتينا لنفس الإيتاء، ونتأسى لنفس ما يصيبنا ويفوتنا، إنما علينا أن نفرح بفضل اللَّه ومنته الذي من علينا وخصنا به، وعلى ذلك نشكره، وعلى ذلك الصبر بما يصيبنا ويفوتنا؛ لما جعل لنا لذلك ثوابًا في الآخرة وأجرًا عظيمًا، وكذلك الكثرة، أمرنا بها، فإذا آتانا ذلك يعجبنا فضل اللَّه ومنته في تلك الكثرة، لا الكثرة لنفسها والقوة، واللَّه أعلم.

فَإِنْ قِيلَ: الإعجاب بالكثرة كان من بعضهم، لا من الكل، فكيف هزم الكل؟ وكذلك العصيان يوم حنين إنما كان من بعض، كيف عاقب الجميع؟ قيل: لأن له أن يتلف الكل ابتداء. ألا ترى في أمر الواحد القيام لاثنين ثم في الأمر بالجهاد أمرًا على غير وسع، ولا كذلك في سائر العبادات؛ لأنه أمر الواحد القيام لاثنين منهم، وليس في وسع أحد القيام لاثنين، فهو - واللَّه أعلم - لما أن له أن يكلف قتل أنفسهم وإتلافها. ألا ترى أنه قال: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ. . .) الآية، ولو لم يجز له أن يكتب قتل أنفسهم لم يكن ليذكره، دل أن ذلك له، وأن له أن يميتهم ويهلكهم؛ فعلى ذلك له أن يأمر بقتل أنفسهم، فإذا كان له ذلك؛ إذ في وسعهم قتل أنفسهم؛ فعلى ذلك له أن يكلف الواحد القيام لاثنين ولعدد، وإن كان في ذلك تلف أنفسهم. وكذلك أمرنا بمجاهدة الشيطان عدونا، وأخبر أنه يرانا ولا نراه نحن بقوله: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)، والمحاربة مع عدو لا نراه وهو يرانا أمر صعب شديد، لكن اللَّه علمنا أسباب ما نحارب معه ونجاهد فنغلبه، وقال في الشيطان: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) الآية، علمنا أسبابًا نقاتل بها الشيطان فنغلبه ونقهره، وهي ما ذكر من ذكره لا يقوم هو لذلك، وكذلك قال في العدو الذي نراه من البشر؛ حيث قال: (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)، وقال: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، قد علمنا أسباب الجهاد معه، وأعلمنا الحيل التي تجوز لواحد القيام لاثنين فصاعدًا بالحيل، وإذا لم يكن له الوسع به بالقوة نفسها. ثم الفرق بين الجهاد وغيره من العبادات؛ لما يحتمل أن جعل اللَّه الجهاد آية من آيات الحق والرسالة؛ ليعلم الخلائق أن النصر والظفر كان باللَّه، لا بغيره؛ ليظهر الحق من الباطل، والمحق من المبطل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ). هذا على التمثيل؛ يقال عند شدة الحزن والغضب وعند بلوغها الغاية والنهاية:

(26)

ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، يقال ذلك، لسعة الأرض في أوهام الخلق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) قَالَ بَعْضُهُمْ: السكينة: الملائكة؛ كقوله: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ)، أي: نصرته. وقيل: وقاره. وقيل: رحمته. وقيل: طمأنينته. وأصله: سكنت قلوبهم واطمأنت بعد شدة الخوف والحزن بأي وجه ما، تسكن بالملائكة أو بغيرها، فأسكن قلب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما اشتد عليه رجوع أصحابه ومفارقتهم إياه (وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا): وهم الملائكة، (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا): بالقتال والهزيمة، وذلك جزاؤهم. وفي قوله: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه سماهم مؤمنين بعد ما كان منهم التولي، والتولي لم يخرجهم من الإيمان على ما قالوا. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: النهي عن دخول المسجد الحرام نفسه. وعندنا أن النهي عن دخول المسجد الحرام نهي عن دخول مكة

نفسها للحج وإقامة العبادات؛ دليله وجوه: أحدها: قوله: (بَعْدَ عَامِهِم هَذَا) ولو كان لدخول المسجد، لكان ذلك العام أحق عن المنع في دخوله من غيره. والثاني: قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). والثالث: قوله: " ألا لا يحجن بعد العام مشرك ". وفي آخر الآية دلالة ذلك؛ لأنه قال:، (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) وخوف العيلة إنما يكون عن دخول مكة؛ لأنه لو كان النهي عن دخول المسجد نفسه، لكان لا خوف عليهم في ذلك؛ لأنهم يحضرون ويدخلون مكة للتجارة، فلا خوف عليهم في ذلك. أو أن يقال: إنه ذكر المسجد الحرام؛ لما أنهم كانوا يقصدون البيت والحج به، فيكون النهي عن دخول المسجد نهيًا عن الحج نفسه، وهو ما روي في الخبر أنه بعث عليًّا في الموسم بأربع، وأمره أن ينادي في الناس ألا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان بينه وبين رسول اللَّه عهد فاجله إلى مدته، فإذا مضت مدته فإن اللَّه بريء من المشركين ورسوله، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك. فالنهي الذي ورد عن دخول المسجد إنما هو نهي عن الحج نفسه؛ لأن البيت هو الذي يقصد إليه فيه. ألا ترى أنه قال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. . .) الآية، وقال: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ. . .) الآية، وقال: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، ذكر البيت، وهو المقصود بالحج في الإسلام والكفر جميعًا؛ فعلى ذلك خرج النهي، لكنه ذكر المسجد؛ لما أن البيت فيه. فإذا كان ما ذكرنا: فإن شئت فاجعل آخر الآية تفسير أولها، وهو قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، وهو ما ذكرنا أن النهي لو كان لدخول المسجد

نفسه دون غيره من البقعة، لكان ليس عليهم خوف العيلة؛ لأنهم يدخلون مكة، ويتجرون فيها، ولا يدخلون المسجد. وإن شئت فاجعل أول الآية تفسير آخرها، وهو قوله: (فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) وهو ما ذكرنا. فإذا كان ما ذكرنا، دل أن المشرك لا يدخل المسجد الحرام، وخبر علي بن أبيِ طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضًا يدل على ذلك، فأما من كان من أهل الذمة والعبيد منهم: فليسوا - واللَّه أعلم - بداخلين في الآية إذا كانوا ممن لا يحج. فَإِنْ قِيلَ: فقد روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه نادى: ألا لا يدخل الحرم مشرك، ولم يذكر الحج. قيل له: روي عنه أنه قال: ناديت ألا يحج بعد العام مشرك؛ فيكون قوله: لا يدخل الحرم مشرك؛ على الحج؛ على ما ذكرنا. وقد روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه رخص في دخول المسجد للعبيد والإماء، وروي عن جابر بن عبد اللَّه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا، إلا أن يكون عبدًا أو أمة ". يحتمل استثناء العبد والأمة؛ لأن العبد لا يدخل للحج ولإقامة العبادة، إنما يدخل لخدمة المولى إذا كان مسلمًا. وفي بعض الأخبار: " أو أحدًا من أهل الذمة ". وعن جابر بن عبد اللَّه موقوفًا كذلك: " أو أحدًا من أهل الذمة ". وفيه دلالة لقول أبي حنيفة - رحمه اللَّه -: " أن لا بأس للكافر أن يدخل المسجد "،

وقال: أرأيت لو أراد أن يسمع كلام اللَّه ليؤمن فيمنع عن ذلك، ويؤمر الْمُستمعُ إتيان ذلك المشرك فيسمع كلامه، فيكون الآمر إبلاغ المأمن لذلك المشرك الإمام دل أنه لا بأس لذلك. وقد ذكرنا أن ليس في ظاهر الآية دلالة النهي عن دخول المسجد؛ بل المراد من ذكر المسجد ما ذكرنا من الحج وإقامة العبادة لغير اللَّه. ألا ترى إلى قول اللَّه: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) وأن سبيل مكة كلها هذا السبيل، وكذلك قوله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) والحرم كله منحر؛ إلا أن المعنى في ذلك - واللَّه أعلم - ما ذكرنا ألا يدخل المشركون حجاجًا؛ ألا ترى أنا نعلم أن المشركين لم يزالوا مقيمين في الحرم بعد النداء، ولم يخلو عنه. ومما يدل على ذلك -أيضًا- قول اللَّه: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)، فإن كان يعني به موضع العهد، فإن ذلك العهد يوم الحديبية عند الشجرة، فقد صار ذلك الموضع من المسجد الحرام، وهو في المسافة بعيد منه، وإن كان يعني به الذين عوهدوا، فإنهم كانوا يوم نادى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذلك خارج من مكة؛ لأن أهل مكة فد كانوا أسلموا قبل ذلك حين فتحها النبي، فحاضري المسجد الحرام هم من كان نازلًا خارج مكة في الحرم وما حوله. وقوله: " ولا يقرب المسجد الحرام مشرك ". يخرج على وجوه: أحدها: لا تدعوهم يقربوا المسجد الحرام. والثاني: قولوا لهم: لا تقربوا المسجد الحرام.

والثالث: على البشارة؛ أي: إذا قلتم لهم ذلك فلا يقربوا بعد ذلك. وقوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) أي: أفعال المشركين نجس، والعبادات التي يأتون فيها نجس، وهو ما ذكر حيث قال: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) صير عمل الشيطان رجسًا؛ فعلى ذلك العبادات التي يقيمونها نجسة، فالنهي عن الحج نهي عن إقامة العبادات لغير اللَّه؛ لأن تلك البقعة نزهت عن إقامة العبادة لغير اللَّه. ثم اختلف في قوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو نجس الأفعال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو نجس الأحوال. والأشبه أن يكون نجس الأفعال؛ لأن قوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) يخرج مخرج الذم، ولا يحتمل أن يذموا ويشتموا بنجاسة الأحوال؛ دل أنه إنما لحقهم ذلك الذم بما اكتسبوا من الأفعال الذميمة، وهو كقوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، رجس نجس؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)، أي: نجسة الأفعال؛ لأن ذلك من كسبهم، فاستوجبوا المذمة لكسبهم، وأما الأحوال فلا صنع لهم فيها. وقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). قيل: خافوا من العيلة لما نُفي المشركون من مكة؛ لأن معايش أهل مكة إنما كانت من الآفاق، وبأهل الآفاق كانت سعتهم وتجارتهم، لكن اللَّه وعدهم السعة والغنى بقوله: (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: دل قوله: (إِنْ شَاءَ) على أنه إنما وعدهم الإغناء في بعض الأوقات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنْ شَاءَ) كان من رسول اللَّه؛ لأنه أمر رسوله أن يعدهم الإغناء، وهو مأمور أن يستثني في جميع ما يعده؛ بقوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). ويحتمل أن يكون قوله: (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ): بهَؤُلَاءِ الذين نفوا

(29)

عنه؛ لأنه حبب إليهم التجارة والمكاسب وما ينالون الأرباح بها يحملهم ذلك على الإسلام فيسلمون، فيدخلون فيها يحملهم حب التجارة على الإسلام، فيكون لهم بهم غنى، كما كان يحملهم حب التجارة والربح على الهجرة، وقوله: (وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا)، فعلى ذلك الأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ): الجزية التي ذكرها في الآية التي تتلو هذه. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). بما أضمروا من خوف العيلة أو (عَلِيمٌ) بما لهم وعليهم، وممن يكون لهم الغنى. قوله تعالى: (حَكِيمٌ) في أمره وحكمه. وفي قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه معلوم أنهم أضمروا ذلك في أنفسهم، ثم أخبرهم رسول اللَّه بذلك؛ دل أنهم علموا أنه إنما عرف ذلك باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) ذكر أهل الكتاب اليهود والنصارى، أخبر أنهم لا يؤمنون باللَّه ولا باليوم الآخر؛ وهم في الظاهر يقرون بوحدانية اللَّه واليوم الآخر فما المعنى منه؟! قيل: هم وإن آمنوا في الظاهر باللَّه واليوم الآخر، فإنما يؤمنون بإلهٍ له ولد كما ذكره على أثره، وهو قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) فالإيمان بإلهٍ له ولد ليس بإيمان باللَّه، فهم غير مؤمنين، وكذلك آمنوا بالبعث واليوم الآخر، ولكن لم يؤمنوا بالموعود في الآخرة، فالإيمان باليوم الآخر بغير الموعود فيه ليس بإيمان به. أو أن يقال: إنهم وإن أقروا بما ذكرنا وآمنوا به، فقد استحلوا أشياء حرمها اللَّه عليهم، وحرموا أشياء أحلها اللَّه لهم، ومن آمن بالكتب كلها والرسل ولم يؤمن بآية منها أو برسول منهم، فهو غير مؤمن باللَّه واليوم الآخر ولا مصدق له.

وقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .) إلى آخر الآية. فإن قال لنا ملحد: إنكم تقاتلون الكفرة للكفر، ثم إذا أعطوكم شيئًا من المال تركتم مقاتلتهم، فلو كان قتالكم إياهم لذلك لا لطمع في الدنيا، لكنتم لا تتركون مقاتلتهم لشيء يبذلونكم، وكذلك لو كانت المقاتلة للكفر نفسه، لكان النساء في ذلك والرجال سواء؛ إذ هم في الكفر شرعًا سواء. وقالوا: لو كانت المقاتلة معهم لما ذكرنا، وهو حكمة، والآمر بذلك حكيم لكان الناس جميعًا في ذلك سواء، ولا تتركون أحدًا لشيء من ذلك؛ بل يقاتلون أبدًا ولا ترضون منهم غيره. فيقال لهم: إنا لن نقاتل الكفرة للكفر، ولكنا ندعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا إلى ذلك وإلا قتلناهم ليضطرهم القتل إلى الإسلام؛ لهذا ما نقاتلهم لشيء سواه فإذا كان في أخذ الجزية، معنى ما ندعوهم إلى الإسلام، فإذا قبلوا ذلك تركناهم على ذلك؛ لعلهم يرغبون في الإسلام إذا رأوا شرائعنا وأحكامنا؛ لا أنا تركناهم رغبة فيما نأخذ منهم أو طمعًا في ذلك. وأصله المحنة؛ إذ الدار دار المحنة، ليست بدار الجزاء، والمحنة تكون بمختلف الأشياء لا يجوز تلفها؛ مرة يمتحنهم بالقتال، ومرة بأخذ الأموال، ومرة بالشدائد؛ كقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ. . .) الآية، وقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ)، وقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، ونحو ذلك، فإذا كان ذلك محنة لا جزاء جاز ذلك، وكان ذلك حكمة. وأما قولهم بأنا نقاتل الرجال ولا نقاتل النساء ونسترقهن؛ لأنهن أتباع الرجال في جميع الأحوال وخدم لهم، فإذا أسلموا أسلمن؛ هذا معروف فيما بينهم؛ إذ هن في أيدي الرجال يفعلون بهن ما شاءوا، وأصله ما ذكرنا أن القتال محنة، ليس هو جزاء الكفر؛ إذ الدار دار محنة، فله أن يمتحن بعضًا بالقتل، وبعضًا بأخذ المال، وبعضًا لا بذا ولا ذاك،

ولو كان جزاء لسوى بينهم، وهو التخليد في النار أبدًا. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في أخذ الجزية من سائر الكفرة إذا كانوا أهل الكتاب أو المجوس، وترك الأخذ من مشركي العرب؟ قيل: لوجوه: أحدها: أن ليس لمشركي العرب دين يدينون به يقاتلون عن ذلك الدِّين، ولا لهم أصل يعتمدون عليه، أو كتاب يكلون إليه، إنما هم قوم يقاتلون عن قبائلهم، ويتناصرون بهم، ولغيرهم من الكفرة دين يدينون به، وأصل يعتمدون عليه، ويحاجون الناس بالحجاج التي

لهم؛ فإذا كان كذلك، أمكن إقامة الحجج على هَؤُلَاءِ، وإلزام البراهين، ولا كذلك مشركو العرب؛ إذ لا دين لهم ينسبون إليه، ولا مذهب يدعون غيرهم إليه بالحجاج، وأمكن في غيرهم؛ لذلك افترقا، واللَّه أعلم بذلك. والثاني: أنهم تمنوا أن يكون لهم رسول من جنسهم يتبعونه فيما يدعوهم إليه، ونذير يجيبونه، حتى أقسموا على ذلك، وأكدوا القول في ذلك؛ كقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) الآية، ولم يكن من غيرهم من الكفرة ما كان منهم؛ فإذا كان كذلك فهم يقاتلون أبدًا حتى يوفوا ما وعدوا؛ كقوله: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ). والثالث: لفضل رسول اللَّه؛ إذ كان منهم ومن جنسهم، فلا يترك أحد في تلك البقعة على غير دينه. وأمكن أن يكون وجه آخر: وهو أن مشركي العرب في حد القليل أمكن المقاتلة معهم والقيام لهم؛ فلا يرضى منهم إلا الإسلام، وأما غيرهم من الكفرة في بقاع مختلفة: فهم كثير، إذا اجتمعوا لم يكن في وسع أهل الإسلام القيام لهم والقتال معهم، فيلحق المسلمين في ذلك ضرر بين؛ لذلك كان ما ذكر. وقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ. . .) الآية. قد ذكرنا أنهم وإن كانوا يؤمنون باللَّه واليوم الآخر عند أنفسهم أنهم - في الحقيقة - غير مؤمنين؛ لأن شرط إيمانهم الإيمان بالرسل جميعًا والكتب أجمع، فهم قد تركوا الإيمان ببعض الرسل، وببعض الكتب، ومن كفر برسول من الرسل، أو بكتاب من الكتب، أو بحرف منها - كان كافرًا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ). يحتمل أنهم لا يحرمون تحريف الكتب وكتمان نعت رسول اللَّه، واللَّه حرم ذلك عليهم. أو لا يحرمون عبادة الأوثان، واللَّه ورسوله يحرم ذلك. أو لا يحرمون ما حرم اللَّه ورسوله من الخمر والخنزير وغيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ). وهو الإسلام؛ لأنه دين توجبه العقول كلها، وتشهد به خلقة الخلائق كلها. أو أن يقول: لا يدينون دين الذي له الحق، إنما يدينون بدين الذي لا حق له، وهو دين الشيطان، وهو ما يدعوهم إلى عبادة الأصنام، فيجيبونه، واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ). يحتمل قوله: (يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)، أي: يقبلوها، لا على الإعطاء نفسه، وهو ما ذكرنا في قوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ)، هو على القبول لها، لا على الفعل نفسه. ويحتمل: نفس الإعطاء، وهو - واللَّه أعلم - لما جعلت الجزية لحقن الدماء، فتقدم؛ لتحقن بها الدماء. وقوله: (عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (عَنْ يَدٍ)، أي: لا يؤخر قبضها عن وقت قبولها؛ بل تؤخذ يدًا بيد، وقَالَ بَعْضُهُمْ: عن يد، أي: عن قهر وغلبة. وقيل: (عَنْ يَدٍ)، أي: عن طوع وطيب. وقيل: عن جماعتهم. لكنا لا ندري ما يعنون بالجماعة. وقوله: (صَاغِرُونَ) قيل: ذليلون، وهو من الذل؛ يقال: صغر الرجل يصغر صغارًا، فهو صاغر، أي: ذل؛ فهو ذليل. وقيل: (صَاغِرُونَ) أي: مذ مو مون. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يمشون بها متبلين. وأصله: الذلة، وهو الخضوع - واللَّه أعلم - الذلة التي ذكر اللَّه في قوله: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا)، فإذا قبلوا ذلك، فقد أذعنوا بالذل والصغار. وقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .) الآية، أما اليهود والنصارى: فلا خلاف بيهن أهل العلم في أن من بذل منهم الجزية، أخذت منه وأقر على دينه. وأمّا المجوس: فإنه تؤخذ منهم الجزية؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما أدري ما أصنع بالمجوس فإنهم ليسوا بمسلمين، ولا من أهل الكتاب قال عبد الرحمن بن عوف: أشهد أني سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ".

وفي بعض الروايات: أشهد أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس هجر. وعن علي أن أبا بكر وعمر أخذا الجزية من المجوس. وقال علي ابن أبي طالب: أنا أعلم الناس بهم، كانوا أهل كتاب يقرءونه، وأهل علم يدرسونه، فنزع ذلك من صدورهم. وعن أبي رزين عن أبي موسى قال: لولا أني رأيت أصحابي أخذوا الجزية من المجولس ما أخذتها. وعن أبي عبيدة بن الجراح قال: كتب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى المنذر: " من استقبل قبلتنا،

وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا - فذلك المسلم الذي له ذمة اللَّه وذمة رسوله، ومن أحبَّ ذلك من المجوس فهو آمن، ومن أبى فعليه الجزية ". وفي بعض الروايات: " استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، له ما لنا، وعليه ما علينا، ومن ترك ذلك فعليه الجزية ". وعلى ذلك مضت الأئمة، ولم ينكر أحد من السلف، حتى قال قوم في المجوس: إنما أخذت منهم الجزية؛ لأنهم أهل كتاب، فأحلوا ذبائحهم ونساءهم، وذهبوا إلى ما روي عن علي. وقال آخرون: ليسوا من أهل كتاب، ولكن الجزية تؤخذ منهم؛ اتباعًا لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم "، وما روي عن الصحابة وأئمة الهدى. ثم المسألة في تقدير الجزية: روي في بعض الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه بعث معاذًا إلى اليمن، فقال له: " خذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافريا ". وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه بعث عثمان بن حنيف إلى السواد، وأمره أن يضع على أهل السواد الخراج ثمانية وأربعين درهمًا، وأربعة وعشرين درهمًا، واثني

عشر درهمًا. وفي بعض الروايات أنه ضرب على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعين درهمًا وجعل مع ذلك إرزافًا للمسلمين، وضيافة ثلاثة أيام. وأصحابنا يجعلونهم ثلاث طبقات: أغنياء، وأوساطًا، وفقراء، فيأخذون من الغني

الموسر ثمانية وأربعين درهمًا، ومن الوسط أربعة وعشرين درهمًا، ومن الفقير المحترف اثني عشر درهمًا. وفي بعض الأخبار: أربعين درهمًا وأربعة دنانير، وضيافة ثلاثة أيام وعشرين درهمًا

ودينارًا، وهو ما ذكرنا ثمانية وأربعين بغير الضيافة وغير المؤنة. وما روي من أربعين درهمًا أو أربعة دنانير مع الضيافة والرزق الذي ذكر في الخبر، وهذا من عمر بحضرة المهاجرين والأنصار، فلم يأت عن أحد منهم النكير عليه ولا الرد،

فهو كالاتفاق منهم على ذلك. ثم لا يحتمل أن يكون عمر قدر ذلك التقدير رأيًا منه؛ لأن المقدرات والمحدودات سبيل معرفتها التوقيف والسمع، لا العقل؛ فهو كالمسموع عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

وما روي من حديث معاذ حين أمره النبي - عليه السلام - أن يأخذ من أهل اليمن من كل حالم دينارًا، فذلك يحتمل أن يكون أمر بذلك؛ لما كانوا أهل ضعف وفقر، على ما روي عن عمر في الضعفاء من أهل مصر والشام، وليس هو الحد الذي لا يلزم أكثر من ذلك؛ لما ذكرنا أن عمر ألزم المياسير أكثر من دينار، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة؛ فدل فعلهم على ما وصفناه. ثم المسألة في تمييز أصحاب الطبقات بين الموسر الغني، وبين الوسط والفقير. قَالَ بَعْضُهُمْ: الفقير: من يحترف وليس له مال تجب في مثله الزكاة على المسلمين، وهم الفقراء المحترفون، فمن كانت له أقل من مائتي درهم فهو من أهل هذه الطبقة، والطبقة الثانية: أن يبلغ مال الرجل مائتي درهم. فقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا بلغ ماله أربعة آلاف درهم وزاد عليها، صار من أهل الطبقة الثالثة، واحتجوا بقول علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن عمر؛ حيث قالا: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما فوق ذلك كنز. وقد يجوز أن يجعل الطبقة الثانية من ملك مائتي درهم إلى عشرة آلاف درهم، وما زاد على ذلك يجعل من الطبقة الثالثة؛ لحديث روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - برواية أبي هريرة قال: " من ترك عشرة آلاف درهم، جعلت صفائح يعذب بها يوم القيامة ".

ثم في قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) دلالة على أن الجزية إنما تؤخذ ممن يجب أن يقاتل إن لم يبذلها، والنساء والصبيان ألا يقاتلون، ولا يفتلن إن ظهر بهم، فلا يجب أن توضع عليهم الجزية بدليل الكتاب؛ إذ كان اللَّه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن يقاتل، وكذلك فعل عمر والأئمة بعده. روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى أمراء الجيوش: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، ولا تقتلوا الصبيان والنساء، ولا تقتلوا إلا من جرت عليه المواسي. وكتب إلى عماله: أن يضربوا الجزية، ولا يضربوها على النساء والصبيان. وفي بعض الروايات أنه كتب إلى أمراء الأجناد: ألا تأخذوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي، قال: والجزية أربعون درهمًا أو أربعة دنانير. وفي خبر معاذ دلالة لذلك؛ حيث قال: بعثني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافريًّا. بين معاذ أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يأخذ ذلك من الرجال دون النساء والصبيان.

فَإِنْ قِيلَ: روي عن معاذ: قال: أمرني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن آخذ من كل حالم وحالمة دينارًا. وفي بعض الروايات عنه أنه قال: أن آخذ من كل حالم ذكرًا أو أنثى دينارًا؛ فإن كان هذا مثبتًا محفوظًا، فهو دليل لما يؤخذ من نصارى بني تغلب، ويكون حكم نساء

العرب من أهل الكتاب فيما يؤخذ منهم خلاف نساء العجم منهم. أو أن يقال: إنه غير محفوظ؛ لما عمل الأمة بخلافه؛ لأن الوفاق قد جرى على أن لا جزية على النساء، ولو كان محفوظًا لظهر العمل به. أو أن يكون قوله: " خذ من كل حالم وحالمة، دينارًا "، أي: خذ منهما دينارًا ولا

تأخذ من كل واحد دينارًا؛ كقوله: " لكل سهو سجدتان لا يلزمه أكثر من ذلك ". ثم نذكر مسألة ليس في الآية ذكرها، وهي أن الجزية إذا ضربت، فدخلت سنة أخرى قبل أن يؤديها - أخذت منه للسنة الثانية، ولم تؤخذ للسنة الأولى الماضية، ليس كسائر الديون؛ لأن مجوسيًّا لو أسلم بعد مضي السنة لم يطالب بجزية العام الماضي، فلو كانت كسائر الديون لطولب بها المسلم كما يطالب بمال يكون عليه إذا أسلم أو بقي على مجوسيته، فلما لم يطالب، دل أنه ليست كسائر الديون. فَإِنْ قِيلَ: أليس الخراج يطالب به من أخره من سنة إلى سنة؟! قيل: ليست الجزية مثل الخراج؛ لأن الخراج يجب على المسلم في أرضه، فهو كسائر الديون. فَإِنْ قِيلَ: إن المجوسي إذا أسلم بعد مضي السنة، طولب بالجزية للسنة الماضية. قيل: روي عن عمر أنه رفع الجزية بالإسلام، فقال: واللَّه، إن في الإسلام لمعاذًا إن فعل ترفع عنه الجزية. وروي في بعض الأخبار عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ليس على مسلم جزية "، فمن طالبه بالجزية بعد الإسلام، فقد خالف الخبر. فَإِنْ قِيلَ: إنما يزول عن المسلم ما كان عليه من الجزية في حال كفره؛ لأنه صار إلى حال لا يجوز أن توضع عليه ابتداء.

قيل: إن الذمي إذا اجتمع عليه الجزية سنتين، فصار إلى حال لا يجوز أن يلزم في الابتداء في مثلها أكثر من اثني عشر درهما لفقره - لم يجز أن يلزم أكثر منها؛ لأنه جعل حكم مستدبر الجزية التي وجبت، فأسلم صاحبها حكم الابتداء في توظيف الجزية عليه، فوجب أن يجعل حكم مستدبر من أتت عليه سنتان حكم ابتدائه، وأصله أن الجزية إنما جعلت لحقن الدم، فإذا مضت سنة، صار دمه محقونا في السنة الماضية؛ لذلك لم تؤخذ. وقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .) إلى آخره. تضمنت هذه الآية أحكامًا: منها الأمر بقتال من لم يؤمن باللَّه واليوم الآخر، وهم يقرون بالأمرين، لكنه يخرج على وجوه ثلاثة: أحدها: أنهم مشبهة من تشبيههم اللَّه بخلقه احتمل قولهم القول له بالولد؛ إذ الذين شهدوا من الخلائق على ذلك وجدوا بولد بعض من بعض، وإذا كان كذلك فهو غير مؤمن - في الحقيقة - باللَّه الذي هو الحق حتى يؤمنوا به، وأنه به تكون الآخرة دون الذي ادعوه. والثاني: أن الذي جبل عليه الخلق هو تعظيم رسل الملوك وأجلتهم حتى يوجد من بر الرسل بين ملوك قد ظهرت بينهم العداوة، فلما كذبوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع البراهين التي قد أعجزت الخلائق، وشهادة كتبهم به، وتظاهر من عرفوا أنهم يكذبون بكتبهم وبرسلهم على من صدق بذلك - ثبت أنهم في الحقيقة مكذبون جميع الرسل والكتب وإن أظهروا الوفاق، وأن ذلك لا يكون إلا لتكذيب منهم باللَّه؛ فعلى ذلك إيمانهم باللَّه يكون بإيمانهم بالرسل، وعلى ذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في وفد عبد قيس أنه قال: " آمر بأربع: آمركم بالإيمان باللَّه "، ثم قال: " أتدرون ما الإيمان باللَّه؟ أن تشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه "؛ فلذلك لم يكن إيمانهم باللَّه إيمانَا حتى يؤمنوا برسول اللَّه، وعلى هذا يحاربون. والثالث: أن يكون نفى عنهم الإيمان بنفي منفعة الإيمان عنهم؛ إذ أقل المنفعة به الإيمان برسله، والقبول عنهم بالتعظيم، فإذا ظهرت منهم هذه المنفعة تركوا القتال.

ثم الترك على قبول الجزية جائز، وإن كان الأمر قد تقدم بالقتل من غير أن يكون دليل، إما لأجل ذلك المال نقاتل، كما كتب على كل نفس الموت. ثم قد يتركون على ما هم عليه من اختلاف الأديان وتفرق الأهواء، وإن كان لا يدل ذلك على الإقرار بما هم عليه، والرضا بما اختاروا، فمثله في الأول لا يدل على الرضا بكفرهم، ولا على القتال لأخذ تلك الأموال منهم. ثم الأصل أن القتال لم يجعل ليكون القتل، عقوبة للكفر؛ إذ نوع القتل ومعناه قد يوجد في الأخيار والأشرار جميعًا، وهو الموت ثبت أنه لم يجعل لذلك، ولكن لوجهين: أن يضطرهم إلى الإجابة على ما فيه نجاتهم وبه نيل كرامة الأبد، وكان ذلك بعد أن ألزمناهم كل أنواع الحجج، فلم يقنعهم، قاتلناهم بما كان الذي يمنعهم عن النظر في الحجج حب اللذات وألذها الحياة، قاتلنا حتى ييأسوا عن تلك اللذة المانعة عن النظر في الحجج، والصادة عن الإجابة فتزول عنهم. وفي قبول الجزية - قيل - بعض الذل والصغار الذي تنفر عنه الطباع، ويدعو إلى ما فيه الزوال، فينظرون في الحجج، ويقبلون ما دعوا إليه؛ فتكون به نجاتهم، وزيادة لنا في الكرامة. والثاني: أن المحن كلها منقسمة على الحسنات والسيئات، والخيرات والشرور؛ ولذلك جعل الموت والحياة، وعلى ذلك جميع أمور الدنيا هو التقلب على مختلف الأحوال، فمثله الدعاء إلى الإسلام يكون مرة بمحاجة إليه، ومرة باللسان، ومرة بالترك، لا أن جعل شيء من ذلك لشيء، ولكن بما عليه أمر المحن؛ ليتذكر به وجود الموعود بالآثار له في أحوال المحن، فعلى هذا أمر القتال في قوم، والعفو عن قوم، والدعاء إلى الإسلام في قوم، وإلى قبول الذل في قوم على ما في علم اللَّه من المصلحة، وعلى ما عليه حق الحكمة. ثم الفرق بين مشركي العرب وغيرهم يخرج على وجوه: أحدها: أنهم قد كانوا أقسموا باللَّه جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فجاءهم، فكذبوه، ثم أقسموا لئن جاءهم نذير ليؤمنن به، فجاءتهم آيات

فلم يؤمنوا، فاستوجبوا القتال إلى أن يفوا بالعهد الذي سبق، والقسم الذي جهدوا به، وليس غيرهم هكذا. أو على قوله: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ. . .) الآية، فبين الإياس عن إيمانهم إلا أن يشاء اللَّه، فهو يخرج على وجهين: أحدهما: الإياس عن إيمانهم. وقبول الجزية ليخالطوا أهل شريعة اللَّه، فيسمعوا منهم الحجج، ويعاينوا الأفعال المحمودة في العقول، والأخلاق الكريمة التي جاء بها الرسول فيؤمنوا، وهَؤُلَاءِ قد أيأس اللَّه من إيمانهم، وأخبرهم أنهم ييأسون أبدًا؛ فلذلك لم يعط لهم عهد، وعلى ذلك ظهر نقضهم العقود مرة بعد مرة، واللَّه أعلم. والثاني: أنه استثنى فيهم ألا يؤمنوا بالآيات إلا أن يشاء اللَّه، فلعل اللَّه شاء أن يكون إيمانهم بالقتال خاصة، ففرض فيهم ذلك إلى أن يؤمنوا. ووجه آخر: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو بعث فيهم ومنهم؛ فأوجبت لهم الفضيلة به ألا يقبل منهم غير الإيمان، كما فضلت البقعة التي فيها بعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ومنها ألا يترك فيها غير المؤمن تفضيلا. ووجه آخر: أنهم قوم ليس لهم أسٌّ، ولا أئمة في الدِّين إليهم يرجعون في التأسيس، ومعلوم أن لا قوام في العقول لأمر الدِّين إلا بالأئمة؛ كالسياسات كلها والأمور فيها القوام من الملك وغيره؛ بل إنما كانوا جروا على عادتهم، وقاتلوا خن القبائل فلا يرجعون - في الحقيقة - إلا إلى عادة خارجة عن التدبير، وغيرهم يرجعون إلى مذاهب أسست مما أسس أمر الديانات، فقد تعلقوا بضرب من ذلك، فتركوا إذا خضعوا وأذعنوا لهم بحق التبع، فيتركون رجاء أن يتأملوا؛ إذ لكل مذهب نظر، وليس لأُولَئِكَ سوى العادة وتقليد الآباء، ومن ذلك وصفه لا ينظر فيمهل للنظر، واللَّه أعلم. وأيضًا: إن لسائر المذاهب أصول يكثر أهلها، وفي الإقامة على القتال إلى الفناء

(30)

ينضم بعض إلى بعض فيتناصرون، فيخاف على المسلمين بما به رجاء التكثر الفناء، والعرب يقل عددهم حتى لم يكونوا يقدرون على المناوأة إلا بمعونة أهل الكتاب وغيرهم، فأمكن أن يضطروا به إلى القتل مع ما ليست لهم مذاهب معلومة؛ إذ لا يذكر في شيء من الكتب لهم مذاهب، وقد ذكر لجميع الفرق، فإنما أمرهم على العادة، وقد تترك العادات بما يعترض فيها ما يمنع الاستمرار عليها من القتال والحرب فيتركونها، وأهل المذاهب عندهم أنهم لزموا بالحجج، ومثل ذلك لا يترك إلا بالحجج، وذلك يكون بقبول الذمة والعهد. وأيضًا: إنه يمكن إلزام كل ذي مذهب بما يوجد في مذهبه ما يثبت القول بالإسلام وبالعهد رجاء الوصول إليه، وليس لمشركي العرب ذلك؛ لما لم يُبْنَ مذهبهم على الحجج أو الشبه، إنما هو تقليد وعادة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ).

وقال في آية أخرى: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)، أخبر أن السماوات تكاد أن تتفطر، وتنشق الأرض، وتخر الجبال؛ لعظيم ما قالوا في اللَّه - سبحانه - من البهتان والفرية عليه أن له ولدًا، ثم بين الذي ذكر ذلك فقال: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ): فذكر الآية، وأخبر - واللَّه أعلم - أنهم قالوا في اللَّه ما قالوا لوجوه: أحدها: دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن هَؤُلَاءِ المتأخرين لم يقولوا هذا، ولكن إنما قال ذلك أوائلهم، لكن كتموا ذلك، فأخبر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن أوائلهم قالوا ذلك، وهم كانوا يكتمون عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك باللَّه. والثاني: يخبر رسوله سفه أوائلهم، ويصبره على سفه هَؤُلَاءِ؛ ليصبر على سفههم وأذاهم. والثالث: يخبر أنهم مشبهة؛ لأنهم نسبوا المخلوق إليه، وقالوا: إن فلانًا ابنه؛ لما رأوا منه أشياء، فلولا أنهم عرفوا اللَّه بمثل معرفتهم المخلوق وإلا ما قالوا ذلك، ولا اعتقدوا من التشبيه، وغير ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ). أي: ذلك قول قالوه بلا حجة ولا برهان كان لهم في ذلك. أو قالوا ذلك بأفواههم على غير شبه اعترضت لهم تحملهم على ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ). يحتمل هذا أن قد كان قبل هَؤُلَاءِ من قد قال مثل قول هَؤُلَاءِ (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) من الشرك أو الكفر أو غير ذلك من الكذب والافتراء على اللَّه، كقوله: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) بالكفر وكقوله: (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى) ليس أن يُحْيِ الموتى كلهم إحياء كما أحيا ذلك القتيل بضرب بعض من البقرة، ولكن يحييهم إحياء، فعلى ذلك قوله: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) في الكفر نفسه. ويحتمل: ضاهى قول النصارى قول اليهود، والمضاهاة: المشابهة والإشباه.

(31)

وقوله أيضًا: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ)، أي: يشبه النصارى بقولهم لعيسى إنه ابن اللَّه قول اليهود من قبل: عزير ابن اللَّه؛ فضاهى النصارى في عيسى اليهود قبلهم في عزير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). هذه الكلمة كلمة اللعن، تستعمل عند مناكير القول والفعل من غير حصول المنفعة. وقوله: (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) يحتمل: من أين يؤفكون ويفترون على اللَّه على غير شبهة اعترضت لهم. ويحتمل: (أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، أي: كيف يؤفكون بلا منفعة تحصل لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) قيل: الأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد. وقيل: الأحبار: هم أصحاب الصوامع من اليهود، والرهبان: من النصارى. وقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) يحتمل أن يكون هذا في السفهاء والأتباع، وقوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ): في العلماء منهم والرؤساء، فاتخذ الأتباع أُولَئِكَ أربابًا يتبعونهم في جميع ما يدعونهم إليه، يأتمرون بهم في جميع أوامرهم ونواهيهم؛ لا أنهم عبدوهم، ولكن ذكر أربابًا لما ذكرنا من اتباعهم وانتظارهم إياهم فيما يدعونهم إليه ويأمرونهم؛ كقوله: (يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ)، وقول إبراهيم لأبيه: (لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان وطاعته، ولكن نسب العبادة إليه؛ لما يجيبونه في كل ما يدعوهم إليه ويأمرهم به؛ فعلى ذلك هذا. ويحتمل ما روي في الخبر - إن ثبت - أنهم لم يعبدوهم، ولكن هم أحلوا لهم أشياء حرمها اللَّه، عليهم فاستحلوها، أو حرموا عليهم أشياء أحل اللَّه ذلك لهم، فحرموا ذلك فقيل: اتخذوهم أربابًا - واللَّه أعلم - يخرج هذا في الأحبار والرهبان على

(32)

التمثيل، أي: اتخذوهم في الطاعة لهم والاتباع لأمرهم؛ كأنهم اتخذوهم أربابًا، لا على التحقيق، وهو ما ذكر من عبادتهم الشيطان، لا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكن صاروا بالطاعة للشيطان والاتباع لأمره كأنهم عبدوه. وأما في المسيح فهو على التحقيق؛ لأنهم قالوا: ابن إله، وقالوا: ابن الإله إله؛ فهو يخرج في المسيح على التحقيق، وفي الأحبار والرهبان على التمثيل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا). يحتمل: إلا ليوحدوا إلهًا واحدًا الذي لا إله إلا هو. ويحتمل: أي: ما أمروا أن يعبدوا آلهة على ما يعبدون من الأصنام والأوثان، ولكن أمروا أن يعبدوا إلهًا واحدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) قيل: (نُورَ اللَّهِ): ذكر اللَّه وتوحيده. وقيل: (نُورَ اللَّهِ): القرآن. وقيل: (نُورَ اللَّهِ): هو الإسلام. فإذا كان النور هو الذكر والتوحيد فهو - واللَّه أعلم - أنهم لم يكونوا يعرفون ذكر اللَّه، ولا يذكرونه، إنما كانوا يعرفون ذكر الأصنام، وإياها يذكرون، وبحق القرابة والرحم يتناصرون فيما بينهم، فلما أن بعث اللَّه رسوله محمدًا بذكر اللَّه وتوحيده، وأمر بالتناصر بحق الدِّين، أزادوا أن يطفئوا ذلك النور. ومن قال: أراد بنور اللَّه القرآن، أرادوا إطفاءه؛ كقوله: (مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) و (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، و (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)، ونحوه، أرادوا إطفاءه بنحو ما ذكرنا (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى) وقولهم: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. . .) الآية. ومن قال: نور اللَّه هو الدِّين؛ كقوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)، وقال: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ. . .)، في

(33)

حرف أُبي: (مثل نور المؤمن)، ومثله - أرادوا إطفاء هذا النور؛ لتسلم لهم المنافع التي كانت ألهم. وقوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا) يحتمل وجهين: (يُرِيدُونَ)، أي: يجتهدون أن يطفئوه، فما يقدرون على إطفائه. ويحتمل: (يُرِيدُونَ)، أي: يحتالون أن يطفئوه بأسباب يتكلفونها ويحتالونها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ). بالحجج والبراهين، أو بالنشر والإظهار، وقد أتمه؛ كقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). وقد كره الكافرون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يحتمل قوله: (بِالْهُدَى): هدى يهديهم إلى ما به تكون جميع المحاسن والخيرات محاسن وخيرات؛ لأن المحاسن والخيرات إنما تقوم بالإيمان، وبه ينتفع بها، بعثه لذلك. ويحتمل قوله: (بِالْهُدَى): وهو القرآن، يهديهم، ويبين لهم المحاسن من المساوئ، والحسنات من السيئات، وهو هدى يهديهم إلى ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدِينِ الْحَقِّ) وهو دين الحق. أي: الإيمان الذي به تصير المحاسن محاسن، والخيرات خيرات - هو دين الحق. ويحمّمل قوله: (وَدِينِ الْحَقِّ) أي: أرسله بالهدى وبدين الحق. ويحتمل قوله: ودين الحق، أي: دين اللَّه؛ كقوله: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ). يحتمل وجوهًا:

(34)

يحتمل: ليظهر رسوله على أهل الدِّين كله بالحجج والآيات، فقد أظهره بحمد اللَّه على الأديان كلها بالحجج والبراهين، حتى لم يتعرض أحد في شبه ذلك فضلًا أن يتعرض في إبطاله. ويحتمل: ليظهره على أهل الدِّين كله بالقهر والغلبة والإذلال، فقد كان، حق خضعوا له كلهم وذلوا، حتى لم يبق في جزيرة العرب مشرك ولا كافر إلا خضع له، وصار أهل الكتاب ذليلين صاغرين في أيدي المسلمين. فإن كان المراد من قوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، فهو بالحجج والبراهين كلها. وإِن كان أراد به الدِّين أن يظهره على الأديان كلها فبعد لم يكن، ويكون - إن شاء الله تعالى - هو الظاهر على الأديان كلها يوم القيامة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ). ولم يقل: على الأديان كلها؛ فالدِّين يتناول الأديان كلها؛ كقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ) يدخل فيه كل إنسان. وجائز أن تكون أديانًا مختلفة فهو واحد؛ لأن الكفر كله ملة واحدة، وهو دين الشيطان، فسماه بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) أما الأحبار والرهبان فقد ذكرناهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ). لأنهم كانوا يأكلون أموالهم بما يحرفون كتاب اللَّه ويبدلونه؛ كقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)، وقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ) الآية، فهم إنما حرفوا ذلك

وبدلوه؛ لتسلم لهم تلك الأموال، فذلك أكل بباطل؛ لأنهم خافوا ذهاب تلك المنافع والأموال إذا أسلموا، فيجوز أن يكون إنما سماهم أربابًا في الآية الأولى؛ لما أنهم جعلوا أموالهم أموالا لأنفسهم، وأنفسهم عبيدًا لهم، فهم كالأرباب لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ). يحتمل أن يكون هذا صلة ما قال: (لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، أي: أخذوا أموالهم لصد الناس عن سبيل اللَّه، وكنزوها، ولم ينفقوها في سبيل اللَّه، إنما أنفقوها لصد الناس عن سبيله. ومن الناس من حمل الآية في منع الزكاة. روي في الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن بعض الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - أن كل مال أديت الزكاة عنه فهو ليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لم تؤدّ الزكاة عنه فهو كنز، وإن كان على وجه الأرض. ومن أصحابنا من استدل بلزوم ضمّ الفضة والذهب بعضه إلى بعض في الزكاة بهذه الآية؛ لأنه ذكر الذهب والفضة جميعًا، وألحق الوعيد بترك الإنفاق من الفضة بقوله:

(35)

(وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فلولا أن الضم واجب ويكون المؤدى عن أحدهما مؤدى عن الآخر، وإلا لم يكن لذلك معنى. ثم في متعارف الناس أنهم يؤدون من الفضة عن الذهب؛ لأن الذهب أعز عندهم، والفضة دونه. ثم إن كانت الآية في الكفرة فهي في القبول؛ كقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)، وقوله: (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، وذلك على القبول، لا في الأداء نفسه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) جعل اللَّه تعذيب الكفرة في الآخرة بالأسباب التي منعتهم عن طاعة اللَّه، ودعتهم إلى مخالفة أمره، ويجمع بينهما في النار؛ كقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)، وقوله: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) وقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ)، ونحو ذلك؛ فعلى ذلك ما كنزوا يحمى عليها، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، يعذبهم بها؛ لما منعتهم تلك الأموال من طاعته، ودعتهم إلى صدّ الناس عن سبيل اللَّه؛ يجعل عذابهم في الآخرة بها. ويحتمل قوله: (وجِبَاهُهُمْ): كناية عن التقديم إلى الآخرة، أي: لم يقدموها ولم ينفقوها في سبيل اللَّه. وقوله: (وَجُنُوبُهُمْ): لما أخذوها مما يحل ومما لا يحل من كل جهة. وقوله: (وَظُهُورُهُمْ): لما أنفقوها في الصد عن سبيل اللَّه. ويحتمل ذكر هذا إحاطة العذاب بهم من كل الجهات؛ كقوله: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ)، وقوله: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي: يحيط العذاب بهم؛ فعلى ذلك هذا - واللَّه أعلم - كقوله: (أَفَمَن

يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: يحيط بهم حتى لا يقدروا على دفعه عن وجوههم. وقوله: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ. . .) الآية. روي عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها، إلا جعلت له يوم القيامة صفائح، ثم أحمي عليها في نار جهنم، يكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، إلا أتى بها يوم القيامة تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها " ثم ذكر فيه ما ذكر في الأول، قالوا: يا رسول اللَّه، فصاحب الخيل؟ قال: " هي لثلاث: لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر؛ فأما من ربطها عدة في سبيل اللَّه، فإنه لو أنه طول لها في مرج خصب أو في روضة، كتب اللَّه له عدد ما أكلت حسنات، وعدد أرواثها حسنات، ولو انقطع طولها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين، كتب اللَّه له عدد آثارها حسنات، ولو مرت بنهر عجاج لا يريد السقي به فشربت، كتب اللَّه له عدد ما شربت حسنات. ومن ارتبطها فخرًا وعزا على المسلمين، كان له وزر إلى يوم القيامة؛ ومن ارتبطها تغنيًا وتعففًا ثم لم ينس حق اللَّه في رقابها وظهورها، كانت له سترًا من النار يوم القيامة ". فإن ثبت هذا الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ففيه دلالة وجوب الزكاة في الخيل، وهو حجة لأبي حنيفة؛ لأنه قال: " ثم لم ينس حق اللَّه في رقابها "، والحق الذي في رقابها هو

(36)

الزكاة، والذي في ظهورها هو الجهاد عليها، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ). من الناس من يقول: إن الشهور كانت التبست عليهم واختلطت؛ لكثرة ما كانوا يؤخرونها ويقدمونها، حتى لم يكونوا يعرفون الشهور بعينها كل شهر على حدة، فخطب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمكة بالموسم، فقال: " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي هو بين جمادى وشعبان ". ثم قال لهم: " أي بلد هذا؟ وأي شهر هذا؟ وأي يوم هذا؟ "، قالوا: بلد حرام، وشهر حرام، ويوم حرام، فقال: " ألا هل بلغت "، قالوا: بلى، قال: " اللهم اشهد ". وفي بعض الأخبار زيادة: فقال: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الآية، وقالوا: وذلك أنهم كانوا يجعلون صفرًا عامًا حرامًا وعامًا حلالًا،

ويجعلون المحرم عامًا حرامًا وعامًا حلالًا، فكان النسيء من الشيطان. وصف رسول اللَّه في هذه الأحاديث الأشهر الحرم وبينها؛ فدل ذلك على أن النسيء كان يحرم القتال فيها؛ على ما كان أهل الجاهلية يحرمونه، وزاد ذلك بيانًا يصيب أصحاب النسيء؛ إذ كانوا يستحلون القتال في المحرم، ويؤخرونه إلى صفر، فيحرمون صفرًا مكان المحرم، فعاب اللَّه عليهم تحليل ما حرم من الشهر، وجعله زيادة في الكفر، وقال: (يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ) أي: عدة الأشهر الأربعة التي حرمها اللَّه، وقال: (فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ). ومنهم من قال: إن اللَّه جعل عدة الشهور اثني عشر شهرًا بالأهلة على ما عرفته العرب لما وفقوا إلى معرفة ذلك، ولم يوفق غيرهم، وإنَّمَا يعدون السنة بالأيام، والعرب تعرفها بالأهلة على ما خلقها اللَّه يوم خلق السماوات والأرض (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: في الأشهر كلها لما جعل هذه الأشهر شهودًا عليهم، يشهدون بما يعملون فيها من المعاصي والخيرات، وبها تنقضي آجالهم؛ يخبر ألا تظلموا في هذه الأشهر التي تأتي لكم بكل خير، وبكل نعمة، فإنها تنصرف بما تعملون فيها من الخير والشر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). أي: في الأربعة الحرم، خص الأربعة وإن كان الظلم في الأشهر كلها لا يحل على ما خص مكة بترك الظلم، وإن كان الظلم حرامًا في الأماكن كلها؛ كقوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ. . .) الآية، أي: لا تقاتلوا فيها؛ إذ كل ظلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ). قيل: ذلك الحساب حساب الأشهر قيم، أي: صحيح مستقيم على ما خلقه اللَّه.

(37)

وقيل: ذلك الحساب هو القضاء العدل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي كِتَابِ اللَّهِ). يحتمل: (كِتَابِ اللَّهِ): اللوح المحفوظ؛ على ما قيل. ويحتمل: (فِي كِتَابِ اللَّهِ) أي: في حكم اللَّه ذلك. وقوله: (عِنْدَ اللَّهِ). يحتمل ما ذكرنا من اللوح المحفوظ أن ذلك عند اللَّه، لم يطلع عليه غيره. ويحتمل (عِنْدَ اللَّهِ) أي: في علمه؛ على ما عرفته العرب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً). يحتمل قوله: (كَافَّةً) أي: مجتمعون، أي: قاتلوهم مجتمعين على ما يقاتلونكم هم مجتمعين. ويحتمل: (كَافَّةً)، أي: جماعة. ويحتمل: (كَافَّةً): إلى الأبد، إلى يوم القيامة، أي: قاتلوهم إلى الوقت الذي يقاتلونكم كما يقاتلونكم. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ). في النصر والمعونة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) كأن هذه الآية والتي قبلها قوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) في مشركي العرب، وسائر الآيات التي قبلها وهو قوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وقوله: (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ)، في أهل الكتاب. يخبر أن ملوك العرب اتخذوا أنفسهم أربابًا والأتباع عبيدًا من دون اللَّه حتى يتبعوهم في جميع ما يحلونه ويحرمونه، كما أن اليهود والنصارى اتخذوا أنفس أُولَئِكَ عبيدًا؛ فكأنه قال للمؤمنين: إن ملوك العرب وأحبار اليهود ورهبان النصارى اتخذوا أنفسهم أربابًا، والأتباع عبيدًا، فأنتم يا معشر المؤمنين لا تتخذوا أنفسكم أربابًا، والأتباع عبيدًا.

(38)

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) ألا ترى أنه قال في الآية التي تتلو هذه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول اللَّه في غزوة تبوك؛ كقوله: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. . .) الآية، فيفهم ذكر ذلك الوعيد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في المؤمنين؛ أمروا أن ينفروا في سبيل اللَّه. (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ). قيل: استثقلتم النفر في سبيل اللَّه وأقمتم. ويحتمل التثاقل: هو أن يروا من أنفسهم الثقل من غير أن أقاموا؛ كما يقال: يتصامم ويتعامى، من غير أن كان به الصمم والعمى، ولكن لما يرى من نفسه ذلك. وقال بعض أهل الأدب: قوله: (اثَّاقَلْتُمْ). أي: تثاقلتم وركنتم إلى المقام، وذلك في القرآن كثير؛ كقوله: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا) أي: تداركوا. وقوله: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ). أي: ما متعكم في الدنيا قليل بما وعد أن يمتعكم في الآخرة. أو أن يقال: متاع الحياة الدنيا من أولها إلى آخر ما تنتهي قليل من متاع الآخرة وكراماتها؛ لأن كرامات الدنيا على شرف الزوال، وكرامات الآخرة على الدوام أبدًا. أو أن يقول: متاع الحياة الدنيا قليل من متاع الآخرة؛ لأن متاع الدنيا ومنافعها تشوبه الآفات والمضرات، ومتاع الآخرة لا تشوبه الآفات والمضرات. وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. . .) الآية. عاتب المؤمنين بالتثاقل بالخروج إلى الأرض، ونهاهم عن الركون إلى الدنيا.

وقوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ). أي: لما أحدث أُولَئِكَ الملوك من تحليل ما حرم اللَّه، وتحريم ما أحل اللَّه زيادة في كفر أُولَئِكَ أحدثوا من وقت إحداثهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا). يحتمل وجهين: يحتمل: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا)، أي: يهلك به الذين كفروا، أي: الذين أحدثوا. ويحتمل: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: ما أحدثوا أُولَئِكَ الملوك إنما أحدثوا؛ ليضلوا به الأتباع (يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا) على ما ذكر في القصة أنهم كانوا يستحلون المحرم عاما فيصيبون فيه الدماء والأموال، ويحرمونه عامًا فلا يستحلون فيه الدماء والأموال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ)، قيل: ليوافقوا عدد ما حرم اللَّه؛ كان عندهم أن التحريم إنما كان لعدد الأشهر لا للأشهر؛ لما في الأشهر، فحفظوا عدد الأشهر، ولم يحفظوا الوقت، وذلك تأويل قوله: (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ) أي: زين تأخير المحلل وتقديم المحرم (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ). قيل: لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر، ولا يهديهم في الآخرة طريق الجنة؛ لكفرهم في الدنيا، وقد ذكرنا تأويله في غير موضع. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: النسيء: التأخير؛ يقال: نسأت الشهر، أي: أخرته، ويقال: أنسأ اللَّه في أجلك، أي: أخره اللَّه. وقوله: (لِيُوَاطِئُوا). المواطأة: أن يدخلوا شهرًا مكان شهر، وهو التتابع؛ يقال: تواطأ القوم على حديث كذا وكذا، أي: تتابعوا، وواطأت فلانًا، أي: تابعته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: النسيء: التأخير، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم منها سنة، ويحرمون

(39)

غيره مكانه؛ لحاجتهم إلى القتال فيه، ثم يردونه إلى التحريم في سنة أخرى؛ كأنهم ينسئون ذلك. (لِيُوَاطِئُوا) أي: ليوافقوا (عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ)، يقول: إذا حرموا من الشهور عدد الشهور المحرمة، لم يبالوا أن يحلوا الحرام ويحرموا الحلال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) أي: إن لم تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا، فإن كانت الآية في المنافقين فهو ظاهر، وإن كانت في المؤمنين فيحتمل قوله: (يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا): يحل بهم، ولم يبين ما ذلك العذاب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: شدد اللَّه الوعيد في تركهم النفر والخروج في سبيل اللَّه، على ما شدد ببدر في التولية للدبر بقوله: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ) الآية، غير أنه شدد يوم بدر لما لم يكن ملجأ، وكان نفارهم نفار نفاق، وهاهنا شدد لغير ذلك؛ لوجوه: أحدها: لما في تخلف المؤمنين عنه موضع العذر للمنافقين بالتخلف عنه أنهم إن تخلفوا للعذر، فنحن نتخلف -أيضًا- للعذر، ولنا في ذلك عذر. والثاني: يكون للكفار موضع الاحتجاج عليهم، يقولون: إنهم يرغبوننا في الآخرة ويحثوننا في ذلك، ثم إنهم ينفرون عن ذلك ويرغبون عنه. والثالث: يكون في تخلفهم الشوكة على المؤمنين؛ إذ يقلون إذا تخلفوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ). قيل فيه بوجوه: قيل: يستبدل الملائكة فينصروا رسول اللَّه على ما استبدل يوم بدر ويوم حنين ويوم الأحزاب. وقيل: يستبدل قومًا غيركم على ما استبدلكم يا أهل مكة فينصرونه. وقال بعض من أهل التأويل: يستبدل قومًا غيركم، أي: ينشئ قومًا غيركم. لكن تأويل الأول أشبه.

(40)

ألا ترى أنه قال في آخره: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) وقوله: (وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا). هو ما ذكرنا، أي: لا تضروا رسول اللَّه بالتخلف عنه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تضروا اللَّه شيئًا. والأول أشبه؛ لما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) يقول: إن لم تنصروا رسول الله فاللَّه ينصره، على ما نصره في الوقت الذي كان في الغار، لم يكن معه أحد من البشر إلا واحد، فإن لم تنصروه فاللَّه كافيه في النصر، على ما كفاه ونصره في الحال التي لم يكن معه من البشر أحد إلا واحد، فاليوم لا ينصره ومعه من الأنصار والأعوان ما لا يحصى؟! وكان ما استنفرهم رسول اللَّه وأمرهم بالخروج إلى العدو، لم يكن يستنفرهم لمكان نفسه؛ إذ يعلم أن اللَّه كافيه في نصره، ولكن إنما كان يستنفرهم ويأمرهم بالخروج لمكان أنفسهم؛ ليكتسبوا بذلك قربًا وثوابًا عند اللَّه وزلفى؛ ألا ترى أنه قال: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، وقال: (وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا)، أي: إن لم تنفروا ولم تنصروا رسول اللَّه فلا تضروه شيئًا؛ إذ اللَّه كافيه في نصره. وإِنَّمَا عاتبهم بترك النفر والخروج؛ لئلا يركنوا إلى الدنيا، ولا يرضوا بالحياة الدنيا من الآخرة على ما ركن أُولَئِكَ الكفرة؛ لأن ركونهم إلى الدنيا وحبهم إياها هو الذي منعهم عن اتباع مُحَمَّد، وهو الذي حملهم على الكفر باللَّه، والتكذيب لرسوله، وترك الإجابة له فيما يدعوهم إليه، فيقول - واللَّه أعلم - للمؤمنين: ولا تركنوا إلى الدنيا، ولا ترضوا بها من الآخرة؛ ليمنعكم ذلك عن النفر والخروج إلى ما يأمركم رسول اللَّه، على ما منع أُولَئِكَ الكفرة؛ على ما ذكرنا. وأصله: أنه إنما استنصرهم لا لحاجة له إلى نصرهم؛ إذ هو قادر أن ينصر رسوله بما شاء، لكن طلب منهم النصر له؛ ليكتسبوا بذلك ثوابًا لأنفسهم، وذكرًا في الأجل، وكذلك ما طلب منهم الشكر له على نعمه، لا لحاجة له في ذلك، ولكن ليستديموا النعمة، ويصلوا إلى الباقية الدائمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

أي: اضطروه إلى الخروج حين هموا بقتله، حتى خرج من بين أظهرهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ). ثاني اثنين، أي: لم يكن معه من البشر إلا واحد؛ ليعلموا أن النصر لم يكن بأحد من البشر، إنما كان باللَّه - تعالى - إذ بالواحد لا تكون النصرة والحفظ من ألوف، يذكر فضل أبي بكر، وكان هو ثانيه في كل أمره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) لم يكن حزن أبي بكر خوفًا على نفسه، ولكن إشفاقًا على رسول اللَّه أن يصاب، وكذلك روي في الخبر أنه قال لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول اللَّه، إنك إن تُصبْ يذهب دين اللَّه، ولن يعبد اللَّه على وجه الأرض. وفي بعض الأخبار أن أبا بكر كان يبكي إشفاقًا على رسول اللَّه، فقال له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما يبكيك؟ "، فقال له: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين ثالثهما اللَّه ". وقيل: إنهما لما أتيا باب الغار سبق أبو بكر فدخل الغار، وكان الغار معروفًا بالهوام، فألقمها أبو بكر قدميه، فأطال ذلك، فقال: إن كان فيه شيء بدا لي، أو كلام نحو هذا - واللَّه أعلم -. وقوله، (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا): ليس بنهى عن الحزن والخوف على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن على تخفيف الأمر عليه وتيسير الحال التي هو عليها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ). قيل: أنزل سكينته على أبي بكر حين قال له رسول اللَّه: " ما ظنك باثنين ثالثهما

اللَّه؟! "، حتى سكن قلب أبي بكر من الحزن والخوف على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أنزل السكينة على رسول اللَّه؛ فهو يخرج على وجهين: أحدهما: أنه أنزل السكينة عليه حتى رأى هو جنودًا لم يروها هم؛ حيث قال: (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا). والثاني: أنزل سكينته بالحجج والبراهين، لكنه إن كان ما ذكر، فهو قد أنزل السكينة عليه في البدء؛ لأنه كان رسول اللَّه لا يخاف سوى اللَّه، ويعلم أنه ينصره، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ قال: فأنزل اللَّه، سكينته على أبي بكر؛ لأن النبي لم تزل السكينة معه؛ وهو أشبه. وقوله: (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا). يحتمل: في ذلك الوقت. ويحتمل: في الغزوات التي نصره بالملائكة يوم بدر وغيره؛ يخبر أنه قادر أن ينصره لا بالبشر؛ ليعلموا أنه إنما يأمرهم بالنصر، لا لنصر رسول اللَّه، ولكن ليكتسبوا بذلك ما ذكرنا من الثواب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا). يحتمل (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا): وهو ما مكروا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهموا بقتله جعل مكرهم ومكيدتهم واجتماعهم على ذلك هي السفلى وكلمة اللَّه هي العليا. أي: مكر اللَّه بهم، ونصرة رسوله هي العليا؛ كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الآية. ويحتمل قوله؛ (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا): دينهم الذي يدينون به، ومذهبهم الذي ينتحلونه. (السُّفْلَى)، أي: جعل ذلك السفلى بالحجج، وجعل دين مُحَمَّد هو العليا بالحجج والبراهين على ذلك ما كان.

(41)

ويحتمل قوله: (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى) أي: جعل أهل الكلمة الذين كفروا هم السفلى، وأهل دين اللَّه هم الأعلون؛ كقوله: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء (حَكِيمٌ): في أمره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ... (41) اختلف فيه؛ قيل: شبابًا وشيوخًا. وقيل: مرضى وأصحاء. وقيل: مشاغيل وغير مشاغيل. وقيل: فقراء وأغنياء. وقيل: نشاطًا وغير نشاط. وأصله: انفروا مستخفين ومستثقلين، أي: انفروا، خف عليكم الخروج أو ثقل، وما ذكر أهل التأويل من الشيوخة والشغل والفقر والمرض؛ لأن ذلك بالذي يثقل الخروج والنفر. وأصله ما ذكرنا أن انفروا، خف عليكم ذلك أو ثقل.

(42)

وقوله: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا). انفروا، خف على النفس أو ثقل، أو خف على العقل أو ثقل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ). في الدنيا والآخرة، أي: اعلموا أن ذلك خير لكم من المقام وترك النفر، (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). * * * قوله تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ). قال بعض أهل التأويل: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا): أي: غنيمة قريبة، (وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ): في غزاتك: (وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) يعني: المسير. وقيل: العرض: الدنيا، (وَسَفَرًا قَاصِدًا): ليس فيه مشقة. وأصل قوله: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا) أي: منافع حاضرة، (وَسَفَرًا قَاصِدًا) أي: منافع غائبة، والعرض: هو المنافع؛ يقول: لو كانت لهم منافع حاضرة أو منافع غير حاضرة، لاتبعوك فيما استتبعتهم؛ لأن عادتهم اتباع المنافع، يعني: المنافقين؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) أخبر أنهم يعبدون اللَّه على حرف، وهو ما ذكر: (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ)

(43)

فمن عادتهم أنهم إنما يتبعون المنافع، وإليها يميلون، وأما المؤمنون فإنهم يعبدون اللَّه في كل حال: في حال السعة، وفي حال الضيق، ويتبعون رسول اللَّه، ولا يفارقونه، كانت لهم منافع أو لم تكن، أصابتهم مشقة أولا، هم لا يفارقون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على كل حال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ). أي: لو كان لنا ظهر وسلاح لخرجنا معكم، ولو كان لنا زاد وما نشتري ما نحارب به لخرجنا معكم. ثم أخبر أن لهم استطاعة على ذلك، وأنهم كاذبون أنه لا استطاعة لهم؛ حيث قال: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً). وقالت المعتزلة: دل قوله: (لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ) أن الاستطاعة تتقدم الفعل؛ لأنه أخبر أنهم كاذبون فيما يقولون: إنه ليس معنا ما ننفق وما نشتري به السلاح. لكنا نقول: إن الاستطاعة على وجهين: استطاعة الأسباب، والأحوال. واستطاعة الأفعال، واستطاعة الأسباب والأحوال يجوز أن تتقدم، وهذه الاستطاعة هي استطاعة الأسباب والأحوال. ألا ترى أنه قاك: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً). ومن قولهم أيضًا: إن استطاعة الأفعال لا تبقي أوقاتًا، ثم إن هذه أخبر أنها كانت باقية أوقاتًا؛ دل أنها هي استطاعة الأسباب والأحوال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ). قيل: يهلكون أنفسهم بأيمانهم الكاذبة أنهم لا يستطيعون. وقيل: يهلكون أنفسهم بتركهم الخروج؛ لأنهم يقتلون إذا تركوا الخروج؛ كقوله: (مَلْعُونِينَ. . .) الآية. ويحتمل: يهلكون أنفسهم في الآخرة بنفاقهم في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ... (43) بالتخلف.

(44)

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ). يحتمل قوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)، أي: يطلعك اللَّه على نفاقهم، فيكون ذلك آية من آيات النبوة إن لم تأذن لهم بالتخلف. أو إن لم تأذن لهم يتبين لك نفاقهم؛ لأنهم يتخلفون ويفارقونك؛ وإن لم تأذن لهم، والذين صدقوا لا يفارقونك، فيتبين هَؤُلَاءِ من هَؤُلَاءِ، ويظهر كذب هَؤُلَاءِ من صدق هَؤُلَاءِ المؤمنين. وفي قوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) دلالة أن النبي إنما أذن لهم بالتخلف بلا أمر. وفيه دلالة جواز العمل بالاجتهاد؛ لأنه لو كان أذن لهم بالتخلف بالأمر، لم يكن ليعاتبه على الإذن، دل أنه إنما أذن لهم بالتخلف بالاجتهاد لما ظن أنهم إنما يستأذنونه بالقعود للعذر. فَإِنْ قِيلَ: كيف عاتب رسوله بما أذن لهم بالقعود، وقد أخبر أنه إنما كان يحكم بما أراه اللَّه بقوله: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ). قيل: يحتمل أنه إنما عاتبه على ترك الأفضل؛ لأن ترك الإذن لهم بالقعود أفضل من الإذن؛ إذ به يتبين له الصادق من الكاذب، ويكون فيه آية من آيات الرسالة، ويجوز أن يعاتب على ترك الأفضل. ويحتمل أن يكون قوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) تعليم من اللَّه أن كيف يعامل الناس بعضهم بعضًا، ليس على العتاب. ومن الناس من استدل على تفضيل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غيره من الأنبياء - صلوات الله عليهم - بهذه الآية؛ لأنه بدأ بذكر العفو، وكذلك في جميع ما ذكر من العتاب، لم يذكر زلته، وذكر في سائر الأنبياء الزلات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) أي: لا يستأذنك الذين يؤمنون باللَّه لغير عذر، إنما يستأذنونك لعذر (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... (45) بالقعود لغير عذر. (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ).

(46)

أي: عن شكهم يترددون. وعن الحسن قال: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) إلى قوله: (يَتَرَدَّدُونَ). نسختها الآية التي في سورة النور: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ). لكن هذا لا يحتمل؛ لأنه ذكر أن سورة التوبة من آخر ما نزل. أو أنهم إذا كانوا في أمر جامع لم يذهبوا إلا بعد الاستئذان؛ لأنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين في الأمور الجامعة، وأما في الخلوات فلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) يحتمل أن يكون هذا في غزوة تبوك؛ على ما قاله أهل التأويل، أمروا بالخروج والتأهب للغزو فعزموا ألا يخرجوا، فعوتبوا على ذلك. ويحتمل أن يكون في جميع الغزاة عزموا واعتقدوا ألا يخرجوا، ولا يتأهبوا له قط، فقالوا: لو استطعنا لخرجنا معكم، فأكذبهم اللَّه - تعالى - أنهم كذبة، وأنهم أغنياء، لكنهم عزموا ألا يخرجوا، ولا يعدوا له عدة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ). يحتمل قوله: (كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ) أي: لم يرض اللَّه بخروجهم وانبعاثهم. ثم بين الوجه الذي لم يرض ما ذكر في قوله: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا)، أي: فسادًا، لم يرد اللَّه خروجهم لما علم منهم أن خروجهم وانبعاثهم لا يزيد في الجهاد إلا ما ذكر من الخبال والفساد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَثَبَّطَهُمْ). قيل: حبسهم، أي: إذا علم منهم أن خروجهم وانبعاثهم لم يزدهم إلا فسادًا، حبسهم. ويحتمل: أن خلق منهم الفعل الذي كان منهم من الكسل والتثاقل. وفيه دلالة خلق اللَّه فعل الشر، ويكون في ذلك خير لغيره، وإن كان شرًّا لهم، فعلى ذلك خلق فعل المعصية من العاصي، وهو شر له، ويكون ذلك خيرًا لغيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ).

(47)

يحتمل قوله: (وَقِيلَ اقْعُدُوا): لما استأذنوا رسول اللَّه بالقعود، أذن لهم في ذلك؛ على ما وقع عنده أن لهم عذرًا في ذلك. وإن كان من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فهو على التهديد والوعيد. ويحتمل أن يكون من الشيطان، وسوس إليهم أن اقعدوا؛ ترغيبًا منه إياهم بالقعود والتخلف، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) قوله: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ)، أي: لو كانوا خرجوا فيكم؛ ألا ترى أنه قال: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)؛ دل هذا أنهم لم يكونوا خرجوا، ولو كانوا خرجوا لم يكن يثبطهم، دل أنه ما ذكرنا. والانبعاث: هو الخروج، وكذلك في حرف ابن مسعود: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ). والتثبيط: الحبس، وأصل التثبيط: التثقيل. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الانبعاث: هو القيام، والخبال: قيل: الفساد والشر. وقيل: الغي، وهو واحد. وقوله: (مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا)، يحتمل زيادة الخبال وجوهًا: يحتمل: أن يكونوا عيونًا للعدو، ويخبروهم عن عورات المسلمين، أو كانوا يجبنون أهل الإسلام؛ كقولهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ) قيل: هو من إيضاع الإبل (خِلَالَكُمْ) يتخلل فيما بينكم. وقيل: (وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ). أي: رواحلهم حتى يدخلوا بينكم حتى لا يصيبهم الأذى، كانوا يستترون بالمسلمين؛ لئلا يصيبهم شيء من البلاء والشدة.

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ): من الوضع، وهو سرعة السير. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من الإيضاع يكون على الإبل. وهو عندي من عدو الإبل، يقال: أوضعت البعير، وركضت الفرس، وأجريت الحمار. (خِلَالَكُمْ): بينكم. وقيل: الخلال: القتال، وهو ما ذكرنا أنهم يدخلون فيهم النقصان والقتال والفشل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ). قيل: يبغون منكم الفتنة، وهو الشرك الذي كانوا هم عليه. ويحتمل ما ذكرنا من القتل، وإدخال الفشل والجبن فيهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ). هذا يحتمل وجهين أيضًا: يحتمل: أن هَؤُلَاءِ المنافقين يكونون سماعًا لهم وخبرًا وعيونًا، يخبرونهم عن عورات المسلمين وضعفهم. ويحتمل قوله: (وَفِيكُمْ): من المؤمنين. (سَمَّاعُونَ لَهُمْ)؛ لأنه قيل: إنه كان من أصحاب النبي أهل محبة لهم وطاعة؛ لشرفهم فيهم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ): كان الرجل يرى الجماعة من المسلمين فيضرب دابته حتى يدخل بينهم، ثم يقول: أبلغكم ما بلغني؛ إن العدو أمامكم قد غوروا المياه، وفعلوا كذا، وهيئوا. ويحتمل قوله: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي: فيكم من المنافقين الذين قعدوا ولم يخرجوا يسمعون المؤمنين الذين لم يخرجوا -أيضًا- ما يكرهونه يقولون: الدبرة على المؤمنين، ونحو ذلك من الهزيمة. وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ). أي: لا عن جهل أمهلهم على ما هم عليه، ولكن أخرهم ليوم؛ كقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ

(48)

اللَّهَ غَافِلًا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) تحتمل الفتنة الوجهين اللذين ذكرتهما. وقول - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ). أي: تكلفوا واجتهدوا ليطفئوا هذا النور، (وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ) قيل: دين الله الإسلام. ويحتمل: حجج اللَّه وأدلته، وهو ما ذكر: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ). ويحتمل قوله: (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ): ظهرًا لبطن؛ ليمكروا برسول اللَّه، ويقتلوه؛ كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ. . .) الآية، وقوله: (وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ) ما ذكرنا من دين اللَّه وحججه، (وَهُمْ كَارِهُونَ) لذلك؛ كقوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، فظهر دين الإسلام وهم كارهون له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) فيه دلالة أنه لا كل المنافقين قالوا، إنما قال ذلك بعضهم، وبعضهم قالوا غير هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَفْتِنِّي). قيل: لا تؤثمني. وقيل: ولا تخرجني. وقيل: ولا تكفرني، والكل واحد، يقول: ومنهم من قال: ولا تفتني، أي: لا تكن سبب فتنتي ومعصيتي، أي: لا تأمرني بالخروج، ولكن ائذن لي بالقعود؛ لأنك إن

أمرتني بالخروج ولم تأذن بالقعود والتخلف فقعدت وتخلفت، كنت عاصيًا، تاركًا لأمرك، فكنت أنت سبب عصياني وفتنتي. والثاني: قوله: (وَلَا تَفْتِنِّي)، أي: لا تأمرني المشقة والشدة، ولكن الدعة والسعة والرخاء حيث كانوا مالوا إليهم؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ. . .) الآية يقول: لا تكن سبب إثمي وانقلابي. ومنهم من قال: إن رجلًا منهم يقال له: الجد بن قيس قال: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمال، ففيه نزل قوله: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)، وهو قول ابن عَبَّاسٍ؛ يقول: لا تأمرني بالخروج؛ فإني مولع بالنساء، لا أصبر إذا رأيتهن. ولا ندري كيف كانت القصة، لكن الوجوه فيه ما ذكرنا آنفًا. وقوله: (وَلَا تَفْتِنِّي)، أي: ولا تمتحني بالمحنة التي فيها الهلاك والمشقة، فقال: (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي: ألا في المشقة والفتنة والبلاء والهلاك سقطوا؛ وهذا يدل أن أهل النفاق هم كفرة. وقوله: (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي: ألا في الشر والإثم سقطوا؛ على تأويل من تأول قوله: (وَلَا تَفْتِنِّي): لا تؤثمنى، ولا تخرجني. وعلى تأويل من قال: (وَلَا تَفْتِنِّي): لا تشق على، ولا تأمرني بالمشقة والشدة والضيق، يقول: ألا في الشدة والضيق يسقطون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ). أي: تحيط بهم حتى لا يجدوا منقذا ولا مخلصًا. أو تحيط بهم من تحت ومن فوق، وأمام وخلف، ويمين وشمال، تحيط بهم حتى تصيب كل جارحة منهم؛ كقوله: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ. . .)، أخبر أنها تحيط بهم. وفيه دلالة: أن المنافقين هم كفار؛ لأنه ذكر في أول الآية صفة المنافقين، ثم أخبر أن جهنم تحيط بالكافرين.

(51)

قوله تعالى: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ). قيل: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ)، أي: الغنيمة، والظفر، والنصر على الأعداء، يسؤهم ذلك، وإن تصبك مصيبة النكبة والهزيمة فرحوا بها. (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ). أي: أخذنا أمرنا بالوثيقة والاحتياط؛ حيث لم نخرج معهم حتى لم يصبنا ما أصابهم. ويحتمل أن يكون قوله: (قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ)، أي: قد أظهرنا الموافقة للمؤمنين في الظاهر، وكنا مع الكافرين في السر، وواليناهم في الحقيقة، وهو ما ذكر من انتظارهم أحد أمرين في قوله: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ. . .) الآية. (وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ). يحتمل: يتولوا أُولَئِكَ الكفرة وهم فرحون. وفي الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته؛ لأنه معلوم أن ما يسوءهم كانوا يضمرونه ويسرونه عنهم، ثم أخبر عما أسروا وأضمروا؛ دل أنه إنما علم ذلك باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)، أي: قضى اللَّه لنا، أي: لن يصيبنا إلا ما

(52)

قضى اللَّه لنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)، أي: ما جاء به القرآن، وهو قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا). ويحتمل قوله: (لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا): من الكرامة، والمنزلة، والنعيم الدائم في الآخرة، أي: لن يصيبنا إلا ذلك، وإن كنتم أنتم تفرحون بذلك، فذلك الذي كتب اللَّه لنا. (هُوَ مَوْلَانَا). أي: هو ربنا ونحن عبيده، يكتب لنا ما يشاء من الخير والشر؛ أي: ما أكرمنا الله لنا، أي: ما أحل لنا وأباح، وأما القضاء فإنه قل ما يقال فيما يكون لهم، وإنما يقال فيما قضى عليهم، وأما الكتاب لهم فهو فيما ... ويحل لهم ويبيح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). يحتمل وجهين: الأول: يحتمل: على الإخبار، أي: على اللَّه يتوكل المؤمنون، لا يتوكلون على غيره. والثاني: يحتمل: أن يكون على الأمر، أي: على اللَّه توكلوا أيها المؤمنون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ... (52) وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) يعني: الشهادة، والحياة، والرزق الدائم، والكرامة؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا. . .) الآية. ويحتمل: إلا إحدى الحسنيين في الدنيا: الغنيمة والظفر؛ يقول: هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين: إما الحياة الدائمة في الآخرة، والرزق الحسن، والكرامة، وإما الغنيمة والنصر في الدنيا، هذا تتربصون بنا ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اللَّه بعذاب من عنده: العذاب في الآخرة إن قتلتم، أو بأيدينا، أي: القتل بأيدينا.

(53)

(تَرَبَّصُونَ بِنَا) الشر (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) العذاب بكم، هم كانوا لا يتربصون بنا إلا الدوائر والهلاك، وهو ما ذكر في آية أخرى حيث قال: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ) هم كانوا لا يتربصون بنا الحسنى، ولكن ما ذكرنا من الدوائر، لكن ذلك وإن كان عند أُولَئِكَ المنافقين هلاك ودائرة، فهو للمؤمنين الحسنى في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في الجهاد، أن المنافقين كانوا يؤمرون بالجهاد والقتال مع الكفرة على ما أمر أهل الإيمان بذلك، ثم منهم من كان يخرج للجهاد، ومنهم من كان يجهز غيره ويقعد، ومنهم من كان يخرج كارهًا، ونحوه، فنزل قوله: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا)، أي: خوفًا، (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ). ومنهم من قال: الآية في الزكاة؛ أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فرض الزكاة في أموال المؤمنين، والمنافقون قد أظهروا الإيمان، وكانوا ينفقون، ويؤدون الزكاة، لكن منهم من كان يؤدي طوعًا، ومنهم من يؤدي كرهًا، فقال: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)؛ لأنهم كانوا لا يرون الزكاة قربة، وكانوا ينفقون وهم كارهون في الباطن. ألا ترى أنه قال: (وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)؛ دل أنهم كانوا ينفقون جميعًا وهم كارهون لذلك في الباطن، ثم بين ما به لم يتقبل نفقاتهم، وهو ما ذكر: (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ). وقال: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) في الآية وجهان: أحدهما: دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، وهم في الظاهر كانوا يأتون الصلاة على ما كان يأتي المؤمنون، ثم أخبر أنهم يأتونها كسالى؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه، تعالى. وكذلك أخبر أنهم ينفقون وهم كارهون لذلك، وكانوا ينفقون في الظاهر مراءاة لموافقيهم، ثم أخبر أنهم كانوا كارهين لذلك في السر؛ دل أنه إنما علم ذلك بالله

(55)

تعالى. والثاني: ألا تقوم قربة ولا تقبل إلا على حقيقة الإيمان الذي هو شرط قيام هذه العبادات وقبول القرب، لا أن أنفسها إيمان؛ لأنهم كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر؛ دل أنه ما ذكرنا، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ). أي: إنكم كنتم فاسقين. ويحتمل قوله: (كُنْتُمْ)، أي: صرتم فاسقين بما أنفقتم وأنتم كارهون؛ إذ هم قد أظهروا الإيمان ثم تركوه؛ كقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا)، أخبر أنهم آمنوا ثم كفروا؛ فعلى ذلك الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى) وكسلى وكسالى فيه لغات ثلاثة والمعنى واحد، وهو أنهم لا يأتون الصلاة إلا مستثقلين؛ لأنهم كانوا لا يرونها قربة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد اللَّه ليعذبهم بها في الآخرة وفي الحياة الدنيا. والتعذيب في الدنيا: هو ما فرض عليهم الجهاد وأمروا بالخروج للقتال، فكان يشق ذلك عليهم ويشتد، فذلك التعذيب لهم، وهو ما ذكر في آية أخرى: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا

جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ. . .) الآية. أو التعذيب في الدنيا هو القتل؛ يقتلون إن لم يخرجوا. وفي الآية دلالة الرد على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: لا يعطي اللَّه أحدًا شيئًا إلا ما هو أصلح له في الدِّين، ثم قال لرسول اللَّه: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ)، ولو كان لم يعطهم الأموال والأولاد إلا للخيرات والصلاح، فكأنه قال: لا يعجبك ما أعطيتهم من الخيرات والصلاح، فذلك بعيد؛ فدل أنه قد يعطي خلقه ما ليس بأصلح لهم في الدِّين. وكذلك في قوله: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ. . .). الآية، دلالة الرد على قولهم؛ لأنه قال: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ)، ثم قال: (بَلْ لَا يَشْعُرُونَ)، أنه يمدهم به لا للخيرات؛ دل أنه قد يعطي خلقه ما ليس هو أصلح لهم في الدِّين. وفي قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) دلالة الرد عليهم أيضًا؛ لأنه أخبر أنه يعذبهم في الدنيا والآخرة، ولا يعذبهم مجانًا فيما لا فعل لهم في ذلك؛ دل أن لهنم صنغا في ذلك، وأنه إنما يعذبهم بفعل اكتسبوه. وفي قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا) دلالة أن ليس كل ما يعطيهم إنما يعطيهم ليرحمهم به، ولكن يعطيهم لما علم منهم، فإن كان علم منهم أنهم يستعملون ما أعطاهم من الأموال وغيرها فيما فيه هلاكهم، أعطاهم لذلك، ومن علم منهم أنهم يستعملونه لنجاتهم أعطاهم ليرحمهم به، فإنما أعطي كلًّا ما علم أنه يكون منهم؛ لأنه لو أعطاهم على غير ما علم منهم يكون في إعطائه مخطئًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ). قيل: تخرج أنفسهم وتهلك خوفًا. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: خرج نفسه من فمه. وقيل: تذهب أنفسهم؛ كقوله: (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) أي: - ذهب. وكذلك قال أبو عبيد: تزهق، أي: تذهب.

(56)

وفي الآية دلالة إثبات رسالة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أن أنفسهم تزهق وهم كافرون، فكان ما ذكر؛ دل أنه علم ذلك باللَّه. * * * قوله تعالى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ). في الباطن في الدِّين؛ لأنهم كانوا معهم في الظاهر. وقال: (وَمَا هُمْ مِنْكُمْ): في الباطن في الدِّين. (وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)، أي: يخافون القتل، فيظهرون الموافقة لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) قيل: لو وجدوا حرزًا (أَوْ مَغَارَاتٍ) يعني: الغيران في الجبال، (أَوْ مُدَّخَلًا) أي: سربًا في الأرض في الجبال - (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ)، أي: رجعوا إليه (وَهُمْ يَجْمَحُونَ)، أي: يسعون. وعن ابن عَبَّاسٍ: قال: الملجأ: الحرز في الجبال، والمغارات: الغيران، والمدخل: السرب. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المغارات مثل الملجأ، وهو شيء يتحصنون فيه، (مُدَّخَلًا): هو موضع يدخلونه أيضًا: (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي: يسرعون، يقال: جمحت الدابة، تجمح جماحًا، فهو جامح، وهو من الإسراع، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ. وقال أبو معاذ: الجموح: الراكب رأسه وهواه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَوْ مُدَّخَلًا) لو يجدون ناسًا يدخلون بينهم، (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ): دونكم. وأصله: أنهم لو وجدوا مأمنًا يأمنون (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) أي: لصاروا إليه مسرعين، ولا يظهرون لكم الإيمان، ولكن ليس لهم ذلك، واللَّه أعلم.

(58)

قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنهُم) يعني: المنافقين (مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (يَلْمِزُكَ) ويزورك لمكان الصدقات؛ طمعًا فيها؛ لتعطيهم الصدقات، و (يَلْمِزُكَ)، أي: يزورك؛ ليسألك من الصدقات، أي: إنما يزورونك لمكان الصدقات لتعطيهم، لا يزورونك ولا يأتونك لمكان الرسالة، أو رغبة في الدِّين، ولكن لمكان الصدقات، فإن أعطوا منها رضوا عنك ويعظمونك، وإن لم تعطهم إذا هم يسخطون؛ لأن إتيانهم رسول اللَّه وزيارتهم إياه لمكان الصدقة، فإذا لم يعطوا منها شيئًا سخطوا. ومنهم من قال: قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) أي: يطعن عليك في الصدقات، أو في قسمة الصدقات. روي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقسم قسمًا له، فجاءه رجل يقال له: ابن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول اللَّه، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! "، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ائذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " دعه؛ فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم "؛ لحسن صلاتهم وصيامهم، فيحقر صلاته عند صلاة أُولَئِكَ، " يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية " ذكر حديثًا طويلًا، وهو كأنه

(59)

كان من الخوارج، وهو الذي قتله علي بن أبي طالب، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) ما آتاهم اللَّه من الرزق، ورسوله من الصدقات. (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). أي: من دينه ورسوله، وقالوا: حسبنا اللَّه، كان خيرًا لهم مما طمعوا في هذه الصدقات، وطعنوا رسول اللَّه في ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو رضوا ما آتاهم اللَّه ورسوله من فضله مما رزق لهم، لكان خيرًا لهم مما فعلوا. وقال بعض أهل التأويل: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، أي: من الصدقات التي كان أعطاهم رسول اللَّه منها وإلى اللَّه رغبوا، لكان خيرًا مما طمعوا في تلك الصدقات، وطعنوا رسول اللَّه، وسخطوا عليه. ويقرأ (ويلمُزك): برفع الميم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: اللمز: العيب؛ يقال له: لماز ولامز، وهماز وهامز. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (يَلْمِزُكَ)، أي: يعيبك ويطعن عليك؛ يقال: همزت فلانًا ولمزته: إذا اغتبته وعبته، وكذلك قول اللَّه: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... (60) يشبه أن تكون الآية في بيان موضع الصدقة؛ على ما تقدم من الذكر بقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا. . .) الآية، ما ذكر أن المنافقين كانوا يأتون رسول اللَّه، يسألونه من الصدقات، فإن أعطاهم رضوا عنه، وإن لم يعطهم طعنوا فيه، وعابوا عليه، فبين أن الصدقات ليست لهَؤُلَاءِ، ولكن للفقراء من المسلمين، والمساكين من المسلمين، وكذلك ما ذكر من الأصناف:

المكاتبين والغارمين. . . أنها لهَؤُلَاءِ من المسلمين، لا لهم.

ويدل على ذلك ما جاء من الأخبار: ورُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه وضع صدقات بأعيانها حملت إليه في صنف واحد مثل: ما روي أنه أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى فلانًا كذا. ورُويَ عن الصحابة أنهم وضعوا الصدقة في صنف واحد.

وروي عن حذيفة أنه قال: هَؤُلَاءِ أهلها، ففي أي صنف وضعتها أجزأك. وعن ابن عَبَّاسٍ أنه قال كذلك. وعن عمر: أنه كان إذا جمع صدقات الناس، المواشي والبقر والغنم، نظر ما كان منتجة للبن، فيعطي لأهل البيت على قدر ما يكفيهم، فكان يعطي العشرة شاة للبيت الواحد، ثم يقول: عطية تكفي خير من عطية لا تكفي، أو كلام نحو هذا. وقد روي عنه أنه سئل عن ذلك، فقال: واللَّه، لأردن عليهم الصدقة حتى يروح على أحدهم مائة ناقة، أو مائة بعير.

وعن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي بصدقة، فبعثها إلى أهل بيت واحد. هَؤُلَاءِ نجباء الصحابة استجازوا وضع الصدقة في صنف واحد، ولو كان حق كل صدقة أن تقسم بين هَؤُلَاءِ الأصناف الذين ذكر بالسوية على ما قال القوم، لكان قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: إنما الصدقات بين الفقراء وبين من معهم من الأصناف، كما يقال: الميراث لقرابة فلان، أي: ليس للأجنبيين في ذلك حق، ولا يقال: الميراث بين قرابة فلان؛ لأن لكل في ذلك حقا؛ لأن حرف " بين " يقتضي التسوية بجميعهم، وقوله: " لهم " يقتضي أنه لا حق فيه لغيرهم. ألا ترى أنه يقال: الخلافة لولد العباس، يراد أنه لا حظ فيها لغيرهم، والسقاية لبني هاشم، ونحوه، ليس يراد ذلك بينهم بالتسوية، وإنما يراد ذلك أن لا حق لغيرهم فيها؟! وبعد، فإنه لو كان في الآية: إنما الصدقات بين الفقراء وبين من ذكر معهم، لكان لا يجب قسمة كل صدقة بين هَؤُلَاءِ الأصناف المذكورة في الآية؛ لأنه ليس للصدقات انقطاع، بل لها مداد إذا دفع صدقة واحدة إلى صنف واحد، فإذا أتى بصدقة أخرى دفع إلى صنف آخر، هكذا يعمل في الأصناف كلها. وبعد، فإنه لم يذكر عن أحد من الأئمة أنه تكلف طلب هَؤُلَاءِ الأصناف فقسمها بينهم، وكذلك لم يذكر عن أحد من أرباب الأموال أنهم دفعوا صدقة واحدة بين هَؤُلَاءِ الذين ذكر؛ فدل أنه خرج على ما ذكرنا؛ لأنه لو كان على تسوية كل صدقة بينهم، لم يجز ألا يقسموها كذلك ويضيعون حق البعض من هَؤُلَاءِ.

وبعد، فإنه لو تكلف الإمام أن يظفر بهَؤُلَاءِ الثمانية ما قدر على ذلك، دل أنه لم يخرج الخطاب على توهم خصومنا. ولأن الحق لو كان التسوية بينهم في كل صدقة، لكان إذا لم يجد في بلدة مكاتبين أو واحدا من هَؤُلَاءِ الأصناف، فيجب أن يسقط مقدار حصة من لم يجد عن أربابها، فذلك بعيد؛ فقد جاء في الخبر أنه بعث معاذًا إلى اليمن، فقال له: " خذ من أغنيائهم ورد في فقرائهم ". ويكره إخراج صدقة كل بلد إلى غيره من البلدان.

ثم تحتمل الآية جميع الصدقات التي يتصدق بها على الفقراء والمساكين من الفيء وغيره، فبين أن هَؤُلَاءِ موضع لذلك كله، من نحو قوله: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) وقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا). ويحتمل زكاة الأموال المفروضة، والوجه فيه ما ذكرنا. فَإِنْ قِيلَ: إن الرجل إذا أوصى فقال: ثلث مالي لفلان وفلان وفلان، أليس هو مقسومًا بينهما بالسويّة؟ ما منع أن الأول بمثله؟ قيل: لا تشبه الصدقات الوصايا؛ وذلك أن الوصية إنما وقعت في مال معلوم، لا يزيد فيه بعد موت الميت شيئًا، ولا يتوهم له مدد، والصدقات يزيد بعضها بعضًا، وإذا فني مال جاء مال آخر، وإذا مضت سنة جاءت سنة أخرى بمال جديد، فإذا دفع الإمام صدقة جميع ما عنده إلى الفقراء ثم حضره غارمون فتحمل إليه صدقة أخرى يجعلها فيهم، فيصلح بذلك أحوال الجميع؛ لما لا انقطاع للأموال إلى يوم القيامة. وكيف تقسم الصدقة على ثمانية أسهم؟ ولا خلاف في أن للعاملين بقدر عمالتهم زاد ذلك على الثمن أو نقص منه، فإذا زالت القسمة في أحد الأصناف زالت في الجميع، فأعطي كل صنف منهم بقدر حاجته كما أعطي العاملون، وكيف يصنع بسهم المؤلفة قلوبهم وقد ارتفع ذلك ونسخ؟ وعلى ذلك جاء عن بعض الصحابة، من نحو أبي بكر وعمر أنهم لم يعطوهم شيئًا، أليس يرد ذلك على سائر السهام؟! فإذا جاز أن يزاد على الثمن في وقت، جاز أن ينقص منه في وقت. وفي قوله: (وَالْعَامِلِينَ) دلالة أن لا بأس للأئمة والقضاة أخذ الكفاية من بيت المال، ولكل عامل للمسلمين أخذ كفايته ورزقه من ذلك إذا فرغ نفسه لذلك، وكفها عن

غيره من المنافع والأعمال. ثم اختلف في الفقراء والمساكين؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: الفقراء: هم من المهاجرين؛ كقوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ)، والمساكين: من الذين لم يهاجروا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفقير: الذي به زمانة، والمسكين: الذي ليست به زمانة، وهو محتاج. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفقراء: هم المتعففون الذين لا يخرجون ولا يسألون الناس؛ كقوله - تعالى -: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) والمساكين: هم الذين يسألون، وكذلك قال الحسن. وعن عمر قال: ليس المسكين الذي لا مال له، ولكن المسكين الذي لا يصيب المكسب. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين: الطوافون. وهو قريب مما قاله الحسن. وعن الأصم قال: الفقير: الذي لا يسأل، وهو ما ذكرنا بدءًا، والمسكين: الذي يسأل إذا احتاج، ويمسك إذا استغنى. وروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - برواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " ليس المسكين هذا الطواف الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان " قيل: فما المسكين يا رسول اللَّه؟ قال: " الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه، ولا

يقوم فيسأل الناس ". فهذا لو حمل على ظاهره لدفع قول من قال: إن المسكين هو الذي يسأل الناس، ولكن يجوز أن يكون معناه - واللَّه أعلم - أن الذي يسأل وإن كان عندكم مسكينًا، فإن الذي لا يسأل أشد مسكنة منه، ولا يحمل على غير ذلك؛ لأن اللَّه قد سمى الذين لا يسألون الناس فقراء، ولا يجوز أن يجعل الحديث مخالفًا للآية ما أمكن أن يكون موافقًا لها؛ قال اللَّه - تعالى -: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16). فقوله (ذَا مَقْرَبَةٍ) قيل: هو الذي لا حائل بينه وبين التراب لفقره؛ فدل بذلك - والله أعلم - على أن المسكين هو الشديد الفقر، والفقير هو الذي لا يملك شيئًا، ولم يبلغ في الفقر والضرورة حال المسكين، ويدل لذلك قول عمر: ليس المسكين من لا مال له، ولكن المسكين من لا مكسب له؛ كأنه يقول: إن الذي لا مال له وله مكسب هو فقير، والمسكين أشد حالًا من الفقير، وليس له مال ولا مكسب. وإن حمل قول النبي - عليه السلام -: " ليس المسكين الذي يسأل، ولكن المسكين الذي لا يفطن له ولا يسأل " على أن ذلك الذي لا يفطن به هو أشد مسكنة من الآخر، وإن كان الآخر مسكينًا -أيضًا- كان موافقًا للمعنى الذي ذكرنا؛ لأنا قلنا: إن المسكين هو الشديد الفقر، وقد يكون فقيرًا وإن لم يبلغ به الضر مبلغ الضر الأول. وقد يخرج قول من قال: إن المسكين الذي يخرج هذا المخرج؛ لأن من شأن المسلم الفقير أنه يتحمل ما كانت له حيلة، ويتعفف، ولا يخرج فيسأل وله حيلة فخروجه يدل على شدة ضيقه، وعلى الزيادة في سوء حاله، فكان القولان جميعًا يرجعان إلى معنى واحد. وإذا كان الفقير أحسن حالا من المسكين لما ذكرنا، فقد يجوز أن تدفع الصدقة إلى من له مال قليل؛ لأنه فقير، وإن لم يكن حاله في فقره حال المسكين الذي لا يملك شيئًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا). اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: يعطى لهم الثمن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعطى لهم قدر عمالتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعطى لهم قدر كفايتهم وعيالهم. أما قول من قال: يعطى لهم الثمن: فلا معنى له؛ لما يجوز ألا يبلغ الثمن الوفاء أو عمالته لا تبلغ عشر عشر ذلك. ومن قال: يعطى لهم قدر كفايتهم وكفاية عيالهم، فهو - واللَّه أعلم - إذا كان هو يسلم نفسه لذلك واستعمله الإمام في جميع أمور المسلمين، فإذا كان كذلك يعطى له عند ذلك الكفاية له ولعياله، وأما إذا تولى شيئًا من تلك العمالة في وقت، فيعطي له الكفاية فلا. والأشبه عندنا: أن يعطى لهم قدر عمالتهم، وهكذا الإمام إذا استعمل أحدًا في عمل من أعمال اليتيم فإنه يعطى له قدر أجر عمله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ). قد ذكرنا فيما تقدم أنه - عليه السلام - كان يعطي الرؤساء من المنافقين من الصدقات، يتألف به قلوبهم ليسلموا؛ على ما روي أنه كان يعطي فلانًا مائة من الإبل، وفلانًا كذا. روي أنه قسم ذهبة أو أديمًا مقروطًا، بعثها علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من اليمن، بين الأقرع بن حابس وبين فلان وفلان. والحديث في هذا كثير أن النبي كان يخص به الرؤساء منهم بالصدقة يتألفهم، والإسلام في ضعف وأهله في قلة، وأُولَئِكَ كثير ذوو قوة وعدة، فأما اليوم فقد كثر أهل

الإسلام، وعز الدِّين، وصار أُولَئِكَ إذ لا يحمد اللَّه، فقد ارتفع ذلك وذهب " إذ قوي المسلمون وكثروا، فيقاتلون حتى يسلموا، وعلى ذلك جاء الخبر عن أبي بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - فدل على ما ذكرنا. روي أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن جاءا إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالا: يا خليفة رسول اللَّه، إن عندنا أرضًا سبخة، ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعناها، فأقطعنا إياها، وكتب لهما عليها كتابًا، وأشهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر ليشهداه، فلما سمع عمر ما في الكتاب، فتناوله من أيديهما، ثم نظر فيه، فمحاه، فتذمرا وقالا له مقالة سيئة، فقال: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل، وإن اللَّه - تعالى - قد أعز الإسلام، اذهبا فاجهدا جهدكما، لا أرعى اللَّه عليكما إن رعيتما. ونحن نذهب إلى هذا الحديث؛ لأن أبا بكر لم ينكر على عمر قوله وفعله، فصار ذلك وفاقًا منه له، فكفى بقولهما حجة لنا. ولنا في ذلك وجهان من الحجج: أحدهما: أن النبي - عليه السلام - كان يعاهد قومًا وهو إلى مداراتهم ومعاهدتهم محتاج؛ لما ذكرنا من قلة أهل الإسلام وضعفهم، فلما أعز اللَّه الإسلام وأكثر أهله ردّ إلى أهل العهود عهودهم، ثم أمر بمحاربتهم جميعًا. والثاني: ما قال اللَّه - تعالى -: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ)، فكانت الحال الثانية التي عز فيها الإسلام وقوي أهله وعزوا

مخالفة للحال الأولى في هذه الأشياء، فكذلك أمر المنافقين جائز الرضا في الحال الأول محظور في الحال الثانية، واللَّه أعلم. وفي الآية دلالة جواز النسخ بالاجتهاد؛ لارتفاع المعنى الذي به كان؛ ليعلم أن النسخ قد يكون بوجوه. وفي خبر أبي بكر، وعمر - رضي اللَّه عنهما - دلالة أن إذن الإمام شرط في إحياء الأرض الموات التي لا تملك إلا بالإذن؛ لأن ذَيْنَك الرجلين اللذين أتيا أبا

بكر، والأرض لا كلأ فيها، وذلك صورة أرض الموات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي الرِّقَابِ). اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: معناه: العتق، ويجوز أن يعتق عن الزكاة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم المكاتبون، يستأدونهم في كتابتهم، وقالوا: لا يشبه الإعتاق ما يدفع إلى المكاتب فيؤدي فيعتق؛ لأن العتق ليس بتمليك، وإنما هو إبطال ملك، وما يدفع إلى المكاتب فهو تمليك، فذلك مختلف، وإنما تكون الزكاة زكاة إذا زالت من مالك إلى مالك. والثاني: أن العتق يوجب الولاء للمعتق، فحقه فيه باق، والذي يديم الزكاة إلى مكاتب لغيره لا يرجع إليه بذلك حق، ولا يجب فيه ولاء، فهما مختلفان. والثالث: وهو أن اللَّه - تعالى - قال: (وَالْغَارِمِينَ)، ولو أن رجلا قضى من غارم دينه بغير أمره، لم يجز من زكاة ماله، وإنما يكون زكاة إذا دفعها إلى الغارم، فعتق المزكي العبد بمنزلة قضاء دين الغارم؛ لأنه لا يحتاج في واحد منهما إلى قبول من الغارم والعبد، وإعطاؤه المكاتب في الزكاة كدفعه إياها إلى الغارم؛ لأنه قد دفعها في كلا الحالين إلى من قبلها منه من زكاة وقبضها، وفي ذلك وجه آخر: وذلك أن أشتري عبدًا من رجل لأعتقه، فقد صار ثمنه دينًا في ذمتي قبل أن أنقد المال، فإذا أقبضته فإنما قضيته عن ذمتي دينًا قد لزمني، ولا يجوز أن أقضي ديني. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ). قيل: هم الغزاة.

ويحتمل: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ)، أي: في طاعة اللَّه أن كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات، فإنه داخل في ذلك. وقوله: (وَابْنِ السَّبِيلِ) قيل: الضيف ينزل به. وقيل: هو المار عليك وإن كان غنيًّا، المنقطع عن ماله. وقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) يحتمل: بيانًا من اللَّه وإعلامًا أهل الصدقات منهم من غيرهم. ويحتمل قوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) أي: واجبًا من اللَّه وفرضًا (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). * * * قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)

(61)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) أخبر أنهم يؤذون النبي، ولم يبين بما كانوا يؤذونه، فيحتمل: يؤذون النبي بتكذيبهم إياه، وتركهم الإجابة له والطاعة فيما يدعوهم إليه. ويحتمل: يؤذونه بكلمات يسمعونه، وطعن يطعنونه، ويعيبون عليه (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ). قيل: الأذن هو الذي يقبل العذر ممن اعتذر إليه، ويسمع من كل أحد يعتذر إليه ويقبل، وكذلك كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقبل العذر ممن اعتذر إليه ويسمع، منه سواء كان له عذر أو لا عذر له؛ لكرمه وشرفه، وحسن خلقه، فظن أُولَئِكَ لما رأوه أنه كان يعاملهم معاملة أهل الكرم والشرف والمجد أنه إنما يعاملهم هذه المعاملة لسلامة قلبه، وصغر همته، وقصور يده، وهم كانوا أهل كبر وأنفة، قالوا: هو أذن، نقول ما شئنا ثم نتخلف ونعتذر إليه فيصدقنا، ويقبل عذرنا؛ قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ) يا مُحَمَّد (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي: الذي يقبل العذر ويسمع خير لكم من الذي لا يقبل ولا يسمع، فكيف تؤذونه، وتطعنون عليه وتعيبونه، ولا تصدقونه ولا تؤمنون به؟ يخبر عن سفههم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الأذن: الذي من قال له شيئًا، أو حدثه حديثًا، صدقه واستمع منه، وكذلك كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصدق كل من قال له شيئًا أو حدثه حديثًا، واستمع منه؛ لكرمه، وشرفه، ومجده، وحسن خلقه، لا لما ظن أُولَئِكَ. وقيل: يقولون: هو أذن، أي: يسر في نفسه ويكتم، ولا يكافئ من آذاه، ولا يجازيه؛ قال اللَّه: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُؤمِنُ بِاللَّهِ)، أي: يصدق باللَّه بما ينزل عليه من آياته. (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)، أي: يصدقهم فيما بينهم من شهاداتهم، وأيمانهم على حقوقهم، وفروجهم، وأموالهم. ويحتمل قوله: يؤمن باللَّه ويصدقه بما يخبره من سرّ المنافقين، وما استكتموه منه من

الكيد له، والمكر به، ويؤمن للمؤمنين بما يخبرونه من قبل أُولَئِكَ المنافقين من الطعن فيه، والعيب عليه، والإيمان بآخر هو التصديق بجميع ما فيه، والإيمان له من خبره وحديثه. وقوله: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ). فيما يشهدون في الآخرة له بالتبليغ إليهم؛ كقوله؛ (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) أو أن يكون قوله: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)، أي: يؤمن بالمؤمنين فيما بينهم بالأخوة في الدِّين؛ كقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ). كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رحمة للمؤمنين؛ لما استنقذهم من الكفر إلى الإيمان، ومن الهلاك إلى النجاة، يشفع لهم في الآخرة بإيمانهم في الدنيا. (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). في الآخرة، بقية من الآية الأولى. وقوله: (وَالْغَارِمِينَ). جعل اللَّه الغارم موضعًا للصدقة، وهو الذي عليه الدِّين والغرم من أي وجه لحقه؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن المسألة لا تحل إلا لإحدى ثلاث: من فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو لذي دم موجع ". وفي بعض الأخبار: " إن الصدقة لا تحل إلا لخمس: للعاملين عليها، أو رجل اشتراها، أو غارم، أو غاز في سبيل اللَّه، أو فقير تصدق عليه فأهداها لغني ". وروي عن الحسن، والحسين وابن عمر، وابن جعفر أن رجلاً سألهم شيئًا فقالوا:

إن كانت مسألتك في إحدى ثلاث فقد وجب حقك: في فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو دم موجع. هذه الأخبار كلها تدل على أن الغارم موضع للصدقة، قل دينه أو كثر. فَإِنْ قِيلَ: في الخبر: " أو غرم مفظع "، قيل: لا خلاف بينهم في أن من دينه غير مفظع فله أن يأخذ بقدر دينه من الصدقة، فهذا يدل أن الذي روي في الخبر إنما هو لكراهة المسألة، لا على التحريم، وهكذا نقول: إن المسألة لا تحل له إذا كان غرمه غير مفظع، ولكن يحل وضعه عنه وأخذه له. مسألة: قوله: (وَابْنِ السَّبِيلِ) هو ما ذكرنا أنه المنقطع من ماله، جعله اللَّه موضعًا للصدقة، وإن كان غنيا في مقامه للحاجة التي بدت له؛ وعلى ذلك روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل اللَّه، أو ابن السبيل، أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له ". وفي بعض الأخبار عنه ما ذكرنا قال: " لا تحل الصدقة إلا لخمس، وفيه: أو فقير تصدق عليه فأهداها لغني ". وقد يكون الرجل غنيًّا بأن يكون له دار يسكنها، ومتاع يتهيأه، وثياب وعزم على الخروج في سفر غزو احتاج من آلات سفره، وسلاح يستعمله في غزوه، ومركب يغزو عليه، وخادم يستغني بخدمته إلى ما لم يكن محتاجًا إليه في حال إقامته، فيجوز أن يعطى من الصدقة ما يستغني به في حوائجه التي يحدثها لسفره، فهو في مقامه غني بما يملكه؛ لأنه غير محتاج حينئذ إلى ما وصفنا، وهو في حال سفره غير غني، فيحتمل أن يكون معنى قوله: " لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل اللَّه " على من كان غنيًّا في حال مقامه، فيعطى بعض ما يحتاج إليه لسفره؛ لما أحدث له السفر من الحاجة. ألا ترى أن الرجل قد يكون له المتاع لا يحتاج إليه، والدابة لا يركبها، فإذا صار ذلك مائتي درهم لم يجز له أن يأخذ من الزكاة، فإن عرض له مرض أو سفر فاحتاج إلى دابة

ليركبها، أنه يخرج من الغناء بما حدث له من الحاجة إلى الركوب، وكان له أن يأخذ من الصدقة عندنا لا يستغني عما هو له، وإنما الغني من استغني عما يملكه. فكذلك الغارم على العرف قد تحدث له الحاجة إلى أكثر مما يملك، وصار ممن يجوز أن يعان، وإن كان ملكه الذي كان به غنيا قبل ذلك لم ينقص، فهذا - واللَّه أعلم - يحتمل. وابن السبيل -أيضًا- ما ذكرنا من الخبر ألا تحل الصدقة لغني إلا لابن السبيل ومن ذكر معه، وعلى ذلك اتفاق الأمة، وهو ما قيل: المجتاز من أرض إلى أرض. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - في تأويل قوله: (إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ): هو المسافر. وهو ما ذكرنا أنه المنقطع عن ماله وإن كان غنيا في مقامه، والفقير الذي يجوز أن يعطى من الصدقة. روي عن الحسن بن علي - رضي اللَّه عنهما - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " للسائل حق وإِن جاء على فرس ". وعن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أعطوا السائل ولو جاء على فرس ". وجاء في بعض الأخبار عن رسول اللَّه قال: " لا يسأل عبدٌ - أو قال: أحد - مسألة ما يغنيه إلا جاءت يوم القيامة خدوشًا وكدوحًا في وجهه " قيل: يا رسول اللَّه، وماذا

يغنيه؟ أو ما أغناه؟ قال: " خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب ". وفي بعض الأخبار يقول: " من سأل وله أربعون درهمًا فقد ألحف ". وعن علي وعبد اللَّه قالا: لا تحلّ الصدقة لمن له خمسون درهمًا، أو عوضها من الذهب. وعن عمر كذلك. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: سال رجل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إن لي أربعين درهمًا، أمستكثر أنا؟ قال: " نعم ". وفي بعض الأخبار عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي ". وفي بعض الأخبار: ولا " لقوي مكتسب ". وإنما يحمل قوله: " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي " على الزجر عن

(62)

العرض على الصدقة والمسألة عليها. ألا ترى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن الصدقة لا تحل إلا في إحدى ثلاث "، فذكر إحداها: " أو فقر مدقع "، فذلك يبيح لذي المرة السوي أن يقبل. ألا ترى أن الرجلين اللذان سألا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لهما: " إن شئتما أعطيتكما "، فلو كان حرامًا عليهما ما أعطاهما الحرام، ولكن ذلك على الزجر عن المسألة. وروي عن سلمان أنه حمل إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صدقة، فقال لأصحابه: " كلوا " ولم يأكل هو، ولا يتوهم متوهم أن أصحابه كانوا زمنى، فهذا يبين أن النبي أراد الزجر عن المسألة والتعرض لها إلا في حال الضرورة، لا على التحريم لها وأن من أخذها وله أقل من مائتي درهم أو قيمتها، فله فيها ملك سداد من عيش، فذلك مكروه. ألا ترى أنه روي عن الحسن أنه قال: كان أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يأخذون الصدقة ولأحدهم من السلاح والكراع والعقار قيمة عشرة آلاف درهم. فهذا حسن، والتعفف عنها أحسن؛ لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من استغنى أغناه اللَّه، ومن استعف أعفه اللَّه ". وقوله: " لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسأل الناس شيئًا أعطوه أو منعوه ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) بما حلفوا عليه. ذكر بعض أهل التأويل أن الأنصار مشت إليهم - يعني: إلى المنافقين - فقالوا: قد

عيرنا بما نزل فيكم فحتى متى؟! فكانوا يحلفون للأنصار: واللَّه ما كان شيء من ذلك، فاكذبهم اللَّه فقال: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ): ما كان الذي بلغكم، (لِيُرْضُوكُمْ): بما حلفوا، (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ): منكم يا معشر الأنصار، (أَن يُرْضُوُه): حيث اطلع على ما حلفوا وهم كذبة، (إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) يقول: ولكن ليسوا بمصدقين. والأشبه أن تكون الآية نزلت في معاتبة جرت بين المؤمنين والمنافقين باستهزاء كان منهم برسول اللَّه، أو طعن فيه، أو استهزاء بدين اللَّه، فاعتذروا إليهم وحلفوا على ذلك ليرضوهم، فقال اللَّه: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) حقيقة ولكن ليسوا بمؤمنين. وأما ما قاله بعض أهل التأويل أن رجلًا من المنافقين قال: واللَّه، لئن كان مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ [الْحَمِيرِ]، فسمعها رجل من المسلمين، فأخبر بذلك رسول اللَّه، فدعاه، فقال: " ما حملك على الذي قلت " فحلف والتعن ما قاله، فنزل قوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ)، هذا لو كان ما ذكر، لكانوا يحلفون لرسول اللَّه، لا يحلفون لهم؛ دل أن الآية في غير ما ذكر. ويذكر عن ابن عَبَّاسٍ أن الآية نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول اللَّه في غزوة تبوك، فجعلوا يحلفون لرسول اللَّه حين رجع أنهم لا يتخلفون عنه أبدًا وكذلك قال غيره من أهل التأويل، ولكن لو كان ما قالوا لكانوا يحلفون لرسول اللَّه ويرضونه، لا للمؤمنين؛ دل أن الأشبه ما ذكرنا، وفيه وجوه: أحدها: أن فيه دلالة تحقيق رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليعلموا أنه حق؛ حيث اطلع على ما أسروا في أنفسهم وكتموا من المكر به وأنواع السفه.

(63)

والثاني: ليحذروا ويمتنعوا عن مثله والمعاودة إليه؛ لما علموا أنه يطلع على جميع ما يسرون عنه ويكتمون. والثالث: تنبيهًا للمؤمنين وتعليمًا لهم منه بأنه إذا وقع لهم مثل ذلك لا يشتغلون بالحلف طلبًا لإرضاء بعضهم بعضًا، ولكن يتوبون إلى اللَّه، ويطلبون منه مرضاته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ). ذكر نفسه ورسوله ثم أضاف الرضاء إلى رسوله بقوله: (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)، ولم يقل: أحق أن يرضوهما؛ فهو - واللَّه أعلم - لأنهم إذا أرضوا رسوله رضي اللَّه عنهم، وكان في إرضائهم رسوله إرضاء له، فهو ما ذكر أنهم (إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) ثم أضاف الحكم إلى رسوله؛ لأنهم إنما دعوا إلى أن يحكم الرسول بينهم. وقوله: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)؛ لأن الخلاف والخيانة كان في حق اللَّه، وفي حق رسوله، لم يكن في حق المؤمنين؛ لذلك قال: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) من المؤمنين. ثم ذكر محادة اللَّه ورسوله، ثم اقتصر على رضاء رسوله؛ لأنهم لم يقصدوا قصد مخالفة اللَّه، وإنما قصدوا قصد مخالفة، رسوله، أو أن يكون ذكر إرضاء أحدهما؛ لأن في إرضاء رسوله رضاء الرب؛ كقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) وفي الآية دلالة أنهم علموا أنهم معاندون في صنيعهم، وعلموا أن من عاند وكابر بغير حق فإن له نار جهنم. وقوله: (يُحَادِدِ اللَّهَ). يحتمل: يعاند اللَّه. وقيل: (يُحَادِدِ اللَّهَ): يشاقق اللَّه ويخالفه؛ وهو واحد.

(64)

ثم قوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) يخرج على وجهين: أحدهما: أي: قد علموا أنه من يحادد اللَّه ورسوله فإن له ما ذكر، لكنهم عاندوا أوقصدوا، الخلاف والمحادة له مع علمهم. والثاني: أي: علموا أنه من يحادد اللَّه ورسوله، فإن له ما ذكر؛ على ما ذكرنا أن حرف الاستفهام من اللَّه يخرج على الإيجاب والإلزام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ). يحتمل وجهين: الأول: يحتمل الخزي، أي: الفضيحة العظيمة في الدنيا. والثاني: يحتمل ذلك الخزي العظيم في الآخرة، أي: نار جهنم خزي عظيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) يحتمل قوله: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ)، أي: الحق عليهم أن يحذروا؛ لما أطلع اللَّه رسوله مرارًا على ما أسروا وكتموا. ويحتمل على الخبر: أنهم كانوا يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم عما في قلوبهم؛ لكثرة ما أطلع اللَّه رسوله من سرائرهم وسفههم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ). فهو - واللَّه أعلم - ليس على الأمر؛ ولكن على الوعيد، يقول: استهزئوا؛ فإن الله مظهر ومبين ما أسررتم وكتمتم من العيب والاستهزاء برسوله والطعن فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) ذكر السؤال، ولم يبين عئم يسألهم، ولكن في الجواب بيان أن السؤال إنما كان على الاستهزاء؛ حيث قال: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) ذكر أن نفرا من المنافقين كانوا اختفوا في بعض الطريق، ليمر رسول اللَّه، ويرجع من الغزو فيقتلونه، فأطلع اللَّه نبيه على اختفائهم في ذلك أنه لماذا؟ فقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ). وذكر بعض أهل التأويل أن النبي لمّا رجع من غزوة تبوك بينا هو يسير إذ هو برهط يسيرون بين يديه يضحكون ويستهزئون، فأطلع اللَّه رسوله أنهم يستهزءون باللَّه وكتابه ورسوله؛ فقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ). وقيل بغير ذلك. وقيل: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ)، أي: لو سألتهم: ما تقولون؟

(66)

فيقولون لك: مما يخوض فيه الركب إذا ساروا. وليس لنا إلى معرفة كيفية استهزائهم حاجة، ولا مأرب سوى أن فيما ذكر لنا من خبر المنافقين تنبيهًا للمؤمنين وتحذيرًا لهم؛ ليحذروا إسرار ما لم يظهروا على ألسنتهم؛ ليعلموا أن اللَّه مطلع على ما يسرون ويضمرون. وقوله: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ). قوله: (أَبِاللَّهِ) يحتمل الإضافة إلى نفسه إضافة إلى أنفس المؤمنين؛ لأنه لا أحد يقصد قصد الاستهزاء باللَّه، ولكنهم كانوا يستهزئون برسول اللَّه وبالمؤمنين؛ فأضاف إلى نفسه؛ كقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ)، وكذلك قوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ. . .) الآية؛ فعلى ذلك الأول كانوا يستهزئون برسول اللَّه وبالمؤمنين، فأضاف إلى نفسه؛ تعظيمًا لهم وإكرامًا. وقوله: (وَآيَاتِهِ) يحتمل أنهم كانوا يستهزئون بالأحكام التي لها آيات، فاستهزءوا بتلك الأحكام؛ فأضاف الاستهزاء إلى الآيات؛ كقوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) الآية. (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) هم لم يتخذوا آيات اللَّه هزوا؛ ولكن هزوا بالأحكام التي لها آيات فأضاف الهزء إلى آياته، ولكن من استخف بحكم من الأحكام التي لها آيات كان ذلك استخفافا بآياته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) أي: لا تعتذروا فإنه لا يقبل اعتذاركم؛ لما لا عذر لكم فيما تعتذرون بعد ما قلتم إنه أذن لما ظهر منكم الخلا والكذب في ذلك؛ كقوله: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ)، أخبر أنه لا نصدقهم فيما اعتذروا؛ لما ظهر كذبهم وتبين خلافهم. وقوله: (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ). يحتمل: كفرتم في الباطن بعد ما أظهرتم باللسان. ويحتمل: (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) حقيقة قد كفروا بعد ما آمنوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً).

(67)

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ) ذلك أن المنافقين قد آمن منهم بعد النفاق وتاب، فأخبر أنه إن يعف عنهم يعذب طائفة: الذين لم يؤمنوا ولم يتوبوا. وقيل: إن يعف عن طائفة منكم يعذب طائفة؛ لأن من المنافقين من قد ماتوا على الإيمان، ومنهم من قد مات على الكفر؛ فوعد العفو لمن مات على الإيمان؛ كقوله: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ): أخبر أنه إن شاء تاب عليهم؛ فقوله: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ) الطائفة التي يتوب الله عليهم. وقوله: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ) يحتمل وجهين: أحدهما: على الإيجاب، أي: يفعلون باللَّه ورسوله ذلك. وقيل: على الوعيد والهتوبيخ؛ أباللَّه يفعلون هذا؟! واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ). ذكر في أهل الإيمان أن بعضهم أولياء بعض بقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وذكر في الكافرين الولاية لبعضهم ببعض بقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وقال في المنافقين: (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)، فهو - واللَّه أعلم - أن لأهل الإيمان دينًا يدينون به ويتناصرون، ويدعون الناس إليه،

وأهل الكفر يدينون -أيضًا- بدين ويتناصرون به، ويعاون بعضهم بعضًا؛ فصار لكل واحد من الفريقين موالاة فيما بينهم: موالاة الدِّين. وأما المنافقون: فإنه لا دين لهم يدينون به، ولا مذهب ينتحلونه، ولا يناصر بعضهم بعضًا، ولا يعاون بعضهم بعضًا، ولا يجري بينهم التناصر والتعاون، فإنما هم عباد النعمة والسعة، مالوا حيثما مالت النعمة والسعة فلا موالاة بينهم لما ذكرنا. وفي قوله: (وَالْمُنَافِقَاتُ) دلالة أن من نافق بالتقليد لآخر أو كفر بالتقليد لآخر، أو نافق لا بتقليد - سواءٌ في استيجاب الإثم والتعذيب في ذلك والوعيد؛ لأن النساء هن أتباع وأهل تقليد للرجال، ثم سوى بينهم وبين النساء في الوعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ). يحتمل قوله: (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ)، أي: ما تنكره العقول، وهو الشرك بالله والخلاف له. (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ)، أي: ينهون عما تعرفه العقول وتستحسنه، وهو التوحيد لله والإيمان به، ويدخل في ذلك كل خير وحسن، وفي المنكر يدخل فيه الشرك وكل معصية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ). من الإنفاق في سبيل الخير، لكن يحتمل أن يكون على التمثيل لا على تحقيق قبض اليد، ولكن على كف النفس ومنعها من الاشتغال بالخيرات وخوضها فيها وفي جميع الطاعات، لكنه ذكر اليد؛ لما بالأيدي يعمل بها ويكتسب الخيرات والسيئات؛ كقوله: (ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)، وذلك مما لم تقدمه الأيدي ولا كسبت؛ إنما ذلك كسب القلب، لكنه ذكر اليد؛ لما ذكرنا أنه باليد ما يقدم وبها يقبض في الشاهد، وجائز أن يكون ما ذكر من قبض اليد كناية عن بخلهم وقلة إنفاقهم في الجهاد؛ كقوله: (وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ). قيل: جعلوا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كالشيء المنسي لا يذكرونه أبدًا؛ فنسيهم، أي: جعلهم كالمنسيين في الآخرة من رحمته لا ينالونها ويحتمل (نَسُوا اللَّهَ)، أي: نسوا نعم اللَّه التي

(68)

أنعمها عليهم فلم يشكروها؛ فنسيهم على المجازاة لذلك، وإن لم يكن نسيانا؛ كما سمي جزاء السيئة سيئة، وإن لم يكن الثاني سيئة؛ فعلى ذلك ذكر النسيان على مجازاة النسيان، وإن لم يحتمل النسيان. والثالث: (نَسُوا اللَّهَ)، أي: بسؤال المعونة والنصرة وسؤال التوفيق؛ فنسيهم اللَّه، أي: لم ينصرهم ولم يوفقهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). فَإِنْ قِيلَ: اسم النفاق أشر وأقبح من اسم الفسق؛ فما معنى ذكر الفسق لهم؟! فهو - واللَّه أعلم - لأنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين باللسان؛ فأخبر أنهم ليسوا على ما أظهروا، واللَّه أعلم. أو أن يكون اسم النفاق أشر وأقبح عند الناس من اسم الفسق؛ فيحتمل عندهم أن يكون اسم الفسق أكبر في القبح. أو سماهم فاسقين؛ لما أن كل أهل الأديان يأنفون عن النسبة إلى الفسق والتسمية به. أو أن يكونوا يعلمون في أنفسهم أنهم أهل نفاق، ولا يعرفون أنهم فسقة. وأصل الفسق: هو الخروج عن أمر اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كأن جهنم هي المكان الذي يعذبون فيه والنار فيه بها يعذبون. (خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ). أي: حسبهم جزاء لصنيعهم، يقول الرجل لآخر: حسبك كذا، أي: كفاك ذلك جزاء ذلك.

(69)

وقوله: (وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ). قيل: اللعن: هو الطرد في اللغة، أي: طردهم عن رحمته. (وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ). لا يفارقهم ألبتَّة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أي: هَؤُلَاءِ المنافقون والكفرة كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وبطشًا. (وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا). في الشاهد: إنما يدفع العذاب أو العقوبة لهذا، وبه يتناصرون بعضهم من بعض، ثم لم يقدروا على دفع ذلك عن أنفسهم، فأنتم دونهم في القوة وما ذكر؛ كيف تقدرون على دفع ذلك، هذا قد قيل. وقيل: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ): أي: صرتم بما اخترتم من الأعمال كما صار أُولَئِكَ بما اختاروا من الأعمال، وكل أنواع الخلاف لله، وتكذيب الرسل، وتعاطي ما لا يحل، فصرتم أنتم كما صاروا هم. (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ). قيل: انتفعوا بخلاقهم، أي: أكلتم أنتم الدنيا بدينكم كما أكل أُولَئِكَ الدنيا بدينهم. وقيل: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ) أي بنصيبهم من الدنيا ولم يقدموا شيئًا للآخرة. والخلاق: النصيب؛ كقوله: (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ)، أي: لا نصيب لهم. وقال أبو هريرة: الخلاق: الدِّين، وكذلك قال الحسن في قوله: (بِخَلَاقِهِمْ)، أي: بدينهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا). أي: خضتم في الباطل والتكذيب كالذي خاض أُولَئِكَ من الأمم الخالية.

(70)

قال أبو عبيدة: قوله: (وَخُضْتُمْ)، أي: لعبتم (كَالَّذِي خَاضُوا)، أي: لعبوا بالتكذيب. (أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). فلا ثواب لها في الدنيا والآخرة؛ لأنها كانت في غير إيمان، فثواب الأعمال إنما يكون في الآخرة بالإيمان. (وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). خسرانًا مبينًا، وبطلان أعمالهم في الدنيا لما يقبل واحد من الفريقين من المؤمنين والكفار صنيعهم؛ لأنهم يرون من أنفسهم الموافقة لكل واحد منهما، وما كانوا مع واحد من الفريقين؛ كقوله: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: قوله: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ)، أي: قد أتاهم خبر الذين من قبلهم وما حلَّ بهم وما انتقم اللَّه منهم؛ بتكذيبهم الرسل وسعيهم في قتلهم وهلاكهم، وهم من جنس أنفسكم، وأشد قوة وبطشًا منكم، وأنتم تقلدونهم في ذلك، ثم حل بهم ما حل بتكذيبهم الرسل، والخلاف لهم، فأنتم دونهم في كل شيء، وأقل منهم في القوة والبطش - أولى بذلك أن يصيبكنم. والثاني: يحتمل قوله: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: يأتيهم نبأ الذين من قبلهم وما حل بهم؛ كقوله: ألم تر كذا، أي: سترى؛ فعلى ذلك هذا يحتمل، وهو حرف وعيد، يحذرهم ما حل بأُولَئِكَ؛ ليمتنعوا عن مثل صنيعهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ). قال أهل التأويل: هى [قريات] لوط. . مؤتفكات: أي منقلبات. قَالَ الْقُتَبِيُّ: ائتفكت، أي انقلبت.

(71)

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المؤتفكات: هي من الإفك؛ وهو الصرف (أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، أي: يصرفون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المؤتفكات: المكذبات؛ (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) وفكذبوهم فاهلكوا. وهو من الانقلاب؛ كأنه أشبه، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ). بتعذيبه إياهم، ولا يعذبهم وهم غير مستوجبين لذلك العذاب، ولكن هم ظلموا أنفسهم؛ حيث كذبوا رسله وردوا ما جاءوا به من البينات والبراهين. * * * قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). يحتمل قوله: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) على الإيجاب والإخبار أن الدِّين الذي اعتقدوا أو تمسكوا به يوجب لهم الولاية، ويصير بعضهم أولياء بعض؛ كقوله: (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ. . .) الآية، وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ونحوه، فهي أخوة الدِّين وولايته. ويحتمل قوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ): على الأمر، أي: اتخذوا بعضكم أولياء بعض، ولا تتخذوا غيركم أولياء؛ كقوله: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) وقوله: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)، نهى المؤمنين أن يتخذوا أولياء من غيرهم، فكأنه أمر أن يتخذ المؤمنون بعضهم بعضًا أولياء، لا يتخذوا من غيرهم. ثم يحتمل الولاية وجهين: الأولى: ولاية روحانية؛ وهي ولاية في الدِّين توجب مراعاة حقوق تحدث بالدِّين الذي جمعهم وحفظها.

(72)

والثانية: ولاية نفسانية، وهي الولاية التي تكون في الأنفس والأموال؛ من نحو ولاية النكاح والميراث وغيره، فهذه الولاية هي الولاية النفسانية التي كانت بالرحم والنسب، فإذا اجتمعوا في دين واحد وجبت تلك الولاية لهم؛ وهي الولاية نفسها. والولاية الروحانية هي المودة والمحبة، فيجب مراعاتها بالدِّين وتعاهدها، وهذا كما تقول: حياة روحانية وحياة جسدانية، والحياة الروحانية: هي العلم والآداب، يرى أشياء ويعرفها من بعد الحياة الجسدانية: وهي الروح الذي به يحيا الجسد، وبذهابه يموت الجسد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ). يحتمل المعروف: الذي توجبه العقول، وهو التوحيد لله والإيمان به. (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). أي: ينهون عما ينكر بالعقول؛ وهو الشرك باللَّه والتكذيب له. وهذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فيما بين الكفرة، يأمرهم المؤمنون بذلك، ويدعونهم إلى ذلك، وينهونهم عن ضد ذلك. وإن كان فيما بين المؤمنين فهو أمر شرع ونهي شرع، يأمر بعضهم بعضًا بما جاء به الشرع، وينهاه عما لم يجئ به الشرع. أو يأمر بعضهم بعضًا بكل خير وبز، وينهى عن كل شرّ ومعصية. (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) في كل أمره ونهيه. (أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) وعد أنه يرحمهم. (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). قيل: (عَزِيزٌ) ترى آثار عزه في كل شيء، (حَكِيمٌ): ترى آثار حكمته وتدبيره في كل شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

(73)

أي: رضاء اللَّه عنهم أكبر من كل ما أعطاهم؛ لأن فيه حياة الروح ولذته، وما أعطاهم من الجنة والمساكن الطيبة فيه حياة الجسد ولذته، وحياة الروح أرفع وأكبر من حياة الجسد؛ لأنه لا يؤثر زيادة في الجسد، كذلك العز والحمد، وذكر الحسن فيه حياة الروح ولذته؛ إذ ليس فيه زيادة في الجسد، إنما هو فرح وسرور يدخل فيه، وإذا أصابه شيء من الذل أو سمع مكروهًا، حزن واهتم من غير أن يتألم جسده أو يجد ألمًا وشدة في نفسه، وذلك لما أصاب روحه لم يصب جسده، وأصله أن العمل في الدنيا لطلب مرضاة اللَّه، ومرضاته أكبر من العمل لطلب ثوابه؛ لأن العمل لطلب رضائه أمر عليه، والعمل لطلب الثواب أمر له، فالذي قام بأداء ما عليه أعظم درجة وأكبر فضلًا من الذي قام بعمل ما له؛ لأن كل أحد يعمل ما له وله فيه نفع، ولا كل أحد يعمل لغيره؛ لذلك كان ما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). لأنه فوز ونجاة، لا خوف بعده، ولا هوان ولا ذل. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) يحتمل الأمر بالجهاد الفريقين جميعًا جهادًا بالسيف. ويحتمل: مجاهدة بالحجج والبراهين الفريقين جميعًا.

(74)

ويحتمل -أيضًا-: الأمر بالمجاهدة الكفار، يجاهدهم بالسيف، ويغلظ القول ويشدده على المنافقين، ويقيم عليهم الحدود. فإن كان على مجاهدة الفريقين جميعًا بالسيف، فهو - واللَّه أعلم - في المنافقين الذين انفصلوا من المؤمنين، وخرجوا من بين أظهرهم، وأظهروا الخلاف للمؤمنين بعد ما أظهروا الموافقة لهم، فأمثال هَؤُلَاءِ يجاهدون بالسيف ويقاتلون به، وهو كقوله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ)، إلى قوله: (مَلْعُونِينَ) الآية، أخبر أنهم يؤخذون ويقتلون أينما وجدوا، فيشبه أن تكون الآية في الأمر بالجهاد في هَؤُلَاءِ المنافقين. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن المنافقين كانوا يطعنون في رسول اللَّه ويعيبون عليه، فأطلع اللَّه رسوله على ذلك، وهم قد علموا أن اللَّه أطلعه على ما يطعنون فيه ويذكرونه بسوء، فيقول - واللَّه أعلم -: جاهدهم إذا طعنوا فيك وذكروك بسوء بعد ذلك. وإن كان الأمر على المجاهدة مجاهدة بالحجج، فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد حاج الفريقين جميعًا بالحجج، وخاصة سورة براءة إنما أنزلت في محاجة المنافقين. ويحتمل الأمر بالجهاد في الكفار خاصة، وفي المنافقين تغليظ القول والتشديد، وإقامة الحدود التي ذكرنا، والتعزير إذا ارتكبوا شيئًا مما يجب فيه الحد أو التعزير - واللَّه أعلم بذلك - لما أقاموا بين أظهر المؤمنين مظهرين لهم الموافقة. وقوله: (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هذا في المنافقين الذين ماتوا على النفاق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)

قال بعض أهل التأويل: الآية نزلت في شأن رجل منافق قال يومًا: واللَّه، لئن كان ما يقول مُحَمَّد حقا لنحن شر من الحمير. فسمع ذلك غلام وهو ربيب ذلك القائل، فقال له: تُبْ إلى اللَّه. وجاء الغلام إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره، فأرسل إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه، فجعل يحلف: ما قال ذلك؛ فنزلت الآية فيه: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا. . .). لكن غير هذا كان أشبه؛ لأن الآية: (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وقول الرجل: لئن كان ما يقول مُحَمَّد حقا لنحن شر من الحمير - هذا القول نفسه ليس هو كلام كفر؛ إنما كلامُ ذم، ذمَّ به نفسه في الآية (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ) وفهو قول جماعة. وقيل: نزل في شأن عبد اللَّه بن أبي، قال أصحابه: فواللَّه، ما مثلنا ومثل مُحَمَّد إلا كما قال القائل: " سمّنْ كلبك يأكلك "، وقال: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)، فأخبر النبي بذلك، فدعاه فسأله فجعل يحلف باللَّه ما قاله. ولكن يشبه أن تكون الآية صلة قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. . .) الآية. كانوا يستهزءون باللَّه وبآياته وبرسوله، والاستهزاء بذلك كفر، أو أن قالوا قول كفر لم يبين اللَّه لنا ذلك فلا أنهم قالوا كذا؛ لما ليس لنا إلى معرفة ذلك القول الذي قالوه حاجة. وقوله: (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ): يحتمل: كفروا بعد ما أسلموا إسلام تَقِيَّة. ويحتمل قوله بعد ما أظهروا الإسلام، أي: رجعوا عما أظهروا من الإسلام. وفي الآية دلالة أن الإسلام والإيمان واحد؛ لأنه قال: (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ) وقال في آية أخرى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)، ثم قال: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ)، وقال في آية أخرى: (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا)؛ فدل أن الإسلام والإيمان واحد. وقوله: (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا).

قيل: هموا بقتل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمكر به، فلم ينالوا ما هموا به. وفيه دلالة إثبات الرسالة؛ لأنهم أسروا ما هموا به، ثم أخبر عن ذلك وهو غيب، دل أنه باللَّه علم ذلك. وقوله: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ). قال بعض أهل التأويل: إن الرجل الذي قال ذلك تاب عن ذلك، فقبل منه ذلك، وكان له قتيل في الإسلام فوداه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأعطاه ديته، فاستغنى بذلك. وقال ابن عَبَّاسٍ: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ): كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعطي المنافقين من الغنائم والصدقات، يقول: ما نقموا ما أعطاهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الغنيمة والصدقة. وقوله: (نَقَمُوا)، قال بعض أهل الأدب - أبو معاذ وغيره -: نقموا، أي: طعنوا، فيه لغتان: نقِموا - بالخفض - ونقَموا - بالنصب - يقال: نقِم ينقَم، ونقَم ينقِم - بكسر القاف - فهو - واللَّه أعلم - يقول: ما طعنوا مني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما ذكروه بسوء إلا أن أغناهم اللَّه؛ لأنهم لو كانوا أهل فقر وحاجة ما اجترءوا على الطعن على رسول اللَّه وما ذكروه بسوء، ولكن طعنوا فيه لما أغناهم اللَّه. ويحتمل قوله: (وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ): ما عاملهم رسول اللَّه معاملة الكرام وتبسط إليهم حتى قالوا: إنه أذن يقبل العذر، فذلك الذي حملهم على الطعن. وقوله: (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ) فيه أن المنافق تقبل منه التوبة. (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) بما ذكرنا في الدنيا: الأمر بالجهاد والقتل والخوف، هذا التعذيب في الدنيا، والتعذيب في الآخرة. وقوله: (وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) قد ذكرنا هذا في غير موضع. * * * قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)

(75)

وقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ... (75) قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية في ثعلبة بن حاطب، سأل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يدعو اللَّه ليرزقه مالًا، وقال: (لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ). ومنهم من قال: إنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، أنه كان له أموال في الشام، فقال: لئن آتاني تلك الأموال لأصدقن وأكن من الصالحين، فقد آتاه اللَّه تلك الأموال، فبخل ومنع ما وعد. ومنهم من قال: نزلت في المنافقين جملة، ولكن ليست في شأن واحد منصوص مشار إليه، ولكن في المنافقين جملة، وهكذا كانت عادتهم أنهم إذا وعدوا شيئًا أخلفوا ولم يوفوا الوعد. ثم يحتمل قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ) أنه كان منافقًا وقت ما وعد اللَّه، ووعد الله لئن أتاه من فضله ليصدقن. ويحتمل أنه لم يكن منافقًا في ذلك الوقت، لكنه صار بما بخل وكذب واعتقد الخلاف واستحل الخُلْف لما وعد - منافقًا، فإن كان إنما صار منافقًا بما بخل واستحل الخلاف له والمنع؛ فيكون قوله: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ) أي: أعقبهم الدوام على النفاق إلى يوم القيامة ببخلهم ومنعهم ما وعدوا؛ فيكون هذا كقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ. . .) الآية. وفي قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ) إلى قوله: (بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ) دلالة أن النذور يلزم أهلها الوفاء بها، ويؤاخذون بها إن تركوا الوفاء، ويكفرون إن استحلوا نقض ما عاهدوا. وقوله: (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: من المؤمنين، فهو على تأويل من قال:

(76)

إنه كان منافقًا وقتئذ. ويحتمل (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي: من الشاكرين. وكذلك ذكر في الخبر أن ثعلبة لما سأل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يسأل اللَّه له مالًا فقال: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تؤدي حقه. أو كلام نحو هذا. وقوله: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) يحتمل: تولوا عن وفاء ما وعدوا، أو تولوا عن طاعة اللَّه، (وَهُمْ مُعْرِضُونَ): أيضًا عن طاعة اللَّه، أو معرضون عما وعدوا وعاهدوا أن يوفوا. وقوله: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) قَالَ بَعْضُهُمْ أثابهم نفاقًا بما بخلوا به إلى يوم القيامة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أعقبهم الدوام على النفاق (بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ). ينبغي للمسلم أن يجتنب الكذب والخلف في الوعد؛ فإنه سبب النفاق أو نوع من النفاق، وعلى ذلك روي في الخبر: " أن اجتنبوا الكذب؛ فإنه باب من النفاق، وعليكم بالصدق؛ فإنه باب من الإيمان "، وفي بعضها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أربع من كن فيه كان منافقًا: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر "، وفي بعضها: " وإذا اؤتمن خان ". فَإِنْ قِيلَ: إن أولاد يعقوب اؤتمنوا فخانوا، وحدثوا فكذبوا بقولهم: (أَكَلَهُ الذِّئْبُ) ووعدوا فأخلفوا، فترى أنهم نافقوا؟ قيل: ما روي أن من إذا حدث كذب هو الكذب في أمر الدِّين، وأما الكذب في غير أمر الدِّين فإنه لا يوجب النفاق. وفي الآية دلالة ألا ينص بالسؤال في شيء على غير الخبر في ذلك من اللَّه؛ ألا ترى أن ثعلبة لما ألح على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالسؤال أن يسأل ربه ليرزقه مالًا ففعل، فأعقبه اللَّه نفاقًا إلى يوم القيامة؟! ولأن أولاد يعقوب قد قدموا التوبة والإصلاح قِبَلَ صنيعهم الذي صنعوا على خوف منهم بما فعلوا والمنافقين، وأصله: أن اعتقاد الكذب، واستحلال الخلاف لما عهد، والخلف في الوعد - هو الموجب للنفاق، فأما ترك الوفاء على غير استحلال منه فلا يوجب ما ذكر، واللَّه أعلم.

(78)

وقوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) يحتمل هذا وجهين: أن قد علموا أن اللَّه يعلم سرهم ونجواهم؛ لكثرة ما يطلع رسوله على ما أسروا من الخلاف له وذكرهم السوء في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: ألم يعلموا أي: الذين نافقوا أن يعلموا أن اللَّه يعلم سرهم ونجواهم، فيطلع رسوله على سرهم ونجواهم فيتركوا الطعن في رسول اللَّه، وذِكْرِ ذلك والخلاف له. وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). أي: علام بالغيوب التي غابت عن الخلق، وإلا ليس شيء يغيب عنه، ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنده بمحل واحد. أو (عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، أي: علام بما يكون أبدًا في جميع الأوقات التي تكون. وفيه دلالة أنه عالمًا بما في الضمائر والسرائر وما كان غائبًا عن الخلق والغيب: هو ما علم أنه يكون له أنه كان ولم يزل عالمًا؛ لما ذكرنا. * * * قوله تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) وقوله: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ. . .) الآية. يشبه أن تكون الآية صلة قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ) إلى قوله: (وَتَوَلَّوْا). إن أهل النفاق كانوا أهل بخل لا ينفقون إلا مراءاة وسمعة، فظنوا بمن أنفق من المسلمين وتصدق ظنًّا بأنفسهم، فقالوا: إنهم أنفقوا وتصدقوا مراءاة وسمعة. وقد ذكر في بعض القصة أن عبد الرحمن بن عوف أتى بنصف ماله في غزوة تبوك يتقرب به إلى اللَّه، وقال: يا نبي اللَّه، هذا نصف مالي أتيتك به، وتركت نصفه لعيالي، فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يبارك له فيما أعطى وفيما أمسك، فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى إلا رياء وسمْعة. وجاء رجل آخر من فقراء المسلمين بصاع من تمر فنثره في تمر الصدقة، فقال له نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خيرًا ودعا له، فقال المنافقون: إن اللَّه لغني عن صاع هذا، فذلك لمزهم.

فأنزل اللَّه تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) يعني: الذي جاء بصاع. قَالَ الْقُتَبِيُّ: الذين يلمزون المطوعين، أي: يصيبون المتطوعين بالصدقة، (وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أي: طاقتهم، والجهد: الطاقة، قال: والجهد: المشقة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجهد: إنفاق الرجل من الشيء القليل، يقال: جهد الرجل، إذا كان من الضعف أو من الفقر. ويقال: جهد في العمل، يجهد جهدًا؛ إذا بالغ في العمل. قال أبو عبيد: الجهد مثل الوسع، والجهد: الطاقة، وكذلك قال أبو معاذ. وفي الآية معنيان: أحدهما: دلالة إثبات رسالة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه معلوم أن ما كان منهم من اللمز لم يكن ظاهرًا، ولكن كان سرًّا، ثم أخبرهم رسوله بذلك، دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه. والثاني: أن الأمور التي فيما بين الخلق إنما ينظر إلى ظواهرها، وإن كان في الباطن على خلاف الظواهر، حيث عوتبوا هم بما طعنوا فيهم بالرياء والسمعة؛ ليعلم أن الأمور التي فيما بين الخلق تحمل على ظواهرها، ولا ينظر فيها إلى غير ظاهرها، والحقيقة هو ما بطن وأسروا به يخلص العمل لله، والسر: هو ما يسر المرء في نفسه، والنجوى: هو اجتماع جماعة على نجو؛ من الأرض، أي: المرتفع من المكان. وقوله: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: إن من اعتذر إلى آخر فيقبل عنه، على علم من المعتذَر إليه أنه لا عذر له فيما يعتذر إليه، وأنه كاذب في ذلك - فقبول المعتذَر إليه ما يعتذر من المعتذِر: سخرية من المعتذَر إليه إلى المعتذِر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (سَخِرَ اللَّهُ مِنهُم) أي: يجزيهم جزاء السخرية؛ فسمى جزاءه باسم السخرية، وإن لم يكن الجزاء سخرية، كما سُمّي جزاء [السيئة: سيئة] (¬1)، وإن لم تكن الثانية [سيئة]، وكذلك سمي جزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الثاني اعتداء، فعلى ذلك سمي جزاء السخرية سخرية، وإن لم يكن سخرية. ¬

_ (¬1) في الكتاب المطبوع هكذا (السبة: سبة) ولعل الصواب ما أثبتناه بدليل قوله تعالى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا). اهـ مصحح النسخة الإلكترونية).

(80)

ويحتمل قوله: (سَخِرَ اللَّهُ مِنهُم) أي: سخر أولياء اللَّه منهم، فأضيف إليه، وكذلك يحتمل قوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)، أي: يستهزئ بهم أولياؤه، وهو قوله: (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا)، فذلك استهزاؤهم بهم، وذلك جائز في اللغة إضافة الشيء إلى آخر، والمراد منه غير مضاف إليه. وقوله: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) قال عامة أهل التأويل: إنه لما مات عبد اللَّه بن أبي أراد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي عليه، فأخذ عمر بن الخطاب بثوبه، فقال: أأمرك اللَّه بهذا؟ قال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) فقال: " قد خيرني ربي، افعل أو لا تفعل ". وفي بعض الروايات قال له عمر: لا تستغفر؛ فإن اللَّه قد نهاك عن هذا. فقال رسول اللَّه " إنما خيرني اللَّه فقال: استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على سبعين " أو كلام نحو هذا. فأنزل اللَّه عند ذلك: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)، لكن هذا يبعد أن يفهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الآية التخيير، وعمر يمنعه من ذلك، ولا يجوز أن يفهم التخيير في ذلك، أو يخرج ذلك على التحديد، أو تكون منسوخة بالتي في " المنافقين "؛ لأنه وعيد، والوعيد لا يحتمل النسخ. والوجه فيه - واللَّه أعلم -: إن استغفرت لهم فإن استغفارك ليس بالذي يرد فلا يجاب، لكنهم قوم كفروا باللَّه ورسوله، وقد تعلم من حكمي أني لا أغفر لمن مات على ذلك. على ذلك يخرج على الاعتذار لرسوله في ذلك، والنهي له عن الاستغفار لهم؛ كقوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) وقد علم شرك المنافقين وكفرهم باللَّه ورسوله؛ فنهاهم عن الاستغفار لهم؛ إذ لا يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يطلع رسوله على كفرهم؛ فدل على أنه بعد العلم بذلك نهاه. وفيه دلالة نقض قول المعتزلة في قولهم: " إن صاحب الكبيرة لا يغفر له "؛ لأنه أخبر أنه لا يغفر لهم بما كفروا باللَّه ورسوله؛ فدل أن من لم يكن كفر باللَّه ورسوله فإنه يغفر له، وأن له الشفاعة، وصاحب الكبيرة ليس بكافر، دل أنه ما ذكرنا.

(85)

ثم طلب المغفرة من اللَّه والشفاعة لو يجيء لا يكون إلا للخواص من الخلق وهم الرسل والأنبياء، على ما يكون في الشاهد لا يرفع إلى ملوك الأرض الحاجة ليقربهم إلا الخواص لهم ولا يشفعون إلا أهل الشرف عندهم والمنزلة، لكن اللَّه - تعالى - أذن لنا في استغفار غيرنا بقوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ). وقوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ). يحتمل قوله: (عَلَيْهِم) أي: سواء عندهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، ويكون طلب استغفارهم من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استهزاءً منهم به، حيث قال: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا)، يخرج قولهم: (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) مخرج الاستهزاء على هذا التأويل. ويحتمل قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) أي: سواء عند اللَّه أستغفرت لهم، أم لم تستغفر لهم - فإنه لا يغفر لهم بكفرهم باللَّه ورسوله. ثم قوله: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) يحتمل: ذَكَرَ السبعين؛ لأن السبعين هو النهاية والغاية في الاستغفار، على ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يستغفر في كل يوم سبعين استغفارًا، فأخبر: أنك وإن انتهيت النهاية فيه لا يغفر لهم ولا ينفعهم ذلك. وقوله (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ). وقت اختيارهم الفسق، أو لا يهديهم طريق الجنة في الآخرة؛ لفسقهم في الدنيا، إذا ماتوا على ذلك. * * * قوله تعالى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وقوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ. . .) الآية. جمعوا - أعني المنافقين - جميع خصال الشر التي فعلوا:

أحدها: ما ذكر من فرحهم بالتخلف عن رسول اللَّه. والثاني: كراهيتهم الجهاد مع رسول اللَّه وبخلهم بأموالهم. والثالث: صدهم الناس عن الجهاد والخروج في سبيل اللَّه بقولهم: (لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ). جمع اللَّه جميع خصال المنافقين في هذه الآية. وقوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ)، ذكر المخلفون، وهم كانوا متخلفين في الحقيقة، لكنه يحتمل وجهين: مخلفون خلفهم اللَّه لما ذكر أن خروجهم لا يزيدهم إلا خبالا، وأنهم يبغون الفتنة خلفهم عن ذلك؛ كقوله: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)، قيل: حبسهم؛ فعلى ذلك مخلفون خلفهم اللَّه لما علم أن خروجهم لا يزيدهم إلا خبالًا وفسادًا. ويحتمل: مخلفون خلفهم أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم لو أرادوا أن يخرجوهم كرهًا لقدروا على ذلك، فهم كالمخلفين من هذا الوجه لما لو أرادوا إخراجهم أخرجوهم، وإن كانوا متخلفين في الحقيقة. وقوله: (بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ) أي: مخالفة رسول اللَّه، وقرئ: (خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ)، أي: فرحوا لقعودهم بعد خروج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (بِمَقْعَدِهِمْ). يحتمل: القعود، أي: بقعودهم خلفه. ويحتمل: (بِمَقْعَدِهِمْ)، أي: موضع قعودهم، وهو منازلهم وأوطانهم، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم؛ لبخلهم وخلافهم الذي في قلوبهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) هذا في الظاهر يخرج على إظهار الشفقة للمؤمنين، ولكن لم يكونوا أرادوا ذلك؛ إنما أرادوا حبسهم عن الخروج في سبيل

(82)

اللَّه، لكن المؤمنين لا يمتنعون عن الخروج في سبيل اللَّه؛ إذ قالوا لهم مطلقًا: " لا تنفروا "، وهو كقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) كانوا يجبنون المؤمنين عن الخروج إلى الغزو، وكانوا يحتالون في منعهم المؤمنين عن الخروج في سبيل اللَّه، ولو أطلقوا القول في المنع وصرحوه لفهم المؤمنون ذلك، ولظهر نفاقهم. وجائز أن يكون قولهم: (لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) قالوا ذلك لأتباعهم، لا للمؤمنين؛ كقوله: (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) أي: لو كانوا يفقهون، ما أنزل على رسول اللَّه لعلموا أن نار جهنم أشد حرًّا من حر الدنيا. أو لو كانوا يفقهون أنهم لم يخلقوا في الدنيا للدنيا خاصّة، ولكن خلقهم فيها ليمتحنهم؛ لعلموا أن الموعود في الآخرة أشد مما امتحنوا في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) يشبه أن يكون الضحك كناية عن الفرح والسرور، والبكاء كناية عن الحزن؛ يقول: افرحوا وسروا قليلا، وتحزنون في الآخرة طويلًا كثيرًا. ويمكن أن يكون على حقيقة الضحك؛ لأنهم كانوا يضحكون ويستهزئون بالمؤمنين في الدنيا؛ يقول: ضحكوا قليلًا؛ لأن الدنيا قليلة تنقطع، ويبكون كثيرًا في الآخرة؛ لأنها لاتنقطع (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) دل قوله: (رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ)، أي: ليس كل من تخلف عنه في ذلك فهو منافق، ولا كل المنافقين امتههوا وتخلفوا عنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا). لأنه أخبر أن خروجهم معهم لا يزيدهم إلا خبالًا وفسادًا، فيقول: (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، أي: عوقبوا بالقعود أول مرة لنفاقهم. وقوله: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) أي: لن آذن لكم أن تخرجوا معي أبدًا، ولن آذن

(84)

لكم أن تقاتلوا معي أبدًا. ويحتمل: لن تخرجوا، أي: وإن أذنت لكم بالخروج فلن تخرجوا أبدًا. (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ). قيل: مع المتخلفين، وهم المنافقون؛ على ما ذكر. ويحتمل: أن اقعدوا مع أصحاب الأعذار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مع النساء والزمنى؛ وهو واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) يعني: المنافقين. (وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ). ذكر في بعض القصة أنه لما مات عبد اللَّه بن أبي، فجاء ابنه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول اللَّه، إن أبي مات وأوصانا أن نكفنه في قميصك، وأن تصلي عليه، فخلع النبي قميصه فأعطاه، ومشى فصلى، وقام على قبره. وروي في بعض الأخبار أنه صلى عليه، وألبسه قميصه، فقيل له: تلبس عدو الله قميصك، فقال: " إني لأرجو أن يسلم بقميصي من بني الخزرج ألف "، فذكر أنه لما

(85)

فعل ذلك أسلم ألف رجل من المنافقين. وروي أنه لم يصل عليه، فلا ندري كيف كان الأمر بعد أن جاء النهي. عن الصلاة على المنافقمن بقوله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)، سماهم فسقة، واسم الكفر أقبح وأذم، لكنهم جمعوا مع الكفر أنواع الفسق؛ ليعلم أن اعتقادهم الكفر والمذهب الذي يذهبون إليه إنما اعتقدوا لهواهم؛ إذ الفسق مما يحرمه كل أذي، مذهب ودين، وكل يأنف عن الفسق ويتبرأ منه، ولا كذلك الكفر؛ لأن كل من آمن بشيء كفر بضده، وأصل الفسق: هو الخروج عن الأمر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: إنه على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم في الدنيا إنما يريد اللَّه أن يعذبهم بها في الآخرة. وفيه نقض قول المعتزلة في الأصلح، وقد ذكرنا الوجه الذي يدل على نقض قولهم فيما تقدم. ويحتمل قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا): وهو القتال والحروب التي أمروا بها؛ كقوله: (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا). وهو التعذيب الذي ذكر؛ لأنهم يصيرون مقتولين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُم).

(86)

قيل: تذهب وتهلك (وَهُمْ كَافِرُونَ). * * * قوله تعالى: (وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ). أي: إذا أنزلت سورة فيها (أَن آمِنُوا بِاللَّهِ)، لا أنها تنزل سورة بهذا الحرف، ولكن فيها ذكر (أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ)، وهو كقوله: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ)، وقوله: (أَن آمِنُوا بِاللَّهِ) بقلوبهم؛ لأنهم قد أظهروا الإيمان باللسان، وهم لم يكونوا مؤمنين باللَّه حقيقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ). قيل: أولو الطول: هم أهل الغنى والسعة. وقيل: أولو الطول: أهل الفضل والشرف الذين كانوا يصدرون لآرائهم، وينظرون إلى تدبيرهم، وقد كان في أهل النفاق أهل السعة والغناء، وأهل النظر والتدبير. وقوله - عز وبرل -: (وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ). استأذنوا في القعود عن الجهاد - واللَّه أعلم - لما كانوا يوالون أهل الكفر سرًّا، فكرهوا القتال مع الأولياء، أو كانوا يتخلفون ويمتنعون عن الخروج إلى القتال؛ لفشلهم وبغيهم؛ لأنهم لم يكونوا يعملون لعواقب نتأمل إنما كانوا يعملون لمنافع حاضرة؛ لذلك كانوا يمتنعون عن الخروج إلى القتال، وأما أهل الإيمان: فإنهم إنما يعملون للعواقب، وكذلك أهل الكفر إنما يقاتلون أهل الإيمان إما غنيمة في العاقبة يتأملون، لكنهم كانوا يستأذنون في القعود، ويكونون مع القاعدين، يرون من أنفسهم أن لهم العذر في القعود. ثم قوله: (ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) يحتمل: مع القاعدين من الضعفاء والمرضى والصبيان، حتى إذا أتاهم العدو من بعد ما خرج الرجال منهم إلى قتال العدو، يقومون لدفع العدو عن هَؤُلَاءِ. أو يكون قولهم: ذرنا نكن مع القاعدين من أهل العذر، يرون أنفسهم أنهم أهل العذر،

(87)

ولم يكن لهم عذر في ذلك؛ كقوله: (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ)، الآية، فعلى ذلك الأول يحتمل هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) قيل: مع النساء، فهذا حرف تعيير وتوبيخ، أي: رضوا بأن يكونوا في مشاهد النساء دون مشاهد الرجال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ). أن للإيمان نورًا يبصر به عواقب الأمور، ويرفع الحجاب والستر عن القلوب وعن الأمور فتراها بادية ظاهرة، وللكفر ظلمة تستر الظاهر من الأمور والبادي منها، فتستر تلك الظلمة قلبه، فذلك الطبع، وقد ذكرنا الوجه فيه في غير موضع، واللَّه أعلم. (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ). ما يلحقهم من التعيير برضاهم بالقعود مع الخوالف، والفقه: هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره، منعت تلك الظلمة أن تعرف الأشياء بمعانيها وبنظائرها للحجاب الذي ذكرنا. * * * قوله تعالى: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) يقول - واللَّه أعلم -: إن الرسول والذين حققوا الإيمان والتصديق جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، أي: بذلوا أنفسهم وأموالهم لنصر دين اللَّه، وإظهار سبيله، ولم يبخلوا كما بخل أهل النفاق في بذل أموالهم وأنفسهم في نصر دينه بالمجاهدة مع أعدائه، ولم يحققوا الإيمان والتصديق؛ أخبر أن للمؤمنين الذين حققوا الإيمان والتصديق، وبذلوا أنفسهم وأموالهم، وجاهدوا بها في نصر دين اللَّه، وإظهار سبيله - لهم الخيرات. قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَهُمُ الْخَيْرَاتُ): بالذكر في الدنيا، والثناء الحسن، وسلوك الناس طريقهم، وفي الآخرة الثواب والجزاء. وقيل: الخيرات في الآخرة؛ لما بذلوا أنفسهم وأموالهم في نصر دينه، والمجاهدة مع

(89)

عدوه. وقيل: الخيرات: الحور العين؛ كقوله: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ)، والله أعلم. (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). المفلح: هو الذي يظفر بحاجته؛ يقال: قد أفلح، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) ليعلم أن الأعظم ليس يقع فيما فيه الغلظ والكثافة، ولكن القدر والمنزلة. * * * قوله تعالى: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: المعذرون هم الذين يستأذنون في القعود ولا عذر لهم في ذلك. وقال الكلبي: المعذرون هم الذين لهم عذر وبهم علة. وبعضهم قال: المعذرون: هم المعتدون. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قرأ " الْمُعْذِرُونَ " بالتخفيف،

وقال: لعن اللَّه المعذرين؛ كأنه ذهب إلى أن المعذر هو الذي له عذر، والمعذر بالتشديد: الذي لا عذر له؛ لذلك لعن المعذر. قال أبو معاذ: وأكثر كلام العرب المعذر الذي له عذر، وهو قولهم: قد أعذر من أنذر. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: - المعذر بالتشديد -: الذي لا يناصح، إنما يريد أن يعذر، ويقال: عذرت في الأمر: إذا لم تبالغ فيه، وأعذرت في الأمر، أي: بالغت فيه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: المعذرون - بالتشديد -: هم الذين لا يجدون أما ينفقون، إنما يعرضون ما لا يريدون أن يفعلوه؛ يقال: عذرت في الأمر: إذا قصرت، وأعذرت: جددت. ثم قال بعض أهل التأويل: دل هذا على أن أهل النفاق كانوا صنفين: صنف كانوا يستأذنون في القعود، وصنف لا يستأذنون، ولكن يقعدون بقوله: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ). دل قوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) على أن من أهل النفاق من قد آمن، وأن من تاب يقبل ذلك منه؛ لأنه قال: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ولم يقل: سيصيبهم عذاب أليم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعذرون - بالتخفيف -: هم المؤمنون الذين لهم عذر في التخلف، أتوا رسول اللَّه لينظر في أمرهم الأوفق: إن كان الخروج لهم أوفق يخرجون، وإن كان القعود أوفق يقعدون؛ يدل على ذلك الآية التي تتلو هذه وهي قوله " - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ

(91)

عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ) الآية. فَإِنْ قِيلَ: كيف احتمل أن تكون آية واحدة في فريقين مختلفين، إذا قرئ بالتخفيف فهي في الذين لهم عذر، وإذا قرئ بالتشديد فهي في الذين لا عذر لهم؟ قيل: تصير على اختلاف القراءة كآيتين في حالتين ووقتين مختلفين، إن كان تأويل المعذر بالتشديد هو الذي يعتذر ولا عذر له، والمعذر - بالتخفيف - هو الذي له عذر. أو كان تأويل إحدى القراءتين على ضد الأخرى كان لهم عذر في حال، ولا عذر لهم في حال أخرى، وإلا لا يحتمل أن تكون القراءتان جميعًا في وقت واحد، وتأويلهما على الاختلاف الذي ذكروا، وهو كقوله: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، و (ربُّنَا) بالرفع (بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) أحدهما: على الدعاء، والآخر: على الإيجاب، هما آيتان صارتا آية واحدة لاختلاف القراءة، واللَّه أعلم. وقوله: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) لو لم يذكر المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون، لكان المفهوم من قوله: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ) المرضى والذي لا يجد ما ينفق. وكذلك إذا ذكر المريض كان في ذكره ما يفهم منه كل ضعيف، وكل ما لا يجد ما ينفق.

وفي كل حرف من هذه الحروف ما يفهم منه معنى الآخر، فلما ذكر دل أن المراد من ذكر الضعفاء الزمنى؛ من نحو الأعمى والأعرج، فكان كقوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ)، فتكون الآيتان واحدة؛ أعني: معناهما واحد. وفيه دلالة أن ليس في ذكر عدد من الأشياء حظر دخول غير المذكور في حكم المذكور إذا كان في معناه؛ ولهذا قال أصحابنا: إنه ليس فيما ذكر رسول اللَّه عدد في الربا بقوله: " والحنطة بالحنطة، والذهب بالذهب، والفضل ربا " على أنه لا لمعنى ورد،

ولا يدخل فيه ما لم يذكر؛ لما ذكرنا أنه لو ذكر الضعفاء لذكر المريض، والأعمى، والأعرج، وجميع من ضعف عن الخروج من أنواع الأعذار، ثم لم يدل ما ذكر من العدد وتخصيصه على أنه لا لمعنى ذكر؛ فعلى ذلك خبر الربا.

ثم جعل العمى والعرج والمرض وعدم النفقة ونحوه عذرًا في ترك الخروج، ولم يجعل شدة الحر وبعد المسافة ونحوه عذرا بقوله: (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا).

(92)

وأصله - واللَّه أعلم -: أن كل ما لم يعمل في المنع عن الخروج لشهوة، أو لطمع يرجو نيله من التجارة ونحوها - لم يكن ذلك عذرًا في ترك الخروج؛ إذ شدة الحر وبعد السفر وخوف العدوّ مما لا يمنعهم عن الخروج للتجارة، فلم يصر ذلك عذرًا في التخلف عن الخروج للجهاد، وأما حال المرض والزمانة وعدم النفقة فيمنعهم ويعجزهم عن الخروج في كل ما يهوون ويشتهون، فصار ذلك عذرًا لهم بالتخلف عن الخروج للجهاد. والثاني: أن كل ما يقدر على دفعه بحال لم يجعل ذلك عذرًا في التخلف، وكل ما لا سبيل لهم إلى دفعه فهو عذر، والحر وبعد السفر وخوف العدو يجوز أن يدفع فيصير كأن ليس، وهو ما ذكر: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا)، فإذا ذكر شدة حر جهنم وبعد سفر الآخرة وأهواله، وإن عليه الخروج وسهل، فارتفع ذلك؛ فلذلك صار أحدهما عذرًا والآخر لا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ). قيل: لم يخدعوا أحدًا في دينه، ولم يغشوه في دنياه. وقيل: (إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)، أي: أطاعوا اللَّه ورسوله في الحضرة، ولم يتركوا طاعته. وقوله: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي: ما على المحسنين من سبيل في تركهم الخروج إذا لم يقدروا على الخروج؛ لما ذكرنا من الزمانة وعدم ما ينفقون، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). بتركهم الخروج وتخلفهم عن الجهاد مع أصحاب الأعذار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)

(93)

ذكر في بعض الأخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لولا أن أشق على أمتي - أو قال: على المؤمنين - وإلا لخرجت في كل سرية بعثتها "؛ لأنهم لا يجدون ما ينفقون فيخرجون ولا أجد ما أحملهم عليه، فيشق عليهم مفارقتهم إيانا، فلا حرج بتركهم الخروج إذا لم يجدوا ما ينفقون ولا ما يحمل عليه. * * * قوله تعالى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) ثم قال: ولكن السبيل على الذين يجدون ما ينفقون فيتركون الخروج بقوله: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ)، يعني: النساء، (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، هذا قد ذكر هاهنا (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، وذكر في الآية الأولى: (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ). والفقه: هو معرفة الشيء بغيره، والعلم: هو وقوع العلم لا بغيره؛ ولذلك يقال: الله عالم، ولا يجوز أن يقال: فقيه، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم لا عرفوا الشيء بغيره ولا بنفسه؛ عنادًا منهم ومكابرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) فيه إنباء عما يقول لهم المنافقون إذا رجعوا إليهم، وتعليم من اللَّه لرسوله والمؤمنين ما يقولون لهم، وماذا يجيبون عليهم فقال: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ)، أي: لن نصدقكم بما تعتذرون، أي: بما تظهرون لأنفسكم من العذر.

(95)

وقوله: (لَا تَعْتَذِرُوا) ليس على النهي، ولكن على التوبيخ والتعيير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ). يحتمل قوله: (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ): أنكم لا تصلحون أبدًا؛ كما قال: (إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) الآية، أخبر أنهم رجس وأن مأواهم جهنم. وقيل: (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ، حين قال لهم: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا. . .)، إلى قوله: (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ)، قالوا: وهذا الذي نبأنا اللَّه من أخباركم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: سيرى اللَّه عملكم ورسوله فيما تستأنفون. ويحتمل قوله: (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ). أي: سيرى اللَّه ورسوله عملكم باطلًا. أو يقول: سيرى اللَّه عملكم، أي: يجزيكم جزاء عملكم، ورسوله والمؤمنون يشهدون عليكم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). قد ذكرنا أنه ليس شيء يغيب عنه، أو يكون شيء عنده أظهر من شيء، ولكن ما يغيب عن الخلق وما لا يغيب عنده بمحل واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). يخرج على الوعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يحتمل قوله: (لِتُعْرِضُوا)، أي: لتجاوزوا عنهم ولا تكافئوهم، فيكون قوله: (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) لما سألوا من المجاوزة عنهم وترك المكافأة. ويحتمل قوله: (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ)، أي: لا تحاجهم ولا تشتغل بهم؛ فإنهم

(96)

لا يصلحون أبدًا، (إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) وتقبلوا منهم ما يظهرون من العذر، ثم أخبر أنكم إن رضيتم عنهم وقبلتم ما يذكرون من عذرهم فإن اللَّه لا يرضى عنهم؛ لما يعلم أنه لا عذر لهم فيما يظهرون لكم من العذر، واللَّه أعلم. ليس على النهي عن إرضاء أُولَئِكَ؛ لأن إرضاء الخلق بعضهم لبعض إنما يكون بالحلف، وما يكون من الظاهر، ولكن النهي عن ترك الموافقة في الباطن، وفيه يتحقق رضاء اللَّه. * * * قوله تعالى: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا) يحتمل هذا وجهين: يحتمل: طائفة من الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا، وهو أن رسول اللَّه دعا كفار المدينة ومنافقيها، فأيأس عن إيمانهم بقوله: (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ. . .) الآية، فلما أيس عن إيمان هَؤُلَاءِ، أقبل نحو طائفة من الأعراب الذين كانوا بقرب المدينة وحواليها، فأخبر أنهم أشد كفرًا ونفاقًا من أهل المدينة. ويحتمل أنه أراد الأعراب جملة أنهم أشد - أي: الكفار منهم وأهل النفاق - كفرًا ونفاقا من أهل الأمصار والمدائن، فهو لوجهين: أحدهما: أن أهل الأمصار والمدن كانوا يسمعون الآيات والحجج، ويخالطون أهل رحمة ورأفة، وأهل مودة، وأما الأعراب وأهل البادية فكانوا لا يسمعون الآيات

والحجج، ولا خالطوا أهل رحمة ورأفة، فهَؤُلَاءِ أقسى قلوبًا وأضيق صدورًا وأهل المدن والأمصار ألين قلوبًا وأوسع صدورا، فهم أسرع للإجابة وأُولَئِكَ أبعد وأبطأ إجابة. والثاني: أنهم وصفوا بأهل الجهل ما لم يوصف أهل المدن والأمصار، بذلك ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يؤمنكم أعرابي "، وفي بعضها: " لا يؤمن أعرابي مهاجرًا "، وفي بعض الأخبار: " من بدا جفا "؛ وذلك - واللَّه أعلم - لأنهم كانوا لا يدخلون الأمصار والمدن ليتأدبوا ويتعلموا الآداب، فإذا كانوا كذلك فهم أجهل، والإيمان هو التصديق، والتصديق إنما يكون بعد العلم؛ لأنه ما لم يعلم لم يصدق، فإذا كانوا بالجهل ما وصفنا، كانوا أشد إنكارًا وتكذيبًا من غيرهم، وهو ما ذكر: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ)، وصفهم بالجهل، وبالجهل يكون التكذيب، وبالعلم يكون التصديق، وهو ما ذكرنا. وأجدر وأخلق وأحرى واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هم أقل علمًا بالسنن. وقيل: بالفرائض. ويقال: الحدود ما بين من طاعة اللَّه ومعصيته. وأصله: أنهم أهل جهل بجميع الأوامر، والمناهي، وجميع الآداب، وما لا يحل وما يحل. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ).

(98)

أي: على علم بما يكون منهم خلقهم. (حَكِيمٌ). حيث وضع الخلائق بموضع يدل على وحدانيته وألوهيته، لو تدبروا فيه ونظروا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) أي: كان لا ينفق حسبة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ينفق ولا يراه حقا، إنما يراه غرمًا يلحقه، وغرما يغرمه. وأصله: أنهم لو كانوا علموا حقيقة أنهم وما حوته أيديهم لله ليس لهم، لم يعدوا ذلك غرمًا وتبعة ألحقتهم، ولكن لما لم يروا لله تعالى في أموالهم حقّا ولم يعلموا أن أموالهم لله حقيقة لا لهم عدوا ذلك غرمًا وتبعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ). قيل: الدوائر: هو انقلاب الأمر، وهو من الدوران. ثم يحتمل قوله: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ): ما قَالَ بَعْضُهُمْ: موت مُحَمَّد. وقيل: دوائر الزمان وحوادثها. (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ)، أي: عليهم انقلاب الأمر وعليهم ما تربصوا على المؤمنين. وقوله: (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ). ليس على حقيقة الإنزال من موضع، ولكن على خلق ذلك؛ كقوله: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ) (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا). وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ): لما قال، (عَلِيمٌ): بما أسروا وأضمروا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) ذكر في الآية أن من الأعراب من يؤمن باللَّه واليوم الآخر ليعلم أن قوله: (الْأَعْرَابُ

أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا) كان في طائفة مشار إليها، لا كل الأعراب؛ لأنه ذكر - هاهنا - أن منهم من ينقق ويتخذ ما ينفق قربات عند اللَّه، وذكر في الآية الأولى أن منهم من يتخذ ما ينفق مغرما، أي: لا يراه حقّا واجبًا، ولكن غرما يلحقه، ومنهم من يرى ذلك حقًا لله واجبًا في أموالهم، فيجعلون ذلك قربة لهم عند اللَّه، وأُولَئِكَ يرونه غرمًا لحقهم، لا قربة. ثم في الآية خوف دخول المؤمنين في وعيد هذه الآية، الذين لا يؤدون الزكاة، ولا ينفقون، وخوف لحوق النفاق؛ لأنه أخبر أنهم يتخذون ما ينفقون مغرمًا، فمن ترك أداءه إنما يتركه؛ لأنه لا يرى ذلك حقّا؛ لأنه لو رأى ذلك حقا واجبًا لأداه على ما أدى غيره من الحقوق، أو لو كان موقنًا بالبعث لأنفق وجعل ذلك قربة له عند اللَّه؛ لأن المؤمن إنما ينفق ويعمل للعاقبة، فإذا ترك ذلك يخاف دخوله في وعيد الآية، ولحوق اسم النفاق به، وإن كنا لا نشهد عليه بذلك. وقوله: (وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: جعلوا ما أنفقوا قربات عند اللَّه بصلوات الرسول؛ لأنهم إذا أنفقوا كان الرسول يدعو لهم بذلك ويستغفر، فكان ذلك لهم قربات عند اللَّه باستغفار الرسول ودعائه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جعلوا ما أنفقوا وصلوات الرسول قربات عند اللَّه، ويكون لهم ما أنفقوا قربة عند اللَّه، وصلوات الرسول طمأنينة لهم وبراءة من النفاق؛ لأن الرسول كان لا يدعو لأهل الكفر والنفاق، فإذا دعا لهَؤُلَاءِ وصلى عليهم كان ذلك طمأنينة لقلوبهم، وعلمًا لهم بالبراءة من النفاق؛ وعلى ذلك يخرج قوله: (إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). أي: تسكن قلوبهم بصلاة الرسول وتطمئن بأنهم ليسوا من أهل النفاق، وأنهم برآء من ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ). ذكر هذا مقابل ما ذكر في الآية الأولى، وهو قوله: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) أخبر - هاهنا - أن ما يتربصون هم بهم من الدوائر عليهم ذلك، وهاهنا أخبر أن ما ينفق المؤمنون ويطلبون بذلك قربة عند اللَّه أنها قربة لهم. ثم وعدهم الجنة بقوله: (سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ)، أي: جنته، سمى جنته رحمة؛

(100)

لما برحمته يدخلون، لا استيجابًا لهم منه بذلك، بل رحمة منه وفضلًا. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): لما كان منهم من المساوئ والشرك إذا تابوا وآمنوا، (رَحِيمٌ): حيث لم يؤاخذهم بذلك. * * * قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ). يحتمل هذا أن يكون مربوطًا معطوفًا على قوله: (سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ) مع السابقين الأولين، أي: أُولَئِكَ الذين آمنوا من بعد أُولَئِكَ المهاجرين والأنصار يدخلهم في الجنة مع السابقين الأولين. ويحتمل أن يكون على الابتداء، لا على العطف على الأول، ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: السابقون الأولون في الإسلام والنصرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأولون في الهجرة والنصرة. (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) أي والذين اتبعوا أُولَئِكَ في الإسلام على تأويل من جعل السابقة في الإسلام، وعلى تأويل من جعل على الهجرة اتبعوهم بإحسان فريقين: المهاجرين والأنصار، ولا يجعل طبقة ثالثة، وأمّا قراءة العامة من القراء فهي على إثبات الواو، وجعل طبقة ثالثة. ثم منهم من قال من أهل التأويل: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار:

الذين بايعوا بيعة الرضوان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السابقون إلى الإسلام: الأولون من المهاجرين والأنصار الذين صلوا إلى القبلتين، والذين اتبعوهم على دينهم إلى يوم القيامة بإحسان. ثم خصوص تسمية أهل المدينة أنصارًا وإن كانوا هم والمهاجرون جميعًا نصروا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكانوا أنصارًا له؛ فهو - واللَّه أعلم - لأنهم نصروا المهاجرين؛ حيث آووهم، وأنزلوهم في منازلهم وأوطانهم، وبذلوا لهم أنفسهم وأموالهم، وإن كانوا جميعًا في النصر لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شرعًا سواء. ثم في الآية دلالة الرد على الروافض؛ لأنهم يجعلون أبا بكر، وعمر، وهَؤُلَاءِ - رضي اللَّه عنهم - ظلمة، على الحق بتوليهم أمر الخلافة والإمامة؛ لأنه معلوم أنهم

(101)

كانوا فيما ذكر عَزَّ وَجَلَّ من المهاجرين والأنصار. ثم أخبر أن اللَّه راضٍ عنهم، وأنهم راضون عنه، دل أنهم كانوا على حق وصواب من الأمر، وأن من وصفهم بالظلم والتعدي هو الظالم. والمتعدي: واضع الشيء غير موضعه. وفيه دلالة جواز تقليد الصحابة والاتباع لهم، والاقتداء بهم؛ لأنه مدح - عز وجل - من اتبع المهاجرين والأنصار بقوله: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ)، ثم أخبر عن جملتهم أن اللَّه راضٍ عنهم دل - واللَّه أعلم - أن التقليد لهم لازم، والاقتداء بهم واجب، وإذا أخبروا بخبر أو حدثوا بحديث يجب العمل به، ولا يسع تركه، واللَّه أعلم بذلك. * * * قوله تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) وقوله: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ). أحنبر أن من حولهم من الأعراب ومن أهل المدينة -أيضًا- منافقون مردوا على النفاق، فقَالَ بَعْضُهُمْ: المرد في الشيء: هو النهاية في الشر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ)، أي: ثبتوا عليه وداموا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَرَدُوا) أي: عتوا عليه وبالغوا فيه. أخبر أنهم لشدة مكرهم وخداعهم وعتوهم (لَا تَعْلَمُهُمْ): أنت، (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)؛ لأن من المناففين من كان يعرفهم الرسول في لحن القول؛ كقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ومنهم من كان يعرفهم في صلاته؛ كقوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى)، ومنهم من كان يعرف نفاقه في تخلفه عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعني: عن الغزو - فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن هَؤُلَاءِ لشدة عتوهم ومكرهم وفضل خداعهم لا تعرف نفاقهم، نحن نعرف نفاقهم. ثم أخبر أنه سيعذبهم مرتين؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: القتل والسبي. وعن الحسن قال: عذاب في الدنيا وعذاب في القبر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعذبهم بالجوع والقتل. وقال أبو بكر الأصم: قوله: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) القتل والسبي قبل الموت، والعذاب الآخر يعذبون في القبر (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ). ويشبه أن يكون تعذيبه إياهم مرتين؛ حيث أخذوا بالإنفاق على المؤمنين وبينهم وبين المؤمنين عداوة، وأمروا أيضًا بالقتال مع الكفار وهم أولياؤهم؛ هذا أحد العذابين؛ لأنهم أمروا بالإنفاق على أعدائهم، وأمروا -أيضًا- أن يقاتلوا أولياءهم، والعذاب الثاني: القتل في القتال. فَإِنْ قِيلَ: لم يذكر أن منافقًا قتل. قيل: لم يذكر لعلة أنهم كانوا لا يعرفونهم؛ لقوله (لَا تَعْلَمُهُمْ)، فإذا لم يعرفوا فيقتلون كما يقتل غيرهم من المؤمنين، واللَّه أعلم.

(102)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: سنعذبهم مرتين: عند الموت ضرب الملائكة الوجهه والأدبار؛ كقوله: (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)، وفي القبر منكر ونكير (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ): في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) قال عامة أهل التأويل: الآية نزلت في أبي لبابة وأصحابه، تخلفوا عن غزوة تبوك عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فندموا على ذلك، واعترفوا، ورجعوا عن ذلك، وتابوا، فقبل الله توبتهم، ووعدهم المغفرة بقوله: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وذكر في بعض القصّة أنه لما رجع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن غزوته تلك جاء هَؤُلَاءِ الذين تخلفوا عنه بأموالهم إلى رسول اللَّه، فقالوا: يا رسول اللَّه، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فخذها فتصدق بها عنا، فكره أن يأخذها، فقال: " لم أومر بذلك "، فنزل: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ)، وهذا الوعد لكل مسلم ارتكب ذنبًا لم يخرجه من الإيمان، ثم ندم على ذلك وتاب يرجو - واللَّه أعلم - أن يكون في وعد هذه الآية؛ لأنه ذكر المؤمنين وما هم عليه، وذكر المنافقين وما هم عليه، ثم ذكر الذين خلطوا أعمالهم الصالحة بأعمالهم السيئة ثم ندموا على ذلك وتابوا، وعد اللَّه لهم قبول التوبة والمغفرة.

(103)

قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) اختلف في هذه الصدقة التي أمر اللَّه رسوله بأخذها من أموالهم: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي صدقة فريضة، ثم اختلف فيها أية فريضة هي؟ فقَالَ بَعْضُهُمْ: فريضة زكاة الأموال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي فريضة كفارة المآثم، وذلك أن أُولَئِكَ الذين تخلفوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك ندموا على تخلفهم، فلما رجع رسول اللَّه جاءوا بأموالهم فقالوا له: تصدق بأموالنا عنا؛ فإن أموالنا هي التي خلفتنا عنك، فأمر اللَّه رسوله أن يأخذ منهم ذلك ويتصدق به كفارة لما ارتكبوا. ومن قال: هي فريضة زكاة المال؛ لما روي عن أبي أمامة قال: إن ثعلبة بن حاطب أتى رسول اللَّه فقال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يرزقني مالًا، قال رسول اللَّه: " ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه "، ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يرزقني مالًا، قال: " ويحك يا ثعلبة! أما أترضى أن تكون مثل، رسول اللَّه لو سألت اللَّه أن يسيل الجبال عليَّ ذهبًا لسالت "، ثم أتاه فقال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يرزقني مالًا، فواللَّه لو أتاني اللَّه مالًا لأوتين كل ذي حق حقه. فدعا له فقال: " اللهم ارزق ثعلبة مالًا " ثلاث مرات، وذكر أنه اتخذ غنمًا، فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت

عليه أزقة المدينة، فتنحى بها، وكان يصلي الصلوات كلها مع رسول اللَّه ويخرج إليها، ثم ضاقت عليه بها مراعى المدينة فتنحى بها فكان يصلي الظهر والعصر مع رسول اللَّه ثم يتبعها، ثم تنحى بها، فكان يصلي الجمعة مع رسول اللَّه ثم يتبعها، ثم بلغ أمره إلى أن ترك الجمعة والجماعات، فتنحى بها ويتلقى الركبان فيسألهم عن الخبر وعما أنزل على رسول اللَّه فأنزل اللَّه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً. . .) الآية، فبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الصدقة رجلين فكتب لهما فرائض الصدقة، وأمرهما أن يسعيا في الناس ويأخذا صدقاتهم، وأن يمرَّا بثعلبة ورجل من بني سليم فيأخذا صدقاتهما، فخرجا بصدقات الناس، فمرا بالسلمي فأقراه كتاب رسول اللَّه فأطاع بالصدقة، ومرَّا بثعلبة فأقرآه كتاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: واللَّه ما أدري ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية، فإذا فرغتما فمرَّا بي حتى أرى رأيي، فلما فرغا من الناس مرَّا به فقال لهما مثل، مقالته الأولى، وقال: انطلقا فإني سألقى رسول اللَّه، فأنزل اللَّه: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ. . .)، إلى قوله: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا)، إلى هذا ذهب عامة أهل التأويل أنها نزلت في شأن ثعلبة. ومنهم من قال ما ذكرنا أنها نزلت في شأن أهل تبوك الذين تخلفوا عن رسول اللَّه. ومنهم من قال: الصدقة التي أمر اللَّه رسوله أن يأخذها من أموالهم هي صدقة تطوع وتبرع، وهو ما ذكر أن رسول اللَّه كان يحث الناس على الإنفاق في غزوة تبوك، فجاء عبد الرحمن بن عوف بكذا، وفلان بكذا، فأخذها منهم، وفيه نزل قوله: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ). ومنهم من قال: هو في كل صدقة تطوع، قلَّت الصدقة أو كثرت، أمر رسوله أن يأخذ من أموالهم ما رأى لا يأخذ الكل؛ لأن أخذ الكل يحوجهم ويشغلهم عن جميع الطاعات

والعبادات، ولكن أمر أن يأخذ قدرًا منها وطائفة، مقدار ما يكفر ما ارتكبوا من المآثم. وقوله: (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا). إن كانت صدقة الزكاة، فهي تطهر آثامهم وتزكي أخلاقهم حتى يتيسر عليهم إخراج الصدقة وأداؤها إلى أهلها، وإن كان صدقة كفارة لمن تخلف عن غزوة تبوك، فهي تكفر آثامهم التي لحقتهم بذلك (وَتُزَكِّيهِمْ). قيل: وتصلحهم، وهو ظاهر. وإن كانت صدقة تطوع فهي مما يطهرهم أيضًا، ويزكيهم؛ لما ينفي عنهم البخل، ويؤدي إلى الجود والكرم؛ ألا ترى أنه مدح من أعطى، وذم من بخل ومنع بقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. . .)، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ. . .) الآية. وقوله: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا أتى أحد بصدقة دعا له ويستغفر، وكان لا يستغفر لأهل النفاق، وكانت قلوبهم تسكن وتطمئن باستغفار النبي؛ لما علموا بذلك أنهم ليسوا من أهل النفاق؛ هذا يحتمل. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن اللَّه أمر رسوله أن يستغفر لهم ويصلي عليهم، ثم لا يحتمل أن يأمره بذلك فلا يفعل، أو يفعل فلا يجيبه، فكانت قلوبهم تسكن، وتطمئن باستغفار النبي لهم لما قبلت توبتهم، وكفرت سيئاتهم، واللَّه أعلم. (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). قد ذكرنا هذا غير مرة.

وفي قوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) دلالة أن الصدقة إذا وقعت في يد المتولي والعامل عليها سقطت عن أربابها، وإن لم تقع في أيدي الفقراء ولم تصل إليهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يحل له الصدقة، ثم أخبر أنه إذا أخذها منهم كانت طهارة لهم وتزكية. وفيه استدلال لمُحَمَّد بن الحسن في الوقف؛ أن الوقف إذا وقف وأخرجه من يده وجعله في يد آخر ممن لا حق له في ذلك كان جائزًا، وكان وقفًا صحيحًا.

ومن الناس من استدل بهذه الآية على أن للإمام أن يطالب بزكاة الأموال، وكذلك

مضت السنة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في بعث المصدقين إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق لأخذ صدقات الأنعام والمواشي في مواضعها، وعلى ذلك فعل الأئمة من بعد: أبو بكر، وعمر، والأئمة الراشدون، وظهر العمل بذلك من بعدهم إلى هذا الوقت، حتى قال أبو بكر لما امتنعت العرب من إعطائه الزكاة: واللَّه لو منعوني عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حاربتهم عليها. فذلك يؤيد ما ذكرنا من مطالبة الإمام أصحاب الأنعام والمواشي بزكاة أنعامهم ومواشيهم. وقد بين اللَّه تعالى وجوب ذلك بيانًا شافيًا بقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) الآية، فجعل للعاملين عليها حقًّا، فلو لم يكن على الإمام أن يطالب بصدقات الأنعام في أماكنها، وكان أداء ذلك إلى أرباب الأموال؛ ما كان لذكر العاملين وجه، ولم يبلغنا أن النبي بعث في مطالبة المسلمين بزكاة الورِق وأموال التجارة،

(104)

ولكن الناس كانوا يعطون ذلك، ومن حمله منهم إلى الأئمة يقبلون ما يحمل إليهم منه، ولا يسألون أحدًا عن مبلغ ملكه، ولا يطالبون به إلا ما كان من توجيه عمر العشار في الأطراف، وكان ذلك منه عندنا - واللَّه أعلم - للتخفيف عمن بعد عن داره، وشق عليه أن يحمل صدقته إلى إمامه، فجعل في كل طرف من الأطراف عاشرًا لتجار أهل الحرب والذمة، وأمره أن يأخذ من تجار المسلمين ما يدفعونه إليه، وكان ذلك من عمر تخفيفًا على المسلمين؛ لأنه ليس على الإمام مطالبة أرباب الأموال بأموال العين وأموال التجارة بأداء الزكاة سوى المواشي والأنعام، فإن مطالبة ذلك إلى الأئمة إلا أن يأتي أحد منهم الإمام بشيء من ذلك، فيقبله منه ولا يتعدى ما جرت به السنة إلى غيره، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) يحتمل قوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا)، أي: قد علموا أن اللَّه يقبل توبة من تاب. ويحتمل على الأمر، أي: اعلموا أن اللَّه هو يقبل التوبة عن عباده. ويحتمل قوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) أي: قد علموا (أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) ممن تاب.

(105)

(وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ)، قيل: يقبل. ويشبه إضافة الأخذ إلى نفسه إضافته إلى رسوله بقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) وذلك كثير في القرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) قال أبو بكر الأصم: التواب هو صفة العافي، وهو اسم للتائب. والتواب عندنا: هو الموفق للتوبة. ثم الكافر إذا أسلم وتاب لم يلزم مع التوبة كفارة أخرى سوى التوبة، وإن كان ارتكب مساوئ وفواحش سوى الشرك والكفر، والمسلم إذا ارتكب مساوئ لزمته التوبة والكفارة جميعًا؛ وذلك لأن المسلم لما أسلم اعتقد حفظ ما لزمه من الشرائع، فإذا ارتكب ما ذكرنا خرج عن شرائعه وأدخل نقصانًا فيما اعتقد حفظه، فإذا ترك حفظه وأدخل فيه النقصان، لزمته الكفارة يجبر بها النقصان الذي أدخل فيه، وأما الكافر فليس عليه شيء من الشرائع، إنما عليه أن يتوب عن الشرك ويأتي بالإيمان؛ لذلك افترقا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في الذين كانوا تخلفوا عن تبوك، ثم ندموا وتابوا عن ذلك، فتاب اللَّه عليهم؛ يقول: اعملوا فسيرى اللَّه عملكم ورسوله والمؤمنون، أي: إن عدتم إلى ما عنه تبتم - وهو التخلف - يطلع اللَّه رسوله والمؤمنون على ذلك (وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي: تردون إلى ما أعد لكم في عالم الغيب والشهادة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في المنافقين؛ يقول: اعملوا فيما تستأنفون؛ فإن اللَّه يطلع رسوله والمؤمنين على نفاقكم فتفتضحون، حيث يطلعون على سرائركم. (وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). أي: تردون إلى ما أعد لكم في عالم الغيب والشهادة. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). أي: يجزيكم جزاء ما كنتم تعملون؛ يخرج ذلك على الوعيد. وذكر في بعض الأخبار أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شهد جنازة والمؤمنون -أيضًا- شهدوها، فأثني عليها، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وجبت "، فقيل: يا رسول اللَّه، ما وجبت؟ قال: " الملائكة شهداء اللَّه في السماء وأنتم شهداء اللَّه في الأرض، فإذا شهدتم وجبت ". ثم قرأ قوله: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ). فإن ثبت هذا ففيه دلالة جواز حجة الإجماع؛ لأنه قال: " الملائكة شهداء اللَّه في

(106)

السماء، وأنتم شهداء اللَّه في الأرض فإذا شهدتم وجبت، "، فإذا شهدوا على شر فهو شر، وإذا شهدوا على خير فهو خير، فعلى ذلك إذا شهدوا على حكم يلزم العمل به. وقوله: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ). ليس على الأمر أن يقول لهم جميعًا: اعملوا كذا، ولكن أن كل من بلغته هذه الآية يتفكر فيها ويتدبر، فلا يقدم على عمل، لا يستحسنه أن يكون رسول الله والمؤمنون بحضرته فإذا خلا به لا يعمله، وكذلك قوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، ليس على الأمر بالسير على الأرض، ولكن على الأمر بالتفكر والتدبر فيما نزل بهم بالتكذيب، وكذلك قوله: (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، ليس على الأمر أن يقول لهم ذلك، ولكن يتفكر كل فيه أنه واحد. قوله تعالى: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا)

كانوا موقوفين محبوسين، لا يدرون ما يحكم اللَّه فيهم، أيعذبهم أو يتوب عليهم؛ فنزل قوله: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا) كانوا اتخذوا مسجدًا فكانوا مرجون لأمر اللَّه، ثم بين أن اتخاذهم المسجد ضراراً، (وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) قال: هم الثلاثة الذين خلفوا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) أي: محبوسون: يقال: أرجيته: أي حبسته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: مرجون لأمر اللَّه، أي: مرجون على أمره؛ كأن هذه الآية نزلت في الذين تخلفوا عنه للركون إلى الدنيا ورغبة فيها، وهم المؤمنون، والآية التي كانت قبل هذه الآية في المنافقين الذين تخلفوا للركون إلى الدنيا وكفرًا ونفاقًا. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

(107)

وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ... (107) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن المنافقين اتخذوا مسجدًا، فلما فرغوا منه جاءوا إلى نبي اللَّه وهو يتجهز لغزوة تبوك، فقالوا: يا رسول اللَّه، بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة، وإنا نحب يا رسول اللَّه أن تأتينا فتصلي فيه، قال رسول اللَّه: " إنا على سفر وحال شغل، ولو قدمنا من سفرنا أتيناكم فصلينا لكم فيه إن شاء اللَّه "، فأنزل اللَّه على رسوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا. . .) الآية؛ أخبر فيه أنهم لم يقصدوا ببناء مسجدهم ذلك ما ذكروا؛ إنا بنينا مسجدًا، لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة، والإشفاق على الدِّين، وحفظ الصلاة بالجماعة، ولكن يقصدون به ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين. وقوله: (ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ). يكون قوله: (وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) تفسيرًا لقوله: (ضِرَارًا)، يقصدون ببناء المسجد الذي بنوا ريبة أن يفرقوا بين المؤمنين وبين رسول اللَّه، حتى إذا جاءهم العدو وجدهم متفرقين، فيكون أيسر وأهون عليهم في الكسر عليهم، والظفر بهم من أن كانوا مجموعين. روي عن رسول اللَّه كيوإنه قال: " لن يغلب اثنا عشر ألفًا كلمتهم واحدة ". وقوله: (وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)، جعل الاجتماع في الدِّين نعمة، ونهاهم عن التفرق وهم كانوا يقصدون قصد التفريق بينهم؛ لما ذكرنا، أو كانوا يقصدون بذلك أن يفرقوا بين ضعفة من المؤمنين وبين رسول اللَّه، فيلبسوا عليهم الدِّين؛ لأنهم كانوا أهل لسان وجدل، وذلك كله كفر على ما ذكر. وفيه دلالة إثبات رسالة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه معلوم أنهم أسروا وأضمروا فيما بينهم

الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين، فأطلع اللَّه نبيه على ما أسرّوا؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). أي: بنوا ذلك المسجد إِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قال عامة أهل التأويل: هو أبو عامر؛ ذكر أن أبا عامر حارب رسول اللَّه، ثم فرّ

منه، فقال للمنافقين: ابنوا مسجدًا واستعدوا، فإني ذاهب إلى قيصر بالشام، فآتي

(108)

بجند فنخرج محمدًا وأصحابه من المدينة. فذهب إلى قيصر بالشام، فبنوا مسجدًا إرصادًا لمن حارب اللَّه ورسوله، يعني: أبا عامر. قَالَ الْقُتَبِيُّ: ضرارًا، أي: مضارة، وإرصادًا، أي: ترقبًا بالعداوة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ضِرَارًا)، أي: مضارة، (وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، أي: وقوفًا وانتظار الفرصة لمن حارب اللَّه على المؤمنين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا). أي: حلفوا ما أردنا باتخاذ المسجد. (إِلَّا الْحُسْنَى) والخير. (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). فيه ما ذكرنا من الدلالة على إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) قيل: لا تصل فيه؛ لأنهم سألوه أن يصلي فيه. وقيل: (لَا تَقُمْ)، أي: لا تأته، ولا تدخل؛ وهو واحد. (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو مسجد قُباء.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو مسجد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. روي عن أبي سعيد الخدري قال: اختصم - أو قال: اختصمنا - في المسجد الذي أسس على التقوى؛ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " هو مسجدي هذا ". وعن أبي بن كعب قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: " هو مسجدي هذا ".

وظاهر ما ذكر أن يكون مسجد قباء؛ لأنه ذكر لما نزل قوله: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)، قال لأهل قباء: " إن اللَّه قد أحسن عليكم الثناء في الطهور، فماذا تصنعون؟ " قالوا: نغسل عنا أثر الغائط والبول. وفي بعض الأخبار قالوا: يا رسول اللَّه، إنا نجد مكتوبًا علينا في التوراة الاستنجاء

(109)

بالماء، فلا ندعه، فقال: " لا تدعوه ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا). يحتمل: أي: فيه رجال يؤثرون التطهر بالإيمان، والتوحيد، والصلاة فيه، وكل مسجد هذا فيه فهو مؤسس على التقوى، أي: تقوى الشرك والخلاف لأمر اللَّه ومناهيه. أو يقول: فيه رجال يحبون، أي: يؤثرون التطهر بالتقوى والأعمال الصالحة على غيرها من الأعمال التي تنجسهم. ويحتمل ما ذكر أهل التأويل من التطهير من الأقذار والأنجاس؛ كأنه قال: فيه رجال يؤثرون الإبلاع في التطهير من الأقذار والأنجاس التي تصيبهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) أي: على الطاعة لله والإخلاص له.

(وَرِضْوَانٍ). له وطلب مرضاته. (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ). أي: بني للاختلاف والتفريق بين المؤمنين والكفر باللَّه؛ هذا المثل مقابلة مكان بمكان؛ يقول: من بني بناء على قرار من الأرض مما يقر به وينتفع به خير ممن بني بناء على المكان الذي لا يقر، ويؤدي إلى الهلاك، ولا ينتفع به، والأول مقابلة فعل بفعل، وهو قوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) وكالذي بنى الضد من ذلك، أي: ليسا بسواء، ثم قال: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) هذا مقابلة فعل بفعل؛ يقول: الذين بنوا المسجد على الطاعة لله، والإخلاص له، وطلب مرضاته، والاجتماع فيه خير ممن بني للكفر باللَّه، والتفريق بين المؤمنين، وضرارًا بهم؛ هذا مقابلة فعل بفعل. وقوله: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ). هذا مقابلة مكان بمكان؛ لما ذكرنا. وقوله: (أَسَّسَ). أصل الأس والأسس والتأسيس واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (شَفَا جُرُفٍ هَارٍ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (شَفَا جُرُفٍ) قال: شفاه: فمه، والجمع: أشفاء، وجرف: أرض يسيل فيها السيل حتى يحفرها، والجِرَفة جمع. وقوله: (هَارٍ) وقال: الهار: الهش الذي ليس بصلب، ويقال: أنهار ينهار، أي: انهدم، ويقال: رجل هار، أي: ضعيف، وهي أرض هشة، أي: رخوة، سريعة الانهدام، والهش: الرخو.

(110)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) أي حرف جرف هار، والجرف: ما ينجرف بالسيول من الأودية، والهائر: الساقط، ومنه يقال: تهور البناء: إذا سقط وانهار. وقال أبو عبيدة: (عَلَى شَفَا جُرُفٍ) الشفا: هو الشفير، والجرف: ما ينجرف من السيول من الأودية، وهار، يريد: هائر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: خسف اللَّه مسجدهم في نار جهنم. وفي حرف ابن مسعود: (فخر من قواعده في نار جهنم) وقال: حفرت فيه بقعة فرؤي منها دخان سطع، وقال: يهوى ببنائهم الذي بنوا في نار، ولا ندري كيف هو؟ وما معناه؟. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) قَالَ بَعْضُهُمْ: (بَنَوْا رِيبَةً)، أي: حسرة وندامة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ريبة: أي شكًّا وريبًا. ومن قال: حسرة وندامة، فهو على وجهين: الأول: يحتمل: أنهم تابوا وندموا على ما صنعوا. والثاني: يحتمل: حسرة وندامة؛ لما افتضحوا بما صنعوا، وبما أرادوا بقوله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). ومن قال: شكَّا ونفاقًا (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) إلى الممات، أي: هم على الشك والنفاق إلى الموت، وهو كقوله: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ).

(111)

وأصل الريبة: التهمة؛ يقال: فلان مريب: إذا كانت به تهمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ). هذا -أيضًا- على وجهين: أحدهما: على التمثيل أن الخوف والحزن إذا بلغ غايته؛ يقال: فلان متقطع القلب [ ..... ]. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ). يحتمل قوله: (اشْتَرَى)، أي: استام؛ لأن قوله: (اشْتَرَى) خبر، ولكن يحتمل الاستيام، أي: استام أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم لله؛ ليجعل لهم الجنة. ثم بين فقال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ). ويحتمل أن يكون قوله: (اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ): خبرًا عن قوم باعوا أنفسهم وأموالهم؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)، وقوله: (يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. . .) الآية، فإذا صاروا بائعين أنفسهم، كان اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مشتريها منهم. ثم بين أن كيف تباع وكيف تُشترى فقال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ) أي: يقتلون العدو، (وَيُقْتَلُونَ) أي: يقتلهم العدو. وقد قرئ الأول بالرفع: فيُقْتَلُونَ، والثاني بنصب الياء، فهو ليس على الجمع أن

يَقتلوا ويُقتلوا، ولكن أن يقتلوا العدو أو يقتلهم العدو، أيهما كان، أو يقاتلون العدو وإن لم يقتلوا؛ كقوله: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. . .) الآية؛ سمي الإيمان باللَّه والمجاهدة في سبيله تجارة، ثم قال: (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بحق الوعد لهم فضلًا منه، لا بحق البذل. ثم قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ). ذكر شراء أنفسهم وأموالهم منهم، وأنفسهم في الحقيقة لله أن يأخذ منهم أنفسهم وأموالهم، وأن يتلفهم بأي وجه ما شاء، لكنه عامل عباده معاملة من لا ملك له في ذلك، ولا حق؛ كرمًا منه أوفضلًا، وجودًا، ووعدهم على ذلك أجرًا وبدلًا، وكذلك ما ذكر من القرض له، ووعدهم على ذلك الأجر مضاعفًا، وكذلك ما وعدهم من الثواب فيما يعملون لأنفسهم كالعاملين له؛ حيث قال: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقال: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، ونحوه، وإن كانوا في الحقيقة عاملين لأنفسهم بقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ. . .) الآية، ذكر ما ذكر ففلا منه وإكرامًا؛ إذ هي له في الحقيقة، وهو كما قال: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)، فإنما طلب بذل حق أنفسهم وأموالهم، أو ذكر - واللَّه أعلم - شرى ماله في الحقيقة؛ ليعلم الخلق أن كيف يعامل بعضهم بعضًا، وكذلك قال اللَّه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، عاملهم معاملة من لا حق له في أموالهم وأنفسهم؛ ليعامل الناس بعضهم بعضًا في أموالهم وأنفسهم، كمن لا حق له في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا). أي: وعدًا واجبًا حقًّا.

(فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ). أي: وعد ذلك في التوراة والإنجيل والقرآن. وفي حرف ابن مسعود: (عهدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والفرقان). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ). هذه الآية تنقض قول من يقول بأن الإنجيل نزل على التخفيف والتيسير والتوراة بالشدائد، وكذلك قوله: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ)، وذلك مذكور في حكم الإنجيل، إلا أن يقال بأن قوله: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ)، أي: كان هذا مذكورًا لهذه الأمة في التوراة والإنجيل وما ذكر. أثم، قال: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ). هذا على أن قوله: (اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. . .) الآية إنما هو عهد إليهم؛ حيث قال: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)، أي: لا أحد أوفى وأصدق بعهده من اللَّه إن وفيتم أنتم بعهده الذي عهد عليكم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ). يشبه أن يكون الاستبشار الذي ذكر وقت الموت أن تقول لهم الملائكة: استبشروا ببيعكم الذي بايعتم به في الحياة؛ وهذا يدل أن البيع يكون بيعًا بالبدل وإن لم يتلفظ بلفظة البيع، وقد ذكرنا فيما تقدم أن الأحكام لم تتعلق بالألفاظ والأسامي؛ إنما علقت بمعاني فيها، فإذا وجدت المعاني حكم بها.

(112)

(وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الصلة بالأول فيما ذكر من الشرى والوعد لهم الجنة إذا كانوا على الوصف الذي ذكر. وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبي - رضي اللَّه عنهما -: (إن اللَّه اشترى من المؤمنين التائبين العابدين الحامدين)، على الصلة بالأول بالكسر إلى قوله: وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ)، قرآها: والقائمين على حدود اللَّه أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة). ومنهم من قال على الابتداء بالرفع: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ. . .) إلى آخره. ويشبه أن يكون الشراء الذي ذكر في أول الآية وما وعد لهم ببذل أنفسهم وأموالهم في الجهاد، يكون ذلك أيضًا في غيره من الطاعات والخيرات، من بذل نفسه لله فيما ذكر من العبادة له والجهد، وما ذكر في الآية - فهو بائع نفسه منه؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) ونحوه. وقوله: (التَّائِبُونَ). يحتمل: التائبون من الشرك، أو من جميع المعاصي.

(الْعَابِدُونَ). يحتمل: الموحدون. ويحتمل: العابدون: جميع أنواع العبادة. (الْحَامِدُونَ). قيل: الشاكرون. وقيل: المثنون على اللَّه. فإن كان قوله: (الْعَابِدُونَ) من العبادة، فيكون الحامدون: المثنون على اللَّه؛ لأن العبادات كلها شكر. وإن كان قوله: (الْعَابِدُونَ): الموحدون، فيكون قوله: (الْحَامِدُونَ) والشاكرون للنعم التي أنعمها اللَّه عليهم. (السَّائِحُونَ). قيل: الصائمون؛ وعلى ذلك روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه سئل عن السائحين؟ فقال: هم الصائمون "، وقال: " وسياحة أمتي الصيام ". وقَالَ الْقُتَبِيُّ: وأصل السائح الذاهب في الأرض، ومنه يقال: ساح إذا جرى وذهب، والسائح في الأرض ممتنع من الشهوات، فشبه الصيام به؛ لإمساكه في صومه عن المطعم والمشرب وجميع اللذات. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هم الذين يمضون على وجوههم في الأرض ليست لهم منازل، يقال: ساح يسيح سيحًا وسياحة. (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ).

(113)

قيل: المصلون. وقيل: الخاضعون لله والخاشعون له؛ وكذلك ذكر في حرف حفصة. (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ). يحتمل التوحيد، أي: آمرون الناس بتوحيد اللَّه. ويحتمل: الآمرون لهم بالخيرات والمعروف كله. (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ). الشرك، ويحتمل: كل معصية. (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: لفرائض اللَّه التي فرضها على عباده. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لسنن اللَّه، ولكن حافظون جميع أحكام اللَّه، لا يجاوزون ما حد لهم ولا يفرطون فيها. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ). يحتمل البشارة لهَؤُلَاءِ الذين سبق ذكرهم. ويحتمل: على الابتداء، أي: بشر جميع المؤمنين؛ كقوله: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا)، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) وقوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ). دلت الآية بما نهانا أن نستغفر لمن علمنا أنه من أهل النار؛ لما أن اللَّه لا يغفر له؛ لما

علم أنه لا يؤمن، فعلى ما علمنا أنه لا يغفر له لم نستغفر له فلم يجز لنا أن نقول: إنه أراد الإيمان لمن يعلم أنه لا يؤمن أبدًا؛ كما لم يجب أن يغفر لمن وجبت له النار، فهذا ينقض على المعتزلة قولهم: إن اللَّه قد أراد لكل كافر الإيمان، لكنه لم يؤمن. ثم قوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ). قال بعض أهل التأويل: إن رسول اللَّه قد استغفر لأحد والديه، وذكر أنه دخل على أبي طالب عمه فدعاه إلى شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فأبى، ثم استغفر له وقال: لأستغفرن لك ما لم أُنهَ عنه أو كلام نحو هذا، فنزل قوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى. . .) الآية. قال الحسن: لا يحتمل أن يكون رسول من رسل اللَّه لا يعلم أن اللَّه لا يغفر للكافر؛ إذ في العقل والحكمة ألا يغفر له والتعذيب له أبدًا، وعندنا في الحكمة تعذيب الكافر أبدًا وألا يغفر له لوجوه: أحدها: أن في ذلك تسوية بين العدو ووليه، ومن سوى بين عدوه ووليه فهو ليس بحكيم؛ إذ في الحكمة التمييز بينهما. والثاني: أنه إذا عبد غير اللَّه معه إنما يعبد غيره لجهله، وتلك الجهالة لا ترتفع أبدًا؛ لأنه إذا غفر له فيقع عنده أنه إنما جزى وغفر له لعبادة غير اللَّه. والثالث: أنه لو غفر للكافر لذهبت حكمة الأفعال؛ لأن الأفعال إنما يؤمر بها لعواقب تتأمل: إما حمدًا وإما ذمًّا، فإذا غفر له حمد بأفعال كان الحق له الذم بها، ففي ذلك خروجها عن الحكمة. وجائز أن يكون رسول اللَّه يستغفر للمنافقين، قبل أن يتبين له أنهم منافقون، فلما تبين

(114)

له نفاقهم كف عن استغفاره لهم، فأما أن يستغفر للكافر على علم منه أنه كافر فلا يحتمل، على ما يقوله بعض أهل التأويل: إنه استغفر لعمه ولأحد والديه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) قَالَ بَعْضُهُمْ: وعدها إياه: الإسلام، فكان استغفاره لأبيه على وعد الإسلام، فإنما كان استغفاره بعد إسلامه. ألا ترى أنه قال: (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، فإنما طلب له المغفرة في ذلك اليوم وقد كان وعده الإسلام؛ لذلك كان استغفر له. ألا ترى أنه تبرأ منه؛ إذ تبين له أنه من أهل النار. ويحتمل أن يكون استغفار إبراهيم لأبيه طلب السبب الذي به منه يستوجب المغفرة وهو التوحيد والإسلام؛ وهو كقول هود لقومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)؛ وكقول نوح: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) ليس يأمرهم أن يقولوا: نستغفر اللَّه، ولكن يأمرهم بالإسلام ليغفر لهم ويكونوا من أهل المغفرة، فعلى ذلك استغفار إبراهيم لأبيه؛ وكذلك قوله: (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي: أعطه السبب الذي به يستوجب المغفرة وهو التوحيد، كان سؤاله سؤال التوحيد؛ إذ لا يحل طلب المغفرة للكافر وفي الحكمة لا يجوز أن يغفر له. فَإِنْ قِيلَ: فإن كان على ما ذكرتم كيف استثنى قول إبراهيم: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) بعد ما أخبرنا أن في إبراهيم قدوة بقوله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ)؟ قيل: يحتمل الاستثناء لقول إبراهيم: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) لأبيه، أي: حتى نعلم المعنى من استغفاره؛ لأنا لا نعرف مراد إبراهيم من استغفاره لأبيه؛ وكذلك استغفار الأنبياء - صلوات اللَّه وسلامه عليهم - لقومهم والمتصلين بهم، فاستثنى ذلك إلى أن نعلم مرادهم من استغفارهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) قيل: الأواه: الدعاء، وعلى ذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " أنه سئل عن الأواه؟

(115)

فقال: الدعاء الخاشع المتضرع ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الأواه: المؤمن. وقيل: الأواه: الفقيه، الموقن. وقيل: المسبح. وقيل: الأواه: المتأوه حزنًا وخوفًا. و" حليم " قيل: الحليم ضد السفيه. وقيل: العليم. والحليم: هو الذي لا يغضب ولا يسفه عند سفه السفيه. وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) اختلف أهل التأويل: قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في استغفار المؤمنين للمشركين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في نسخ الأحكام والشرائع التي تحتمل النسخ. فإن كانت في الاستغفار للمشركين، فإنه ليس هنالك نسخ؛ لأنه لم يسبق لهم الأمر بالاستغفار ولا الإباحة لهم في ذلك، فكأنه قال: ما كان اللَّه ليجعل قومًا ضلالًا بالاستغفار بعد أن جعلهم مهتدين حتى يعلموا بالنهي عن ذلك، واللَّه أعلم. وهو يحتمل ما ذكرنا من استغفارهم للمنافقين قبل أن يتبين لهم؛ يقول: لا يجعلهم ضلالا بذلك. (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)، أي: حتى يعلموا بالذي يلزمهم الانتهاء عنه، وهو النسخ؛ هذا في الأحكام التي تحتمل النسخ. وأما الأحكام التي لا تحتمل النسخ فلا. وأصله: أن كل ما كان في العقل امتناع نسخه فإنه لا يرد فيه النسخ، وكل ما كان في العقل لا امتناع على نسخه فإنه يجوز أن يرد فيه النسخ.

(116)

ثم المسألة فيما عملوا بالمنسوخ قبل العلم بالنسخ ما حال العمل الذي عملوا به يجرحون ويأثمون في عملهم بذلك في حال نسخه، أو يثابون ويؤجرون على ذلك؟ فإن كان الفعل فعل طاعة وقربة، فإنه يثاب في قصده وفعله ولا يجرح فيه. وإن كان فعله ليس بفعل قربة وطاعة، ولكن فعل حل وحرمة - فإنه في فعله قبل بلوغ العلم بنسخه لا يجرح في فعله؛ نحو ما روي أنهم كانوا يشربون الخمر ثم أتاهم آت فقال: ألا إن الخمر قد حرمت، فصبُّوها وكفوا عنها، فهم في شربهم بعد التحريم قبل بلوغ الخبر إليهم لا يجرحون. وأما الفعل الذي هو فعل قربة وطاعة: فإن لهم القربة في فعلهم وهو الصلاة؛ ونحوه ما روي أن نفرًا كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فمرَّ عليهم مار فقال: ألا إن القبلة قد حولت - وهم في الركوع - إلى الكعبة، فتحولوا نحوها، فأخبروا عن ذلك رسول الله فلم يأمرهم بالإعادة؛ لأن الفعل فعل قربة وطاعة، فالطاعة والقربة موجودة في فعلهم؛ لأن الأفعال التي فرضت لم تفرض لنفس الأفعال إنما فرضت للطاعة والقربة لله فيها، فإنه يؤجر على ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). بما فيه مصالح الخلق وما ليس فيه؛ كان هذا - واللَّه أعلم - خرج لإنكار من أنكر النسخ في الشرائع؛ يقول: إن اللَّه يعلم بما فيه مصالح الخلق وأنتم لا تعلمون، وفي الناسخ مصالح لهم وأنتم لا تعلمون، ويؤكد ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ (116)

(117)

وأنتم عبيده، وليس للعبد إنكار شيء على سيده، وإنَّمَا على العبد الطاعة لسيده والائتمار لأوامره والانتهاء عن نواهيه. قوله تعالى: (يُحْيِي وَيُمِيتُ). أي: كما له أن يميت بعد الحياة ويحيي بعد الموت، فله أن يتعبدهم في حال بعبادة، وفي حال بعبادة أخرى. * * * قوله تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. . .) الآية. قال بعض من أهل التأويل: تاب اللَّه عليهم لزلات سبقت منهم، ولهفوات تقدمت من غير أن كان منهم زلات في هذا - يعني: في غزوة تبوك - وهفوات، أما التوبة على النبي فقوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) وعلى المهاجرين والأنصار ما كان منهم يوم أحد ويوم حنين، وهو قوله: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: تاب عليهم لهفوات كانت منهم في غزوة تبوك، هموا أن ينصرفوا في غير وقت الانصراف على غير إذن لشدائد أصابتهم، فقال: (تَابَ عَلَيْهِمْ)، لما هموا بالانصراف في غير وقت الانصراف. ويشبه أن تكون التوبة التي ذكر على وجهين سوى ما ذكروا: أحدهما: وهو أنه تاب عليهم، أي: جدد عليهم التوبة للهفوات التي تقدمت، أو

الثبات عليها من غير أن كان منهم في الحدوث شيء، ولكن يكون لذلك حكم التجديد أو الثبات عليها كسؤال الهدى وهم على الهدى؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). ْوقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: يا أيها الذين آمنوا فيما مضى من الوقت آمنوا في حادث الوقت، أو اثبتوا على ذلك؛ فعلى ذلك يحتمل أن يكون قوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) أي: جدد عليهم التوبة من غير أن كان منهم هفوة، أو ثبتهم على التوبة التي كانت منهم. والثاني: أنه ذكر التوبة، وذلك أنهم حيث صبروا على ما أصابهم من الشدائد والجهد، كشف اللَّه عنهم أشياء كانت مستورة عندهم وجلالهم أغطية كانت لا تنجلي لهم من قبل، لكن انجلى ذلك لهم وانكشف؛ لصبرهم على الشدائد التي أصابتهم؛ كقوله: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، لما صبروا على ما أصابهم من المصائب ازداد لهم تفويض وتسليم الأمر والمرجع إليه؛ وكقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. . .) الآية، ازداد لهم بما صبروا هدى وتجلى لهم أشياء لم تكن من قبل؛ فعلى ذلك يحتمل التوبة التي ذكر أنهم لما صبروا على ما أصابهم من الشدة والجهد، تجلت لهم أشياء كانت مغطاة - واللَّه أعلم - فإنه ذكر: (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ)، ولم يذكر أنها زاغت وذكر قلوب فريق منهم، ولم يذكر قلوب الكل فهو ما ذكرنا. ويحتمل ذكر التوبة على النبي على الإشراك مع المؤمنين من غير أن كان له ذنب؛ لأنه أخبر أن ذنبه مغفور بقوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، فهو كما أشركه في الاستغفار؛ بقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) أمره بالاستغفار لذنبه على الإشراك له مع استغفار المؤمنين؛ إذ أخبر أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

(118)

والتوبة من اللَّه تعالى تخرج على وجوه: أحدها: التوفيق وفقهم للتوبة وأكرمهم بها؛ كقوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي: وفقهم للتوبة فتابوا. والثاني: التوبة منه قبولها منهم، أي: يقبل منهم التوبة؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). والثالث: (تَابَ عَلَيْهِمْ)، أي: تجاوز عنهم وعفا وصفح عنهم. على هذه الوجوه الثلاثة تخرج إضافة التوبة إلى اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ). قيل: في عسرة النفقة وعسرة الظهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ). ذكر في بعض القصة أنه قد أصابهم من الجهد والشدة حتى أن الرجلين يقسمان التمرة بينهما، وكانوا يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها الماء، ثم يمصها هذا، ذكر نحو هذا، ولكن لا ندري كيف كان الأمر سوى أنه أخبر أن قلوبهم كادت تزيغ من الجهد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) قَالَ بَعْضُهُمْ: خلفوا، عن التوبة؛ نحو قوله: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ). فكانوا يبتهلون ويدعون اللَّه حتى تاب اللَّه عليهم فتابوا. وقال قائلون: خلفوا عن رسول اللَّه لما تقدمهم القوم، فهم المخلفون بتقدم أُولَئِكَ. وقال قائلون: خلفوا خلفهم اللَّه، أي: خلفهم. ويشبه أن يكون قوله: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) هم الذين تخلفوا فخلفهم رسول اللَّه، وهو ما ذكرنا. وقوله: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ).

يحتمل هذا على التحقيق، ويحتمل أن يكون على التمثيل. وللتحقيق وجهان: أحدهما: (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ): ما ذكر أنهم شدوا أنفسهم بالسواري والأسطوانات، وأتوا بأموالهم التي منعتهم عن الخروج مع رسول اللَّه، وتصدقوا بالأرضين التي منعتهم عن الخروج، وضاقت عليهم الأرض بعد ما كانت عليهم متسعة يتسعون فيها؛ لأنه ذكر في القصة أن واحدًا من هَؤُلَاءِ ممن حبسته أرضه عن الخروج فتصدق بها على الفقراء، وكان له التوسع بتلك الأرض ثم ضاقت عليه. والثاني: (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ): لما حبسوا أنفسهم عن أراضيهم، وتركوا شهواتهم وأمانيهم وما يتلذذون به؛ ذلك ضيق الأرض. (وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ): لما شدوا أنفسهم بالأسطوانات. ويحتمل أن يكون على التمثيل؛ وذلك أن الخوف إذا اشتد بالإنسان وبلغ غايته حتى يمنعه عن القرار في الأرض والتلذذ فيها يقال: ضاقت عليه الأرض بسعتها، وضاقت عليهم أنفسهم؛ لما ذكر كان الناس لا يكلمونهم ولا يخالطونهم ولا يبايعونهم ولا يكلمهم أهاليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ظنوا أن لا نجاة من عقوبة اللَّه إلا عفوه، أي: أيقنوا أن لا مخلص لهم ولا احتراز لهم من عقابه. وقيل: ظنوا أن لا ملجأ من عذاب اللَّه إلا إلى رحمته. وقيل: وظنوا أن لا ملجأ من رسول اللَّه إلا إلى اللَّه؛ لأنه ذكر أنهم سألوا رسول اللَّه، التجاوز عن ذلك فلم يجبهم، فأيقنوا عند ذلك أن المفزع والملجأ إلى اللَّه لا إلى أحد دونه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ). أي: وفقهم للتوبة فتابوا.

(119)

(إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). أي: يقبل التوبة، أي: قابلها. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ). في ظاهر الآية أن قومًا عرفوا بالصدق فأمروا بالكون معهم، ويشبه أن يكون أمر هَؤُلَاءِ الذين تخلفوا عن رسول اللَّه بالكون مع المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع رسول اللَّه. وفيه دلالة على أن الإجماع حجة؛ لأنه أمر بالكون مع الصادقين في دين اللَّه، فلو لم يلزمهم قبول قولهم لم يكن للأمر بالكون معهم وجه. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، وهو ظاهر. وقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ). يحتمل وجوهًا: أحدها: يقول: احفظوا اللَّه في حقه ولا تضيعوه، وكونوا مع الصادقين في وفاء ذلك وحفظه. أو: اتقوا اللَّه فيما نزل ما امتحنكم به من الخروج والجهاد مع رسول اللَّه وغير ذلك من المحن. أو يقول: اتقوا مخالفة اللَّه ورسوله فيما يأمركم به، وكونوا مع الموافقين لأمره، والله أعلم.

(120)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) يشبه أن يكون هذا صلة ما سبق منهم من المبايعة والعهود التي جرت بينهم وبين رسول اللَّه؛ يقول - واللَّه أعلم -: (مَا كَانَ)، أي: لم يكن لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللَّه، بعد ما قبلوا النصر له والمعونة وبايعوه على ذلك؛ هذا محتمل. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن يكون صلة ما ذكر على أثره وهو قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)؛ يقول - واللَّه أعلم -: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللَّه، وقد جعل بكل ما يصيبهم في أنفسهم من العناء والشدة، وفي أموالهم من النقصان وما ينفقون من النفقة قليلة كانت أو كثيرة، أو يصيبون من العدو ومن القتل والغنيمة - إلا كتب لهم بذلك العمل الصالح، أي: ما كان ينبغي لهم أن يتخلفوا عنه، وقد كتب لهم بكل ما يصيبهم من الشدة والعناء وما يصيبون من الخير - العمل الصالح والأجر لهم، واللَّه أعلم. أو يقول: ما كان لأهل المدينة إذ تخلفوا عن رسول اللَّه أن يتخلفوا عنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ). يحتمل قوله: (وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ)، أي: ولا يرغبوا بالتخلف عن نفسه؛ يقال: جاء فلان بنفسه، ورأيت أنا بعيني ونحوه، أي: جاء هو ورأى هو؛ فعلى ذلك هذا (وَلَا يَرْغَبُوا)، أي: ما كان ينبغي لهم أن يرغبوا عن رسول اللَّه. ويحتمل (وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ)، أي: لأنفسهم عن نفسه، وذلك جائز ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) قيل: عطش، (وَلَا نَصَبٌ): العناء والمشقة، (وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، أي: مجاعة. (وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: ولا يقفون موقفًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الوطء والموطئ: الشيء الذي يوطأ. (وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا)، قيل: فيهم أو إغارة عليهم، (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ)، أي: يكتب ما لهم وما عليهم العمل الصالح مكان من تخلف منهم مخافة

(121)

أن يصيبه ما ذكر من العناء والشدة؛ يقول: كتب لهم بكل ما يصيبهم العمل الصالح، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) هو ما ذكرنا أنه يجزيهم بكل ما يصيبهم من الشدة والعناء في أنفسهم وفي أموالهم من النقصان وما ينفقون. (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). أي: يجزيهم لصالح أعمالهم وأحسنها، ولا يجزيهم لسيئاتهم؛ وهو كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)، أخبر أنه يتقبل منهم أحسن ما عملوا ويكفر عنهم سيئاتهم؛ فعلى ذلك الأول يخبر أنه يجزيهم أحسن ما عملوا في الغزو، ويتجاوز عن سيئاتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) اختلف أهل التأويل: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن نبي اللَّه كان إذا خرج للغزو خرجوا جميعًا، فتبقى المدينة خالية عن الرجال، فنهى اللَّه عن ذلك وقال: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث سرية خرجوا جميعًا، فبقي هو وحده لم يبق معه أحد ممن يشهد التنزيل؛ ليخبروا أُولَئِكَ إذا حضروا. وقال آخرون: الآية في الوفود، وذلك أن الوفود إذا قدموا من الآفاق المدينة قدموا مع النساء والذراري جميعًا، فأمروا أن ينفر الرجال منهم دون النساء والذراري، أو من كل قوم نفر؛ ليتفقهوا في الدِّين. ذكر في هذه الآية: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ)، نهى الكل أن ينفروا، وأمروا في الآية الأخرى بنفر الكل بقوله: (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا)، فهو يخرج على وجهين: أحدهما: أمر بالنفر الجميع عند قلة المؤمنين؛ ليكون لهم الكفاية مع العدو.

والثاني: أمر بنفر الكل عند النفير. فيكون إحدى الآيتين في حالة النفير، والأخرى في غير حال النفير وما ذكرنا في وقت القلة والكثرة. فمن يقول: إن الآية في الذين كانوا يخرجون جميعًا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج، كأنه نهى عن الخروج جملة مع رسول اللَّه؛ خوفًا على أهاليهم وذراريهم، لعل العدو سباهم وأخذ أموالهم يقول اللَّه: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)، أي: هلا نفر طائفة منهم فيخبروا الكفار المقيمين بما أنزل اللَّه على رسوله من النصر والمعونة والهزيمة على الكفار الذين قاتلوا رسول اللَّه، فيكون ذلك سبب دعائهم إلى الإسلام. وإلى هذا ذهب الحسن والأصم ويقولون: إن هذه الآية نسخت الآية التي قبلها وهي قوله: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ). يقول الحسن: إن عليهم أن يخرجوا مع رسول اللَّه إذا خرج، فيقول: هذا منسوخ بالآية التي تليها: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية. ومن يقول بأن الآية في الوفود الذين كانوا يأتون رسول اللَّه المدينة بالنساء والذراري، فالنهي لذلك لما كانوا يضيقون على أهل المدينة أوطانهم ويغلون أسعارهم ونحوه؛ يقول: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ)، أي: يعلمون الدِّين وأحكامه، ثم ليرجعوا إلى قومهم فيعلموهم. ومن يقول: الآية في الذين خرجوا ونفروا مع السرايا، نهاهم عن خروج الكل؛ لما لعله لما نزل على رسول اللَّه شيئًا، فلم يكن معه أحد يبلغه إليهم ثم يبلغ إلى من هو غاب عنه ضاع ذلك فيقول: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) ما نزل على رسول اللَّه، وليبلغوا ذلك إلى من غاب عنه. (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ). قيل: من كل عصبة، ومن كل قبيلة، ومن كل حي، ففي الآية دلالة سقوط فرض

السفر لتعلم العلم والتفقه في الدِّين عن الكل إذا قام بعض بذلك يخرجون ويتعلمون ثم يعلمون قومهم؛ لأنه قال: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ. . .) الآية. وفيه أيضًا دلالة سقوط فرض الجهاد عن الجماعة إذا قام بعضهم عن بعض. وفيه دلالة لزوم العمل بخبر الأحاد وإن احتمل الغلط؛ لأن ما ذكر من الطائفة

(123)

يحتمل أن يجتمعوا على ذلك كذبا أو غلطا، ثم ألزم قومهم قبول خبرهم وإن احتمل الغلط والكذب بقوله: (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). الآية تخرج على وجهين: أحدهما: أن كل أهل بلدة وأهل قبيلة يختارون من يصلح للتفقه في الدِّين والتعلم فينفر، حتى إذا تفقه وتعلم رجع إلى قومه فيعلمهم. والثاني: يأمر من يصلح للتفقه بالتخلف عن الجهاد إذا كان بهم غنية ليتفقه عند رسول اللَّه، فينذر قومه إذا رجعوا إليه من غزاتهم. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ). اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية قبل أن ينزل قوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً). كان الأمر بالقتال بالأدنى فالأدنى، ثم جاء الأمر بقتال الكفار عامة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن رسول اللَّه كان إذا غزا ربما كان يجاوز كفارا ويتركهم وراءه ويقاتل غيرهم؛ ليكون ذلك آية لنبوته، وليعلم أنه لا يبالي بمن يقاتل ولا يخاف من تركهم وراءه، ثم أمر اللَّه المؤمنين أن يقاتلوا الأقرب فالأقرب منهم والأدنى فالأدنى وألا

يتركوا العدو وراءهم؛ إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل، وأمكن أن يكون هذا تعليمًا من اللَّه المؤمنين أمر الحرب وأسبابها، كما علمهم جميع ما يقع لهم من الحاجة إلى أسباب الحرب في غير آي من القرآن؛ من ذلك: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)، وقوله: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا) الآية، وقوله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. . .) الآية، وغير ذلك من الآيات. أو يحتمل أن يكون أمر بقتال الأقرب فالأقرب منهم كسائر العبادات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ). يخرج على وجهين: أحدهما: ما ذكرنا أنه يخرج على أمر القتال منه للمؤمنين. والثاني: إنباء عن دوام الجهاد والقتال مع الأعداء أبدًا؛ لأنه كلما فتح ناحية وقومًا، صار الذين بقوا وراء هَؤُلَاءِ الذين يلونهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً). قيل: شدة عليهم. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي: (وليجدوا عليهم غلظة)، أي: شدة، ويقرأ: (غُلْظَةً) برفع الغين، ويقرأ: (غِلْظَةً) بكسرها، وهما لغتان ومعناهما واحد. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ). أي: من اتقى الخلاف له بالنصر لهم على عدوهم. وقوله: (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

(124)

يخرج على وجوه: أحدها: ما ذكرنا إذا اتقوا الخلاف له فيما علمهم من أمر الحرب يكون معهم بالنصر. والثاني: معهم في التوفيق والهداية. والثالث: في الجزاء. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا). قال أهل التأويل: قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) يعني: يقول المنافقون بعضهم لبعض إذا خلوا عن المؤمنين: أيكم زادته هذه إيمانًا؟ استهزاء منهم بها وسخرية، فأجاب اللَّه تعالى فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (125)، أي: شك ونفاق، (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) أي: تكذيبها وكفرًا إلى تكذيبهم الذي كان منهم؛ لأن أهل النفاق والكفر ليسوا هم بأهل إنصاف يقبلون الحجة والدلالة إذا قامت عليهم، إنما همتهم العناد والتكذيب ورد الحجج والدلائل، فكلما ازداد لهم الحجج والبراهين ازداد لهم عنادًا في التكذيب والرد، وأما أهل الإيمان فإن همتهم قبول الحجج والإنصاف، فكلما ازداد لهم الحجج والبراهين ازداد

لهم إيمانًا وتصديقًا على ما كان لهم. ثم قوله: (فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا): زادتهم ثباتًا ودوامًا على ما كانوا من قبل، بما قامت لهم من الحجج والبراهين، وكذلك ازداد أهل النفاق والكفر بها الثبات على العناد في تكذيب الحجج والآيات. والثاني: ازداد لهم إيمانًا بالتفسير على إيمانهم بالجملة، وإذا كانوا مصدقين لذلك كله جملة، فإذا نزلت لهم نوازل وفرائض ازداد لهم بذلك التصديق والثبات. وأصله أنه لو ما كان منهم من الإيمان والتصديق، لكان هذا منهم ابتداء إيمان وإحداث تصديق، وكذلك لو لم يكن من أهل النفاق ما سبق من العناد، لكان ذلك منهم إحداث تكذيب وعناد، فإذا كان منهم ما ذكرنا كان ذلك زيادة على ما كان لما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يزداد لأهل الإيمان خيرات، ولأهل النفاق شر، ولكن هو واحد وهو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا). يخرج على وجهين: أحدهما: زادت المؤمنين إيمانا على الذي كان لهم من الإيمان والتصديق. والثاني: زاد لهم حجة وبرهانًا لما كان، وكذلك يزداد لأهل النفاق ضد ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). قيل: يفرحون بنزولها، ثم إضافة الزيادة إلى السورة بقوله: (فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) لوجهين: أحدهما: أضيف إليها الزيادة على ما أضيف الغرور إلى الدنيا، وهو لما ذكرنا أنه يبدو منها لهم من التزيين ما لو كان ذلك من ذوي الأفعال والتغرير كان ذلك غرورًا. والثاني: إضافة التغرير إليها لما بها اغتر أهلها، وكذلك إضافة الزيادة إلى السورة لما بها ازداد لهم التكذيب والكفر، وازداد لأهل الإيمان بها التصديق، فأضيف الزيادة إليها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما ذكرنا أنها حجة ودلالة، فبالحجة يزداد لأهل الإيمان الإيمان بها؛ إذ هم قد اعتقدوا قبول الحجج والدلائل، وأما أهل النفاق والكفر فإنهم أهل

(126)

عناد ومكابرة؛ إذ قد اعتقدوا العناد ورد الحجج، فكلما ازداد لهم الحجة ازداد لهم عنادا وكفرًا. وقال أبو بكر الأصم: إنما أضيف الزيادة إليها؛ لأنها كانت سبب الزيادة، وقد تضاف الأشياء إلى أسبابها كما تضاف إلى حقيقة الأفعال، ولكن لا يحتمل أن تكون السورة التي نزلت سببًا لزيادة الكفر، لكن الوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) قيل: يبتلون بالجهاد والغزو فيتخلفون عنه، فيظهر بذلك نفاقهم وكفرهم. وقيل: يبتلون بالشدة والجوع فيظهر أيضًا بذلك نفاقهم؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ). وقيل: يفتنون في كل عام مرة أو مرتين؛ وذلك أنهم كانوا إذا خلوا تكلموا بالكفر فيما بينهم، ثم إذا أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبرهم بما تكلموا به في الخلوة فيفتضحون بذلك، فذلك افتتانه إياهم وابتلاؤه لهم، كان يظهر بما ذكر نفاقهم: مرة في الجهاد في سبيل اللَّه، ومرة بالشدة والخوف، ومرة بما يطلع اللَّه نبيه بما يضمرون ويتكلمون به في الخلاء. وتحتمل هذه الآية الوجوه الثلاثة: الجهاد معه، والابتلاء بالشدائد، والإفزاع. وتحتمل إظهار الأسرار التي أسروا في أنفسهم والافتضاح مما أخفوا، لكن لو كان هذا فذلك مما يكثر منهم، أعني: كتمان النفاق وإسرار الخلاف لهم، لكن ذكر المرة والمرتين يرجع إلى الافتضاح والإظهار، فذلك يحتمل أن يكون في العام مرة أو مرتين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ): عن نفاقهم. (وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ): بما ابتلوا من الافتضاح وظهور النفاق منهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ

(127)

أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية صلة قوله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) أي: كان ينظر بعضهم إلى بعض ثم يقولون ما ذكر. ومنهم من يقول: إذا كانت السورة التي نزلت حجة في إظهار الدِّين والإيمان، يسمعون ويقولون: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) وإذا أنزلت في إظهار نفاقهم وافتضاحهم نظر بعضهم إلى بعض، ثم انصرفوا ولا يسمعون منه السورة؛ إشفاقًا لئلا يظهر نفاقهم. وقوله: (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) يحتمل خلق اللَّه منهم انصرافهم فأضيف إليه الصرف، ويشبه أن يكون قوله: (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) عقوبة، أي: عاقبهم اللَّه بصرف قلوبهم باعتقادهم العناد وردهم الحجج وتركهم القبول. * * * قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي: من البشر وهو امتنان منه عليهم؛ حيث بعث الرسول من البشر وله أن يبعث من غير البشر، لكنه بعث من البشر؛ ليعرفوا الآيات التي يأتي بها من التمويهات؛ لأنهم يعرفون مبلغ وسع البشر في الأشياء وقدر إمكانهم بعلم الأشياء، فإذا جاء بالأشياء التي هي خارجة عن الطباع ووسع البشر في التعليم، عرفوا أنها آيات لا تمويهات، مع ما يألف كل ذي جنس بجنسه وينفر من غير جنسه، هذا ظاهر في الخلائق أن كل ذي جنس يألف بجنسه ولا يألف بغير جنسه، فبعث الرسول من البشر ومن جنسهم؛ ليألفوا به، ويقبلوا منه ما يأتيهم به ويجيبوه إلى ما يدعوهم إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)، أي: من المكان الذي أنتم فيه وهو الحرم. وقال آخرون: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ)، أي: من أنسابكم، وهو أيضًا موضع الامتنان عليهم؛ حيث بعثه من أنسابهم يعرفون نسبه ومولده ومنشأه من بين أظهرهم سليمًا عن جميع الآفات بريئا عن جميع المطاعن والعيوب؛ لأن المرء إذا كان مولده ومنشؤه من

غير أظهرهم في قبيلة أو في مكان لا يعرف له النسب، ربما يتمكن فيه الطعن والعيب، ويقع التناكر في نسبه؛ لجهلهم بنسبه ومولده ومنشئه على السلامة والصحة والبراءة من العيوب، فبعث رسوله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لئلا يتمكن فيه ما ذكرنا من المطاعن، ولا يعرف شيء من العيوب والآفات التي ذكرنا فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ)،أي: من العرب أميًّا كما هم، لا يكتب ولا يقرأ ولا يخطه بيمينه على ما وصفه في كتابه: (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ. . .) الآية، وقال: (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)، وذلك أن العرب تتمنى أن يبعث رسول منهم بقوله: (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ)، ذكر مجيء الرسول من أنفسهم؛ ليكون أبعد من المطاعن التي طعنوا فيه والآفات التي ذكروا فيه، وأبرأه من العيوب التي رموه بها من نحو السحر والكهانة والجنون والافتراء على اللَّه، وليكون أقرب إلى المعرفة بأنه رسول؛

(129)

لأن ما يأتي به من الآيات والحجج يعرفون أنها سماوية؛ لما عرفوا أنه لم يتعلم السحر ولا أخذوا عليه بكذب قط ولا جن قط بما كان منشؤه فيما بين أظهرهم. وقوله: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ). قيل: شديد عليه ما أعنتكم، أي: ما ضيق عليكم وضركم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: العنت: الضيق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العنت: الإثم، أي: شديد عليه ما أثمتم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو إلى الإثم أقرب. وهو يحتمل كل إثم: الكفر وغيره. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: حريص على من لم يسلم أن يسلم، وحريص عليكم بالهدى والرشد. (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ): رحمة الدِّين والإسلام، لا رحمة الطبع. قال الشيخ أبو منصور - رحمه اللَّه - في قوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ): سماه بفعله العمل الحسن وبرأفته ورحمته بذلك، أي: استحق ذلك الاسم بفعله، وإنما سماه بذلك؛ لأن عمله كان لله لم يكن عمل لنفسه شيئًا، وكذلك ماله وأكسابه؛ فلذلك لم يكن ماله ميراثًا بين ورثته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) أي: أعرضوا عن إجابتك ودعائك إياهم إلى الإيمان والتوحيد. (فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ). أي: يكفيني اللَّه لا إله إلا هو. ويحتمل قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا): عنك، وردوا إجابتك والطاعة لك والانقياد وهمُّوا أن يكيدوك ويمكروا بك، (فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، أي: على ما وعدني من النصر والظفر (تَوَكَّلْتُ)، أي: اتكلت على وعده ووكلت أمري إليه. ويحتمل قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا): عن نصرك ومعونتك على الأعداء، (فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) في النصر والمعونة على الأعداء يكفيني عليهم. هذا في الموضع أقرب؛ لأنه ذكر على أثر ذكر المنافقين، ويحتمل ما ذكرنا من الإعراض عن التوحيد والإجابة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). قيل: هو رب الملك العظيم، أي: كل ملك عند ملكه صغير ليس بملك. فإن كان العرش هو السرير على ما قاله بعض أهل التأويل - واللَّه أعلم - فهو السرير الذي يكرم به الأخيار من الخلائق والأبرار منهم، وقد ذكرناه فيما تقدم، واللَّه أعلم، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. * * *

سورة يونس

سُورَةُ يُونُسَ عليه السلام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ السورة التي فيها ذكر يُونُسَ عليه السلام قوله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) قوله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ): قد ذكرنا الوجه في الحروف المقطعات في صدر الكتاب. وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: الحكيم هو اللَّه، كأنه قال: ذلك الكتاب آيات اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكيم هو صفة القرآن. والكتاب يحتمل وجهين: يحتمل أنه سماه حكيمًا فعيلا بمعنى أنه محكم، وجائز تسمية المفعول باسم الفعيل؛ نحو: قتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح ونحو ذلك، فيه الحلال والحرام، والأمر والنهي، أو محكم متقن مبرأ من الباطل والكذب والاختلاف، وهو ما وصفه تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. . .) الآية. والثاني: حكيمًا لما أن من تأمل فيه ونظر وفهم ما أودع فيه وأدرج، صار حكيمًا وهو ما وصفه وسماه مجيدًا، أي: من تأمله ونظر فيه صار مجيدًا شريفًا. والحكيم هو المصيب في الحقيقة إن كان صفة القرآن أو صفة اللَّه، فإن كان صفة لله، فهو حكيم واضع كل شيء موضعه، رإن كان صفة للقرآن فهو كذلك أيضًا واضع كل شيء موضعه. وقوله: (آيَاتُ): يحتمل آيات الكتاب المعروف، ويحتمل الحجج والبراهين، أي: حجج الكتاب وبراهينه أو أعلامه، وقد تقدم ذكر الآيات في غير موضع، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) يحتمل وجهين: يحتمل أي قد عجبوا أن أوحينا إلى رجل منهم.

ويحتمل: أيعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم على الاستئناف، كانوا يعجبون من ثلاث: من إنزال القرآن على رجل منهم يعجز الخلائق عن إتيان مثله، ويعجبون من الوحي إلى رجل منهم وإرساله رسولا من بين الكل أو من البشر؛ كقوله: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)؛ وكقوله: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا. . .)، وكانوا يعجبون من البعث؛ كقولهم: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا. . .) الآية. ثم يحتمل قوله: (إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي: من البشر، أي: لا تعجبوا أن أوحينا إلى رجل من البشر؛ فإن الإيحاء إلى من هو من البشر أبلغ في الحجاج وأقطع للعذر، وأقرب إلى الرأفة والرحمة؛ لأن البشر يعرفون خروج ما هو خارج عن طوق البشر ووسعهم، ولا يعرفون ذلك من غير جوهرهم وغير جنسهم، ويألف كل جنس بجنسه وكل جوهر بجوهره، ولا يألف غير جوهره ولا غير جنسه، فإذا كان ما وصفنا كان بعث الرسول من جنس المبعوث إليهم وجوهرهم أبلغ في الحجاج وأقطع للعذر، وأقرب إلى الرأفة والرحمة. ويحتمل قوله: (أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي: من الأميين، أي: لا يعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم، أي: أمي فإن ذلك أبلغ في التعريف والحجاج؛ لأنه بعث أميًّا لم يعرفوه بدراسة الكتب المتقدمة أو تلاوة شيء منها، ولا عرفوه اختلف إلى أحد منهم في تعليم كتبهم، ولا عرف أنه كتب شيئًا ولا خط خطًّا قط، ثم أخبر عما في كتبهم على موافقة ما فيها، وكانت كتبهم بغير لسانه؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى؛ فذلك أبلغ في إثبات الرسالة والحجاج، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -، (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: الإنذار يكون في كل مكروه مرهوب، والبشارة في كل محبوب مرغوب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) يعني: الكفار بالنار. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ثم اختلفوا في قوله: (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: إن لهم الجنة عند ربهم. وقيل: إن لهم الأعمال الصالحة يقدمون عليها.

وقيل: قدم صدق: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يشفع لهم عند ربهم. وقيل: إن لهم الجنة عند ربهم. وقيل: إن لهم ثواب أعمالهم الصالحة التي قدموها بين أيديهم (قَدَمَ صِدْقٍ)، أي، سلف خير أو سلف وعْد وعِد لهم بذلك وكأن أصله من القدم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال في الكلام: لفلان عندي قدم صدق ويد صدق، أي: نعمة قد أسلفها إليَّ. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قدم صدق: يعني عملا صالحًا قدموه. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سبق لهم السعادة في الذكر الأول. من قال: قدم صدق هو الشفاعة، فالقدم كناية عن الشفاعة والصدق، أي واقعة. ومن قال: وعدوا ثواب أعمالهم أي تقدم لهم وعد حق وصدق. ويحتمل (قَدَمَ صِدْقٍ) أي: ثبتت قدمهم لا تزل، على ما وصف من ثبوت قدم المؤمنين والقرار فيه، وتزل قدم الكافرين؛ كقوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ): ومن قرأ (لَسِحْرٌ) عنى هذا القرآن. ومن قرأ (لَسَاحِرٌ) بالألف عنى به النبي. ثم السحر هو الذي يتراءى في الظاهر أنه حق وهو في الحقيقة باطل لا شيء، ثم هو يأخذ الأبصار ويأخذ العقول. فأما الذي يأخذ الأبصار فهو ما يتراءى الشيء على غير ما هو في الحقيقة، والذي

(3)

يأخذ العقول هو أن يذهب بعقله فيصير مجنونا. وقال فرعون لموسى: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) أي: مجنونًا، لكن هَؤُلَاءِ لم يريدوا بقولهم: (لَسَاحِرٌ مُبِينٌ): السحر الذي يأخذ العقول، ولكن أرادوا السحر الذي يأخذ الأبصار؛ يقولون: إنه وإن كان أخذ الأبصار في الظاهر فهو لا شيء في الحقيقة، ولكن في قولهم: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) دليل أنهم عجزوا عن رده، وعرفوا أنه حق، ولكن هم أرادوا التمويه على الناس؛ كقول فرعون لسحرته حين آمنوا برب موسى: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أراد أن يموه على الناس؛ واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) إن القوم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، ويتخذون الأحبار والرهبان أربابا من دون اللَّه؛ يقول: إن ربكم اللَّه الذي يستحق العبادة والألوهية هو الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض لا الذي تعبدونه.

(4)

وقوله: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى): قد تقدم ذكره في صدر الكتاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ): وهو -أيضًا- على الأول: إن الذي يستحق صرف العبادة إليه وتوجيه الشكر إليه هو الذي يدبر الأمر في مصالح الخلق في جر المنافع إليهم ودفع المضار عنهم، لا الذين لا يملكون المنافع إلى أنفسهم أو دفع المضار عنهم، فضلا عن أن يملكوا أجرها إلى من يعبدهم أو دفع المضار عنهم. وقال بعض أهل التأويل: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يقضيه، والتدبير والقضاء واحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُدَبِّرُ): يقدر، وهو ما ذكرنا التدبير والتقدير سواء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ): الشفيع هو ذو المنزلة والقدر عند الذي يشفع إليه، لا أحد في الشاهد يشفع لآخر إلى آخر إلا بعد أن يكون الشفيع عند الذي يشفع إليه ذا منزلة وقدر، فإذا كان كذلك فمع ذلك أيضًا يشفع إلا من بعد ما أذن له بالشفاعة لمن جاء بالتوحيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) يقول: ذلكم الذي يستحق العبادة هو ربكم، الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض ودبر أموركم، فاعبدوه ولا تعبدوا الذي لا يملك شيئًا من ذلك. (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ): أنه هو المستحق للعبادة، وهو المستوجب للشكر، لا الذين تعبدون أنتم. أو أن يقول: أفلا تذكرون أن الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض هو ربكم، وهو مدبر أمور الخلائق في مصالحهم ما يرجع إلى مصالحهم في دنياهم ودينهم، لا الذي يعبدون من دون اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) إليه مرجع الخلائق كلهم في جميع

الأوقات، لكنه خص ذلك اليوم بالمرجع إليه لما أن الخلائق كلهم يعلمون يومئذ أنهم راجعون إليه؛ وكذلك قوله: (وَبَرَزُوا لِلََّهِ جَمِيعًا)، هم بارزون له في الدنيا والآخرة، لكنهم يومئذ يعرفون ويقرون بالبروز له. وكذلك: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، الملك لله في الدنيا والآخرة وفي الأوقات جميعا، لكنه خص ذلك اليوم لما لا يازع في الملك في ذلك اليوم، ويقرون بالملك له في ذلك اليوم، وفي الدنيا من قد نازع في ملكه. هذا - واللَّه أعلم - وجه التخصيص لذلك اليوم بالملك، وإن كان الملك في الدارين جميعًا فعلى ذلك المرجع، أو سمى البعث رجوعا إليه؛ لما المقصود من إنشائه البعث، فسماه بذلك لما ذكرنا؛ لأنه لو لم يكن المقصود من إنشائه إياهم سوى الإنشاء والإفناء، كان خلقه اياهم عبثًا وباطلا؛ كقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا). يحتمل (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا): البعث الذي ذكر أنه يبدأ الخلق ثم يعيده. ويحتمل (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) من الثواب والعقاب في الآخرة؛ الثواب للمحسن منهم والعقاب للمسيء. وقوله: (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي: عرفتم أنه هو الذي يراكم والخلق جميعًا، فكذلك هو يعيدكم بعد إفنائكم؛ إذ بدء الشيء على غير مثال أشد عندكم من إعادته على مثال؛ كقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْ) أي: إعادة الشيء أهون عندكم من بدئه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ). قيل: بالعدل، لكن ما يجزيهم، إنما يجزيهم إفضالًا وإحسانا لا استيجابًا واستحقاقًا. ثم يحتمل قوله: (بِالْقِسْطِ) وجوهًا: أحدها: أنه يجزي المحسنين جزاء الإحسان، والمسيء جزاء الإساءة، ويفصل بين العدو والولي في الآخرة في الجزاء، ويجعل للولي علامة وأثرًا يعرف بهما من العدو؛ إذ لم يفصل في الدنيا بين الأولياء والأعداء في الرزق وما يساق إليهم من النعيم،

ولا يجعل علامة يعرف بها الولي من العدو وجعل في الآخرة ذلك حتى يعرف هذا من هذا، فهذا العدل الذي ذكرنا يشبه أن يكون هو ذلك. ويحتمل (بِالْقِسْطِ) الوزن، أي: يجزيهم بالوزن على تعديل النوع بالنوع لا على القدر، أي: يجزي بالحسنة قدرا لا يزيد على ذلك، ولكن يجزي للخير خيرًا وللحسنة حسنة وللسيئة سيئة. ويحتمل قوله: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ)، بالعدل، أي: يجزي الذين عملوا بالعدل لم يجوروا فيه ولا جاوزوا الحد الذي حد لهم، ولكن عملوا بالعدل فيه، ويشبه أن يكون على تقديم العدل ليجزي الذين آمنوا بالعدل، أي: لا يعذبهم في النار إذا آمنوا، ثم الذين عملوا الصالحات يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، واللَّه أعلم بالصواب ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ) أي: يجزيهم في الآخرة بما أقسطوا في الدنيا وعدلوا، فيكون القسط على هذا التأويل نعتًا لهم. وإن كان ما ذكر من القسط راجعًا إلى اللَّه ووصفًا له فهو يخرج على وجوه: أحدها: يجزي فريقًا من المؤمنين بالعدل، يجزي لإحسانهم جزاء الإحسان، ولإساءتهم جزاء الإساءة؛ فيكون جزاء بالعدل، ويجزي فريقًا آخر منهم بالفضل والإحسان: يجزي بحسناتهم جزاء الحسنة، ويكفر عن سيئاتهم؛ وهو كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) الآية، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. . .) الآية. والثاني: يجزيهم بالفضل؛ إذ العدل هو وضع الشيء موضعه، أي: يضع الفضل في أهله لا يضعه في غير أهله، ووضع الفضل في أهل الإيمان عدل، إذ هم أهل له - والله أعلم - وهو كقوله: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ). والثالث: العدل الذي هو مقابل الإحسان وهو الفضل لا العدل الذي هو ضد الجور؛ كقوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ) الآية، لا يحتمل أن يقول: لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء في العدل الذي هو ضد الجور؛ لأن في مثل هذا يستطيعون أن يعدلوا بينهم؛ فعلى ذلك قوله: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) بالعدل الذي هو مقابل الإحسان وهو الفضل؛ إذ للفضل درجات، وأصله

(5)

أن جزاء الآخرة كله إفضال وإحسان وإنعام لا استحقاق واستيجاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ). قيل: الحميم: هو الشراب الذي انتهى حره غايته. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) ذكر في الشمس الضياء وفي القمر النور فهو - واللَّه أعلم - لأن الليل مظلم يظهر نور القمر فيه ويغلب على ظلمة الليل ويقهرها، وأما النهار فهو مبصر على ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) جعل فيه النور، فلو جعل الشمس في النور خاصة، لكان لا يظهر نور الشمس ولا غلب نورها على نور النهار، ويغلبه ويقهره ليظهر المنافع التي جعل فيها ولو كان نورًا مثله لم يظهر نور هذا من هذا ولم يوصل إلى المنافع التي جعلت فيها للخلق، وهو ما ذكر أنه مد الظل، وأخبر أنه لو شاء لجعله ساكنًا ولو كان ساكنًا ممتدًّا على ما جعل بقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، لكان لا يعرف الظل، ثم أخبر أنه جعل الشمس دليلا عليه ليعرف بها الظل، فتنسخ الشمس ذلك الظل الممدود شيئًا بعد شيء، فصارت الشمس بها يعرف الظل وبها يظهر فضل ذلك الضياء الذي في الشمس كان به يعرف نورها من نور النهار وبه يوصل إلى منافع الشمس، ولو كان نورًا لكان لا يعرف ولا يظهر؛ إذ لا يغلب أحدهما صاحبه - واللَّه أعلم - ولا يعرف آية الشمس من آية النهار، ثم جعل آية الشمس غالبة على جميع الآيات حتى لا تبصر النجوم بالنهار أصلا والقمر وإن كان نوره يرى بجلاء، فإن نور الشمس قد يغلبه ويقهره حتى لا يظهر أبدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ). يشبه أن يكون التقدير الذي ذكر لهما جميعًا ويعرف الحساب وعدد السنين لهما جميعًا، وكذلك ذكر في حرف حفصة: (وقدرهما منازل)، وجائز أن يكون جعل الشمس بالذي يعرف بها أوقات الصلوات والأزمنة من الشتاء والصيف لا يعرف ذلك بالقمر، وجعل في القمر معرفة الشهور والسنين، وفي الشمس معرفة أوقات الصلوات

(6)

والأزمنة، لا يعرف بها الشهور والسنون إلا بعد جهد؛ وبالقمر لا تعرف أوقات الصلوات والأزمنة، جعل اللَّه تعالى في الشمس منفعتين: منفعة التقلب ومعرفة الأزمنة، ومعرفة نضج الأشياء وينعها، وفي القمر منفعتين أيضًا: أحدهما: معرفة حساب الأيام والشهور والسنين، ومعرفة نضج الإنزال والأشياء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) ليس أن يعرف هذا بهما ولا يعرف غيره، بل يعرف ما ذكر وأشياء كثيرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ). قال أبو بكر الأصم والكيساني: (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ)، أي: ما خلق اللَّه ذلك إلا وقد جعل فيه دلالة معرفته. وقال قائلون: (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ)، أي: ما خلق اللَّه ذلك إلا وقد جعل فيه دلالة معرفة الشهادة له على الخلق، وهي شهادة الوحدانية والألوهية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما خلق اللَّه ذلك إلا بالأمر الكائن لا محالة وهو البعث. ويحتمل قوله: (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي: بالحكمة، لم يخلق ذلك عبثًا باطلا؛ وهو كقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا)، ولكن بحكمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). قيل: نبين أو نصرفها لقوم ينتفعون بعلمهم، إنما ذكر الآيات فيما ذكر لقوم يعقلون ولقوم يتفكرون ولقوم يفقهون الآيات التي ينتفعون بها ويعقلون الشيء، إنما يكون للشيء الذي ينتفع به لا للذي لا ينتفع به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إن في اختلاف الليل والنهار آية البعث ودلالة تدبير صانعهما، أما دلالة البعث فهي أن كل واحد منهما إذا جاء ذهب الآخر وفني حتى لا يبقى له الأثر، ثم يتجددان ويحدثان على ذلك أمرهما، ويتلف كل واحد منهما صاحبه حتى لا يبقى له الأثر، فمن قدر على ما ذكرنا قدر على بعثهم وإنشائهم بعد الموت بعدما صاروا ترابًا، وأما دلالة التدبير فهو جريانهما وسيرهما على سنن واحد وتقدير واحد من غير تغيير يقع فيهما أو تفاوت أو

(7)

نقصان يقع فيهما أو زيادة وإن كان أحدهما يدخل في الآخر، دل على ما ذكرنا أنهما يجريان ويختلفان على شيء واحد وجريان واحد؛ أن فيهما تدبيرًا غير ذاتي وعلمًا أزليا وأنه واحد؛ إذ لو كان التدبير فيهما لعدد لكانا مختلفين ولا يجريان على قدر واحد من غير تفاوت فيهما أو نقصان أو زيادة، دل أنه واحد، وباللَّه التوفيق. وفي ذلك دلالة وحدانية منشئهما وخالقهما؛ لأنه أنشأهما وبينهما من البعد ما بينهما من البعد، وجعل منافع أحدهما متصلة بمنافع الآخر على بعد ما بينهما، دل أن منشئهما واحد؛ إذ لو كان فعل عدد منع كل منهم فعله عن الوصول بالآخر على ما هو فعل ملوك الأرض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ). مخالفة اللَّه ويتقون جميع الشرور والمساوي. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا). قال قائلون: (لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) من الرجاء، أي: لا يرجون ما وعد للخلق من الثواب، ولا يرغبون فيما يرجى ويطمع من الرغائب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) أي: لا يخافون لقاءنا، فما من خوف إلا وفيه رجاء، وما من رجاء إلا وفيه خوف؛ لأن الخوف الذي لا رجاء فيه هو يأس، والرجاء الذي لا خوف فيه أمنٌ، لكن الغالب في الحسنات والخيرات الرجاء وفيه خوف، والغالب في السيئات والشرور الخوف وفيه أدنى الرجاء، وهو ما ذكرنا في الشكر والصبر أنهما واحد؛ لأن الصبر هو كف النفس عن الشهوات واللذات، والشكر هو استعمالها في الخيرات، فإذا كفها عن الشهوات استعملها في الخيرات؛ لذلك قلنا: إنهما في الحقيقة واحد؛ ولأن الشكر هو القبول وكذلك الصبر أيضا، غير أن الشكر في قبول النعم والصبر في قبول البلايا والمصائب - واللَّه أعلم - يصير كأنه قال: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا).

(8)

أي: اختاروا المقام فيما عملوا لها كأنهم يقيمون فيها أبدا. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) من ردهم الآيات وكفرهم بها. وقوله: (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) يحتمل وجهين: أحدهما: سروا بها وآثروا ثواب محاسن الدنيا على ثواب الآخرة. والثاني: رضاهم بالدنيا والطمأنينة فيها منعهم عن التفكير والنظر في أمر الآخرة. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ). يحتمل وجوهًا: يحتمل: يهديهم ربهم بإيمانهم في الدنيا طريق الجنة في الآخرة، وهو يعني ما ذكر في القصة أن المؤمن إذا أخرج من القبر يصور له عمله في صورة حسنة. والثاني: يهديهم ربهم بإيمانهم، أي: يهديهم ربهم بإيمانهم، فيصيرون مهتدين بهدايته إياهم ويشبه يهديهم ربهم بإيمانهم أي يدعوهم إلى الخيرات في الدنيا بإيمانهم، واللَّه أعلم. فهذا على المعتزلة؛ لأنهم يمتنعون عن تسمية صاحب الكبيرة مؤمنًا ومعه إيمان، فيلزمهم أن يمتنعوا عما وعد له وإن كان معه إيمان، فإذا ذكر له الوعد مع هذا ألزمهم أن يسموه مؤمنًا لما معه من الإيمان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). يقول أهل التأويل: من تحت أهل الجنة، وقد ذكرنا هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) قال قائلون: قوله: (دَعْوَاهُمْ) دعوى الإيمان؛ أي: يدعون في الآخرة من الإيمان والتوحيد لله والتنزيه له كما ادعوا في الدنيا وحدانية اللَّه ونزهوه. وقوله: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ). هو حرف تنزيه وتبرئة الرب عن الأشباه وجميع الآفات التي وصفته المشبهة الملحدة بها، فهذا يدل أن ما خرج مخرج الدعوى فإنه لا يختلف باختلاف الدور.

وقال عامة أهل التأويل: هو من الدعاء لا من الدعوى، يقولون: إنهم إذا اشتهوا طعامًا أو شرابًا وتمنوا شيئًا فيدعونه بقوله: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ) وفيؤتون ما تمنوا واشتهوا؛ لما ذكر أنه لا تنقطع اللذات في الجنة، ولو كان ما يقولون لكان فيه انقطاع اللذات والشهوات، إلا أن يقال: إنهم يلهمون شهوات وأماني فيشتهون، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ)، (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)، ولا نعلم ما أراد به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ) ويخرج على وجوه: أحدها: يخبر أنه ليس على أهل الجنة من العبادات شيء سوى التوحيد وهو كلمة التوحيد. والثاني: يقولون ذلك لعظيم ما رأوا من النعيم وعجيب ما عاينوا. والثالث: شكرًا لما أعطاهم من ألوان النعيم والأطعمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ). قال أهل التأويل: إن الملائكة يأتون بما اشتهوا ويسلمون عليهم ويردون السلام على الملائكة؛ فذلك قوله: (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ)، فإذا طعموا وفرغوا قالوا عند ذلك: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وغيره من أهل التأويل، ويشبه أن يكون قوله: (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ) والسلام الذي لا عيب فيه ولا مطعن، أي كلام بعضهم لبعض منزه منقى من جميع العيوب والمطاعن؛ كقوله: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا) الآية، وقوله: (إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)، ونحوه. وقوله: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). قال أهل التأويل: يقولون على أثر فراغهم من الطعام والشراب ذلك. وقال الحسنِ: إن اللَّه رضي عن عباده بالشكر لما أنعم عليهم في الدنيا والآخرة بـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ويشبه أن يكون قوله: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ) أي دعواهم فِي الآخرة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، كما كان دعواهم في الدنيا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

(12)

قوله تعالى: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ). كأن الآية على الإخبار كأنه قال: ولو يعجل اللَّه للناس الشر إذا استعجلوه كما يعجل لهم الخير إذا استعجلوه - لقضي إليهم أجلهم، لأنه ليس يذكر في ظاهر الآية استعجالهم الشر إنما يذكر تعجيله، ولكن فيه ما ذكر من الإضمار إضمار الاستعجال، ومنه ما ذكر في غير آية من القرآن استعجالهم العذاب؛ كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) الآية. وقولهم: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً) الآية، ونحو ذلك، كانوا يستعجلون العذاب استعجال تضرع، فيقول: لو عجل لهم العذاب إذا استعجلوه كما يعجل لهم الخير إذا استعجلوه - لقضي أجلهم، يقول: لهلكوا أو فنوا، هذا التأويل في أهل الكفر خاصة عند استعجالهم العذاب استعجال تضرع وسؤال، ويشبه أن يكون هذا في جملة الخلق على غير تصريح سؤال، ولكن عند ارتكابهم الشر بقوله: لو يعجل اللَّه للناس الشر باكتسابهم الشر وبارتكابهم إياه وقت اكتسابهم، كما يعجل لهم الخير، وقت اكتسابهم الخير - لقضي إليهم أجلهم، أي: لو عجل لهم جزاء شرهم وقت اكتسابهم الشر، كما يعجل لهم جزاء خيرهم، لكان ما ذكر ما يستوجبون بارتكابهم الشر وقت فعلهم إياه لقضي إليهم أجلهم، لكنه لم يعجل لهم ذلك وأخره إلى المدة التي جعل لآجالهم. ويمكن وجه آخر: وهو ما يدعو بعضهم على بعض باللعن والخزي، يقول الرجل عند شدة الغضب: اللهم العن فلانا، اللهم أخزه، ونحو ذلك من الدعوات، يقول: لو عجل لهم هذا كما يعجل لهم عند دعاء بعضهم لبعض بالرحمة والسعة - لقضي إليهم أجلهم؛ لهلكوا وفنوا، ويكون ذلك انقضاء أجلهم، ويكون ذلك على وجوه ثلاثة. أحدها: استعجال سؤال وتضرع، الذي ذكرنا. والثاني: بأفعالهم وارتكابهم الشر وقت ارتكابهم. والثالث: الأسباب التي بها يرتكبون ويفعلون. وقوله: (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) يحتمل: لقضي أجلهم قبل المدة التي جعل لهم.

(12)

والثاني: لقضي أجلهم؛ أي: يجعل أجلهم ذلك، ففيه دلالة ألا يهلك أحد قبل أجله ولا يقدم ولا يؤخر، فهو ما ذكر: (لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ). هو ما ذكرنا أن من حكمه ألا يعاقب. أحدًا من الكفرة في الدنيا بصنيعه الذي صنع، وقد يعجل لهم جزاء خيراتهم في الدنيا؛ كما ساق إليهم من أنواع النعم، ولكن من حكمه أن يؤخر عقوبتهم إلى يوم القيامة؛ فذلك تأويله، واللَّه أعلم. (فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي: نتركهم يترددون في أعمالهم، وجرمهم إلى الوقت الذي وعد لهم العذاب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) قال بعض أهل التأويل: إن جميع ما ذُكر في القرآن الإنسان فالمراد منه الكافر؛ من ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) وقوله: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، ونحوه، لكن هذا لا نعلم أنه أراد به الكافر، فلئن كان ما ذكروا فإن أهل الإيمان يدخلون في هذا الخطاب، إذا كان منهم ما يكون من الكفرة؛ لأن من أهل الإيمان من يقبل على الدعاء والتضرع إلى اللَّه عند مس الحاجة والشدة، فإذا انجلى ذلك وانكشف عنه ترك ذلك الدعاء الذي كان دعا، وذلك التضرع الذي كان يتضرع إليه، فدخل في ذلك.

(13)

ثم قوله: (دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا): ليس على إرادة حقيقة الجنب والقعود والقيام، ولكن على الدعاء في كل حال، أي: يدعونه في كل حال؛ لما عرفوا أن الذين كانوا يعبدون من دون اللَّه لا يملكون دفع ما حل بهم من الشدائد والمضار - أقبلوا على اللَّه بالتضرع والدعاء إليه في كشف ذلك عنهم. ثم أخبر عن سفههم وشدة تعنتهم وعودهم إلى الحال التي كانوا من قبل فقال: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ): يقول - واللَّه أعلم -: مر كأن لم يدعنا قد نسينا في الرخاء كأن لم يعرفنا واستمر على ترك الدعاء في الرخاء، وقوله: (كَذَلِكَ) عرفنا ما كانوا يعملون والإسراف هو العدوان، والتعدي عن الحد الذي جعل له وهو وضع الأموال والأنفس في الموضع الذي لا ينتفعون بها في عبادة الأصنام وغيرها، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا): فَإِنْ قِيلَ: قد أهلك من قد ظلم ومن لم يظلم، فما يعلم من أهلك من الظلمة أنه إنما أهلكهم لظلمهم، أو أهلك لصلاح من لم يظلم. قيل: إنه أهلك الظلمة إهلاك استئصال وعقوبة، وأهلك من لم يظلم لا إهلاك عقوبة واستئصال، إنما هو إهلاك بآجالهم التي جعل لهم. ويحتمل قوله: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): إنما أهلك أُولَئِكَ بسؤالهم الذي سألوا سؤال تعنت رسلهم الآيات، فإذا جاءوا بتلك الآيات كذبوها، فأهلكوا عند ذلك، فأنتم يا أهل مكة إذا سألتم رسولكم الآية ثم

(14)

كذبتموها، يعذبكم كما عذب أُولَئِكَ؛ إذ من حكمه الإهلاك على أثر السؤال، كأنه ينهى أهل مكة عن سؤال الآيات، فإن على إثره الإهلاك إذا لم يقبلوها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) يحتمل البينات التي تبين ما يؤتى وما يتقى، وقد ذكرناها في غير موضع. (وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا): يخبر رسوله أنهم وإن سألوك الآيات فإذا جئت بها فإنهم لا يؤمنون، يعني: أهل مكة. (كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ): كل مجرم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) يحتمل قوله: (خَلَائِفَ) أي: جعل أنفسكم خلف أنفس أُولَئِكَ الذين لم يهلكهم، يخرج هذا مخرج تذكير النعمة والامتنان والرحمة، يذكرهم أنه لو شاء أهلك الكل، فلا يكون هَؤُلَاءِ خلف أُولَئِكَ، ولكن بفضله ورحمته أبقاكم. ويحتمل قوله: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ) أُولَئِكَ في المحنة والعبادة أي: جعل عليكم من المحنة والعبادة كما كان على آبائكم من المحنة والعبادة. ويشبه أن يكون قوله جعلناكم خلائف، الذين لم يظلموا، فكيف لا تتبعونهم؛ لأن الذين ظلموا قد أهلكتهم، فأنتم خلائف أُولَئِكَ الذين لم يظلموا ولم يكذبوا الرسل، فكيف لا تتبعونهم كأنهم ادعوا أن آباءهم كانوا على ما هم عليه، وأنهم على مذاهب آبائهم، يقول: جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم، أي: لست أنا بأول رسول أرسلت إليكم، بل لم يزل اللَّه يرسل رسلا في الأمم، فكان فيهم لهم أتباع يتبعون رسلهم إلى ما يدعونهم إليه ويجيبونهم، فاتبعوني أنتم يا أهل مكة فيما دعيتم إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ): لم يزل اللَّه تعالى عالمًا بما كان ويكون منهم من المعصية والطاعة، ولكن ليعلمهم عصاة ومطيعين؛ لأن المعصية إنما تكون بعد ما يكون النهي والطاعة إنما تكون بالأمر فيبتليكم فيعلمكم عصاة كما علم أنه يكون منكم معصية ويعلمكم مطيعين كما علم أنه يكون منكم الطاعة، وقد ذكرنا أمثال هذا فيما تقدم، واللَّه أعلم.

(15)

قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ): البينات قد ذكرنا في غير موضع، والبينات هي التي تبين أنها آيات نزلت من عند اللَّه لم يخترعها أحد من الخلق. وقد ذكرنا قوله -أيضًا-: (قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ): يشبه أن يكون قولهم (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) ألا ترى أنه قال: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي)، إنما أجابهم في التبديل؛ دل أن السؤال كان سؤال تبديل، ولكن كانوا يسألون سؤال استهزاء وتكذيب. ثم اختلف أهل التأويل في التبديل الذي سألوا. قَالَ بَعْضُهُمْ: سألوا أن يبدل ويجعل مكان آية العذاب آية الرحمة أو يبدل أحكامه. ويحتمل قوله: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا) أي: بدل أحكامه واترك رسمه. ويحتمل ما ذكرنا أنهم سألوا أن يتلو مكان آية العذاب آية الرحمة، ومكان ما فيه سبُّ آلهتهم مدحها ونحو ذلك، واللَّه أعلم.

(16)

ونحن لا نعلم ما أراد بالتبديل تبديل الأحكام أو تبديل الرسم والنظم، إنما نعلم ذلك بالسماع. ثم أخبر أنه لا يقول ولا يتبع إلا ما يوحى إليه ويؤمر به بقوله: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) إن تركت تبليغ ما أمرت بالتبليغ إليكم، وهكذا كل من عرف ربه خافه إن عصاه وخالف أمره ونهيه، ومن لم يعرف ربه لم يخفه إن عصاه وخالف. وقوله: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ): سؤالهم سؤال تعنت واسحهزاء؛ لأنه لا منفعة لهم لو أتى بغيره وبدله سوى ما في هذا ولو جاز لهم هذا السؤال جاز ذلك في كل ما أتى به واحدًا بعد واحد، فذلك مما لا ينقطع أبدًا ولا غاية ولا نهاية فهو سؤال تعنت واستهزاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) هو صلة ما تقدم من قوله حيث قالوا: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) قد ذكرنا أن هذا يحتمل وجهين:

يحتمل أنهم سألوه أن يبدل أحكامه على ترك رسمه ونظمه. ويحتمل قوله: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) أي: ارفع رسمه ونظمه وأحكامه، كأنهم ادعوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اختراع هذا القرآن من نفسه واختلاقه من عنده، فقال: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) تأويله - واللَّه أعلم -: لو شاء اللَّه ألا يظهر دينه فيكم ولا ألزمكم حجته، ولا بعثني إليكم رسولا، (مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) (وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ) أي: ولا أعلمكم به. ويحتمل قوله: (وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ): ولا أعلمكم ما فيه من الأحكام، أو يقول: لو شاء اللَّه لم يوح إلي، ولا أمرني بتبليغ ما أوحي إلي إليكم، ولا بالدعاء إلى ما أمرني أن أدعوكم إليه. وفي قوله: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) دلالة أن اللَّه إن شاء شيئًا كان وما لم يشأ لم يكن لأنه أخبر أنه لو شاء ما تلوته عليكم، فلو لم يشأ أن يتلوه ما تلاه؛ دل أن ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، وذلك يرد على المعتزلة قولهم: شاء اللَّه أن يؤمن الخلائق كلهم لكنهم لم يؤمنوا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أي: فقد لبثت فيكم عمرا من قبله فلم أدع ما أدعي للحال، ولا تلوت ما أتلو، أفلا تعقلون أني لم أخترع هذا من نفسي، ولكن وحي أوحي إليَّ؟! إذ لو كان اختراعًا مني لكان ذلك مني فيما مضى من الوقت وكنت [لابثًا] فيكم، فإذ لم يكن مني ذلك أفلا تعقلون أني لم أخترع من نفسي؟!. يحتمل هذا الكلام وجوهًا: أحدها: أنهم لما ادعوا عليه الاختراع من عنده قال: إني قد لبثت فيكم من قبله، أي: من قبل أن يوحى هذا إليَّ، فلم تروني خططت بيميني، ولا اختلفت إلى أحد في التعلم والدراسة، فكيف أخترع من عندي؛ إذ التأليف لا يلتئم ولا يتم إلا بأسباب تتقدم؟! والثاني: فقد لبثت عمرا سنين لم تعرفوني ولا رأيتموني كذبت قط، فكيف أفتري على اللَّه تعالى وأخترع القرآن من عند نفسي؟! ألا ترى أنه قال على إثر هذه: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ

(17)

افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي: لا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه كذبًا. والثالث: يحتمل قوله: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ) فلم أسمع أحدًا ادعى البعث، ولا أقام حجة عليه، وأنا قد ادعيت البعث وأقمت على ذلك حجة، أفلا تعقلون هذا أني لم أخترع من عند نفسي؟! وقوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) يشبه أن هذا صلة قوله: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) أي كيف تطلبون مني إتيان غيره وتبديل أحكامه وقد تعرفون قبح الكذب وفحشه فكيف تسألونني الافتراء على اللَّه وتكذيب آياته؟ ويحتمل أن يكون صلة ما ادعوا عليه أنه افتراه من عند نفسه؛ يقول: إنكم لم تأخذوني بكذب قط، وقد لبثت فيكم عمرا فكيف تنسبوني إلى الكذب على اللَّه، وقد عرفتم قبح الكذب على اللَّه وفحشه؟! ويحتمل على الابتداء ثم قد ذكرنا أن قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) استفهام، فجوابه ما قاله أهل التأويل: لا أحد أبين ظلما ولا أفحش ممن افترى على الله كذبًا؛ لا أن تفسيره ما قالوه، وقد ذكرنا هذا في غير موضع. (أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ): الافتراء على اللَّه تكذيب بآياته، وتكذيب آياته افتراء على اللَّه. * * * قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) يحتمل وجهين:

ما لا يضرهم لو تركوا عبادته ولا ينفعهم إن عبدوه. والثاني: (مَا لَا يَضُرُّهُمْ) أي: ما لا يملكون الضرر بهم، (وَلَا يَنْفَعُهُمْ) أي: ولا يملكون جر النفع إليهم يسفههم في عبادتهم من لا يملك بهم دفع الضرر، ولا يملك جر النفع، وتركهم عبادة من به يكون جميع منافعهم وعذابهم، ومنه يكون كل خوف وضرّ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ): يحتمل هذا القول منهم تقليدا لآبائهم؛ كقولهم: (وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، ظنوا أن آباءهم لما تركوا وما هم عليه لم يعذبوا - أنهم على الحق، وأن اللَّه قد رضي بذلك، أو قالوا ذلك لما لم يروا أنفسهم أهلا لعبادة اللَّه والقيام بخدمته، وقد يكون مثل هذا في ملوك الأرض أن كل أحد لا يرى نفسه يصلح لخدمة الملك، فيخدم من دونه المتصلين به رجاء أن يكون من خدمه شفيعا له عند الملك؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ طمعوا أن عبادتهم هَؤُلَاءِ تقربهم إلى اللَّه زلفى، ويكونون لهم شفعاء عند اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) يقول: أتنبئون اللَّه أي أتخبرون اللَّه بما لا يعلم، أي: تعلمون أنه عالم، أي: أتعلمون من تَعْلمون أنه يعلم ما ذكر وأنتم لا تعلمون ذلك، وقد تعلمون أنه لو كان كذلك لكان هو أعلم به منكم. والثاني: أن تقولوا ما لا يعلم، أي: يعلم أنه ليس كما تقولون كقول الناس: ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لا يكون، أي: ما شاء ألا يكون لا يكون. وقوله: [(سُبْحَانَهُ)]: كلمة جعلت لإجلال اللَّه عما يحتمله غيره من الأشكال والأضداد، ومن العيوب والآفات، وهو في هذا الموضع يتوجه إلى وجهين إذ كانوا يعبدون ما ذكر ويقولون: هم شفعاؤنا عند اللَّه، فيقول: سبحانه أن يجعل لأمثال أُولَئِكَ

(19)

شفاعة عنده؛ إذ الشفيع يكون من له منزلة وقدر عند من يشفع له، والمنزلة تكون للعبيد بما يتعبدهم، فيقومون بتوفير ما يحتمل وسعهم من العبادة، فأما من لا يحتمل التعبد فهو بعيد عما ذكر يعني سبحانه أن يجعل الشفاعة لمن ذكر دون الأنبياء والرسل، وهم قد أخبروا أنها لا تملك ضرا ولا نفعًا، وفي الشفاعة ذلك. والثاني: أن يكون عما أشركوا في العبادة، فسبحانه عن أن يكون معه معبود أو يأذن لأحد بعبادة غيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً) أي: أهل مكة كانوا كلهم أهل شرك عبَّاد الأصنام والأوثان، لم يكن فيهم اليهودية ولا النصرانية ولا شيء من اختلاف المذاهب، فلما بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اختلفوا: فمنهم من آمن به وصدقه وأخلص دينه لله، ومنهم من عاند وكابر في تكذيبه بعد أن عرف أنه رسول اللَّه ومنهم من شك فيه، ومنهم من لم ينظر في أمره قط ولا تفكر فيه؛ فصاروا أربع فرق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً)، بالفطرة، أي: كانوا جميعًا على الفطرة، وفي فطرة كل أحد الشهادة على وحدانية اللَّه تعالى وألوهيته؛ كقوله: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)، وقوله: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)، في خلقة كل أحد الشهادة لله بالوحدانية له والألوهية فاختلفوا: فمنهم من كان على تلك الفطرة، ومنهم من كذب واختار الكفر، وهو ما روي: " كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه وينصرانه ". أخبر أنهم على الفطرة لو تركوا على ذلك، لكنَّ أبويه يمنعانه عن الكون عليها. وقيل: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً) أي: كان الخلائق جملة أمم؛ كقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)، كأنه يعاتب هذه الأمة يقول: إن الأمم مع اختلاف جواهرها وأجناسها كانوا خاضعين لله مخلصين له،

(20)

فأنتم أيها الناس أمة من تلك الأمم، فكيف اختلفتم وأشركتم غيره في ألوهيته وربوبيته، مع ما ركب فيكم من العقول والتمييز بين ما هو حكمة وما هو سفه، وقد فضلكم على غيرها من الأمم في خلق ما خلق في السماوات وما في الأرض لكم، وسخر لكم ذلك كله ما لم يفعل ذلك بغيرنا من الأمم؟! ومنهم من قال من أهل التأويل في قوله: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً): زمن نوح: نوح ومن دخل معه في السفينة كانوا على دين واحد، فاختلفوا بعدما خرجوا. ومنهم من قال: آدم فاختلف أولاده. ومنهم من قال: زمن إبراهيم. لكنا لا نشهد كيف كان الأمر، فلا نعلم إلا بخبر عن اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) قيل: لولا أن من حكمه ألا يعذب هذه الأمة عند تكذيبهم الآيات إذا سألوها وإلا لأهلكها كما أهلك الأمم الخالية بتكذيبهم الآيات عند السؤال، ولكن أخر تعذيب هذه الأمة إلى يوم القيامة. والثاني: سبقت من ربك ألا يستأصل هذه الأمة عند تكذيبهم الرسل والعناد لهم أحد التأويلين في ترك استئصالهم، والآخر في تأخير العذإب عنهم إلى وقت. وقوله: (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ببيان يضطرهم إلى القبول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) جوابه - واللَّه أعلم - ما ذكر: لولا كلمة سبقت من ربك ألا يعذب هذه الأمة بتكذيبهم الآيات عند سؤالها، وإلا لعذبتم أنتم كما عذبت الأمم الخالية بتكذيبهم الآيات عند السؤال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ): أي: إنكم تعلمون أن علم الغيب لله، وقد أنزل من الآيات ما يبين ويدل على رسالتي.

(21)

وقوله: (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) قيل: انتظروا هلاكي إني منتظر هلاككم؛ لأنهم كانوا يوعدونه الهلاك. وقيل: انتظروا مواعيد الشيطان إني منتظر مواعيد اللَّه، وهو حرف وعيد، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا): قال أهل التأويل: (أَذَقْنَا النَّاسَ) يعني: أهل مكة إذا أصابهم سعة وفرح ونجاة مما يخافون عادوا إلى ما كانوا من التكذيب وعبادة الأصنام، ولكن أهل مكة وغيرهم أنهم إذا أيسوا عما يعبدون من الأصنام والأوثان، فزعوا إلى اللَّه ويخلصون له الدِّين؛ كقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الآية، وقوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا. . .) الآية، وقوله: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ. . .) الآية، وغير ذلك من الآيات مما يكثر عددها، كانت عادتهم الفزع إلى اللَّه عند إصابتهم الشدائد والبلايا؛ لعلمهم أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لا يدفعون عنهم ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا): المكر في الآيات تكذيبها وردها، فيشبه أن تكون الآية هاهنا محمدا، كان هو من أول أمره إلى آخره آية، فمكروا به لما هموا بقتله غير مرة؛ كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الآية، ويحتمل سائر الآيات والحجج مكروا فيها، أي: كذبوها وردوها. (قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا): المكر الأخذ من غير أن يعلم هو به، يقول: اللَّه أسرع أخذا يأخذكم وأنتم لا تعلمون به، ولا تقدرون أن تأخذوا رسول اللَّه وتمكروا به إلا وهو يعلم بذلك، فهو أسرع أخذا منكم. (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ): فهم الحفظة.

(22)

ويحتمل قوله: (قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا) أي: أسرع لجزاء المكر منكم، أو أسرع أخذًا من حيث لا تعلمون أنتم. وقال بعض أهل اللغة: المكر بالآيات هو الرد والجحود لها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: استهزاء بها؛ فهو واحد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) اختلف فيه: قال: بعضهم: قوله: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) أي: هو الذي سخر لكم ما به تسيرون في البر والبحر، وهو الدواب والسفن التي يقطع بها البراري والبحار، وهو كقوله: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13). وقيل: قوله: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي: سخر لكم البر والبحر وهما مكانا الخوف والهلاك، أي: حفظكم فيهما حتى قضيتم فيهما حوائجكم، وليس في وسع الخلق حفظ البراري والبحار عما فيهما من الأهوال، فتولى اللَّه بفضله حفظ السائرين فيهما، حتى قضوا فيهما حوائجهم؛ وهو كقوله: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا. . .) إلى آخر ما ذكر من أنواع المنافع، فلولا أن اللَّه سخر لهم ذلك وحفظهم فيه، وإلا لم يكن في وسعهم القيام بذلك وحفظ أنفسهم فيه من الأهوال التي فيه، يذكرهم نعمه ومننه التي أنعمها عليهم ليوجهوا شكر نعمه إليه. ثم قوله: (يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يحتمل يخلق وينشئ سيركم في البر والبحر؛ وهو كقوله: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ. . .) الآية، والتقدير هو التخليق والمقدر المخلوق، ففيه دلالة خلق أفعال الخلق؛ لأن السير هو فعل الخلق أضافه إلى نفسه؛ دل أنه منشئ فعلهم، واللَّه أعلم. ويشبه أن يكون قوله: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) لم يرد به البر والبحر نفسه، ولكنه أراد تذكير نعمه عليهم في كل حال وكل وقت ليشكروا له في كل حال؛ وهو كقوله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، لم يرد به البر والبحر أنفسهما، ولكن أراد المكان الذي فيه المياه والمكان الذي لا مياه فيه، أي: ظهر الفساد في الأماكن كلها؛ فعلى ذلك الأول يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم في الأماكن كلها والأحوال جميعًا، واللَّه أعلم.

(23)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أي: ركبتم الفلك، (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي: تجري بهم السفن بريح طيبة. يخبر أن السفن ليست تجري في البحار بجريان الماء؛ لأن ماءها راكد في الظاهر، ولكن الريح هي التي تجريها وتسيرها؛ وكذلك الأمواج التي تكون فيها ليست لشدة جريان الماء، ولكن الريح هي التي تهيج الأمواج وتزعجها لا بنفس الماء (وَفَرِحُوا بِهَا) وقيل: فرحوا بها: سروا بها. ويحتمل فرحوا بها، أي: بطروا بها وأشروا. وقوله: (جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ)، أخبر أن من الريح ما هي طيبة تجري بها السفن، ومنها ما هي عاصفة قاصفة تكسر وتفرق السفن وتهلك أهلها؛ ليعلم أن الأشياء تصلح تارة وتفسد تارة لا لأنفسها، ولكن لحفظ الحدود فيها، وكذلك النار تحرق مرة وتفسد ومرة تصلح وذلك لحفظ الحدود فيها، وكذلك الماء مرة يصلح ومرة يفسد، وذلك إذا حفظ فيه الحد أصلح، وإن لم يحفظ أفسده، وإلا لا يحتمل الشيء الواحد لنفسه يصلح مرة ويفسد لّارة، ولكن لحفظ الحدود فيه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) قيل: أيقنوا أنهم مهلكون، ولكن الإيقان بالشيء الذي يصيب به في حادث الأوقات إنما يكون بالخبر لأنه لا يدري لعل اللَّه يصرف ذلك عنهم، فلا يقع به الإيقان، ولكن جعل غالب الظن فيه في كثير من الأشياء كالإيقان به ألا ترى أن اللَّه أباح الميتة في حال الضرورة لغالب الظن؛ إذ قد يجوز ألا يهلك بذلك، وكذلك ما أبيح للمكره بالقتل أن يجري كلمة الكفر على لسانه لغالب الظن، وإلا ليس يعلم بالإحاطة أنه يقتله لا محالة، لكن جعل لغالب الظن في بعض المواضع حكم اليقين والإحاطة فعلى ذلك قولهم أيقنوا أنهم أحيط بهم لغالب الظن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ): أنهم لما أيسوا عن الأصنام التي عبدوها في دفع ما حل بهم عنهم، فزعوا إلى اللَّه، وأخلصوا الدعاء له، وقالوا: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، ثم أخبر عن سفههم بعودهم إلى ما كانوا من قبل، (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) وهكذا كانت عادتهم كانوا يفزعون إلى اللَّه عند خوف الهلاك والإياس عن آلهتهم التي عبدوها، ويخلصون الدعاء له، فإذا كشف ذلك الكرب عنهم ودفع، عادوا إلى ما كانوا من قبل. والبغي في الأرض هو الفساد فيها،

(24)

وقوله: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ويحتمل قوله: (عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: بعضكم على بعض. ويحتمل: (عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: حاصل بغيكم يرجع على أنفسكم. والبغي هو الظلم؛ فإن كان التأويل: من أنفسكم بعضكم على بعض؛ فيكون الوعيد في قوله: (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ) وقوله: (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ما قد ذكرنا، وهو حرف وعيد، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) الآية. قيل: في ضرب مثل الحياة الدنيا بالزرع الذي ذكر وجوه. قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وفي سرعة فنائها وانقطاعها ووجوب زوالها مثل ذلك الزرع الذي ذكر في سرعة هلاكه وانقطاعه وزواله عن صاحبه. أو أن يقال: إنما مثل الحياة الدنيا فيما يسر به ويبتهج مثل صاحب الزرع الذي ذكر، فيما سر به وابتهج، ثم كان ما ذكر: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما مثل الحياة الدنيا للحياة الدنيا فيما ينفقون فيها، مثل صاحب الزرع الذي ذكر ينفق عنيه لما يأمل من المنافع ويطمع منه ثم كان ما ذكر ولو علم في الابتداء أن أمر زرعه يئول ويصير إلى ما صار لكان لا ينفق؛ فعلى ذلك صاحب الحياة الدنيا لو علم أن عاقبة أمر نفقته تصير حسرة عليه وندامة ما أنفق، كما أن صاحب الزرع

الذي ذكر وبلغ المبلغ الذي ذكر لو علم أن عاقبته كما كان ما أنفق عليه، أو لو علم أنه لا ينتفع به ما أنفق تلك النفقة، أي: لو علم أن سروره وابتهاجه به لا يبقى ولا يدوم إلى آخره ما تكلف ذلك، أو لو علم أنها تزول عنه وتنقطع عن تلك السرعة ما أنفق ذلك وما تكلف الذي تكلف. ويحتمل ضرب مثل الحياة الدنيا بما ذكر من النبات وجهين: أحدهما: يخبر عن سرعة زوالها وانقطاعها كالنبات الذي ذكر أنه يتسارع إلى الزوال والانقطاع لما يصيبه من الآفة فعلى ذلك الدنيا. والثاني يخبر عن تغيرها وانقلاب أمرها كالنبات، الذي يتغير في أدنى مدة ووقت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) قيل: حسنها، وازينت وحسنت فأنبتت من ألوان النبات. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: زخرفها: زينتها من النبت، (حَصِيدًا) أي: محصودا كما يحصد الحصاد، والحصاد: الزرع، (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي: لم تعش، والمغاني هي، المواضع التي يعيش فيها الناس، قال: وواحد المغاني مغنى. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: وأصل الزخرف الذهب؛ يقال للنقش والذهبة وكل شيء زين: زخرف، وقال: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) والمغاني: المنازل واحدها مغنى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي: لم تنعم. وقيل: لم تعمر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الغِنَى، أي: كأن لم تكن غنيا بالأمس، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) أي: ظن أهل الدنيا فيما ينفقون أنهم قادرون على تلك النفقة، كما ظن صاحب الزرع أنه قادر على ذلك الزرع. وقوله: (أَتَاهَا أَمْرُنَا) قيل: عذابنا سمي أمرًا؛ لأنه بأمره أتاه، وفيه أنه لم يأته عن غفلة وسهو، ولكن عن علم وأمر؛ عظة لهم وتنبيهًا؛ ألا ترى أنه قال: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) كأن الآيات في هذا الموضع المواعظ، أي: فيما ذكر من ضرب مثل الحياة الدنيا بالنبات والزرع الذي ذكر عظة وتنبيه لمن تفكر فيه، واللَّه أعلم.

(25)

قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) اختلف فيه؛ قيل: الجنة، والسلام: اللَّه أضافها إلى نفسه؛ كقوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)، فأضاف الجنة إلى السلام إن كان دار السلام هي الجنة، فهو - واللَّه أعلم - لأن المساجد هي أمكنة يقام فيها القرب، والجنة هي مكان اللذة وقضاء الشهوة، فأضافها إلى السلام لما يسلم أهلها عن جميع الآفات، والمساجد خصت بالإضافة إلى اللَّه تعالى؛ لأنها أمكنة يقام فيها القرب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: دار السلام: الإسلام. ثم يحتمل كل واحد من التأويلين وجهين بما سمى الإسلام دار السلام والجنة، كذلك سمى الإسلام دار السلام؛ لأنه يأمن ويسلم كل من دخل فيه عن جميع الأهوال والآفات التي تكون. والثاني: سمى الإسلام دار السلام، أضافه إلى نفسه؛ كقوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ. . .) الآية، أخبر أنه على نور من ربه؛ فعلى ذلك إضافة الإسلام إليه. ومن قال: دار السلام الجنة سمى دار السلام؛ لأن كل من دخل الجنة سلم وأمن عن الأهوال كلها والآفات جميعًا. والثاني: دار: الجنة، والسلام: اللَّه أضاف إليه؛ لأنها دار أوليائه، وقد تضاف إلى اللَّه على إرادة أوليائه، واللَّه أعلم.

(26)

وروى في بعض الأخبار عن أبي قلابة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " قيل لي لتنم عينك، وليعقل قلبك، ولتسمع أذنك فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني، ثم قيل لي: سيد بنى دارًا وجعل مأدبة وأرسل داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ولم يرض عنه السيد فاللَّه السيد، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والداعي مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ". إن ثبت هذا الخبر ففيه أن الدار الإسلام على ما قاله بعض أهل التأويل وفي خبر آخر عن جابر بن عبد اللَّه قال: " خرج علينا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يومًا فقال: رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي، قال أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا، قال: اسمع سمعت أذنك، وأعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارًا ثم بنى فيها بنيانًا فأتمه، ثم جعل فيها المأدبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فاللَّه الملك والدار الإسلام والبيت الجنة، وأنت يا مُحَمَّد الرسول، ومن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها ". هذا يدل -أيضًا- إن ثبت أن الدار التي ذكر في الآية هو الإسلام، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ. . .) الآية: ذكر الاستثناء في الهداية، ولم يذكر في الدعاء؛ ليعلم أن لا كل من يدعو إلى دار السلام يهديه، وإنما يهدي به من يعلم منه أنه يختار الهدى وذلك على القدرية. ثم الهدى على وجوه ثلاثة. أحدها: الدعاء كقوله: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ). والثاني: هو البيان كقوله: (هُدًى وَرَحْمَةً) يعني القرآن. والثالث: التوفيق والعصمة إذا وفق اهتدى، والهدى هاهنا التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: للذين أحسنوا في الدنيا لهم الحسنى في الآخرة جزاء ذلك الإحسان وهي الجنة، سمى الجنة

الحسنى؛ لأنها جزاء الإحسان، كما سمى النار السوءى؛ كقوله: (أَسَاءُوا السُّوأَى) لأنها جزاء السوء؛ كقوله: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)، (وَزِيَادَةٌ) قيل: المحبة في قلوب العباد يحبه كل محسن، وهيبة له في قلوب الناس يهابه كل أحد على غير سلطان له ولا يد. وقال قائلون: قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) أي: مثل تلك الحسنة وزيادة التضعيف، حتى تكون عشرا وسبعمائة وما شاء اللَّه، يدل على ذلك قوله: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا). وقال قائلون: قوله: (وَزِيَادَةٌ) الرؤية: رؤية الرب والنظر؛ كقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23). وقال قائلون: الزيادة قبول حسناته مع ما فيها من الخلط بالسيئات، يقبل حسناته بفضله. وإن كانت تشوبها السيئات ورضاه عنه، وذلك طريقه الفضل والإحسان؛ إذ قد سبق من اللَّه تعالى إليه من النعم ما لا يقدر القيام على وفاء نعمة منها طول عمره.

(27)

وعن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب ". فلا ندري ما الزيادة التي ذكرها عَزَّ وَجَلَّ في الآية إلا بالخبر عن اللَّه. وقال قائلون: الحسنى ما تقدره العقول وتدركها وتصورها الأوهام، وأما الزيادة فهي التي لا تقدرها العقول ولا تدركها ولا تصورها الأوهام؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ) قيل: لا يغشى وجوههم الغبار والريح على ما وصف وجوه أهل النار، وهو قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41). ولكن على ما وصف وجوه أهل الجنة بقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)، وذلك - واللَّه أعلم - آثار إحسانهم التي أحسنوا في الدنيا، ولما لم يروا النعم التي كانت لهم من سواه ولم يصرفوا شكرها إلى غيره، والغبرة والقترة التي ذكر لأهل النار هي آثار السيئات التي عملوها في الدنيا من عبادتهم دون الله وصرفهم شكر النعم إلى غيره ونحو ذلك من صنيعهم الذي صنعوا في الدنيا، واللَّه أعلم. (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) وقوله: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا): جزاء سيئة مما يوجبه الحكمة أن

يجزى بمثلها، وأما جزاء الإحسان والخير طريق وجوبه الإفضال والإحسان ليس طريق وجوبه الحكمة، إذ سبق من اللَّه، إلى كل أحد من النعم ما ليس في وسعه القيام بمكافأة واحدة منها عمره وإن طال واجتهد كل جهده، فضلا أن يستوجب قبله جزاء ما كان منه من الخيرات. وقوله: (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ): هو ما ذكرنا من آثار السيئات التي عملوها في الدنيا ذلا وهوانًا لهم (مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ)، وذلك أنهم - واللَّه أعلم - كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن يكونوا لهم شفعاء عند اللَّه، فأخبر أن ليس لهم من عذاب اللَّه مانع يمنع ذلك عنهم؛ كقولهم: (هؤُلَآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّه). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ) قيل: ألبست وأغطيت قطعًا مثقلا ومخففا قطعا، قيل: القطع بالتثقيل هو جمع القطعة، والقطع بالتخفيف جزء من الليل، يقال: سرنا بقطع من الليل، أي: بجزء من الليل، وقوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي: بجزء منه، واللَّه أعلم. ثم شبه وجوههم بظلمة الليل، ولم يشبه بسواد الوجوه على ما يكون من سواد الوجوه في الدنيا؛ فذلك - واللَّه أعلم - أن سواد الوجوه على ما يكون في الدنيا لا يبلغ من القبح غايته؛ إذ قد يرغب من كان جنسه ونوعه في ذلك ويحسن ذلك عنده، فإذا كانت الرغبة قد تقع لبعضهم في بعض لم يبلغ في القبح نهايته، وأما ظلمة الليل: فإن الطباع تنفر عنها، ولا تقع الرغبة فيها بحال؛ لذلك شبه وجوه أهل النار بها، واللَّه أعلم.

(28)

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) قال أهل التأويل: يعني العابد والمعبود الذين عبدوا دونه، ولكن نحشر الخلائق جميعًا. (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ) هذا الحرف هو حرف وعيد؛ يقال: مكانك أنت، كذا وإن كان هذا الحرف يجوز أن يستعمل في الكرامات وبر بعضهم بعضا، ولكن إنما يعرف ذا من ذا بالمقدمات، فما تقدم هاهنا يدل أنه لم يرد به الكرامة، ولكن أراد به الوعيد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ) قيل: فرقنا بينهم وميزنا بينهم، أي: بين العابد والمعبود. ثم يحتمل التفريق بينهم وجوهًا: أحدها: فرقنا بينهم في الحساب مما عمل ومما صحب. والثاني: يحتمل فرقنا بينهم لما طمعوا بعبادتهم إياها والشفاعة أن يكونوا لهم شفعاء عند اللَّه، ففرق بينهم في الشفاعة. ويحتمل فرقنا بينهم فيما ضل عنهم ما كانوا يفترون، فصار ما عبدوا ترابا وهم في النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ): يحتمل قوله: شركاؤهم: سماهم شركاء وإن لم يكونوا أشركاء في الحقيقة، لما عندهم أنهم شركاء؛ كما سمى الأصنام آلهة لما عندهم أنها آلهة. والثاني: (شُرَكَاؤُهُمْ) لما أشركوها في العبادة فهم شركاؤهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ): ينطق اللَّه تعالى يوم القيامة هذه الأصنام، وإن لم يكن في خلقتها النطق في الدنيا؛ كقوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) وقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ. . .) الآية، أنطقهم ليشهدوا عليهم. وقوله: (مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ): يحتمل الملائكة أن يكونوا هم الذين أنكروا؛ لأن منهم من يعبد الملائكة، أنكروا أن يكونوا يعبدونهم؛ لأن العبادة لآخر إنما تكون عبادة إذا كان من المعبود أمر بها، وكانت عبادتهم الأصنام عبادة للشيطان لأنه هو الآمر لهم بالعبادة

(29)

للأصنام؛ كقوله: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكنه لما كان الآمر لهم بالعبادة للأصنام صار كأنهم عبدوه، وإن لم يقصدوه بها ويحتمل ما ذكر من الإنكار من الأصنام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) أي: كفى اللَّه القاضي والحاكم بيننا وبينكم أنا لم نأمركم بعبادتنا، وهو العالم بأنا كنا بعبادتكم إيانا غافلين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قيل: عند ذلك، وقيل: يومئذ أي يوم القيامة. وقوله: (تَبْلُو) أو (تَتْلُو) بالباء والتاء، قيل: تقرأ في الصحف: " ما كتب من أعمالهم " وتبلو بالباء من الابتلاء، يقال: بلوته وابتليته واحد، وخبرته واختبرته أيضًا، وقيل: (تَبْلُو) تجد وتعلم كل نفس ما قدمت من الأعمال وقيل: تجزى كل نفس بما عملت. وقيل: (تَتْلُو) بالتاء أيضا: تتبع، كل نفس ما قدمت من الأعمال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) قيل: ملكهم الحق لأن غيره من الآلهة التي عبدوها قد بطل عنهم وضل في الآخرة.

(31)

ويحتمل: (وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) أي: حق ما تجد كل نفس ما قدمت من أعمالها، أو حق أن تقرأ كل نفس ما عملت وضل عنهم ما كانوا يفترون من العبادة للأصنام وقول الكفر، وقوله: (وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) يحتمل وجهين؛ أي: ردوا إلى ما أعدّ لهم مولاهم الحق، والثاني أي: ردوا إلى أمر مولاهم الحق، لا إلى أمر الأصنام التي كانوا يعبدونها. * * * قوله تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ. . .) الآية: يحاجهم يعني: أهل مكة في التوحيد والربوبية وكأن هذه السورة نزلت في محاجة أهل مكة في التوحيد، لأنها مكية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) يحتمل وجهين؛ أي: من ينزل لكم الرزق من السماء، ومن يستخرج لكم الرزق من الأرض. والثاني: من يرزقكم من السماء والأرض أي ومن يدبر الرزق في السماء، ومن يدبر الرزق في الأرض، لا أحد يملك استنزال الرزق من السماء، واستخراج الرزق من الأرض؛ وكذلك لا أحد يملك تدبيره في السماء والأرض سواه، ولا أحد يملك إنشاء السمع والبصر، ولا أحد أيضًا يملك إخراج الحي من الميت ولا إخراج الميت من الحي ولا تدبير الأمر، لا يعرفون حقيقة ماهية السمع والبصر ولا كيفيتهما، فكيف يملكون إنشاء السمع والبصر ونصبهما، ولا يملك أحد سواه إصلاح ما ذكر إذا فسد ذلك، فأقروا له أنه لا يملك أحد سوى اللَّه ذلك، وهو قولهم: (فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) يقول. واللَّه أعلم -: إذا عرفتم

(32)

وأقررتم أنه لا يملك ما ذكر سواه وعرفتم أن له السلطان والقدرة على ذلك أفلا تتقون، بوائقه ونقمته، أو يقول: أفلا تتقون عبادة غيره دونه، وإشراك غيره في ألوهيته وربوبيته، أو يقول: أفلا تتقون صرف شكره إلى غيره وقد أقررتم أنه هو المنعم عليكم بهذه النعم لا من تعبدون دونه. أو يقول - واللَّه أعلم -: إذا عرفتم ذلك أفلا تتقون مخالفته وعصيانه، فإذا أقروا أن الذي يملك تدبير ما بين السماء والأرض هو الذي له السماوات والأرض عرفوا الذي يستحق العبادة والقيام بشكره، فإذا ضيعوا ذلك جمعهم على اسم الضلال؛ فذلك قوله: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ). وقوله تعالى: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ... (32) أي: ذلكم الذي ذكر ربكم بالحجج والبراهين، فماذا بعد الحق الذي هو حق بالحجج والبراهين إلا الضلال؟! لأن ما لا حجج له ولا براهين فهو ضلال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ): عن عبادته إلى عبادة غيره، أو فأنى تصرفون عن شكر المنعم، إلى شكر غير المنعم. أو يقول: فأنى تعدلون من لا يملك ما ذكر بمن يملك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) حقت: وجبت، وقيل: كذلك حقت كلمة ربك على الذين ختموا بالفسق أنهم لا يؤمنون، أي: لا ينتفعون بإيمانهم بعد ذلك. وقوله: (كَلِمَتُ رَبِّكَ) تحتمل وجهين: تحتمل كلمة ربك مواعيد ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون فإن كان على هذا فهو في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون. ويحتمل كلمة ربك، حجج ربك وبراهينه على الذين فسقوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قال عامة أهل التأويل: ثم يعيده: البعث بعد الموت، أي: لا أحد من شركائكم الذين تعبدون يملك

(35)

بدء الخلق ولا بعثه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (ثُمَّ يُعِيدُهُ) لا يحتمل البعث؛ لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث، فلا يحتمل الاحتجاج عليهم بذلك، ولكن قوله: (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ما سوى البشر؛ لأنهم إنما ينكرون إعادة البشر، فأما إعادة غيره من الأشياء لا ينكرونه؛ نحو إعادة اللمل والنهار، وإعادة الإنزال والنبات، ونحو الأشياء التي يشاهدونها، أي: ثم يعيد مثله: الليل ليلا مثله، والنهار نهارا مثله؛ وكذلك الخلائق تفنى ثم يعيد مثله، فإذا ثبت في غير البشر ثبت في البشر. ويحتمل الأمرين جميعًا عندنا البعث وأشياء مثله؛ لأنه تعليم منه لهم، ألا ترى أنه قال: (قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) قيل: تكذبون بتوحيد اللَّه، وقد عرفتم أنه هو بدأ الخلق ثم هو يعيده، لا أحد يملك ذلك، ألا ترى أنه احتج عليهم ما يلزمهم ذلك بقوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) يحتمل قوله: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) يدعو إلى الحق فإذا كان هَؤُلَاءِ الأصنام التي تعبدونها لا يملكون الدعاء إلى شيء، فلا يملكون الضر والنفع، ومغ الخلائق من لا يملك النفع والضر، ويملك الدعاء إلى خير أو إلى نفع، فهَؤُلَاءِ دون الخلائق جميعًا؛ إذ لا يملكون الدعاء، فكيف يملكون الضر والنفع،؟! يبين عَزَّ وَجَلَّ سفههم بعبادتهم هَؤُلَاءِ الأصنام؛ لعلمهم أنهم لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا. ويحتمل قوله: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) أي: يبين ويقيم الدلائل والبراهين على عدم استحقاق العبادة لهم، فإذا لم يملكوا الدعاء إلى العبادة لهم، فكيف يملكون نصب

(36)

الدلائل والحجج على استحقاق العبادة؟! (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ): أخبر أن اللَّه هو الذي يهدي للحق. ثم يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا: هو يملك الدعاء إلى الحق ويقيموا الدلائل والحجج على ما دعا إليه، وهو يستحق العبادة له والربوبية. (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ): الذي يبين البراهين والحجج، (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي) أي: لا يبين، (إِلَّا أَنْ يُهْدَى)، فَإِنْ قِيلَ: ما معنى الاستثناء وهو وإن هدي لا يهتدي؟ قيل: يشبه أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: (مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)، ينطقهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يوم القيامة، فيشهدون عليهم أنهم لم يأمروهم بالعبادة لهم ولا دعوهم لإشراكهم في العبادة، فيكون قوله: (إِلَّا أَنْ يُهْدَى) لما أن يجعلهم اللَّه بحيث يهتدون إذا هدوا ويجيبون إذا دعوا. (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ): بالجور وصرف العبادة والشكر إلى من لا يملك ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى) قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا أَنْ يُهْدَى) لا يحتمل الصنم والوثن الاهتداء وإن هدي، ولكن المراد منه الإنسان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا أَنْ يُهْدَى) إلا أن يحمل الصنم ويوضع، فأما أن يهتدي هو بنفسه فلا، لكن يحتمل ما ذكرنا أنه إذا صيره بحيث يتكلم ومن جنس ما ينطق وأذن له في النطق احتمل الإجابة والاهتداء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الأئمة والرؤساء منهم حيث عبدوا الأصنام والأوثان وقالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وقالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، ونحو ذلك من القول؛ يقول: ما يتبع أكثرهم في عبادتهم الأصنام بأنهم يكونون لهم شفعاء عند اللَّه إلا ظنا ظنوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الأتباع والعوام ليس في الأئمة؛ ذلك أن الأئمة قد عرفوا البراهين والحجج التي قامت عليهم والآيات التي جاء بها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكن ما قالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ)، ونحو ذلك من الكلام، أرادوا أن يلبسوا على العوام ويشبهوا عليهم، فاتبع العوام الأئمة فيما قالوا وأنه كذا وصدقوهم؛ يقول: وما يتبع

(37)

أكثرهم الأئمة في ذلك إلا ظنًّا ظنوا. ويشبه أن يكون قوله: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) يعني: أهل مكة أي ما يتبع أكثر أهل مكة، الأوائل والأسلاف في عبادة الأصنام والأوثان. (إِلَّا ظَنًّا) لأنهم عبدوا الأصنام ويقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ. . .) الآية، وآباؤنا كذلك يفعلون، ثم أخبر أن الظن لا يغني من الحق شيئًا، أي: الظن لا يدرك به الحق إنما يدرك الحق باليقين، (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) وهو حرف وعيد ليكونوا أبدا على حذر. * * * قوله تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ)، فيقول: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ)؛ كقوله: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ)، أي ما أتبع إلا ما يوحى إليَّ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن كفار قريش قالوا: إن محمدًا افترى هذا القرآن من عند نفسه ويقوله من نفسه، فقال: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ) أن يضاف إلى غيره أو يختلق. (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي: يصدق هذا القرآن الكتب التي كانت من قبل، ولو كان مُحَمَّد هو الذي افتراه واختلقه من عند نفسه لكان خرج هو وسائر الكتب المتقدمة مختلفا، إذ لم يعرف مُحَمَّد سائر الكتب المتقدمة إذ كانت بغير لسانه، ولم يكن له اختلاف إلى من يعرفها ليتعلم، ثم خرج هو أعني القرآن مصدقا وموافقا لتلك الكتب؛ دل أنه من عند اللَّه جاء؛ كقوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ) يخرج على وجهين:

(38)

أحدهما: ما كان هذا القرآن بالذي يحتمل الافتراء من دون اللَّه؛ لخروجه عن طوق البشر ووسعهم، فذلك بالذي يحيله كونه مفترى بجوهره. والثاني: لما أودع فيه من الحكمة والصدق يدل على كونه من عند اللَّه؛ إذ كلام غيره يحتمل السفه والكذب ويحتمل الاختلاف. (وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ) قيل فيه بيان الكتب التي نزلت قبله، وتمامه أن هذا وإن كان في اللفظ مختلفا فهو في الحكمة والصدق مبين موافق للأول. وقيل: (وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ) أي: تفصيل ما كتب لهم وما عليهم. أو أن يقال؟ إلى اللَّه تفصيل الكتب ليس إلى غير (لَا رَيْبَ فِيهِ) أنه من عند رب العالمين. أو يقول: مفصل من اللوح المحعوظ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) يقول: إن كان مُحَمَّد افتراه من عند نفسه، فأتوا أنتم بمثله؛ إذ لسانه ولسانكم واحد، فأنتم قد عرفتم بالفرية والكذب، ومُحَمَّد لم يعرف به قط، ولا أخذ عليه بكذب قط، فأنتم أولى أن تأتوا بسورة مثله. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ادعوا بآلهتكم التي تعبدونها؛ ليعينوكم على إتيان مثله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) أي: بمن لسانه مثل لسانكم؛ ليعينوكم على ذلك. أو يقول: استعينوا بدراسة الكتب؛ ليعينوكم على مثله إن كنتم صادقين أن محمدًا افتراه من نفسه؛ فدل ترك اشتغالهم بذلك على أنهم قد عرفوا أنه ليس بمفترى، وأنه سماوي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) قَالَ بَعْضُهُمْ: ما لم يحفظوا نظمه، ولا لفظه، ولا نظروا فيه، ولا تدبروا؛ ليعلموا معناه، بل كذبوه بالبديهة، والشيء إنما يعرف كذبه وصدقه بالنظر فيه والتفكر والتدبر، لا بالبديهة، فذلك - واللَّه أعلم - تأويل قوله: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ). الثاني: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) كذبوا على علم منهم أنهم كذبة فيما يقولون، ويتقولون: إنه مفترى ليس بمنزل (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)، أي: ولما يأتهم العلم بتأويله، أي: بتأويل القرآن.

(40)

ومعناه - واللَّه أعلم -: أنهم كذبوه من غير أن حفظوا نظمه، ووعوا لفظه، ولا أتاهم العلم بعاقبته وآخره. وقيل: التأويل: هو رد كل شيء إلى أولية الأمر. وقالت الحكماء: التأويل: آخر كل فعل هو قصد في أوله وقصد كل شيء في أوله هو آخر في فعله، أو نحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) قال: ما وعد اللَّه أن يكون قبل أن يكون. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تأويل القرآن بما يكون منه في الدنيا، وبما يكون منه يوم القيامة، وهو العذأب الذي وعد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (تَأْوِيلُهُ): ثوابه. وقيل: عاقبته. وقال الواقدي: لم يأتهم عاقبة بيان ما وعد اللَّه في القرآن في الآخرة من الوعيد. وأصل التأويل: هو النظر إلى ما تئول عاقبة الأمر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، أي: كذلك كذب الأمم السالفة رسلهم، كما كذب كفار مكة رسولهم، أي: لست أنت بأول مكذب، بل كذب من كان قبلك من إخوانك؛ ليكون له التسلي عما هو فيه من تكذيبهم إياه، وردهم عليه أنه ينزل بهم ما نزل بأُولَئِكَ إن هم أقاموا على ما هم عليه. والثاني: أن يكون الخطاب وإن كان خارجًا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فهو راجع إلى قومه يأمرهم بالنظر فيما نزل بالأمم السالفة، وأن يتأملوا أحوالهم؛ ليكون ذلك سببا لزجرهم عما هم فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) بالتكذيب، أي: كيف يعاقبون ويعذبون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) قيل: من أهل مكة من يؤمن بهذا القرآن، ومنهم من لا يؤمن به، وهم كذلك كانوا، منهم من قد آمن به، ومنهم من لا يؤمن به، أي: من لم يؤمن به. ويحتمل على الوعيد فيما يستقبل، أي: منهم: من أهل مكة من يؤمن بهذا القرآن، ومنهم من لا يؤمن به، وهم كذلك كانوا: منهم من قد آمن، ومنهم من لم يؤمن به. قَالَ بَعْضُهُمْ: هي في اليهود، ليست في أهل مكة، وظاهره أن يكون في كفار مكة،

(41)

وعلى ذلك قول عامة أهل التأويل، كأن هذا يخرج على البشارة: أن منهم من يؤمن به؛ لئلا يقطع ويمنع دعاءهم، وأخبر أن منهم من لا يؤمن به، يؤيسه حتى لا يشتد حزنه على كفرهم. وجائز أن يكون هذا: أي: منهم من، قد يولد من بعد، ويؤمن به، ومنهم من يولد فلا يؤمن. وقوله: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) يشبه أن يكون معناه: أي: على علم بما يكون منهم من الفساد خلقهم وأنشأهم، وليس عن غفلة وجهل بالفساد، ولكن عن علم بذلك؛ لما لا يضره فساد مفسد، ولا ينفعه صلاح من يصلح، إنما عليهم ضرر فسادهم، ولهم منفعة صلاحهم. ويحتمل أن يكون على الوعيد، أي: عالم بفسادهم، فيجزيهم جزاء فسادهم، والله أعلم. وقوله: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) تأويله - واللَّه أعلم - أي: إن كذبت فيما أخبرتكم: أنه جاء من عند اللَّه، فـ (لِي عَمَلِي)، أي: جزاء عملي فيما أبلغكم، أي: فعليَّ وزر عملي، (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ)، أي: فعليكم جرم ما رددتم علي فيما بلغتكم عن اللَّه، وهو كقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي: علي جرم ما افتريت إن افتريت، وعليكم جرم ما رددتم عليَّ فيما بلغتكم عن اللَّه. ويحتمل: ما قاله أهل التأويل: (لِي عَمَلِي) أي: لي ديني (وَلَكُم عَمَلُكُم) أي: لكم دينكم. (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ). تأويله - واللَّه أعلم - أي: أنا لا أؤاخذ بما دنتم أنتم، ولا أنتم تؤاخذون بما دنت أنا وعملت، وهو كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. . .) الآية، وقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ. . .) الآية، وقوله: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ. . .) الآية، وكقوله: (لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) أخبر أن منهم من يستمع إليه، يعني:

(43)

إلى رسول اللَّه، وإلى ما يتلو من القرآن، لكنه لا يؤمن، أخبر أنه لا كل مستمع إلى شيء ينتفع بما يستمع أو يعقل ما يستمع ويفهم، إنما ينتفع بالاستماع ويعقل على قدر المقصود والحاجة إليه. ومنهم من كانوا ينهون من يستمعون لقبول القول منهم. ومنهم من كان يستمع إليه؛ ليسمع غيره، كقوله: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ). ومنهم من كان يسمعه، ويطيعه في ذلك، فإذا خرج من عنده غيره وبدله كقوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي). ومنهم من كان يستمع إليه؛ استهزاء منه، وطلب الطعن فيه والعيب، كانوا مختلفين في الاستماع، ثم نفى عنهم السمع والعقل والبصر؛ لوجهين: أحدهما: ما ذكرنا أنهم لما لم ينتفعوا بأسماعهم وعقولهم وأبصارهم وهذه الحواس انتفاع من ليست له هذه الحواس، نفى عنهم ذلك؛ إذ هذه الحواس إنما جعلت، لينتفع بها لا لتترك سدى لا ينتفع بها. والثاني: كان العقل والسمع والبصر، وهذه يكون منها مكتسب بالاكتساب، ومنها ما يكون غريزة، فهم تركوا اكتساب الفعل الذي جعل مكتسبًا فنفى عنهم؛ لما تركوا اكتساب ذلك. ويحتمل نفي هذه الحواس لهذين الوجهين اللذين ذكرتهما، واللَّه أعلم. ثم نفى عمن لا يستمع العقل، حيث قال: (لَا يَعْقِلُونَ)، ونفى عنهم الاهتداء والإبصار بترك النظر، فقال: (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) لأن بالبصر يوصل إلى اهتداء الطرق والسلوك فيها، ألا ترى أن البهائم قد تبصر الطرق، وتسلك بها، وتتقي بها المهالك، ولا تعقل، لما ليس لها العقل، فلا تعقل لما يسمع القلب بعقل، وبظاهر البصر تبصر الأشياء.

(44)

قوله تعالى: [(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)] وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يخبر أن ما حل بأُولَئِكَ من عذاب استئصال، إنما حل بظلمهم، لا بظلم من اللَّه تعالى وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) لم يلبسوا إلا ساعة من النهار، قال: في قبورهم يتعارفون بينهم إذا خرجوا من قبورهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ): في الدنيا، وأصله كأنهم استقلوا طول مقامهم في الدنيا وما أنعموا فيها؛ لما عاينوا من أهوال ذلك اليوم وشدائده، أو استقلوا لبثهم في الدنيا، ومقامهم؛ لطول مقامهم في الآخرة في العذاب. وفيه وجه ثان: وهو أنه يذكر من شدة سفههم وغاية جهلهم أن ما يعدهم من الحشر والعذاب الأبد كأنهم لا يلبثون فيها إلا ساعة من النهار، حتى لا يبالوا ما يلحقهم من ذلك وما يستوجبون عليه من العذاب باكتسابهبم من تلك الأسباب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) أي: يعرف بعضهم بعضا على قدر ما يلعن بعضهم بعضا؛ كقوله: (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا). وعلى قدر ما يتبرأ بعضهم من بعض ثم يفرق بينهم كقوله: (فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ) أي: فرقنا بينهم.

(46)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ) أي: خسروا بما وعدوا في الآخرة من النعم الدائمة بترك اكتسابهم إياها؛ إذ قد أعطوا ما يكتسبون به نعم الآخرة، فاكتسبوا ما به خسروا ذلك؛ فهو كقوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي: ما أصبرهم على اكتساب ما به يستوجبون النار. والثاني: قد، خسروا [ .... ]. * * * قوله تعالى: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ): " إما " حرف شك، وكذلك حرف ولكن يكون تأويله - واللَّه أعلم - على حذف إما وإضمار حرف " إن " كأنه يقول: إن أريناك إنما نرينك بعض ما نعدهم لا كل ما نعدهم، أو نتوفينك ولا نرينك شيئا. أو أن يكون قوله: إن نرينك بعض ما نعدهم أي: لقد نريك بعض ما نعدهم؛ وهو كقوله: (إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا)، فعلى هذا التأويل يريه بعض ما لعدهم، ولا يريه كل ما وعدهم. وعلى التأويل الأول إن أراه إنما يريه بعض ذلك ولا يريه شيئًا. فَإِنْ قِيلَ: حرف " إما " حرف شك وكذلك حرف أو كيف يستقيم إضافته إلى اللَّه، وهو عالم بما كان ويكون وإنما يستقيم إضافته إلى من يجهل العواقب؟!

(47)

قيل: جميع حروف الشك الذي أضيف إلى اللَّه هو على اليقين والوجوب نحو حرف " عسى " و " لعل " ونحو ذلك، فعلى ذلك حرف " إما " أَو، " أَو " فهو لم يزل عالما بما كان ويكون في أوقاته. وأما حرف الاستفهام والشك يخرج على مخرج الإيجاب والإلزام على ما ذكرنا في حرف التشبيه، أو أن يكون رسول اللَّه وعد لهم أن يريهم شيئًا، فقال عند ذلك: [(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ)] لا نرينك شيئًا يقول: ليس إليك ما وعدتهم، إنما ذلك إلينا؛ كقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ): هذا يحتمل ثم الله شهيد لك يوم القيامة على ما فعلوا من التكذيب بالآيات وردها؛ وهو كقوله: (قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ. . .) الآية. ويحتمل أنه عالم بما يفعلون لا يغيب عنه شيء وهو وعيد؛ كقوله تعالى: (وَاللَّهُ بَصِيُرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) أي: لكل أمة فيما خلا رسول اللَّه بعث إليهم لست أنا أول رسول بعثت إليكم؛ كقوله تعالى: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ). (فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) يحتمل هذا وجهين: يحتمل فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط؛ أي: يقضى بين الرسل وبين الأمم بالعدل بما كان من الرسل من تبليغ الرسالة إليهم والدعاء إلى دين اللَّه، ومن الأمم من التكذيب للرسل والرد للآيات، قضي بينهم بالعدل وهم لا يظلمون لا يزاد على ما كان ولا ينقص. ويحتمل قوله: (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي: يهلك المكذبون منهم وينجي الرسل ومن صدقهم، كقوله تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية، ويجوز أن يقضي بين المعرضين وبين المجيبين والمطيعين يوم القيامة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) وذلك أنه لما أوعدهم العذاب حين قال: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قالوا: متى هذا العذاب الذي توعدنا هذا يا مُحَمَّد إن كنت صادقًا بأن العذاب نازل بنا في الدنيا، وهو

(49)

على التأويل الثاني الذي ذكرنا لقد نرينك بعض ما وعدناهم. فقال: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) ولا أملك أيضا جز منفعة إليها يقول: لا أقدر على أن أدفع عن نفسي سوءا حين ينزل بي، ولا أملك على أن أسوق إليها خيرا ألبتَّة، فإذا لم أملك هذا كيف أملك إنزال العذاب عليكم إنما ذلك إلى اللَّه هو المالك عليه والقادر على ذلك، لا يملك أحد ذلك سواه؛ وذلك كقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) أي: إذا جاء أجلهم لا يقدرون على تأخيره ولا يستقدمون، أي: لا يقدرون على تقديمه، ليس على أنهم لا يطلبون تأخيره ولا تقديمه فيسألون ذلك، ولكن لا يؤخر إذا جاء ولا يقدم قبل أجله. وفيه دلالة ألا يهلك أحد قبل انقضاء أجله، فهو رد على المعتزلة حيث قالوا: من قتل آخر فإنما قتله قبل أجله، واللَّه يقول: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) وهم يقولون: يستقدمون، واللَّه الموفق. * * * قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) يقول - والله أعلم -: أي منفعة لكم إن أتاكم عذابه؟! لا منفعة لكم في ذلك بل فيه ضرر لكم، فاستعجال ما لا منفعة فيه سفه وجهل، يسفههم في سؤالهم العذاب، ويخبر في قوله: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) أن عذاب اللَّه إذا نزل وجاء وقته لا يملك أحد تقديمه ولا تأخيره، ولا يملك أحد استقدامه ولا استئخاره بالقدر والمنزلة،

(51)

كما يحتمل ذلك في الدنيا التقديم والتأخير بالشفاعة والفداء ويذكر عجزه في إنزال العذاب عليهم في قوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) قيل: أي العذاب إذا نزل بكم آمنتم به الآن؟! يخبر عنه أنهم إذا نزل بهم العذاب يؤمنون. ثم يحتمل قوله: (آمَنتُم بِهِ) أي: باللَّه وبرسوله؛ كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ)، ثم أخبر أن إيمانهم لا ينفعهم عند معاينتهم العذاب؛ وهو كقوله: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)، وقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ). ويحتمل قوله: (آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ) أي: بالعذاب؛ لأنهم يكذبون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يوعدهم العذاب، وهم يستعجلون به استهزاء وتكذيبا، فإذا نزل بهم آمنوا أي صدقوا بذلك العذاب، يقول: (آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) استهزاء وتكذيبا أنه غير نازل بكم ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) قيل: أشركوا في ألوهيته وربوبيته وعبادته غيره. (ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ) لأنهم يخلدون فيه، يقال ذلك بعدما أدخلوا النار. (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي: لا تجزون إلا بما كنتم كسبتم في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) أي: يستخبرونك. (أَحَقٌّ هُوَ) يحتمل هذا وجوهًا. يحتمل قوله: (أَحَقٌّ هُوَ) العذاب الذي كان يوعدهم أنه ينزل بهم، على ما قاله عامة أهل التأويل. ثم قال: (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) أي: قل: نعم وربي إنه لحق إنه نازل بكم. (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي: بفائتين عنه ولا سابقين له. ويحتمل قوله: (أَحَقٌّ هُوَ) ما يدعوهم إليه من التوحيد؛ كقولهم لإبراهيم: (أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ. . .) الآية؛ فعلى ذلك قولهم: (أَحَقٌّ هُوَ) ثم، أخبر أنه لحق بمَوله: (قُلْ إِي

(54)

وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي: غائبين فائتين عنه. ويحتمل الآيات أو مُحَمَّد أو القرآن أحق هو؟ قل: إي وربي، قل: نعم إنه لحق؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أخبر أن ما يأمرهم به ويدعوهم إليه ليس هو هزوا ولا لعبا، ولكنه حق أمر من اللَّه تعالى؛ فعلى ذلك قوله: (أَحَقٌّ هُوَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ): هذا الحرف يحتمل أن يكون من الشاكين منهم في ذلك طلبوا منه أنه حق ذلك أو لا، ومن المعاندين استعجال العذاب الذي كان يوعدهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استهزاء به وتكذيبًا له، ومن المتبعين له والمطيعين التصديق له والإيمان به؛ كقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا) كانوا فرقًا ثلاثة: فرقة قد آمنوا به، وفرقة قد شكوا فيه، وفرقة قد كذبوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) يخبر عنهم أنهم يفدون ويبذلون جميع ما في الأرض لو قدروا عليه عند نزول العذاب بهم لشدة العذاب، وإن كان الذي منعهم عن الإيمان هو حبهم الدنيا وبخلهم عليها وما فيها بقوله: (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ): الندامة لا تكون إلا سرا بالقلب، فكأنه قال: حققوا الندامة في قلوبهم على ما كان منهم من التكذيب بالآيات والعناد في ردها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ) أي: أظهروا الندامة وهو مما يستعمل في الإظهار والإخفاء؛ كقوله: شعب: جمع، وشعب: فرق ونحوه، وبعد فإنه إذا أسر

(55)

في نفسه لابد من أن يضع ذلك في آخر ويخبره بذلك، فذلك منه إظهار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) يحتمل قوله: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ما توجبه الحكمة؛ لأن الحكمة توجب تعذيب كل كافر نعمة، وكل قائل في الله ما لا يليق به، أو أن يكون تفسير قوله: (بِالْقِسْطِ) ما ذكر، وهم لا يظلمون. ويحتمل قوله: (بِالْقِسْطِ) وما ذكر: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ. . .) الآية والقسط: هو العدل، وهم يومئذ عرفوا أنه كان يقضي بالعدل في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: إن ما في السماوات والأرض كلهم عبيده وإماؤه وملكه، لا لمن تعبدون دونه من الأصنام والأوثان، فمن عند من يملك الدنيا والآخرة اطلبوا ذلك منه؛ لا من عند من لا يملك يبين سفههم في طلبهم الدنيا من عند من يعلمون أنه لا يملك ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ): في كل وعد ووعيد أنه كائن لا محالة عذابا أو رحمة. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أي: لا ينتفعون بعلمهم، فنفى عنهم العلم وإن علموا؛ لما لم ينتفعوا به. ويحتمل قوله: (لَا يَعْلَمُونَ) أي: لم يكتسبوا سبب العلم، وهو التأويل والنظر في آياته وحججه. ويحتمل نفي العلم عنهم لما أعطوا أسباب العلم، فلم يعلموا، فإن كان على هذا فيكونون معذورين، وإن كان على الوجهين الأولين فلا عذر لهم في ذلك.

(56)

وفي قوله: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) دلالة إثبات البعث من وجهين: أحدهما: فيما يذكر من قدرته من خلق السماوات والأرض وما بينهما بغلظهما وكثافتهما وشدتهما وعظم خلقتهما، وأن تلك القدرة خارجة عن وسع البشر وتوهمهم، فمن قدر على ذلك فهو قادر على إحياء الخلق بعد فنائهم. والثاني: يخبر عن حكمته من تعليق منافع الأرض بالسماء على بعد ما بينهما، والإفضال على الخلق بأنواع النعم التي تكبر الإحصاء، وأن كل شيء منها قد وضع مواضعها، فلا يحتمل من هذا وصفه في الحكمة يخلق شيئا عبثًا باطلا ولو كانوا للفناء لا حياة بعده كان يكون خارجًا عن الحكمة، فظهر أنه خلقهم لأمر أراد بهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) أي: تعلمون أنه هو أحيا الأحياء، وهو الأموات أيضًا وهو كقوله: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فإذا عرفتم أنه هو يحيي الأحياء وهو يميت الأموات لا غير، فاعلموا أنه هو يبعثكم وإليه ترجعون؛ ألزمهم الحجة أولًا بالكائن، ثم أخبرهم عما يكون بالحجة التي ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) وهو هذا القرآن قَالَ بَعْضُهُمْ: الموعظة: النهي كقوله: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا)، قيل: ينهاكم أن تعودوا لمثله أبدا. وقال آخرون: الموعظة هي التي تدعوا إلى كل مرغوب وتزجر عن كل مرهوب وقَالَ بَعْضُهُمْ العظة هي التي تلين كل قلب قاس وتجلي كل قلب مظلم وفي القرآن جميع ما ذكرنا فيه النهي، وفيه الدعاء إلى كل مرغوب، والزجر عن كل مرهوب، وهو يلين القلوب القاسية ويجلي القلوب المظلمة إذا تأملوا فيه، ونظروا، وتفكروا تفكر المستشهد وطالب الحق. وقيل: الموعظة هي التي تلين القلوب القاسية وتدمع العيون اليابسة، وتجلي الصدور

(58)

المظلمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ): إن للدِّين آفات وداء تضر به وتتلفه كما لهذه الأبدان آفات وأمراض تعمل في إتلافها وإهلاكها، ثم جعلت لآفات الأبدان وأمراضها أدوية يشفى بها الأبدان المؤرقة المريضة؛ فعلى ذلك جعل هذا القرآن شفاء لهذا الدِّين ودواء يداوى به، فيذهب بآفات الدِّين وأمراضه؛ كما تعمل الأدوية في دفع آفات الأبدان وأمراضها؛ لذلك سماه موعظة وشفاء لما في الصدور، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) قيل: هدى من الضلالة، ورحمة من عذابه. أو يقول: (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) هدى أي: يدعوا إلى كل خير ويهدي إليه، ورحمة: لمن اتبعه، هو هدى ورحمة لمن اتبعه وتمسك به، وعمى وضلال لمن خالفه وترك اتباعه وهو ما ذكر (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)، وقال: (فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، أي: زاد للمؤمنين إيمانًا إلى إيمانهم، و (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا) أي: زاد للكافرين رجسًا إلى رجسهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قَالَ بَعْضُهُمْ: فضل اللَّه ورحمته القرآن. وقال قائلون: فضل اللَّه القرآن، ورحمته الإيمان، وفيه أنه بإنزال القرآن متفضل إذ له ألا ينزل، وفيه أن أهل الفترة يؤاخذون في حال فترتهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي: فرحكم بما ذكر هو خير مما تجمعون من الدنيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ): إنما خاطب المؤمنين بقول: قل للمؤمنين بفضل اللَّه: الإسلام، وبرحمته: يعني القرآن فبذلك يعني فبهذا الفضل والرحمة فليفرحوا يعني المؤمنين، هو خير مما يجمعون يعني مما يجمع الكفار من الأموال من الذهب والفضة وغيره.

(59)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) يحتمل (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ)، أضاف إنزاله إلى السماء، وإن كانت الأرزاق إنما تخرج من الأرض لما كانت أسبابها متعلقة بالسماء، يكون نضج الأنزال وينع الأعناب وإصلاح الأشياء كلها أعني أسباب الأرزاق من نحو المطر الذي به تنبت الأرض النبات وبه يخرج جميع أنواع الخارج مما يكون فيه غذاء البشر والدواب، ومن نحو الشمس التي ينضج بها الأنزال وبها تينع الأعناب وجميع الفواكه ونحوه أضاف ذلك إلى السماء لما ذكرنا. وكذلك قوله: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) أي: أسباب ذلك في السماء؛ لا أن عين ذلك في السماء. ويحتمل قوله: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي: ما خلق اللَّه لكم؛ وكذلك جميع ما يضاف إلى اللَّه إنما يضاف إليه بحق الخلق أي خلقه منزلا؛ كقوله: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)، ونحو ذلك، أي: خلق لكم مما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: ما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة وما ذكر في سورة الأنعام والمائدة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما حرموا الآلهة التي كانوا عبدوها، أي: جعلوها للأصنام وهو ما ذكر في الأنعام، وهو قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا. . .) الآية. نحو ما ذكرنا في الآية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) أي: اللَّه أذن لكم في تحريم ما حرمتم وتحليل ما أحللتم أم على اللَّه تفترون: بل على اللَّه تفترون، وذلك أن هذه السورة نزلت في محاجة أهل مكة وهم لم يكونوا مؤمنين بالرسل والكتب، وإنما يوصل إلى معرفة المحرم والمحلل بالرسل والكتب والخبر عن اللَّه، وهم لم يكونوا

(60)

مؤمنين بواحد مما ذكرنا، فكيف جعلتم منه حرامًا وحلالا وأنتم لا تؤمنون بما به يعرف الحلال من الحرام، فكيف حرمتم ما أحل لكم أو أحللتم ما حرم عليكم؟! يخبر عن سفههم وعنادهم وافترائهم على اللَّه، فإذا اجترءوا أن يفتروا على اللَّه فعلى غيره أجرأ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) فإن قيل كيف أوعدوا بيوم القيامة وهم كانوا لا يؤمنون بالبعث؟! قيل: قد ألزمهم الحجة بكون البعث بما أظهر من كذبهم وافترائهم على اللَّه في التحريم والتحليل، فذلك يظهر كذبهم بتكذيبهم البعث. وبعد فإنه قد يوعد المرء بما لا يتيقن به ويتخوف عليه ويحذر وإن لم يحط علمه به، فكذلك هذا. وبعد فإنه قد جعل في عقولهم ما يلزمهم الإيمان بالبعث والجزاء للأعمال؛ إذ ليس من الحكمة خلق الخلق للفناء خاصة. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن يقول: وما ظن الذين يفترون على اللَّه الكذب لو خرج الأمر حقا، وكان صدقًا على ما أخبر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقاله من البعث والجزاء لما اكتسبو!؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ): هو ذو فضل على جميع الناس من جهة ما ساق إلى الكل من الرزق كافرهم ومؤمنهم وأنواع النعم، وما أخر عنهم العذاب إلى وقت، أو لما بعث إليهم الرسل والكتب من غير أن كان منهم إلى اللَّه سابقة صنع يستوجبون به ذلك ومنه خصوص فضل على المؤمنين ليس ذلك على الكافرين، ولكن أكثرهم لا يشكرون لفضله وما أنعم عليهم. * * * قوله تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: في شأن: في

أمرك وحالاتك وما تتلو منه من قرآن تبلغهم به الرسالة وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي: في عبادة. (وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ): تبلغهم به الرسالة. قوله تعالى: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا): يخاطب نبيه تنبيهًا منه وإيقاطا والمراد منه هو وغيره، ألا ترى أنه قال: (وَلَا تَعْمَلُونَ) ومن عمل عمهم جميعًا في ذلك، يخبر أنكم في كل أمر يكون بينكم وبين ربكم، وفي كل أمر بينكم وبين الناس - فلله لكم وعليكم شهود، أو كل عمل تعملون لكم وعليكم شهود ينبههم ويوقظهم ليكونوا على حذر أبدًا منتبهين متيقظين (إذ تُفِيضُونَ فِيه) قَالَ بَعْضُهُمْ: (تُفِيضُونَ فِيه) تأخذون فيه وتخوضون فيه. وقيل: تقولون فيه، وقيل: يكثرون فيه؛ وكله واحد. ثم يحتمل قوله: (فِيه) في الحق، ويحتمل في الدِّين، ويحتمل في القرآن، ويحتمل في رسول اللَّه؛ يقول: أنا شاهد فيما تخوضون وفيما تقولون في رسول اللَّه، أو في دينه، أو فيما يتلو عليكم. (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ): لا يعزب، أي: لا يغيب، عن ربك من مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء فيما لا أمر فيه ولا نهي ولا كلفة، فالذي فيه السؤال والأمر والنهي والكلفة أحرى وأولى ألا يغيب عنه شيء.

(62)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ) هو تحذير وتخويف بتمثيل لا وعيد بتقرير وتصريح؛ لأن الوعيد على وجهين: أحدهما: على التمثيل، والآخر على التقرير في عينه وتصريح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) قيل: ما قل وما كثر إلا في كتاب، أي: إلا في اللوح المحفوظ مبين، ويحتمل إلا في كتاب مبين، أي: في الكتب المنزلة من السماء واللَّه أعلم. وقال أبو بكر الأصم في قوله: (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ): أي تنتشرون، وتأويله ولا تعملون من عمل تنتشرون فيه إلا كنا عليكم شهودًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) قالت المعتزلة: دلت الآية على أن أصحاب الكبائر ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين لكانوا أولياء اللَّه، وإذا كانوا أولياء اللَّه لكان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإذا كان لا شك أن على أصحاب الكبائر خوف وحزن أدل أنهم ليسوا بمؤمنين ولا لهم ولاية الإيمان لكن التأويل عندنا - واللَّه أعلم -:، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)

(64)

على ما يكون لأهل الدنيا في الدنيا من الخوف والحزن، إنما خوفهم وحزنهم لعاقبتهم، ويشبه ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الجنة، وهكذا يكون إذا دخلوا الجنة يأمنون عن جميع ما ينقصهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَوليَآءَ اللَّهِ) هم أهل التوحيد، لكن تلك البشارة وذلك الوعد لأهل التوحيد في الاعتقاد والوفاء جميعًا، لا لأهل الاعتقاد خاصة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الرؤيا الصالحة؛ وعلى ذلك رويت الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن هذه الآية ففسر بالرؤيا الصالحة، فإن ثبت فهو الحق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تحتمل الرؤيا الصالحة؛ لأنه نسق البشرى في الآخرة على البشرى في الحياة الدنيا، ولا شك أنه لا يكون في الآخرة الرؤيا الصالحة، ولكن إن ثبت ما ذكرنا من الخبر؛ فهو ذلك. ويشبه أن يكون البشارة التي ذكر هاهنا؛ نحو قوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ. . .) الآية، وقوله: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، وقوله: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وأمثال ذلك. وقال بعض أهل التأويل: لهم البشرى في الحياة الدنيا تبشرهم الملائكة عند الموت وفي الآخرة الجنة. واللَّه أعلم.

(65)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ): يحتمل لا تبديل لكلمات اللَّه من وعده ووعيده، وذلك مما لا تبديل له ولا تحويل. ويحتمل (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) القرآن لا تبديل لما فيه من الوعد والوعيد وغيره. ويحتمل لا تبديل لما مضى من سنته في الأولين والآخرين من الهلاك والاستئصال بتكذيبهم الرسل والآيات؛ كقوله: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) وقوله: (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ). ويحتمل قوله: (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) أي: لا تبديل للبشرى التي ذكر لهَؤُلَاءِ الذين تقدم ذكرهم. ويحتمل لا تبديل لحجج اللَّه وبراهينه، أو لا تبديل لوعيد اللَّه ووعده ونحوه، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي: تلك البشرى هي الفوز العظيم، أو ذلك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هو الفوز العظيم؛ إذ لا خوف بعده. وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: لا خوف عليهم من النار، ولا هم يحزنون أن يخرجوا من الجنة أبدًا، والوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) يحتمل قولهم: ما قالوا في اللَّه بما لا يليق به من الولد والشريك؛ يقول: لا يحزنك ذلك (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا). ويحتمل قوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) الذي قالوا في القرآن إنه سحر وإنه مفترى، أو قالوا في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إنه ساحر وإنه يفتري على اللَّه كذبا. ويشبه أن يكون قوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) مكرهم الذي مكروا به، وكيدهم الذي كادوه، يؤيد ذلك قوله: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ

(66)

جَمِيعًا) أي: إن العزة في المكر والكيد لله؛ وهو كقوله: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا) أي: مكره ينقض مكرهم ويمنعه، وكيده يفسخ كيدهم؛ فعلى ذلك قوله: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أي: ينقض جميع ما يمكرون بك ويكيدونك. و (الْعِزَّةَ) القوة؛ يقول: إن القوة لله ينصرك على أعدائك ويدفع عنك كيدهم ومكرهم الذي هموا بك. (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ): لقولهم الذي قالوه العليم بمصالحهم، أو السميع المجيب للدعاء العليم بما يكون منهم. * * * قوله تعالى: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي: تعلمون أن من في السماوات ومن في الأرض كلهم عبيده وإماؤه، فكيف قلتم: إن فلانا ولده وإن له شريكًا، ولا أحد منكم يتخذ من عبيده وإمائه ولدا ولا شريكًا؛ كقوله: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ. . .) الآية؛ فعلى ذلك هذا. أو كيف يحتمل أن يتخذ ولدًا وله ملك ما في السماوات والأرض، وإنما يتخذ في الشاهد الولد لإحدى خصال ثلاث: إما للاستنصار على غيره، وإما لحاجة تمسه، وإمّا لوحشة أصابته، فهو غني له ملك السماوات والأرض لا حاجة تمسّه، فكيف نسبتم الولد إليه والشريك وما قالوا فيه مما لا يليق به؟! وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. أو يخبر عن غناه عما يأمرهم وينهاهم ويتعبدهم، أي: ليس يأمر وينهى ويخعبد بأنواع العبادات ويمتحنهم بأنواع المحن لحاجة له أو لمنفعة له في ذلك، ولكن لمنفعة لهم في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ) أي: ما يتبعون فيما يدعون من دون اللَّه من الشركاء بالحجج والبراهين أو اليقين بكتاب، أو رسول، إنما يتبعون بالظن والحذر. قوله تعالى: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي: ما هم إلا يكذبون فيما يتبعون بدعائهم دون اللَّه؛ لأنهم كانوا أهل شرك لم يكونوا أهل كتاب ولا آمنوا برسول، فهم قد عرفوا أنهم مفترون كاذبون

(67)

في اتباعهم دون اللَّه؛ إذ سبيل معرفة ذلك الكتاب أو الرسول ولم يكن لهم واحد من ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) يبصر فيه، وقال في آية أخرى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ)، يعني: في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يعني: في النهار، فهو في موضع الامتنان وتذكير النعم، ليتأدى بذلك شكر ما أنعم عليه. وفيه أن الليل والنهار يجريان على التدبير والتقدير؛ لأنهما لو كانا يجريان على غير تدبير ولا تقدير لكانا لا يجريان على تقدير واحد ولا سنن واحد، ولكن يدخل فيهما الزيادة والنقصان ولا يجريان على تقدير واحد، وإن كان يدخل بعضه في بعض، فدل جريانهما على تقدير واحد أنهما يجريان على تدبير آخر فيهما؛ إذ لو كان على غير تدبير يجريان على الجزاف على الزيادة والنقصان وعلى القلة والكثرة. وفيه أيضًا أن مدبرهما واحد؛ لأنه لو كان مدبرهما عددا لكان إذا غلب أحدهما الآخر دام غلبته، ولا يصير الغالب مغلوبًا والمغلوب غالبًا، فإذا صار ذلك ما ذكرنا دل أن مدبرهما واحد لا عدد. وفيه دلالة البعث بعد الموت؛ لأن كل واحد منهما إذا جاء أتلف صاحبه تلفا حتى لا يبقى له أثر ولا شيء منه، ثم يكون مثله حتى لا يختلف الذاهب والحادث ولا الأول من الثاني، فدل أن الذي قدر على إنشاء ليل قد ذهب أثره وأصله لقادر على البعث، ومن قدر على إحداث نهار وقد فني وهلك لقادر على إحداث ما ذكرنا من الموت. وفيه أن الشيء إذا كان وجوبه لشيئين لم يجب إذا عدم أحدهما؛ لأنه قال: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) وإنَّمَا يبصر بنور البصر ونور النهار جميعًا؛ لأنه إذا فات أحد النورين لم يبصر شيء من النور نور البصر أو نور النهار، دل أن الحكم إذا وجب بشرطين لا يوجد إلا باجتماعهما جميعًا، والميل يستر وجوه الأشياء لا أنه لا يرى نفسه، والنهار يكشف وجوه الأشياء، وفي لليل فيما يستر وجوه الأشياء دلالة أن الحكم إذا كان وجوبه بشرطين يجوز منعه بعلة واحدة؛ لأنه يستر نور النهار ونور البصر جميعًا.

(68)

وفي قوله: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) وجوه من الدلالة: أحدها: ما ذكرنا من تذكير النعم يدعوهم به إلى الشكران وينهاهم عن الكفران، وفيه تذكير القدرة له حيث أنشأ هذا وأحدثه وأتلف الآخر، فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء، وفيه دليل السلطان حيث يأخذهم الليل ويستر عليهم الأشياء شاءوا أو أبوا؛ وكذلك النهار يأتيهم حتى يكشف وجوه الأشياء ويجلي شاءوا أو أبوا، وفيه دليل التدبير والعلم لما ذكرنا من اتساق جريانهما على سنن واحد ومجرى واحد. وفيه دلالة وحدانية منشئهما بين هاهنا فيما جعل الليل حيث قال: (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أخبر أنه جعل الليل للسكون والراحة، فدل ذكر السكون في الليل على أنه جعل النهار للسعي وطلب العيش، ألا ترى أنه قال في النهار: (مُبْصِرًا) أي: يبصرون فيه ما يتعيشون، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ): ولم يقل: يبصرون فظاهر ما سبق من الذكر يجب أن يقال: لقوم يبصرون؛ لأنه قال: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)، لكن يحتمل قوله: (يَسْمَعُونَ) أي: يعقلون؛ كقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ). ويحتمل قوله: (يَسْمَعُونَ) أما ذكر من الآيات من أول السورة إلى هذه المواضع آيات لقوم يسمعون: ينتفعون بسماعهم أو يسمعون، أي: يجيبون كقوله: سمع اللَّه لمن حمده: أي: أجاب اللَّه. * * * قوله تعالى: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أرادوا بقولهم: اتخذ اللَّه ولدا حقيقة الولد؛ كقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ) [. . . .].

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ. . .) كذا، (وَقَالَتِ النَّصَارَى. . .) كذا فنزه - عَزَّ وَجَلَّ - نفسه عما قالوا بقوله: (سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ) أنه لم يلد أحدًا ولا ولد هو من أحد؛ ولهذا قال: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)؛ إذ في الشاهد لا يخلو إما أن يكون ولد من آخر أو والد، والخلق كله لا يخلو من هذا، فأخبر أنه لم يلد هو أحد ولا ولد من أحد.

وقوله: (سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) تأويله - واللَّه أعلم - أن في الشاهد من اتخذ ولدا إنما يتخذ لأحد وجوه ثلاثة: إما لحاجة تمسه، أو لشهوة تغلبه، أو لما يستنصر به على آخر ممن يخافه، فإذا كان له ملك السماوات والأرض وملك ما فيهما كلهم عبيده وإماؤه، فلا حاجة تقع له إلى الولد؛ إذ هو الغني وله ملك ما فيِ السماوات والأرض ومن هذا وصفه فلا يحتاج إلى الولد، ولأنه لا أحد في الشاهد يحتمل طبعه اتخاذ الولد من عبيده وإمائه، فإذا كان لله سبحانه الخلائق كلهم عبيده وإماؤه كيف احتمل اتخاذ الولد منهم لو جاز وقد بينا إحالة ذلك وفساده. ولأن الولد يكون من شكل الوالد ومن جنسه كالشريك يكون من شكل الشريك ومن جنسه فكان في نفي الشريك نفي الولد؛ لأن معناهما واحد وكل ذي شكل له ضد ومن له ضد أو شكل فإنه لا ربوبية له ولا ألوهية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قولهم: اتخذ اللَّه ولدا، لم يريدوا حقيقة الولد، ولكن أرادوا منزلة الولد وكرامته، فهو -أيضًا- منفي عنه؛ لأن من لا يحتمل الحقيقة - أعني: حقيقة

(69)

الولد - امتنع عن منزلته وكرامته؛ لأن الحقيقة انتفت لعيب يدخل فيه، فإذا ثبت له منزلة تلك الحقيقة والكرامة دخل فيه عيب الحقيقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا)] قيل ما عندكم من حجة على ما تقولون إن له ولدا؛ لأنهم كانوا أهل تقليد لآبائهم وأسلافهم، وكانوا لا يؤمنون بالرسل والكتب والحجج، وإنما يستفاد ذلك من جهة الرسالة والكتب وهم كانوا ينكرون ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أي: تقولون على اللَّه أنه اتخذ ما تعلمون أنه لم يتخذ (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) هو ما ذكرنا أنهم علموا أنه لم يتخذ ولدًا، لكن قالوا ذلك افتراء على اللَّه (لَا يُفْلِحُونَ) في الآخرة؛ لما طمعوا في الدنيا بعبادتهم دون اللَّه الأصنام بقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). وقوله: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، لا يفلحون، أي: لا يظفرون بما طمعوا في الآخرة (مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) أي ذلك لهم متاع في الدنيا، ليس لهم متاع في الآخرة. (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ): يخاطب رسوله بذلك لم يخاطبهم إلينا مرجعكم، فهو - والله أعلم - لما اشتد على رسول اللَّه ما افتروا به على اللَّه يقول: إلينا مرجعهم فنجزيهم جزاء افترائهم. والثاني: يقول: إلينا مرجعهم فنذيقهم العذاب الشديد، لا ما طمعوا من الشفاعة عندنا والزلفى، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) أي: خبره وحديثه، (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ).

قَالَ بَعْضُهُمْ: إن كان كبر عليكم طول مقامي ومكثي فيكم ودعائي إياكم إلى عبادة اللَّه، والطاعة له، وتذكيري إياكم بآياته. قَالَ بَعْضُهُمْ: وتذكيري بعذا به بترككم إجابتي ودعائي. ويحتمل قوله: (إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي) بما ادعى من الرسالة، (وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ) أي بحجج اللَّه على ما ادعيت من الرسالة. وفي قوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) وجوه: أحدها: اتل منابذة نوح قومه وما أرادوا به من الكيد والمكر به. والثاني: اذكر عواقب قوم نوح، وما حل بهم من سوء معاملتهم رسولهم. والثالث: اذكر لهولاء عواقب متبعي قومه ومخالفيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ثم كيدوني، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، أي: اجعلوا ما تسرون من الكيد والمكر بي ظاهرًا غير ملتبس ولا مشبه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) أي: أعدوا أمركم وادعوا شركاءكم؛ وكذلك روي في حرف أبي: (فاجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم). (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ) أي: اقضوا ما أنتم قاضون.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي؛ لا يكبر عليكم أمركم. وقال الكسائي: هو من التغطية واللبس، أي: لا تغطوه ولا تلبسوه، اجعلوا كلمتكم ظاهرة واحدة. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " لا يكن أمركم اغتماما عليكم "، أي: فرجوا عن أنفسكم؛ كقوله: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ) أي: اعملوا بي ما تريدون ولا تنظرون؛ وهو كقوله: (فَاقضِ مَا أَنتَ قَاضٍ). وقال الكسائي: هو من الإنهاء والإبلاع؛ وهو كقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. . .) الآية، (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ) أي: أنهينا إليه وأبلغنا إليه. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: إن شئت جعلتها ظلمة فلا يبصرون أمرهم يعني غمَّة، وإن شئت جعلتها شكا واشتقاق الغمة، من غم يغم غما أي غطى يغطي، تقول: غممت رأسه أي غطيته، (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) أي: افعلوا بي ما أردتم وفي قول نوح لقومه: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ. . .) إلى قوله: (وَلَا تُنْظِرُونِ)، وقول هود: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ) وقول رسول اللَّه: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ) دلالة إثبات رسالتهم؛ لأنهم قالوا ذلك لقومهم وهم بين أظهرهم، ولم يكن معهم أنصار ولا أعوان؛ دل أنهم إنما قالوا ذلك اعتمادًا على اللَّه واتكالا بمعونته ونصرته إياهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) أي: فافرغوا إليَّ يقال " قضى " فرغ، وهو قول أبي بكر الأصم.

(72)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ثم اقضوا إلي أي امضوا إلي كقوله: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ)، و (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) التولي اسم لأمرين: اسم للإعراض والإدبار؛ كقوله: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ)، واسم للإقبال والقبول أيضًا؛ كقوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية، ونحوه، فهاهنا يحتمل الأمرين جميعًا، أي: فإن توليتم أي أقبلتم وقبلتم ما أعرضه عليكم وأدعوكم إليه، (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي: ما أجري إلا على اللَّه. وإن كان في الإعراض فكأنه يقول: كيف أعرضتم عن قبوله، ولم أسألكم على ذلك أجرًا فيكون لكم عذر في الإعراض والرد؟! كقوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا) الآية، أي: لم أسألكم على ما أعرضه عليكم وأدعوكم إليه غرما حتى يثقل عليكم ذلك الغرم، فيمنعكم ثقل الغرم عن الإجابة، ففي هذه الآية وغيرها دلالة منع أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم؛ لأنه لو جاز أخذ الأجر على ذلك لكان لهم عذر ألا يبذلوا ذلك ولا يتعلموا شيئًا من ذلك، وفي ذلك هدم شرائع اللَّه وإسقاطها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي: مسلمًا نفسي إلى اللَّه، أي: سالمًا، لا أجعل لأحد سواه فيها حقا ولا حظا، أو أمرت أن أكون من المخلصين لله، والخاضعين له؛ هو يحتمل ذلك كله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) يعني: نوحًا كذبه قومه فيما ادعى من الرسالة، أو ما آتاهم من الآيات، أو ما أوعدهم من العذاب بتكذيبهم إياه. (فَنَجَّيْنَاهُ) يعني نوحًا، (وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي: من ركب معه الفلك من المؤمنين. (وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ) يحتمل خلائف خلفاء في الأرض وسكانًا يخلف بعضهم بعضا، ويحتمل جعلناهم خلائف أي خلف قوم أهلكوا واستؤصلوا بالتكذيب. (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): يحتمل الآيات الحجج والبراهين التي أقامها على ما ادعى من الرسالة. ويحتمل قوله: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) العذاب الذي أوعدهم بتكذيبهم إياه فيما وعد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ): كان أنذر الفريقين جميعًا

(74)

المؤمن والكافر جميعًا؛ كقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)، فإذا كان ما ذكرنا فيكون تأويله: فانظر كيف كان عاقبة من أجاب ومن لم يجب: عاقبة من أجاب الثواب، وعاقبة من لم يجب العذاب. ويحتمل المنذرين الذين لم يقبلوا الإنذار ولم يجيبوا، أي: انظر كيف كان عاقبتهم بالهلاك والاستئصال، ويكون تأويل قوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)، أي: إنما يقبل الإنذار من اثبع الذكر، أو إنما ينتفع بالإنذار من اتبع الذكر، أو أما من لم يتبع الذكر لم ينتفع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) أي: من بعد نوح رسلا إلى قومهم، أي: بعثنا إلى كل قوم رسولا، لا أنه بعث الرسل جملة إلى قومهم، ولكن واحدًا على أئر واحد. (فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): يحتمل البينات الحجج والبراهين التي أقاموها على ما ادعوا من الرسالة والنبوة. ويحتمل البينات بيان ما عليهم أن يأتوا ويتقوا. ويحتمل البينات بما أخبروهم وأنبئوا قومهم بالعذاب أنه نازل بهم في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: ما كان كفار مكة ليؤمنوا وليصدقوا بالآيات والبيانات كما لبم يصدق به أوائلهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي: قبل بعث الرسل، ففيه دلالة أن أهل الفترة يؤاخذون بالتكذيب في حال الفترة. ويحتمل قوله: (بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل إتيان البينات، أي: ما كانوا ليؤمنوا بعدما جاءوا بالبينات بما كذبوا به من قبل مجيء البينات. (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي: هكذا نطبع على قلوب أهل مكة كما طبعنا على قلوب أوائلهم؛ إذ علم أنهم لا يقبلون الآيات ولا يؤمنون بها، والاعتداء هو الظلم مع العناد والمجاوزة عن الحد الذي جعل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) هو يخرج على وجهين؛ أحدهما: ما كانوا ليؤمنوا بالبينات إذا جاءتهم البينات على السؤال، وهكذا عادتهم أنهم لا يؤمنون بالآيات إذا أتتهم على السؤال. والثاني: ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا على علم منهم أنها آيات وأنه رسول؛ واللَّه أعلم.

(75)

قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وقوله: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: من بعد من ذكرنا من الرسل. (مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ): بعثهما إلى الملأ وغير الملأ. (بِآيَاتِنَا): يحتمل الوجوه التي ذكرنا. (فَاسْتَكْبَرُوا): هذا يدل أنهم قد عرفوا أن ما جاءهم الرسول من الآيات أنها آيات، لكنهم عاندوا وكابروا ولم يخضعوا في قبولها وكانوا قومًا مجرمين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا) أي: الحجج والآيات من عندنا، (قَالُوا إنَّ هَذَا) يعنون الحجج والبراهين التي جاء بها موسى، (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) يسمون الحجج والبراهين سحرًا لما أن السحر عندهم باطل، لذلك قالوا للحجج إنها سحر، وذلك تمويه منهم يموهون على الناس لئلا يظهر الحق عندهم فيتبعونه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحق هو الإسلام والدِّين؛ كقوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) يعنون الحجج والآيات التي جاءهم بها للدِّين لأنه جاءهم بالدِّين، وجاءهم أيضًا بحجج الدِّين وآياته، قالوا: الحجج: الدِّين، والإسلام: سحر، ففي التأويلين جميعًا سموا الحجج سحرًا. وقوله: (جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا) أي: بأمرنا، وكذلك قوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) أي: الإسلام هو الدِّين الذي أمر اللَّه به، لا أنه يفهم

(77)

للـ (عند) مكان ينتقل من مكان إلى مكان، ولكن معنى الـ (عند) معنى الأمر، وعلى هذا يخرج قوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الملائكة (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) أي: إن الذين بأمر ربك يعبدونه لا يستكبرون عن عبادته لما أنه لم يفهم من مجيء الحق من عنده مكان، فعلى ذلك لا يجوز أن يفهم من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) المكان أو قرب المكان منه، ولكن التأويل ما ذكرنا أن المفهوم من عند الله أمره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) والحق ما ذكرنا. (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ): الإفلاح هو الظفر بالحاجة، يقول: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أي: لا يظفر الساحر بالحاجة ولا يغلب؛ لأن السحر باطل ولا يغلب الباطل الحق، بل الحق هو الغالب. والسحر هو المغلوب على ما غلب الحق الذي جاء به موسى السحر الذي جاء سحرة فرعون. أو يقول: لا يفلح الساحرون في الآخرة بسحرهم في الدنيا. ويحتمل قوله: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) بسحرهم في حال سحرهم؛ كقوله: (لَا يُفلِحُ الظَّالِمُونَ)، و (لَا يُفلِحُ الْكَافِرُونَ) أي: لا يفلحون بظلمهم في حال ظلمهم، وأما إذا تركوا الظلم فقد أفلحوا، فعلى ذلك السحرة إذا تركوا السحر فقد أفلحوا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) قيل: لتصرفنا وتصدنا. قَالَ الْقُتَبِيُّ: لفت فلانا عن كذا إذا صرفته، والالتفات منه وهو الانصراف. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (لِتَلْفِتَنَا) أي: تردنا وتصرفنا على ما ذكر الْقُتَبِيّ، قال: يقال: لفته يلفته لفتا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا): من عبادة الأصنام والأوثان. ويحتمل ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة فرعون والطاعة له. (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) قال عامة أهل التأويل: الكبرياء الملك والسلطان

(79)

والشرف، أي: الملك الذي كان لفرعون والسلطان يكون لكما باتباع الناس لكما؛ لأن كل متبوع مطاع معظم مشرف ويحتمل (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) أي: الألوهية التي كان يدعى فرعون لنفسه لكما، لأن عندهم أن كل من أطيع واتبع فقد عبد ونصب إلها. (وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) أي: بمصدقين فيما تدعوننا إليه أو ما تدعون من الرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) هذا من فرعون ينقض ما ادعى من الألوهية؛ حيث أظهر الحاجة إلى غيره ولا يجوز أن يكون المحتاج إلهًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) أي: سيبطل عمل السحر الذي قصدوا به، أيْ يجعله مغلوبًا؛ كقوله: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أي: لا يغلب الساحرون ولا يظفرون بالحاجة. (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) أي؛ لا يصلح ما أفسدوا من أعمالهم فيجعلهم صالحين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ): هو ما ذكرنا، أي: لا يجعلهم بأعمالهم الفاسدة صالحين، أو لا يجعل أعمالهم الفاسدة صالحة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا يصلِحُ) أي: لا يرضى بعمل المفسدين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) ذكر أن يحق الحق والحق حق وإن لم يحق الحق، وكذلك ذكر في الباطل ليبطل الباطل والباطل باطل وإن لم يبطل، ولكن يحتمل قوله: (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ) ويبطل الباطل، أي: ليجعل الحق في الابتداء حقا فيصير حقا، ويجعل الباطل في الابتداء باطلا، فيكون باطلا أي: بإبطاله الباطل يكون باطلا وبتحقيقه الحق يكون حقا وهو ما يقال: هداه فاهتدى، وأضله فضل، أي: بهدايته اهتدى وبضلاله ضل؛ فعلى ذلك بإبطاله الباطل بطل وبتحقيقه الحق حق، واللَّه أعلم. وقوله: (بِكَلِمَاتِهِ) يحتمل وجوهًا:

(83)

يحتمل يحق الحق بكلماته أي: برسله؛ إذ بالرسل يظهر الحق وبهم يظهر بطلان الباطل وهم حجج اللَّه في الأرض وبالحجج يظهر الحق، وكذلك الباطل. ويحتمل ما ذكر أهل التأويل بكلماته: آياته التي أنزل عليه، بها ظهر حقيقة ما أتى به موسى وبها ظهر بطلان ما أتى به السحرة من السحر. ويحتمل كلماته، ما وعد موسى قومه من العذاب الذي وعد من الظفر بأعدائهم والنصر عليهم وغير ذلك ما وعد من النعمة لهم؛ كقوله: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) يحتمل قوله: (مِن قَومِهِ) من قوم موسى لما قيل: إن موسى كان من أولاد إسرائيل، فهم من ذريته من هذا الوجه، يقال: أهل بيت فلان وإن لم يكن البيت له. ويحتمل قوله: (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) من قوم فرعون فهو نسب إليه لما ذكرنا. وقال أهل التأويل: أراد بالذرية القليل منهم، أي: ما آمن منهم إلا القليل، ولكن لا ندري ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ). يحتمل: ما آمن من آمن من قومه إلا على خوف من فرعون وملئه أي: آمنوا، أي: وإن خافوا من فرعون وملئه. ويحتمل ما ترك من قومه الإيمان بموسى من ترك إلا على خوف من فرعون أن يفتنهم أي: يقتلهم ويعذبهم، ففيه دلالة أن الخوف لا يعذر المرء في ترك الإيمان حقيقة، وإن كان يعذر في ترك إظهاره؛ لأن الإيمان هو التصديق والتصديق يكون بالقلب ولا أحد من الخلائق يطلع على ذلك؛ لذلك لم يعذر في ترك إتيانه لأنه يقدر على إسراره، ألا ترى إلى قوله: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)، كان مؤمنًا فيما بينه وبين ربه وإن لم يظهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ) وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ) أي: قهر وغلب على أهل الأرض وإنه لمن المسرفين.

(84)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فيه دلالة أن الإيمان والإسلام واحد في الحقيقة؛ لأنه بدأ بالإيمان بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ) وختم بالإسلام بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) دل أنهما واحد هو اعتقاد ترك نضييع كل حق، والإسلام اعتقاد تسليم كل حق وترك تضييعه، واللَّه أعلم. والإسلام هو جعل كلية الأشياء لله سالمة، والإيمان هو التصديق بكلية الأشياء فيما فيها من الشهادة لله بالربوبية له والألوهية. وقوله: (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) يحتمل هذا وجهين: يحتمل: أن يكون قال ذلك لما خافوا مواعيد فرعون وعقوباته؛ كقوله للسحرة لما آمنوا: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ. . .) الآية، فقال عند ذلك: (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) في دفع ذلك عنكم، فقالوا: (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) قوله: (لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يحتمل ما قاله على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم ما قيل أي: يقتلهم ويعذبهم، واللَّه أعلم. هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي لا تجعل لهم علينا الظفر والنصر، فيظنون أنهم على هدى وعلى حق ونحن على ضلال وباطل. والثاني: لا تجعلنا تحت أيدي الظلمة فيعذبونا؛ فيكون ذلك فتنة لنا ومحنة على ما فعل فرعون بالسحرة لما آمنوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) فيه أن قوله: الظالمين والكافرين واحد، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً. . .) الآية يحتمل وجهين:

أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أحدهما: يحتمل قوله: (أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا) أي: اتخذا لقومكما مساجد يصلون فيها، (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي: اجعلوا في بيوتكم التي اتخذتم مساجد قبلة؛ فيكون في قوله:، (أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا) الأمر باتخاذ المساجد، ويكون في قوله: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) الأمر باتخاذ القبلة في المساجد التي أمر ببنيانها. والثاني: قوله: (أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا)، أي: اتخذا لقومكما بمصر مساجد على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي: اجعلوا في بيوتكم التي بنيتم لأنفسكم قبلة تحّوجهون إليها، ويكون فيه دلالة أن نصب الجماعة واتخاذ المساجد والقبلة مثوارثة مسنونه ليست ببديعة لنا وفي شريعتنا خاصة، ويؤيد ما ذكرنا أن فيه الأمر باتخاذ المساجد. وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) دل الأمر بإقامة الصلاة على أن الأمر ببناء البيوت أمر باتخاذ المساجد واتخاذ القبلة. فَإِنْ قِيلَ: هذا في الظاهر أمر باتخاذ المساجد، والآية التي ذكر فيها اتخاذ المساجد تخرج مخرج الإباحة لنا، وهو قوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) هو في الظاهر إباحة. قيل: هو أمر في الحقيقة، وإن كان في الظاهر إباحة، ألا ترى أنه قال: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا. . .) الآية، ولا شك أن ذكر اسمه والتسبيح له أمر؛ فدل أنه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وأما أهل التأويل فإنهم قالوا: إنهم كانوا يخافون فرعون وملأه، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرا خوفًا من فرعون، هذا يحتمل إذا كان قبل هلاك فرعون وقبل أن يستولوا على مصر، وإذا كان بعد هلاكه وبعدما استولوا وملكوا على مصر وأهله فالأمر فيه ما ذكرنا؛ أمر باتخاذ المساجد ونصب الجماعات فيها وإقامة الصلاة فيها.

(88)

وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: وجهوا بيوتكم ومساجدكم نحو القبلة لكن هذا بعيد؛ لأنه لا يكون بيتًا إلا ويكون جهة من جهاته إلى القبلة، فلا معنى له. والوجه فيه ما ذكرنا. ويحتمل الأمر ببناء البيوت لقومهما بمصر وجعل البيوت قبلة وجهين: أحدهما: الأمر بالانفصال من فرعون وقومه حتى إذا أرادوا الخروج من عندهم قدروا على ذلك ولا يكون المرور عليهم وكان ذلك الانفصال إنما كان من جهة القبلة. والثاني: ما ذكرنا أرادوا أن يعتزلوهم حتى يتهيأ لهم الصلاة فيها، وكان لا يتهيأ لهم في بيوت فرعون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يحتمل البشارة في الآخرة بالجنة وأنواع النعيم ويحتمل أن يبشرهم بالملك في الدنيا والظفر على فرعون وأنواع النعم، بعدما أصابوا الشدائد من فرعون؛ كقوله: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ). وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا) تهيآ من هيأ، أي: هيئا لهم موضعًا؛ كقوله: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي: هيأنا لهم مهيأ صدق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) ويحتمل قوله (زِينَةً): من أنواع ما آتاهم من الأنزال والنبات؛ كقوله: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ)، ونحوه. ويحتمل الزينة التي كانوا يتزينون بها من المركب والملبس، وما يتحلون بها من أنواع الحلي وأموال كثيرة سوى ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ): قالت المعتزلة تأويل قوله: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي: آتاهم لئلا يضلوا الناس عن سبيله، ولكن أضلوهم عن سبيله وقالوا هذا كما يقال ألم أقل كذا لأجل كذا، ولكن فعلت ونحوه من الكلام، ولكن عندنا هو ما ذكر: آتاهم الأموال وما ذكر ليضلوا عن سبيله؛ لأنه إذا علم منهم أنهم يضلون الناس عن سبيله آتاهم ما آتاهم ليضلوا وهو كما ذكرنا في قوله: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)؛ وقوله: (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ. . .) الآية، وأمثاله فكذا هذا واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) يحتمل هذا وجهين: يحتمل: أي: اطمس على أموالهم، واجعل في قلوبهم قساوة وغلظة تنفر الأتباع ومن

(89)

يقلدهم عن اتباعهم وتقليدهم، فيكون ذلك أهون علينا في استنقاذ الأتباع منهم وأدعى لهم إلى الإيمان أعني الأتباع ومن يقلدهم، ويكون ذلك سببًا لإبعادهم عن اتباعهم وتقليدهم إياهم؛ هذا وجه. والثاني: قوله: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي: اجعل ذلك آية تضطرهم إلى الإيمان، فإنهم لم يؤمنوا بالآيات التي أرسلتها عليهم من الطوفان والجراد وما ذكر من البلايا، فيكون قوله: (فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) هذا من طمس الأموال وقساوة القلوب وشدتها، واللَّه أعلم. وقال بعض أهل التأويل: واشدد على قلوبهم واطبعها فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وهو الغرق فعند ذلك يؤمنون، وأما بهذه الآيات فلا. هذا يحتمل إذا كان اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر موسى أنهم لا يؤمنون فيسع له هذا الدعاء، وأما قبل أن يخبره بذلك فلا يسع له أن يدعو بهذا، وهو إنما أرسله إليهم ليدعوهم إلى الإيمان والطمس. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو الذهاب بها، أي: اذهب بها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (رَبَّنَا اطْمِسْ) أي: أهلكها، وهو من قولك: طمس الطريق إذا عفا ودرس. وقال غيره: الطمس هو المسخ؛ كقوله: (لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ) أي: مسخناهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطمس هو التغيير عن جوهرها، دعا موسى بهذا الدعاء بالأمر لما أيس من إيمانهم؛ وهو كقول نوح: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ) الآية، عند الإياس منهم فعلى ذلك موسى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن موسى كان يدعو وهارون يؤمن على دعائه، فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) سمى كليهما

(90)

دعاء، ولهذا قال مُحَمَّد بن الحسن - رحمه اللَّه - في بعض كتبه: إن الإمام يدعو في القنوت في الوتر والقوم يؤمنون. وقوله تعالى: (فَاسْتَقِيمَا) على الرسالة وما أمرتكما به، (وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)؛ وهو كقوله لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)؛ وكقوله: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، ونحوه، وإن كان العلم محيطا أن الأنبياء - صلوات اللَّه عليهم - لا يتبعون سبيل أُولَئِكَ ولا يتبعون أهواءهم لما عصمهم - عَزَّ وَجَلَّ - ولكن ذكر هذا - واللَّه أعلم - ليعلم أن العصمة لا تزيل النهي والأمر بل تزيد حظرًا ونهيا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ): هذا ظاهر. وفي قوله: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه أضاف إلى نفسه أنه جاوز بهم، وبنو إسرائيل هم الذين تجاوزوا، دل ذلك أنه خالق فعلهم. وأما قوله: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أي: حتى إذا غرق؛ لأنه ذكر في بعض القصة أن فرعون لما انتهى إلى ساحل البحر، فرأى البحر منفرجا طرقًا، فقال: إنما انفرج البحر لي، فلما دخل غرق فعند ذلك قال غريقا: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ثم إيمانه لم يقبل في ذلك الوقت لوجهين: أحدهما: لما يحتمل أن يكون إيمانه عند رؤية البأس وخوف الهلاك، فهو إيمان دفع البأس لا إيمان حقيقة، وهو على ما أخبر عن إيمان الكفرة في الآخرة لما عاينوا العذاب؛

(92)

كقولهم: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ)؛ وكقوله تعالى: (رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)، وكقولهم: (نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، وأمثاله (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)؛ فما عاينوا هم من العذاب أكبر وأشد مما عاين فرعون، ثم أخبر أنهم لو ردوا لعادوا إلى ما كانوا يعملون لكنهم قالوا ذلك قول دفع، فعلى ذلك إيمان فرعون إيمان دفع البأس عن نفسه لا إيمان حقيقة واختيار. والثاني: أن الإيمان والإسلام هو تسليم النفس إلى اللَّه، فإذا آمن في وقت خرجت نفسه من يده لم يصر مسلمًا نفسه إلى اللَّه؛ إذ نفسه ليست في يده ولذلك لم يقبل الإيمان في ذلك الوقت وقت الإشراف على الهلاك. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن الإيمان باللَّه لا يكون إلا بالاستدلال بالشاهد على الغائب، ولا يمكن الاستدلال بالشاهد على الغائب في ذلك الوقت؛ إذ لا يكون ذلك إلا بالنظر والتفكر وفي ذلك الوقت لا يمكن النظر والتفكر؛ لذلك لم يكن إيمان حقيقة، واللَّه أعلم. وأما قوله: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) قيل فيه بوجوه: قيل: قوله: (نُنَجِّيكَ) من النجوة، أي: نلقيك على النجوة وهو مكان الارتفاع والإشراف؛ ليراه كل أحد أنه هلك ليظهر لهم أنه لم يكن إلها على ما ادعى لعنه اللَّه، وأما سائر أبدان قومه لم تلق على النجوة ولكن بقيت في البحر. والثاني: قيل: (نُنَجِّيكَ) أي: نخرجك من البحر ولا نتركك فيه لتكون لمن خلفك آية. والثالث: ننجيك ببدنك ولا نتبع بدنك روحك؛ لأنه ذكر في القصة أنهم لما غرقوا هم وأغرق، أخذ إلى النار؛ كقوله: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا) أخبر أنه لم يهو جسده بروحه إلى النار، ولكن أخرج بدنه وهوت روحه إلى النار مع سائر قومه - واللَّه أعلم - ليرى جسده ويظهر كذبه ولا يشتبه أمره عليهم.

(93)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يحتمل وجهين: يحتمل ليكون هلاكك آية، فلا يدعى أحد الربوبية والألوهية مثل ما ادعى هو، أو يقول: (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي: من شاهدك كذلك غريقًا ملقى كان آية له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ): قال بعض أهل التأويل: يعني أهل مكة عن آياتنا لغافلون عن هلاك فرعون وقومه لما قالوا: (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، و (مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ)، يقول: هم غافلون عما أصاب أُولَئِكَ؛ إذ مثل هذا لا يفترى، أعني: هذه القصص. ويحتمل (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)، أي: كثير منهم كانوا غافلين عما أصابهم، والغفلة تكون على وجهين: أحدهما: غفلة إعراض وعناد بعد العلم به ومعرفة أن ذلك حق. والثاني: يغفل بترك النظر والتفكر؛ فكلا الوجهين مذموم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) قال عامة أهل التأويل: بوأنا أنزلنا بني إسرائيل منزل صدق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بَوَّأْنَا): هيئنا لبنى إسرائيل، (مُبَوَّأَ صِدْقٍ): مهيأ صدق حسنا؛ كقوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ. . .) الآية، أي: ثهيئ للمؤمنين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي: مكناهم تمكين صدق؛ وهو كقوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5). وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، يحتمل ما ذكر من التبوئة التمكين الذي ذكر في هذه الآية وقوله (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: منزل صدق، أي: كريم وقال: منزل صدق أي حسن. ويحتمل وجهين آخرين: أحدهما: أنه وعد لهم أن يمكن لهم في الأرض فأنجز ذلك الوعد، فهو مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي تمكين صدق، حيث أنجز ذلك الوعد وصدق الوعد ما ذكر (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) الآية. والثاني: (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي: مُبَوَّأَ أهل صِدْقٍ لأن الشام كان لم يزل منزل أهل صِدْقٍ،

(94)

وعلى هذا يخرج قوله: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ. . .) الآية. أي: أخرجني مخرج أهل صدق وأدخلني مدخل أهل صدق، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) قال أهل التأويل: يعني المن والسلوى، ولكن الطيبات هي التي طابت بها الأنفس مما حل بالشرع مما لا تبعة على أربابها مما لم يعص فيها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي: فما اختلفوا في الدِّين إلا من بعد ما جاءهم العلم أنه حق. وقيل: فما اختلفوا في مُحَمَّد في أنه رسول اللَّه إلا من بعد ما جاءهم العلم أنه رسول اللَّه وقيل: فما اختلفوا في القرآن والأديان التي أنزلها على رسوله إلا من بعد ما جاءهم العلم، أنه منزل من عند اللَّه. ويحتمل قوله: (فَمَا اخْتَلَفُوا) في موسى أنه رسول اللَّه إلا من بعد ما جاءهم العلم أنه رسول اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. . .) الآية: ظاهرة من الوجوه التي ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) يحتمل وجهين: أحدهما: الجزاء والثواب، والثاني: في تبيين المحق من المبطل. * * * قوله تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ): اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: الخطاب به لرسول اللَّه والمراد منه غيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخطاب به المراد به جميعًا غيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ، الخطاب به والمراد به رسول اللَّه ما كنت في شك مما أخبرتهم وأنبأتهم، فمن قال: الخطاب لرسول اللَّه والمراد به غيره، وهو ما ظهر في الناس أنهم يخاطبون من هو أعظم منزلة عندهم وقَدْرًا ويريدون به غيره، وإلا لا يحتمل أن يكون رسول اللَّه يشك فيما أنزل إليه قط أو يرتاب؛ كقوله: (إِمَّا يَبلُغَنَّ

عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا. . .) الآية، ومعلوم أنه في وقت ما خوطب به لم يكن أبواه أحياء دل أنه أراد به غيره؛ فعلى ذلك الأول. ومن قال: الخطاب والمراد به من غير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: إن الوفود من الكفرة كانوا يتقدمون رسول اللَّه فيسألونه شيئًا فشيئًا فيخاطب الذي يتقدم، وكان يحضره الوحدان والجماعة يقول: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ). وقوله: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) على هذا التأويل هو منزل إليه؛ إذ كل منزل على رسول الله منزل عليه وإليه وإلى كل أحد كقوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أمرهم باتباع ما أنزل إليهم دل أن كل منزل على رسول اللَّه منزل عليهم. ومن قال: الخطاب والمراد به رسول اللَّه قال لما لا يحتمل أن يكون رسول اللَّه يشك في شيء مما أنزل إليه، ولكنه يريد به التقرير عنده لقول الكفار إن الذي يلقي على محمد شيطان فيريد به التقرير عنده، أو يخاطب به كل شاك؛ كقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي)، هو يخاطب إنسانًا واحدًا، ولكن المراد به كل إنسان مغرور وكل كافر، وذلك جائز في القرآن كثير أن يخاطب به كلا في نفسه. ومن قال: خاطب به رسوله وأراد هو -أيضًا- وهو كان في الابتداء على غير يقين أنه يوحى إليه أو لا؛ كقوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ)، وقوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)، فقال: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ) الأنباء التي أخبرتهم وأنبأتهم وادعيت أنها أوحيت إليك ليخبروك على ما أخبرتهم. وقوله: (فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: فاسأل الذين يقرءون الكتاب يعني من آمن منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سل أهل الكتاب منهم يخبرونك؛ لأنه مكتوب عندهم؛ كقوله: قوله تعالى: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) قيل: الحق القرآن جاء من ربك، وقيل: جاء البيان أنه من عند اللَّه.

(95)

وقوله: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ): الشاكين. (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) هو ما ذكرنا أنه يريد بالخطاب غيره، وإلا لا يحتمل أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يكون من الشاكين، أو يكون من الذين يكذبون بآيات اللَّه، أو يكون من الخاسرين. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ). قوله: (حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) هو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، هذا يكون في الختم من يختم به يعني بالكفر فقد حقت كلمهّ ربك لأملأن جهنم، أو (حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) ما ذكر في آية أخرى: (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ. . .) الآية، أو كلمة ربك ما ذكر: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي: علم ربك بأحوالهم، أي: من كان علمه أنه لا يؤمن فلا يؤمن وقت اختياره الكفر؛ كقوله: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ) أي: من يضلل اللَّه فلا هادي له، وقت اختيارهم الكفر؛ وكذلك قوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وقت اختيارهم الظلم ونحو ذلك، فالتأويل الأول يرجع إلى الختم به، والثاني: إلى وقت من ثبت عليه علم ربه أنه لا يؤمن إلى وقت أنه لا يؤمن في ذلك الوقت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) قيل: في الدنيا إيمان دفع العذاب ويحتمل في الدنيا، وقد ذكرنا هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) أي: لم تكن القرى آمنت عند معاينة البأس إيمانا نفعها إلا إيمان قوم يونس، فإنهم آمنوا إيمان حقيقة وعلم اللَّه صدقهم من إيمانهم فنفعهم إيمانهم، هذا يخرج

(99)

على وجوه: أحدها: أن سائر القرى كان إيمانها عند إقبال العذاب إليهم ووقوعه عليهم، فلم ينفعهم إيمانهم، إلا قوم يونس، فإن إيمانهم إنما كان لتخويف العذاب فينفعهم. والثاني: يحتمل أن يكون قوم يونس، كان نزول العذاب بهم على التخيير والتمكين إن قبلوا الإيمان أمنوا دفع العذاب عنهم، وإن لم يقبلوا نزل بهم. والثالث: إنما كان إيمان سائر القرى بعدما عاينوا مقامهم في النار فآمنوا، فيكون إيمانهم إيمان اضطرار، وقوم يونس آمنوا قبل أن يعاينوا ذلك، ويشبه أن يكون قوله: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) بعد وقوع العذاب والبأس، (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) وفإنهم آمنوا إذ عاينوا العذاب قبل أن يقع بهم، وإيمان فرعون وقومه إنما كان بعدما غرقوا وبعدما خرجت أنفسهم من أيديهم فلم يقبل، وإيمان قوم يونس كان قبل أن يقع العذاب بهم وأنفسهم في أيديهم بعد فقبل، وهو ما ذكر عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ. . .) الآية، آمنوا بعدما عاينوا قبل أن يقع بهم وسائر الأمم الخالية كان منهم الإيمان بعد وقوع العذاب بهم من نحو عاد وثمود وأمثاله، وأصله ما ذكرنا آنفًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). قوله: (كَشَفْنَا عَنْهُمْ): بحلول العذاب بهم، (عَذَابَ الْخِزْيِ): هو العذاب الفاضح وإلا الخزي هو العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) قالت المعتزلة: قوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) مشيئة القهر والقسر، لو شاء لأجبرهم وقهرهم جميعًا فيؤمنوا وإلا فقد شاء أن يؤمنوا مشيئة الاختيار لكنهم لم يؤمنوا، واستدلوا على ذلك بقوله: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). فيقال لهم: إن مشيئة الاختيار هي الظاهرة عندكم ومشيئة الجبر والقهر غائبة، فإذا وجد منه مشيئة الاختيار فلم يؤمنوا ولم تنفذ مشيئته فيهم كيف يصدق هو في الإخبار عن

المشيئة التي هي غائبة أنها لو كانت لآمنوا هذا فاسد على قولهم. وبعد فإن المشيئة لو كانت مشيئة القهر لكانوا مؤمنين بتلك المشيئة وهي خلقة؛ لأن كل كافر مؤمن بخلقته؛ لأن خلقة كل أحد تشهد على وحدانية اللَّه، فإذا كانوا مؤمنين بالخلقة ثم ذكر أنه لو شاء لآمنوا دل أنه لم يرد به مشيئة القهر ولكنه أراد مشيئة الاختيار، وتأويله عندنا هو أن عند اللَّه تعالى لطف لو أعطاهم كلهم لآمنوا جميعًا، لكنه إذ علم أنهم لا يؤمنون لم يعطهم وهو التوفيق والعصمة، لكنه إذ علم منهم أنهم لا يؤمنون شاء ألا يؤمنوا، ثم لا يحتمل أن يتحقق الإيمان بالجبر والقهر؛ لأنه عمل القلب والجبر والإكراه مما لا يعمل على القلب، فهو وإن تكلم بكلام الإيمان فلا يكون مؤمنا حتى يؤمن بالقلب، فيكون التأويل على قولهم: ولو شاء ربك فلا يؤمنوا، فهذا متناقض فاسد. وبعد فإن الإيمان لا يكون في حال الإكراه والإجبار؛ لأن الإكراه يزيل الفعل عن المكره كان لا فعل له في الحكم. وقوله: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) فَإِنْ قِيلَ: أليس قال اللَّه - عز وجل -: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي: حتى يسلموا وذلك إكراه، وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فذلك إكراه، فكيف يجمع بين الآيتين؟! قيل لوجهين: أحدهما: ما ذكر أن هذه السورة مكية، وقوله: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)، مدنية، فيحتمل قوله: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي: لا تكرههم ثم أمر بالقتال بالمدينة والحرب والإكراه عليه. والثاني: يجوز أن يجمع بين الآيتين، وهو أن يكون قوله: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي: تقاتلونهم حتى يقولوا قول إسلام ويتكلموا بكلام الإيمان، دليله ما روي: " حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "، والقول: بلا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ على غير حقيقة ذلك في القلب ليس بإيمان، وفي هذه الآية حتى يكونوا مؤمنين وبالإكراه لا يكونون مؤمنين

(100)

حقيقة؛ لأنه عمل القلب والإكراه مما لا يعمل عليه، واللَّه أعلم. وتأويل قوله: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) أي: لا تملك أن تكرههم، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لشدة حرصه ورغبتة في إيمانهم كاد أن يكرههم على الإيمان إشفاقًا عليهم؛ كقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قيل: بمشيئة الله. وقيل: بعلم اللَّه، وقيل: بأمر اللَّه وبإرادته وهو ما ذكرنا لا تؤمن نفس إلا بمشيئة الله وإرإدته في ذلك، ولا يحتمل قوله: (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) سوى المشيئة والإرادة؛ لأنه كم من مأمور بالإيمان لم يؤمن، فلم يحتمل الأمر ولا يحتمل الإباحة لأنه لا يباح ترك الإيمان في حال وأصله ما ذكرنا؛ أنه لا يحتمل أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يعلم من خلقه اختيار عداوته والخلاف له ويشاء لهم الولاية؛ لأنه يخرج ذلك مخرج العجز؛ لأن في الشاهد من اختار عداوة أحد فالآخر يختار ولايته أنه إنما يختار لضعفه وعجز فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) قيل: الإثم على الذين لا يعقلون، وقيل: ويجعل العذاب على الذين لا يعقلون، أي: لا يستعملون عقولهم حتى يعقلوا، أو على الذين لا ينتفعون بعقولهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) أي: لم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها عند نزول العذاب إلا قوم يونس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فهلا كانت آمنت إذا رأت بأسنا، فكانت مثل قوم يونس، فإنهم آمنوا حين رأوا العذاب، وأصله ما ذكرنا أنه لا يحتمل أن يكون اللَّه تعالى يعلم من خلقه اختيار عداوته والخلاف له يسألهم ويشاء لهم الولاية؛ لأنه يخرج ذلك مخرج العجز؛ لأن في الشاهد من اختار عداوة أحد فالآخر يختار ولايته أنه إنما يختار لضعفه وعجزه فيه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) قيل: وما كان لنفس في علم اللَّه أنها لا تؤمن فتؤمن، أي: لا تؤمن نفس في علم اللَّه أنها لا تؤمن إنما يؤمن

(101)

من في علم اللَّه أنه يؤمن، وأما من في علم اللَّه أنه لا يؤمن فلا يؤمن. وقيل: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ) أي: لا تؤمن نفس إلا بمشيئة اللَّه، أي: إذا آمنت إنما تؤمن بمشيئة اللَّه ما يفعل إنما يفعل بمشيئة اللَّه؛ كقوله: (رَمَا لتَثَآءُونَ إِلَّا أَن يشًآءَ اللَّهُ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِلَّا بِإِذنِ اللَّهِ) أي: بأمر اللَّه، فمعناه إذا آمنت إنما تؤمن بأمره لا تؤمن بغير أمره فالأول أقرب، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) أي: يجعل جزاء الرجس، أي: جزاء الكفر على الذين لا يعقلون، أي: الذين لا ينتفعون بعقولهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) تأويله - واللَّه أعلم - أي: انظروا إلى آثار نعمه وإحسانه التي في السماوات والأرض لكي تشكروه أو يقول: انظروا إلى آثار ربوبيته وألوهيته في السماوات والأرض، فتوحدوه وتؤمنوا به أو يقول: انظروا إلى آثار سلطانه وقدرته فتخافوا نقمته وعقابه، أو انظروا إلى أجناس الخلق واتساقه على تقدير واحد ليدلكم على وحدانيته ونحو ذلك، ليس شيء في السماوات والأرض يقع عليه البصر إلا وفيه دلالة الربوبية حتى طرفة العين ولحظهَ البصر. وقوله: (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) يحتمل وجوهًا: يحتمل وما تغني الآيات والنذر عن قوم، همتهم المكابرة والمعاندة، إنما تغني الآيات من همته القبول والانقياد، وأما من همته المكابرة والعناد فلا تغني؛ وهو كقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى. . .) الآية. ويحتمل وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون في الدنيا، إنما تنفع وتغني لقوم يؤمنون، فأما من لا يؤمن فلا تغني. والثالث: (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ) يحتمل الرسل، ويحتمل المواعيد التي أوعدوا والأحوال التي تغيرت على أوائلهم، واللَّه أعلم.

(102)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) أي: فهل ينتظرون بي يومًا من الهلاك إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟! أي: إلا مثل ما انتظر الذين خلوا من قبلهم برسلهم من الهلاك، فهو يخرج على التوبيخ لانتظارهم هلاك الرسل وذهاب أمرهم. ويحتمل وجهًا آخر: فهل ينتظرون من نزول العذاب بهم إلا مثل ما انتظر أُولَئِكَ من نزول العذاب بهم؟! إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل. ويحتمل قوله: فهل ينتظرون من تأخيرهم الإيمان إلى وقت نزول العذاب بهم إلا مثل ما أخر الذين خلوا من قبلهم الإيمان إلى وقت نزول العذاب بهم، فهذا يخرج على الإياس من إيمانهم، أي لا يؤمنون إلى ذلك الوقت الذي لا ينفعهم إيمانهم. والوجه الأول على التوبيخ والتعيير. وقوله: (قُلْ فَانْتَظِرُوا) وبي ذلك (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قوله: (نُنَجِّي) أي: أنجينا الرسل والذين آمنوا؛ لأنه لم يكن بعده رسول، وتأويله - واللَّه أعلم - أنه وعده أن ينجي الرسل والذين آمنوا كذلك حقا علينا أن ينجز ما وعدنا أن ينجي الرسل والذين آمنوا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي). قوله: (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي): الذي أدين به، أو إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه. (فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: إذا شككتم في ديني الذي أدعوكم إليه كنتم

(105)

شاكين في دينكم الذي أنتم عليه، فتركتم ديني الذي أنا عليه بالشك، ثم تدعونني إلى دينكم الذي أنتم عليه بالشك، يذكر سفههم بتركهم إجابتهم بالشك ودعائهم إياه بالشك إلى دينهم لأن الشك، يوجب الوقف في الأشياء، ولا يوجب الدعاء إليه إنما يوجب الدعاء إليه بطلان غيره لا الشك، هذا - واللَّه أعلم - محتمل وهو يخرج على وجهين أيضًا: أحدهما: على الإضمار، والآخر على المنابذة، والإضيار ما ذكرنا: إن كنتم في شك من ديني الذي أدين به وأدعوكم إليه فإني لا أشك فيه، هذا وجه الإضمار، ووجه المنابذة: يقول إن كنتم في شك مما أعبد وأدين به، فلا تعبدون ذلك ولا تدينون به، فأنا لا أعبد ما تعبدون ولا أدين ما تدينون؛ وهو كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ): والتوفي هو النهاية والغاية، في الإضرار، وما تعبدون من الأصنام دونه لا يملكون توفيكم ولا الإضرار بكم إن لم تعبدوها، يذكر سفههم ويلزمهم الحجة أن الذي يتوفاهم هو المستحق للعبادة لا الأصنام التي تعبدونها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ): يشبه أن يكون قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من المرسلين؛ كقوله: (إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)، وقال: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)، فعلى ذلك هذا. ويحتمل الإيمان نفسه على ما نهي أن يكون من المشركين أو الشاكين؛ فعلى ذلك أمر أن يكون من المؤمنين المخلصين له المسلمين أنفسهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) أي: أمرت أن أقيم نفسي لله خالصة سالمة لا أشرك فيها غيره ولا أجعل لسواه فيها نصيبًا، أو أن يقول: إني أمرت أن أقيم نفسي على ما عليها شهادة خلقتها؛ إذ خلقة كل نفس تشهد على وحدانية الله وألوهيته، أو يقول: أقم وجه أمرك لما تدين به وتقيم عليه. (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ): هذا ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ ... (106) إن أطعته وأجبته، (وَلَا يَضُرُّكَ): إن تركت إجابته وطاعته.

(107)

وقوله: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) يحتمل لا تعبد من دون اللَّه ما لا يملك جر المنفعة. ويحتمل الدعاء نفسه، أي: لا تدعوا من دون اللَّه إلهًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ): ذكر هاهنا الظلم إن فعل ما ذكر والمراد منه الشرك، وذكر في قصة آدم وحواء: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، وقد قرباها ولم يكونا مشركين إنما كانا عصاة؛ ليعلم أن ليس في الموافقة في الأسماء موافقة في الحقائق والمعاني إنما يكون الموافقة في الحقائق في موافقة الأسباب؛ لذلك كان ما ذكروا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107): فيه الرجاء والطمع إلى من دونه؛ إذ أخبر أنه لا يوجد ذلك من عند غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ): أخبر أنه إن أراد خيرًا وفضلا فلا راد لذلك الفضل، والخير، والإيمان من أعظم الخيرات وأفضلها، فإذا أراده لإنسان، كان لا يملك أحد دفع ما أراد ولا رده؛ دل أنه إذا أراد الإيمان لأحد كان مؤمنا، فهو ينقض على المعتزلة حيث قالوا: إنه أراد الإيمان للخلق كلهم. لكنهم لم يؤمنوا؛ إذ أخبر أنه إذا اراد به خيرًا فلا راد لذلك الفضل، وهم يقولون: بل يملك العبد رد ما أراد له ودفعه، وباللَّه العصمة. وفيه أن ليس على اللَّه فعل لهم - أعني فعل الخير - لأنه سماه فضلا، والفضل هو فعل ما ليسر عليه، وهو المفهوم في الناس أن ما عليهم من الفعل لا يسمونه فضلا إنما يسمون الفضل ما ليس عليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ): يصيب به من يشاء من الفضل والخير أو من الشر، وفيه دلالة تخصيص بعض على بعض حيث قال: (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ). (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ): لا يعجل بالعفوبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) قيل: الحق مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقيل: الحق: القرآن الذي أنزل عليه، وأمكن أن يكون الحق هو الدِّين الذي كان

(109)

يدعوهم رسول اللَّه إليه؛ لأنه قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي)، فيشبه أن يكون الحق هو الدِّين الذي شكوا فيه، أي: قد جاءكم ما يزيل عنكم ذلك الشك إن لم تكابروا لما أقام عليهم الحجج والبراهين. ويحتمل الحق محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ما ذكره بعض أهل التأويل وكان رسول اللَّه في أول نشوئه إلى آخره آية. ويحتمل الحق القرآن على ما ذكره بعضهم وهو ما ذكر. (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) سماه بأسماء مختلفة سماه حقًّا وسماه نورا وشفاء ورحمة وهدى ونحوه، وفيه كل ما ذكر من تأمله وتفكر فيه وتمسك به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) أي: من اهتدى فإنما منفعة اهتدائه له في الدنيا والآخرة، ومن ضل فإنما يرجع ضرر ضلالته إليه وخيانته عليه، أي: ما يأمر وينهى ليس يأمر وينهى لمنفعة تحصل له أو لحاجة نفسه إنما يأمر وينهى لمنفعة الخلق ولحاجتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي: بمسلط. قال بعض أهل التأويل: هو منسوخ، نسخته آية القتال، لكنه لا يحتمل لأنه وإن كان مأمورا بالقتال فهو ليس بوكيل ولا بمسلط على حفظ أعمالهم، إنما عليه التبليغ؛ كقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) وكقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)؛ وكقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) يحتمل القرآن وغيره من الوحي غير القرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ) أي: اصبر على أذاهم لأنهم كانوا يؤذونه ويقولون فيه بما لا يليق به، يقول: اصبر على أذاهم ولا تعجل عليهم بالعقوبة حتى يحكم اللَّه عليهم بالعقوبة وقت عقوبته وهو خير الحاكمين، أو اصبر على تكذيبهم إياك حتى يحكم اللَّه بينك وبين مكذبيك وهو خير الحاكمين، أو اصبر على تبيلغ الرسالة والقيام لما أمرت به، واللَّه أعلم. * * *

سورة هود

سُورَةُ هُودٍ - عليه السلام - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ): قال الحسن: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) بالأمر والنهي، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بالوعد والوعيد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) بالوعد والوعيد، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بالأمر والنهي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) حتى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يملك أحد التبديل، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بينت ما يؤتى وما يتقى، أو بينت ما لهم وما عليهم وما لله عليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) فلم تنسخ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بالحلال والحرام. وقيل: (فُصِّلَتْ) أي: فرقت في الإنزال أنزل شيء بعد شيء على قدر النوازل والأسباب فلم ينزل جملة؛ لأنه لو أنزل جملة لاحتاجوا إلى أن يعرفوا الكل بسببه وشأنه وخصوصه وعمومه، فإذا أنزل متفرقًا في أوقات مختلفة على النوازل والأسباب عرفوا ذلك على غير إعلام ولا بيان، والتفصيل هو اسم التفريق واسم التبيين، وذلك يحتمل المعنيين جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ): أي: أحكمت حتى لا يرد عليها النقض

(2)

والانتقاض، أو أحكمت حتى لا يملك أحد التبديل والتغيير، أو أحكمت عن أن يقع فيها الاختلاف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أحكمت آياته بالفرائض، وفصّلت بالثواب والعقاب. ثم (الآيات) تحتمل وجوهًا: أحدها: العبر. والثاني: الحجج. والثالث: العلامة. ثم الآية كل كلمة في القرآن تمت فهي عبرة أو حجة، أو علامة لا تخلو عن أحد هذه الوجوه الثلاثة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ): من عند حكيم عليم جاءت هذه الآيات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) أي: من اللَّه ينذر من ينذر ومن عنده يبشر من يبشر؛ يبشر من اتبع وينذر من خالف. وقوله: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) في شهادة خلقتكم هو المستحق للعبادة ويحتمل (أَلَّا تَعْبُدُوا) ألا توحدوا إلا الذي في شهادة خلقتكم وحدانيته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إن كانت الآية في الكفار فيكون قوله: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي: أسلموا ثم توبوا إليه، أي: ارجعوا إليه عن كل معصية وكل مأثم تأتونها، وإن كان في المسلمين فهو ظاهر، فيكون قوله: استغفروا وتوبوا واحدا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا) أي: يمتعكم في الدنيا متاعًا تستحسنون في الآخرة ذلك التمتع، وأمّا الكفار فإنهم لا يستحسنون في الآخرة ما متعوا في الدنيا؛ لأن تمتعهم في الدنيا للدنيا، والمؤمن ما يتمتع في الدنيا يتمتع لأمر الآخرة والتزود لها،

(4)

واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ): يحتمل قوله: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ) في الدنيا جزاء فضله في الآخرة. ويحتمل (وَيُؤْتِ) بمعنى أتى، أي: ما أتى كل ذي فضل في الدنيا إنما أتاه بفضله. وقوله: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي: ويؤت كل ذي فضل في دينه في الدنيا فضله في الآخرة، أو يقول: يؤت كل ذي فضل في الدنيا والآخرة فضله؛ لأن أهل الفضل في الدنيا هم أهل الفضل في الآخرة. (وَإِنْ تَوَلَّوْا): ولم يسلموا، (فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) الآية ظاهرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ في موضع آخر، وهذا لما يكبر على الخلق ويعظم ذلك اليوم. وقال بعض أهل الفقه: في قوله: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) دلالة تأخير البيان؛ لأنه قال: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)، وحرف ثم من حروف الترتيب، ففيه جواز تأخير البيان، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أي: إلى ما أعد لكم مرجعكم من وعد ووعيد. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي: وهو على كل ما أوعد ووعد، قدير. * * * قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ): عن عبد اللَّه بن شداد قال: كان أحدهم إذا مر بالنبي تغشى بثوبه وحنى صدره.

وقال قتادة: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب اللَّه وذكره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية في رجل يقال له: الأخنس بن شريق الثقفي، كان يجالس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويظهر له أمرا حسنا، وكان حسن المنظر حسن الحديث، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعجبه حديثه ويقر به مجلسه، وكان يضمر خلاف ما يظهر، فأنزل اللَّه: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يقول: يكتمون ما في صدورهم ويستترون؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ. وأصل تثنية الصدور هو أن يضم أحد طرفي الصدر إلى الطرف الآخر ليكون ما أضمروا أستر وأخفى. ويشبه ما ذكر من ثني الصدور أن يكون كناية عن ضيق الصدور؛ كقوله: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا)، أو عبارة عن الكبر؛ كقوله: (ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. . .) الآية، وكان أصله الميل إلى غيره، وهو ما قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) أي: يميلون إلى غيره؛ وكذلك قوله: (ثَانِيَ عِطْفِهِ). وقوله: (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: من اللَّه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: منه أي من رسول اللَّه، لكن إن كانت الآية في المنافقين على ما ذكره بعض أهل التأويل، فهو الاستسرار والاستتار من رسول اللَّه؛ لأنهم كانوا يظهرون الموافقة ويضمرون الخلاف له والعداوة، وإن كانت الآية في المشركين فهو على الاستسرار والاستتار من اللَّه؛ لأنهم لا يبالون الخلاف لرسول اللَّه وإظهار العداوة له، وعندهم أن اللَّه لا يطلع على ما يسرون ويضمرون في قلوبهم، فأخبر أنه يعلم ما أسروا وما أعلنوا، ففيه دلالة إثبات رسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنهم كانوا يسرون ذلك عنه ويضمرونه، فأخبرهم بذلك ليعلم إنما علم ذلك بالله تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) أي: يستترون بها. قال الحسن: (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) في ظلمة الليل وفي أجواف بيوتهم يعلم تلك الساعة ما يسرون

(6)

وما يعلنون، وأصله أنهم يعلمون أن اللَّه هو الذي أنشأ هذه الصدور والقلوب، والثياب هم الذين نسجوها واكتسبوها، ثم لا يملكون الاستتار بما كسبوا هم [فلئلا] يملكوا الاستتار، بما تولى هو إنشاءه أحق. وقوله: (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ) ألا إنما هو تأكيد الكلام، وهو قول أبي عبيدة وغيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ): قال أهل التأويل عليم بما في الصدور ولكن يشبه أن قوله: (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) عبارة عن صدور لها تدبير وتمييز وهو البشر. * * * قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (8) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: عنى بالدابة الممتحن به وهو البشر، وأما غيره من الدواب فقد سخرها للمتحن به. وقال قائلون: أراد كل دابة تدب على وجه الأرض من الممتحن به وغيره وتمامه: ما من دابة في الأرض، جعل قوامها وحياتها بالرزق إلا على اللَّه إنشاء ذلك الرزق لها، ثم من الرزق ما جعله بسبب، ومنه ما جعله بغير سبب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا): اختلف فيه أيضًا: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (عَلَى اللَّهِ رِزقُهَا)، أي: على اللَّه إنشاء رزقها وخلقه لها الذي به قوامها وحياتها؛ وهو كقوله: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ) أي: ينشئ ويخلق رزقنا بسبب من السماء من المطر وغيره؛ فعلى ذلك قوله: (عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) أي: على الله إنشاء رزقها وخلقه لها. وقيل: (عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) أي: على اللَّه أن يبلغ إليها رزقها وما قدر لها وما به معاشها كقوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا. . .) الآية. عليه تبليغ رزقها وما به معاشها.

ثم قوله: (عَلَى اللَّهِ رِزقُهَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: ما جاءها من الرزق إنما جاءها من اللَّه لم يأتها من غيره وعلى اللَّه بمعنى من اللَّه وذلك جائز في اللغة؛ كقوله: (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) أي: من الناس؛ وهو قول مجاهد. ويحتمل قوله: (عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) أي: على اللَّه وفاء ما وعد، وقد كان وعد أن يرزقها، فعليه وفاء وعده وإنجازه. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنه علم لما خلقها علم أنه يبقيها إلى وقت عليه تبليغ ما به تعيش إلى ذلك الوقت والأجل الذي خلقها ليبقيها إلى ذلك؛ وبعضه قريب من بعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا): اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: مستقرها بالليل، ومستودعها بالنهار في معاشها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المستقر: الرحم، والمستودع: الصلب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المستقر: الصلب، والمستودع: الرحم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المستقر: المتقلب في الدنيا، والمستودع: مثواها في الآخرة؛ كقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) في الدنيا وتحرككم في معاشكم (وَمَثْوَاكُمْ) أي: قراركم ومقامكم في الآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مستقرها في الدنيا، ومستودعها في القبر. ويشبه أن يكون هذا إخبارًا عن العلم بها في كل حال في حال سكونها وفي حال حركتها؛ لأنها لا تخلو إما أن تكون ساكنة أو متحركة، أي: يعلم عنها كل حالها ويشبه أن يكون صلة ما تقدم وهو قوله: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ. . .) الآية. يخبر أنه إذا لم يخف عليه كون كل دابة في بطن الأرض، وما تغيض به الأرحام وما استودع في الأصلاب، كيف يخفى عليه أعمالهم التي عليها العقاب ولكم بها الثواب وفيها الأمر والنهي؟! واللَّه أعلم.

(7)

و (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أي: مبين في كتابه. قيل: في اللوح المحفوظ، ويحتمل القرآن وغيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وقال في موضع آخر: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، وقال في موضع آخر: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)، وقال: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ)، وقال: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ). يجوز أن يكون جعل للأرض يومين: يومًا لوجودها ويومًا لعدمها، وكذلك السماء جعل يومًا لوجودها ويومًا لعدمها؛ كقوله: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ. . .) الآية. وكقوله: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)، (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ). وكذلك ما بينهما جعل يومًا لوجوده ويومًا لعدمه، فيكون يوم السابع يوم البعث يكون لكل من ذلك يومان: يوم لوجوده، ويوم لعدمه، وقد ذكرنا شيئًا في ذلك مما احتمل وسعنا في سورة الأعراف. وفي هذه الآية دلالة أن السماوات والأرض دخلتا تحت الأوقات بقوله: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، إذ الأيام عند الناس إنما هي مضي الأوقات، فإذا دخلتا تحت الأوقات ليستا بأزليتين - على ما يقول بعض الملحدة إنهما أزليتانِ - كانا كذلك، واللَّه أعلم، وجائز أن يكون اليوم السابع هو اليوم الذي أنشأ الممتحن فيه، فهو المقصود في خلق ما ذكر من الأشياء، أعني من البشر، وقوله: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) إن كان العرش اسم الملك والسلطان على ما قال بعض أهل التأويل، فتأويله - واللَّه أعلم - كان أظهر ملكه عن الماء " على " بمعنى " عن "

(8)

وذلك جائز في اللغة؛ لأن بالماء ظهور كل شيء وبدأه؛ كقوله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، وإن كان العرش اسم السرير والكرسي على ما قاله بعض الناس، فهو عرش الملك وسريره خلقه ليكرم به أولياءه؛ ليمتحن ملائكته بحمله والخدمة له على ما يكون لملوك الأرض سرير يستخدمون خدمهم في ذلك، وهو خلق من خلائقه أضافه إليه كما تضاف الأشياء إلى اللَّه، لكنه يضاف الأشياء إليه مرة بالإجمال مرة جملة ومرة بالإشارة والإفراد، لكن ما أضاف إليه بالإشارة فهو على تعظيم ذلك الشيء، وما أضيف إليه من الأشياء بالإجمال والإرسال فهو على ذكر عظمته وكبريائه، كقوله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، ونحوه فيه ذكر سلطانه وعظمته، وقوله: بيت اللَّه (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) ونحوه، وهو يخرج على ذكر تعظيم البيت والمساجد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي: خلق السماوات والأرض وما فيهما للممتحن لم يخلق هذه الأشياء لأنفسها إنما خلقها للممتحن فيهما؛ كقوله: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)؛ لأن خلقها لأنفسها عبث؛ لأنها مخلوقة للفناء خاصة، فكل مخلوق للفناء خاصة فهو عبث؛ لذلك كان ما ذكر والله أعلم. وقوله تعالى: (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). وقوله: (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ): هذا القول نفسه: (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) ليس يقولون هذا سحر، ولكن إذا أخبرهم أنهم مبعوثون من بعد الموت، وأقام الحجج والبراهين على البعث فحينئذ قالوا لحجج البعث وبراهينه: ما هذا إلاسحر. ويحتمل وجها: وهو أن يذكر سفههم أنهم اعتادوا نسبة كل شيء إلى السحر، حتى الأشياء التي لا تحتمل السحر وهو الإخبار؛ لأن السحر إنما يكون في تقليب الأشياء، وأما فيما يخبر عن شيء يكون فلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (8) قيل: إلى وقت

(9)

معلوم وهو البعث، ذكر (أُمَّةٍ) - واللَّه أعلم - لأنه وقت أبه ينقضي، آجال الأمم جميعًا. قوله تعالى: (لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ) أي: كانوا يقولون: ما يحبس عنا العذاب الذي يعدنا لم تزل عادتهم استعجال العذاب استهزاء بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ): ذلك العذاب؛ إذا جاء لا يملك أحد صرفه عنهم؛ كقوله: (مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)، وقوله: (وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ)، ونحوه. وقوله: (وَحَاقَ بِهِم): قيل: نزل بهم، وقيل: لحق بهم ما كانوا به يستهزئون جزاء استهزائهم بالرسول والكتاب. وقوله: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) أي: لا يصرف عنهم بشفاعة من طمعوا بشفاعته؛ كقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا). أي: لا يكون ردا على ما طمعوا ورجوا لعبادتهم. وقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ)، ونحو ذلك؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تشفع لهم. * * * قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) قيل: سعة في المال ونعمة. (ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ) إياسه ذهاب ذلك المال عنه ونزعه منه عن العود ذلك إليه ويقنطه، والإياس قد يكون كفرا؛ كقوله: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ

(10)

الْكَافِرُونَ). ويحتمل قوله: (إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) في حال ذهاب النعمة، والكَفُور في حال النعمة والسعة، كفور لما رأى نزع ذلك المال والسعة منه جورا وظلمًا فهو كفور. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ) يعني الكافر، (مِنَّا رَحْمَةً) يقول: نعمة العافية وسعة في المال وما يسر به، (ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ) يعني الرحمة (إِنَّهُ لَيَئُوسٌ) ويعني قنوط آيس وأقنطه من رحمة اللَّه؛ وهو كقوله: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ). (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) الفرح هو الرضا؛ كقوله: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: رضوا بها. وقيل الفرح: البطر يبطر في حال السعة والرخاء؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) والفرح فد يبلغ كفرا، ويكون الفرح سرورا ولا يكون كفرا. فخور: يفتخر على الفقراء بالمال الذي أعطي، أو يفتخر على الأنبياء والرسل بالتكذيب، وكذلك كان عادة رؤسائهم أنهم كانوا ذوي مال وسعة، فلا بد يرون الرسالة تكون فيمن دونهم في المال والسعة؛ كقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)؛ وكقولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا)، ونحوه. ويحتمل قوله: (لَيَئُوسٌ) في حال الشدة، كفور لله في نعمه في الرخاء وأصل ذلك، أنهم كانوا لا ينظرون في النعم إلى من أنعم عليهم، إنما ينظرون إلى أعين النعم وأنفسها؛ لذلك حملهم نزع ما أعطوا منهم على الإياس والقنوط، وإعطاؤها إياهم على الكفران والفرح والفخر، ولو نظروا في تلك النعم إلى المنعم لم يقع لهم إياس عند النزع، ولا الكفران والفرح عند النيل، بل يصبرون عند النزع من أيديهم ويشكرون للمنعم عليهم في حال النيل. ثم استثنى فقال: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (11) قال بعض أهل التأويل: إلا الذين صبروا على البلايا والشدائد وعملوا الصالحات يعني: الطاعات ويشبه أن يكون

(12)

قوله:، (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي: آمنوا على ما ذكر في غير واحد من الآيات: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)؛ كقوله: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، ويكون قوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) وعن المعاصي فلم يرتكبوها، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: الطاعات والإيمان نفسه هو اعتقاد الانتهاء عن المعاصي كلها، والاتقاء عن جميع ما يدخل نقصًا فيها وإتيان الطاعات جميعًا، وهكذا يعتقد كل مؤمن أن يتقي وينتهي كل معصية، ويأتي بكل طاعة ويعمل بها، هذا اعتقاد كل مؤمن وحقيقة الوفاء بذلك كله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ): يشبه أن يكون قوله: (لَهُم مغْفِرَة) لما ارتكبوا على الصغائر من الذنوب، وانتهوا عن الكبائر منها، (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) على ما أتوا وعملوا من الكبائر من الطاعات. ويحتمل قوله (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) الستر في الدنيا ستر عليهم تلك الذنوب في الدنيا فلم يطلع عليها الخلق (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) بما أظهر منهم ما كان من الطاعات والخيرات حتى نظر الناس إليهم بعين تعظيم بما ظهر منهم من الخيرات وخفي عليهم ما ارتكبوا من المعاصي. هذا التأويل يكون في الدنيا، والأول في الآخرة. * * * قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) وقوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ)، وإن كان معلومًا أنه لا يترك؛ كقوله: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، وأمثاله، نهاه وإن كان معلومًا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يفعل ذلك، وإنما احتمل النهي كما يقول الرجل لآخر لعلك تريد أن تفعل كذا فهو نهاه عن ذلك. والثاني: يقال عند القرب إلى الفعل والدنو منه؛ كقوله: (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)، يقال: حرف " كاد " عند الميل إليه والقرب منه طمعا منه في

إيمانهم، وذلك فيما يحل له الترك، وذلك ما قيل من نحو سب آلهتهم وذكر العيب فيها، ويحل له ترك سب آلهتهم وشتمها. وكذلك يخرج قوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) على هذين الوجهين، على المنع ألا يحمل على نفسه إشفاقًا على أنفسهم ألا يؤمنوا ما يوجب تلفه. والثاني: على التخفيف؛ كقوله: (وَلَا تَحزَن عَليهِم. . .) الآية، وقوله: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي)، هو على التخفيف ليس على النهي. وفي قوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ. . .) الآية وجه آخر: وهو نهي يخرج مخرج البشارة له بما، كان يخاف من ضيق صدره واشتغال قلبه عند سوء معاملتهم إياه، فيقع له فيه تأخير في إبلاغ ما أمر بتبليغه فأمنه اللَّه عن ذلك وعصمه. والوجه الثاني: في النهي عن ذلك هو ما يقع له فيه الرجاء، وذلك أن الأخيار إذا ابتلوا بالأشرار قد يؤذن لهم بمفارقتهم وترك الأمر فيهم، فلعله كان يقع له في مثله الرجاء أنه قد يؤذن له، في حال من الأحوال بتأخير التبليغ، فأيئسه عن ذلك وكلفه بتبليغ ما أمر له في جميع أحواله و (بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) يحتمل ما ذكر أهل التأويل من سب آلهتهم وعيبها وما تدعو إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ (وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ): يضيق صدره بما يقولون له استهزاء، وكذلك الحق أن كل من استهزئ به أن يضيق صدره لما لا يقدر على إتيان ما طلبوا منه من الكنز وإنزال الملك، وقد وعدوا أن يؤمنوا لو فعل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ): لأن للكنز والملك محلا في قلوب أُولَئِكَ وقدرا فقالوا: لولا أنزل عليه كنز فيعظموه فيصدق على ما يدعي، وكذلك الملك له محل عظيم عندهم إذا كان معه عظموه وصدقوه. وقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ) أثر قولهم: لولا أنزل عليه كنز، أو جاء معه ملك أي: إنما أنت نذير ليس عليك إتيان ما سألوا، إنما ذلك تحكم منهم على اللَّه تعالى وأماني، فعليك إبلاغ ما أنزل إليك؛ كقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ). (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي: حفيظ لكل ما يقولون فيك ويتفوهون به، أو هو الوكيل والحفيظ لا أنت؛ كقوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)، وقوله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)، ونحوه، واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) أي: قالوا: إنه افتراه، أي: مُحَمَّد افترى هذا القرآن من عند نفسه. (قُلْ): يا مُحَمَّد إن كان افتريته على ما تقولون، (فَأْتُوا): أنتم، (بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ): لأنكم أقدر على الافتراء من مُحَمَّد؛ لأنكم قد عودتم أنفسكم الكذب والافتراء، ومُحَمَّد لم تأخذوه بكذب قط ولا ظهر منه افتراء، فمن عود نفسه الافتراء والكذب أقدر عليه ممن لم يعرف به قط، فأتوا بعشر سور مثله وادعوا أيضًا شهداءكم من الجن والإنس ممن استطعتم من دون اللَّه يعينوكم على إتيان مثله، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) وإنه افتراه من عنده. أو يقول: (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) أي أن محمدا قد جاء بسور فيها أنباء ما أسررتم وأخفيتم مما لا سبيل إلى معرفة ذلك والاطلاع عليه إلا من جهة الوحي من السماء وإطلاع اللَّه إياه، فأتوا أنتم بسورة مفتراة فيها أنباء ما أضمر هو وأسر، وتطلعون أنتم على سرائره كما اطلع هو على سرائركم، وادعوا من استطعتم ممن تعبدون من دون اللَّه من الآلهة، إن كنتم صادقين أنه افتراه. أو يقول: إن لسانكم مثل لسان مُحَمَّد، فإن قدر هو على الافتراء افترى مثله من عنده، فتقدرون أنتم على افتراء مثله: فأتوا به، وادعوا أيضًا من لسانه مثل لسانكم حتى يعينوكم على ذلك، إن كنتم صادقين أنه افتراه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)، وقال في موضع آخر: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: بعشر نزل قبل ولم تقدروا على مثله، وقوله: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) دعوا أولا أن يأتوا بعشر سور، فلما عجزوا عن ذلك عند ذلك قيل لهم: (فَأْتُوا

(14)

بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). وقوله: (بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) فَإِنْ قِيلَ: كيف ذكر: فأتوا بسور مفتريات؟ قيل: معناه إن كان هذا مما يحتمل الافتراء على ما تزعمون، فأتوا بمثله أنتم لأنكم أقدر على الافتراء من مُحَمَّد، فإن لم تقدروا لم يقدر أحد على ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) أي: فإن لم تقدروا أنتم ولم يجيبوكم أُولَئِكَ على الإعانة على إتيان مثله، فاعلموا أنه إنما أنزل بعلم اللَّه وبأمره أتاه ومن عنده نزل، ليس بمفترى على ما تزعمون، وأن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لا ألوهية لمن تعبدون دونه من الأصنام والأوثان. والثاني: فإن لم يستجيبوا لكم يا أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولم يقدروا على مثله، فاعلموا أنتم أنه إنما أنزل بعلم اللَّه ومن عنده نزل على التنبيه والتذكير لهم، وإن كانوا علموا أنه من عنده نزل؛ كقوله: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ)، على التنبيه والتذكير ليس على أنه لا يعلم فعلى ذلك الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ): خاضعون له مخلصون، وعلى التأويل الأول على حقيقة الإسلام، والإيمان، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. . .) الآية اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في أهل الإيمان الذين عملوا الصالحات مراءاة للخلق يقول: (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) من الذكر فيها والشرف، وما طلبوا بأعمالهم في الدنيا من المباهاة وغيره، آتاهم اللَّه في الدنيا جزاء لتلك الأعمال التي عملوها وبطل ما صنعوا وباطل ما

(16)

كانوا يعملون؛ لأنهم عملوا لغير اللَّه، فلا يجزون في الآخرة بأعمالهم تلك، وإلى هذا يذهب ابن عَبَّاسٍ. وروي في بعض الأخبار أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل: ما بال العبد المعروف بالخير يشدد عليه عند الموت، والرجل المعروف بالشر يهون عليه الموت؟! فقال: " المؤمن تكون له ذنوب فيجازى بها عند موته، فيفضي إلى اللَّه في الآخرة ولا ذنب عليه، والكافر يكون له الحسنات فيجازى بها عند الموت يخفف عنه بها كرب الموت، ثم يفضي إلى الآخرة وليست له حسنة " أو كلام نحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في أهل الكفر يعملون أعمالا هي في الظاهر صالحة؛ نحو: التصدق على الفقراء وعمارات الطرق واتخاذ القناطر والرباطات هي في الظاهر صالحة، يقول: نوف لهم جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا لا ننقص منها شيثًا فهو ما وسع عليهم الدنيا. وجائِز أن يكون قوله: (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ) أي: نرد إليهم أعمالهم التي عملوها فلا نقبلها ويكون إيفاء أعمالهم الرد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) أي: لا ينقصون ما قدر لهم من الرزق إلى انقضاء مدتهم وآجالهم بشركهم باللَّه. وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) على هذا التأويل أظاهر ليس لأهل الكفر في الآخرة إلا النار، وعلى التأويل الذي قال: إنها في أهل الإيمان، أي: لا يستوجبون بتلك الأعمال التي عملوها مراءاة إلا النار؛ لأنه إذا راءى فيها لم يخلصها لله وضيع أمره، وكل من ضيع أمر اللَّه وفريضته يستوجب التعذيب عليه وله العفو، وليس في الآية أنه لا محالة يعذبهم بعملهم المراءاة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) فيه دلالة نقض قول الجهمية والمعتزلة بنفيهم العلم عن اللَّه، وفي الآية إئبات العلم له بقوله: (أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وقوله: (أَفَمَن) حرف يقتضي الجواب لكن الجواب له لم يخرج في الظاهر؛ لأن

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) جوابه أن يقول: أفمن كان على بينة من ربه كمن ليس على بينة من ربه كما قال في آية أخرى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ)؛ وكقوله: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى)، لا يعلم، فعلى ذلك جواب قوله: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) كمن لا يكون على بينة من ربه، لكن الجواب عندنا يكون على وجوه: مرة يكون بالتصريح وهو ما ذكرنا، ومرة بالإشارة، ومرة بالكناية على غير تصريح. ثم منهم من يجعل جوابه ما تقدم وهو قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. . .) الآية، يقول: أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، أي: لا يكون كذلك، ومنهم من يجعل جوابه فيما تأخر وهو قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ) كأنه يقول: أفمن كان على بينة من ربه كمن يكفر به الأحزاب، أي: لا يكون كذلك وقالوا: يجوز تقديم الجواب وتأخيره، كقوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)، لم يخرج لهذا أيضًا جواب التصريح. ثم اختلفوا في جوابه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: جوابه فيما تأخر في قوله (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، وصف الذين لا يعلمون، فكأنه يقول: أفمن يعلم كمن لا يعلم. ومنهم من يجعل جوابه في قوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) يقول: من جعل لله أندادًا وضل عن سبيله وصار من أصحاب النار، كمن هو قانت آناء الليل ساجذا وقائمًا أي: ليسا بسواء. وقال مقاتل: ليس الذي على بيان من ربه كالذي موعده النار، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون على طرح الألف: (فمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى. . .) الآية يقول: فمن كان على بيان من ربه أُولَئِكَ يؤمنون به. ثم قوله: (بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: دين من ربه، أي: من كان على دين من اللَّه ويتلوه شاهد منه أي: يتلو لما هو عليه من الدِّين شاهد منه، كمن كان على دين الشيطان ولا شاهد له عليه؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ

رَبِّهِ)، أي: على برهان من ربه وحجج ويتلوه شاهد منه على ذلك، كمن لا على برهان من ربه ولا حجج ولا شاهد له على ذلك؟! ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) جبريل أو ملك غيره يتلو عليه القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يتلوه شاهد منه: لسانه. وقَالَ بَعْضُهُمْ (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) وهو القرآن ونحوه. ثم قوله: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ): يحتمل أصحاب عيسى الذين آمنوا به. (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى) أصحاب التوراة الذين آمنوا. (أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي: هَؤُلَاءِ الذين آمنوا بهَؤُلَاءِ هم الذين يؤمنون بمُحَمَّد - عليه أفضل الصلوات - وبما جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً): قيل فيه بوجوه: قيل: ومن قبل القرآن كتاب موسى جاء جبريل إلى موسى، كما جاء بهذا القرآن إماما يقتدى به ورحمة من العذاب لهم. ويحتمل قوله: (وَمِنْ قَبْلِهِ) يعني قبل القرآن كتاب موسى التوراة إماما فيها أنباء هذا القرآن، وأنباء مُحَمَّد أنه رسول؛ كقوله: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) وقوله: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)، وأمثاله. ويحتمل قوله: (إِمَامًا وَرَحْمَةً) أما روي، عن ابن عَبَّاسٍ قال: إمامًا ورحمة: كان كتاب موسى وهو التوراة إماما يقتدى به، وكان رحمة، أُولَئِكَ يؤمنون به قال: أصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذين آمنوا به من أهل الكتاب وغيرهم. ويحتمل قوله: (أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي: مؤمني أهل التوراة يؤمنون بالقرآن ويقتدون به؛ كما آمنوا بالتوراة واقتدوا بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي: بالقرآن (مِنَ الْأَحْزَابِ) الأحزاب: الفرق والأصناف. يحتمل من يكفر به أي: بالقرآن من الفرق. ويحتمل يكفر به أي: بمُحَمَّد. ويحتمل الدِّين الذي هو عليه ويدعوهم إليه.

(18)

(فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ): إن مات على ذلك، وأمَّا إذا أسلم ومات على الإسلام، فلا تكون النار موعده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ): يحتمل في قوله الوجوه الثلاثة التي ذكرنا من الدِّين والقرآن والنبي، يحتمل هو نفسه، ويحتمل الخطاب غيره لما ذكرنا في قوله: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، وأمثاله؛ فكذلك هذا، وقد ذكرنا أن العصمة لا تزيل النهي والأمر بل تزيدهما؛ لأن بالعصمة يظهر موافقة الأمر ومخالفة النهي والمحظور. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ): يحتمل القرآن، ويحتمل الدِّين الذي عليه ويدعوهم إليه، ويحتمل هو نفسه الحق من ربه، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ). * * * قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) هو ما ذكرنا أن لا أحد أظلم على نفسه ممن أخذ نفسه من معبوده وشغلها في عبادة من لا يملك له نفعًا إن عبده ولا ضر إن ترك عبادته، أو يقول: لا أحد أظلم على نفسه ممن ألقى نفسه الطاهرة في عذاب اللَّه ونقمته أبدًا بافترائه على اللَّه، وباللَّه العصمة والقوة. وفي التأويل لا أحد أظلم على نفسه ممن افترى على اللَّه كذبًا، وفي المعنى لا أحد أفحش ظلمًا ممن افترى على اللَّه كذبًا بعد معرفته أن جميع ما له من اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ) أي: أُولَئِكَ الذين تعرض أعمالهم على أنفسهم عند ربهم، فإن وافقت أعمالهم ما في شهادة خلقتهم أدخلوا الجنة، وإن خالفت أعمالهم شهادة خلقتهم أدخلوا النار، تعرض أعمالهم على أنفسهم عند ربهم؛

لأن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عالم بما كان منهم من الأعمال والأقوال على ربهم، أي: عند ربهم؛ كقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) أي: عند ربهم، وتأويله ما ذكرنا يعرضون على ربهم لأنفسهم؛ لأنهم إنما يؤمرون وينهون ويمتحنون لأنفسهم ولمنفعة أنفسهم فيكون عرضهم لهم، أو أن يكون قوله: (أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ) على ما وعدهم ربهم في الدنيا، أو يقول: أُولَئِكَ يعرضون لأنفسهم على ربهم من غير غيبة كانت منه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ): اختلف فيه: قيل: الأشهاد: الرسل والأنبياء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأشهاد: الملائكة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأشهاد: المؤمنون. فمن قال: هم الأنبياء والمؤمنون؛ فهو كقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)؛ وكقوله: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)، ومن قال: هم الملائكة؛ كقوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وقوله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12). ونحوه. ومعناه - واللَّه أعلم - أنه: تعرض أعمالهم وأقوالهم على أنفسهم فإن أقروا بها بعثوا إلى النار، وإن أنكروا يشهد عليهم ما ذكر من الشهداء فإن أنكروا يقال له: (اقْرَأْ كِتَابَكَ. . .) الآية، فإن أنكروا ذلك فعند ذلك تشهد عليهم جوارحهم؛ كقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ. . .) الآية. ويحتمل أن يكون الملائكة نادوا في ملأ الخلق قبل أن يدخلوا النار: هَؤُلَاءِ الذين كذبوا على ربهم. ويحتمل ما ذكر من شهادة الذين كانو موكلين بكتابة أعمالهم وأقوالهم يخبرون عما

(19)

كتبوا في الكتب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ): اللعنة: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي الطرد عن جميع المنافع والإبعاد عن رحمة اللَّه في الدنيا عن دينه وفي الآخرة عن ثوابه. وقال بعضهم: اللعنة هي العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) يصدون يحتمل وجهين: يحتمل أن أعرضوا هم بأنفسهم عن دين اللَّه. ويحتمل صرفوا الناس عن دين اللَّه، لكنه يتبين ذلك بالمصدر أنه أراد ذا أو ذا، يقال في الإعراض بنفسه: صد يصد صدودا؛ كقوله: (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) ويقال في صرف غيره: صد يصد صدا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: هم بغاة على دين اللَّه بالجور. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يبغون من النساء الميل عن دين اللَّه إلى دينهم، فذلك هو بغي العوج، كل سبيل غير سبيل اللَّه فهو عوج وبغي، كأنه يقول: يبغون سبيلا غير سبيل اللَّه. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ): في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أي: أُولَئِكَ لم يكونوا معجزي اللَّه في الدنيا من أن يعذبهم وينتقم منهم إن شاء. والثاني: أُولَئِكَ لم يكونوا سابقي اللَّه في الآخرة في دفع العذاب عن أنفسهم. وجائز أن يكون الآية في الأئمة منهم والجبابرة يخبر أنهم غير معجزي اللَّه فيما يريد منهم من التعذيب لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) هم حسبوا أن أُولَئِكَ الذين عبدوهم من دون اللَّه يكونون لهم أولياء؛ لأنهم يقولون: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ) و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) كانوا يطمعون في شفاعة الأصنام التي كانوا يعبدونها، أو الذين اتبعوهم يكونون لهم أولياء فأخبر أن ليس لهم أولياء على ما ظنوا وحسبوا، بل يكونون لهم أعداء؛ كقوله: (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً. . .) الآية، وأمثاله كثير؛ وكقوله: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)؛ وكقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)، أي: لم يكن لهم ما طمعوا، وقوله: (سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)، صاروا لهم أعداء على ما ذكر. ويحتمل (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) أي: لا ينفعهم ولاية من اتخذوا أولياء؛

كقوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ): هذا يدل على أن قوله: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وفي الأئمة الذين صرفوا الناس عن دين اللَّه؛ لأنه أخبر أنه يضاعف لهم العذاب. وهو يحتمل وجهين: أحدهما: لما ضلوا هم بأنفسهم، والآخر: لما صرفوا الناس عن دين اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ): قالت المعتزلة فيه بوجهين: أحدهما: أنهم كانوا يسمعون ويبصرون، لكنه قال لا يستطيعون السمع ولا يبصرون استثقالا منهم لذلك، وهو كما يقول الرجل: ما أستطيع أن أنظر إلى فلان ولا أسمع كلامه، وهو ناظر إليه سامع كلامه، لكنه يقول ذلك لاستثقاله النظر إليه وسماع كلامه؛ فعلى ذلك الأول كانوا يسمعون ويبصرون، لكنهم كانوا يستثقلون السمع والنظر إليهم فنفى عنهم ذلك. والثاني: كانوا لا يستطيعون السمع، أي: كانوا كأنهم لا يستطيعون السمع ولا النظر، وهو ما أخبر أنهم صم بكم عمي، كانوا يتصامون ويتعامون الحق. وأمَّا عندنا: الجواب للتأويل الأول أنهم كانوا لا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون السماع سمع الرحمة والنظر إليه بعين الرحمة والقبول، فهم من ذلك الوجه كانوا لا يستطيعون. والثاني: يحتمل سمع القلب وبصر القلب، وهم كانوا لا يستطيعون السمع سمع القلب وبصر القلب؛ كقوله: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وهذه الاستطاعة عندنا هي استطاعة الفعل لا استطاعة الأحوال؛ إذ جوارحهم كانت سليمة صحيحة؛ فدل أنها الاستطاعة التي بها يكون الفعل لما ذكرنا. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يضاعف لهم العذاب بما كانوا

(21)

يستطيعون السمع)، ثم سئل الحسن عن ذلك؟ فقال: هو قول اللَّه: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا)، إذا سمعوا الوحي تقنعوا في ثيابهم، فلم يستطيعوا احتمال ذلك. وفي حرف حفصة: (وَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) بالواو. وأما في حرف ابن مسعود ظاهر تأويله أي: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع، فلم يسمعوا عنادا وإبطاء، وأصله ما كانوا يستطيعون السمع المكتسب والبصر المكتسب عندنا، ما ذكر من السمع والبصر هو السمع المكتسب والبصر المكتسب والحياة المكتسبة؛ لأن سمع الآخرة وحياتها مكتسبان، وحياة الدنيا والسمع والبصر مخلوقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) أما في الدنيا عبادتهم غير معبودهم الذي كان منه جميع النعم والمنافع، وما لحقهم بذلك من الذل والصغار، وأما في الآخرة فالعذاب والهوان الدائم بدلا عن النعم الدائمة. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي: بطل عنهم، (مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ): (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ) و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا. . .) الآية. وأمثاله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) قال أَبُو عَوْسَجَةَ: لا جرم واجب من الكلام، أي: الحق أنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا جرم أي: نعم إنهم في الآخرة هم الأخسرون. وقال الفراء: قوله: (لَا جَرَمَ) أي: لا بد، لكن الناس أكثروا استعماله فصار في معارفهم حقا، ولا بد في الحقيقة حقا؛ لأنه إذا كان لا بد فهو حق.

(23)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) تأويله - واللَّه أعلم - أن الذين آمنوا باللَّه وبجميع ما أنزل على رسوله، وعملوا الصالحات ولزموا ذلك حتى صاروا إلى اللَّه أُولَئِكَ أصحاب الجنة؛ وهو كقوله: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) أي: من تاب من الشرك وآمن باللَّه وعمل صالحًا ثم اهتدى أي: ثم لزم ذلك حتى صار إلى اللَّه هكذا؛ فعلى ذلك قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ) لزموا ذلك كله حتى صاروا إلى اللَّه. ويحتمل قوله: (ثُمَّ اهْتَدَى) سنن الذين أُولَئِكَ كذا. وقوله: (وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الإخبات التخشع والتواضع، أي: تخشعوا وتواضعوا فرقًا من ربهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أخبتوا أي: اطمأنوا على ذلك أُولَئِكَ كذا. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أخبتوا قال: خافوا من ربهم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أخبتوا أي: تواضعوا لربهم، وقال: الإخبات التواضع والوقار. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإخبات التوبة والمخبت التائب. وقال غيرهم: الإخبات الإنابة، أخبتوا أي: أنابوا إلى اللَّه؛ وبعضه قريب من بعض. ومن قال: الإخبات هو التواضع والخشوع فمعناه - واللَّه أعلم - أي: تواضعوا وخشعوا بالإجابة إلى ما دعاهم إليه ربهم وندبهم إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) أي: الصنفين اللذين سبق وصفهما، وهو قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. . .) الآية، فهو وصف الكافر، والفريق الآخر قوله: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ)، إلى آخر ما ذكر وفيه وصف المؤمن. أو يكون وصف الكافر ما ذكر: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ. . .) إلى قوله: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) هو وصف أحد الفريقين وهم الكفار، والفريق الآخر ما ذكر: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ) هذا - واللَّه أعلم - الفريقين اللذين ضرب مثلهما بالأعمى

والأصم والبصير والسميع. ثم وجه ضرب مثل الكافر بالأعمى والأصم، والمؤمن بالبصير والسميع، فهو - والله أعلم - أن الكافر أعمى القلب وأصم السمع، لم يبصر ما غاب عنه من الموعود، ولا يسمع ما غاب عنه من الموعود، وإنما أبصر ظواهر الأمر؛ وكذلك إنما سمع ظواهر من الأمور وبواديها، لم ينظر إلى الغائب من الموعود ولا سمع ذلك، وهو لم يخلق لمعرفة ذلك الظاهر خاصة، وإنما خلق لما وعد وأوعد في الغائب. والمؤمن أبصر ذلك الغائب وسمع ما غاب من الموعود، فيقول كما لم يستو عندكم في الظاهر البصير والأعمى والسميع والأصم لم يستو من كان أعمى القلب بمن كان بصير القلب بذلك، ولم يستو أيضًا من به صمم القلب بمن كان سميعًا بذلك. (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ): أنهما لا يستويان، أو يقول: (أفَلَا تَذَكَّرُونَ) أي: أفلا تتعظون بما نزل من القرآن وتنتهون عما تنهون، واللَّه أعلم. وفي قوله: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) وجوه من الأسئلة: أحدها: أن يقال: كيف احتج عليهم وهو ما ذكر أنهم عميان وصم أو كالعميان والصم، ولا يكلف الأعمى الإبصار والنظر ولا الأصم السماع؟! والثاني: يقولون: إنا بصراء سمعاء، ليس بنا صمم ولا عمى، بل أنتم العميان والصم. والثالث: كيف ذكر المثل لهم، وهم لا يتفكرون ولا ينظرون في المثل ولا يلتفتون إليه؟!

أما جواب الأول: فإنه احتج عليهم؛ لأنهم تركوا اكتساب بصر الآخرة وسمع سماع الآخرة، فنفى عنهم السمع والبصر والحياة؛ لأنه ببصر المخلوق يكتسب بصرا في الدِّين وسمعا في أمر الدِّين وحياة الدِّين، فيصير بذلك مكتسب الحياة الدائمة والبصر الدائم والسمع الدائم، فيكونون في الآخرة بصراء سمعاء أحياء؛ كقوله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ). والثاني: نفى عنهم هذه الحواس؛ لأنهم لم ينتفعوا بها؛ لأن هذه الحواس إنما أنشئت لهم وخلقت لينتفعوا بها، وهو المقصود بإنشائها، فإذا تركوا الانتفاع بها فكأنها ليست لهم. وأما جواب ما قالوا: إنا بصراء وسمعاء، وأنتم العميان والصم، فيقال لهم: إن أهل الإسلام إذا سمعوا ذلك قد اشتغلوا بالتفكر فما فرغ سماعهم من الآيات والنظر فيها، وأنتم لا بل تعاموا عنها وتصاموا، فدل تفكرهم ونظرهم فيها على أنهم بصراء وسمعاء وأحياء، وأنتم يا أهل الكفر العميان والصم والأموات. والثاني: أن هذه الآيات إنما نزلت في محاجة أهل مكة، وهم قد علموا أن آباءهم لم يكونوا حكماء ولا علماء، فلم يكونوا ما ذكر بصراء ولا أحياء ولا سمعاء، فصاروا صفًا عميانًا أمواتا؛ ولأن أحد الفريقين لا محالة ما ذكر نحن، أوهم ثم قد استووا في هذه الدنيا وفي العقل والحكمة التفريق بينهما؛ فدل أنهم بما ذكر أولى. وأما جواب ذكر المثل لهم على علم منهم أنهم لا يقبلون المثل ولا ينظرون بأنه إنما ذكر لأهل الإسلام؛ ولأن ذكر المثل به ربما يبعثهم على النظر فيه والتفكر. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)

(25)

وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ... (25) أخبر أنه أرسله إلى قومه، ولم يفهم منه الإرسال من مكان إلى مكان؛ وكذلك قوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ولم يكن مجيئه من مكان إلى مكان، فهذا يدل أنه لا يفهم من ذكر المجيء الانتقال من مكان إلى مكان؛ وكذلك الإرسال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي: نذير لمن عصى بالنار وبعقابه بين الإنذار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) أي: لا تجعلوا عبادتكم إلا لمعبود هو معبود بشهادة خلقتكم؛ لأن خلقتهم تشهد على أنه هو المستحق للعبادة، لا من تعبدون من الأصنام والأوثان. ويحتمل قوله: (أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) أي: وحدوا اللَّه ولا تصرفوا الألوهية إلى غيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ): أضاف الألم إلى اليوم واليوم ليس بمؤلم ولكنه - واللَّه أعلم - أضاف إليه؛ لما فيه يؤلم، وهو كقوله: (اللَّيْلَ سَكَنًا)، والليل لا يسكن ولا يوصف به، لكنه يسكن، فيه، وكذلك قال: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)، والنهار لا يبصر، لكنه يبصر فيه؛ فعلى ذلك قوله: (يَوْمٍ أَلِيمٍ) لما فيه يكون العذاب الأليم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ) أي: الخوف في غيره لا يكون في الحقيقة خوفًا؛ وكذلك الرجاء في غيره لا يكون في الحقيقة رجاء، وفي نفسه يكون في الحقيقة خوفًا ورجاء؛ لما يلحقه ضرر في نفسه أن جعل به ذلك لغيره، ويلحقه نفع فيكون الخوف في نفسه حقيقة خوف والرجاء حقيقة رجاء، وأما في غيره لما لا يلحقه ضرر وإن حل ذلك لغيره، ولا ينال من النفع في الرجاء إن نال ذلك الغير، لكنه يخرج على وجهين:

(27)

أحدهما: على العلم، أي: إني أعلم أنه ينزل بكم العذاب؛ نحو قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا)، أي: علمتم. وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)، أي: فإن علمتم أن يضيعا حدود اللَّه. والثاني: يخاف عليهم إشفاقا منه؛ لأن الخلق جبلوا على أن يتألم بما يحل بغير حتى لا يكون في وسع بعض أن يروا ذلك في غيره. على هذين الوجهين يخرج الخوف على غيره، وفي الخوف رجاء وفي الرجاء خوف؛ لأن الخوف إذا لم يكن فيه رجاء فهو إياس، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، والرجاء إذا لم يكن فيه خوف فهو أمن قال: (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا. . .) كذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قيل: أشراف قومه وأئمتهم. (مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا): وكذلك قال عامة القوم لرسلهم الذين بعثوا إليهم: (مَآ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) أي: كان هذا احتجاجهم في رد الرسالات يحتجون على الرسل فيقولون - واللَّه أعلم -: إن الرسل في الشاهد إنما يجيئون من عند المرسل، وأنتم نشأتم بين أظهرنا لم تأتونا من عند أحد في الظاهر، والرسول هو الذي يأتي من عند غير، ويكون للرسول خصوصية عند المرسل، ولا نرى لك خصوصية لا في الخلقة ولا في القدرة والمال وغيره، فكيف بعثتم إلينا رسلا دون أن نبعث نحن إليكم رسلا؛ إذ أنتم ونحن في الخلقة سواء وفي الأمور الظاهرة سواء؟! أو نحوه من الكلام، احتجوا على رسلهم في رد الرسالة؛ وكذلك كان عادة الكفرة يقولون للرسل إذا لزمتهم الحجة وأقيم عليهم نسبوها إلى السحر، ونسبوا الرسل أنهم بشر مثلهم. نجواب هذا كله ما ذكر: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، وما قال لهم نوح: (يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أي: آتاني رحمة من عنده، وجعل لي بينة وبرهانا على ما آتاني رحمة من عنده بمثل هذا يحتج عليهم. ويقال أيضًا: إنكم لا تنكرون فضل اللَّه وتخصيص بعض على بعض بما جعلكم أئمة ورؤساء بأمور الدنيا على غيرهم، فكيف تنكرون فضل اللَّه وتخصيص بعض على بعض بفضل الدِّين والرسالة؟!.

(28)

وقوله: (مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ): احتجوا أيضًا في رد الرسالة يقولون: إن الأراذل هم أتباع لكل من دعاهم وأهل طاعة لكل متبوع، فليس في اتباع الأراذل إياك والضعفاء دلالة ثبوت رسالتك؛ إذ هم يتبعون بلا دليل ولا حجة وهم فروع وأتباع لغير، ولم يتبعك أحد من الأصول. لكن يقال: إن هَؤُلَاءِ الأراذل لما اتبعوا الرسول ولم يتبعوا الأئمة والرؤساء الذين معهم الأموال والدنيا، ولم يكن في أيدي الرسل ذلك، ثم تركوا اتباع أُولَئِكَ وفي أيديهم ما يدعوهم إليه واتبعوا الرسل دل أنهم إنما اتبعوا الرسل بالحجج والبراهين التي أقاموها عليهم أو نحوه. والأراذل: قيل: هم السفهاء والضعفاء. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أراذلنا: شرارنا. و (بَادِيَ الرَّأْيِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: ظاهر الرأي؛، من قولك: بدا لي ما كان خفيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بادي الرأي: خفيف الرأي لا يعرفون حقائق الأمور، إنما يعرفون ظواهرها، كأنهم يقولون: إنما اتبعك من كان خفيف الرأي وباديه، لم يتبعك من يعرف حقائق الأمور والأصول. وقد قرئ: (بَادِيَ الرَّأْيِ) بالهمز، وقد قرئ بغير همز. ومن قرأ بالهمز فهو من الابتداء، أي: في أول الرأي وابتدائه لا ينظر في عواقب الأمور. ومن قرأ بغير همز فهو من الظهور، أي: ظاهر الرأي على غير تفكر ونظر فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ. . .) الآية: يحتمل هذا أي: فضلا في الخلقة، أو في ملك أو مال ولا في شيء، لكن جواب هذا ما سبق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ): هكذا كانت عادة الكفرة، يردون دلالات الرسل والحجج بالظن لم يردوا لحقيقة ظهرت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) أي: على بيان من

(29)

ربي، أو على حجة من ربي وبرهان فيما آتاني من رحمته. والرحمة تحتمل النبوة لأنهم كانوا ينكرون رسالته لما أنه بشر مثلهم، فكيف خص هو بها دونهم وهو مثلهم؟! فيقول: (وَآتَانِي رَحْمَةً) أي: النبوة، وآتاني -أيضًا- على ذلك بينة وحجة. وتحتمل الرحمة الدِّين الذي كان يدعوهم إليه واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ): قرئ بالتخفيف والتشديد، أي: لبست، أو التبس عليكم حيث أعرضتم عنه. ومن قرأ، بالتشديد: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) يرجع إلى الأقباع والسفلة، أي: عميت عليهم القادة والرؤساء منهم ولبست. (فَعَمِيَتْ) بالتخفيف أي: التبس، وعمي على القادة والرؤساء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا) أي: أنوجبها عليكم، وهي التي ذكر أنه آتاها إياه أو البينة التي ذكر أيضًا أو الدِّين الذي كان يدعوهم إليه، أي: لا نوجبها عليكم ولا نلزمها، وأنتم لها كارهون بلا حجة ولا برهان. (وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) أي: لا نلزمها لكم بلا حجة شئتم أو أبيتم ولكن بحجة. وفيه أن الدِّين لا يقبل بالإكراه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) على تبليغ الرسالة إليكم، أو على إقامة الحجة غلى ما أدعي من الرسالة، أو على الدِّين الذي يدعوهم إليه، أي: لا أسألكم على ذلك أجرا، فلماذا تعرضون عما أدعوكم إليه وأقيمه عليكم ليكون لكم الاحتجاج أو الاعتذار؟! وكذلك يخرج قوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي: لا تسألهم أجرا على ما تبلغه إليهم ويدعوهم إليه، فيمنعهم ثقل ذلك الغرم إجابتكم إياه، فعلى ذلك الأول ذكر هذا؛ لأن ما يلحق الإنسان من الضرر إنما يمنعه عن الإذعان بالحق للخلق والإقبال إليه والقيام بوفائه، أو يمنع ذلك لما لا يتبين له الحق لئلا يكون لهم الاحتجاج والاعتلال عند اللَّه وإن لم يكن لهم حجة؛ وكقوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ليس على أنه إذا سألهم على ذلك أجرا يكون لهم عذر في رد ذلك وترك الإجابة له؛ إذ لله أن يكلفهم الإجابة والطاعة له بالمال وبغير المال.

(30)

والثاني: بقوله: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه وأبلغكم إياه مالاً، مع حاجتي وقلة مالي، فيقع عندكم أني أدعوكم إليه رغبة فيما في أيديكم من الأموال أو لمنفعة نفسي بل إنما أدعوكم إلى ما أدعوكم إليه لمنفعة أنفسكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) أي: ما أجري إلا على اللَّه في ذلك ليس عليكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا): فيه دلالة أنهم كأنهم كانوا سألوا رسولهم أن يتخذ لهم مجلسا على حدة، ويفرد لهم ذلك دون الأراذل والضعفاء الذين اتبعوه ويطرد الضعفاء؛ وهو كقوله: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. . .) الآية. وقال أهل التأويل: (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: ما أنا بالذي لا يقبل الإيمان من الأراذل والضعفاء عندكم؛ لقولهم حيث قالوا: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ)، لأنهم يقولون: اتبعوك الأراذل ظاهرًا، وأما في الباطن فليسوا على ذلك؛ ولذلك قال: (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ)، يعني: ما في قلوب السفلة فيقول: ما أنا بطارد الذين آمنوا ظاهرًا اللَّه أعلم بما في قلوبهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) يحتمل وجهين؛ أي: ملاقو ربهم فيشكون مني إليه في رد إيمانهم، ويخاصمونني في ذلك ويطالبونني في طردي إياهم. والثاني: أنهم ملاقو ربهم بإيمانهم ظاهرًا كان إيمانهم أو باطنًا أي في أي حال هم يلاقون، ربهم فيجزيهم بما هم عليه؛ كقوله: (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) يحتمل تجهلون ما أدعوكم إليه أو تجهلون في قولكم: إنهم إنما آمنوا واتبعوا في ظاهر الحال، وأما في السر فلا، أو تجهلون ما يلحقني في طردهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) أي: من يمنعني من عذاب اللَّه، (إِنْ طَرَدْتُهُمْ): على ما تدعونني إليه، أو من يمنعني من عذاب اللَّه إن لم أقبل منهم الإيمان.

(31)

(أَفَلَا تَذَكَّرُونَ): أنه لا يسع لي ما تدعونني إليه من طرد هَؤُلَاءِ أو رد إيمانهم، أو أفلا تذكرون فتؤمنون. وما روي في حرف أبي بن كعب: (أنلزمكموها شطر أنفسنا) فمعناه أنلزمكموها نحن أنفسنا وأنتم قوم معاندون. وفي حرف ابن عَبَّاسٍ: (أنلزمكموها من شطر أنفسنا) أي: من تلقاء أنفسنا، أي: لا نقدر أن نلزمكم ذلك من تلقاء أنفسنا وأنتم كارهون لذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) يخرج على وجوه: أحدها: يقول: ليس عندي خزائن اللَّه والسعة، فأبذل لكم لتؤمنوا رغبة في المال والسعة. والثاني: يقول: ليس عندي سعة، فيقع عندكم أني أدعوكم إلى ما أدعوكم إليه افتعالا رغبة في المال على ما يفعل المفتعلون للرغبة في المال، ولكن لتعلموا أني مكلف في ذلك. والثالث: يحتمل ما ذكرنا من أسئلة كانت منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ): هذا القول منه لهم يحتمل الوجهين: أحدهما: أنه قال ذلك لهم على أثر أمور وأسئلة كانت منهم من نحو قولهم (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ)، وقولهم لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ)، وقولهم: (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ)، وأمثال ما كان منهم، فيقول لهم: ليس ذلك عندي وبيدي، إنما ذلك عند اللَّه وبيده. (وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) يحتمل أن يكونوا سألوه أن يخبرهم عن أمور تستقبلهم قبل أن تستقبلهم، إن كان شرا فيعدوا له في دفعه، وإن كان منافع فيستقبلوا لها ويتهيئوا، فيقول لهم: ذا غيب وأنا لا أعلم الغيب إنما العلم في ذلك إلى اللَّه، ولا أقول: إني ملك أعلم أخبار السماء والأمور التي فيها، إنما أنا بشر مثلكم.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ) أي: مفاتيح اللَّه في الرزق، فهذا كأنهم سألوه السعة فيتبعونه، فيقول: ليس عندي ذلك. ويحتمل أن يكون قال لهم الرسول هذا لدفع الشبهة عنهم، وذلك أن من الكفار من اتخذ الرسول إلها فعبدوه بعدما عاينوا أنه من البشر، ومنهم من قال: إنه ابن اللَّه. ومنهم من قال: إنه ملك، وكانوا يعبدون الملائكة وكانوا يخبرونهم عن أشياء غابت عنهم، فظنوا أنه إنما علم ذلك لأنه إله، فيقول لهم ذلك ليدفع عنهم تلك الشبهة ويتبرأ من ذلك؛ ولذلك قال عيسى: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا) هو - عليه السلام - كان يعلم في نفسه أنه عبد اللَّه، ولكن يقول لهم لئلا ينسبوه إلى الألوهية والربوبية على ما نسبوا إليه، فأقر بالعبودية له، واللَّه أعلم بذلك. وقال بعض أهل التأويل: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ)، أي: مفاتيح اللَّه بأنه يهدي السفلة دونكم، (وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي: لا أقول: إن عندي علم ذلك أن اللَّه يهديهم وهم مؤمنون في السر؛ وذلك كقوله: (وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). وقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ): من الصدق. (وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) أي: إنما أنا بشر لقولهم: (مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا. . .) إلى آخر الآية. ثم قال: (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) قيل: الذين حقرتموهم يعني السفلة والأتباع. وقال ابن عَبَّاسٍ: (الذين لم تأخذهم أعينكم لن يؤتيهم اللَّه خيرا) يعني إيمانًا اللَّه أعلم بما في أنفسهم من الصدق، إني إذا لمن الظالمين لهم إن لم أقبل منهم الإيمان، أو طردتهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)

(32)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ... (32) قالوا ذلك لأنه قد كان طال عمره وهو بين أظهرهم ويدعوهم إلى الإيمان، فأكثر حجاجه ومجادلته إياهم. فقالوا: (فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وكان يعدهم العذاب إن لم يجيبوه؛ كقوله: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، وما كان وعد لهم في غير آية من القرآن إن لم يجيبوه فقالوا: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) من العذاب، فقال: (إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ ... (33) أي: ليس لي إتيان ذلك إنما ذلك إلى اللَّه، إن شاء عجل وإن شاء أخر إلى ما بعد الموت؛ وهو كقول رسول اللَّه لقومه: (لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي: لا تعجزون اللَّه عن تعذيبكم فتفوتون عنه، وقيل: وما أنتم بسابقي اللَّه بأعمالكم الخبيثة حتى يجزيكم بها؛ وهو واحد، والله أعلم. وقوله: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) تأويله - واللَّه أعلم - لا ينفعكم دعائي إلى ما به نجاتكم إن كان اللَّه يريد أن يغويكم ثم اختلف في وقت ذلك: قَالَ بَعْضُهُمْ: لا ينفعكم نصحي عند إقبال العذاب عليكم؛ إن كان في حكم اللَّه ألا تكونوا من الغاوين في ذلك الوقت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) (إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)، أي: لا ينفعكم نصحي إن كان اللَّه يريد أن يعذبكم في نار جهنم ويقول الغي العذاب؛ كقوله: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)، أي: عذاب جهنم ونحوه من الكلام. وأما عندنا فهو على ما أخبر: إن كان اللَّه يريد إغواء قوم أبدا فهم في الغواية أبدًا، وأصله أن اللَّه أراد غواية من في علمه أنه يختار الغواية وأراد ضلال كل من في علمه أنه يختار الضلال؛ لأن من في علمه أنه يختار الغواية، والضلال اختار عداوته، ولا يجوز

(35)

أن يريد هو هداية من يعلم أنه يختار عداوته؛ لأن ذلك يكون من الضعف أن يختار المرء ولاية من يختار هو عداوته، فدل أنه لم يرد الهداية لمن علم منه اختيار الغواية والضلال. ثم إضافة الإغواء والإزاغة والإضلال إلى اللَّه يخرج على وجهين: أحدهما: أنه ينشئ ذلك الفعل منهم غيا وزيغًا وضلالا لا بد؛ لأن فعلهم فعل غواية وزيغ. والثاني: أنه خذلهم ولم يوفقهم ولم يرشدهم ولم يعصمهم ولا سددهم، فمن ذلك الوجه ليس فعله فعل الذم عليه حتى يتحرج بالإضافة إليه، ومن الإضافة إلى الخلق يكون على الذم؛ لأن فعلهم نفسه فعل غواية وضلال، فاستوجبوا الذم عليه بذلك، والإغواء من الخلق هو الدعاء إلى ذلك أو الأمر به، فهو مذموم يذمون على ذلك وليس من اللَّه تعالى من هذا الوجه، ولكن على الوجهين اللذين ذكرناهما. وفي قوله: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) دلالة تعليق الشرط على الشرط. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) أي: بل يقولون. إنه افتراه من عند نفسه قل: (إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ): اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: قال قوم نوح لنوح - عليه السلام -: إنه افترى على اللَّه أنه رسول إليهم من اللَّه على ما سبق من دعائه قومه إلى دين اللَّه، فقالوا له: إنه افتراه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو قول قوم مُحَمَّد قالوا: افترى مُحَمَّد هذا القرآن من نفسه ليس هو من اللَّه على ما يزعم، وهو ما قال في صدر السورة، وهو قوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) إلى آخر ما ذكر، فعلى ذلك هذا هو قولهم لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنه افترى هذا القرآن الذي يقول هو من اللَّه من نفسه فقال: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي: إن افتريته فعليَّ جرمُ افترائي وجزاؤه. (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) معناه - واللَّه أعلم - أي: لا تؤاخذون أنتم بجرم افترائي إن افتريته، وأنا لا أؤاخذ بإجرامكم؛ كقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) وكقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، فعلى ذلك إجرامي، وأمكن أن يكون هذا القول لهم لما أيس من إيمانهم؛ كقوله: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا

(36)

وَبَيْنَكُمُ)، لما أيس عن إيمانهم، وانقطع طمعه ورجاؤه عن إسلامهم، قال لهم ذلك أن لا محاجة بيننا وبينكم بعد هذا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) وقال بعضهم: إن نوحًا عليه السلام لم يدع على قومه بالهلاك ما دام يرجو ويطمع من قومه الإيمان، فإذا أيس وانقطع رجاؤه وطمعه فحينئذٍ دعا عليهم بالهلاك؛ كقوله: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)، أي أحدًا، (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ. . .) الآية، وعرف الإياس عن إيمانهم بقوله: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ. . .) الآية؛ وكذلك سائر الأنبياء والرسل لم يؤذن لهم بالدعاء على قومهم بالهلاك والخروج من بين أظهرهم، ما داموا يرجون ويطمعون منهم الإيمان والإجابة لهم، فإذا أيسوا وانقطع رجاؤهم وطمعهم عن ذلك، فعند ذلك أذن لهم بالدعاء عليهم بالهلاك والخروج من بين أظهرهم أوعلى ذلك عوتب يونس بالخروج من بين أظهرهم قبل أن يؤذن له بالخروج من بينهم. وفي قوله: (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) دلالة أن للإيمان حكم التجدد والابتداء في كل وقت وفي كل حال؛ لأنه أخبر أن الذي قد آمن قد يؤمن في حادث الوقت؛ وعلى ذلك يخرج الزيادات التي ذكرت في الإيمان فزادتهم إيمانا ونحوه، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) قيل: لا تحزن بما كانوا يفعلون، فهو يحتمل وجهين:

(37)

أحدهما: لا تحزن بكفرهم باللَّه وتكذيبهم إياك، ليس على النهي عن الحزن في ذلك، بل على دفع الحزن عنه والتسلي به؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا يحزنون بكفر قومهم باللَّه وجعلهم أنفسهم أعداء له؛ كقوله لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ. . .) الآية، وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، وأمثاله، كان الأنبياء - عليهم السلام - أشد الناس حزنا بكفر قومهم باللَّه وتكذيبهم آياته وأشدهم رغبة في إيمانهم، وكان حزنهم لم يكن على هلاكهم ألا ترى أن نوحا دعا عليهم بالهلاك وكذلك سائر الأنبياء - عليهم السلام - دل أن حزنهم كان لمكان كفرهم باللَّه وتكذيبهم آياته، لا لمكان هلاكهم إشفاقًا على أنفسهم. والثاني: قوله: (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) يحتمل أنهم كانوا هموا قتله والمكر به، فقال: لا تحزن بما كانوا يسعون في هلاكك فإني كافيهم قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (فَلَا تَبْتَئِسْ) هو من الحزن، يقال: ابتأس يبتئس ابتئاسًا. قال الكسائي -أيضًا- لا تبتئس أي: لا تحزن هو من البأس، يقال: لا تبتئس بهذا الأمر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) قال بعض أهل التأويل: (بِأَعْيُنِنَا) بأمرنا ووحينا، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بمنظرنا ومرآنا، ولكن عندنا يحتمل وجهين، أحدهصا: قوله: (بِأَعْيُنِنَا) أي: بحفظنا ورعايتنا، يقال: عين اللَّه عليك أي حفظه عليك، ثم لا يفهم من قوله: (بِأَعْيُنِنَا) نفس العين على ما لا يفهم من قوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)، و (كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، ولكن ذكر الأيدي لما في الشاهد إنما يقدم باليد ويكتسب باليد؛ فعلى ذلك ذكر العين لما بالعين يحفظ في الشاهد. والثاني: قوله: (بِأَعْيُنِنَا) أي: بإعلامنا إياك؛ لأنه لولا تعليم اللَّه إياه اتخاذ السفينة

(38)

ونجرها لم يكن ليعرف أن كيف يتخذ وكيف ينجر، إنما عرف ذلك بتعليم اللَّه إياه، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ): هذا يحتمل وجهين. يحتمل أي: لا تشفع إلي في نجاة الذين ظلموا فإنهم مغرقون في حكم اللَّه. والثاني: لا تخاطبني في هداية الذين هم في حكم اللَّه أنهم يموتون ظلمة، أي: لا تسألني إيمان من في علم اللَّه أنه لا يؤمن، وفيه نهي السؤال عما في علم اللَّه أنه لا يكون؛ لأنه إذا أخبر أنه لا يكون أو لا يفعل فإذا سأله كان يسأله أن يكذب خبره الذي أخبر أنه لا يكون، وفيه أنه إذا أراد اللَّه إيمان أحد آمن، ومن لم يرد إيمانه لم يؤمن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) الملأ هم الأشراف والرؤساء من قومه. (سَخِرُوا مِنْهُ): هم الذين سخروا منه، قَالَ بَعْضُهُمْ: سخريتهم منه أن قالوا: صار نجارا بعدما ادعى لنفسه الرسالة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سخريتهم منه لما رأوه يتخذ الفلك، ولم يكن هنالك بحر ولا واد ولا مياه جارية، إنما هي آبار لهم فقالوا: يتخذوا السفينة ليسيرها في البراري والمفاوز ونحوه من الكلام. رقال: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) وقالوا: سخريته منهم أنه إذا ركبوا الفلك رأوهم يغرقون، قالوا: كنت على حق وعلى هدى ونحوه من الكلام، لكن هذا لا نعلمه ولا حاجة لنا إلى معرفة سخريتهم أن كيف كانت سوى أن فيه سخروا منه. ويحتمل قوله: (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) أي: نجزيهم جزاء سخريتهم. وقوله: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) هو وعيد، أي: سوف تعلمون أن حاصل سخريتكم رجع إليكم؛ كقوله: (وَمَا يَخْدَعُونَ. . .) الآية، أي: سوف تعلمون إذا نجونا نحن، وغرقتم أنتم من (يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ) أي: عذاب يفضحه ويهلكه وهو

(40)

الغرق. (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) أي: عذاب يدوم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَذَابٌ مُقِيمٌ) هو عذاب الآخرة؛ كقوله: (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا). وأما قول أهل التأويل إن سفينة نوح كان طولها كذا وعرضها كذا، فليس لنا بذلك علم ولا حاجة لنا إلى معرفة ذلك، فإن صح ذلك فهو ما قالوا وقولهم كان لها ثلاثة أبواب وثلاثة أطباق، فذلك أيضًا لا نعرفه، ولا قوة إلا باللَّه. * * * قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ). قوله: (جَاءَ أَمْرُنَا) أي: جاء وقت أمرنا بالعذاب الذي استعجلوه؛ كقولهم: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)؛ وكذلك كانت عادة الأمم السالفة استعجال العذاب من رسلهم، وسمي العذاب أمر اللَّه؛ لما لا صنع لأحد فيه، وكذلك المرض سمي أمر اللَّه؛ لما لا صنع لأحد من الخلائق فيه، وسمى الصلاة أمر اللَّه؛ لما بأمره يصلي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَارَ التَّنُّورُ): قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَفَارَ التَّنُّورُ) يقال: فار الماء أي خرج يفور فورًا، أي: غلى كما تغلي القدر وتصديقه قوله: (وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ. . .)، قالوا: فار أي: خرج وظهر. والتنور: اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: التنور هو وجه الأرض، قالوا: إذا رأيت الماء خرج ونبع وظهر على وجه الأرض فاركب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: التنور هو التنور الخابزة التي يخبز فيها، قالوا: إذا رأيت الماء نبع من

تنورك فاركب، قالوا: كان الماء ينزل من السماء وينبع من الأرض؛ كقوله: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا)، لكن جعل علامة وقت ركوبه السفينة هو خروج الماء من الأرض ونبعه منها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ): يحتمل هذا وجهين: يحتمل إن كنا قلنا له إذا فار التنور: احمل فيها من كل زوجين اثنين. ويحتمل: إن قلنا له وقت فور الماء من التنور: احمل فيها من كل زوجين اثنين. ويحتمل وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ): الزوج هو اسم فرد لذي شفع ليس هو اسم افمفع حتى يقال عند الاجتماع ذلك، ولكن ما ذكرنا أنه اسم فرد لذي شفع كان الإناث صنفا وزوجا والذكور صنفًا وزوجا، فيكون الذكر والأنثى زوجين، واللَّه أعلم. وقوله: (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي: من ذكر وأنثى ثم يحتمل زوجين من ذوي الأرواح التي تكون لهم النسل؛ لئلا ينقطع نسلهم. ويحتمل ذوي الأرواح وغيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَأَهْلَكَ) أراد أهله والذين آمنوا معه، يقول: احمل فيها من كل زوجين اثنين، واحمل أهلك أيضًا إلا من قد سبق عليه القول، أي: إلا من كان في علم اللَّه أنه لا يؤمن، أو إلا من كان في علم اللَّه أنه يهلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَأَهْلَكَ) أراد أهله خاصة، ثم استثنى من سبق عليه القول، وهو ابنه وزوجته وهما من أهله، ألا ترى أنه ذكر من بعد من آمن معه وهو قوله: (وَمَن آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ) أي: احمل أهلك الذين آمنوا معك إلا من سبق عليه القول من أهلك وغيره أنه في الهالكين. أو يقول: إلا من سبق عليه القول أنه لا يؤمن، فهذا يدل أن في أهله من كان ظالمًا كافرا حيث استثني من أهله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ): يذكر هذا - واللَّه أعلم - تذكيرًا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مننه ونعمه التي أنعمها عليه؛ لأن نوحًا مع طول مكثه بين أظهر قومه وكثرة دعائه قومه إلى دين اللَّه ومواعظه لم يؤمن من قومه إلا القليل منهم؛ ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع

(41)

قلة مكثه وقصر عمره آمن من قومه الكثير يعرفه نعمه عليه، وفيه دلالة رد قول من يقول: إن المواعظ إنما تنفع، الموعوظ على قدر استعمال الواعظ، وليس هكذا ولكن على قدر قبول الموعوظ إياها وقدر الإقبال إليها؛ لأن نوحًا - عليه السلام - كان أشد الناس استعمالا للمواعظ وأكثرهم دعاء، ثم لم يؤمن من قومه إلا القليل؛ دل أنه ليس لما فهموا، ولكن لما ذكرنا. وأما ما ذكر أهل التأويل أنه حمل في السفينة حبات العنب، فأخذه إبليس فلم يعطه إلا أن أعطى له الشركة، فذلك شيء لا علم لنا به، فإن ثبت ذلك فيكون فيه دلالة أن ليس له في سائر الأنبذة والأشربة نصيب، إنما يكون له فيما يخرج من العنب، وتقدير الثلث والثلثين إنما يكون في عصير العنب خاصة ليس في غيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) يحتمل قوله: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا) أنه لما قال لهم نوح: اركبوا فيها قولوا (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)، وهو كقول الناس باسم اللَّه من أوله على ما يقال، ويذكر اسم اللَّه في افتتاح كل أمر وكل عمل من ركوب ونزول وغيره. ويحتمل قوله: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) أي: باللَّه مجراها ومرساها، أي: به تجري وبه ترسو، وأنه ليس كسائر السفن التي بأهلها تجري وبهم تقف، وهم الذين يتولون ويتكلفون إجراءها ووقوفها، وأما سفينة نوح كانت جريتها باللَّه وبه رسوها لا صنع لهم في ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ): هو ظاهر لمن آمن به وصدق رسوله ينجيه من الغرق والهلاك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) هذا يدل على ما ذكرنا أنها كانت باللَّه تجري وبه ترسو؛ حيث لم يخافوا الغرق مع ما كان من الأمواج، وأما سائر السفن فإن أهلها خافوا من أمواجها، لما كانوا هم الذين يتولون ويتكلفون إجراءها ووقفها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ): هذا يدل على أنها كانت آية؛ لأن الأمواج تمنع من جريان السفينة وسيرها، فإذا أخبر أنها لم تمنع هذه من جريانها دل أنه أراد أن تصير آية لهم.

(43)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ). يحتمل قوله: (وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ) أي: بمعزل من نوح، أو كان بمعزل من السفينة، أو ما كان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) يحتمل لاتكن مع الكافرين: لتغرق، أو لا تكن مع الكافرين لنعم اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) أي: سأنضم إلى جبل، (يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ): ظن المسكين أن هذا الماء كغيره من المياه التي يسلم منها بالالتجاء إلى الجبال، فأخبر عليه السلام أنه (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي: من عذاب اللَّه، سمى عذابه أمر اللَّه لما ذكرنا أمر اللَّه أمر تكوين؛ لأنه هو النهاية في الاحتجاج لقوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ. . .) الآية، وهو كما يسمى البعث لقاء اللَّه لأنه هو النهاية في الاحتجاج، على من ينكر البعث؛ فعلى ذلك سمى عذابه أمر اللَّه وهو أمر تكوين؛ لأنه هو النهاية في الاحتجاج على من ينكر العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) بهدايته إياه، أو إلا من سبقت له الرحمة من اللَّه بالهداية له والنجاة. وقوله: (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ): يحتمل قوله: (بَيْنَهُمَا) بين ابنه وبين نوح، ويحتمل بينه وبين السفينة. (فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) وقوله: (فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ): يحتمل صار من المغرقين، ويحتمل كان في علم اللَّه أنه يغرق، وهذا يدل على أن قوله في إبليس: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، أنه يخرج على وجهين: أحدهما: أنه كان في علم اللَّه أنه يكفر، أو صار من الكافرين كما ذكر، وكان من المغرقين إذ لم يكن من المغرقين في الأزل. * * * قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ

(44)

وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وقوله: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ... (44) قَالَ بَعْضُهُمْ: عاد كل ماء إلى من حيث خرج: ما أرسل من السماء عاد إليها، وما خرج من الأرض غاض في الأرض وغار فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا ولكن أمسك السماء من إرساله، وأمسك الأرض من نبعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) ليس على القول لهم، ولكن اللَّه أمسكهما من إرساله ونبعه. ويحتمل على القول منه لهم باللطف جعل فيهم ما يفهم هذا. (وَغِيضَ الْمَاءُ) أي: غار الماء في الأرض. (وَقُضِيَ الْأَمْرُ): بهلاك قوم نوح ويحتمل على التكوين على ما ذكر (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) أي: استقرت على الجودي وهو جبل (وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكا ويحتمل بعدا للقوم الظالمين من رحمة اللَّه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: مرساها أي تقف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ): يمنعني من الماء، وقال: (لَا عَاصِمَ اليومَ مِن أَمْرِ اللَّهِ) قَالَ الْقُتَبِيُّ: لا معصوم اليوم من عذاب اللَّه؛ كقوله: (مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ)

(45)

أي: مدفوق، وأصله لا عاصم أي: لا شيء يمنع اليوم من نزول عذاب الله عليهم ولا دافع لهم منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ... (45) الآية، فقال: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ). هذا - واللَّه أعلم - كان عند نوح أن ابنه كان على دينه لما لعله كان يظهر الموافقة له، وإلا لا يحتمل أن يقول: إن ابني من أهلي ويسأله نجاته، وقد سبق منه النهي في سؤال مثله حيث قال: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ولا يحتمل أن يكون يعلم أنه على غير دينه، ثم يسأل له النجاة بعدما نهاه عن المخاطبة في الذين ظلموا، فقال: إنه ليس من أهلك في الباطن والسر، والإخرج هذا القول مخرج تكذيب رسوله، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه كان في الظاهر عنده أنه على دينه لما كان يظهر له الموافقة، وكان لا يعرف ما يضمره فسأله على الظاهر الذي عنده؛ وكذلك أهل النفاق كانوا يظهرون الموافقة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه ويضمرون الخلاف له، وكانوا لا يعرفون نفاقهم إلا بعد إطلاع الله إياه؛ فعلى ذلك نوح كان لا يعرف ما كان يضمر هو لذلك خرج سؤاله فقال: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ (46) الذي وعدت النجاة لهم، أو ليس من أهلك؛ لأنه لم يؤمن بي ولم يصدقك فيما أخبرت أنه عمل غير صالح. روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ: (عَمِلَ غَيرَ صالِحٍ) بغير تنوين. وعن

ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قرأه: (عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) بالتنوين. فمن قرأ بالنصب: (عَمِلَ غيرَ صَالِحٍ) أي: أن ابنك عمل غير صالح، ومن قرأه: (عَمَلٌ) يكون معناه - واللَّه أعلم - أن سؤالك عمل غير صالح وكلا القراءتين يجوز أن يصرف إلى ابنه، أي: أنه عمل غير صالح وهو عمل الكفر، (عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) أي: الذي كان عليه عمل غير صالح، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ثم قال: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ): هذا في الظاهر يخرج على التكذيب له، لكن الوجه فيه أنه من أهلك على ما عندك، وليس هو من أهلك فيما بشرتك من نجاة أهلك. وقوله: (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ): يحتمل وجهين: يحتمل وأن وعدك بإغراق الظلمة حق. والثاني: وإن وعدك بنجاة المؤمنين حق وأنت أحكم الحاكمين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ): يحتمل هذا نهيا عن سؤال ما لم يؤذن له من بعد؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا لا يسألون شيئًا إلا بعد الإذن لهم في السؤال، وإن كان يسع لهم السؤال، أو أن يكون عتابًا لما سبق، والأنبياء - عليهم السلام - كانوا يعاتبون في أشياء يحل لهم ذلك؛ نحو قوله لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا)، وقد كان له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الأمر بالقعود والنهي عن الخروج بقوله: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا)، ونحوه.

(47)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ): هو كما نهى رسول اللَّه: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وأمثاله، وإن كان معلوما أنه لا يكون من الجاهلين، وهو ما ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي عن الشيء، بل بالنهي تظهر العصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) إني أعوذ بك أن أعود إلى سؤال لا أعلم بالإذن في السؤال هذا يحتمل. وقوله: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أي: إن لم ترحمني بالعصمة من العود إلى مثله أكن من الخاسرين، هذا يشبه أن يكون. ويحتمل أن يكون ذكر هذا لما لا يستوجبون المغفرة والرحمة إلا برحمة اللَّه وفضله، على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة اللَّه "، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: " ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته ". وقوله تعالى: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ): هو طلب المغفرة بالكناية، وهو أبلغ وأكبر من قوله: اللهم اغفر لي؛ لأن في قوله: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) قطع رجاء المغفرة من غيره، وإخبار ألَّا يملك أحد ذلك، وليس في قوله: اغفر لي قطع كون ذلك من غيره؛ لذلك كان ذلك أبلغ من هذا، وكذلك سؤال آدم وحواء المغفرة حيث قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا. . .) الآية، هو سؤال بالكناية فهو أبلغ في السؤال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أنزل من الجودي إلى قرار الأرض، وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (اهْبِطْ) أي: انزل وأقم على المقام والمكث في المكان، ليس على الهبوط من مكان مرتفع إلى مكان منحدر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ): السلام هو أن يسلم عن الشرور والآفات، والبركة هي نيل كل خير وبر على غير تبعة، ثم هما في التحصيل واحد؛ لأنه إذا سلم عن كل شر وآفة نال كل خير وبر، وإذا نال كل خير سلم عن كل شر وآفة، هما في الحقيقة واحد لكنهما في العبارة مختلف، وهو كالبر والتقوى من العبد: البر هو كسب كل خير، والتقوى هو اتقاء كل شر ومعصية، هما في العبارة مختلفان وفي الحقيقة واحد؛

لأنه إذا اتقى كل شر ومعصية عمل كل خير وبر، واذا كسب كل خير وبر اتقى كل معصية وشر؛ وعلى ذلك يخرج الشكر والصبر: الصبر هو كف النفس عن كل مأثم، والشكر هو استعمال النفس في كل طاعة، هما أيضًا في العبارة مختلفان وفي الحقيقهَ واحد؛ لأنه إذا كف نفسه من كل مأثم استعملها في الطاعة، وإذا استعملها في الطاعة كفَّها عن كل مأثم ومعصية؛ وعلى ذلك يخرج الإسلام والإيمان: الإسلام هو تسليم النفس لله خالصة سالمة لا يجعل لغيره فيها حقا، والإيمان هو أن يصدق اللَّه بالربوبية في نفسه وفي كل شيء، وهما في الحقيقة واحد وفي العبارة مختلفان؛ لأنه إذا جعل نفسه وكل شيء سالما ألله تعالى، أقر بالربوبية له في نفسه وفي كل شيء، واذا صدقه وأقر له بالربوبية في نفسه وفي كل شيء جعلها لله، وكل شيء له. هذه أشياء في العبارة مختلفة وفي التحصيل واحد. ثم قوله: (اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا): جائز أن يكون جواب قوله: (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي) آمنه عما خاف وطلب منه المغفرة والرحمة. والثاني: السلام له منه هو الثناء الحسن؛ كقوله: (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ): يحتمل أن يكون جواب قوله: (أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا)، والبركة هي اسم كل خير لا انقطاع له، أو اسم كل شيء لا تبعة له عليه فيه. ثم قوله: (بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ)، على قول بعض أهل التأويل: ذلك السلام، وتلك البركات في الدنيا: السلام لما سلموا من الغرق والبركات ما نالوا في الدنيا من الخيرات والمنافع. وعلى قول بعضهم: السلام والبركات جميعًا في الآخرة. ثم جعل عَزَّ وَجَلَّ المؤمن والكافر مشتركين في منافع الدنيا وبركاتها، وجعل منافع الآخرة وبركاتها للمؤمنين خاصة بقوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، وبقوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) ثم قال: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أشرك المؤمن والكافر في زينة الدنيا، ثم جعل للمؤمنين خالصة يوم القيامة، فذلك قوله: (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ

(49)

يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أخبر أنه يمتعهم ثم يصيبهم عذاب أليم، ويمتع المؤمن أيضًا في هذه الدنيا بأنواع المنافع، ثم أخبر أن العاقبة للمتقين ثم جعل العاقبة للمتقين بإزاء ما جعل لهم عذابا أليما أعني الكفرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ): ولم يكن مع نوح أمم يومئذ، إنما كانوا معه نفرًا، لكنه أراد - واللَّه أعلم - الأمم التي كانوا من بعده كأنه قال: وعلى أمم يكونون من بعدك، فهذا يدل أن دين الأنبياء والرسل جميعًا دين واحد، وإن اختلفت شرائعهم؛ لأن تلك الأمم لم يكونوا بأنفسهم مع نوح، ولا كانوا معه في العبادات التي كان فيها نوح؛ دل أنهم كانوا جميعًا على دينه وهو واحد، وعلى ذلك يخرج دعاؤه: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ. . . الآية، دعاء بالمغفرة له لكل مؤمن ومؤمنة يكون من بعده؛ وكذلك يحق على كل كافر دعاؤه: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) يحتمل قوله: (تِلْكَ) أي: قصة نوح من أنباء الغيب غابت عنك لم تشهدها، ولم تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، إن كان المراد من قوله: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) قصة نوح خاصة وأنباؤه، كان يجيء أن يقول: هذه من أنباء الغيب نوحيها إليك، لكنه كأنه على الإضمار، أي: هذه الأنباء تلك الأنباء التي ذكرت في كتبهم، وإن كان المراد هذه وغيرها من الأنباء يصير كأنه قال: هذه من تلك الأنباء. ويحتمل قوله: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) القصص كلها قصة نوح وغيره من الأنبياء من أنباء الغيب، غاب عنك لم تشهدها ولا تعلمها أنت ولا قومك، خص قومه لأن غيره من الأقوام قد كانوا عرفوا تلك الأنباء فيخبرونهم فيعرفون به صدق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه أخبرهم على ما أخبر أُولَئِكَ الذين عرقوا تلك الأنباء بكتبهم؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك أباللَّه تعالى إذ تلك، الأنباء كانت بغير لسانه، ولم يعرف أنه اختلف إلى أحد منهم؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ) يحتمل قوله: (فَاصْبِرْ) على تكذييهم إياك، وعلى أذاهم أو اصبر على ما أمرت ونهيت، واصبر على ما صبر إخوانك من قبل؛ كقوله: (كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، ونحوه.

(50)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) يشبه أن يكون قوله: (لِلْمُتَّقِينَ) الذين اتقوا الشرك وأمكن الذين اتقوا الشرك والمعاصي كلها، والأشبه أن يكون المراد منه اتقاء الشرك؛ لأنه ذكر بإزاء قوله: (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فهو في العقد أشبه. وقال بعض أهل التأويل في قوله: (اهْبِطْ بِسَلَامٍ) من السفينة بسلام منا، فسلمه الله ومن معه من المؤمنين من الغرق، (وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) يعني بالبركة أنهم توالدوا وكثروا بعدما خرجوا من السفينة. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: (وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) ممن سبق له في علم اللَّه البركات والسعادة من النبيين وغيرهم. * * * قوله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا): هذا واللَّه أعلم صلة قوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) فيقول: ولقد أرسلنا هودًا إلى عاد أخاهم. ثم يحتمل قوله: (أَخَاهُمْ) الأخوة تكون على وجوه: أخوة جنس يقال: هذا أخو هذا نحو مصراعي الباب، يقال لأحدهما: هذا أخو هذا ونحو أحد زوجي الخف وأمثاله. وأخوة النسب. وأخوة الدِّين؛ كقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، فهو لم يكن أخا لهم في الدِّين، فهو يحتمل أنه أخوهم في الجنس وفي النسب؛ لأن الناس كلهم ينسبون إلى آدم فيقال: بنو آدم مع بعد ما بينه وبينهم؛ فعلى ذلك يكون بعضهم لبعض

(51)

إخوة مع بعد النسب الذي بينهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ): يُعبَد أي: الذين تعبدون ليسوا بآلهة يستحقون العبادة إنما الإله الذي يستحق العبادة، اللَّه الذي خلقكم وخلق لكم الأشياء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أي: ما أنتم إلا مفترون، لا يحتمل أن يكون هو قال لهم هذا في أول ما دعاهم إلى التوحيد، وفي أول ما ردوا إجابته وكذبوه؛ لأنهم أمروا بلين القول لهم وتذكير النعمة عليهم؛ كقوله لموسى وهارون حيث بعثهما إلى فرعون بقوله: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) الآية، ولكن كأنه قال لهم ذلك بعد ما سبق منه إليهم دعاء غير مرة، وأقام عليهم الحجة والبراهين فردوها، فعند ذلك قال لهم هذا حيث قالوا: (يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ): يحتمل في تسميتهم الأصنام التي عبدوها آلهة، يقول: إن أنتم إلا مفترون في ذلك. ويحتمل أنه سماهم مفترين فيما قالوا اللَّه أمرهم بذلك، يقول: أنتم مفترون فيما ادعيتم الأمر بذلك، أو مفترون في إنكارهم البعث والرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) هذا قد ذكر في غير موضع يقول لهم - واللَّه أعلم -: إني لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرا يمنعكم ثقل ذلك الأجر وغرمه عن الإجابة، فما الذي يمنعكم عن الإجابة لي ويحملكم على الرد بل أدعوكم إلى ما ترغبون فيه، فكيف يمنعكم عن الإجابة والنظر فيما أدعوبهم إليه؟! (أَفَلَا تَعقِلُونَ): أني رسول إليكم بآيات وحجج جئت بها، أو: أفلا تعقلون أنها آيات وحجج ونحوه، أو يقول: أفلا تعقلون أن اللَّه واحد وأنه رب كل شيء وخالق كل شيء ومنشئه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) يحتمل أن يكون قوله

(53)

استغفروا ربكم ثم توبوا إليه واحدا. ويحتمل على التقديم والتأخير توبوا إليه ثم استغفروا ما كان منكم من المساوي، أي: أقبلوا إلى طاعة اللَّه واندموا على أفعالكم. وقوله: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ): معلوم أن هودا لم يرد بقوله: (اسْتَغْفِرُوا) أن يقولوا: نستغفر اللَّه، ولكن أمرهم أن يطلبوا السبب الذي به تجب لهم المغفرة وتحق وهو التوحيد، كأنه قال: وحدوا ربكم فآمنوا به ثم توبوا إليه، أو يقول: اطلبوا المغفرة بالانتهاء عن الكفر؛ كقوله تعالى: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ): قال بعض أهل التأويل: إنه قد كان انقطع عنهم المطر وانقطع نسلهم، فأخبر أنكم إن تبتم إلى اللَّه، واستغفرتم ربكم (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. . .) الآية حتى تناسلوا وتتوالدوا. ويحتمل قوله: (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً) أي: يزدكم قوة أفعالكم إلى قوة أبدانكم؛ لأنهم كانوا أهل قوة وأهل بطش بقولهم قالوا: من أشد منا قوة. ويحتمل على الابتداء: يرسل السماء عليكم مدرارا، ويزدكم قوة إلى قوتكم. فقوله: (وَلَا تَتَوَلَّوْا) عما أدعوكم فيه؛ فتكونوا (مُجْرِمِينَ) ولا تتولوا عما أدعوكم فيه؛ فتكونوا مجرمين. المجرم قال أبو بكر: هو الوثاب في الإثم، وقيل: هو المكتسب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) على ما تدعونا إليه، أو على ما تدعي من الرسالة، فعند ذلك قال لهم هود: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ). (وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا) أي: ما نحن بتاركي عبادة آلهتنا عن قولك، أي: بقولك، كان لا يدعوهم هود إلى ترك عبادة آلهتهم بقوله خاصة، ولكن قد دعاهم وأقام على فساد ذلك الحجج والبراهين، لكنهم قالوا متعنتين مكابرين: (وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) فيما تدعونا إلمه، وتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) قيل: هو كان يسب آلهتهم ويذكرهم بالعيب فيقولون: إن يعترك من بعض آلهتنا سوء أو يصيبوك بجنون وخبل، فلا عجب أن يصيبك منها فاجتنبها سالما، فذلك يخرج منهم مخرج الامتنان،

(55)

أي: إنا إنما ننهاك عن سب آلهتنا وذكر العيب فيها إشفاقًا عليك لئلا يصيبك شيء منها. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قالوا: " شتمت آلهتنا فخبلتك وأصابتك بالجنون، فتأويله - واللَّه أعلم - أنك إنما تدعونا إلى ما تدعونا إليه وتدعي ما تدعي لما أصابتك آلهتنا بسوء واعترتك بجنون، كانوا يخوفونه أن تصيبه آلهتهم بسوء بتركه عبادتها، على ما كانوا يرجون وليطمعون بعبادتهم إياها شفاعتها لهم؛ قال: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) به وتعبدونه من الآلهة، واشهدوا أنتم أيضًا بأني بريء من ذلك، (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ... (55) أنتم وآلهتكم فيما تدعونني من الهلاك أو السوء، (ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ) أي: ثم لا تمهلون في ذلك. ويحتمل قوله: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا) أنتم وآلهتكم؛ يقول: اعملوا أنتم وآلهتكم جميعًا التي تزعمون أنها خبلتني وأجنتني، (ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ). أي: لا تمهلون، وهذا من أشد آيات النبوة؛ لأنه يقول لهم وهو بين أظهرهم وحيدًا، فلولا أنه يقول ذلك لهم بقوة من الله والاعتماد له عليه والانتصار به، والا ما اجترأ أحد أن يقول مثل هذا بين أعدائه علم أنه قال ذلك باللَّه تعالى؛ وكذلك قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ. . .) الآية، وقول نوح: (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ. . .) الآية وقول شعيب: (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ. . .) الآية. وأمثاله، قالوا ذلك بين أظهر الاعداء ولم يكن معهم أنصار ولا أعوان؛ دل أنهم إنما قالوا ذلك باللَّه وذلك من آيات النبوة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) أي: فوضت أمري إلى اللَّه، أو وكلت في جميع عملي إليه، أو وثقت به واعتمدت عليه فيما توعدونني من الهلاك، أو توكلت عليه في دفع ما أوعدتموني ربي وربكم، أي: كيف توعدونني بآلهتكم التي تعبدون، ولا تخافون الذي تعلمون أنه هو ربي وربكم؟! وهو كما قال إبراهيم: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا): يميتها متى شاء.

(57)

وقوله: (آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) أي: في ملكه وسلطانه، يقال: فلان آخذ بحلقوم فلان، وفلان في قبضة فلان ليس أنه في قبضته بنفسه أو آخذ بحلقوم فلان، ولكن يراد أنه في سلطانه وفي ملكه وفي قبضته. (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي: على الذي أمرني ربي ودعاني إليه، أو يكون قوله: (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي: أن الذي أمرني ربي ودعاني إليه هو صراط مستقيم؛ كقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ). وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الاعتراء هو الأخذ، يقال: اعترته الحمى أي أخذته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الاعتراء هو الإصابة، بقول: إلا اعتراك: أصابك، يقال: أعتريت: أصبت، وهو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) يحتمل على الإضمار أي: فإن تولوا عن إجابتك وطاعتك فقل قد أبلغتكم رسالات ربي؛ لأن قوله: (تَوَلَّوْا) إنما هو خبر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَبْلَغْتُكُمْ): خطاب، وأمكن أن يكونا جميعًا على الخطاب، يقول: فإن توليتم عن إجابتي فيما أدعوكم إليه، فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم وليس على إلا تبليغ الرسالة إليكم؛ كقوله: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ)؛ وكقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)، يقول: إنما عليَّ إبلاع الرسالة إليكم، ليس على جرم توليكم عن إجابتي؛ كقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ) فيه وجهان: أحدهما: يخبر عن هلاكهم؛ لأنه أخبر أنه يستخلف قومًا غيرهم؛ لأنه ما لم يهلك هَؤُلَاءِ لا يكون غيرهم خلفهم: لأنهم كانوا يقولون: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، يقول - واللَّه أعلم -: إن قوة أبدانكم وبطشكم لا تعجز اللَّه عن إهلاككم، وفيه أن عادًا ليسوا هم النهاية في العالم، بل يكون بعدهم قوم غيرهم، واللَّه أعلم.

(58)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا) أي: لا تضرونه بتوليكم عن إجابتي وردكم رسالة اللَّه إليكم، ليس كملوك الأرض إذا تولى عنهم خدمهم وحشمهم ضرهم ذلك. والثاني: لا تضرونه كما يضر ملوك الأرض بالقتال والحرب بعضهم بعضا. والثالث: لا تضرونه لأنه لا منفعة له فيما يدعوكم حتى يضره ضد ذلك؛ إذ ليس يدعوكم إلى ما يدعو لحاجة نفسه ولا لمنفعة له، إنما يأمركم ويدعوكم لحاجة أنفسكم والمنفعة. لكم. ويحتمل أن يكون لا تضرونه شيئًا جواب قوله: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا. . .) الآية. (إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) ألا يخفى عليه شيء وإن لطف، فكيف يخفى عليه أعمالكم وأموالكم مع ظهورها وبدوها. أو يقول: إن ربي على كل شيء حفيظ: فيجزيه عليه، ولا يذهب عنه شيء، أي: لا يفوته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) قوله: (جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا) أمر تكوين لا أمر يقتضي الساعة؛ كقوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)؛ فعلى ذلك هذا هو أمر تكوين وقد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا): هذا يدل أن من نجا إنما نجا برحمة منه لا بعمله؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة اللَّه، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته "، لا على ما يقوله المعتزلة: إن من نجا إنما ينجو بعمله لا برحمته. ثم يحتمل قوله: (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) وجوهًا؛ تحتمل الرحمة هاهنا هودا، أي: رحمهم به حيث بعث إليهم رسولا فنجا من اتبعه، فإن كان هذا ففيه أن أهل الفترة معاقبون في حال فترتهم؛ لأنه أخبر أن من نجا إنما نجا بهود، فدل أنهم معاقبون قبل بعث الرسل إليهم. ويحتمل قوله: (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي: بتوفيق منا إياهم نجا من نجا منهم. والثالث: (وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: نجيناهم من العذاب الذي أهلك هَؤُلَاءِ. ويحتمل أن يكون على الوعد أي: ينجيهم في الآخرة من عذاب غليظ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) أي: وتلك أهل قرية عاد جحدوا بآيات ربهم

(60)

وعصوا رسلهم، الكفر بالآيات كفر بجميع الرسل، والكفر بواحد من الرسل كفر بالرسل جميعًا وباللَّه؛ لأن كل واحد من الرسل يدعو إلى الإيمان باللَّه وبجميع الرسل، فالإيمان بواحد منهم إيمان باللَّه وبجميع الرسل والآيات، والكفر بواحد منها كفر باللَّه وبجميع الرسل، وإنما كان الكفر بالآيات كفرا باللَّه؛ لأن اللَّه إنما يعرف من جهة الآيات والكفر بالآيات كفر به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) قيل: أخبر أنهم اتبعوا أمر الجبابرة وأطاعوهم، وتركوا اتباع الرسل وطاعتهم. قيل: الجبار هو المتجبر الذي يتجبر على الرسل ويتكبر عليهم؛ لأن الرؤساء منهم كانوا يتجبرون على الرسل ويتكبرون، ثم الأتباع اتبعوا الرؤساء في عملهم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجبار هو المتجبر، والعنيد هو المعاند المخالف. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: العنود والعنيد والمعاند المعارض لك بالخلاف عليك. وقال أبو عبيدة: العنيد والعنود والمعاند هو الجائر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) قَالَ بَعْضُهُمْ: اللعن هو العذاب، أي: أتبعوا في الدنيا وفي الآخرة بالعذاب؛ كقوله: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، أي: عذاب اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُتْبِعُوا) أي: ألحقوا، وقيل: إن اللعن هو الطرد، طردوا عن رحمة اللَّه حتى لا ينالوها لا في الدنيا ولا في الآخرة، إلا أن عادًا كفروا ربهم (أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)، أي: أَلَا بُعْدًا لهم من رحمة اللَّه. * * * قوله تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ

(61)

فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ... (61) هو ما ذكرنا، أي: أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا. وقوله: (أَخَاهُمْ): فد ذكرنا أيضًا أن الأخوة تتجه إلى وجوه ثلاثة: أخوة في الدِّين، وأخوة في الجنس، وأخوة في النسب أفهو لا يحتمل أن يكون أخاهم في الدِّين، لكنه يحتمل أن يكون أخاهم من الوجهين الآخرين في الجنس والنسب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ): إن الرسل صلوات اللَّه عليهم جميعًا أول ما دعوا قومهم إنما دعوا إلى توحيد اللَّه وجعل العبادة له؛ لأن غيره من العبادات إنما يقوم بالتوحيد، فكان أول ما دعاهم قومهم إليه لم يزل عادة الرسل وعملهم الدعاء إلى توحهيد اللَّه والعبادة له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ): وقال بعض أهل التأويل: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يقول: هو خلقكم من آدم وخلق آدم من الأرض، لكنه أضاف خلق الخلائق إليها؛ كما أضاف في قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. . .) الآية أخبر أنه خلقنا من نفسه، أي: آدم، وإن لم تكن أنفسنا منه؛ فعلى ذلك إضافته إيانا بالخلق من الأرض، وإن لم يخلق أنفسنا منها، أي: خلق أصلنا وأنشأه من الأرض، فأضاف إنشاءنا إلى ما أنشأ أصلنا. ويشبه أن يكون قوله: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي: جعل نشأة الخلائق كلهم ونماءهم

(62)

وحياتهم ومعاشهم بالخارج من الأرض؛ إذ به نشوءهم ونماؤهم وحياتهم وقوامهم منها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: أسكنكم فيها، وقال بعضهم: استخلفكم فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)، أي: جعلكم عمار الأرض تعمرونها لمعادكم ومعاشكم، جعل عمارة هذه الأرض إلى الخلق هم الذين يقومون بعمارتها وبنائها وأنواع الانتفاع بها، ويرجع كله إلى واحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ) أي: جعل عمركم طويلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ): هذا قد ذكرنا فيما تقدم في قصة نوح، أي: كونوا بحال يغفر لكم؛ وهو كقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، كأنه قال: فإن انتهوا عن الكفر يغفر لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ): لحفظ الخلائق أو قريب لمن أنعم عليهم وأمثاله، أو قريب إلى كل من يفزع إليه، مجيب لدعاء كل داع استجاب له؛ كقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي .. .) الآية؛ وكقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ بَعْضُهُمْ: قولهم: (قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا) كنت ترحم الضعفاء وتعود المرضي ونحو ذلك من الكلام، فالساعة صرت على خلاف ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا) كنا نرجو أن ترجع إلى ديننا قبل هذا الذي تدعونا إليه، فالساعة صرت تشتم آلهتنا وتذكرها بعيب، أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا، أي: ما كنا نعرف أن آباءنا عندك سفهاء من قبل هذا، فالساعة تسفه أحلامهم في عبادتهم الأصنام. (وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) قالوا هذا؛ احتجاجًا لهم عليه فيما دعاهم إلى توحيد اللَّه وعبادتهم إياه، فقالوا: إنا على يقين أن آباءنا قد عبدوا هذه الآلهة من غير شك فما تدعونا إليه مريب، أي: يريبنا أمرك ودعاؤك لنا إلى هذا الدِّين.

(63)

قد قيل هذا، ولكنا لا نعلم ما كانوا يرجون فيه، وأما المعنى الذي قالوا له قد كنت فينا مرجوا سوى أنا نعلم أنه كان مرجوا فيهم بالعقل والدِّين والعلم والبصيرة ونحوه، فكان مرجوا فيهم بالأشياء التي ذكرنا. هذا نعلمه ولا نعلم ما عنى أُولَئِكَ بقولهم: (قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) أي: إن كنت على حجة وبرهان وبيان من ربي فيما أدعوكم إلى توحيد اللَّه وصرف العبادة إليه. والثاني: قوله: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي: قد كنت على بينة من ربي (وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً) يحتمل قوله: رحمة أي: آتاني هدى ونبوة من عنده. (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ) أي: من يمنعني من عذاب اللَّه إن عصيته ورجعت إلى دينكم، أي: لا أحد ينصرني إن أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه، أي: لا أحد ينصرني دون اللَّه لو أجبتكم وأطعتكم فيما دعوتموني إليه. ثم الذي دعوه إليه يحتمل ترك تبليغ الرسالة إليهم، أو دعوه إلى عبادة الأصنام التي عبدوها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ): قيل فيه بوجوه: قيل: فما تزيدونني بمجادلتكم إياي فيما تجادلونني إلا خسرانًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فما تزدادون بمعصيتكم إياي إلا خسرانًا لأنفسكم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: غير تخسير، أي: غير نقصان. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: غير تخسير هو من الخسران، يقال: خسرته أي: ألزمته الخسران. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) قال لهم هذا حين سألوا منه الآية، فقال: هذه ناقة اللَّه لكم آية على صدق صالح فيما ادعى من الرسالة، أو هذه ناقة اللَّه لكم فذروها تأكل في أرض اللَّه، قال لهم هذا حين سألوا منه الآية، فقال: هذه ناقة اللَّه لكم آية، أي: لكم آية التي سألتموها من الرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَاقَةُ اللَّهِ): أضاف إليه لخصوصية كانت فيها نحن لا نعرف ذلك، ليست تلك الخصوصية في غيرها من النوق؛ لما جعلها آية لرسالته ونبوته

(65)

خارجة عما عاينوا من النوق وشاهدوها، وهكذا كانت آيات الرسل كانت خارجة عن وسع البشر وطوقهم؛ ليعلم أنها سماوية. ثم لا نعرف أية خصوصية كانت لها عظم جسمها وغلظ بدنها، حيث قسم الشرب بينهم وبينها حتى جعل يوما لها ويومًا لهم بقوله: (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ولم يقسم مراعيها بينها وبينهم بقوله: (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ)، وأما ما قاله بعض الناس: إنها خرجت من صخرة كذا، وأنها كانت تحلب كل يوم كذا وأشياء أخر ذكروها، فإنا لا نعرف ذلك ولا نقطع القول فيه أنه كان كذلك، سوى أنا نعرف أن لها كانت خصوصية ليست تلك الخصوصية لغيرها من النوق، ولو كانت لنا إلى تلك الخصوصية حاجة لبينتها لنا، وأصله ما ذكرنا أنه إذا أضيف جزئية الأشياء إلى الله تعالى فهو على تعظيم تلك الجزئيات المضافة إليه، وإذا أضيف إليه كلية الأشياء فهو على إرادة التعظيم لله والتبجيل له؛ نحو قوله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ)، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ) نهاهم أن يمسوها بسوء، ولم يبين ما ذلك السوء، فيحتمل أن يكون ذلك شيء عرفوا هم ونهاهم عن ذلك. وقال بعض أهل التأويل: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ) أي: لا تعقروها فيأخذكم عذاب قريب، لما كان ذلك على أثر عقرهم الناقة بثلاثة أيام حيث قال: (فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) وما ذكر أيضًا أن وجوههم اصفرت في اليوم الأول، ثم احمرت في اليوم الثاني، ثم اسودت في اليوم الثالث، ثم نزل بهم العذاب في اليوم الرابع، فذلك أيضا مما لا نعرفه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَذَابٌ قَرِيبٌ) قيل: سريغا لا تمهلون حتى تعذبوا. وقوله: (ذَلِكَ وَعْدٌ) من اللَّه (غَيْرُ مَكْذُوبٍ): ليس فيه كذب، وكان عذابهم إنما نزل على أثر سؤال الآية، سألوا ذلك فلما أن جاءهم بها كذبوها، فنزل بهم العذاب، وهكذا السنة في الأمم السالفة أنهم إذا سألوا الآية فجاءتهم فلم يؤمنوا بها نزل بهم العذاب، وهو قوله: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا. . .) الآية، واللَّه أعلم.

(66)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) أي: جاء ما أمر به كما يقال: جاء وعد ربنا، أي: جاء موعود ربنا؛ لأن وعده وأمره لا يجيء، ولكن جاء ما أمر به ووعد به وهو العذاب، أو نقول: جاء أي أتى وقت وقوع ما أمر به ووعد، وهو العذاب الذي وعد وأمر به، واللَّه أعلم. (نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا): بنعمة منا أو بفضل منا، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) قيل: الخزي هو العذاب الذي يفضحهم، وقيل: كل عذاب فهو خزي، أي: نجاهم من خزي ذلك اليوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) قيل: القوي: هو الذي لا يعجزه شيء، والعزيز هو الذي يذل من دونه، وقيل: القوي هو المنتقم المنتصر لأوليائه من أعدائه، والعزيز: هو المنيع في ملكه وسلطانه الذي لا يعجزه شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) قيل: عذابهم كان صيحة صاح بهم جبريل، وقيل: الصيحة الصاعقة وكل عذاب فهو صيحة، لكن لا ندري كيف كان، أو أن يكون عذابهم قدر صيحة لسرعة وقوعه بهم، أو يسمى ذلك العذاب صيحة لما رأوه ما يصيحون فيما بينهم أو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ): قال هاهنا: ديارهم، وقال في سُورَةِ الأعراف: دارهم، والقصة واحدة. قَالَ بَعْضُهُمْ: دارهم قراهم، وديارهم منازلهم، ولكن هو واحد أصبحوا جاثمين في دارهم ومنازلهم سواءٌ. وقوله: (جَاثِمِينَ) قيل: خامدين موتى وأصل قوله: (جَاثِمِينَ) أي: منكبين على وجوههم، يقال: جثم الطائر إذا انكب على وجهه مخافة الصيد، وقد ذكرناه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) قيل: كان لم يعيشوا فيها، وقيل: كان لم يسكنوا فيها، وقيل: كأن لم يعمروا فيها، وأصله أنهم صاروا كان لم يكونوا فيها لما لا يذكرون يعد هلاكهم، فصاروا من حيث لا يذكرون كان لم يكونوا، وأما الأخيار والأبرار فإنهم وأن ماتت أبدانهم وصارت كان لم تكن ففي الذكر كأنهم أحياء حيث يذكرون بعد موتهم.

(69)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) قيل: كفروا نعمة ربهم، أو كفروا بآيات ربهم، فذلك كله كفر باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ) أي: ألا بعدًا لثمود من رحمة اللَّه. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى): اختلفوا في هذه البشارة؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: جاءوا هم ببشارة إسحاق والحافد. وهو قوله: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: جاءوا ببشارة إهلاك قوم لوط وإنجاء لوط وأهله، قيل: لأن لوطا كان ابن أخي إبراهيم، وكان لوط فزع إلى اللَّه بسوء عمل قومه وصنيعهم ودعا بالنجاة منهم، وهو قوله: (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ. . .) الآية، حتى ذكر في بعض القصة أن سارة قالت لإبراهيم: ضم ابن أخيك إلى نفسك فإن قومه يعذبون، كأنها عرفت أنه لا يتركهم على ما هم عليه بسوء عملهم. قالوا: جاءوا بالبشارتين جميعًا: ببشارة الولد والحافد، وبشارة هلاك قوم لوط ونجاة لوط وأهله؛ إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ): هذا يدل أن السلام هو سنة الأنبياء والرسل والملائكة في الدنيا والآخرة، ولم تخص هذه الأمة به بل كان سنة الرسل الماضية والأمم السالفة وكذلك هو تحية أهل الجنة لقوله: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ)، ونحوه، هذا يدل على ما ذكرنا. ثم انتصاب قوله: (سَلَامًا) وارتفاع الثاني؛ لأن الأول انتصب لوقوع القول عليه كقولك: قال قولا، والثاني حكاية لقولهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ).

وقوله: (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ) أي: ما لبث عندهم حتى اشتغل بتقديم شيء إليهم، وإلا قد يكون في ذبح العجل وشويه لبث إلا أن يكون العجل مشويًّا، فإن لم يكن مشويّا فتأويله ما ذكرنا أن لم يلبث عندهم في المؤانسة والحديث معهم على ما يفعل مع الأضياف حتى جاء بما ذكر، وفيه ما ذكرنا من الأدب، وفيه دلالة فيمن نزل به ضيف ألا يشتغل بالسؤال عن أحوال ضيفه من أين وإلى أين؟ وما حاجتهم؟ ولكن يشتغل بقراهم وإزاحة حاجتهم؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - إنما اشتغل بقراهم، لم يشتغل بالسؤال عن أحوالهم، ولكن اشتغل بما ذكرنا فجاء بعجل حنيذ، وهذا هو الأدب في الضيف، ألا ترى أنه لو كان سأل عن أحوالهم، فعرف أنهم من الملائكة لكان لا يشتغل بما ذكر؛ إذ عرف أنهم من الملائكة والملائكة لا يتناولون شيئًا من الطعام. وقوله: (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: الحنيذ: السمين، وهو ما ذكر في موضع آخر: (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحنيذ هو المشوي الذي خد في الأرض خدًّا، فحمي فشوي بالحجر المحمي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحنيذ هو المشوي الذي يسيل منه الماء. وقال ابن عَبَّاسٍ: الحنيذ: النضيج.

(70)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) قَالَ بَعْضُهُمْ: نكرهم وأنكرهم واستنكرهم: واحد، وهو من الإنكار، أي: لم يعرفهم؛ ظن أنهم لصوص؛ لأن اللصوص من عادتهم أنهم كانوا إذا أرادوا السرقة من قوم لم يتناولوا من طعامهم، ولم يأكلوا شيئًا عندهم. وقيل: نكرهم أنهم برمن البشر. (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً). قيل: أضمر منهم خوفًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: خاف لما ظن أنهم سراق ولصوص؛ حيث لم يتناولوا شيئًا مما قدم إليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خيفة، أي: وحشة: أي: أضمر وحشة، حيث لم يتناولوا شيئًا مما قرب إليهم؛ فحينئذ علم أنهم ليسوا من البشر؛ لأن منزل إبراهيم كان ينأى من البلد، ولم ينزل أحد من البشر إلا وقد احتاج إلى الطعام، فلما لم يتناولوا علم أنهم ليسوا من البشر، فما جاءوا إلا لأمر عظيم: لتعذيب قوم وهلاكهم؛ فخاف لذلك؛ فقالوا: (لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ) وقال في موضع آخر: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً. . .) الآية. وقال في موضع آخر: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ). وقال في موضع آحْر: (لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ)، وقال: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) يذكر هاهنا أن قولهم: (إِنَّا أُرْسِلْنَا) على أثر سؤال، وفيما نحن فيه لا كذلك؛ فالمعنى فيه - واللَّه أعلم - أن ذلك كان على أثر سؤال إبراهيم بقوله: (فَمَا خَطْبُكُمْ)، لكنه جمع ذلك فيما نحن فيه بالحكاية عن قولهم، وإن كان مفصولا عنه، وخرجت الحكاية في موضع آخر على ما كان في الحقيقة، وذلك مستقيم في كلام العرب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَ بَعْضُهُمْ: قائمة على رءوس الأضياف؛ لأنها كانت عجوز، ولا بأس لعجوز ذلك؛ ألا ترى إلى قول اللَّه - تعالى - (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ. . .) الآية.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (قَائِمَةٌ) من وراء الباب، لكن لسنا ندري أي ذلك كان؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَضَحِكَتْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ضحكت، تعجبًا من خوف إبراهيم أنهم لصوص، وهم كانوا ثلاثة أو أربعة، دون عشرة، وكان خدم إبراهيم - عليه السلام - يبلغ عددهم ثلاثمائة، على ما ذكر في القصة ضحكت تعجبًا؛ إذ كيف يخاف من نفر عددهم دون عشرة، وعنده من الخدم ما يبلغ عددهم ما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ضحكت؛ تعجبا مما بشروها بالولد، وقد بلغ سنها ما بلغ من الكبر وهو كذلك، وقالت: أحق أن ألد وقد بلغت من السن كذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ضحكت أي: حاضت، من قولهم: ضحكت الأرنب إذا حاضت، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وعكرمة. وقال الفراء: (فَضَحِكَتْ): حاضت غيرُ مسموع ولا معروف فعلى تأويل من قال: إنها ضحكت تعجبًا مما بشرت بالولد فهو على التقديم والتأخير، كأنه قال فبشرناها بإسحاق ومن وراء أسحاق يعقوب فضحكت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ضحكت سرورًا بالأمن منهم؛ لأنهما خافا منهم. وقوله: (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ). ظاهر هذا أنها بشرت بإسحاق، ومن وراء أولاد إسحاق أولاد يعقوب، ولكن لم يكن يعقوب ولد من إبراهيم؛ إنما ولد من إسحاق، وهو: حافد إبراهيم أبي إسحاق فتأويله من وراء إسحاق حافد؛ فإنما البشارة بالولد وبالحافد، وهو كقوله: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً). وقال في هذه السورة: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ)، وقال في موضع آخر: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ).

(72)

فإن كان على ما قالوا إنها كانت قائمة وراء الباب؛ فيكون إقبالها خروجها إلى القوم، وإن كان قيامها على رءوسهم؛ فيكون معنى الإقبال هو الإقبال في ضرب وجهها وصكها، لكن ذلك من القدوم، لكنه على الإقبال بفعل ما أخبر عنها من صك وجهها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) وقال في موضع آخر: (وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) وقال هاهنا: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ). هي لم تتعجب من قدرة اللَّه أنه قادر على أن يهب الولد في كل وقت؛ ولكنها تعجبت لما رأت العادة في النساء والرجال أنهم إذا بلغوا المبلغ الذي كانوا هم لم يلدوا؛ فتعجبها أنها تلد في الحال التي هي عليها، أو يُردَّان إلى حال الشباب؛ فعند ذلك يولد لهما، وكلاهما عجيب بحيث الخروج على خلاف العادة، لا بحيث قدرة الرب، وهو كما ذكرنا من قول زكريا: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) وفي موضع آخر: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)، وقوله: أنى يكون لي غلام في الحال التي أنا عليها أو يردُّ لي شبابي، فعلى ذلك قولها (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) قال أهل التأويل: أتعجبين من قدرة اللَّه هذا؟ لكنه يحتمل وجهين: أحدهما أي: لا تعجبي من أمر اللَّه هذا وكثيرا مما رأيت أمثال ذلك في أهل بيتك. والثاني [ ..... ] وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ). يشبه أن يكون هذا صلة قوله: (قَالُوا سَلَامًا)؛ لأنه معلوم أنهم لم يقولوا سلامًا حسب، لم يزيدوا على هذا؛ بل زادوا؛ فكأنهم قالوا: سلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، أو قالوا: سلام اللَّه ورحمته وبركاته عليكم. (أَهْلَ الْبَيْتِ). بالنصب؛ كأنه قال يا أهل البيت، كقوله - عليه السلام - حيث قال: " تركت بعدي

(74)

الثقلين: كتاب اللَّه وعترتي: أهل بيتي "، أي: يا أهل بيتى. (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ). يحتمل حميد الذي يقبل اليسير من المعروف ويعطي الجزيل كالشكور، والمجيد: من المجد والشرف. وقيل: الحميد: المحمود، والمجيد: الماجد وهو الكريم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) قيل: الروع هو الفرق والفزع الذي دخل فيه بمجيء الملائكة. (وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى). في الولد والحافد، وفي نجاة لوط وأهله، وهو ما ذكرنا في قوله: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ). قال بعض أهل التأويل: مجادلته إياهم في قوم لوط ما ذكر في القصة أنه قال لهم: أرأيتم إن كان فيهم من المؤمنين كذا تعذبونهم؟ قالوا: لا ونحوه من الكلام فإن ثبت هذا، وإلا لا نعلم ما مجادلته إياهم وأمكن أن تكون مجادلته إياهم في دفع العذاب عنهم أو تأخيره دليله قوله: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) ويحتمل مجادلته إياهم في استبقاء قوم لوط؛ شفقة عليهم ورحمة، لعلهم يؤمنون ويقبلون ما يدعون إليه؛ لئلا ينزل بهم العذاب: ما أوعدوا يتشفع إليهم ليسألوا ربهم أدق يبقيهم واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) قيل: الحليم هو الذي لا يكافئ من ظلمه ولا يجازيه به، أو يحلم عن سفه كل سفيه (أَوَّاهٌ)، قيل: الأواه: الموقن، بلغة الحبش، وقيل: الأواه: المتأوه، وهو الدعاء وكثير الدعاء، وقيل: الأواه: المتقي الذي لا يفتر لسانه عن ذكره، وقيل: الأواه: الحزين فيما بينه وبين ربِّه. في هذه الأحرف الثلاثة جميع أنواع الخير والطاعة ما كان فيما بينه

(76)

وبين ربه، وما كان بينه وبين الخلق، حيث ذكر أنه حليم وأنه أواه، وأنه منيب، والمنيب، قيل: المخلص لله وقيل: هو المقبل إلى اللَّه بقلبه وبدنه، وقد ذكرنا هذا في سورة التوبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) يعني: عن المجادلة التي كان يجادلهم (إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي: جاء ما أمر به ربك، وجاء موعودهم، وأنهم (آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) أي: غير مدفوع لا يحتمل الرد بالشفاعة. ويحتمل قوله: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) عن المجادلة التي، ذكر أنه قد جاء أمر ربك بالانصراف والرجوع عنك. ويحتمل: جاء أمر ربك من إنزال العذاب بهم. * * * قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ): قوله (سِيءَ بِهِمْ) قيل: أي: ساءه مجيئهم ومكانهم وكرههم لصنيع قومه بالغرباء مخافة أن يفضحوهم (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) أي: لم يدر كيف يصنع بهم، وكيف يحتال ليدفع عن ضيفه سوء قومه. والذرع: قيل: هو المقدرة والقوة، أي: ضاق مقدرته وقوته (وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) قيل: فظيع شديد؛ لأنه يوم يهتك فيه الأستار، ويفضح الرجال. وفيه دليل جواز الاجتهاد؛ لأنه قال: يوم عصيب فظيع، فبعد لم يظهر له شدته لكنه قاله اجتهادًا، واللَّه أعلم.

(78)

ثم قوله: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) يحتمل: أن يكون قوله: (سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) لما جاءته الرسل بإهلاك قومه ساءه ذلك، وضاق به ذرعًا كذلك أيضًا. ويحتمل قوله: (سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا)، بسوء صنيع قومه بأضيافه، الحرفان جميعًا ينصرفان إلى لوط لمكان قومه، أو لمكان أضيافه، أو يكون أحد الحرفين لمكان ضيفه، والآخر لمكان ما ينزل بقومه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالَ بَعْضُهُمْ: يسرعون إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أي: يهرولون إِلَيْهِ، وهو سير بين السعي وبين المشي بين بينين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله، (يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أي: يروعون إليه، من الروع، أي: فزعين إليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) هذا يحتمل وجهين: يحتمل قوله: (وَمِنْ قَبْلُ) أي: من قبل أن يبعث لوط رسولا إليهم كانوا يعملون السيئات. ويحتمل قوله: (وَمِنْ قَبْلُ) أي: من قبل نزول الأضياف بلوط كانوا يعملون السيئات، والسيئات تحتمل الشرك وغيره من الفواحش التي كانوا يرتكبونها، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) اختلف في قوله: (بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بنات قومه؛ لأن الرسل هم كالآباء لأولاد قومهم ينسبون إليهم؛ ألا ترى إلى قوله: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ). وفي حرف ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (وهو أب لهم كما أزواجه أمهاتهم والنبي أب لهم)؛ فعلى ذلك يحتمل قول لوط: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي) أراد بنات قومه فنسبهن إلى نفسه؛

لما ذكرنا أنه كالأب لهم. ثم يحتمل معنى جعل النبي لأولاد قومه كالأب، وأزواجه كالأم وجهين: أحدهما: نسبوا إليه للشفقة، فهو أشفق بهم من الأب والأم. أو: لحق التربية وتعليم الدِّين كالأب لهم؛ فهو أولى بهم من أنفسهم لهذين الوجهين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بنات نفسه. ثم اختلف فيه. قَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك منه تعريضا لهم للنكاح؛ يقول: هَؤُلَاءِ بناتي هن أطهر لكم نكاحًا إن كنتم قابلين للإيمان. ومنهم من قال: هو تعريض منه لما هو زنا عندهم، لا أنه عرض ذلك عند نفسه، وهذا كما يقولون بأن من أكره على أن يشتم محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلا بأس بأن يشتم ويقصد بشتمه محمدًا آخر يحل له شتمه، وإن كان عند المكره أنه يشتم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد أن جعل الشاتم في قلبه غيره، وكذلك إذا أكره على أن يشتم الإله، فيقصد بالشتم شتم آلهتهم، وإن كان عندهم أنه إنما يشتم إلهه الذي يعبده؛ فعلى ذلك يحتمل قول لوط: (هُنَّ أَطْهَرُ لَكم) تعريض زنا عندهم، وإن كان عنده أنه ليس لذلك يقصد. وقال قائلون: قال هذا ليريهم قبح الفعل الذي كانوا يقصدون بأضيافه؛ لأن الزنا كان عندهم محرما فعرض عليهم بناته؛ ليعرفوا قبح ذلك الفعل؛ حيث احتمل فعله في بناته ولم يحتمل في أضيافه؛ ليمتنعوا عن ذلك. أو يحتمل أن يكون قال ذلك وإن كان كلاهما لا يحلان، لكن أحدهما أيسر وأهون، ويجوز الجمع بين شرين؛ فيقال: هذا أطهر لكم وأحل من هذا، وهذا أيسر من هذا وأهون، وإن كان كلاهما شرين، فالزنا وإن كان حرامًا فذلك مما يحل بالنكاح، وأدبار الرجال لا تحل بحال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا يخطبون بناته، وكان أبى أن يزوجهن منهم؛ لما لم يكونوا

(79)

كفؤًا لهن، ثم عرض عليهم في ذلك الوقت؛ ليعلموا قبح ذلك الفعل الذي قصدوا بأضيافه، أو كلام نحو هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) وقال في موضع آخر: (فَلَا تَفْضَحُونِ)، ليعلم أن الإخزاء هو الفضيحة؛ هذا يدل أن الخزي هو الذي يفضح من نزل به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هم أن يزوج بعض بناته من يصدر لرأيه فيمنعهم عنهم؛ كأنه يقول: أليس منكم من يرشد ويصدر لرأيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي: أليس منكم رجل يقبل الموعظة، ويرشدكم، ويعظكم، أو يقول: أليس منكم رجل رشيد على النفي فيمنعهم عما يريدون ويقصدون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) على التأويلين اللذين ذكرناهما يكون: الحق: حق النكاح، أو حق الاستمتاع، وفي بعض التأويلات من حق: من حاجة، وبذلك يقول عامة أهل التأويل: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ) أي: من حاجة (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ) يعنون: الأضياف (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) أي: قوة في نفسي (أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) قيل: عشيرته. والركن الشديد عند العرب: العشيرة؛ يقول: لو أن لي بكم قوة في نفسي أو عشيرة يعينوني لقاتلتكم؛ فيه دلالة أن من رأى آخر على فاحشة فله أن يقاتله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ) تأويله - واللَّه أعلم -: أنك تعلم أن ليس لنا في بناتك من حق كما ليس لنا في أضيافك من حق فكيف تمنعنا عنهم وتعرض علينا بناتك، فهن فيما ليس لنا فيهن حق كأُولَئِكَ، واللَّه أعلم. (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) قيل: قالوا ذلك للوط: لن يصلوا إليك؛ لما طمسوا أعينهم، وهو كقوله: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُر). وقال قائلون قالوا ذلك للوط لما أوعدوا للوط، حين طمست أعينهم أن ضيفك سحروا أبصارنا، فستعلم غدًا ما تلقى أنت وأهلك، فقالوا عند ذلك: لن يصلوا إليك بسوء غدًا بأنهم يهلكون. ودل قوله: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) على أنهم قد هموا للوط وأوعدوه حتى قال ما قال؛ ألا ترى أن الملائكة قالوا له: إنهم لن يصلوا إليك، فهذا على ما ذكرنا.

(82)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) قيل: قطع من الليل: آخره وهو وقت السحر. وقيل: هو ثلث الليل، أو ربعه من آخره، وهو واحد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ): (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) قيل: لا يتخلف أحد منكم إلا أمرأتك؛ فإنها تتخلف، ويصيبها ما أصاب أُولَئِكَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا يَلْتَفِتْ) من الالتفات والنظر. وقيل: لا يترك أحد منكم متابعتك إلا امرأتك؛ فإنها لا تتبعك، فيصيبها ما أصاب أُولَئِكَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) يحتمل النهي عن الالتفات، كأنه يقول: لا يلتفت أحد. ويحتمل الخبر كأنه يقول: لا يلتفت منكم أحد إلا من ذكر، وهو زوجته، فذلك علامة لخلافها له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ)، فقالوا: (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ): كأن لوطًا استبطأ الصبح لعذابهم، فقالوا: أليس الصبح بقريب، هذا من لوط لا يحتمل أن يكون قال ذلك وهو بين أظهرهم، ويعلم أن قراه يقلب أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها، ولكن قال ذلك - واللَّه أعلم - بعدما أخرجوه وأهله من بين أظهرهم، فعند ذلك قال ما قال، واستبطأ وقت نزول العذاب بهم؛ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) يحتمل: جاء الأمر بالمراد بأمرنا. أو أمره هو جعله عاليها سافلها. ثم قال أهل التأويل قوله: (جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) أدخل جبريل جناحه تحت قريات لوط، فرفعها إلى السماء، ثم قلبها فجعل ما هو أعلاها أسفلها، فهوت إلى الأرض؛ فذلك قوله: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) قيل: أهوى بها، جبريل من السماء إلى الأرض.

(83)

وأمكن أن يكون إذا أهلكهم جعلهم تحت الأرض؛ فذلك جعل أعلاها أسفلها، لكن أهل التأويل حملوه على ما ذكرنا، وأجمعوا على ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قلبت القرى، وجعل أعلاها أسفلها، على ما ذكر، وأرسل الحجارة على من كان غائبا عنها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أمطر الحجارة عليها، ثم قلبها جبريل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمطر عليها الحجارة بعدما قلبها جبريل، فسواها، وكل واحد منهم كان غائبا عن بلده جاءت حجار مكتوب عليها اسمه [فقتلته] حيث كان، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ سِجِّيلٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: السجيل: هو اسم المكان الذي منه رفع الحجر الذي أمطر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو طين مطبوخ كالآجر. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: [سَنْك وكِلْ] (¬1) (مَنْضُودٍ) نضد الحجر بالطين وألصق بعضه ببعض. (مُسَوَّمَةً (83) معلمة، مخططة، سود الحمرة. ¬

_ (¬1) في الكتاب المطبوع هكذا [سَنْك وجيل]، والتصويب من زاد المسير لابن الجوزي، ونصه (أنها بالفارسية سَنْك وكِلْ، السنك: الحجر، والكل: الطين). اهـ واللَّه أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مُسَوَّمَةً)، أي: مكتوب عليها اسم صاحبها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ما هي من ظلمة قوم لوط ببعيد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما هي من ظالمي أهل أمكة، وحواليهم ببعيد، أي: عذاب الله ليس ببعيد، فهو، يعذبهم إن شاء. ويحتمل قوله: (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي: تلك القرى والأمكنة التي أهلك أهلها ليست ببعيدة من مشركي أهل مكة، وهو ما ذكر: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ) الآية، وفيه تذكير منته على هذه الأمة، حيث لم يجعل عذابهم عذاب استئصال بحيث لا يملكون العود عنه والرجوع، ولكن جعل عذابهم الجهاد، حتى لو أرادوا الرجوع عنه ملكوا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

(84)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى مَدْيَنَ ... (84) أي: إلى مدين أرسلنا، (أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) هذا قد ذكرنا فيما تقدم: أن كل نبي أول ما دعا قومه إنما دعا إلى توحيد اللَّه، وجعل العبادة له. وفي قوله: (أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) وما ذكر في غيره من الأخوة دلالة على أن الرسل من قبل كانوا يبعثون من جنس قومهم لا من الملائكة حيث قال: (أَخَاهُمْ شُعَيْبًا)، ومعلوم أنهم لم يكونوا إخوة لهم في الدِّين، وفيه أن المؤاخاة لا توجب فضيلة المؤاخى له؛ لأنه ذكر أن الرسل، إخوة أُولَئِكَ الأقوام، ومنهم كفرة، وذلك يرد قول الروافض في تفضيل علي على أبي بكر بالمؤاخاة التي كانت بين رسول اللَّه وبين علي؛ والخلة توجب الفضيلة، وقد جاء عنه عليه السلام أنه قال: " لو اتخذت سوى ربي خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ)، ذكر أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ولا يوفون الناس حقوقهم، فنهاهم عن ذلك، فهو - واللَّه أعلم - لوجهين: أحدهما: أنهم إنما نهوا عن ذلك؛ لحق الربا؛ لأن النقصان إذا كان برضا من صاحبه يجوز؛ فدل أنه إنما نهاهم بحق الربا، وفيهما يجري الربا.

(85)

والثاني: فيه أن أهبة، المشتري للبائع، وتقلبه أفيه، قبل قبضه على قيام البيع فيما بينهما غير جائز؛ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) قيل: في سعة من المال. وقيل: في رخص من السعر، وإنما يحمل المرء على النقصان والظلم على آخر - عز الشيء وضيق الحال، فكيف تنقصون أنتم في حال السعة ورخص السعر. أو يقول: (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) في غير هذا، فلا تظلموا الناس في هذا، ولا تمنعوا حقوقهم، (وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ)، أي: يوم يحيط بهم العذاب إن كانت الإحاطة مضافة إلى اليوم فهو محيط بالكل، وإن كانت الإحاطة مضافة إلى العذاب، فهو محيط بالكفرة خاصة، وهو - واللَّه أعلم - أنه ما من جارحة من ظاهرة وباطنة إلا وقد يصيبها العذاب، ويحيط بها، ليس كعذاب الدنيا يأخذ جزءًا دون جزء، بل يحيط به، والنهي بتخصيص نقصان الكيل والميزان لا يدل على أن لم يكن فيهم من المآثم والإجرام سوى ذلك، لكنه خص هذا؛ لما كان الظاهر فيهم نقصان الكيل والوزن، فذكر ذلك، وهو ما خص قوم لوط بقوله: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) و (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ. . .) الآية. ذكر هذا وخصهم، ليس على أنهم لم يكونوا يأتون من الفواحش غيرها، لكن خص هذا؛ لأن الظاهر فيهم هذا؛ فعلى ذلك نقصان الكيل والميزان في قوم شعيب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) خص المكيال والميزان. واللَّه أعلم - لما كانوا يطففون المكيال وينقصون الميزان؛ رغبة فيهما، وفيهما يجري الربا، كما ذكرنا.

(86)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)، فيه دلالة أن المشتري يملك المبيع قبل أن يقبضه؛ لأنه قال: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) أضاف إلى الناس أشياءهم، فلو كان لا يملك، لم يكن أشياء الناس، إنما كان أشياء البائع، فإنما نقص ماله. وقوله: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، وهو ما ذكر في موضع آخر: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالَ بَعْضُهُمْ: ما أبقى اللَّه لكم من ثوابه في الآخرة خير لكم إن آمنتم به، وأطعتموه مما تجمعون من الأموال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ) أي: ما جعل اللَّه لكم مما يحل خير لكم مما يحرم عليكم من نقصان الكيل والوزن، (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالحلال أو بالآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: طاعة اللَّه - وهو ما يأمركم به، ويدعوكم إليه - خير لكم مما تفعلون. وقال الحسن: رزق اللَّه خير لكم من بخسكم الناس حقوقهم، لكن هذا يرجع إلى ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) يحتمل: ما أنا عليكم بحفيظ، أي: لست أشهد بياعاتكم وأشريتكم حتى أعلم ببخسكم الناس المكيال والميزان، لكن إنما أعرف ذلك باللَّه، وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي: بمسلط عليكم، إنما أبلغ إليكم، كقوله: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ).

(87)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قال بعض أهل التأويل: صلاتك، أي: قراءتك تأمرك هذا. وقال ابن عَبَّاسٍ: قالوا ذلك له؛ لأن شعيبًا كان يكثر الصلاة، كأنه يخرج على الإضمار يقولون: أصلواتك تأمرك بأن تأمرنا بترك عبادة ما عبد آباؤنا. وقوله: (أَصَلَواتُكَ) يحتمل أنها كانت صلوات، معروفة يفعلها، فيقولون: أصلواتك التي تفعلها تأمرك أن نترك كذا، أم صلاة واحدة تكثرها، فقالوا: (أَصَلَاتُكَ)، وخصوا الصلاة من بين غيرها من الطاعات؛ لما لعلها كانت من أظهر طاعاته عندهم، فقالوا له هذا. ثم يحتمل وجهين: أحدهما: كأنهم، قالوا: (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ. . .) كذا على التسفيه له والتجهيل، كمن يوبخ آخر ويسفهه، فيقول له: أعلمك يأمرك بذلك، أو إيمانك يأمرك بهذا، كقوله: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ)، ونحوه من الكلام يخرج على التسفيه له أو التجهيل. والثاني: يقال ذلك على الإنكار، يقول الرجل لآخر: إيمانك يأمرك بذلك، أو علمك يأمرك بهذا، أي: لا يأمرك بذلك، فعلى ذلك يحتمل قول هَؤُلَاءِ: (أَصَلَاتُكَ

تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) أي: لا تأمرك بذلك، هذا إذا كانت الصلاة التي ذكروها مرضية عندهم، فإن لم تكن مرضية، فالتأويل هو الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)، الآية، حبب إليهم تقليد آبائهم في عبادة الأصنام واتباعهم إياهم والأموال التي كانت لهم، أفمنعهم هذا، عن النظر في الحجج والآيات؛ لما حبب إليهم ذلك، وهكذا جميع الكفرة إنما منعهم عن النظر في آيات اللَّه والتأمل في حججه أحد هذه الوجوه التي ذكرنا: حب اللذات، ودوام الرياسات، والميل إلى الشهوات، ظنوا أنهم لو اتبعوا رسل اللَّه وأجابوهم إلى ما دعوهم إليه - لذهب عنهم ذلك. ثم قوله: (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) يحتمل: قضاء جميع الشهوات. ويحتمل: ما ذكر من نقصان المكيال والميزان، يقولون: أموالنا لنا ليس لأحد فيها حق، نفعل فيها مانشاء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ): الألف صلة " وأن نفعل في أموالنا ما نشاء ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: قالوا ذلك له؛ استهزاء به وسخرية، كنوا بالحليم عن السفيه، وبالرشيد عن الضال، أي: أنت السفيه الضال؛ حيث سفهت آباءنا في عبادتهم الأصنام، الضال، حيث تركت ملتهم ومذهبهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: على النفي والإنكار، أي: ما أنت الحليم الرشيد.

(88)

ويشبه أن يكون على حقيقة الوصف له بالحلم والرشد؛ لأنهم لم يأخذوا عليه كذبا قط، ولا رأوه على خلاف ولا على سفَاهة قط؛ فقالوا: (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)، أي: كنت هكذا؛ فكيف تركت ذلك، وهو ما قال قوم صالح لصالح حيث قالوا: (قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) أي: على علم وبيان وحجج وبرهان من ربي، على ما ذكرنا فيما تقدم، أي: تعلمون أني كنت على بيان من ربى وحجج، (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا): يحتمل هذا منه مكان ما قال أُولَئِكَ الأنبياء: (وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أي: قال شعيب: (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا)، الدِّين والهدى، والنبوة على ما ذكر وأمكن أن يكون الرزق الحسن هو الأموال الحلال الطيبة التي لا تبعة عليه فيها فقال ذلك؛ وما رزق أُولَئِكَ عليهم تبعة في ذلك؛ لأنهم اكتسبوها من وجه لا يحل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) من الناس من يقول: قال لهم ذلك بإزاء ما قالوا فيما ذكر في الأعراف: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) يقول: أدعوكم إلى الإيمان باللَّه والتوحيد له، وأنهاكم عن الكفر به، ثم أرتكب ما أنهاكم عنه، وأترك ما أدعوكم إليه؟! وقال قتادة: لم أكن لأنهاكم عن أمر وأرتكبه، وهو واحد (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي: ما أريد إلا الإصلاح لكم ما استطعت، وفيه دلالة على أن الاستطاعة تكون مع الفعل لا غير، أما أن يكون أراد: استطاعة الإرادة أو استطاعة الفعل، فكيفما كان، فقد أخبر أنه يريد لهم من الصلاح ما استطاع، ففيه ما ذكرنا، وهو ينقض على المعتزلة مذهبهم؛ لأنهم يقولون: الاستطاعة تتقدم على الفعل، وهي لا

(89)

تبقى وقتين؛ فيصير على قولهم إرادة الصلاح لهم في غير زمن الاستطاعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: التوفيق: هو صفة كل مطيع، والخذلان: هو صفة كل عاص. وقَالَ بَعْضُهُمْ: التوفيق: هو ما يوفق بين فعله وقوله في الطاعة، والخذلان ما يفرق بين قوله وفعله في المعصية. وقال الحسين النجار: التوفيق: هو قدرة كل خير وطاعة، والخذلان: هو قدرة كل شر ومعصية. وعندنا: التوفيق: هو أن يوفق بين عمل الخير والاستطاعة، والخذلان: هو أن يفرق بين عمل الخير والاستطاعة. أو أن نقول: هو أن يوفق بين عمل الشر والاستطاعة، وهما واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي: عليه اعتمدت في جميع أمري، وإليه توكلت، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، أي: أرجع. أو يقول: إليه أقبل بالطاعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ ... (89) بالغرق، (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) بالريح الصرصر، (أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ) بالصيحة على ما ذكر. قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي: لا يحكملنكم (شِقَاقِي) قيل: خلافي أن يصيبكم مثل ما أصاب أُولَئِكَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي: لا يؤثمنكم (شِقَاقِي) أي: عداوتي أن يصيبكم مثل ما أصاب أُولَئِكَ. وقيل: (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي: لا يكسبنكم عداوتي. وقال الحسن: (شِقَاقِي): ضراري.

(90)

لكن كله يرجع إلى معنى واحد؛ لأنه إذا ثبت العداوة، ثبت المخالفة والبغض والضرر، فكل ما ذكروا فهو واحد. وأصل الجرم: الإثم والذنب. ثم يخرج إنذاره إياهم بمن هلك من الأمم على وجهين: أحدهما: أن قوم شعيب قوم لا يؤمنون بالبعث وبالقيامة، فأنذرهم بمن هلك من الأمم السالفة؛ لأنه لو كان ينذرهم بالبعث، لكان لا ينجح فيهم؛ لأنهم لا يؤمنون به. والثاني: أنذرهم بأُولَئِكَ؛ لأنهم كانوا يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان، ويتبعونهم، فيقول: إنكم تقلدون آباءكم وتتبعونهم في عبادة الأوثان فاتبعوهم -أيضًا- فيما بلغوا إليكم من هلاك أُولَئِكَ بعبادتهم الأوثان، وتكذيبهم الرسل، فإذا قلدتموهم في العبادة فهلا تقلدونهم وتتبعونهم فيما أصابهم بم أصابهم؟ أو يقول لهم: إنكم تقلدون آباءكم الذين عبدوا الأوثان وقد هلكوا، فهلا تقلدون من لم يعبد منهم ونجا وقد أعرفتم أن من هلك منهم بم هلك؟ ومن نجا منهم بم نجا؟ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) أي: إن نسيتم من مضى منهم، فلا تنسوا ما نزل بقوم لوط، وليسوا هم ببعيد منكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) أي: اطلبوا من ربكم المغفرة؛ أي: اطلبوا السبب الذي يقع لكم المغفرة من ربكم، وهو التوحيد (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي: ارجعوا إليه، ولا تعودوا إلى ما كنتم من قبل.

(91)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي: ارجعوا إليه رجوعًا حتى لا تعودوا إلى مثل صنيكعم أبدًا (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) يرحم من تاب إليه، واللَّه يرحمه (وَدُودٌ) يحتمل وجهين: أحدهما: ودود: أي: حق أن يودّ؛ إذ منه كل شيء وكل إحسان، والناس جبلوا على حب من أحسن إليهم. والثاني: ودود لمن توسل إليه وتقرب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قوله: (مَا نَفْقَهُ) يحتمل: ما نفهم وما نعقل كثيرًا مما تقول؛ كأنهم يقولون ذلك على الاستهزاء والهزء به؛ كأنهم نسبوه إلى الجنون؛ يقولون: لا نفهم ما تقول؛ لأن كلامك كلام مجانين. وهذه هي عادة القوم؛ كانوا ينسبون الرسل إلى الجنون. ويحتمل: ما نفقه: ما نقبل كثيرًا مما تقول، فإن كان على الفهم فهو كقوله: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، وهم كانوا في يقين: فريق كانوا يقولون: قلوبنا أوعية للعلم؛ كقولهم: (قُلُوُبنَا غُلْفٌ) فإن كان ما تقول حقًّا نفهم ونعقل كما نعقل غيره، وفريق قالوا: (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) كانوا يعقلون أنهم لا يفهمون ولا يفقهون؛ لأن قلوبهم في أكنة وفي آذانهم وقر، والفريق الأول يقولون: إن قلوبنا أوعية للعلم، فلو كان حقًا لعقلناه كما عقلنا غيره، فهَؤُلَاءِ كانوا يصرفون العيب إلى الرسول، وأُولَئِكَ إلى أنفسهم، فعلى ذلك قوم شعيب يحتمل أن يكون قولهم كذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: أي: إنك لست من كبرائنا وأجلتنا، إنما أنت من أوساطنا، وعلى ذلك الأنبياء إنما بعثوا من أوساط الناس، لا من كبرائهم في أمر الدنيا، فالقوي والعزيز عند أُولَئِكَ القوم من عنده الدنيا والمال، وأما من لم يكن عنده المال فهو عندهم ضعيف ذليل؛ لأنهم لا يعرفون الدِّين، ولا يؤمنون بالآخرة، لذلك قالوا ما قالوا.

(92)

والثاني: لست أنت بذي قوة وبطش في نفسك، وقد ذكر أنه كان ضعيفًا في بصره ونفسه. ويحتمل وصفهم بالضعف لهذين الوجهين، واللَّه اعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا رَهْطُكَ) أي: قبيلتك. وقيل: عشيرتك (لَرَجَمْنَاكَ) الرجم: يحتمل: القتل، ويحتمل: اللعن والشتم. ثم يحتمل قوله: (وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) وجهين: أحدهما: (وَلَوْلَا رَهْطُكَ) أي: لولا حرمة رهطك وإلا لرجمناك؛ كأنهم كانوا يحترمونه لموافقة رهطه إياهم في العبادة أعني عبادة الأوثان، وعلى ما هم عليه. والثاني: لولا رهطك لرجمناك خوفًا منهم لما ذكر أنه كان كثير العشيرة، والقبيلة؛ كانوا يخافون عشيرته فلم يؤذوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) أي: ما أنت من أجلتنا وكبرائنا، إنما أنت من أوساطنا أو (وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) أي: ما أنت من أجلتنا؛ لأن العزيز عندهم من كان عنده المال والدنيا، لا يعرفون العزُ في غير ذلك، ولم يكن عند شعيب الدنيا لذلك نسبوه إلى ما ذكر: أو أنت ذليل عندنا، لست بعزيز، فيكون صلة قوله: (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا) والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) هذا يخرج على وجهين: يحتمل يا قوم، أرهطي أعظم حقًّا عليكم من اللَّه وأكثر حرمة حتى تركتم ما أوعدتمونى من النقمهَ لحقهم وحرمتهم؟! والثاني: قوله: (يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ) أي: رهطي أشد خوفًا عليكم وأكثر نكاية من اللَّه؛ لأنا قلنا في قوله: (وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) أنه يخرج على وجهين: أحدهما: الاحترام لرهطه لموافقتهم إياهم في جميع ما هم عليه، والمساعدة لهم. والثاني: على الخوف والنكاية لقوتهم، وكثرتهم، وفضل بطشهم تركوا ما وعدوا له خوفًا من رهطه، فقال: خوفكم من رهطي أشد وأكثر عليكم من الخوف من اللَّه، وقد بلغكم من نكاية اللَّه ونقمته فيما حل بالأمم الماضية.

(93)

أو حرمة رهطي عندكم وحقهم أعظم من حق اللَّه وحرمته، وقد تعلمون إحسانه إليكم وانعامه عليكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي: حملتموه على ظهركم وحملهم إياه على ظهرهم إسخاطهم إياه، قال: تقول: العرب: فلان حمل الناس على ظهره: أي: أسخطهم على نفسه. ولكن لا ندري أيقال هذا أم لا. فَإِنْ قِيلَ هذا فهو يحتمل ما قال، وهو قول أبي بكر الأصم. وقال غيره من أهل التأويل: قوله: (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي: نبذتم اللَّه وراء ظهركم، أي: نبذتم حق اللَّه وأمره وكتابه الذي أنزله إليكم وراء ظهركم، لا تعملون به، ولا تكترثون إليه، هو كالمنبوذ وراء ظهركم؛ هذا على التمثيل أي: جعلوا أمر الله ودينه الذي دعوا إليه كالمنبوذ وراء ظهرهم، لا يعملون به ولا ينظرون إليه، ولا يكترثون وهو ما ذكر في قوله: (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ)، وقوله: (انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) على التمثيل، أي: الذي أنتم عليه في القبح كالانقلاب على الأعقاب (إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) هذا يخرج على وجهين -أيضًا-: أي: إن ربي بما تعملون من الأعمال الخبيثة محيط فيجزيكم بها، أو يقول: إن ربي بما تعملون من الكيد برسول اللَّه والمكر به محيط فينصره عليكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أن كونوا على دينكم الذي أنتم عليه، وأنا أكون على ديني؛ كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، لأن قوم شعيب قالوا لشعيب: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) فقال لهم هذا عند ذلك، وهذا إنما يقال عند الإياس عن إيمانهم، كقوله: (لَا حُجَّةَ بَينَنَا وبَينَكُم)، وأمثاله. والثاني: قوله: (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ) أي اعملوا في كيدي، والمكر في هلاكي، إني عامل ذلك بكم، وهو كما قال غيره من الرسل: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ) وقوله: (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)، ونحوه.

(94)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في العاقبة وعيد من يأتيه عذاب يخزيه، أو سوف تعلمون في العاقبة من يأتيه منا عذاب يخزيه نحن أو أنتم ومن هو كاذب، وتعلمون -أيضًا- في العاقبة من الكاذب منا فحن أو أنتم؛ لأن كل واحد من الفريقين يدعي على الفريق الآخر الكذب والافتراء على اللَّه، فيقول: سوف تعلمون في العاقبة من الكاذب منَّا والمفتري على اللَّه، والصادق عليه (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أي: ارتقبوا هلاكي، وأنا أرتقب هلاككم، أو ارتقبوا لمن العاقبة منا لنا أو لكم إني معكم رقيب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ... (94) هذا قد ذكرناه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) قيل: الصيحة صيحة جبريل؛ أي: هلكوا بصيحته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصيحة: اسم كل عذاب، وكذلك الرجفة؛ سمي العذاب بأسماء مختلفة: مرة صاعقة، ومرة صيحة، ومرة رجفة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) هذا -أيضًا- قد ذكرناه فيما تقدم. قال بعض أهل التأويل: قوله: (أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ) في الهلاك (كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ): كما أهلكت ثمود؛ لأن كل واحد منهما هلك بالصيحة فمن ثم اختص ذكر ثمود من بين الأمم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لم يعذب بعذاب واحد إلا قوم شعيب وصالح؛ فأمَّا قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب من فوقهم. قال: فنشأت لهم سحابة فيها عذابهم، فلم يعلموا كهيئة الظلة فيها ريح، فلما رأوها أتوها يستظلون تحتها من حر الشمس، فسالَ عليهم العذاب من فوقهم، فذلك قوله: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ). وقوله: (أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) من رحمته. ويحتمل الهلاك الذي ذكرناه، واللَّه أعلم.

(96)

قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) وهي الحجج. يحتمل قوله: (بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) واحد، على التكرار، فإن كانت الآيات هي الأوامر والنواهي، وما يؤتى وما يتقى فقوله: (وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) هي الحجج والبراهين على ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) قد ذكرنا أن الملأ هو اسم لشيئين: اسم الجماعة، واسم الأجلة والأشراف، وهو كان مبعوثا إلى الأشراف من قومه، وإلى الجماعة جميعًا؛ خص بعثه إلى فرعون وقومه وإن كان مبعوثا إلى الكل؛ لما العرف في الملوك أنهم إنما يخاطبون الكبراء منهم والأشراف، وإن كان المقصود من الخطاب، الكل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما ذكر في حم المؤمن حيث قال لهم: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) فأطاعوا فرعون في قوله؛ يقول اللَّه: (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي: يهدي، أو يقول: ما الأمر الذي عليه فرعون برشيد؛ بل هو ضلال. ولكن عندنا أنهم أطاعوا فرعون في جميع أمره ونهيه في عبادة الأصنام وغيره، وهو ما ذكر: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي: ليس بهدى؛ بل كان أمره ضلالا؛ حيث كان هو ضالا مضلا.

(98)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: صار قدامهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يقدم أي: يقود قومه إلى النار حتى يوردهم النار. ويحتمل قوله: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) أي: يكون إمامًا لهم يوم القيامة يتبعون أثره، كما كان إمامهم في الدنيا فاتبعوه؛ كقوله: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)، وكقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، أخبر أنهم يكونون أئمة لهم في الآخرة. ويشبه أن يكون قوله: (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أي: دعاهم في الدنيا، وأمرهم بأمور توردهم النار تلك الأعمال كقوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)، أي: ما أصبرهم على عمل أهل النار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يتبعونه حتى يدخلهم النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: بئس المدخل المدخول، والورد هو الدخول، والمورود المدخول؛ سمي الجزاء باسم سببه. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جميع ما ذكر في القرآن من الورود فهو دخول منهم، قوله: (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) وقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)، وقوله: (أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا)، فقال: واللَّه ليردنها كل بر وفاجر (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا). وقوله: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) يحتمل: اللعنة في الدنيا: العذاب الذي نزل بهم. ويحتمل لعن الخلائق يلعنهم من ذكرهم. وفي الآخرة يحتمل الوجهين جميعًا. يحتمل: يعذبون في الآخرة -أيضًا- كما عذبوا في الدنيا. ويحتمل: لعن الخلائق -أيضًا- من رآهم لعنهم، واللعن هو الطرد في اللغة: طردوا عن رحمة اللَّه ولم يرحموا في عذاب الدنيا، ولا يرحمون في عذاب الآخرة.

(100)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) عن ابن عَبَّاسٍ: (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) يقول: لعنة الدنيا والآخرة. وقال قتادة: ترادفت عليهم لعنتان من اللَّه: لعنة الدنيا، ولعنة الآخرة، ولكن على زعمهم يجيء أن يقال: الردف من الترادف. وقَالَ بَعْضُهُمْ؛ الردف العون، وهو قول الْقُتَبِيّ. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الرفد: العطية، والمرفود: المعطى؛ يقال: رفدته: إذا أعطيته وأعنته، كما يقال: بئس العطاء المعطى، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: بئس ما أعطوا وأعينوا، وبئس المعطى، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) قوله: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى): ذلك ما سبق من ذكر القرى والقرون في هذه السورة من أنباء الغيب نقصه عليك؛ ألتفهم رسالتك بها، ولتكون آية لنبوتك؛ لأنك لم تشاهدها، ولا اختلفت إلى أحد منهم فتعلمت منهم، ولا كانت الكتب بلسانك فيقولون: نظرت فيها فأخذت ذلك منها، ثم أنبأت على ما كان وقصصت عليهم؛ ليعلم أنك إنما عرفت باللَّه، فتكون آية لرسالتك.

(101)

وقوله: (مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) قال بعض أهل التأويل (مِنْهَا قَائِمٌ): ترى مكانها وتنظر إليها، ومنها حصيد لا ترى له أثرًا ولا مكانًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قائم: أي: خاوية على عروشها، وحصيد: مستأصلة. وعن الحسن قال: منها قائم وما حصد اللَّه أكثر، أي: وما أهلك اللَّه من القرى أكثر. وأصله عندنا: منها قائم؛ نحو قرى عاد وثمود ومدين، أهلك أهلها وبقيت القرى لأهل الإسلام؛ لأنه يقول في قرى عاد: (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) الآية، ومنها حصيد: ما أهلك أهلها والقرى جميعًا نحو قوم نوح؛ أهلكوا ببنيانهم، ونحو قريات قوم لوط أهلكت بأهلها أيضًا حتى لم يبق لا الأهل ولا البنيان، فذلك - واللَّه أعلم - تأويل قوله: (مِنْهَا قَائِمٌ) هلك أهلها وبقي البنيان، ومنها حصيد: هو ما أهلك البنيان بأهله، حتى لم يبق لها أثر، وفيه وجوه ثلاثة: أحدها: آية لرسالته؛ لما ذكرناه وعبرة لأهل التقوى، وهو ما ذكر في آخره: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ) أي: عبرة لمن خاف عذاب الآخرة، وزجرًا لأهل الشرك والكفر؛ لأنهم يذكرون ما نزل بأُولَئِكَ فينزجرون عن صنيعهم فيه. هذه الوجوه التي ذكرناها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) قوله: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ) فيه وجهان: أي: لم نظلمهم؛ لأنهم وبنيانهم ملك لله - تعالى - وكل ذي ملك له أن يهلك ملكه، ولا يوصف بالظلم من أتلف ملكه، وهم ظلموا أنفسهم إذ أنفسهم ليست لهم في الحقيقة وكذلك بنيانهم، ومن أتلف ملك غيره فهو ظالم. والثاني: أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه؛ يقول: وما ظلمناهم بالعذاب؛ إذ هم يستوجبون ذلك بما ارتكبوا، فلم نضع العذاب في غير موضعه؛ بل هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها؛ حيث صرفوها إلى غير مالكها وعبدوا غيره، فهو ظلم؛ هذا التأويل في أنفسهم، وأما البنيان فهو، أنه إنما جعله لهم، فإذا هلكوا هم أهلك ما جعل لهم، إنما أبقي لهم ما داموا، فأما إذا بادوا هم فلا معنى لإبقاء البنيان.

وما ذكر من ظلمهم أنفسهم يحتمل وجوهًا: أحدها: ظلموا أنفسهم بعبادتهم غير اللَّه. والثاني: ظلموا أنفسهم بصرفهم الناس وصدهم عن سبيل اللَّه وعن عبادة اللَّه وتوحيده إلى عبادة غير اللَّه. والثالث: ظلموا أنفسهم بسؤالهم العذاب. وقوله: (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) في هذا وجهان: أحدهما: ما أغنت عنهم عبادة آلهتهم التي عبدوها من دون اللَّه لما جاء أمر ربّك؛ أي: عذاب ربك؛ كقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ. . .) الآية، يخبر أن عبادتهم الأصنام لا تنفعهم المنفعة التي طمعوا. والثاني: فما أغنت عنهم أنفس آلهتهم في دفع العذاب عنهم في أحوج حال إليها؛ لعجزهم في أنفسهم وضعفهم؛ كقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ) فإذا لم يملكوا ذلك في وقت الحاجة إليهم فكيف يملكونه في غيره من الحال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) يحتمل: ما زاد عبادتهم إياها غير تتبيب، أو ما زاد آلهتهم التي عبدوها غير تتبيب. والتتبيب: قال عامة أهل التأويل: هو التخسير. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: غير تتبيب: غير فساد، والتتبيب: الفساد. وكذلك قال في قوله: (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) أي: فساد. وقال غيره: إلا في خسار وقال غيره: غير تخسير. وكذلك قالوا في قوله: (تَبتْ)، أي: خسرت. وقال أبو عبيدة: غير تتبيب: غير تدبير وإهلاك. وكذلك قالوا في قوله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) وكذلك قالوا في قول الناس: تبًّا لك.

(102)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: غير تتبيب غير شر، والتتبيب: الشر، والتبّ: الشر والخسران، وهما واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) أي: هكذا يأخذ كفار هذه الأمة كما أخذ أُولَئِكَ، أي: كما عذبنا الأمم الخالية وهي ظالمة مشركة كافرة، كذلك نعذب هذه الأمة لكن أخر عن هذه الأمة، وفيه رحمة (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)، أي: أن أخذه بالعذاب أليم شديد، الأخذ نفسه يوصف بالشدة، ولكن لا يوصف بالألم، والعذاب يوصف بالألم، لكن لما وصف بالألم والشدة دل أن الأخذ أخذ بعذاب، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) هو ما ذكرناه: فيه عبرة لأهل التقوى ولمن خاف عذاب الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) خصّ الناس بالذكر وإن كان الجمع لهم ولغيرهم؛ لأن الآية التي ذكر تكون لهم آية، أو لما هم المقصودون بالجمع بذلك اليوم - واللَّه أعلم - قيل: يجمع فيه الأولون والآخرون (وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يشهده أهل السماء وأهل الأرض للعرض والحساب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) أي: ما نؤخر العذاب عن هذه الأمة إلا لأجل معدود، وذكر هذا - واللَّه أعلم - جواب ما استعجلوه من العذاب بقولهم: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ونحوه، فقال: وما نؤخر العذاب عنهم إلا لأجل معدود، إلا لوقت موقوت؛ أي: إلا لأجل معدود عند اللَّه، ولو كان ما ذكر ابن عَبَّاسٍ أنه سبعة آلاف فيكون معدودًا عند الناس، ويكون وقت القيامة معلومًا على قوله، وقد أخبر اللَّه: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ) واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) أي: لا تكلم نفس بالشفاعة لأحد إلا بإذنه؛ كقوله: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)، أو لا تكلم نفس لأهوال ذلك اليوم ولفزعه؛ كقوله: (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ

(106)

هَوَاءٌ) وكقوله: (لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) أو لا تكلم نفس من الأجلة والعظماء لأحد من دونهم بالشفاعة إلا بإذنه، وهو ما ذكرناه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ): فمنهم شقي بأعماله الخبيثة التي إذا اختارها وعملها أدخلته النار، ومنهم سعيد بما أكرم من الطاعة والخيرات التي إذا اختارها وعملها أدخلته الجنة، وكل عمل يعمله فيدخله الجنة فهو سعيد به، وكل عمل يعمله فيدخله النار فهو شقي به. روي في ذلك خبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزلت هذه الآية: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا نبي اللَّه، فعلام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه أو شيء لم يفرغ منه؟ قال: " بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له " فإن ثبت هذا فهو يدل لما ذكرناه، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ... (106) لما ذكرناه (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قال بعضهم: الزفير هو كزفير الحمار في الصدر، وهو أول ما ينهق، وأمَّا الشهيق فهو كشهيق الحمار في الحلق، فهو آخر ما يفرغ من نهيقه، فهو شهيق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الزفير هو ما لا يفهم منه شيء إنما هو كالأنين والجزع من شيء يصيبه لا يتبين منه؛ كقوله: (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)، والشهيق هو ما يرتفع منه الصوت يسمى شهيقًا. ويحتمل ما ذكر من الزفير والشهيق أنهم يصيرون بعد كثرة دعائهم وندائهم حتى يكون منهم الزفير والشهيق لا يفهم؛ كصوت الدواب إذا أصابها ألم.

(107)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) عن الحسن قال: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ): تبدل سماء غير هذه السماء، وأرض غير هذه الأرض، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض؛ لأن السماء هذه أخبر أنها تنشق وتطوى وتبدل؛ كقوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَا)، و (يَوْمَ نَطْوِي) و (يَوْمَ تُبَدَّلُ)، ونحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) إنما هو صلة الكلام؛ كأنه قال: خالدين فيها إلا ما شاء ربك، وقد يتكلم بمثل هذا على الصلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يدوم لهم العذاب أبدًا ما دامت السماوات والأرض الأهل الدنيا ما كانوا فيها؛ لأئهما إنما تفنيان بعد فناء أهلها وإحياء الأهل والبعث، فأخبر أن العذاب يدوم لهم كما يدوم لأهل الدنيا السماء والأرض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) أي: ما دامت سماء الجنة وأرض الجنة، وسماء النار وأرض النار، لكن ذكر هذا لئلا يتوهم أهل الجنة والنار قبل هلاك سمائها وأرضها على ما يتوهم في توهم هلاك أهل الدنيا قبل هلاك سمائها وأرضها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) أي: ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء، يتكلمون على ما بعد من أوهامهم فناؤهما، أو على الصلة؛ يقول الرجل لآخر: لا أكلمك ما دام الليل والنهار: أي أبدًا. هذا تأويل قوله: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) وأما قوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) قال بعضهم: إن ناسًا من أهل التوحيد يعذبون في النار على قدر ذنوبهم وخطاياهم ثم يخرجون منها. وقد روي في ذلك آثار؛ روي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي اللَّه عنهما - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الاستثناء في الآيتين كلتيهما لأهل الجنة "، يعني:

الذين يخرجون من النار من أهل التوحيد (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) يقول: لم يشقوا شقاء من يخلد في النار وقال في الذين سعدوا إلا ما شاء ربك هم أُولَئِكَ الذين لم ينالوا من السعادة ما نال أهل الجنة الذين لم يدخلوا النار. وفي بعضها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أما من يريد اللَّه إخراجه من النار، فإنهم يماتون فيها إماتة ". وقال في خبر آخر: " أما من يريد اللَّه له الخلود فلا يخرجون منها " وأمثال هذا من الأخبار، فإن ثبت هذا فهو المعتمد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) أي: قد شاء لأهل النار الأبد والخلود، وشاء لأهل الجنة عطاء غير مجذوذ؛ أي: غير منقطع. ويؤيد هذا التأويل ما ذكر في حرف ابن مسعود وأبي: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) في الآيتين؛ وفي الآية الأولى: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) وفي الأخرى: (ما دامت السموت والأرض عطاء غير مجذوذ) وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبي أنهما لم يذكرا الثنيا في أهل الجنة، وأصل هذا ما ذكر أبو عبيد قال: الاستثناء الذي هو في أهل السعادة فهو المشكل؛ لأنه يقال: كيف يستثني وقد وعدهم خلود الأبد في الجنة. وقال في ذلك أقوالا لا أدرى إلى من تسند، إلا أن لها مخارج في كلام العرب وشواهد في الآثار، وإنما يتكلم الناس في هذا على معاني العربية، واللَّه أعلم بما أراد. قال: فأحد هذه الوجوه في الاستثناء فيما يقال كالرجل يوجب على نفسه الشيء ليفعلنه، ثم يقول -: إن شاء اللَّه، وعزمه وضميره مع استثنائه أنه فاعله، لا يريد غيره. ومما يقوي هذا المذهب قول اللَّه - تعالى -: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، فاستثنى، وقد علم أنهم داخلوه ألبتَّة. ومنه ما روي في حديث مكة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين قال: " ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ".

(108)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: استثنى المنشد وهي لا تحل له، كما لا تحل لغيره. والوجه الثاني بأن يكون " إلا " في معنى سوى؛ فإن العرب تفعل ذلك؛ تقول: عليك ألف درهم من قبل كذا وكذا، إلا الألف التي قبل ذلك؛ أي: سوى الألف التي قبل ذلك وغير الألف التي قبل ذلك، وإلا الألف التي قبل ذلك، فيكون المعنى على هذا أنه وعدهم خلود الأبد سوى ما أعد لهم من الزيادة في الكرامة والمنزلة التي لم يذكرها لهم. ومما يقوي هذا التأويل ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " قال اللَّه - تعالى -: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما اطلعتم عليه " ثم قرأ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. . .) الآية. أفلا ترى أن هاهنا من الزيادة ما لم يطلعهم عليه. والوجه الثالث: أن يكون الاستثناء من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين البعث والحساب، وقد قيل ما ذكرناه أنه ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ الذي ذكر، إلى أن يصيروا إلى الجنة، ثم هو خلود الأبد؛ يقول: فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في الحساب. ومما يقوي هذا المذهب ما قيل في قوله: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قيل: ما بين الموت والبعث، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فقد اختلف القراء في قراءتها؛ قرأها الكسائي وحمزة. بضم السين (سُعِدُوا) وأما أبو عمرو وأهل المدينة وغيرهم من القراء قرءوا بفتح السين (سَعِدُوا) على قياس (شَقُوا). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: لا أعرف سُعدوا بضم السين، وإنَّمَا هو سَعدوا بفتح السين. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي: غير مقطوع؛ كقوله: (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا) أي قطعًا، وقد ذكرنا قولهم في الزفير والشهيق على قدر حفظنا له.

(109)

قوله تعالى: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) تأويله - واللَّه أعلم -: لا تكن يا مُحَمَّد في شك بأن هَؤُلَاءِ قد بلغوا في عبادتهم الأصنام والأوثان الحد الذي بلغ آباؤهم في عبادتهم الأصنام والأوثان فأهلكوا إذا بلغوا ذلك الحد، فهَؤُلَاءِ -أيضًا- قد بلغوا ذلك المبلغ؛ أي: مبلغ الهلاك، لكن اللَّه برحمته وفضله أخره عنهم إلى وقت. أو يقال: إن هَؤُلَاءِ قد بلغوا في العبادة لغير اللَّه بعد نزول القرآن والحجة المبلغ الذي كان بلغ آباؤهم قبل نزول الحجة والبرهان في عبادتهم غير اللَّه. أو كان في قوم قد أظهروا الموافقة لهم، وكانوا يعبدون الأصنام في السر على ما كان يعبد آباؤهم، فقال: هَؤُلَاءِ وإن أظهروا الموافقة لك فقد بلغوا بصنيعهم في السر مبلغ آبائهم، واللَّه أعلم هذا يحتمل وجهين: أحدهما: إخبار عن قوم خاص أنه لا يؤمن أحد منهم؛ ليجعل شغله بغيرهم. والثاني: إخبار ألا يؤمن جميع قومك كما لم يؤمن قوم موسى بأجمعهم؛ بل قد آمن منهم فريق، ولم يؤمن فريق، فعلى ذلك يكون قومك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: وإنا لموفوهم نصيبهم في الدنيا من الأرزاق، وما قدر لهم من النعم (غَيْرَ مَنْقُوصٍ)، لا ينقص ما قدر لهم؛ أي: لا يهلكون حتى يوفى لهم الرزق. وقال قائلون: (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) أي: لا ينقصون من أعمالهم شيئًا، ولا يزادون عليها، إن كان حسنا فحسن، وإن كان شرا فشر؛ فهو على الجزاء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) يقول: إنا نوفر لهم حظهم من

(110)

العذاب في الآخرة، غير منقوص عنهم ذلك العذاب. وقوله: (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) إن كان التأويل في قوله: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) على الإياس من قوم علم اللَّه منهم أنهم لا يؤمنون، فيكون تأويله ما ذكر في آية أخرى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ. . .) الآية، وإن كان الثاني فهو ما ذكر في آية أخرى قوله: (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ (110) أي: التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي: اختلف في الكتاب، والاختلاف فيه يحتمل وجوهًا ثلاثة: أحدها: في الإيمان به والكفر منهم، من آمن به، ومنهم من كفر. والثاني: اختلفوا فيه: في الزيادة والنقصان، والتبديل والتحويل والتحريف؛ كقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ. . .) الآية، وكقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ. . .) الآية. وقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) وأمثاله من الآيات. والوجه الثالث: من الاختلاف: اختلفوا في تأويله وفي معناه بعد ما آمنوا به وقبلوه، فالاختلاف في التأويل مما احتمل كتابنا، وأمّا التبديل والتحويل والتحريف، والزيادة والنقصان فإنه لا يحتمل لما ضمن اللَّه حفظ هذا الكتاب بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وقال: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ. . .) الآية وجعله ميسرًا على ألسن الناس وقلوبهم، حتى من زاد، أو نقص، أو بدل، أو حرَّف شيئًا أو قدم، أو أخَّر عرف ذلك، فهو - واللَّه أعلم - لما لا يحتمل إحكام هذا نسخها ولا شرائعه تبديلها، وأما الكتب السالفة فإنما جعل حفظها إليهم بقوله: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) فهو - واللَّه أعلم - لما احتمل شرائعها وأحكامها نسخها وتبديلها، لذلك كان الأمر ما ذكرناه. وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) ذكر هذا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصبره على ما اختلف فيه قومه في الكتاب الذي أنزل عليه؛ يقول: وقد اختلف فيما أنزل على من كان قبلك كما اختلف فيما أنزل عليك.

(111)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بالهلاك إهلاك استئصال واستيعاب. وكلمته التي سبقت تحتمل ما كان من حكمه أن يختم الرسالة بمُحَمَّد وأن يجعله خاتم النبيين، وأمته آخر الأمم، بهم تقوم الساعة، يحتمل أن يكون كلمته التي ذكر هذا الذي ذكرناه. وتحتمل وجهًا آخر: وهو أن كان من حكمه أنهم إذا اختلفوا في الكتاب والدِّين، وصاروا بحيث لا يهتدون إلى شيء، ولا يجدون سبيلا إلى الدِّين أن يبعث رسولا يبين لهم الدِّين، ويدعوهم إلى الهدى؛ لولا هذا الحكم الذي سبق وإلا لقضي بينهم بالهلاك. والثالث: لولا ما سبق منه أن يؤخر العذاب عن هذه الأمة إلى وقت وإلا لقضي بينهم بالهلاك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يحتمل الكملة التي ذكر أنها سبقت في قوم موسى، وهو أنه لا يهلكهم بعد الغرق إهلاك استئصال، والتوراة إنما أنزلت من بعد، فقد آمن أمن قومه قوم، وهو ما قال: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) يحتمل قوله: (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) في الدِّين (مُرِيبٍ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) يعني: من العذاب مريب وقد ذكرنا الفرق بين الشك والريب فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) قيل: (لَمَا) هاهنا صلة، يقول - والله أعلم -: وإن كلا [(لَيُوَفِّيَنَّهُمْ)] ربك جزاء أعمالهم في الآخرة إن كان شرًّا فشرّ، وإن كان حسنًا فحسن. ومن قرأ (لَمَّا) بالتشديد فتأويله يحتمل وجهين:

(112)

أحدهما: إلا. والثاني: لما؛ أي: " لَمِمْمَا " اجتمع فيها ميمات طرحت الواحدة وأدغمت إحداهما في الأخرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وهو وعيد. * * * قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) وقال في موضع آخر: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) قَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) الاستقامة هو التوحيد؛ أي: استقم عليه حتى تأتي به ربك؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) على ذلك حتى أتوا على اللَّه به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) بما تضمن قوله: (رَبُّنَا اللَّهُ) لأن قوله: (رَبُّنَا اللَّهُ) إقرار منه له بالربوبية، فيجعل في نفسه وجميع أموره الربوبية لله، والألوهية له، ويجعل في نفسه العبودية له؛ هذه هي الاستقامة التي ذكر، واللَّه أعلم، أن يجعل في نفسه وجميع أموره الربوبية لله، والألوهية له، ويأتي ما يجب أن يؤتى، وينتهي عما يجب أن ينتهي، ويتبع جميع أوامره ونواهيه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَقِمْ) لرسول اللَّه، يحتمل على تبليغ الرسالة إليهم. وقوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) يخرج على وجهين: أحدهما: استقم على ما أمرت ومن آمن معك -أيضًا- يستقيم على ما أمروا. والثاني: يقول: امض إلى ما أمرت حرف (كَمَا) يخرج على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما على ما أمرت، وإلى ما أمرت.

(113)

وقوله: (وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) من الشرك، ادعوهم على أن يستقيموا على ما أقروا وأدّوا بلسانهم (وَلَا تَطْغَوْا) قَالَ بَعْضُهُمْ الطغيان هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له. وقوله: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) هذا وعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) قال الحسن: هو صلة قوله: فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار. قال الحسن: بينهما دين اللَّه بين الركون إلى الظلمة، والطغيان في النعمة. الآية وإن كانت في أهل الشرك فهي فيهم وفي غيرهم من الظلمة أن كل من ركن إلى الظلمة يطيعهم أو يودهم فهو يخاف أن يكون في وعيد هذه الآية. (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) في دفع العذاب عنهم، أو إحداث نفع لهم. (ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) لا ناصر لهم دونه، ولا مانع، واللَّه أعلم. وتأويل قوله: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) في ظلمهم (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ. . .) الآية، وإن خرجت مخرج العموم فهي خاصة؛ لأنه لا كل ظلم يركن إليه تمسه النار، وكأنه إنما خاطب به الأتباع؛ يقول: لا تركنوا إلى الكبراء منهم والقادة في ظلمهم وفيما يدعونكم إليه فتمسكم النار. وقال بعض أهل التأويل نزل قوله: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين دعاه أهل الشرك إلى ملة آبائه؛ يقول: ولا تميلوا إلى أهل الشرك، ولا تلحقوا بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ... (114) صلاة المغرب، ظاهر هذا أن يكون فيها ذكر صلوات ثلاث: صلاة الفجر في الطرف الأول، وصلاة العصر في الطرف الأخير (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) صلاة المغرب؛ لأنه ذكر زلفًا من الليل، والزلف هي القرب منه؛ لأن الزلفى هي القربة والوسيلة إليه؛ فيكون قوله: (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)، أي: قريبًا من طرفي النهار من الليل، وهو المغرب، ويكون ذكر سائر الصلوات في قوله: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)، ذكر دلوك الشمس، وهو زوال الشمس، وغسق الليل: العشاء، أو في قوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)، (حِينَ تُمْسُونَ): صلاة العصر، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ): صلاة الفجر (وَعَشِيًّا): صلاة العشاء (وَحِينَ تُظْهِرُونَ): صلاة الظهر، وليس لصلاة المغرب ذكر في الآية، لكنها ذكرت في قوله: (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ).

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ): هو ساعات الليل، إلا أن بعض أهل التأويل صرفوها إلى الصلوات الخمس، وقالوا: قوله: (طَرَفَيِ النَّهَارِ): صلاة الصبح والظهر والعصر (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) المغرب والعشاء. وقال الحسن: هما زلفتان من الليل: صلاة المغرب وصلاة العشاء، وعلى ذلك جاءت الآثار في قوله (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) الحسنات هي الصلوات الخمس. وروي أن رجلا أصاب من امرأة كل شيء إلا الجماع، فندم على ذلك، فأتى رسول اللَّه، فسأله، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ما أدري ما أرد عليك حتى يأتيني فيك شيء من اللَّه. قال: فبينما هم كذلك إذ حضرت الصلاة، فلما فرغ من صلاته نزل عليه جبريل بتوبته فقال: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) غدوة وعشية، صلاة الغداة والظهر والعصر (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) صلاة المغرب والعشاء (إِنَّ الْحَسَنَاتِ) يعني: الصلوات الخمس (يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ). (ذَلِكَ): يعني: الصلوات الخمس (ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) قال: توبة للتائبين، فقرأ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال عمر: يا رسول اللَّه، أخاص له أم عام؟ قال، " لا، بل عام للناس كلهم " فإن ثبت هذا فهو الأصل في ذلك. وعن عثمان - في بعض الأخبار - أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " الصلوات الخمس الحسنات يذهبن السيئات " فقالوا: فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ فقال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وسبحان

اللَّه، والحمد لله، ولَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، واللَّهُ أَكْبَرُ، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الصلوات كفارات الخطايا، واقرءوا إن شئتم: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ). وعن ابن عَبَّاسٍ: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) قال: الصلوات الخمس. وعن جابر قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات ". والأخبار في هذا كثيرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فيه ذكر أربع صلوات، يقول: (طَرَفَيِ النَّهَارِ): الفجر والعصر (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ): المغرب والعشاء. وقد جاءت الآثار في أن الحسنات هن خمس صلوات. وقوله: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: فعل الصلوات نفسها، وهو ما ذكرنا من الأخبار إن ثبت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نفس الصلاة لا تكفر، ولكن تذكر ما ارتكب من الذنوب فيندم عليها؛ فذلك يكفر، وهو كقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. . .) الآية، أخبر أن الصلاة تنهى، ولا تنهى إلا بعد أن تذكر ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ)؛ أي: تمنع عن الفحشاء؛ أي: ما دام فيها. ويحتمل قوله: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) الصلوات وغيرها من الحسنات؛ فيه إخبار أن من الحسنات ما يكفر شيئًا من السيئات، واللَّه أعلم. وقوله: (ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (ذَلِكَ) الذي سبق ذكره (ذِكْرَى) عظة للمتعظين.

(115)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) ظاهر ما ذكر من الكلام أن يقول: فإن اللَّه لا يضيع أجر الصابرين؛ لأنه ذكر الصبر بقوله: (وَاصْبِرْ)، لكن يحتمل قوله: (وَاصْبِرْ) عن الشرور كلها وأحسن، فإن اللَّه لا يضيع أجر المحسنين؛ بل يجزيهم جزاء إحسانهم. أو يقول: اصبر على أداء ما كلفت من الطاعات، أو تبليغ ما كلفت التبليغ إليهم. ويحتمل وجهًا آخر: اصبر على أذاهم ولا تكافئهم فإذا لم تكافئهم، فقد أحسنت إليهم، فإن اللَّه لا يضيع أجر المحسنين، أو يقول هو له: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ) واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ): ساعات من الليل. وقال: الزلفة: المرحلة، والزلفة: القربة؛ كقوله: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى) أي: لقربة. وقال أبو عبيدة: الزلف: جمع زلفة، وهي الساعة، وهي المنزلة على ما قلناه. * * * قوله تعالى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وقوله - تعالى -: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا) وظاهر هذا يخرج على المعاتبة أو التنبيه والتذكير؛ لأنه يقول: (فَلَولَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ) أي: لم لا كانوا كذا؟ فليس ثم من أُولَئِكَ من يعاتب أو ينبه، لكنها تخرج على وجهين:

(117)

أحدهما: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ) أي: فهلا كانوا ذوي بقية (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ) معناه - واللَّه أعلم -: هلا كثر أهل الإسلام فيهم حتى قدروا على النهي عن الفساد في الأرض؛ لأنهم إذا كانوا قليلا لم يقدروا على النهي عن الفساد في الأرض؛ نحو لوط وأهله، كانوا عددًا قليلا كيف كان يقدر على النهي عن الفساد، أو المنع عن ذلك، وكنوح -أيضًا- كان معه نفر يقل عددهم، لم يقدروا على منع قومه عن الفساد ونحوه. فإذا كان ما ذكرناه فكأنه - واللَّه أعلم - يقول: هلا كثر أهل الإسلام وأولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض. والثاني: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: قد كان منهم أولو بقية، لكنهم لم ينهوا عن الفساد في الأرض، فأهلكوا جميعًا إلا قليلا ممن أنجينا منهم، وذلك القليل قد نهوا عن الفساد في الأرض، فنجوا بين أُولَئِكَ. حاصل هذا يخرج على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما: أحدهما: لم يكن منهم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض؛ على ما قاله بعض أهل التأويل. والثاني: كان فيهم أولو بقية، لكنهم لم ينهوهم عن الفساد في الأرض إلا قليلا منهم فإنهم قد نهوهم عن ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ) هو يخرج على وجهين: يحتمل: واتبع: الأتباع والسفلة الذين ظلموا من أترفوا فيه من الأموال أي: وسع عليهم وأعطوا الأموال وهم الأجلة والأئمة منهم أي: آثروا اتباع الأئمة والأجلة الذين أترفوا فيه على اتباع الرسل والأنبياء. والثاني: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم الأجلة والأئمة (مَا أُتْرِفُوا فِيهِ) أي: ما أعطوا من الأموال أي: آثروا الدنيا وما فيها على اتباع الرسل والأنبياء. أحد التأويلين يرجع إلى السفلة والأتباع، وهو الأول، والثاني إلى الأجلة والأئمة هم آثروا اتباع الدنيا على اتباع الرسل، ثم تبعهم الأتباع والسفلة في ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) أي: ما كان ربك ليهلك القرى إهلاك استئصال وانتقام وأهلها كلهم مصلحون، أو أكثر أهلها

(118)

مصلحون، إنما يهلك القرى إذا كان أهلها كلهم مفسدين، أو عامة أهلها مفسدين؛ هذا يدل على أن الحكم في الدار إنما يكون بغلبة أهلها: إن كان أكثر أهلها أهل الإسلام فالحكم حكم الإسلام، وإن كان عامة أهلها أهل الحرب والكفر فالحكم حكمهم، ولا يسمّى أهلها كلهم بالكفر والفساد إذا كان أكثر أهلها مصلحين؛ ألا ترى أنه قال في قوم لوط: (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ) سمى أهل القرية، قرية وإن كان فيها لوط وأهله مصلحون لم يعد لوطًا وأهله من أهلها. وقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ) أي: لا يكون في إهلاكهم ظالمًا. ثم هو يخرج على وجهين: أحدهما: أن الخلق له، فهو بإهلاكه لم يكن ظالمًا؛ لأنه أهلك ماله. والثاني: أنه إنما يهلكهم بظلم كان منهم؛ كقوله: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ. . .) الآية، أي: إنما يهلكهم بشيء اكتسبوه، فهم بما اكتسبوا ظلموا أنفسهم، وهو كقوله: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). وقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) قالت المعتزلة: هذه المشيئة مشيئة القهر والقسر، وذلك مما يدفع المحنة، ويزول لديه المثوبة والعقوبة، وكذلك في قوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا). وأما عندنا فلو شاء لجعلهم أمة واحدة، مشيئة لا تزول معها المحنة، والذي يدل عليه خصال: أحدها: أن اللَّه تعالى قد عرفنا الإيمان والدِّين الذي يقع به اجتماع، أو فيه الاختلاف بما ركب فينا من العقول التي بها نعرف حقائق الأشياء ومجازاتها، ومحاسن الأمور وقبيحها، بمعونة السمع أو بالتأمل فيما يحس بالأمرين جميعًا أنه لا يكون إلا بالاختيار، ولا يوصل إلى السبب الذي به يدان إلا بالاستدلال أو التعليم؛ إذ هو طاعة وتصديق، وذلك يكون ممن لا يحس، وطريقه الاجتهاد، وكل ذي أضداد القسر، فمحال أن يعود الكون لو شاء على وجه قد عرفنا أنه لا يكون سمعًا وعقلا، فيكون في الحقيقة كأنه قال لو شاء أن يكون لا يكون، على أن ذا من يقبل عنه هذه الدعوى على قولهم، وهو منذ كان الخلق بين أن كان فيما شاء إثباته من أفعال الخلق فلم يكن ولم

يشأ، فكان عندهم، فهو كمن ظهر عجزه بجميع أدلة العجز، ثم يدع أن له القدرة بها، يقهر ما يشاء، فذلك كمن لا يقوم للانتصاب والنهوض فيدع أنه يقدر على الصعود، أو من لا يملك إمساك مثل ذرة أنه ممسك السماوات والأرض. على أنه لو كان كذلك ليجيء أن يكون يقدر على فعل الكفر والسفه والكذب، إذ من يقدر على فعل شيء لا يقدر على فعل ضده عندهم ليس ذلك بقدرة. ثم لو كان ذلك كله بلا غير، يصير له فعلا، فكان يكون في الحقيقة سفيهًا كذوبًا، ومن كان ذلك وصفه فهو غير رب ولا حكيم، ومن ربوبيته تحت قدرة غيره أو حكمته تحتمل المضادات، فهو مسئول عما يفعل، مطالب بالحجج، فأنى يكون لمن ذلك وصفه ربوبية جل عن ذلك. والثاني: أن الذي يكون بالقسر والقهر يكون أمر الخلقة، لا أمر فعل العبد، وذلك في الحقيقة لله، لا للبشر، وما هو له من جهة الخلقة موجود؛ لأن نفس كل أحد بالخلقة مؤمن، وقد شاء اللَّه تلك المشيئة، فالقول بـ لو شاء لا معنى له؛ بل قد شاء وكان، ولا قوة إلا باللَّه. والثالث: أنه وعد أن لو شاء أن يجعل كذا لفعل؛ وهو لو فعل لكان يجعل من قد آمن منهم في الحقيقة مؤمنًا في المجاز، كافرًا في الحقيقة؛ لأنهم بهذا يصيرون أمّة واحدة؛ إذ صار كثير منهم مؤمنين بالاختيار، لا يحتمل أن يجعلهم على غير ذلك، فيكون محمودًا عدلا، واللَّه الموفق. ثم الأصل أن اللَّه - تعالى - قد جعل أدلة كل موعود في الحس ظاهرًا، وكل مقدور عليه بالوعد والدعوى له مما جبل عليه أمرًا بينًا، وهذا النوع من المشيئة عندهم والدعوى بما جعل جميع مانع لأن يكون كائنا، فيصير بالذي به ادعى لنفسه من القدرة مكذبًا بما جعل لمنع مثله الأدلة، ومن ذلك وصفه، فهو غير حكيم، جل اللَّه عن هذا. على أن المتأمل بما أخبر يجد حقيقته دون أن يحتاج إلى دليل يوضح قدرته على ما ادعى على بقاء المحنة سبيلا سهلا بحمد اللَّه لا يحتاج إلى ما ذكروا من المكابرة، وهو ما قال اللَّه - تعالى -: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً. . .) الآية.

ومعلوم أنهم لو كفروا جميعًا بما ذكر لكانوا مختارين، وإلى ما جاءوا به غير مضطرين، فإذا استقام كونهم على دين الكفر بذلك لا يحتمل ألا يوجب ذلك بقاء على الإيمان لو كانوا مختارين لذلك يستقيم كونهم على دين الإيمان مختارين، أو لو جعل ذلك للمؤمنين، فيقدرون على قولهم أن يجعلهم كفارًا بالمحنة، لا يقدر على أن يجعلهم مؤمنين بها؛ لأن ذلك وصف العجز عندهم، وإن كان لا يكون كذلك عندنا؛ لأنه يستقيم القول بالأقدار على إحداث غيره، ومحال القول على جعل غيره قديمًا، أو على إحواج غيره إليه لا يحتمل الوصف بالقدرة على إغناء غيره عنه، وعليهم أوضح؛ إذ أجازوا له القدرة على كل حركة للعبد وسكون بالاضطرار، ولم يجوزوا في ذلك بالاختيار، اللهم إلا أن يقولوا: لا يجوز أن يكون العبد غير كامل القدرة، وهي القدرة على مضادات الأشياء، واللَّه يجوز له الوصف بالقدرة الناقصة، فيكون قريبًا مما جعلوا للعبد قدرة على ما يجهل الرب، ويجعله كاذبًا فيما يخبر على بقاء الربوبية له، واللَّه لا يقدر على مثله في العبد على بقاء العبودية له بالمحنة، أو ما أقدروا العبد على إهلاك من وعد اللَّه فيه الإبقاء، ويريد ذلك، وذلك فضله، ووعد له مع ذلك أن يعطيه كذا، فيأتي معاند فيقتله، ويمنع الرب عن إنجاز وعده، وعن سلطان بقائه؛ جل الرب عن هذا، وذلك في قولهم فيما يضرب اللَّه لنبي أو صديق أجلا يرى به مصلحة عباده يقدر الكافر على قتله قبل مجيء ذلك الأجل، وإبطال جميع ما وعد [والإيفاء] بما هو صنيعه من إبقاء الحياة فيه، ولا يقدر اللَّه على إنجاز ما وعد وإيفائه على ما أراد، والعبد بحاله إلا أن يعجزه، أو يميته، أو يجعله زمنًا، واللَّه المستعان. ثم الأصل أن كل مريد بفعله فيما فعله أمرًا لا يكون ذلك، وهو لم يكن فعله إلا لذلك يوجب أحد أمرين في الحكمة: إما جهلا بالعواقب وخطأ بالفعل؛ كمن يفعل فعلا يحزن عليه أو يلحقه به مكروه، فهو لا يفعله له يظهر فاعله أنه عن جهل فعل، وعلى الخطأ خرج فعله، وعلى ذلك معنى التحذير في الخلق والتنبيه بقولهم: " لدوا للموت وابنوا للخراب " وسرق ليقطع، وبارز ليقتل من حيث كان والثاني متصلا بالأول ينبه عن الغفلة على إرادة التحذير أنه إليه يئول أمر فعله وعلى ذلك قوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ. . .)

(119)

أو أن يقال ذلك على أنه كذلك في فعله عند اللَّه وإن جهله هو، أو يوجب السفه في الفعل والعبث؛ إذ هو يقصد بفعله ما يعلم أنه لا يكون، أو يريد ما يتيقن أنه لا يبلغ، وإذا كان كذلك فإعطاء اللَّه - تعالى - القدرة ليؤمن، أو خلقه ليعبد، وأراد أنه يفعل ذلك، واختار ذلك الفعل، لذلك يوجب أحد ذينك الوجهين جل اللَّه عنهما وتعالى، وقد ثبت أن اللَّه - تعالى - عالم بالعواقب، متعالي عن العبث، ثبت أنه خلق من خلق، وأعطى ما أعطى لما علم أنه يكون، وقد علم ما يكون، وعلى هذا التقدير يخرج الأمر في قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ. . .) الآية، وقوله: (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ، الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) أنه خلقهم للذي علم أنهم يصيرون إليه من اختلاف أو اتفاق، أو عداوة أو ولاية، لا يريد غير الذي علم، ولا يعلم غير الذي يكون ممن يعلم ما يكون، ولا قوة إلا باللَّه. وقالت المعتزلة: قوله: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ... (119) أي: للرحمة خلقهم؛ فقال: بعض متكلمي أصحابنا: إن الرحمة تذكر بالتأنيث وهو إنما ذكر بالتذكير؛ حيث قال: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) ولم يقل: ولتلك خلقهم دل أنه ليس على ما يقولون. وقال قائلون: للاختلاف خلقهم إلا من رحم ربك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) أي: خلقهم لئلا يهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون. وعندنا ما ذكرنا أنه خلقهم للذي علم أنه يكون منهم، وأنهم يصيرون إليه من ألاختلاف أو الاتفاق، أو العداوة أو الولاية، لا يخلقهم لغير الذي علم أنه يكون منهم، ولا يريد -أيضًا- غير ما علم أنهم يصيرون إليه، ولا يعلم غير ما يكون منهم، والله الموفق. وتأويل المعتزلة في قوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) أنها مشيئة القسر والقهر، فذلك بعيد؛ لأنه لا يكون في حال القهر والاضطرار إيمان؛ لأن من أكره واضطر على الإيمان حتى آمن فإنه لا يكون إيمانه إيمانا، إنما يكون الإيمان إيمانًا في حال الاحنتيار إذا آمن مختارًا ممتحنًا فيه، فعند ذلك يكون إيمانه إيمانًا دل أن تأويلهم فاسد.

(120)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) تأويله - والله أعلم -: كل الذي نقص عليك أو قصصنا عليك من أنباء الرسل، نبأ بعد نبإ، ونبأ على إثر نبإ؛ ما نثبت به فؤادك. وقوله: (مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) يحتمل وجوهًا. أحدها: نثبت به فؤادك؛ لما يحتمل أن نفسه كانت تنازعه وتناقشه بأن الذي أنزل عليه أو يأتي به ملك، أو كان ذلك من إيحاء الشيطان وإلقائه عليه ووساوسه، فقص عليه من أنباء الرسل وأخبارهم؛ ليكون له آية بينه وبين ربه؛ ليعلم أن ما أنزل عليه وما يأتي به إنما هو ملك من اللَّه؛ جاء ليدفع به نوازع نفسه وخطراته؛ إذ لا سبيل للشيطان إلى معرفة تلك الأنباء، ولا في وسعه إلقاؤها عليه، فيكون له بها طمأنينة قلبه، وهو كقول إبراهيم؛ حيث قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى. . .) الآية، كأن نفس إبراهيم تنازعه في كيفية إحياء الموتى، فسأل ربه ليريه ذلك؛ ليطمئن بذلك قلبه، وإن كان يعلم أنه يحيي الموتى، وأنه قادر على ذلك. والثاني: قص عليه أنباء الرسل واحدًا بعد واحد؛ ليثبت به فؤاده ليعلم كيفية معاملتهم قومهم، وماذا لقوا من قومهم، وكيف صبروا على أذاهم ليصبر هو على ما صبر أُولَئِكَ، وليعامل هو قومه بمثل معاملتهم. ويشبه أن يكون قوله: (مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) بنبإ بعد نبإ؛ لتنظر وتتفكر في كل نبأ وخبر، وتعرف ما فيه، فيكون ذلك أثبت في قلبه، وهو كقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)، بإنزال الآية واحدة بعد واحدة، وسورة بعد سورة، وذلك أثبت في فؤاده من إنزاله جملة؛ لأنه يزدحم في مسامعه وفؤاده، وإذا كان بالتفاريق نظر وتفكر، فهو أثبت في قلبه وفؤاده، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ) أي: في هذه الأنباء التي قصها عليك جاءك فيها الحق، وهو ما ذكرناه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ) أي: في هذه السورة (الْحَقُّ)، وهو ما ذكر من

(121)

الأنباء: نبأ بعد نبإ، وهو كالأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْحَقُّ) أي: في هذه الدنيا الحق؛ يعني: الآيات والحجج والبراهين لرسالته ودينه (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي: جاءك ما تعظ به قومك، وتذكر به المؤمنين. وقوله: (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) خص المؤمنين بذلك لما يكون منفعة الموعظة والذكرى للمؤمنين، وإلا هو موعظة وذكرى للكل. * * * قوله تعالى: (وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) المكانة هي: المنزلة والقدر، يقول: اعملوا أنتم على مكانتكم ومنزلتكم التي لكم عند أتباعكم، كأنه يخاطب به الأشراف منهم والرؤساء (إِنَّا عَامِلُونَ) على المكانة والمنزلة التي لنا عند اللَّه فننظر أينا أرجح؟ نحن أو أنتم؟ وأينا أخسر نحن أو أنتم؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ) يخرج على وجهين: أحدهما: على التوبيخ والتخويف عندما بالغ في الحجاج فلم ينجع فيهم، فقال عند ذلك كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، ونحوه. والثاني: على الإعجاز مما أرادوا به من المكر والكيد بقوله: اعملوا ما تريدون وأنا أعمل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْتَظِرُوا ... (122) أنتم بنا ذلك (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) بكم ذلك. أو يقول هذا لما كانوا يوعدونه ويخوفونه من أنواع الوعيد، فيقول: انتظروا بنا ذلك ما تخوفوننا إنا منتظرون بكم ما نخوفكم نحن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) قال بعض أهل التأويل: ولله غيب

نزول العذاب وغيب ما في الأرض؛ كأنه خرج جواب ما سألوه من العذاب؛ كقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ)، وكقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، وقوله: (ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فقال: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: علم ذلك عند اللَّه، وكقوله: (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)، وأمثاله. ويشبه أن يكون جواب ما تحكموا على اللَّه من إنزال القرآن، وجعل الرسالة في غيره كقولهم: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، و (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)، فقال: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ. . .) الآية، وقال: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) فعلى ذلك قوله: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لا إلى الخلق، واللَّه أعلم بما أراد (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) إليه يرجع أمر الخلق كله وتدبيرهم (فَاعْبُدْهُ) أي: اعبده في خاص نفسك (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) في تبليغ الرسالة إليهم؛ أي: لا يمنعنك كيدهم ومكرهم بك عن تبليغ الرسالة، ولا تخافن منهم، فإن اللَّه يحفظك من كيدهم ومكرهم بك؛ كقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، و (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) هذا يؤيد ما ذكرناه؛ أي: ما ربك بغافل عما يريدون بك من كيدهم ومكرهمِ؛ بل يعلم ذلك، وينصرك، وينتصر منهم، وهو كقوله لموسى وهارون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46). أي: اسمع قوله وجوابه إياكما، وأرى ما يفعل، أي: أنصركما فلا تخافا؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه سبحانه وتبارك وتعالى أعلم. * * *

سورة يوسف

سُورَةُ يُوسُفَ عليه السلام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ). ذكر تلك، وهي كلمة إشارة إلى شيء سبق ذكره، ولم يتقدم فيه ذكر شيء يشار إليه، وذكر آيات -أيضًا- وليس هنالك ذكر آيات أو شيء يكون آية في الظاهر، لكنه يشبه أن يكون قوله: (تِلْكَ) بمعنى: هذه آيات، ويجوز استعمال " تلك " مكان " هذه "، على ما يجوز ذكر " ذلك " مكان " هذا "؛ كقوله: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) أي: هذا الكتاب. أو أن يكون قوله: (تِلْكَ) إشارة إلى ما في السماء، أي: الذي في السماء آيات الكتاب. أو يقول: (تِلْكَ) إشارة إلى أما في اللوح المحفوظ أو إشارة إلى ما في الكتب المتقدمة، أي: تلك آيات الكتاب. (الْمُبِينِ) يحتمل المبين أنها آيات الرسالة، أو بين أنها من عند اللَّه. وقوله: (آيَاتُ الْكِتَابِ) هذا -أيضًا- يشبه أن يخرج على وجهين: أحدهما: إشارة إلى الحروف المقطعة المعجمة فقال: تلك الحروف المقطعة إذا جمعت كانت آيات الكتاب. أو أن يكون اللَّه أراد أمرًا لا نعلم ما أراد، فيقول: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ)، أي: ذلك الذي أراد هو آيات الكتاب، واللَّه أعلم بما أراد. وقوله: (الْمُبِينِ). قيل: (الْمُبِينِ)، أي: ليبين فيه الحلال والحرام، وما يُؤتَى وما يُتقَى؛ كقوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليبين بركته وهداه ورشده، أو بين فيه الحق من الباطل، والعدل من الجور. والكتاب هو اسم ما يكتب، وسمي قرآنًا؛ لما يقرأ، وكتابًا؛ لما عن كتاب أخذ ورفع والقرآن لما قرئ عليه.

(2)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) قوله: (أَنْزَلْنَاهُ): الهاء كناية عن الكتاب الذي تقدم ذكره. (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أنزله بلسان العرب، ولا ندري بأى لسان كان في اللوح المحفوظ، غير أنه أخبر أنه أنزله بلسان العرب، وهكذا كل كتاب أنزل إنما أنزل بلسان المنزل عليهم، لم ينزل بغيو لسانهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). ما لكم وما عليكم، وما تأتون وما تتقون، أو تعقلون أن هذه الأنباء التي يخبركم بها مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من اللَّه - تعالى - لأنها كانت في كتبهم بغير لسانه، فأخبر على ما كانت في كتبهم؛ دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى. أو لعلكم تعقلون بأن فيه شرفكم؛ لأنكم تصيرون متبوعين لما يحتاج الناس إلى معرفة ما فيه، ولا يوصل ذلك إلا بكم فتكونون متبوعين والناس أتباع لكم؛ وهو كقوله: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، قال أهل التأويل: أي: فيه شرفكم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (نَحْنُ نَقُصُّ)، أي: نبين عليك أحسن البيان (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (نَحْنُ نَقُصُّ) أي: نخبرك أحسن ما في كتبهم من القصص، وأحسن ما في كتبهم من الأنباء والأحاديث. وقوله: (أَحْسَنَ الْقَصَصِ): أصدقه، وكذلك قوله (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا) وأحسن الحديث: أصدقه وأحسن القصص؛ أي: أصدقه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) أي: وقد كنتم من قبله (لَمِنَ الْغَافِلِينَ).

(4)

عن هذه الأنباء، وعن قصصهم؛ فهذا يدل أن الإيمان بجملة الأنبياء والرسل إيمان، وإن لم يعرف أنفس الأنبياء وأنفس الرسل وأساميهم؛ لأنه أخبر أنه كان غافلا عن أنبائهم، وعن قصصهم، ولا شك أنه كان مؤمنًا باللَّه مخلصًا، وباللَّه العصمة. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أحسن القصص: كلام الرحمن. وقال مجاهد: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ): كلام ربّ العالمين. وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) يخرج على وجهين: أحدهما: أن يكون الذي سألوا عنه رسول اللَّه عن قصة يوسف صيرورة بني إسرائيل بمصر، وقد كانوا من قبل بالشام، فقال: تلك الأنباء والقصص نجعلها آيات هذه السورة التي هي من الكتاب المبين. أو تلك آيات حجج وبراهين لرسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذ هي من أنباء الغيب عنهم، فعلم الأنباء عنها باللَّه سبحانه وتعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) دل قوله: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا) إن إخوة يوسف كانوا علماء وعيون الأرض، نجومًا يقتدى بهم ويهتدى؛ إذ بالنجوم يقتدى في الأرض، وبها يهتدون الطرق والمسالك. ودل قوله: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) حيث - خرج على أبويه - أنه كان بهما جميع منافع الخلق؛ إذ بهما صلاح جميع الأغذية في الأرض، ونضج جميع الفواكه والأنزال، وجميع المنافع التي بالناس حاجة إلى ذلك. ودل قوله: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) أن الرؤيا تخرج على عين ما رأى، وتخرج على غيره بالمعنى الذي يتصل به؛ لأنه رأى الكواكب

(5)

والشمس والقمر فخرج على إخوته وأبويه؛ كأن المراد بالكواكب والنجوم، غير الكواكب، وغير الشمس والقمر، وذلك لمعنى، وذكر السجود وخرج على عين السجود وحقيقته، وكذلك ما رأى إبراهيم في المنام ذبح ولده خرج الذبح على حقيقة الذبح هو ذبح الكبش، ورأى ابنه، وكان المراد منه الكبش، فهذا أصل لنا أن الخطاب يخرج والمراد منه على عين ذلك الخطاب لا غير، وقد يخرج لمعنى فيه، فإذا اتصل ذلك المعنى بغير، وجب ذلك الحكم. وفيه جواز الاجتهاد وطلب المعنى في المخاطبات، وكذلك ما ظهر في الناس من تعبير الرؤيا على الاجتهاد، يدل على جواز العمل بالاجتهاد. قال بعض أهل التأويل: إن يوسف لما قصَّ رؤياه على أبيه بين يدي إخوته قال له: هذه رؤيا النهار ليست بشيء. وقال ليوسف في السر: إذا رأيت رؤيا بعد هذا، فلا تقصها على إخوتك. لكن هذا كذب؛ فلا يجوز أن يكذب رسول اللَّه يعقوب يقول له: رؤيا النهار ليست بشيء، ثم يعبر له في السر، ولا يتوهم على نبي من أنبياء اللَّه الكذب، وهو كذب، فإن كان فهو بالأمر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) دل قوله: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ) على أن ما رأى يوسف من سجود الكواكب له، وسجود الشمس والقمر أنه إنما كان رأى ذلك في المنام، ويدل ما ذكر في آخره أيضًا على ذلك، وهو قوله: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ)، ودل قوله: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) أن يعقوب إنما عرف ذلك بالوحي؛ حيث قطع القول في قوله: (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا)، ولم يستثن في ذلك، وقد فعلوا به ما قال. وفيه دلالة أن إخوته قد كانوا يعرفون تعبير الرؤيا، وكانوا علماء حكماء؛ حيث قال: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ)، لأنهم لو كانوا لا يعرفون تأويلها ولا علموا تعبيرها لم يكن لينهاه عن أن يقص على إخوته؛ لأنه لو قصها أو لم يقصها إذا لم يعلموا سواء، وفيه دلالة أن الأخ لا يتهم في أخيه، ويكون من الأخ الخيانة إلى أخيه، والأب والأم

(6)

يتهمان في الابن، والولد يتهم في والديه، ولا يكون من بعض إلى بعض خيانة في الغالب؛ لأن يعقوب نهى ولده يوسف أن يقصها على إخوته، وأخبر أنهم إذا علموا بذلك كادوه وحسدوه، ولم ينهه بمثله في أمه؛ دل أن الأخ لا يتهم في شهادة أخيه، ويتهم الأب والأم في شهادتهما لولدهما، وكذلك الولد يتهم في والديه، ولهذا قال أصحابنا: إن شهادة الوالد لولده لا تقبل، وكذلك شهادة الولد لوالديه، وأما شهادة الأخ لأخيه تقبل وإنَّمَا كان كذلك؛ لما ينتفع الولد بمال والديه، والوالد بمال ولده، ولا ينتفع الأخ بمال أخيه، وكل من انتفع بمال آخر اتهم في شهادته له، ولم تقبل شهادته، وكل من لم ينتفع به قبلت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ). ظاهر العداوة. وقال موسى حين قتل ذلك الرجل: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) بدء كل شر يكون من الشيطان، يقذف في القلوب، ويخطر في الصدور، ثم تكون العزيمة على ذلك والفعل من العبد، وهو ما قال: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) وقال: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ. .) الآية. والطيف والنزغ: هو القذف والوسوسة، فإذا ذكر اللَّه ذهب. وقيل: الكيد والمكر سواء، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الكيد: هو الاحتيال والاغتيال. وقيل: الكيد: هو أن يطلب إيصال الشر به على غير علم منه؛ وكذلك المكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) تأويله - واللَّه أعلم - أي: كما اجتبى ربك أبويك بالرسالة والنبوة، واصطفاهم بأنواع الخيرات، وأتم نعمته عليهم، كذلك ليجتبيك ربك ويتم نعمته، عليك وعلى آل يعقوب.

(7)

ويحتمل قوله: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: كما اجتباك ربك بالرؤيا التي أراك، يفعل ذلك بك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ)، قيل: تدبير الرؤيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: علمه تأويل الصحف التي كانت لإبراهيم وغيره، وعلمه تأويل تلك الصحف والأحاديث. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق حين أراد ذبح ابنه، فجعل مكانه كبشا؛ فعلى ذلك يتم نعمته عليك، ويسجد لك إخوتك وأبويك. ثم من الناس من استدل بهذا أن الذبيح كان إسحاق؛ لأنه ذكر إتمام نعمته على إبراهيم وإسحاق. ودل قوله: (وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ) على أنه قد اجتباهم بالنبوة من بعد - أعني: أولاد يعقوب - لأن ولده من آله، وقد أخبر أنه يجتبيهم ويتم نعمته عليهم؛ كما فعل بأبويه: إبراهيم وإسحاق، وكذلك روي عن الحسن أنه قال في إخوة يوسف: نبئوا بعد ما صنعوا بيوسف ما صنعوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تأويل الأحاديث: العلم والكلام. قال: وكان يوسف أعبر الناس، وهو ما قال اللَّه - تعالى -: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) بما صنع به إخوته، أو عليم بما ذكر من التمام، (حَكِيمٌ): وضع كل شيء موضعه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ).

(8)

آية للسائل إذا كان السائل مسترشدًا، وكذلك القرآن كله، هو حجة وآية للمسترشد، وأما المتعنت فهو آية عليه. ثم يحتمل قوله: (آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ): السائلين الذين سألوا؛ على ما ذكر في بعض القصة أن اليهود سألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن أمر يوسف ونبيه، فأخبرهم بالحق في ذلك على ما كان، فهو آية لهم إن ثبت ذلك. ويحتمل قوله: (آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ): السائلين الذين يسألون من بعد إلى آخر الدهر عن نبأ يوسف، كل من سأل عن خبره ونبيه فهو آية لهم. ثم وجه جعله آية يحتمل وجوهًا: أحدها: أنه جعل قصة يوسف ونبأه سورة، وتلك السورة هي آيات الكتاب؛ على ما ذكر: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)؛ جعل قصة يوسف ونبأه، آيات من الكتاب. ويحتمل -أيضًا- أنه جعل آية؛ أي: حجة لنبوة رسوله ورسالته؛ لأن قصته ونبأه كان في كتبهم بغير لسانه من غير ترجمة أحد منهم ولا تعليم، ثم أخبرهم على ما كان في كتبهم من غير زيادة ولا نقصان دل أنه أنما علمه باللَّه - تعالى - لا أنه أخذه من كتبهم، وهو ما ذكر في القصة أن اليهود سمعوا النبي يقرأ سورة يوسف، فقالوا: يا مُحَمَّد، من علمكها؟ قال: " اللَّه علمنيها " فعجبوا من قراءته إياها على ما كانت في كتبهم؛ دل أنه إنما عرفها باللَّه تعالى. ثم يحتمل أن يكون آية لمن سأل عن حجة رسالته، أو هو آية لمن سأل عنها، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) في الآية دلالة أن لا بأس للرجل أن يخص بعض ولده بالعطف عليه والميل إليه، إذا كان فيه معنى ليس ذلك في غيره؛ ولهذا قال أصحابنا: إنه لا بأس للرجل أن يخص بعض ولده بالهبة له أو الصدقة عليه إذا لم يقصد بها الجور على غيرهم من الأولاد. ثم يحتمل تخصيص يعقوب يوسف وأخاه بالحب لهما وجوهًا:

(9)

أحدها: لما رأى فيهما من الضعف في أنفسهما، والعجز في أبدانهما، فازدادت شفقته لهما وعطفه عليهما لذلك، وهذا مما يكون فيما بين الخلق. أو كان ذلك منه لهما لصغرهما، وهذا -أيضًا- معروف في الناس أن الصغار من الأولاد يكونون عندهم أحب، وقلوبهم إليهم أميل، وعليهم أعطف، ولهم أرحم من الكبار منهم. أو خصهما بذلك لفضل خصوصية كانت لهما إما من جهة الدِّين، أو العلم، أو غيره، أمره اللَّه بذلك لذلك من دون غيرهما. أو لما بشر يعقوب بنبوة يوسف، فكان يفضله على سائر أولاده، ويؤثره عليهم لذلك. وإنَّمَا قالوا: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا) بآثار تظهر عندهم، وإلا حقيقة المحبة لا تعرف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ). قيل: العصبة: الجماعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العصبة من عشرة إلى أربعين، والعصبة: الجماعة، أي: نحن جماعة ولنا منعة؛ ولهذا قال أصحابنا: إن التسعة مع الإمام تكون منعة يستوجبون ما تستوجب السرية إذا دخلت دار الحرب، فغنمت غنائم يخمس منها. وقوله: (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). لم يعنوا ضلال الدِّين؛ إنما قالوا ذلك - واللَّه أعلم - إنا جماعة تقدر على دفع من يروم الضرر به، ويقصد قصد الشر بنفسه وماله، ونحن أولو قوة، بنا يقوم معاشه وأسبابه، فكيف يؤثر هَؤُلَاءِ علينا؟! وكذلك قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، لم يرد به ضلال الدِّين، ولكن وجهًا آخر، وقالوا ذلك؛ لما كانت له منافع من أنفسهم لم تكن تلك المنافع من يوسف وأخيه، وأبدًا إنما يؤثر المرء حب من له منافع من قبله، لا حبّ من لا منفعة له منه، فهو فيه في ضلال مبين؛ حيث يؤثر حب من لا منفعة له منه على حب من كانت له منه منافع وأمثاله، واللَّه أعلم. وقولهم: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) لا يحتمل أن يكونوا عزموا على قتله، ولكن على المشاورة فيما بينهم: نفعل ذا أو ذا؛

(10)

كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ. . .) الآية، ليس على العزيمة على واحد، ولكن على المشورة فيما بينهم، يدل على ذلك قوله: (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أنهم أرادوا أن يخلو وجه أبيهم لهم، لا قتله، إنما أرادوا غيبته عنه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ). أي: يقبل عليكم أبوكم بوجهه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: يفرغ لكم من الشغل بيوسف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ). يحتمل: (صَالِحِينَ)، أي: تائبين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تكونوا صالحين عند أبيكم من بعده. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يصلح أمركم وحالكم عند أبيكم بعد ذهاب يوسف. وجائز أن تكونوا قوفا صالحين في الآخرة، وقالوا: إنهم تابوا قبل أن يزلوا ويعصوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يعني: في قعر البئر، والغيابة: ما يغيبه ويواريه، والجب: البئر، والجباب جمع. وقال أبو عبيدة: الغيابة: كل شيء غيب عنك شيئًا فهو غيابة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ). أي: يرفعه بعض السيارة؛ ولذلك يقال للطائر: يلتقط الحب، ويلقط؛ أي: يرفع. (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ): إن كنتم لا بد فاعلين أن تغيبوه عنه. وأما قول أهل التأويل إن قوله: (لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) قاله فلان أو فلان، فذلك مما لا نعرفه، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، واللَّه أعلم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: السيارة أصلها من السير، هو مثل المسافر، وهي القافلة؛ يعني: العير. وقيل: الجب: الركية التي لم تطو بالحجارة، فإذا طويت فليس بجب.

(11)

قوله تعالى: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ). دل قوله؛ (مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) على أنهم قد طلبوا إخراجه من أبيهم غير مرة؛ لأن مثل هذا الكلام لا يتكلم به مبتدأ على غير مسابقة شيء من أمثاله، فدل أنهم قد استأذنوه في إخراجه غير مرة. (وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ). الناصح: هو الدال على ما به نجاته، أو الدال على كل خير، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) كأن يعقوب صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ خاف على نفسه - أعني: يوسف - الضيعة بتركهم حفظه، فأمنوه على ذلك بقولهم: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). وخاف عليه الضياع من جهة الجوع بتركهم حفظه أوقات الأكل فأمنوه على ذلك بقولهم: (يَرْتَعْ) أي: يأكل. وخاف قلبه أن يكلفوه أمرًا يشق عليه ويشتد، فأمنوه أيضًا على ذلك، بقولهم (وَيَلْعَبْ) لأنه ليس في اللعب مشقة ولا شدة، فخاف عليه الضياع بالوجوه التي ذكرنا، فأمنوه على تلك الوجوه كلها حتى استنقذوه من يديه. وقوله: (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يرتع: يأكل، ويلعب: يلهو كأنه خرج جوابًا لقوله: (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ)، قالوا له: لا تحزن عليه فإنه برتع ويلعب؛ على التقديم والتأخير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يرتع: ينشط، ويلعب: يتلهى.

(13)

وقرئ بالنون: (نرتع ونلعب). قَالَ الْقُتَبِيُّ: نرتع، أي: نأكل؛ يقال: رتعت الإبل: إذا رعت، وارتعتها: إذا تركتها ترعى، ويقرأ نرتع، بكسر العين، والمراد منه أن نتحارس ويرعى بعضنا بعضًا؛ أي: يحفظه، ومنه يقال: رعاك اللَّه؛ أي: حفظك اللَّه. وقوله: (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) قالوا: يلعب فيما يحل ويسع من نحو الاستباق وغيره، وهو ما ذكروا: (إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَ)، واللعب في مثل هذا يحل، وقد روي -أيضًا- في الخبر أنه قال: " لا يحل اللعب إلا في ثلاث " وفيه: " معالجة الرجل فرسه أو قوسه، وملاعبة الرجل امرأته "، أخبر أنه لا يحل إلا ثلاث؛ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قال: إني ليحزنني، عند الواقع به والغائب عنه من النعمة التي أنعمها عليه؛ لأنه كان نعمة عظيمة له فات النظر إليه، فذكر الحزن على ما فات عنه، وذكر الخوف لما خاف وقوعه في وقت يأتي وما سيقع؛ فهذا تفسير قوله: (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، لا يحزنون؛ لأنه موجود للحال، غير فائت (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)، أي: لا يخافون فوته؛ لأن خوف فوت النعمة [ينغص] على صاحبه النعمة، فآمنهم على ذلك، وهو ما ذكرنا أن الحزن يكون بالواقع للحال، والخوف على ما سيقع، واللَّه أعلم.

(14)

وقوله: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ). قال بعض أهل التأويل: كان يعقوب - عليه السلام - رأى في المنام أن يوسف أخذه الذئب، فمن ثمة قال: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)، لكن هذا لا يحتمل؛ لأنّ رؤيا الأنبياء أكثرها أصدق وحق، فلا يحتمل أن رأى ذلك ثم يقول: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أو يدعه يذهب معهم، لكنه خاف عليه أكل الذئب على ما يخاف على الصبيان في المفاوز والبراري؛ إذ الخوف على الصبيان في المفاوز والبراري والضياع عليهم يكون بالذئب أكثر من أي وجه آخر؛ لأنه جائز أن يفترسه سبع من السباع عند مغافصته إخوته واشتغالهم بما ذكر من الاستباق، ولا يحتمل الضياع من الناس يأخذه واحد من بين نفر. وقال بعض أهل التأويل: إن قوله: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) كناية عن بنيه؛ أي: أخاف أن تهلكوه وتضيعوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ... (14) أولو قوة. (إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ). تأويله - واللَّه أعلم -: لئن أكله الذئب ونحن عصبة؛ أي: جماعة (إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ) أي: كأنا نحن سلمناه إلى الذئب، وعرضناه للضياع؛ هذا - واللَّه أعلم - معنى الخسران الذي ذكروا، وإلا لم يلحقهم الخسران إذا أكله الذئب؛ لأنه إذا كان بهم قوة المنع فلم يمنعوه فكأنهم ضيعوه. * * * قوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ): غيابة الجب، قد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ). يحتمل قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ): وحي نبوة، أو وحي بشارة النجاة من ذلك الجب، أو

(16)

بشارة الملك له والعز. ثم قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو قول يوسف حيث قال لهم: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ. . .) الآية، (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي)، هذا الذي نبأهم يوسف وهم لا يشعرون بذلك. ويشبه أن يكون قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) أي: إلى يعقوب (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، ويكون قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) هو ما قال لهم: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ. . .) الآية، أمرهم أن يطلبوه ويتحسسوا من أمره؛ كأنه علم أنه حي؛ كقوله:، (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أنه حي؛ ألا ترى أنه قال: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ)، ولهذا قال حين ألقى الثوب على وجهه فارتد بصيرًا: (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وذلك تأويل قوله: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) إن كانت الآية في يعقوب، وإن كانت في يوسف فهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) في الآية دلائل: أحدها: أن من ارتكب صغيرة فإنه يخاف عليه التعذيب، ولا يصير كافرًا، ومن ارتكب كبيرة لم يخرج من الإيمان؛ لأن إخوة يوسف هموا بقتل يوسف، أو طرحه في الجب، والتغييب عن وجه أبيه، وإخلائه عنه، وذلك لا يخلو منهم: إما أن تكون صغيرة أو كبيرة: فإن كانت صغيرة فقد استغفروا عليها بقولهم: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا. . .) الآية؛ دل أنهم إنما استغفروا لما خافوا العذاب عليها. وإِن كانت كبيرة فلم يخرجوا من الإيمان؛ حيث صاروا أنبياء من بعد وصاروا قومًا صالحين؛ حيث قالوا: (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ). دل ما ذكرنا على نقض قول المعتزلة في صاحب الصغيرة أن لا تعذيب عليه، وصاحب الكبيرة أنه خرج من الإيمان، ونقض قول الخوارج في قولهم: إنه إذا ارتكب كبيرة أو صغيرة صار به كافرًا مشركًا.

(17)

وفيه نقض قول من يقول: إن من كذب متعمدا أو وعد فأخلف أو اؤتمن فخان يصير منافقًا؛ لأن إخوة يوسف اؤتمنوا فخانوا، ووعدوا فأخلفوا، وحدثوا فكذبوا، فلم يصيروا منافقين؛ لأنهم قالوا: أكله الذئب، ولم يأكله، وهو كذب، واؤتمنوا، فخانوا حين ألقوه في الجب، ووعدوا أنهم يحفظونه، ولم يحفظوه. فَإِنْ قِيلَ: روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ثلاث من علامات النفاق: من إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف، " فكيف يوفق بين الآية والخير؟! إذ هو لا يحتمل النسخ؛ لأنه خبر، والخبر لا يحتمل النسخ. قيل يشبه أن يكون هذا في قوم خاص من الكفرة اؤتمنوا بما أودع في التوراة من نعت مُحَمَّد، فغيروه، ووعدوا أن يبينوه، فأخلفوا وكتموه، وحدثوا أنهم بينوه، فكذبوا، أو يصير منافقًا بما ذكر، إذا كان ذلك في أمر الدِّين، وأما في غيره: فإنه لا يصير به منافقًا، ولا يكون ذلك من أعلام المنافق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) هذا القول منهم له في الظاهر عظيم؛ لأنهم قالوا: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)، ولا يحتمل أن يكونوا عنده صدقة ثم يكذبهم، يكون نبي من الأنبياء يعلم صدق إنسان ثم لا يصدقه؛ هذا بعيد، لكن يحتمل قولهم: وما أنت بمؤمن لنا في هذا ولو كنا صادقين عندك من قبل في غير هذا. أو يكون قوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا)، أي: تتهمنا ولا تصدقنا؛ لأنه اتهمهم؛ حيث قال: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) فاعترضت له التهمة، وليس في الاتهام تكذيب؛ إنما فيه الوقف؛ لأن من اشْمن آخر في شيء ثم اتهمه فيه، لا يكون في اتهامه إياه تكذيبه؛ فعلى ذلك قولهم: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا)، أي: تتهمنا لما سبقت من التهمة ولو كنا صادقين

(18)

على هذين الوجهين يخرج تأويل الآية، وإلا لم يجز أن يكون نبي من الأنبياء يكذب من يعلم أنه صادق في خبره وقوله. فَإِنْ قِيلَ في قوله: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ): كيف خاف ذلك وقد قال له يعقوب: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ. . .) أنبأه أنه يجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث ويتم عليه نعمته، فكيف خاف عليه أكل الذئب والضياع، وذلك لا يحتمل أن يقول له إلا بعلم من الله والوحي إليه؟ قيل: يحتمل أن يكون ما ذكر على شرط الخوف أنه يخاف مما ذكر فيكون له ما قال من الاجتباء، وتعليم الأحاديث، وإتمام النعمة عليه. أو خاف ذلك على ما خافوا جميعًا على ما هم عليه من الدِّين وإن عصموا عما خافوا جميعًا؛ حيث قال إبراهيم: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) ومعلوم أن إبراهيم لا يعبد الأصنام، وقال يوسف: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، وأمثاله، وهو ما ذكرنا في غير موضع أن العصمة لا تزيل الخوف، ولا تؤمن عن ارتكاب مضاداته؛ بل يزيد الخوف على ذلك الأخيار والأبرار؛ كان خوفهم وإشفاقهم على دينهم أكثر من غيرهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: نشتد إلى الصيد. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (نَسْتَبِقُ) هذا من السباق؛ أي: يعدون حتى ينظروا أيّهم يسبق؛ أي: يتقدم من صاحبه ويغلبه في العدو. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (نَسْتَبِقُ)، أي: ننتضل، يسابق بعضنا بعضا في الرمي؛ يقال: سابقته فسبقته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) الدم لا يكون كذبًا، لكنه - واللَّه أعلم - جاءوا على قميصه بدم قد كذبوا فيه أنه دم يوسف وأن الذئب أكله، ولم يكن.

(19)

وقال الفراء: (بِدَمٍ كَذِبٍ): بدم مكذوب، والعرب قد تستعمل المصدر في موضع المفعول. ثم قال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ). أي: زينت لكم أنفسكم. والتسويل: هو التزيين في اللغة؛ وتأويله - واللَّه أعلم - أي: زينت لكم أنفسكم ودعتكم إلى أمر تفصلون وتفرقون به بيني وبين ابني. لكنا لا نعلم ما ذلك الأمر الذي زينت أنفسهم لهم، ويشبه أن يكون ذلك قوله: (يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) يحتمل وجهين: يحتمل: صبر لا جزع فيه، جميل نرضى بما ابتلينا به؛ لأن الصبر هو كف النفس عن الجزع. والثاني: صبر جميل: كف النفس عن الجزع، وجميل: لا مكافأة فيه؛ لأنهم بما فعلوا بيوسف كانوا مستوجبين للمكافأة. فقال: (فَصَبْرٌ) كف النفس عن الجزع بذلك، وجميل لا مكافأة فيه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ. . .) الآية؛ أي: وباللَّه أستعين على الصبر بما تصفون. أو يقول: إني به أستعين على ما تقولون من الكذب حين تزعمون أن الذئب أكله ونحوه. * * * قوله تعالى: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وقوله: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ). السيارة: هي جماعة السائرين كالمسافرين.

(20)

(فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ). الوارد: هو طالب الماء ومستقيه. (فَأَدْلَى دَلْوَهُ). أي: أرسل دلوه في البئر. وقوله: (قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: بشرى هو اسم ذلك الرجل الذي كان مع المدلي الدلو، فقال له: (يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ)؛ كما يقال: يا فلان، هذا غلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من البشارة؛ كأنه قال له: أبشر بهذا الغلام. وفي بعض القراءات: (يَا بُشْرَايَ) على الإضافة إلى نفسه؛ فكأنه بشر نفسه؛ أي: البشرى لي بهذا الغلام. ويشبه أن يكون هذا كناية كلام كان هنالك، لكن لم يبين لنا ذلك، واللَّه أعلم بذلك؛ كقوله: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أخبر أنه أقسم؛ لكن لم أيبين لنا، ما ذلك القسم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً). قَالَ بَعْضُهُمْ: الإسرار: هو اسم الإخفاء والإظهار جميعًا؛ كقوله: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ)، أي: أظهروا الندامة، فإن كان ما ذكر أنه اسم لهما جميعًا فكأنه قال: أظهروه بضاعة؛ فإنا كان على حقيقة الإخفاء والإسرار فهو على الإضمار؛ كأنه قال: وأسروا على ما كان وأظهروا بضاعة لئلا يطلب أصحابهم في ذلك شركة. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ). أي: عليم بما عمل إخوة يوسف بيوسف، أو عليم بما عمل السيارة من الإسرار والإظهار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) أي: باعوه بثمن بخس (دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: البخس: هو النقصان؛ أي: باعوه بثمن لا يباع مثله بمثله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البخس هو الظلم؛ باعوه ظلمًا، وأخذوا ثمنه ظلمًا؛ لأنهم

(21)

باعوا حرًّا، وبيع الحر حرام، وأخذوا ثمنه ظلمًا حرامًا؛ لأن ثمن الحرّ حرام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ) أي: دراهم مبهرجة وزيف. (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي: كانت السيارة في يوسف من الزاهدين؛ حيث باعوه بثمن الدون والنقصان بما لا يباع مثله بمثل ذلك الثمن؛ خشية أن يجيئهم طالب؛ لما علموا أن مثل هذا لو كان مملوكًا لا يترك هكذا لا يطلب، فباعوه بأدنى ثمن يكون لهم، لا كما يبيع الرجل ملكه على رغبة منه؛ خشية الطلب والاستنقاذ من أيديهم. وقال عامة أهل التأويل: قوله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ): إن إخوة يوسف هم الذين باعوه من السيارة (بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)، أي: لم يعرفوا منزلته ومكانه. والأول أشبه. وقوله: (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ). أي: كانوا في شرائه من الزاهدين؛ لما خافوا ذهاب الثمن إن كان مسروقًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ... (21) أي: مقامه ومنزلته. (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا). إن صدق التجار أنه بضاعة عندهم. (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا). إن ظهر أنه مسروق، وأنه حر؛ لما وقع عندهم أن البضاعة لا تباع بمثل ذلك الثمن الذي باعوه. وقوله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) تأويله - واللَّه أعلم -: كما مكنا ليوسف عند العزيز وامرأته كذلك نمكنك عند أهل الأرض، ولكن ذكر (مَكَّنَّا) على الخبر؛ لأنه كان ممكنًا في ذلك اليوم عند العزيز والملك. ويشبه أن يكون قوله: (مَكَّنَّا)، أي: كذلك جعلنا ليوسف مكانًا ومنزلة عند الناس، وفي قلوبهم مكان ما خذله إخوته، ولم يعرفوا مكانه ومنزلته وبعد ما كان شبه المملوك عند أُولَئِكَ، واللَّه أعلم.

(22)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) هذا قد ذكرناه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ). أي: لا مردَّ لقضائه إذا قضى أمرًا كان كقوله، (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) وقال أهل التأويل: إنه بيع بعشرين درهمًا أو بعشرين ونيف؛ فذلك مما لا يعلم إلا بخبر سوى أن فيه أنه بيع بثمن الدون والنقصان بقوله: (بَخْسٍ) والبخس هو النقصان؛ يقال: بخسته؛ أي: نقصته؛ كقوله: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) أي: لا تنقصوا، وهو ما قال: (وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ). وقيل: البخس: الظلم والحرام، وقد ذكرناه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) الأشد: هو اشتداد كل شيء ونهاية كل نوع في الكمال يحتمل أشده: انتهاء بلوغه أو انتهاء شبابه، أو انتهاء عقله في التمام؛ لا يخلو من هذه الوجوه الثلاثة. وقول أهل التأويل: من ثماني عشرة سنة إلى أربعين؛ لأنه به يتم ويكمل كل نوع من ذلك إلى ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا). يحتمل قوله: حكمًا: الحكم بين الناس، والعلم: في الحكم.

(23)

ويحتمل قوله: (حُكْمًا) أي: أعطيناه النبوة، (وَعِلْمًا): علم الأحاديث وتأويلها؛ على ما تقدم ذكره. أو أن يكون إذا أعطاه الحكم أعطاه العلم، وإذا أعطاه العلم أعطاه الحكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). يحتمل: الإحسان في الأعمال؛ أي: عمل أعمالا حسنة صالحة. ويحتمل: الإحسان إلى الناس؛ أي: أحسن إليهم، أو أحسن إلى نفسه؛ لا يخلو من هذه الأوجه الثلاثة. أو أن يكون قوله: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي: كذلك نجزي من أحسن صحبة نعم اللَّه وإحسانه، وقام بشكر ذلك كذلك؛ أي: مثل الذي جزى يوسف لا يريد أنه يجزي غيره عين ما جزى يوسف، ولكن يجزيه جزاء الإحسان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) دل قوله: (فِي بَيْتِهَا) أن البيت قد يجوز أن يضاف إلى المرأة، وإن كان البيت في الحقيقة لزوجها؛ على ما أضاف بيت زوجها إليها. وقوله: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ) المراودة: قيل: هي الدعوة والطلبة، راودته، أي: دعته إلى نفسها. وقال أهل التأويل: (وَرَاوَدَتْهُ) أي: أرادته. (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ). قيل: إن هذه كلمة أخذت مرت الكتب المتقدمة، ليست بعربية، ونحن لا نعرف ما [أرادت] بها، لكن أهل التأويل قَالَ بَعْضُهُمْ: هلم لك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تهيأت لك.

وفي بعض القراءات: (هئت لك) بالهمز، ومعناه ما ذكرنا؛ أي: تهيأت لك.

(24)

ويشبه أن يكون قوله: (هَيْتَ لَكَ): هأنا لك. (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ). أي: أعوذ باللَّه وألجأ إليه. (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ). قال أهل التأويل: (رَبِّي) أي: سيدي الذي اشتراه (أَحْسَنَ مَثْوَايَ) أي: أكرم مقامي ومكاني؛ دليله: قوله لزوجته: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ)، هذا يدل أن قوله: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) أي: أحسني مثواه، ولكن يشبه أن يكون أراد بقوله: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) ربه الذي خلقه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) بظلمهم وقت ظلمهم، والمثوى: الموضع الذي يثوى فيه، والثواء: المقام، والثاوى: المقيم، و (مَعَاذَ اللَّهِ) قيل: أعوذ باللَّه، وألجأ إليه، وأتحصن به. أو: لا يفلح الظالمون: إذا ختموا بالظلم، وأما إذا انقلعوا عنه فقد أفلحوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) أما ما قاله أهل التأويل إنها استلقت له (وَهَمَّ بِهَا) أي: حل سراويله، وأمثال هذا من الخرافات؛ فهذا كله مما لا يحل أن يقال فيه شيء من ذلك، والدلالة على فساد ذلك من وجوه:

أحدها: قوله: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)، ولو كان منه الإرادة والمراودة، لم يكن ليقول ذلك لها ويبرئ نفسه من ذلك. والثاني: قوله: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ)، ولو كان شيء مما ذكروا من حل السراويل والجلوس بين رجليها، لم يكن السوء مصروفًا عنه. والثالث: قوله: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)، ولو كان منه ما ذكروا لقد خانه بالغيب. والرابع: قولها: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ)، وقوله (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ). هذا كله يدل أن ما قاله أهل التأويل فاسد، لا يحل أن يتكلم فيه بشيء من ذلك، وليس في ظاهر الآية شيء مما قالوا لا قليل ولا كثير؛ إذ ليس فيه سوى أن همت به وهم بها. ثم تحتمل الآية وجوهًا عندنا: أحدها: همت به: هم عزم، وهم بها هم خطر، ولا صنع للعبد فيما يخطر بالقلب، ولا مؤاخذة عليه، وهو قول الحسن. والثاني: همت به همّ الإرادة والتمكن، وهم بها هم دفع، لكنه يدخل عليه قوله: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)، لو كان همه بها هم دفع لم يكن لقوله: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) معنى، لكنه يشبه أن يكون هم بها، أي: هم بقتلها، فإذا كان هم بقتلها فرأى برهان ربه فتركها لما لا يحل قتلها. والثالث: كان يهم بها لولا أن رأى برهان ربه على الشرط؛ كان يهم بها لولا ما رأى من برهان ربه، وهو كقوله: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ)، لولا ما كان من تثبيتنا إياك، وكذلك يخرج قول إبراهيم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) أي: لو كان هو الذي ينطق لفعل هو. ثم اختلف في قوله: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ): قال بعض أهل التأويل: رأى يعقوب عاضًّا على شفتيه.

(25)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: مثل له يعقوب وصور له، فرآه عاضًّا على أصبعه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: رأى برهان ربه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: رأى آية من كتاب اللَّه: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً. . .). هذا كله لا يدري. وأصل البرهان: الحجة؛ أي: لولا ما رأى من حجة اللَّه، وإلا كان يهمّ بها، ولكن لا ندري ما تلك الحجّة، واللَّه أعلم بذلك. والبرهان: هو الحجة والآية؛ لولا أن رأى حجة ربه، وبرهان ربه وآياته، أو الرسالة، ويشبه الحجة أي: النبوة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ بَعْضُهُمْ: استبقا الباب: استبقت هي لتغلق الأبواب، واستبق هو ليخرج ويفر. لكن قوله: لتغلق الباب، لا يحتمل؛ لأن الأبواب كانت مغلقة بقوله: (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ)، ولكن استبقت هي لتحبسه وتمنعه، واستبق هو ليخرج ويهرب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ). لما جرته لتحبسه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ). أي: وجدا سيدها؛ هذا يدل أن قوله: (رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) لم يرد به العزيز الذي أشتراه، ولكن العزيز الذي خلقه؛ لأنه قال: (سَيِّدَهَا)، ولم يقل: سيدهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). هذا يدل أن الإرادة تكون مع الفعل؛ لأنها كانت لا تعلم إرادة ضميره، فإذا أخبرت عما عرفت من الميل وإظهار الفعل، وكذلك قول إخوة يوسف: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا)، وكانوا هم لا يعرفون ما في ضميره من الحبِّ سوى ما ظهر لهم منه من الميل

(26)

إليه وإبداء الشفقة له، فهذا يدل على ما ذكرنا من كون الإرادة مع الفعل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) أي: دعتني، والمراودة قد ذكرنا أنها هي الدعوة؛ كقوله: (سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ) أي: سندعوه منه ونطلبه. فَإِنْ قِيلَ: كيف هتك سترها بقوله: (رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)؟ قيل: ليس فيه هتك الستر عليها؛ بل فيه نفي العيب والطعن عن نفسه، فالواجب على المرء أن ينفي العيب وما يشينه عن نفسه على ما فعل يوسف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ) من كذا فهو كذا، وإن كان كذا فهو كذا من كذا. قال بعض أهل التأويل: ذلك الشاهد هو ابن عم لها رجل حليم يقال كذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: شق القميص من دبر هو الشاهد، وأمثاله؛ لكن هذا لا يعلم من كان ذلك الشاهد. وقيل: صبي في المهد.

وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ). هذا لأن القميص إذا كان قد من قبل فهو إنما ينقد من دفعها إياه عن نفسها، وإذا كان القميص مقدودا من دبر فهو إنما ينقد من جرها إياه إلى نفسها، لا من دفعها إياه عن نفسها؛ هذا هو الظاهر في العرف؛ لذلك قال الشاهد: (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ) وكذا (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ. . .) الآية؛ استدل على أنه إنما تمزق من جرها إياه لا من دفعها عن نفسها، ففيه دلالة جواز العمل بالاجتهاد؛ لأن القميص في الغالب لا يتمزق من دبر إلا عن جر من وراء، ولا من قبل إلا عن دفع من قدام، لذلك دل على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وإن كان يجوز أن يكون في الحقيقة على غير ذلك، لكن نظر إلى الغالب. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ)، أي: شقت ومزقت، ومقدود: أي: مشقوق، من دبر: أي: من خلف، ومن قبل: أي: من قدام، وهو مأخوذ من القبل، من قبل المرأة. وقوله: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ) ولم يقل: سيدهما؛ فهذا يدل على ما ذكرناه. (لَدَا البَابا). أي: عند الباب، وهو ظاهر؛ أي: وجدا سيدها عند الباب.

(28)

وفي قوله: (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) فهو كذا (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) فهو من كذا - دلائل يستدل بها لمسائل لأصحابنا؛ من ذلك قولهم في حانوت فيه لؤلؤ وإهاب تنازع فيه دباغ ولؤلئي، فإنه يقضي باليد لكل واحد منهما في ذلك للؤلئي باللؤلؤ وللدباغ بالإهاب باليد؛ يستدل بغالب الأمر وظاهر اليد؛ على ما قضى عليها بالمراودة بتمزق القميص من دبر، وأمثال هذا مسائل يكثر عددها يقضى فيها بالدلالة الغالبة، وإن كان يجوز في الحقيقة على خلاف الظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يشبه أن يكون كيدها أنها لما راودته عن نفسه وأمنته على إظهار ذلك وإفشائه عليه، فأفشت عليه ذلك؛ حيث أبى إجابتها، فقالت: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) ذلك القول منها من كيدهن، وأصل الكيد والمكر هو الأخذ على الأمن، واللَّه أعلم. وفي الآية دلائل لقول أصحابنا في المتاع يختلف فيه الزوجان: فإن كان من متاع الرجال فهو في يد الرجل، وإن كان من متاع النساء فهو في يد المرأة في قول أبي يوسف ومُحَمَّد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) يحتمل قوله: (أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)، أي. عن قوله: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي). ويشبه أن يكون قوله: (أَعْرِضْ عَنْ هَذَا): عن جميع ما كان بينهما؛ أي: استر عليها، ولا تهتك عليها سترها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ). قال ليوسف ذلك القائل: (أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)، وقال للمرأة: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)، لما ظهر عنده أنها هي التي راودته ودعته إلى نفسها. ثم اختلف في قائل هذا القول؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: هو زوجها؛ قال ليوسف: أعرض عن هذا، ولا تهتك عليها سترها، لكنهم قالوا: إنه كان قليل الغيرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك القائل هو رجل آخر هو ابن عم لها؛ وهذا أشبه. وقوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: قال هذا لها؛ لأنهم وإن كانوا يعبدون الأصنام فإنما يعبدونها ليقربوهم

(30)

إلى اللَّه زلفى؛ حيث قال لها: واستغفري لذنبك. وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: قوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) أي: إلى زوجك حيث خنتيه، فإن كان التأويل هذا فذلك يدل أن القائل لذلك رجل آخر، لا زوجها. فإن كان التأويل هو الأول فإنه يحتمل كليهما أنهما كان، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ). يشبه أن تكون استكتمت سرها عند نسوة في المدينة، فأفشين سرها عند أهل المدينة، ليبلغ ذلك الخبر الملك. أو أن لم تكن أعلمت تلك النسوة، فلابدّ من أن يعلم ذلك بعض خدمها؛ فالخادم أعلمت سرها وأفشته عند نسوة في المدينة، فقلن عند ذلك: (تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ) أي: تدعو عبدها إلى نفسها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا). قَالَ بَعْضُهُمْ: الشغاف: هو حجاب القلب وغلافه، (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) أي: بلغ حبها إياه الشغاف، ومنه يقال: مشغوف. والمشغوف: قيل: المجنون حبًّا، وهو من العشق. قال الحسن: الشغف: أن يكون قد بطن لها حبه، والشغف: أن يكون مشغوفًا به. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (شَغَفَهَا حُبًّا) أي: دخل الحبُّ في شغاف القلب، وهو غطاؤه. وقال: من قرأها (شَغَفَهَا) أي: ذهب بعقلها؛ أي: عشقها. لكن هذا قول أُولَئِكَ النسوة، فلا ندري ما أردن بذلك، إنما ذلك خبر أخبر عن قول

(31)

قلنه هن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). حيث خانت زوجها. أو (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، أي: في حيرة من حبه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ... (31) أي: بقولهن المكر: هو الأخذ في حال الأمن، وهو الخيانة فيما اؤتمن واستكتم؛ فهذه كأنها استكتمت سرّها وحبها ليوسف عن الناس، وأفشت ذلك لنسوة في المدينة، على أن يستكتمن عن الناس، فأفشين عليها ذلك؛ فذلك المكر الذي سمعت، والله أعلم. إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل. وأمكن أن تكون المرأة لم تفش سرها إليهن، لكن بعض خدمها التي اطلعت على ذلك هي التي أفشت إليهن، فأفشين هن ذلك، فلما سمعت ذلك منهن أرسلت إليهن: إما تنويشا ودعاء للضيافة، وإما استزارة يزرنها، وأما قول أهل التأويل: إن النسوة كانت امرأة الخباز والساقي؛ ولا أدري من ماذا، فذلك لا نعلمه، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) قال الحسن: متكأ: طعامًا وشرابًا وتكأة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأترج والترنج. وقَالَ بَعْضُهُمْ: متكأ: وسائد وما يتكأ عليه. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: متكأً: ممدودًا؛ يعني: هيئات المجلس وما يتكأ عليه.

ومن قرأ: (مُتَّكَا) مقصورًا، وهو الأترنج وطعام؛ على ما قال الحسن. وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ؛ قال: ويقال: البزماورد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا). أي: أعطت كل واحدة منهن سكينًا؛ ظاهر. (وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ). هاهنا كلام أن كيف أطاع يوسف بالخروج على النساء بقولها إياه: (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) فذلك مما لا يحل، لكنه يخرج على وجوه: أحدها: أنه إنما يكره الدخول عليهن، والخلوة بهن، وأما الخروج عليهن فهو ليس بمكروه؛ إذ فيه الخروج منهن؛ لأنه إذا خرج عليهن كان يقدر أن يخرج منهن؛ فكأنه لما أذنت له بالخروج عليهن خرج رغبة أن يخرج من عندهن؛ إذ لم يكن ليقدر، أن يخرج من البيت عليهن بغير إذن منها؛ فالأمر بالخروج عليهن أفاد له إذنًا بالخروج من البيت؛ إذ لا سبيل له إلى الخروج منه بلا إذن له منها، فخرج عليهن ثمت من عندهن إلى غيره من المكان، وذلك مما لا يكره إذا كان مما لا سبيل إلى ما سواه. ويشبه أن يكون منها الأمر بالخروج حسب إذا خرج ولم تقل عليهن، ولم يعلم يوسف أنها إنما تأمره بالخروج على النساء فخرج، لكن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر عن مقصودها، وكان مقصودها من الأمر بالخروج خروجًا عليهن، فأخبر عن مقصودها بقوله:

(32)

(وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) ومثل هذا قد يكون في الكلام. وجائز أن يكون قوله: (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ)، أي: عنهن، وذلك جائز في اللغة: (على) مكان (عن) كقوله: (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) أي: عن الناس، وأمثاله كثير. وفي هذه الآية دلالة أن مشتري يوسف كان يمنع يوسف عن أن يخرج إلى البلد والسوق، ومن أن تخالطه الناس: إما إشفاقًا على نفسه، أو لئلا يفتن به النساء، أو لئلا يطلع على نفس يوسف؛ لما وقع عنده أنه مسروق، فكيفما كان ففيه: أن على المرء أن يحفظ ولده أو عبده إشفاقًا عليه. وقوله: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ). أي: أكبرنه وأعظمنه من حسنه أن يكون مثل هذا بشرًا؛ ألا ترى أنهن قلن: (حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) وقوله: (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)؛ قيل: حزًّا بالسكين. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ). (حَشَ لِلََّهِ): قال أهل التأويل: أي: معاذ اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حَاشَ لِلَّهِ): كلمة تنزيه من القبيح، ودل هذا القول منهن أنهن كن يؤمِنَّ باللَّه؛ حيث قلن: (حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ). قوله: (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ). كان الملك وإن لم يرونه حَسنًا عندهم، ينسبون كل حسن إلى الملائكة، والشيطان - لعنه اللَّه - عندهم قبيح؛ فنسبوا كل قبيح إليه. وقوله: (بَشَرًا). قرأه بعضهم: (بشرًى) بالتنوين، أي: ما هذا بمشترى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)

(33)

بقولهن: (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ)، أي: إنكن لمتنني فيه أني أراوده عن نفسه، وأنتن قطعتن أيديكن إذ رأيتنه، وأنكرتن أن يكون هذا بشرًا؛ فذلك أعظم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ). أي: دعوته إلى نفسي فاستعصم؛ قيل: امتنع؛ كقوله: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي: لا مانع، ويشبه قوله: استعصم باللَّه أو بدينه أو نبوته أو بعقله، هذا يدّل على أنه لم يكن منه ما قال أهل التأويل من حَلّ السراويل ونحوه؛ حيث قالت: (فَاسْتَعْصَمَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ). قالت ذلك امرأة العزيز. (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ). يشبه أن يكون قولها: ليسجنن وليكونن في السجن من الصاغرين، أو ليسجنن وليكونن من المذَلّين الصاغرين: هو: الذليل لأنه قال لامرأته: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ)، فكان مكرمًا عندها معظمًا؛ فلما أبي ما راودته فقالت: (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي: من الذليلين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فيه دلالة أنه قد كان منهن من المراودة والدعاء ما كان من امرأة العزيز من المراودة والدعاء إلى نفسها؛ حيث قال: (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)؛ ألا ترى أنه قال في موضع آخر: (مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ)، وكذلك قالت امرأة العزيز: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي: كنتن لمتنني فيه أني راودته عن نفسه؛ وأنتن قد راودتنّه عن نفسه. وقول يوسف: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ). أي: ذلك الذل والصغار أَحَبُّ إِلَيَّ، أي: آثَر عندي وأخير في الدِّين مما يدعونني إليه؛ وإن كان ما يدعونه إليه تهواه نفسه وتميل إليه وتحبه؛ فأخبر أن السجن أحبّ إليه، أي: آثر وأخير في الدِّين، إذ النفس تكره السجن وتنفر عنه، ألا ترى أنه قال: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)؟! فهذا يدل على أن ما قال: (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا

(34)

يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وإنما أراد به: محبة الاختيار والإيثار في الدِّين، لا محبة النفس واختيارها؛ بل كانت النفس تحب وتهوى ما يدعونه إليه؛ دليله قوله: (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ). وليس الدعاء في قوله: (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) كما يقول بعض الناس: إنه إنما وقع في السجن؛ لأنه سأل ربه السجن فاستجيب له في ذلك؛ ولكن الدعاء في قوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُ)، وهو كقول آدم وحواء: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا. . .) الآية. ليس الدعاء في قوله: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) لأنه: إخبار عما كان منهم، إنما الدعاء في قوله: (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وكذلك قول نوح: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي). وفي قوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) دلالة على أن عند اللَّه لطفًا لم يكن أعطى يوسف ذلك؛ إذ لو كان أعطاه لكان كيدهن وشرهن مصروفًا عنه؛ حيث قال: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ) ولو كان أعطي ذلك لم يكن لسؤاله ذلك معنى، فهذا ينقض على المعتزلة قولهم، حيث قالوا: إن اللَّه قد أعطى كلا قدرة كل طاعة وقوة كل خير والدفع عن كل شر، وقوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ) أي: لا أحد يملك صرف كيدهن عني لو لم تصرفه أنت، وكذلك قوله: (وَإلا تَغفِر لِي وَتَرْحَمْنِي) وهو أبلغ في الدعاء من قوله: اللهم اغفر لي وارحمني. وقوله: (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أمل إليهن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قال: لو لم تصرف عني كيدهن لأتابعهن. ويقال: الصبو: هو الخروج عن الأمر؛ يقال: كل مَنْ خرج عن دينه فقد صبا. وبهذا كان المشركون يُسَمون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: صابئا، أي: خرج مما نحن عليه. وقال أبو بكر الأصم: الأصب: هو الأمر المعجب. وقوله: (وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ). أي: يكون فِعْلي فعْل الجهَّال لا فِعل العلماء والحكماء، إن لم تصرف عنى كيدهن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)

(35)

أي: أجاب له ربه؛ فصرف عنه كيدهن. هذا يدل على أن الدعاء كان في قوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ)، ليس في قوله: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، إنما هو خبر أخبره؛ حيث أخبر أنه أجاب له ربه فصرف عنه كيدهن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). السميع لكل قول وكلام؛ خَفِيًّا كان على الخلق أو ظاهرًا، العليم به؛ لا يخفى عليه شيء. وفي قوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ)، (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ). دلالة على أنهن كن يدعونه إلى ذلك من وجه كان يخفى عليه ولم يشعر به؛ فالتجأ إلى اللَّه في صرف ذلك عنه. وقوله: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) ذكر في بعض القصة أنها قالت لزوجها: ما زال يوسف يراودني عن نفسي فأبيت عليه فصدقها؛ فحبسه في السجن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ). قال أهل التأويل: هو قَد القميص من دُبره وخمش الوجه وغيره، ولكنه يشبه أن يكون الآيات التي رأوها هي آيات نبوته ورسالته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حبسوه، لينفوا عن المرأة ما رميت به، ولينقطع ذلك عن الناس، ويموت ذلك الخبر ويذهب، فيه أنهم حبسوه بعد ما رأوا آيات عصمته وبراءته عما اتهموه، وأنهم ظلمة في حبسه. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا

(36)

كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قيل: عبدين للملك؛ غضب عليهما الملك. (قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: أرض يُدعى العنب بها خمرا، أو سمي خمرًا باسم سببه وباسم أصله، وجائز في اللغة تسمية الشيء باسم سببه وباسم أصله. (وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا) كان أحدهما خبازا للملك، والآخر ساقيه. (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: إحسانه في السجن؛ لما كانوا رأوه يداوي المرضى، ويعزّي حزينهم، ويجتهد في نفسه في العبادة لربه. هذا يحتمل لعله كان يبرّ أهل السجن ويصلهم، ويجتهد في العبادة لله في الصلاة له والصوم، وأنواع العبادة التي تكون فيما بينه وبين ربه، فسمياه محسنًا لذلك. ويشبه أن يكون قالوا: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) لما رأوا به سيما الخير وآثاره، أو يدعوهم إلى توحيد اللَّه والعبادة له، وخلعهم عن عبادة الأصنام والأوثان والانتزاع من ذلك، فسمياه محسنًا لذلك.

(37)

ويحتمل قوله: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) لما رأوه أحسن إلى أهل السجن، ويحتمل الإحسان - هاهنا -: العلم؛ أي: نراك من العالمين؛ وهو قول الفراء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ). سمى التعبير: تأويلا؛ لأن التأويل: هو الإخبار عن العواقب؛ لذلك سموه تأويلا، ثم خرج تأويل الذي كان يعصر الخمر على العود إلى ما كان في أمره؛ من السقي للملك؛ وهو كان ساقيه؛ على ما ذكر، فلما رأى أنه دام على أمره، أول له بالعود إلى أمره الذي كان فيه. والآخر كان خبازًا؛ على ما ذكر، وهو إنما كان يخبز للناس، فلما رأى أنه حمل الخبز على رأسه، وأنه يأكل الطير - علم أنه يخرج من الأمر الذي كان فيه، وخروجه يكون بهلاكه؛ لأنه كان من قبل يخبز للناس، فصار يخبز لغيرهم؛ فاستدل بذلك على خروجه من أمره وعمله، لكنه أخبر أنه يصلب؛ لأنه كان قائمًا منتصبًا، فأول على ماى ن أمره. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) هذا - واللَّه أعلم - كان يقول لهم ذلك؛ ليعرفهم أن عنده علم ذلك؛ علم ما لا يُحتاج إليه؛ فعلم ما يحتاج إليه أحرى أن يعلم ذلك، وهذا - واللَّه أعلم - منه احتيال؛ لينزعهم عما هم فيه من عبادة الأوثان، وعبادتهم غير اللَّه، وليرغبهم في توحيد اللَّه، وصرف العبادة إليه؛ ولهذا قال: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) هذا باللطف ما أضاف إليه أنه علمه، وإلا التعليم لا يكون إلا باختلاف الملائكة إليه، وذلك لطف من اللَّه تعالى للرسل عليهم السلام. وقوله: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا). تأويله - واللَّه أعلم - أي: لا يأتيكما طعام رأيتما آثار ذلك في المنام إلا نبأتكما بتأويل ذلك قبل أن يأتي ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). أخبر أنه ترك: (مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .) الآية. وقوله: (تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ليس أنه كان فيه ثم تركه، ولكن تركه ابتداء؛ ما لو لم يكن تركه كان آخذا بغيره؛ وهو كقوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ)، ليس أنها كانت موضوعة فرفعها، ولكن رفعها أول ما خلقها. وكذلك قوله: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا)

(38)

ليس أنها مرفوعة ثم وضعها؛ أي أنشاها مرفوعة وموضوعة. وكقوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، ليس أنهم كانوا فيها فأخرجهم، ولكن عصمهم حتى لم يدخلوا فيها. فعلى ذلك الأول. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ... (38) قال في الآية الأولى: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، وأخبر أنهم كافرون بالله واليوم الآخر، وفيه أن من لم يؤمن باللَّه واليوم الآخر، فهو كافر، فهذا ينقض على المعتزلة؛ حيث جعلوا بين الكفر والإيمان رتبة ثالثة، ويوسف يخبر أن من لم يؤمن بالله فهو كافر؛ وهم يقولون: صاحب الكبيرة غير مؤمن باللَّه، وهو ليس بكافر. ثم أخبر أنه ترك ملة أُولَئِكَ الذين لا يؤمنون باللَّه، واتبع ملة آبائه إبراهيم ومن ذكر، ثم أخبر عن ملة آبائه وهو ما ذكر. (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) عرفهم ملة آبائه ودينهم؛ وهو على ترك الإشراك باللَّه، وجعل الألوهية له، وصرف العبادة إليه. وفيه: أن الملة ليست إلا ملتين: ملة كفر، وملة إسلام. وأخبر أن من لم يكن في ملة الإسلام كان في ملة الكفر. ثم خص بذكر هَؤُلَاءِ: إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأن هَؤُلَاءِ كانوا مكرمين عند الناس كافة، كل أهل الدِّين يدعون أنهم على دين أُولَئِكَ؛ فأخبر أنهم على دين الإسلام. والحنيف: المخلص، ليس على ما تزعمون أنتم؛ ولهذا قال: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). وفي قوله: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) دلالة أن الكفر كله ملة واحدة؛ حيث أخبر أنه ترك ملة قوم لا يؤمنون على اخثلاف مذاهبهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ). أي: ذلك الدِّين والملة التي أنا عليها وآبائي من فضل اللَّه علينا وعلى الناس؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - فطر الناس على فطرة؛ يعرفون وحدانية اللَّه وربوبيته بعقول ركبت فيهم؛ ولكن أكثر الناس لا يشكرون فضل اللَّه وما ركب فيهم من العقول، أو ذلك الدِّين والهداية الذي أعطاهم من فضل اللَّه؛ لكن أكثر الناس يتركون ذلك الدِّين وتلك الهداية، واللَّه أعلم.

(39)

وقول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) يوسف - لما سئل عن تأويل الرؤيا - دعاهم إلى توحيد اللَّه ودلهم عليه؛ فقال: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)، وقال: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)، أي: عبادة رب واحد وإرضاؤه خير أم عبادة عدد وإرضاء نفر؟ لأنه إذا عبد بعضًا واجتهد في إرضائهم أسخط الباقين؛ فلا سبيل إلى الوصول إلى مقصوده والظفر بحاجته؛ إذ لا يقدر على إرضائهم جميعًا، وإن اجتهد، وأما الواحد: فإنه يقدر على إرضائه؛ إذ لا يزال يكون في عبادته وإرضائه؛ فيصل إلى حاجته والظفر بمقصوده. والثاني: يخبر أن الواحد القهار يقهر غيره من الأرباب ومن تعبدون؛ فعبادة الواحد القهار خير من عبادة عدد مقهورين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) من الأصنام والأوثان. (إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا). آلهة. (أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ). ولا يستحقون العبادة ولا التسمية بالألوهية؛ إنما المستحق لذلك: الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض. (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ). أي: ما أنزل اللَّه على ما عبدتموهم وسميتم أنتم وآباؤكم آلهة من حجة ولا برهان. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ). أي: ما الحكم - في الألوهية والربوبية والعبادة - إلا لله ليس كما تقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، يقول: ما الحكم في العبادة والألوهية إلا لله. أو يقول: ما الحكم في الخلق إلا لله؛ كقوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)، أي: له الخلق وله الأمر في الخلق. و (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ). حكمه هذا: أمر ألا تعبدوا إلا إياه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).

(41)

أي: عبادة اللَّه وتوحيده هو الدِّين القيم؛ لأنه دين قام على الحجة والبرهان، وأما سائر الأديان فليست بقيمة؛ إذ لا حجة قامت عليها ولا برهان. والقيم: هو القائم الذي قام بحجة وبرهان، وقال أهل التأويل: القيم: المستقيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). يحتمل: لا يعلمون؛ لما لم يتفكروا فيه ولم ينظروا؛ فلم يعلموا، ولو نظروا فيه وتفكروا لعلموا، وهذا يدل أن العقوبة تلزم - وإن جهل - إن أمكن له العلم به؛ فلا عذر له في الجهل إذا أمكن العلم به. أو علموا لكنهم لم ينتفعوا بعلمهم؛ فنفى عنهم العلم لذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) هو ما ذكرنا أنه تأول رؤيا الساقي، وعبرها على العود إلى ما كان يعمل من قبل؛ لما رأى أنه كان عمل على ما كان يعمل من قبل. وعبر رؤيا الخبّاز بالهلاك؛ لما رأى أنه حمل الخبز على الرأس، والخبز إذا خبزه الخباز لا يحمله على رأسه؛ فرأى أنه قد انتهى أمره؛ إذ عمل على خلاف ما كان يعمل من قبل؛ فتأكل الطير من رأسه، فعبّر أنه يصلب وتأكل من رأسه لما رأى أنه حمل الخبز على رأسه؛ لما كان يخبز من قبل للعباد، فلما رأى أنه يخبز لغيره عبر أنه يهلك فتأكل الطير من رأسه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ). قال بعض أهل التأويل: إنه لما عبر لهما رؤياهما، قال الذي عبر له الصلب والقتل: لم أر شيئًا؛ إنما كنا نلعب، فقال لهما يوسف: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) أي: فرغ وانتهى، لكن هذا لا يعلم: قالا ذلك أم لم يقولا، سوى أن فيه أنه عَبَّر رؤياهما، وكان ما عبَّر لهما، وقد علم ذلك بتعليم من اللَّه إياه؛ بقوله: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) قَالَ بَعْضُهُمْ: ظن الذي صدق يوسف: أنه يسقي ربه، وأنه ناج.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قال يوسف للذي ظن أنه ناج منهما، بجعل الظن ليوسف، فإن كان الذي ظن، هو ذلك الرجل؛ فكان الظن في موضع الظن؛ وإن كان الظان هو يوسف - فهو علم ويقين؛ أي: علم وأيقن أنه ناج منهما؛ لأنه لا يحتمل أن يشك فيما يعبر وقد علمه اللَّه تأويل الأحاديث بقوله: (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) وقال: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي). ويحتمل على حقيقة الظن من يوسف؛ أي: وقال للذي ناج منهما ظن أنه يذكره عند ربه، وهو على التقديم والتأخير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ). قال بعض أهل التأويل: إن يوسف لما فزع إلى غير اللَّه وطلب إخراجه من السجن من الملك أنساه اللَّه فيه سنين وأقره فيه عقوبة له حين رجا غير ربه لكن هذا بعيد لا يحتمل أن يكون يوسف يفزع إلى غير اللَّه؛ ويدفع قلبه عن اللَّه ويشغله بمن دونه، لكنه رأى - واللَّه أعلم - أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل سبب نجاته على يديه، وأنه بقي فيه منسيًّا؛ لما علم أنه لم يكن منه سبب يلزمهم الحبس في السجن، سوى الاعتذار إلى الناس، والاعتلال لهم على نفي ما اقترفت به زوجته، أو لينقطع ذلك الخبر عن ألسن الناس، ويبعد عن أوهامهم، فرأى أنه إذا ذكره؛ لعله أخرجه من ذلك لما رأى أنه جعل سبب نجاته على يديه؛ لا أنه رأى ذلك منه ورفع قلبه عن اللَّه. وهكذا جعل اللَّه تعالى أمور الدنيا كلها بأسباب. وعلى ذلك تعبّد عباده؛ باستعمال الأسباب مع اعتقاد القلب القدر من اللَّه؛ نحو: ما جعل الأنزال والزراعة بأسباب يكتسبونها، ونحو الأسلحة التي اتخذت للحرب والقتال بها مما يكثر عدد ذلك، وإنما يحاربون باللَّه، وبه يقاتلون، ومن عنده يُنصرون. وقد أمر بذلك كله وبتلك الأسباب؛ فقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) وليس كل من فعل هذا كان فزع إلى غير اللَّه، أو رأى النصر والنجاة من ذلك الشيء والسبب؛ بل رأى ذلك كله من اللَّه ومن عنده؛ فعلى ذلك يوسف لا يجوز أن يتوهم أنه فزع إلى مخلوق مثله، ورأى نجاته من عند ذلك، ولكن للوجه الذي ذكرناه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ).

يحتمل وجهين: أحدهما: اذكرني عند ربك؛ لعلي حبست بلا علم منه وبغير أمره؛ لأن تلك المرأة هي التي أوعدت له السجن؛ فوقع عنده أنها هي التي احتالت في حبسه؛ فقال لذلك ما قال. والثاني: يقول: اذكرني بالذي رأيت مني وسمعت؛ لأنه دعاهما في السجن إلى التوحيد؛ حيث قال: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ). قال بعض أهل التأويل: أنسى الشيطان يوسف دعاء ربه الذي أنشأه وخلقه؛ فلم يدع ربه الذي هو في الحقيقة ربّ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ) الذي قال له يوسف: اذكرني عند ربك ذكر ربه، وهذا أشبه، والأول بعيد؛ لأنه قال في آخره: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ)، أي: بعد حين (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) دل هذا أنه إنما أنسى الشيطان على ذلك الرجل فلم يذكره عنده حينًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم ينسه الشيطان، ولكن تركه عمدًا؛ لم يذكره عنده؛ لعله يتذكر ما تقدم من المقال فيزداد غضبًا عليه، فتركه عمدًا إلى أن جاء وقته - واللَّه أعلم - وأضاف الإنساء إلى الشيطان، وكذلك قال موسى: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ)، فهو - واللَّه أعلم - لأن بدء كل شر يكون من الشيطان؛ لأنه يخطر بباله ويقذف في قلبه ويوسوسه، ثم يكون من العبد العزيمة على ذلك والفعل، وفائدة النسيان - واللَّه أعلم - هو أن اللَّه تعالى أراد أن يظهر آية رسالته وحجة نبوته؛ بكونه في السجن ويظهر براءته في شأن تلك المرأة بشهادة أُولَئِكَ النسوان، وذلك علم الأحاديث التي ذكر والرؤيا التي عبرها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: خمس سنين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سبع سنين؛ ونحو ذلك.

(43)

ولكن لا نعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى أنه لبث فيه حينًا. وقال أبو بكر الأصم: قوله: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) سماهم: أصحاب السجن؛ لأنهم كانوا في السجن، كما يقال: أصحاب النار، وأصحاب الجنة، ونحوه، لكنه لو كان ما ذكر لقال: يا صاحبا السجن بالألف؛ فلما لم يقل هذا دل أنه أضافه إلى نفسه؛ كأنه قال: يا صاحبي في السجن؛ لأنهما كانا معه في السجن. وقوله: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ). قيل: فرغ. وقيل: انتهى الأمر الذي فيه تستفتيان وأنهي؛ كقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. . .) الآية. وقوله: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) كأنه بلغ إليهما وحيًا أوحى إليه وأمر به أي: هو كائن من غير رجوع كان منهما؛ على ما يقوله أهل التأويل، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ). ذكر أنه رأى، وليس فيه ذكر أنه رأى في المنام، ولكن ذكر في آخر الرؤيا؛ دل أنه رأى في المنام بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ). وفيه: أن من الرؤيا ما هو حق ولها حقيقة، ومنها باطل لا حقيقة لها؛ لأنه قال: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) فكأن، الرؤيا هي حق، ولها حقيقة؛ بتأويل عواقبها، وأضغاث أحلام: لا حقيقة لها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ). أما البقرات: هي السنون، والسمان: هي المخصبات الواسعات. (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ). العجاف: هي المجدبات. (وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ). السنبلات: سنبلات، وخضر: عبارة عما يحصد. (وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ). عبارة عما لا يحصد أي: لا يكون فيه ما يحصد. فيه دلالة أن في الرؤيا ما يكون مصرحًا مشارًا إليه يعلم بالبديهة، ومنها ما يكون كناية مبهمًا غير مفسر؛ لا يعلم إلا بالنظر فيها والتفكر والتأمل؛ لأنه قال: (أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ)، وسبع: هو سبع لا غير، وبقرات: هن كناية عن السنين، وسمان: كناية عن الخصب والسعة، يأكلهن على حقيقة الأكل لا غير. وكذلك (سَبْعٌ عِجَافٌ) السبع: هو سبع، والعجاف: كناية عن الشدة والجدب، وسبع سنبلات: هن عَين السنبلات، وخضر: هن كناية عما يحصد، ويابسات: كناية عما لا يكون فيه ما يحصد. ففيه: أن من الخطاب ما لا يكون مصرحًا مبينًا مشارًا إليه؛ يفهم المراد منه بالبديهة وقت قرع الخطاب السمع، ومنه ما يكون مبهمًا غير مفسر؛ فهو على وجهين: منه ما يفهم بالنظر فيه والتفكر. والثاني: لا يفهم بالبديهة ولا بالنظر فيه والتفكر، إلا ببيان يقرن به سوى ذلك، على هذا تخرج المخاطبات فيما بين اللَّه وبين الخلق واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ). خاطب الأشراف من قومه والعلماء بقوله: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ) على ما ذكرنا فيما تقدم أن الملأ: هو اسم للأشراف منهم والرؤساء، وهكذا العادة في الملوك؛ أنهم إذا خاطبوا إنما يخاطبون أعقلهمِ وأعظمهم منزلة عندهم وأكرم مثواهم. دلّ قوله: (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) أنه إنما رأى ذلك في المنام والله أعلم. وقوله: (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ. . .) الآية.

(44)

كأنه نهاهم أن يتكلفوا التعبير للرؤيا التي رآها؛ إذا لم يكن لهم بها علم، وكذلك الواجب على كل من سئل عن شيء لا يُعلم ألا يشتغل به، ولا يتكلف علمه؛ إذا لم يكن له به علم؛ حيث قال: (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) قَالَ بَعْضُهُمْ: أباطيل أحلام كاذبة وقَالَ بَعْضُهُمْ: أخلاط أحلام؛ مثل أضغاث النبات تجمع فيكون فيها ضروب مختلفة، وهو كما قيل في قوله: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ)، أي: جماعة من أغصان الشجر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ): الضغث، والأضغاث: ما لا يكوت له تأويل، ويقال لنوع من الكلأ: ضغث وهو الحلفا؛ يشبه البردي وغيره. وقيل: إن الضغث والأحلام: هما اسمان لشيء لا معنى له، ولا تأويل، وهما واحد، وأصل الأحلام: كأن مخرجه من وجهين: أحدهما: العقول؛ دليله: قوله: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا) أي: عقولهم (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ). والثاني: من الاحتلام، وهو ما ذكرنا من الحلم؛ كقوله: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ. . .): الآية فيشبه أن يكون يخرج على هذا؛ لأن الصبي ما لم يعقل لا يلعب به الشيطان، ولا يحتلم؛ لأن الاحتلام هو من لعب الشيطان به، فسمى الرؤيا الباطلة الكاذبة أحلامًا؛ لأنها من لعب الشيطان به، كما سمى احتلام الصبي حلمًا؛ لأنه إذا بلغ العقل لعب به الشيطان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ). يحتمل قوله تعالى: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) لما لا تأويل لها؛ كقوله: (وَلَا يشفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتضى)، وقوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي: لا شفيع لهم.

(45)

ويحتمل قوله: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) لها تأويل، ولكن نحن لا نعلمها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) من الهلاك، وهو الساقي الذي ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ). أي: تذكر بعد أمة، قال الأُمَّة - هاهنا -: الحين، أي: ذكر بعد حين ووقت؛ كقوله تعالى: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ)، قيل: حين ووقت معدود، وقال الحسن: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي: بعد أمة من الناس. ويقرأ (بعد أَمَهٍ) قال أبو عَوْسجة: الأمه: النسيان والسهو؛ أي: تذكر بعد نسيان وسهو؛ كقوله: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ)، يقال منه في الكلام: أمه يأمه أمها؛ فهو آمه، وأمه؛ أي: نسي. والأمة: من الأمم والقرون التي مضت. والأمة: النعمة، والأمم جمع. والأمة أيضًا: الذين والسُّنة؛ كقوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي: على دين.

(46)

ويقال: الأمة: القامة أيضًا؛ يقال: فلان حسن الأمة؛ أي: حسن القامة، ويقال: الأمم: القريب. فهو يحتمل هاهنا الوجهين اللذين ذكرناهما؛ أي: ذكر بعد حين ووقت، أو بعد نسيان؛ من درأه بالنصب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ). معناه: أي أنا أنبئكم ببيان تأويلها لا أنه كان ينبئهم هو بنفسه؛ ألا ترى أنه قال: (فَأَرْسِلُونِ). (يوُسُفُ ... (46) فيه إضمار؛ كأنه قال: فأرسلوني إلى يوسف، وليس في تلاوة الآية أنه أرسل إليه، ولا إتيانه إليه، ولكن فيه دليل أنه أرسل إليه فأتاه؛ فلما أتاه قال له: (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ). قيل: الصديق: هو كثير الصدق؛ كما يقال: شِرِّيب وفِسِّق وسِكِّير؛ إذا كثر ذلك منه، والصديق: هو الذي لم يؤخذ عليه كذب قط، أو سماه صديقًا لما عرف أنه رسول اللَّه، وهو ما قال في إبراهيم (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا). أو يقول: (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أي: أنا أتعلم منه؛ فأنبئكم بتأويله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ). فأفتاها له وعبرها عليه؛ وهو ما قال: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) إلى آخر ما ذكر. وقوله: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ). هذا تفسير رؤيا الملك للذي سأله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ). هذا يحتمل وجوهًا: يحتمل: يعلمون أن هذه الرؤيا حق ولها حقيقة؛ ليس كما قال أُولَئِكَ: أضغاث أحلام. والثاني: يعلمون فضلك على غيرك من الناس، أو يعلمون أنك تصلح لحاجاتهم التي في حال يقظتهم؛ فرفعونها إليك؛ كما أصلحت ما كان لهم في حال نومهم، ثم علمهم الزراعة، وجمع الطعام والادخار أن كيف يذخر حتى يبقى إلى ذلك الوقت، فقال:

(47)

(تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: دائمًا؛ أي: تداومون الزراعة فيها. وقال أبو عَوْسَجَةَ: دأبا: من الدوب؛ من الجدّ والتعب. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: دأبا: أي: جدًّا في الزراعة ومتابعة. وكله واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ). لا تنقوه؛ لأن ذلك أبقى له من إذا نقي وميز، إلا قليلا مما تأكلون؛ فتنقونه إن شئتم؛ أي: قدر ما تأكلون. وقوله: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) قيل: مجدبات من الشدة. (يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ). أي: ما ادخرتم لهن. (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: تدخرون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تحرزون. قال أيو عَوْسَجَةَ: أحصنته، أي: ادخرته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الغيث؛ وهو المطر؛ أي: يمطرون. وقيل: يغاثون بالمطر؛ من الإغاثة والغوث. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من عصر الأعناب والدهن والزيت وغيره؛ إنما هو إخبار عن

(50)

الخصب والسعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (يَعْصِرُونَ) أي: ينجون؛ يقول: من العصر يعني الملجأ: أي يلجئون إلى الغيث، والعصرة المنجاة؛ وهو قول أبي عبيدة. وأمَّا قول غيره من أهل الأدب والتأويل: فهو من العصر؛ يعني: عصر العنب وغيره واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) يعني: يوسف فلما جاءه الرسول، قال: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُ): فيه دلالة أن قول يوسف، للرجل. (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ). إنما طلب بذلك براءة نفسه فيما اتهم به، ليس كما قال أهل التأويل؛ لأنه لو كان غير ذلك لكان لا يرد الرسول إليه ولكنه خرج واللَّه أعلم. وقوله: (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُ). يحتمل هذا من وجهين: أحدهما: أَهُنَّ على كيدهن بعدُ، أم رجعن عن ذلك؟ والثاني: ليعلم الملك براءته مما قرف به واتهم. ليظهر عنده أنه كان بريئًا مما قرف به واتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ). إنهن كدن ثم قال لهن الملك: (مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ (51) هذا يدل أن

(52)

الملك قد علم أنهن راودن يوسف عن نفسه؛ لأنه قال: (مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ) ولم يقل لهن: راودتن أم لا؟ ولكنه قطع القول فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ). بدأ بهن حتى أقررن أنه كان بريئًا ما قرف به واتهم، ثم أقرت امرأة الملك بعد ذلك لما أقر النسوة؛ فقالت: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ). قيل: الآن تبين الحق وتحقق. (أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وفي قوله: (رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي). وقوله: (مَا خَطْبُكُنَّ) ما شأنكن وأمركن، والخطب: الشأن، وراودتن: قد ذكرناه. وقوله: (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ). قيل: معاذ اللَّه، وقيل: هي كلمة تنزيه وتبرئة من القبيح. وقوله: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ). قال أهل التأويل: الزنا، ولكن قوله: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) هو السوء الذي قالت، (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) هو ذلك السوء قالت إنه أراده بها قلن ما علمنا منه ذلك. وقوله: (حَصْحَصَ الْحَقُّ). قد ذكرناه أنه تبين وتحقق. وفي قوله: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ). دلالة أن لم يكن منه ما قاله أهل التأويل من حلّ السراويل وغيره؛ لأنه لو كان منه ذلك لَكُنَّ قد علمن منه السوء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) قوله: ذلك الرد الذي كان منه وترك الإجابة لرسول الملك؛ حيث قال: (ائْتُونِي بِهِ)

ليعلم الملك أني لم أخنه بالغيب؛ في أهله إذا غاب عني؛ ردًّا لقولها: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) أن وتصديقًا لقوله؛ حيث قال: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي). وقال بعض أهل التأويل: ذلك ليعلم اللَّه أني لم أخنه؛ يعني الزوج بالغيب، لكن هذا بعيد، إنه قد علم يوسف أن اللَّه قد علم أنه لم يخنه بالغيب. وقول أهل التأويل لما قال يوسف: (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قال له الملَك: ولا حين هممت ما هممت؟ فقال: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ): هذا مما لا نعلمه. وقد ذكرنا التأويل في قوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) ما يحل ويسع أن يتكلم به، وفساد تأويل أهل التأويل من الوجوه التي ذكرنا.

(53)

ومعنى قوله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) أي: عصم ربي. واللَّه أعلم. إنه لما قال ذلك؛ (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)؛ لما عصمنى اللَّه عن ذلك، ولو لم يكن عصمنى لكنت أخونه (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) أي: ما عصم ربي؛ لأن النفس جبلت وطبعت على الميل إلى الشهوات واللذات، والهوى فيها والرغبة والتوقي عن المكروهات والشدائد؛ ألا ترى أنه قال: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41). أثبت للنفس الهوى وإيثار الحياة الدنيا وشهواتها، هذا يدل أن قوله: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) هو محبة الاختيار والإيثار في الدِّين لا ما تختار النفس وتؤثر، النفس أبدًا تختار وتؤثر ما هو ألذ وأشهى، وتنفر عن الشدائد والمكروهات، على هذا طبعت وجبلت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) أي: لا يجعل، فعل الكيد والخيانة هدى ورشدًا، إنما يجعل فعل الكيد والخيانة ضلالا وغواية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) أي: أجعله لنفسي خالصًا لحوائجي وأن يكون قوله: (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي): أصدر لرأيه وأطيع أمره، في هذا يقع استخلاصه إياه؛ ولذلك قال: (مَكَّنَّا لِيوُسُفَ. . .) الآية لا أن يجعله لحاجة نفسه خالصًا دون الناس لا يشرك غيره فيه؛ دليله ما ذكر في حرف حَفْصَة (إنك اليوم لدينا مطاع أمين). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ). ولم يذكر فيه أنه أتى به، ولكن قال: فلما كلمه؛ فهذا يدل أنه قد أتى به وإن لم يذكر أنه أتى به؛ حيث قال: (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) قيل: المكين: الوجيه، وقيل: المكين: الأمين المرضي عندنا والأمين على ما استأمناك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) سأل هذا لما علم أنه ليس في وسعهم القيام بإصلاح ذلك الطعام، وعلم أنه لو ولي غيره الخزائن لم يعرف إنزال الناس منازلهم؛ في تقديم من يجب تقديمه، والقيام بحاجة الأحق من غيره. وعلم أنه إليه يرجع، ويقع حوائج أكثر الناس، وبه قوام أبدانهم؛ فسأله

(56)

ليقوم بذلك كله، وعلى يديه يجري. ولذلك قال: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: حفيظ لما وليت عليم بأمره. وقيل: حفيظ أي: حاسب، عليم: أي بالألسن كلها. وقيل: حفيظ لما في الأرض من غلة؛ عالم بها. وعن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حفيظ لما تحت يدي، عليم بالناس. وقيل: حفيظ بصير بتقديره عالم بساعات الجوع حين يقع، إني حفيظ لما استحفظت عليم بحوائج الناس، أو عليم بتقديم الأحق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) يقول - واللَّه أعلم -: كما برأنا يوسف مما قرف به، وأظهرنا براءته منه؛ مكناه في الأرض حتى احتاج أهل نواحي مصر وأهل الآفاق إليه. أو أن يقال: كما حفظناه وأنجيناه؛ مما قصد به إخوته من الهلاك؛ نمكن له في الأرض. وجائز أن يكون قوله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) جوابه: كما مكنا ليوسف في الأرض بعدما أخرج من عليه الإيواء والضم، كذلك نمكنك في الأرض ونؤوي؛ بعدما أخرجك من عليه إيواؤك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ). أي: ينزل منها حيث يشاء، ويسكن منها حيث يشاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ). يحتمل قوله: (بِرَحْمَتِنَا) سعة الدنيا ونعيمها؛ كقوله: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا). ويحتمل (بِرَحْمَتِنَا): أمر الدِّين من النبوة والعصمة، وهو على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: ليس لله أن يختص أحدًا برحمته ولا يصيب من رحمته إنسانًا دون إنسان، وعلى قولهم لم يكن من اللَّه إلى رسول من الرحمة إلا وكان إلى إبليس مثله.

(58)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). أي: لا نضيع أجر من أحسن صحبة اللَّه في الدنيا والآخرة؛ أي نجزيه جزاء إحسانه أو يقول: ولا نضيع أجر من أحسن صحبة نعم اللَّه وقبلها بالشكر له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) أي ثواب الآخرة وأجرها خير لهم من ثواب الدنيا وأجرها. وقوله: (آمَنُوا). صدقوا. (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) الشرك. (آمَنُوا) صدقوا؛ (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) المعاصي والفواحش. * * * قوله تعالى: (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ). لما أراد اللَّه أن يبلغ أمر يوسف؛ فيما أراد أن يبلغ جعلهم بحيث لا يعرفونه؛ لذلك قال: (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي: لا يعرفونه؛ كقوله: (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي: غير معروفين عند إبراهيم، والمنكر: هو الذي لا يعرف في الشرع ولا في العقل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)] أي: أعطى لهم الطعام الذي طلبوا منه. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجهاز: المتاع. والجهاز -أيضًا-: متاع المرأة التي تجهز به، ولا يقال: جِهاز بخفض الجيم. وقال أهل التأويل: إن يوسف - عليه السلام - قال لهم حين دخلوا عليه أنتم عيون؛ بعثكم ملككم تنظرون إلى أهل مصر ثم تأتونه بالخبر وتأتونه بكذا. ذلك مما لا نعلمه أنه قد كان قال لهم ذلك أم لا، وغير ذلك من الكلمات التي قالوا: إنه قال لهم كذا وقالوا هم له كذا، نحن كذا كذا رجلا؛ فهلك منا كذا، ولنا أب كذا: مثل

(60)

هذا لا يكون كلام الأنبياء إنما هو كلام بعض العوام الغوغاء. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ). مثل هذا لا يحتمل أن يقوله يوسف ابتداء؛ على غير سبب أو كلام كان هنالك، لكنه لم يذكر الذي كان؛ ونحن لا نعرف ما الذي كان جرى هنالك فيما بينهم. وكذلك قوله: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) أما أهل التأويل فإنهم قالوا: قال لهم ائتوني بأخ لكم من أبيكم إلى آخر ما ذكر؛ لأنه لما قال لهم: إنكم جئتم عيونًا لملككم؛ فأمر بحبسهم، فقالوا: نحن بنو يعقوب النبي، وكنا اثني عشر رجلا؛ فهلك منا رجل في الغنم، ووجدنا على قميصه دمًا؛ فأتينا أبانا فقلنا: كذا، وقد خلفنا عند أبينا أخًا له؛ من أم الذي هلك؛ فعند ذلك قال لهم: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِ) لكن هذا الذي ذكروا لا يكون سببًا ولا جوابًا له، وقد ذكرنا أنه لا يصح هذا الكلام مبتدأ، لكنا نعلم بالعقل أنه كان هنالك سبب، ومعنى أمر يوسف أن يقول لهم ذلك، وإلا لا يحتمل أن يقول لهم يوسف: (فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ) وهو كان يعلم أن أباه يعقوب يحتاج إلى طعام، ويعرف حاجتهم في ذلك - هذا لا يسع إلا بسبب كان؛ فأمر يوسف بذلك. وقوله: (فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ) فيما يستقبل؛ أي: لا تأتوني. واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) وجهين: أحدهما: قال ذلك لهم؛ إنه يوفي لهم الكيل؛ لأن أهل ذلك المكان كانوا ينقصون ويخسرون الكيل في الضيق؛ فقال هو: ألا ترون أني أوفي الكيل ولا أبخس. والثاني: ألا ترى أني أوفي الكيل على غير الحاجة؛ وكان يجعل لغيرهم الطعام على الحاجة؛ لضيق الطعام. إني أوفي الكيل على قدر الحاجة وأنا خير المنزلين في الإحسان إليكم والتوسيع عليكم؛ لأن أهل ذلك المكان لا يحسنون إلى النازلين بهم، ولا يوسعون عليهم؛ لضيق الطعام. وكأن قوله: (أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) مؤخر عن قوله: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ)؛ كأنه قال: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ)؛ فعند ذلك قال: (أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) واللَّه أعلم.

(61)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) هذا الكلام في الظاهر ليس هو جواب قول يوسف؛ حيث قال: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) وجوابه أن يقولوا له: نأتي به أو لا نأتي، فأما أن يجعل قولهم: (سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) جوابا له؛ فلا يحتمل مع ما أن في قلوبهم سنراود عنه اضطراب؛ يملكون أو لا يملكون. قولهم: (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ). على القطع؛ لكن يشبه أن يخرج على وجهين: أحدهما: على الإضمار؛ سنراود عنه أباه فإن أذن له وإنا لفاعلون ذلك. أو على التقديم والتأخير يكون جواب قوله: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) في قولهم: (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) كأنه لما قال لهم يوسف: ائتوني بأخ لكم من أبيكم قالوا إنا لفاعلون، ثم قالوا فيما بينهم: سنراود عنه أباه. على هذين الوجهين يشبه أن يخرج واللَّه أعلم. وقوله: (سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المراودة: الممارسة، وهي شبه المخادعة، وهي المعالجة. وقيل: سنراود: أي سنجهد وسنطلب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) لفتيته. الفتية: الخدم؛ والفتيان: المما ليك. (اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ). قيل: اجعلوا دراهمهم في أوعيتهم، فيه دلالة أن الهبة قد تصح - وإن لم يصرح بها - إذا وقع في يدي الموهوب له وقبضه - وإن لم يعلم هو بذلك - وقتما جعل له؛ لأن يوسف جعل بضاعتهم في رحالهم؛ هبة لهم منه؛ وهم لم يعلموا بذلك، وهو وقتما جعل ذلك لهم، مِلك ليوسف؛ ولهذا قال أصحابنا: إن من وضع ماله في طريق من طرق المسلمين؛ ليكون ذلك ملكًا لمن رفعه كان ما فعل. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

هذا يحتمل وجهين: أحدهما: يرجعون؛ مخافة أن يعرفوا بالسرقة لما عسى يقع عندهم أن واحدًا منا جعل هذا في متاعنا وأوعيتنا سرًّا منهم ففعل يوسف هذا؛ ليرجعوا؛ مخافة أن يعرفوا بالسرقة. والثاني: ما قاله أهل التأويل: لما تخوف يوسف ألا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى فجعل دراهمهم في أوعيتهم؛ لكى يرجعوا إلينا؛ فلا يحبسهم عنا عدم الدراهم؛ لأنهم كانوا أهل ماشية. * * * قوله تعالى: (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي

(63)

عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ... (63) فيما يستقبل وششانف لقوله: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ). (فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ) بالنون؛ وبالياء: (يكتل)، وبالنون أقرب؛ لأنهم قالوا: منع الكيل منا فأرسل معنا أخانا نكتل؛ نحن، يشبه: ويكتل هو إن أرسلته. (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). لا يحتمل أن يقولوا له هذا من غير سبب كان هنالك: من خوف خاف عليه أبوهم من ناحيتهم، وقد اتهمهم؛ لأنه كان أخوهم من أبيهم، خاف عليه أن يضيعوه أو إن استقبله أمر لا يعينونه أو أمر كان لم يذكر، ولسنا ندري ما ذلك المعنى واللَّه أعلم بذلك. (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وفي حرف ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (هل تحفظونه إلا كما حفظتم أخاه يوسف من قبل). في هذا دلالة أن من ظهرت منه تهمة أو خيانة في أمر، يجوز أن يتهم فيما لم يظهر منه

(65)

شيء؛ حيث اتهمهم يعقوب في بنيامين بخيانة كانت منهم في يوسف؛ وإن لم يظهر له منهم في أخيه شيء، وهو حجة لأصحابنا: أن من ظهر فسقه في شيء وكذبه في أمر، صار مجروح الشهادة في غيره. وقوله: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). أي: إن أرسلته فإنما أعتمد على حفظ اللَّه، وإليه أكل في حفظه؛ لست أعتمد على حفظكم. (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). أي: هو بكل مكروب وملهوف أرحم من كل راحم؛ لأن كل من يرحم إنما يرحمه برحمة نالها منه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) هذا قد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا نَبْغِي) هذا يحتمل: ما نبغي سوى الثمن؛ فقد رد إلينا دراهمنا أو يكون قوله: (مَا نَبْغِي) وراء هذا كبير شيء؛ إنما نبغي ثمن بعير واحد وثمن بعير واحد يسير؛ لأنه قد ردت بضاعتنا؛ وهو ثمن عشرة أبعرة. (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ). لأنه ذكر أن يوسف كان لا يعطي كل رجل إلا حِمْل بعير واحد، ولا يعطي أكثر من ذلك؛ فقالوا: ونزداد كيل بعير به؛ ومن أجله. (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي: سريع لا حبس فيه: وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي: ييسر علينا الكيل، ولا يحبس عنا الطعام، ولا يثقل عليه ذلك؛ بقوله: (أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ). فإن لم نأته به فلا كيل لنا؛ وقد حبسنا عنه. واللَّه أعلم. ويشبه أن يكون فيه وجه آخر أقرب مما قالوا وهو: أن قوله: (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي: طلب ثمن كيل بعير يسير؛ لأنه قد ردت إليهم بضاعتهم؛ وهو ثمن كيل عشرة أبعرة؛ فإنما احتاجوا إلى ثمن كيل بعير واحد؛ فقالوا: طلب ثمن كيل بعير واحد يسير، وتكلفة سهلة؛ وهو ثمن كيل بعير بنيامين. واللَّه أعلم.

(66)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) أي: حتى تأتوني بمواثيق من اللَّه؛ وبعهود منه. (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ). فيه دلالة أنه وإن قال: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) واعتمد في الحفظ على اللَّه، ورأى الحفظ منه، لم يرسله معهم إلا بالمواثيق والعهود من اللَّه، وهذا أمر ظاهر بين الناس؛ أنهم وإن كان اعتمادهم على اللَّه وإليه يكلون في جميع أمورهم في الأموال والأنفس، ومنه يرون الحفظ فإنه يأخذ بعضهم من بعض المواثيق والعهود؛ فعلى ذلك يعقوب أنه وإن أخبر أن اعتماده واتكاله في حفظ ولده على اللَّه لم يرسله معهم إلا بعدما أخذ منهم العهود والمواثيق. (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ). أي: إلا أن يجمعكم أمر ويعمكم، ويحيط بكم الهلاك جميعًا؛ فعند ذلك تكونون معذورين؛ فإما أن يخص به أمر فلا. والثاني: إلا أن يجيء أمر عظيم يمنعكم عن رده؛ كأنه خاف عليه من الملك؛ حيث طلب منهم أن يأتوه به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ) يعقوب (اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) أي: الله على المواثيق والعهود التي أخذتها منكم شهيد، أو يقول: اللَّه له حفيظ؛ كما قال: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا). واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: إن يعقوب خاف عليهم العين؛ لأنهم كانوا ذوي صور وجمال وبهاء؛ فخشي عليهم العين؛ لذلك أمرهم أن يدخلوا متفرقين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خشي عليهم البيات والهلاك؛ لأنهم كانوا أهل قوة ومنعة؛ فيخافهم أهل البلد ويفرقون منهم السرقة؛ فأمرهم بالتفرق، وهو قول ابن عَبَّاسٍ؛ فإذا كانوا

متفرقين فلا يهلكون الكل؛ وإنما يهلك بعضهم وينجو بعض أو لا يدري ما أراد بهذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: علم يعقوب أنهم لا يهلكون؛ لما رأى يوسف من الرؤيا أن يسجد له إخوته، ولكن خاف عليهم أن تصيبهم النكبة؛ لذلك أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، أوص ن سكك متفرقة، أو من طرق متفرقة، أو ما قالوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ). أي لا أدفع عنكم من اللَّه من شيء؛ إن أصابكم نكبة أو عين، فَإِنْ قِيلَ: لو كان أمره إياهم بالتفرق؛ لخوف العين؛ أو لخوف أهل البلد منهم السرقة والإغارة، كيف لم يأمرهم بذلك في المرة الأولى؛ وخوف العين؟ لم يخش ذلك لما قد يقع الاجتماع ما ذكر ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنه يخافهم أهل البلد إذا رأوهم مجتمعين أنهم لصوص وأنهم كذا، ولكن جائز أن يكون في المرة الأولى لم يخش ذلك؛ لما قد يقع الاجتماع في أمثال أُولَئِكَ من الرفقاء والصحابة، فلا يكون في ذلك الخوف الذي ذكروا. وإذا عادوا في المرة الثانية؛ قد يحتمل ذلك الخوف من العين؛ وغيره، إذا علم أهل البلد أن ذلك العدد تحت أب واحد، أو أمرهم بالتفرق على الأبواب؛ بمحنة امتحن بذلك، وأمر به، أو لمعنى غاب عنا لا نحتاج إليه. واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي: لا أدفع عنكم من اللَّه من شيء إن أصابكم نكبة أو عين وإن تفرقتم إن الحكم إلا لله، هذا تفسير قوله: (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي: لا أدفع عنكم، بما أحتال ما قدر اللَّه وقضاه؛ أن يصيبكم؛ فيصيبكم لا محالة وينزل بكم (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي: ما الحكم في ذلك إلا لله ما في حكمه وقضائه أن يصيبكم فيصيبكم لا محالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ). هذا أصل كل أمر يخاف المرء، وأن يأخذ بالحذر، ويتوكل - مع ذلك - على اللَّه؛ على ما أمر يعقوب - عليه السلام - بنيه بالحذر في ذلك، ثم توكل على اللَّه في ذلك.

(68)

والحذر هو العادة في الخلق، والتوكل: تفويض الأمر إلى اللَّه، والاعتماد عليه. والله أعلم. وقوله: (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ... (68) من أبواب متفرقة. (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ). أي: ما كان يدفع ذلك عنهم ما حكم اللَّه عليهم أنه يصيبهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَ). الحاجة في النفس: أحد شيئين: إما الرغبة، وإما الرهبة؛ كقوله: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً) فعلى ذلك حاجة يعقوب، لا تخلو: إما أن كانت رغبة منه؛ في تفرقهم، أو رهبة في اجتماعهم؛ قضى تلك الحاجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ). يشبه أن يكون هذا صلة ما قال يعقوب لبنيه: (لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) أي: وإنه لذو علم لما أمرهم بالدخول على التفرق؛ والنهي عن الاجتماع. وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). ما أراد. بقوله: (لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ). وعن ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما: (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ): من السكك المتفرقة، ما كان يغني عنهم من قضاء اللَّه شيئًا إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها، يقول: بدأها فتكلم بها. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) يقول: حافظًا لما علمناه، وقيل: حافظًا له؛ عالمًا به، وقيل؛ (لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) أي: عمل بجميع ما علم وانتفع به، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) لم ينتفعوا بما علموا. ويحتمل: وإنه لذو علم بقصة يوسف من أولها إلى آخرها؛ كما أخبرناه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ذلك. وجائز أن يكون قوله: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) أي: ما أصابه من الحزن؛ بذهاب يوسف وأخيه، وما أصابه من الشدة والنكبة لم يؤثر ذلك في علمه الذي علمناه، وإن أثر ذلك في نفسه وبدنه، أي علمه بما علمناه بعدما أصابه ما أصابه؛ كهو ما كان قبل ذلك،

(69)

لم يعمل فيه ولم يؤثر. وعن الحسن - فيما أظن - في قول يعقوب لبنيه: (لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) قال: أما واللَّه ما كانت به طيرة تطير بها؛ ولكن قد علم أو ظن أن يوسف سيلقى أخاه؛ فيقول: إني أنا أخوك. وأكثر أهل التأويل قالوا: قوله: (إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) أي: خيفة العين على بنيه؛ لجمالهم، وبهائهم، وحسن صورهم، أو لما يكون لواحد كذا كذا عددًا من البنين فيقصدون قصدهم بالنكاية عليهم لما ذكرنا أو ما أراد بذلك. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ). هذا يحتمل وجهين: يحتمل أنهم لما دخلوا البلد الذي فيه دعا يوسف أخاه وحن إليه ويحتمل أنهم دخلوا جميعًا على يوسف؛ فضم أخاه إلى نفسه؛ فقال: إني أنا أخوك. قال بعض أهل التأويل لم يقل له: أنا أخوك: بالنسبة؛ ولكنه قال: أنا أخوك: مكان أخيك الهالك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَبْتَئِسْ). يقول: لا تحزن.

(70)

(بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). هذا يحتمل وجهين: يحتمل: لا تَبْتَئِسْ بما كان عمل إخوتك؛ كأنه لما دعاه فضمه إلى نفسه - شكا إليه من إخوته؛ فقال عند ذلك: (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). ويحتمل: فَلَا تَبْتَئِسْ بما يعمل بك هَؤُلَاءِ؛ أي: خدمه وعماله، كأنه أخبره بما كان يريد أن يكيد بهم؛ من جعل الصاع في رحله؛ فقال: (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) بك؛ لأنه لا يجوز أن يجعل أخاه متهمًا، يقرف به من غير أن ظهر منه شيء؛ وقد أخبره أنه أخوه. واللَّه أعلم. دل أنه أراد أن يعْلمه ما يريد أن يكيد بهم؛ ليكون هو على علم من ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) هو ما يهيأ للخروج؛ ولذلك يقال لمتاع المرأة: جهاز، وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ). السقاية: قيل: هي الإناء الذي كان يشرب فيه الملك، وقيل: هو الصاع الذي كان يكال به الطعام؛ ولكن لا نعلم ما كان ذلك سوى أنا نعلم أنها كانت ذات قيمة وثمن؛ ألا ترى أن ذلك الرسول قال: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) فلولا أنها كانت ذات قيمة وثمن وإلا لم يعط لمن جاء به حمل بعير الطعام، وكان قيمة الطعام عندهم في ذلك الوقت ما كان. (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ). أي: نادى مناد: (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ). لا يحتمل أن يكون يوسف يأمر رسوله أن يقول لهم: (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)؛ وقد علم أنهم ليسوا بسارقين، ولكن قال لهم ذلك المنادي الذي ناداه - واللَّه أعلم -: (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) من نفسه، وهو من بعض من يتولى كيل الطعام على الناس، وأمثاله لا يبالون الكذب أو قال، لهم ذلك قوم كانوا بحضرتهم: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ). أو أن يكون على

(71)

الاستفهام والتقرير. فإن كان هذا - فهو يحتمل من يوسف؛ وأما غيره فلا؛ لأنه كذب. وضم يوسف أخاه يحتمل وجهين: يحتمل لمكان سؤاله إياهم أن يأتوا به، أو لمكان فضله ومنزلته ليعلموا أن ما كان ليوسف وأخيه عند أبيهم من فضل المحبة والمنزلة من اللَّه؛ إذ جعل ذلك لهما عند الملك وغيره. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ). أي: إناء الملك؛ سقاه مرةً صاعًا؛ ومرةً سقاية، فيجوز أن يستعمل في الأمرين جميعًا؛ في الاستسقاء والكيل جميعًا. (قَالُوا) - لمناديه - (مَاذَا تَفْقِدُونَ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي أضللتم؛ يقال: افتقدتك وتفقدتك أي: تعهدتك. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَلَا تَبْتَئِسْ): هو من البؤس، والسقاية: المكيال؛ وقيل: مشربة الملك، وصواع الملك؛ وصاعه - واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قيل: ضمينٌ لذلك الطعام؛ وكفيل به. والزعيم: كأنه أيضًا اسم لرئيس من القوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) هذا يحتمل وجوهًا: يحتمل أنهم قالوا ذلك؛ لأنكم رددتم إلينا الدراهم وجعلتم في أوعيتنا، ثم رددنا عليكم؛ مخافة أن نعرف بالسرقة والفساد في الأرض؛ فكيف تقرفونا بهذا؟! والثاني: أنكم تعلمون أنا أبناء النبي والرسول، والأنبياء لا يكون منهم السرقة ولا الفساد في الأرض، ومثل هذا لم يظهر في أهل بيتنا قط ولا قرفنا به؛ فكيف قرفتمونا بهذا؟!

(74)

والثالث: أنكم تروننا صَؤامين قوامين؛ ومن هذا فعله ورأيه فإنه لا يتهم بالسرقة. أو أن يكون قوله: (لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) لما رأوهم دخلوا من أبواب متفرقة، ولو كانوا سراقًا لدخلوا مجموعين؛ لأن عادة السُّراق الاجتماع لا التفرق. ثم قالوا: (قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) أي: إن كان فيكم من يكذب ويظهر ذلك منه؛ فما جزاؤه؟. (قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) هذا يحتمل وجهين: يحتمل قوله: (فَهُوَ جَزَاؤُهُ) أي يصير رقيقًا مملوكًا بها له، أو يصير محبوسًا بها عنده. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) ظاهر هذا الكلام: أن يكون يوسف هو الذي فتش أوعيتهم، وطلب ذلك فيها؛ حيث نسب ذلك إليه بقوله: (قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ). لكنه نسب إليه؛ لمْا بامْرِهِ فُتِّشَ؛ إِذ الملوك لا يتولون ذلك بأنفسهم وفيه أنه قد فصل بينهم وبين بنيامين؛ حيث سفى هذا أخاه، ولم يسم أُولَئِكَ؛ بقوله: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ)، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: أنه قد ذكر لهذا أنه أخوه؛ حيث قال له: (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ)؛ ولم يذكر لأُولَئِكَ فسمى هذا أخًا له، ونسب إليه بالأخوة؛ لما كان ذكر له، ولم يسم أُولَئِكَ؛ لما لم يذكر لهم أنه أخوهم. والثاني: أنه لم يكن لهذا - أعني بنيامين لمكان يوسف - سوء صنيع، ولا شر، بل هو على الأخوة والصداقة التي كانت بينه وبينه. وأمَّا أُولَئِكَ - أعني غيره من الإخوة - فقد كان منهم إليه ما كان من سوء صنيعهم، وقبح فعالهم؛ فيخرج ذلك مخرج التبري من الإخوة بسوء ما كان منهم إليه؛ وهو كقوله لنوح - عليه السلام - حين قال: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) نفى أن يكون من أهله؛ بسوء عمله وفعله؛ غير صالح. فعلى ذلك الأول يشبه أن يكون على هذا. واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ). دل هذا أنه قد كان منه أيضًا التفتيش والطلب في وعاء أخيه؛ على ما كان في أوعيتهم لا يستخرجها على غير تفتيش. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ). هذا يحتمل وجهين: يحتمل (كَذَلِكَ كِدْنَا) أي علمنا يوسف - من أول الأمر إلى آخره - ما يكيد ويحتال في إمساك أخيه عنده ومنعه عنهم؛ لأن يخلو لهم وجه أبيهم جزاء ما طلبوا هم: أن يخلو لهم وجه أبيهم؛ بتغييب يوسف عن أبيه؛ لأن أباهم قال: (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ)، فلما بلغه ذلك الخبر - تولى عنهم؛ وهو قوله: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ. . .) الآية؛ هذا - واللَّه أعلم - جزاء كيدهم الذي كادوا بيوسف ليخلو لهم وجه أبيهم؛ ليتولى عنهم أبوهم، هذا يشبه أن يكون. والثاني: (كِدْنَا لِيُوسُفَ) أي: علمناه أن كيف يفتش أوعيتهم لئلا يشعروهم أنه عن علم استخرجها من وعاء أخيه؛ لا عن جهل وظن، فعلمه البداية في التفتيش بأوعيتهم؛ لئلا يقع عندهم أنه عن علم ويقين يأخذه. يشبه - واللَّه أعلم - أن يخرج قوله: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ) على هذين الوجهين. أو (كِدْنَا لِيُوسُفَ) أي: أمرنا يوسف بالكيد بهم؛ جزاء ما عملوا بمكانه لما اهتموا بإمساك أخيهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ). أي في حكم الملك، ذكر أن حكم إخوة يوسف وقضاءهم فيهم: أن من سرق يكون عبدًا بسرقته للمسروق منه، ويستعبد بسرقته، ومن حكم الملك: أن يغرم السارق ضِعْفَي ما سرق؛ ويضرب ويؤدب؛ ثم يخلى عنه، ولا نعلم ما حكم الملك في السرقة، سوى أنه أخبر أن ليس له أخذ أخيه في دين الملك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك، أو يجعل له حق الأخذ وحبسه؛ وإن لم يكن ذلك في حكمه. أو أن يكون قوله: (إِلَّا أَن يَشَاءُ اللَّهُ) على ما كان من إبراهيم: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) وكان الأنبياء - عليهم السملام - يذكرون الثنيا على حقيقة المشيئة، أو يقول: إلا أن يكون في علم اللَّه مني زلة؛ فاستوجب عند ذلك الكون في دين ذلك الملك؛ فيشاء ما علم مني، وكذلك قول إبراهيم حيث قال:

(77)

قوله تعالى: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) أي: لا أخاف ما تشركون به؛ إلا أن يكون مني ما أستوجب ذلك بزلة؛ فيشاء اللَّه ذلك منى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ). الدرجات: هن الفضائل؛ يرفع بعضهم فوق بعض بالنبوة والعلم، وفي كل شيء. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ). ما من عالم وإن لطف علمه وكثر إلا قد يكون فوقه من هو ألطف علمًا منه وأكثر وأعلم في شيء أو يكون قوله: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) وهو اللَّه تعالى؛ فوق كل ذي علم؛ يعلمهم العلم، واللَّه أعلم. من يقول: إنه عالم إلا بعلم يحتج بظاهر هذه الآية؛ حيث قال: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أثبت لغيره العلم ولم يذكر لنفسه؛ بل قال: (عَلِيمٌ)؛ لكنه إذا قال: (عَلِيمٌ) أثبت العلم ولأنه إذا قال: وفوق كل العلماء عليم يكون كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قال بعض أهل التأويل: كانت سرقته: أنه كان صنم من ذهب لجده أبي أمِّه يعبده؛ فسرق ذلك منه لئلا يُعْبَدَ دون اللَّه، ولكنا لا نعلم ذلك؛ ونعلم أنهم كذبوا في قولهم (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وأرادوا أن يتبرءوا منه، وينفوا ذلك عن أنفسهم، ليعلم أنه ليس منهم. فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم (قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) عند اللَّه. قيل: إن يوسف أسر هذه الكلمة في نفسه؛ لم يظهرها لهم أو أسر ما اتهموه بالسرقة. وجائز أن يكون قولهم: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) خاطبوا به أخاه بنيامين دون يوسف: إن سرقت، فقد سرق أخ له من قبل؛ يقولون فيما بينهم. وقد ذكر في بعض الحروف: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سُرِّقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) بالتشديد فإن

(78)

ثبت؛ فالتأويل هو لقولهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) أي أنتم شر صنعًا بيوسف. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) من الكذب أنه سرق أخ له من قبل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) أرادوا واللَّه أعلم أن يرقوا قلبه بهذا، (إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا) لما يكون قلب الشيخ بولده الصغير أميل؛ وهو عنده آثر وأكثر منزلة منا. (فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). لما أحسن إليهم في الكيل؛ والإنزال في المنزل والضيافة والقرى؛ قد رأوه وعلموه محسنًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) قيل: هذا قول يوسف. (مَعَاذَ اللَّهِ) أي أعوذ باللَّه (أَنْ نَأْخُذَ) ونحبس بالسرقة (إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ) فَإِنْ قِيلَ: كيف تعوذ على ترك أخذه؛ وأخذ غيره مكانه، ولم يكن وجب له حق الأخذ؛ إذ لم يكن سرقه وإنما يتعوذ على ترك ما لا يسع تركه؟ قيل: إنه لم يتعوذ على ترك أخذ أخيه، إنما تعوذ على أخذ غير من وجد المتاع عنده. (إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ) عندكم لو أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده؛ إذ في حكمهم أخذ من سرق بالسرقة والحبس بها. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)

(80)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ... (80) قيل: أيسوا عن أن يُرَدَّ إليهم أخوهم. (خَلَصُوا نَجِيًّا). قيل: خلوا من الناس وخلصوا منهم؛ يتناجون فيما بينهم في أمر أخيهم، أو في الانصراف إلى أبيهم، أو في المقام فيه. (قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا). قال أهل التأويل: كبيرهم في العقل ليس في السن؛ وهو فلان. قَالَ بَعْضُهُمْ: وهو يهوذا، وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو شمعون. ولكن لا نعلم من وإن قائل هذا لهم، ولا نحتاج إلى معرفة ذلك؛ سوى أن فيه: (قَالَ كَبِيرُهُمْ إما أن كان كبيرهم في العقل؛ أو كبيرهم في السن. (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ) (ألم تعلموا) و (ألم تروا) حرفان يستعملان في أحد أمرين: في الأمر؛ أن اعلموا ذلك، أو في موضع التنبيه والتقرير؛ وهاهنا كأنه قال ذلك على التقرير والتنبيه؛ أي: قد علمتم (أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ). هذا يدل أن التأويل في قوله: (إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُم)، هو إلا أن يعمكم أمرٌ ويجمعكم؛ فتهلكون فيه جميعًا، وليس كما قال بعض أهل التأويل: إلا أن يجيء ما يمنعكم عن رده؛ أي: إلا أن تغلبوا فتعجزوا عن رده؛ لأنه قد جاء ما يمنعهم عن رده، ثم أبى أكبرهم الرجوع إلى أبيه؛ دل أن التأويل هو هذا، ومن يقول: إن التأويل في قوله: (إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُم)، إلا أن يجيء ما يمنعكم عن الرد؛ استدل بقوله: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ)؛ فلو كان على ما يعمهم ويجمعهم، لم يكن ليأمرهم بالرجوع إلى أبيهم؛ دل أنه ما ذكر.

(81)

وأما أهل التأويل الأوله يقولون: إن قوله: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ) ليس على الأمر؛ ولكن إذا رجعتم إلى أبيكم؛ فقولوا: إن ابنك سرق وكذلك يخرج قوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) ليس على الأمر؛ ولكن لو سألت أهل الفرية وأهل العير؛ لأخبروك أنه كما قلنا؛ فعلى ذلك قوله: (ارجِعُوَا) ليس على الأمر؛ ولكن لو رجعتم إليه؛ فقولوا كذا. وقوله عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ). أي: من قبل ما ضيعتم أمر أبيكم في يوسف؛ أو ضيعتم أمر اللَّه ووعده في يوسف. (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي). هذا يحتمل وجهين: يحتمل حتى يأذن لي أبي بالرجوع إليه؛ إذا ظهر عنده عذرنا وصدقنا في أمر ابنه أو يأذن لي أبي، بالمنازعة في القتال مع الملك حتى أستنقذ أخي وأستخلصه منه. (أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) في الرجوع أيضًا أو في القتال معه. (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) أو يحكم اللَّه لي بإظهار عذرنا وصدقنا عند أبينا. (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) في إظهار العذر؛ لأنه إذا حكم بإظهار العذر ظهر ذلك في الخلق جميعًا، ولا كذلك حكم غيره؛ لأن كل من يحكم بحكم؛ يجوز إنما يحكم بحكم؛ هو حكم اللَّه؛ فهو خير الحاكمين وكذلك قوله: (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لأن من رحم من الخلق؛ إنما يرحم برحمته؛ فهو أرحم الراحمين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) يحتمل على الأمر؛ على ما هو في الظاهر. ويحتمل ما ذكرنا؛ أي: لو رجعتم إليه؛ فقولوا: يا أبانا إن ابنك سرق يشبه أن يكون هذا منه تعريضًا في التخطئة؛ على ما كان يؤثره على غيره من الأولاد؛ أي الذي كنت تؤثره علينا بالمحبة وميل القلب إليه - قد سرق، ويشبه أن يكون ليس على التعريض؛ ولكن على الإخبار؛ على ما ظهر عندهم من ظاهر الأمر. (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا) بما أخرج المتاع من وعائه. (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ).

(82)

هذا على التأويل الذي قيل في قوله: (إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُم) أي: يعمكم ويجمعكم؛ أي: ما كنا نعلم - وقت إعطاء العهد والميثاق - أنه يسرق؛ وإلا لم نعطك العهد على ذلك. ويحتمل: (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) وقت ما أخرج المتاع من وعائه؛ واتهم أنه سرق، أو لم يسرق، أو هو وضع الصاع في رحله، أو غيره وضع أي: ما كنا نعلم في الابتداء أن الأمر يرجع إلى هذا؛ وإلا لم نخرجه معنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) أي لو سألت أهل القرية وأهل العير؛ لأخبروك أنه على ما نقول. (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) على ذلك؛ على ما ظهر لنا؛ من استخراج الإناء من وعائه والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) فَإِنْ قِيلَ: كيف قال لهم: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) وجعل ما أخبروه من تسويل أنفسهم وتزيينها؛ ولم يخالفوه فيما أمرهم في أمر بنيامين، ولا تركوا شيئًا مما أمرهم به؛ وليس هذا كالأول؛ الذي قال لهم في أمر يوسف: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا. . .) الآية؛ لأنه قد كان منهم خلاف لما أمرهم به؛ والسعي على إهلاكه، فكان ما ذكر من تسويل أنفسهم وتزيينها في موضع التسويل والتزيين، وأمَّا هاهنا فلم يأت منهم إليه خلاف، ولا ترك لأمره؛ فكيف قال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) ولكن يشبه أن يكون قال

(84)

ذلك؛ لأنهم لما اتهموا جميعًا بالسرقة؛ فقيل: (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)، قالوا: (لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ)، قطعوا فيه القول؛ أنهم لم يكونوا سارقين، وهو كان فيهم؛ فكيف قطعتم فيه القول بالسرقة (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ)؛ ولكن سولت لكم أنفسكم أمرًا من البغض والعداوة؛ من الإيثار له وليوسف عليهم؛ والميل إليهما دونهم؛ حيث قالوا: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) واللَّه أعلم. فسولت لكم أنفسكم ببغضكم وعداوتكم حتى تركتم التفحص عن حاله وأمره، أن لا كل من وجد في رحله شيء يكون هو واضع ذلك الشيء؛ بل قد يضع غيره فيه؛ على غير علم منه. وقوله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ). قد ذكرناه. وقوله: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا). قال أهل التأويل: قال: (يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا)؛ لأنهم صاروا جماعة؛ يوسف وبنيامين أخوه، ويهوذا وشمعون قد تخلفا لسبب حبس يوسف أخاه، أو يوسف وأخوه. وقال بعض أهل التأويل: إن جبريل أتى يعقوب على أحسن صورة؛ فسأله عن يوسف؛ أفي الأحياء أم في الأموات؟ فقال: بل هو في الأحياء؛ فقال عند ذلك: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا). أو علم يعقوب أن يوسف في الأحياء، وأنه غير هالك؛ لما رأى يوسف؛ من الرؤيا؛ من سجود الكواكب والشمس والقمر له؛ علم أنه في الأحياء، وأنه لا يهلك إلا بعد خروج رؤياه، وغير ذلك من الدلائل، لكنه كان لا يعلم أين هو؟ فقال ذلك). (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) أي أعرض عنهم وعاتبهم؛ حين أخبروه أن ابنه سرق. وقال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ).

(85)

قيل: يا حزنا على يوسف، وقيل يا جزعا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الأسف أشد الحسرة؛ وأصله: أن الأسف كأنه النهاية في الحزن: أن الحزين إذا بلغ غايته ونهايته؛ يقال: أسف. وهو النهاية في الغضب أيضًا. كقوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا) أي: لما أغضبونا (انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)، وقوله تعالى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا). وقوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ). يحتمل أن يكون لا على إظهار القول باللسان؛ ولكن إخبار عما في ضميره، وذلك جائز؛ كقوله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ)، أخبر عما في قلوبهم؛ لا أن قالوا ذلك باللسان. ويحتمل القول به على غير قصد منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهُوَ كَظِيمٌ). الكظم: هو كف النفس عن الجزع؛ وترديد الحزن في الجوف على غير إظهار في أفعاله، والجزع هو ما يظهر في أفعاله؛ والذي يهيج الحزن هو الذي يهيج الغضب، إلا أن الحزن يكون على من فوقه؛ والغضب على من تحت يده، وسبب هيجانهما واحد، أو أن يكون الكظيم: هو الذي يمسك الحزن في قلبه والغم، كأنه هو الذي يستر ويغطي القلب؛ إذا حل به، والهم: هو ما يبعث على القصد من الهم به. والحزن: هو على ما يؤثر التغيير في الخلقة؛ ولا يظهر في الأفعال والجزع يظهر في الأفعال، ولا يغير الخلقة عن حالها، لذلك عمل في ضعف نفس يعقوب، وعمل في إهلاك بعضه، حيث ذهبت عيناه وابيضت من الحزن، والكظيم: ما ذكرنا؛ هو الذي يردد الحزن في جوفه ولا يظهر ويكفه عن الجزع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) هو يمينهم مكان: واللَّه أو باللَّه، وكذلك قال إبراهيم: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ)

(86)

قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ). أي لا تزال تذكر يوسف ولا تنسى ذكره؛ حتى تسلو؛ من حزنه، كأنهم دَعَوْه إلى السلو من حزنه؛ لأنه بالذكر يتجدد الحزن ويحدث، فقالوا له: لا تزال تذكر يوسف. (حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا). قيل: دنفًا وقيل: (حَرَضًا): هرمًا؛ وأصل الحرض: الضعف. (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِ). كذلك صار يعقوب ضعيفًا في بدنه من الحزن؛ وصار بعض بدنه من الهالكين؛ حيث ابيضت عيناه؛ وذهبتا من الحزن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) قَالَ الْقُتَبِيُّ: الحرض: الدنف، والبث: أشد الحزن؛ لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يَبُثه؛ أي: يشكوه، وكذلك روي في الخبر: (مَنْ بَثَّ فلم يصبر)؛ أي: شكا، وما ذكر من الشكاية إلى اللَّه ليس على إظهار ذلك باللسان؛ ولكن إمساك في القلب. وقال الحسن: (أَشْكُو بَثِّي) أي: حاجتي وحزني إلى اللَّه، ويشبه أن يكون البث والحزن واحدًا ذكر على التكرار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحرض: الذي قد ذهب عقله من الكبر. (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) فتموت واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). قال بعض أهل التأويل: قوله: أعلم من اللَّه من تحقيق رؤيا يوسف؛ أنه كائن ما لا تعلمون: أنتم وأنا سنسجد له. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قوله: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أنه حي

(87)

لم يمت وهو ما ذكر؛ أنه كان يعلم من اللَّه ما لا يعلمون هم. ويشبه أن يكون قوله: أعلم من اللَّه؛ أي: أنتفع بعلمي ما لا تنتفعون أنتم، وأصله: أن إخوة يوسف لو علموا أن أمر يوسف يبلغ ما بلغ من الملك والعز - ما قصدوا قصد تغييبه عن والده، ولا سعوا فيه فيما سعوا من إفساد أمره، لكنهم لم يعلموا واللَّه أعلم - أو علم من اللَّه شيئًا لم يبين ما لا يعلمون هم؛ كقول إبراهيم [ .... ]، وما ذكر أهل التأويل: أن يعقوب قال: كذا؛ من النياح على يوسف والجزع عليه؛ لا يحتمل ذلك؛ لأنه قال - حين أخبروه بذلك -: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) وما ذكروا هم منه ليس هو بصبر؛ فضلا أن يكون جميلا. وقوله: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) قال أهل التأويل: تحسسوا: اطلبوه واستخبروا عنه وعن أخيه، لكن غير هذا كأنه أقرب؛ وهو من وقوع الحس عليه؛ كأنه قال: اذهبوا فانظروا إليه وإلى أخيه؛ لأنهم إن لم يكونوا يعلمون أن يوسف أين هو - فلقد كانوا يعلمون من حال أخيه بنيامين أنه أين هو؟ فلو كان على الطلب والبحث والاستخبار؛ على ما قاله أهل التأويل؛ إن احتمل في يوسف فذلك لا يحتمل في أخيه؛ إذ هم كانوا يعلمون مكانه وأين هو؟ وإن كانوا لا يعلمون مكان يوسف ولا أين هو، وهو إنما أمرهم أن يتحسسوا عنهما جميعًا؛ فدل - واللَّه أعلم - أنه من وقوع الحس والبصر عليهما؛ لا من البحث والطلب - واللَّه أعلم - فكأنه علم بالوحي أنه هنالك وأخوه معه، لكنه لم يخبر بنيه أنه هنالك؛ لما علم أنهم يتكاسلون ويتثاقلون عن الذهاب إليه؛ فإنما أمرهم بذلك أمر تعريض لا أمر تصريح. أو أن يكون قوله: (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ) على الإضمار؛ أي: تحسسوا من يوسف واسألوا منه رد أخيه؛ لما علم أن أخاه يكون معه. وقال عامة أهل التأويل: إنما قال لهم هذا؛ وعلم أنه في الأحياء؛ لأنه رأى ملك الموت؛ فقال له: هل قبضت روح يوسف مما قبضت من الأرواح؛ قال: لا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: رأى في المنام ملك الموت؛ فقال له ما ذكرنا؛ فعند ذلك قال هذا القول. لكنا نقول: إنه كان عالمًا بأنه في الأحياء؛ ليس بهالك؛ لما رأى من الرؤيا وغيره؛ فعلم أنه لا يهلك إلا بعد خروج رؤياه على الصدق والحق، لكنه لم يكن يعلم أنه أين هو من قبل، ثم علم من بعدُ بالوحي عن مكانه وحاله؛ فأمر بنيه أن يأتوه؛ فينظروا إليه وإلى أخيه. وأصل هذا: أن ما حَلَّ بيعقوب - من فوت يوسف وغيبته عنه - محنة امتحنه ربه، وبلية ابتلاه بها؛ يبتلى بذلك؛ حسرة عليه؛ ألا ترى أن يوسف لو أراد أن يُعْلِم أباه يعقوب عن مكانه وحاله؛ لقدر عليه؛ لأنه كان يعلم بمكان أبيه، وأن يعقوب لا يعلم بمكان يوسف؛ فلم يعلمه إلا بعد الأمر بالإعلام. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ). قيل: من رحمة اللَّه. (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ). أخبر أنه لا ييئس من رحمة اللَّه إلا القوم الكافرون؛ لأن مَنْ آمن يعلم أنه متقلب في رحمة اللَّه ونعمته فلا ييئس من رحمته، وأمَّا الكافر؛ فإنه لا يعلم رحمة اللَّه ولا تقلبه في رحمته؛ فييئس من رحمته. فنهاهم عن الإياس؛ لما كان عندهم أنه هالك؛ حيث قالوا: (إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ)، لما قال لهم: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ)، وأخوه كان محبوسًا بالسرقة؛ والمحبوس لا يرد في حكمهم. أو يقول: نهاهم؛ وإن لم يكونوا آيسين؛ ثم قوله: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) وخبر عن اللَّه؛ أخبر أنه لا ييئس من رحمة اللَّه إلا القوم الكافرون، وكذلك ما بشر إبراهيم بالولد؛ حيث قالوا: (بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ)، نهاه عن القنوط؛ ولا يحتمل أن يكون إبراهيم قانطًا عن ذلك؛ لكنه نهاه ثم أخبر فقال:

(88)

(وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)، والآية ترد على المعتزلة قولهم؛ لقولهم: إن صاحب الكبيرة خالد مخلد في النار وأنه ليس بكافر؛ وهو آيس - على قولهم - من رَوْح اللَّه، وقد أخبر أنه (لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) وهم يقولون: إن صاحب الكبيرة آيس من رَوْح اللَّه، وهو ليس بكافر. * * * قوله تعالى: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي على يوسف (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) سموه عزيزا، لما لعلهم يسمون كل ملك عزيزا، أو سموه عزيزًا؛ لما كان عند ذلك عزيزًا؛ بقوله: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ)، أو لما كان بالناس إليه حاجة بالطعام الذي في يده؛ وهو كان غنيًّا عما في أيديهم واللَّه أعلم. قولهم: (مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ). قال أهل التأويل: أصابنا الشدة والبلاء من الجوع. (وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ). قيل: دراهم نُفَاية مبهرجة لا تنفق في الطعام؛ كاسدة؛ لأنه كان في عزّة؛ وتُنفَق في غيره. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ) أي قليلة. وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: أي قليلة. وقال ابن عَبَّاسٍ: هي الورق الرديئة التي لا تنفق حتى يوضع منها.

وقال أبو عبيد: الإزجاء في كلام العرب: الدفع والشَوق؛ وهو كقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا)، أي يسوق ويدفع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ناقصة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جاءوا بسمن وصوف. وقيل: جاءوا بصنوبر وحبة الخضراء، وأمثال هذا. قالوا: ويشبه أن يكون (مُزْجَاةٍ) من التزجية: كما يقال: نزجي يومًا بيوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أوف لنا الكيل بسعر الجياد؛ وتأخذ النُفَاية وتكيل لنا الطعام بسعر الجياد. لكن قوله: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي سلم لنا الكيل تامًّا؛ لأن الإيفاء هو التسليم على الوفاء؛ كقوله: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ)، وتصدق علينا بفضل ما بين الثمنين في الوزن. وقيل: ما بين الكيلين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وتصدق علينا: أي زد لنا شيئًا يكون ذلك صدقة لنا منك. لكن يشبه على ما قالوا: وطلبوا منه الصدقة؛ حط الثمن؛ لأن الصدقة لا تحل للأنبياء، ويجوز الحط لهم، ويجوز حط من لا يجوز صدقته؛ نحو العبد المأذون له في التجارة؛ يجوز حطه ولا يجوز صدقته، وكذلك نبي اللَّه كان يجوز له الشراء، بدون

(89)

ثمنه؛ ولا تحل له الصدقة. ويحتمل أن يكون قوله: (مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) بذهاب بصر أبيهم؛ مسهم بذلك وأهلهم الضر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا). أي رُدَّ علينا بنيامين؛ لعل اللَّه يرد بصره عليه. (إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ). قال أهل التأويل: إن اللَّه يجزي المتصدقين إن كانوا على دين الإسلام؛ كأنهم ظنوا أنه ليس على دين الإسلام؛ ولو أنهم ظنوا أنه مسلم؛ لقالوا: إن اللَّه يجزيك بالصدقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) هو ظاهر لا يحتاج إلى ذكره وأما ما فعلوه بأخيه: قال أهل التأويل: هو ما قالوا إنه سرق؛ لكنهم لم يقولوا إلا قدر ما ظهر عندهم؛ فلم يلحقهم بذلك القول فضل تعيير؛ لكن يشبه أن يكونوا آذوه بأنواع الأذى، ولا شك أنهم كانوا يبغضون يوسف وأخاه؛ حيث قالوا: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا). وقوله: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ). قد كانوا علموا هم ما فعلوا بيوسف لكنه كأنه قال: هل تذكرون ما فعلتم بيوسف؛ أو أنتم جاهلون ذلك؛ ناسون؟ يقول لهم: اذكروا ما فعلتم بيوسف، وتوبوا إلى اللَّه عن ذلك، ولا تكونوا جاهلين عن ذلك. أو يقول لهم: هل رجعتم وتبتم عن ذلك؟، أو أنتم بعد فيه؟. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ). قال بعض أهل التأويل: (إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) أي: مذنبون؛ ولكن إذ أنتم جاهلون قدر يوسف ومنزلته، لأنهم لو علموا ما قدر يوسف عند اللَّه؛ وما منزلته ما قالوا: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا)، وما خطئوا أباهم في حبِّه إياه حيث قالوا: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، وما فعلوا به ما فعلوا. واللَّه أعلم. (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) كأنهم عرفوا أنه يوسف؛ بقول يوسف لهم: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) أو عرفوا بقول أبيهم؛ حيث قال: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ)، لما ذكر أخاه

(91)

ورأوه معه عرفوا أنه يوسف؛ لذلك قالوا. واللَّه أعلم. (قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ). يحتمل: من يتق معاصيه، ويصبر على بلاياه. أو اتقى مناهيه؛ وصبر على أداء ما أمر به. أو من اتقى وصبر؛ فقد أحسن. أو يقول: إنه من يتق الجَفاء؛ ويصبر على البلاء؛ فقد أحسن. (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). ويشبه أن يكون قوله: (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا). أي رُدَّ أخانا علينا، وهو ما ذكرنا. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) (تَاللَّهِ) وقسم قد اعتادوه في فحوى كلامهم؛ على غير إرادة يمين بذلك؛ هكذا عادة العرب؛ وإلا كان يعلم يوسف أن اللَّه قد آثره عليهم. ويشبه أن يكون يخرج القسم هاهنا على تأكيد معرفتهم فضله ومنزلته؛ أي: لم تزل كنت مُؤْثَرًا مفضّلا علينا. (وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ). أي: وقد كنا خاطئين؛ فيما كان منا إليك من الصنيع. أو أن يكون قوله: (لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا)؛ فيما قالوا: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا) أي لما كان يؤثرهما عليهم؛ فقالوا: كنت مؤثَرًا على ما كان أبونا يؤثرك علينا وقد كنا (لَخَاطِئِينَ)؛ فقال يوسف. (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) قَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (لَا تَثْرِيبَ): أي لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم؛ بما صنعتم. وقَالَ بَعْضُهُمْ " (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) أي: [لا تعنيف عليكم] (¬1). وقيل: أصل التثريب: الإفساد؛ يقال: ثرب علينا الأمر: أي أفسده. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: التثريب: الملامة " يقول: لا لوم عليكم في صنيعكم. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تثريب عليكم: أي لا أعيركم بعد هذا اليوم أبدًا؛ ولا أعيره عليكم. ¬

_ (¬1) في المطبوع هكذا [لا تنغيث عليكم] والتصويب من (التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الكلبي. 1/ 395). اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

(93)

وهو يحتمل هذين الوجهين: أحدهما: لا تعيير عليكم ولا ملامة؛ أي ليس عليكم في العقل تعيير ولا ملامة؛ إذا تبتم وأقررتم بالخطأ، وهكذا كل من أذنب ذنبًا أو ارتكب كبيرة؛ ثم انتزع عنها وتاب منها؛ لا يعيَّر - هو - عليه ولا يلام. وكذلك قيل في قوله: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) ذكر أنهم كانوا يعيرون أهل الكفر في كفرهم؛ وينابزونهم؛ ثم أسلموا؛ فنهوا أن ينابزوهم؛ ويصنعوا بهم مثل صنيعهم بهم في حال كفرهم، ولو وجب التعيير والملامة بعد الانتزع عنه والتوبة؛ أو يجوز ذلك لكان أصحاب رسول اللَّه معيَّرين ملامين؛ لأنهم كانوا أهل الكفر في الابتداء، فهذا مما لا يحل في العقل. والثاني: قوله: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ): لا أعيركم؛ على ما قال ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أي: لا أذكر ما كان منكم إلينا؛ أمنهم عن أن يذكر شيئا مما كان منهم إليه؛ ولذلك قال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي). ذكر أن الشيطان هو الذي فعل ما كان بينه وبين إخوته؛ وكذلك فعل؛ حيث قال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)، أضاف ذلك إلى الشيطان، ولم يضف إلى إخوته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ). قطع فيه القول بالمغفرة لهم؛ حين أقروا بالخطايا وتابوا عما فعلوا، وهكذا كل من تاب عن ذنب ارتكبه ونزع عنه؛ أن يقطع القول فيه بالمغفرة والرحمة. وقوله: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) يخرج على الدعاء لهم بالمغفرة، أو على الإخبار بالوحي أنه يغفر لهم، أو قد غفر لهم، أو يقول: استغفروا اللَّه؛ الذي كان بين اللَّه وبينكم يغفر لكم. (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لأن كل من يرحم من الخلائق؛ إنما يرحم برحمة منه إليه؛ فهو أرحم الراحمين؛ بما قلنا؛ على ما قلنا في قوله: (خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)، و (أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)، لأن من يحكم من الخلائق بحكم يجوز إنما يحكم بحكم ناله منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) دل هذا من يوسف؛ حيث قطع القول فيه أنه يصير بصيرًا؛ إنه عن وحي قال هذا لا عن رأي منه واجتهاد؛ إذ قطع القول فيه أنه إذا ألقي على وجهه يصير بصيرًا.

(94)

وقوله: (يَأْتِ بَصِيرًا) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يصير بصيرًا على ما ذكرنا. والثاني: يأتيني بصيرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ). أراد - واللَّه أعلم - حيث أمرهم أن يأتوا بأهلهم أجمع - أن يبرهم ويكرمهم؛ حين تابوا عما فعلوا به؛ وأقروا له بالخطأ في أمره. * * * قوله تعالى: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ). قيل خرجت؛ وفصلت؛ وانفصلت - واحد. (قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ). قال أهل التأويل: كان بينهما ثمانون فرسخًا؛ يعني: بين مصر وبين كنعان مكان يعقوب. وقيل: مسيرة ثمانية أيام؛ ما بين الكوفة والبصرة. ولا حاجة لنا إلى معرفة ذلك أن كم كان بينهما؛ سوى أنا نعلم أنه كان بينهما مسيرة أيام؛ ثم وجد يعقوب ريح يوسف من ذلك المكان؛ ولم يجد غيره ممن كان معه؛ فذلك آية من آيات اللَّه؛ حيث وجد ريحه من مكان بعيد لم يجد ذلك غيره، وذلك من آثار البشارة والسرور الذي يدخل فيه بقدومه. قال بعض أهل التأويل: ذلك القميص هو من كسوة الجنة؛ كان اللَّه كساه إبراهيم، وكساه إبراهيم إسحاق، وكساه إسحاق يعقوب، وكساه يعقوب يوسف؛ لذلك وجد

ريحه؛ لأنه كان من ثياب الجنة، فهو - وإن ثبت ما قالوا - فذلك أيضًا حيث وجد هو ذلك، ولم يجد غيره. وكان أيضا هو لا يجد ذلك الريح قبل فصول العير، وكان مع يوسف. احتمل ما قالوا، أو احتمل أن يكون قميصًا من قمصه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ). قيل تحزنون، وقيل: تهرمون، وقيل: تكذبون، وقيل: تضعفون، وقيل: تعجزون، وقيل: تجهلون، وقيل: تسفهون، وقيل: تحمقون، وقيل: لولا أن تقولوا ذهب عقلك. والمفند: معروف عند الناس: هو الذي يبلغ من الكبر غايته؛ كقوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ). وقوله: (لَولَا) وإذا كان على الابتداء؛ فهو على النهي؛ أي لا تفندون، وإذا كان على الخبر؛ فهو على النفي؛ كقوله: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) أي: لم ينفع.

(95)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) هو ما ذكرنا أنه يمين اعتادوه في كلامهم؛ على غير إرادة القسم به. (إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ). قيل في حُمث يوسف، وذكره القديم كان عندهم؛ بأنه هالك؛ لذلك أنكروا عليه وخطئوه؛ فيما يجد من ريحه، وعنده أنه في الأحياء؛ لذلك كان ما ذكروا. والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) أي رجع بصيرًا على ما كان: قال أهل التأويل: البشير كان يهوذا، وقيل: البريد، ولا ندري من كان؛ وليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة - سوى أن المدفوع إليه [الثوب] كان واحدًا؛ وإن قال في الابتداء: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). قال بعض أهل التأويل: وذلك أن يعقوب قال لهم قبل ذلك: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أنتم؛ من تصديق رؤيا يوسف؛ وأنه حي، وكان يعلم هو من اللَّه أشياء ما لا يعلمون هم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قال يعقوب: سوف أستغفر لكم ربي. طلبوا من أبيهم الاستغفار؛ فأخرهم ذلك إلى وقت، وطلبوا من يوسف العفو وأقروا له بالخطأ والذنب؛ فعفا عنهم وقت سؤالهم العفو، فمن الناس من يقول: إنما أخر يعقوب الاستغفار؛ وعفا عنهم يوسف؛ لأن قلب الشاب يكون ألين وأرق من قلب الشيخ؛ لذلك كان ما كان، لكن هذا ليس بشيء؛ إنما يكون هذا في عوام من الناس؛ فأما الأنبياء

(98)

كلما مضى وقت فتزداد قلوبهم لينا ورقة وخشوعا. ومنهم من يقول: إنما كان كذلك؛ لأن وَجْد يعقوب كان أكثر مِنْ وَجْد يوسف؛ لذلك كان أجابهم يوسف وقت سؤالهم العفو؛ وأخر يعقوب إلى وقت. قال الشيخ أبو منصور - رحمه اللَّه -: والوجه فيه عندنا - واللَّه أعلم -: أنهم إنما سألوا يعقوب؛ وطلبوا منه الاستغفار من ربهم؛ ليكون لهم شفيعًا؛ فأخر ذلك إلى وقت الاستغفار والشفاعة؛ إذ ليس كل الأوقات يكون وقتًا للاستغفار، وطلبوا من يوسف العفو منه؛ فعفا عنهم وقت طلبهم منه العفو؛ لهذا الوجه، يحتمل أن يخرج معناه. واللَّه أعلم. أو أن يكون يعقوب أخر الاستغفار؛ لأن الذنب في ذلك كان بينهم وبين ربهم؛ فأخر إلى أن يجيء الإذن من ربه، وأما الذنب في يوسف؛ ففيما بينهم وبين يوسف؛ فعفا عنهم في ساعته. ويحتمل قوله: (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) إن استغفرتم أنتم، أو قال: سوف أستغفر لكم ربي؛ إذا جاء وقته؛ وهو ما قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنه أخر وقت الاستغفار إلى وقت السحر، أو أن يكون أخره إلى أن يقدم شيئًا بين أيدي، الاستغفار والشفاعة؛ ليكون أسرع إلى الإجابة. * * * قوله تعالى: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ). ظاهر هذا أن يوسف كان تلقاهم خارجًا من المصر؛ فقال لهم: (دْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ

(100)

اللَّهُ آمِنِينَ) ثم لما دخلوا المصر آوى إلى نفسه أبويه وضمهما إليه. ويشبه أن يكون قال لهم هذا القول؛ وقت ما قال لهم: (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) و (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، ثم لما جاءوا هم ودخلوا مصر - ضم إليه أبويه؛ وأمره إياهم أن يدخلوا مصر آمنين؛ لأن المصر كان أهله أهل كفر؛ فكأنهم خافوا الملك الذي كان فيه؛ فذكر لهم الأمن لذلك. واللَّه أعلم. وذكر الثنيا فيه؛ لأنه وعْد منه؛ وعد لهم؛ والأنبياء - عليهم السلام - كان لا يعدون شيئًا إلا ويستثنون في آخره؛ كقوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). وإنما ذكر الثنيا في الأمن؛ لم يذكر في الدخول؛ لأن الدخول منه أمر وما ذكر من الأمن فهو وعْد؛ فهو ما ذكرنا: أنه يستثني في الوعد ولا يستثني في الأمر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) يشبه أن يكون قوله: (آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) هو ما ذكر من رفعه إياهما على العرش، وخص بذكر أبويه بالرفع على العرش؛ فيحتمل أن يكون رفع أبويه والإخوة جميعًا؛ لأنه لو لم يرفعهم - وقد كان عفا عنهم - لما أقروا بالخطأ. وقال: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) لكان يقع عندهم أنه قد بقي شيء مما كان منهم إليه؛ لكنه خص أبويه بالذكر؛ لشرفهما ومجدهما؛ على ما يخص الأشراف والأعاظم؛ نحو قوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ)، ونحوه. ودل رفع أبويه على العرش - على أن اتخاذ العرش والجلوس عليه لا بأس به؛ إذ لو كان لا يحل أو لا يباح ذلك؛ لكان يوسف لا يتخذه؛ ولا كان يعقوب يجلس عليه، دل ذلك منهما أن ذلك مباح لا بأس به. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا). قَالَ بَعْضُهُمْ - من أهل التأويل - كانت تحيتهم يومئذ - فيما بينهم - السجود؛ يسجد بعضهم لبعض مكان ما يسلم بعضنا على بعض، وأما اليوم فهو غير مباح؛ وإنما التحية في السلام، لكن السجود لغير اللَّه؛ ليس يكره لنفس السجود؛ وإنما يكره وينهى عما في السجود؛ وهو العبادة والتسفل، لا يحل لأحد أن يجعل العبادة والتسفل له دون اللَّه، وأما نفس السجود فإنه كالقيام والقعود؛ وغيره من الأحوال يكون فيها المرء. واللَّه أعلم.

ويحتمل قوله: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) أي خروا له خاضعين له ذليلين، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) أي: خروا له سجدا، شكرا له؛ لما جمع بينهم ورفع ما كان بينهم، وهو قول ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا). أي: حقق تلك الرؤيا التي رأيتها من قبل؛ وجعلها صدقًا لي، رأى يوسف رؤيا فخرجت رؤياه بعد حين ووقت وزمان طويل؛ فهذا يدل أن الخطاب إذا قرع السمع يجوز أن يأتي بيانه من بعد حين وزمان، ويجوز أن يكون مقرونًا به، وليس في تأخر بيان الخطاب تلبيس ولا تشبيه، على ما قال بعض الناس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ذكر إحسانه إليه ومنته ولم يذكر محنته بالتصريح، إنما ذكرها بالتعريض، حيث قال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ)، ولم يقل: سجنت أو حبست، وأمثاله، ما كان ابتلاه اللَّه به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ). قيل: من البادية؛ لأنهم كانوا أهل بادية أصحاب المواشي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي). قَالَ بَعْضُهُمْ: نزغ: أي فرق أي: بعدما فرق الشيطان بيني وبين إخوتي، وكأن النزغ هو الإفساد؛ على ما ذكره أهل التأويل؛ أي: بعدما أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي، وأضاف ذلك إلى الشيطان؛ لما كان قال لهم: لا تثريب عليكم حين أقروا له بالفضل؛ والخطأ في فعلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ). اللطيف: هو اسم لشيئين: اسم البر والعطف؛ يقال: فلان لطيف؛ أي بارّ عاطِف. والثاني: يقال: لطيف؛ أي عالم بما يلطف من الأشياء ويصغر، كما يعلم بما يعظم ويجسم. أو يقال: لطيف: أي يعلم المستور من الأمور الخفية على الخلق؛ كما يعلم الظاهرة منها والبادية، لا يخفى عليه شيء؛ يعلم السر وأخفى، يقال له: عظيم، ولطيف؛ ليعلم

(101)

أن ليس يفهم من عظمه ما يفهم من عظم الخلق؛ إذ لا يجوز في الخلق أن يكون عظيمًا لطيفًا؛ ويجوز في اللَّه، ليعلم أن ما يفهم من هذا غير ما يفهم من الآخر. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). أي العليم بما كان ويكون، وما ظهر وما بطن، وما يسرّ وما يعلن، وبكل شيء، أو عليم بعواقب الأمور وبدايتها، (الْحَكِيمُ): حكم بعلم، ووضع كل شيء موضعه؛ لم يحكم بجهل ولا غفلة ولا سفه؛ على ما يحكم الخلق، تعالى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن ذلك علوًّا كبيرًا. مسألة: ثلاث آيات في سورة يوسف على المعتزلة: قوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ)، أخبر أنه لو لم يصرف عنه كيدهن مال إليهن، وهم يقولون: قد صرف عن كل أحد السوء والكيد؛ لكن لم ينصرف عنه ذلك. وكذلك قوله: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)، أخبر أنه إذا رحمه امتنع عن السوء والأمر به، وهم يقولون: إنه - وإن رحم - لا يمتنع السوء ولا الأمر به. وكذلك قوله: (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ)، وهم يقولون: ليس له أن يصيب أحدًا دون أحد من رحمته؛ ولا أن يخص أحدًا بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) قال أبو بكر الأصم: ذكر (مِنَ الْمُلْكِ)؛ لأنه لم يؤته كل الملك؛ إذ كان ووقه ملك أكبر منه، لكن لا لهذا ذكر (مِنَ الْمُلْكِ)؛ إذ معلوم أنه لم يؤت لأحد كل ملك الدنيا؛ قال اللَّه تعالى: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ)، ويكون في وقت واحد ملوك. وقال مقاتل: (من) صلة: كأنه قال: رب قد آتيتني من الملك. لكن الوجه فيه ما ذكرنا. وقوله: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ. . .) إلى آخر ما ذكر، قدم دعاءه؛ وسؤاله ربه ما سأل؛ إحسانه إليه ومحامده وصنائعه؛ ليكون ذلك له وسيلة إلى ربه في الإجابة. وفي ذلك دلالة نقض قول المعتزلة من وجهين: أحدهما: يقولون: إن كل أحد شفيعه عمله؛ فيوسف لم يذكر ما كان منه: أني فعلت

كذا؛ فافعل بي كذا، ولكن ذكر نعم اللَّه وإحسانه إليه. والثاني من قولهم: إنه لا يؤتي أحدًا ملكًا ولا نبوة إلا بعد الاستحقاق به ولا يكون من اللَّه إلى أحد نعمة وإحسان إلا بعد الاستحقاق. ومن قولهم: إن كل أحد هو المتعلم؛ لا أن اللَّه يعلم أحدًا، وقد أضاف يوسف التعليم إلى اللَّه؛ حيث قال: (وَعَفَضتَنِى مِن تَأويلِ آلأصًادِيث وهم يقولون: لم يعلمه ولكن هو تعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ). قال أهل التأويل: تعبير الرؤيا، ولكن الأحاديث: هي الأنباء، والتأويل: هو علم العاقبة وعلم ما يئول إليه الأمر، كأنه قال: علمتني مستقر الأنباء ونهايتها؛ كقوله - تعالى -: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ). واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). كأنه على النداء والدعاء؛ ذكر: يا فاطر السماوات والأرض؛ لذلك انتصب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). يشبه أن يكون تأويله: أنت ولي نعمتي في الدنيا والآخرة؛ كما يقال: فلان ولي نعمة فلان. ويحتمل: أنت أولى بي في الدنيا والآخرة، أو أنت ربي وسيدي في الدنيا والآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا). تمنى - عليه السلام - التوفِّي على الإسلام، والإخلاص باللَّه والإلحاق بالصالحين؛ فهو - واللَّه أعلم - وذلك أن اللَّه قد آتاه النهاية في الشرف والمجد في الدنيا دينًا ودنيا؛ لأن نهاية الشرف في الدِّين هي النبوة والرسالة، ونهاية الشرف في الدنيا الملك؛ فأحب أن يكون له في الآخرة مثله؛ فقال: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ثم يحتمل سؤاله: أن يلحقه بالصالحين؛ بكل صالح. ويحتمل: أنه سأله أن يلحقه بالصالحين؛ بآبائه وأجداده وبجميع الأنبياء والرسل. وقوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) هو ينقض على المعتزلة أيضًا؛ ومن قولهم: إنه أعطى كل أحد ليس له ألا يتوفاه مسلمًا؛ فيكون في دعائه عابثا؛ على قولهم.

(102)

والثاني: على قولهم، لا يملك أن يتوفاه مسلمًا؛ لأن من قولهم: إنه أعطى كل أحد ما به يكون مؤمنًا حتى لم يبق عنده شيء، ومن سأل آخر شيئًا يعلم أنه ليس عنده؛ فهو يهزأ به، أو يكون فيه كتمان النعمة؛ وفي كتمان النعمة كفرانها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) (ذَلِكَ): أي خبر يوسف وإخوته؛ وقصصهم التي قصصنا عليك وأخبرناك به؛ من أوله إلى آخره، (مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) ولم تشهدها أنت أولم تحضرها كقوله: (مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا)، هذا ليعلم أنك إنما علمت وعرفتها باللَّه وحيًا؛ ليدلهم على رسالتك ونبوتك. واللَّه تعالى أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ). أي: ما كنت لديهم ولا بحضرتهم؛ ثم أنبأت على ما كان؛ ليدل على ما ذكرنا من الرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ يَمْكُرُونَ). بأبيهم وأخيهم: أما مكرهم بأبيهم؛ حيث قالوا: (يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ)، أخبروه أنهم له ناصحون؛ فخانوه. ومكرهم بأخيهم؛ حيث قالوا: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ضمنوا له الحفظ؛ فلم يحفظوه - مكروا بهما جميعًا. والمكر: هو الاحتيال؛ في اللغة؛ والأخذ على جهة الأمن، وقد فعلوا هم بأبيهم يعقوب وأخيهم يوسف عليهما السلام. * * * قوله تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) وقوله - عز وبرل -: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ). أي ما أكثر الناس بمؤمنين؛ ولو حرصت يا مُحَمَّد أن يكونوا مؤمنين؛ كقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بلخ من شفقته ورحمته على الخلق؛ ورغبته في إيمانهم؛ حتى كادت نفسه تهلك في ذلك؛ حيث قال:

(104)

(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ. . .) الآية، وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ)، (وَلَا تَحزَن عَليهِم)، كان حرصه على إيمانهم بلغ ما ذكر؛ حتى خفف ذلك عليه بهذه الآيات. وقال بعض أهل التأويل: قوله - تعالى -: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ) يعني أهل مكة، (وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وهم كذلك؛ كانوا أكثرهم غير مؤمنين، وأهل مكة وغيرهم سواء كلهم؛ كذلك كانوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) أي: على ما تبلغ إليهم وتدعوهم إلى طاعة اللَّه؛ وجعل العبادة له؛ وتوجه الشكر إليه؛ لا تسألهم على ذلك أجرًا؛ فما الذي يمنعم عن الإجابة لك فيما تدعوهم؛ والائتمار بأمرك؟! هذا يدل أنه لا يجوز أخذ الأجر على الطاعات والعبادات؛ حيث نهى وأخبر أنه لا يسألهم على ما يبلغ إليهم أجرًا، وهو لم يتولَّ تبليغ جميع ما أمر بتبليغه بنفسه إلى الخلق كافة، بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ. . .) الآية، ولكنه ولى بعضه غيره؛ كقوله: " ألا فليبلغ الشاهد الغائب "؛ فإذا لم يجز له أخذ الأجر فيما يبلغ هو؛ فالذي كان مأمورًا أن يبلغ عنه أيضا لا يجوز أن يأخذ الأجر على ما يبلغ. وفي قوله: (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) وجهان: أحدهما: أنه ليس يسألهم على الذي يبلغه إليهم ويدعوهم أجرًا؛ حتى يمنع بذل ذلك وثقله عن الإجابة. والثاني: إخبار أن ليس له أن يأخذ؛ وأن يجمع من الدنيا شيئًا؛ كقوله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ. . .) الآية، ومعلوم أنه لا يمد عينيه إلى ما لا يحل؛ فيكون النهي عن أخذ المباح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ). أي هذا القرآن الذي تبلغهم ليس إلا ذكرى؛ وموعظة للعالمين، أو هو نفسه عظة وذكرى للعالمين؛ أعني: النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) أي شرف وذكرى لمن اتبعه وقام به، وهو ما ذكر في آية أخرى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)، وقوله: (آيَةً لِلْعَالَمِينَ)، أي منفعته تكون لمن اتبعه؛ فعلى ذلك هذا.

(105)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) أي كم من آية في السماوات والأرض. قال بعض أهل التأويل: الآيات التي في السماء مثل: الشمس والقمر والنجوم والسحاب؛ وأمثاله، والآيات التي في الأرض: من نحو: الجبال والأنهار والبحار والمدائن؛ ونحوها، لكن السماء نفسها آية، والأرض نفسها آية؛ وما يخرج منها من النبات آية. (يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ). أي: هم عنها معرضون عما جعلت من آيات؛ لأنها إنما جعلت آيات لوحدانية الله وألوهيته؛ فهم عما جعلت من آيات معرضون. وباللَّه الهداية والعصمة. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) أي: كم من آية دليل وعلامة على وحدانية اللَّه؛ في خلق السماوات والأرض، وهو قريب مما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: آيات السماء؛ ما ذكرنا من نحو الشمس والقمر والكواكب. وآيات الأرض؛ فمثل آثار الأمم التي أهلكوا من قبل؛ من نحو قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط؛ وغيرهم؛ ممن قد أهلكوا؛ يمرون عليها ويرونها ولا يتعظون بهم. والوجه فيه ما ذكرنا: أنهم معرضون عما جعلت تلك آيات؛ وإنما جعلت آيات لوحدانية اللَّه وألوهيته، أو معرضون عن التفكر فيها والنظر إعراض معاندة ومكابرة. ثم يحتمل الإعراض وجهين: أحدهما: أعرضوا: أي لم ينظروا فيها؛ ولم يتفكروا؛ ليدلهم على وحدانية الله وألوهيته؛ فهو إعراض عنها. والثاني: نظروا وعرفوا أنها آيات لوحدانية اللَّه؛ لكنهم أعرضوا عنها مكابرين معاندين، ليس في السماوات ولا في الأرض شيء - وإن لطف - إلا وفيه دلالة على وحدانية اللَّه، وآية ألوهيته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: في الاعتقاد؛ أي: وما يؤمن أكثرهم باللَّه بأنه الإله؛ إلا وهم مشركون الأصنام والأوثان في التسمية، وسموها آلهة؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا

(107)

يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا). والثاني: إشراك في الفعل؛ أي: وما يؤمن أكثرهم باللَّه إلا وهم عبدوا غيره؛ من الأصنام والأوثان، أو أن يكون (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ) بلسانهم (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) بقلوبهم أو يقول: وما يؤمن أكثرهم باللَّه في النعمة أنها من اللَّه تعالى؛ إلا وهم مشركون في الشكر له تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) أي: كيف أمنوا أن يأتيهم عذاب اللَّه أو تاتيهم الساعة بغتة؛ وقد سمعوا إتيان العذاب بمن قبلهم وهلاكهم، وقد جاء ما يخوفهم إتيان الساعة؛ وخافوا عنها؛ وإن لم يعلموا بذلك حقيقة؛ لما تركوا العلم بها ترك معاندة ومكابرة؛ لا ترك ما لم يبين لهم؛ ومن لم يأت له التخويف والإعلام. و (غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ): قال أَبُو عَوْسَجَةَ - رحمه اللَّه -: أي مجللة تغشيهم، ومنه قوله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)، وهو ما يأتيهم العذاب من فوقهم. وقال غيره: غاشية من عذاب اللَّه: أي عذاب من عذاب اللَّه تعالى؛ وهو كقوله: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ)؛ يجب أن يكون أهل الإسلام معتبرين بقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا)، وكذلك بقوله: (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) وإن كانت الآيتان نزلتا فيهم؛ لأنهم يمرون بما ذكر من الآيات ولا يعتبرون بما ذكر، وكذلك يكون آمنين عن غاشية من عذاب اللَّه تعالى. * * * قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي). قيل: السبيل يؤنث ويذكر. ويحتمل: هذه الطاعة أو العبادة لله.

(109)

يحتمل قوله - تعالى -: (سَبِيلِي) هذه التي أنا عليها، ويحتمل: هذه سبيلي التي أدعوكم إلى اللَّه. (عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي). البصيرة: العلم والبيان والحجة النيرة؛ أي هذه سبيلي التي أنا أدعوكم إليها؛ إنما أدعوكم على بصيرة؛ أي على علم وبيان وحجة قاطعة؛ وبرهان نير؛ ليس كسائر الأديان التي يدعى إليها على الهوى والشهوة بغير حجة ولا برهان؛ (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أي: ومن اتبعني، -أيضًا- فإنما يدعوكم أيضًا على حجة وبرهان؛ إذ من يجيبني؛ فإنما يجيب على بصيرة وبيان وحجة. (وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). قيل: كأن هذا صلة قوله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) سُبْحَانَ اللَّهِ: تنزيهًا لما قالوا؛ وتبرئة عما قالوا في اللَّه بما لا يليق به. (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في ألوهيته وربوبية غيره؛ أو في عبادته. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) ذكر رجالا - واللَّه أعلم - أي: لم نبعث رسولا من قبل إلا بشرًا؛ لم نبعث ملكا ولا جنًّا؛ فكيف أنكرتم رسالة مُحَمَّد بأنه بشر؛ ولم يروا رسولا من قبل ولا سمعوا إلا من البشر؛ كقولهم: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، وكقوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا) هذا واللَّه أعلم. (إِلَّا رِجَالًا) مثلك؛ بشرًا لا ملكًا ولا جنًّا، أو ذكر رجالا؛ لأنه لم يبعث امرأة رسولا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى). أي: إنما أرسل الرسل جملة من أهل الأمصار والمدن؛ لم يبعثوا من أهل البوادي وأهل البراري والقرى؛ إنما يريد الأمصار والبنيان، وقال اللَّه - تعالى -: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ)، قيل: هي مكة، جميع ما ذكر في القرآن من القرية والقرى؛ يريد به الأمصار والمدن؛ وإنَّمَا بعث الرسل والأنبياء من الأمصار؛ ولم يبعثهم من البوادي ومن أهل البراري - لوجهين - واللَّه أعلم -: أحدهما: لأن لأهل الأمصار والمدن؛ اختلاطا بأصناف الناس؛ وامتزاجًا بأنواع

(110)

الخلق، ويكون لهم تجارب بالخلق؛ فهم أعقل وأحلم وأبصر من أهل البادية والبرية، إذ اختلاطهم وامتزاجهم إنما يكون بالماشية وأنواع البهائم؛ لذلك بعثوا من الأمصار دون البادية. وبعدُ فإن الرسل يكون لهم أسباب وأعلام تتقدم عن وقت الرسالة تحتاج إلى أن يظهر ذلك للخلق؛ ليكون ذلك أسرع إلى الإجابة لهم؛ وأدعى وأنفذ إلى القبول، فإذا كانوا من أهل البوادي لا يظهر ذلك للخلق. والثاني: أنه يراد من الرسالة إظهارها في الخلق؛ في الآفاق والأطراف والأمصار، والمدن هي الأمكنة التي ينتاب الناس إليها في التجارات وأنواع الحوائج من الآفاق والأطراف؛ فيظهر ذلك فيها. وفي أهل الآفاق وأما أهل البوادي والبراري؛ ليس يدخلها ولا ينقلب إليها؛ إلا الشاذة من الناس؛ ولا يقضي فيها الحوائج؛ فلا يظهر في الخلق الرسالة وما يراد بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). أي: ألم ينظروا ويتفكروا؛ فيمن هلك من قبلهم من الأمم؛ بتكذيبهم الرسل أن كيف كان عاقبتهم بالتكذيب في الدنيا؛ ليمتنعوا عن تكذيب رسولهم. وقوله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ. . .) الآية؛ يخرج على وجهين: أحدهما: أي قد ساروا ونظروا كيف كان عاقبة المكذبين؛ لكنهم عاندوا ولم يعتبروا. والثاني: أي سيروا في الأرض؛ وانظروا، ولكن ليس على نفس السير في الأرض؛ ولكن على السؤال عما نزل بأُولَئِكَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك أو خِلافَ اللَّه ورسوله. (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أن ذلك أفضل وخير؛ ممن لم يتق ذلك. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا (110)، و (كُذِّبُوا)؛ كلاهما لغتان، قَالَ بَعْضُهُمْ: أيس الرسل عن إيمان قومهم وتصديقهم الرسل، ثم

يحتمل استيئاسهم عن إيمانهم؛ لكثرة ما رأوا من اعتنادهم الآيات وتفريطهم في ردها؛ أيسوا عن إيمانهم، أو كان إياسهم بالخبر عن اللَّه أنهم لا يؤمنون؛ كقوله: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ. . .) الآية، وأمثاله. وقوله: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قَالَ بَعْضُهُمْ: وظن الرسل أن أتباعهم الضعفة قد كذبوهم؛ لكن هذا إن كان من الرسل فهو ظن من الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم؛ لكثرة ما أصابهم من الشدائد، وطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، فوقع عند الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم وإن كان من الأعداء فقد استيقن الرسل أنهم كذبوهم. ورُويَ عن عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة؛ قال: فقلت: أرأيت قول اللَّه: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) أو (كُذِّبُوا) قال: فقالت: بل كذبهم قومهم، قال: فقلت: أرأيت قول اللَّه (حَتَّى)، واللَّه لقد استيقنوا أن قومهم قد كذبوهم؛ وما هو بالظن؛ فقالت: يا عروة لقد استيقنوا بذلك، قال: قلت: فلعلهم ظنوا أن قد كُذِبوا، قالت: معاذ اللَّه لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها، قال: وما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم؛ وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر؛ حتى إذا استيئست الرسل ممن كذبهم من قومهم؛ وظنوا أن أتباعهم قد كذبوهم؛ جاءهم نصر اللَّه عند ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حتى إذا استيئس الرسل عن إيمان قومهم؛ وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا فيما أوعدوا من العذاب أنه نازل بهم؛ لما أبطأ عليهم العذاب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وظنوا أنهم؛ أي ظن قومهم؛ أن رسلهم قد كذبوهم خبر السماء جاءهم نصرنا. فإن كان الآية في أتباع الرسل؛ على ما ذكر بعضهم؛ فهو كقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ). فإن كانت في غيرهم من المكذبين؛ فقد جاء الرسل نصر اللَّه.

(111)

وقوله: (فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ) من المؤمنين؛ فهو في ظاهره خبر على المستقبل؛ أي: ينجي من يشاء من هَؤُلَاءِ المؤمنين. ويشبه أن يكون على الخبر في أُولَئِكَ؛ فإن كان على هذا؛ فيجيء أن يكون نجينا من نشاء منهم؛ وأهلكنا من نشاء منهم، لكن يجوز هذا في اللغة، أو يكون في الآخرة ننجي من نشاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). أي لا يرد عذابنا إذا نزل عن المجرمين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) يحتمل قوله: (فِي قَصَصِهِمْ) قصة يوسف وإخوته وغيره؛ عبرة لأولى الألباب. ويحتمل (قَصَصِهِمْ): قصص الرسل والأمم السالفة جميعًا عبرة لأولى الألباب، والاعتبار إنما يكون لأولى الألباب؛ الذين ينتفعون بلبهم وعقلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى). يحتمل؛ أي: ما حديث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وما أخبر من القصص وأخبار الرسل والأمم السالفة؛ بالذي افتري؛ بل إنما أخبر ما كان في الكتب السالفة على غير تعلم منه ولا دراسة كتب. ويحتمل: ما كان هذا القرآن بالذي يقدر أن يفترى. (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي: تصديق الذي نزل على رسول اللَّه - الكتب التي كانت من قبل. (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ). أي تفصيل ما للناس حاجة إلبه. (وَهُدًى) من الضلالة لمن اهتدى. (وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وفيما ذكر من قصة يوسف وإخوته على رسول اللَّه دلالة التصبير على أذى قريش؛ يقول: إن إخوة يوسف - عليه السلام - مع موافقتهم إياه في الدِّين والنسب والموالاة - عملوا بيوسف ما عملوا من الكيد والمكر به؛ فقومك - مع مخالفتهم إياك في الدِّين - أحرى أن تصبر على أذاهم. وباللَّه العصمة. * * *

سورة الرعد

سُورَةُ الرَّعْدِ ذكر أنها مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ). يحتمل أن يكون قوله: (المر) كناية عن الأحرف المقطعة المعجمة؛ فيكون قوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) تفسير (المر). هذا هو الظاهر: أن يقال في كل الحروف المعجمة والمقطعة: أن يكون ما ذكر من بعدها على أثرها كان تفسيرًا لها. والثاني: يشبه أن يكون قوله: (المر) كناية عن الحجج والبراهين وسائر الكتب؛ كأنه قال: تلك الحجج والبراهين وسائر الكتب - جعلناها آيات القرآن وحججه، وقد ذكرنا القول في الحروف المقطعة فيما تقدم. ثم اختلف في قوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو القرآن الذي أنزل. قَالَ بَعْضُهُمْ: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ): التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة، وقوله: (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو الحق: القرآن الذي أنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) هو القرآن والذي أنزل إليك من ربك -أيضًا- هو القرآن، لكنه أخبر أنه منزل من ربك الحق. وقوله: (الْحَقُّ) يحتمل: هو الحق؛ أي: منزل من اللَّه؛ ليس كما قال أُولَئِكَ إنه ليس من اللَّه؛ إنما يقوله مُحَمَّد من تلقاء نفسه. ويحتمل: (الْحَقُّ) أي: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) أنه من اللَّه، أو أكثر الناس لا يؤمنون أنه آيات اللَّه وحججه واللَّه أعلم.

(2)

وقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ). قوله: (رَفَعَ) أي: أنشأها مرفوعة؛ لا أنها كانت موضوعة فرفعها؛ ولكن جعلها في الابتداء مرفوعة، وكذلك قوله: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ)، (مَدَّ الْأَرْضَ)، (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)، ونحو ذلك؛ أي: أنشأها مرفوعة ممدودة؛ لا أنها كانت مرفوعها فوضعها، أو كانت منقبضة فبسطها؛ ولكن أنشأها كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: هي بعمد لكن لا ترونها؛ أي: ترونها بغير عمد وهي بعمد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي بغير عمد على ما أخبر؛ ولكن اللطف والأعجوبة بما يمسكها بعمد لا ترى؛ كاللطف والأعجوبة فيما يمسكها بغير عمد؛ لأن في الشاهد لم يعرف؛ ولا قدر على رفع سقف فيه سعة وبعد بغير عمد لا ترى، لكن ما يرفع إنما يرفع بعمد، ترى؛ فاللطف في هذا كاللطف في الآخر. وفيه دلالة قدرته على البعث؛ لأنه ذكر هذا ثم قال: (لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي: من: قدر على رفع السماء - مع سعتها وبُعدها - بلا عمد؛ لقادر على إعادة الخلق؛ وبعثهم؛ وإحيائهم بعد الموت، بل رفع السماء مع سعتها وبعدها، بلا عمد، أكبر من

إعادة الشيء بعد فنائه؛ إذ في الشاهد من قد يقدر على إعادة أشياء بعد فنائها؛ ولا يقدر على رفع سقف؛ ذي سعة وبعد؛ بغير عمد. من ذا الوجه أمكن أن يحتج. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ). لما لم يفهم من قوله: (سميعٌ عَلِيمٌ)، مدبر المكان؛ وإن كان في الشاهد يفهم منه المكان؛ إذا أضيف إلى المخلوق - لم يجز أن يفهم من استوائه أما يفهم من استواء الخلق. وبعد فإن في الشاهد؛ إذا قيل: فلان استولى أمر بلدة كذا؛ أو استوى أمره؛ لم يفهم منه المكان، بل فهم منه نفاذ الأمر والسلطان والمشيئة؛ فعلى ذلك لم يجز أن يفهم من اللَّه إذا أضيف إليه المكان. وأصله: ما ذكرنا فيما تقدم أنه أخبر أنه ليس كمثله شيء؛ فهو في كل شيء؛ وكل وجه؛ لا يشبه الخلق؛ إذ الخلق - في الشاهد - لا يشبه بعضه بعضا من جميع الجهات؛ إنما يشبه بعضهم بعضا بجهة، ثم صاروا جميعًا أشكالا وأشباهًا؛ بتلك الجهة التي وقعت بينهم تشابه؛ فإذًا اللَّه سبحانه وتعالى لما أخبر أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، دل أنه إنما نفى عنه الجهات التي يقع بها التشابه والمثل؛ فهو يخالف الخلق من جميع الوجوه. وهذه مسألة مذكورة فيما تقدم: اختُلف في العرش: قَالَ بَعْضُهُمْ: العرش: هو الممتحنون بهم، استوى تدبير إنشاء غيرهم من العالم؛ لأنهم هم المقصودون في إنشاء ذلك كله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العرش: البعث به؛ استوى وتم تدبير إنشاء الخلائق؛ ما لولا البعث يكون إنشاؤهم عبثا باطلا؛ كقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) جعل عدم الرجوع إليه إنشاء الخلق عبثًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العرش: هو الملك؛ وبه تم ما ذكر، وقيل: هو سرير الملك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) على ما في العقل أنه عن تدبير مدبر خرج؛ وعن علم وحكمة وضع؛ ليس على الجزاف بلا تدبير ولا علم.

(3)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ) يحتمل: يبين الحجج والبراهين. ويحتمل: (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ) أي: آيات القرآن أنزلها بالتفاريق؛ لا مجموعة. (لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ). هو ما ذكرنا أن فيما ذكر من الآيات والتدبير؛ ورفع السماء بلا عمد؛ دلالة البعث والإحياء بعد الموت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ) هو كما ذكرنا في قوله: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) ومصير هم وبروزهم؛ وأمثاله. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ... (3) وقال في آية أخرى: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)، وقال في موضع آخر: (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)، وكله واحد، وقال: (الْأَرْضَ فِرَاشًا)، و (مِهَادًا). يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم. (مَدَّ الْأَرْضَ) أي: بسطها وجعل فيها رواسي؛ ذكر أنها بسطت على الماء؛ فكانت تكفو بأهلها وتضطرب؛ كما تكفو السفينة؛ فأرساها بالجبال الثقال؛ فاستقرت وثبتت. وذُكر أنها مدت وبسطت على الهواء؛ ثم أثبتها بما ذكر من الجبال، ولكن لو كان أنها ما ذكر؛ لكان يجيء ألا يكون بالجبال ثباتها واستقرارها؛ لأن الأرض والجبال من طبعها التسفل والانحدار في الماء والهواء؛ وكلما زيد من ذلك النوع كان في التسفل والانحدار أكثر وأزيد، فلا يكون بها الثبات والاستقرار؛ بل إنما يكون الثبات والاستقرار بشيء من طبعه العلو والارتفاع؛ فيمنع ذلك الشيء الذي من طبعه العلو عن التسفل والانحدار؛ إلا أن يقال: إنها كانت لا تتسفل ولا تتسرب؛ ولكن تضطرب وتميد بأهلها؛ على ما ذكره - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ)، فإن كان

على هذا؛ فيكون بالجبال ثباتها واستقرارها؛ ومنعها عن الاضطراب والميلان. أو ذكر هذا ليعلم لطفه وقدرته؛ حيث أمسكها بشيء من طبعه التسفل والانحدار، وهي في نفسها كذلك؛ ليعلم قدرة اللَّه ولطفه في كل شيء. واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَدَّ الْأَرْضَ). أي: أنشأها ممدودة؛ لا أنها كانت مجموعة في مكان فبسطها؛ على ماذكر من رفع السماء ونحوه. (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنهَارًا). جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - الأشياء أكثرها بأسباب؛ تعليمًا منه الخلق؛ ليكون ذلك عليهم أهون، وإن كان جعل الأشياء عليه بأسباب وبغير أسباب سواء؛ إذ هو قادر بذاته، يذكر هذا: إما بحق النعم التي أنعمها عليهم؛ من مد الأرض وبسطها؛ وإثباتها بالرواسي التي ذكر؛ وجعل الأنهار فيها ليصلوا إلى الانتفاع بها؛ ليتأدى بذلك شكره، أو يذكر بحق الإخبار عن قدرته وسلطانه؛ لأنه جعل الأرض بحيث لا يدخل فيها شيء؛ فأخبر أنه أدخل فيها الجبال مع كثافتها وعظمتها ليعرفوا قدرته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْهَارًا) أي: وجعل فيها أنهارًا؛ أخبر أنه مد الأرض وبسطها؛ وجعلها مستقرة ثابتة؛ ليستقروا عليها، ثم أخبر أنه جعل فيها أنهارًا؛ لينتفعوا بها من جميع أنواع المنافع، ثم أخبر أنه جعل فيها من كل الثمرات زوجين. قال بعض أهل التأويل: (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي: لونين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذو طعمين؛ لكن يكون منها ألوان أكثر من لونين: أحمر، وأبيض، وأسود، وأصفر، ونحوه، وكذلك الطعم: يكون حامضا وحلوًا ومرّا ومزًّا، إلا أن يقال: (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ): الطيب والخبيث؛ فلا يكون ثالث؛ وأما اللون؛ فإنه يكون ذا ألوان وذا طعوم. وقَالَ بَعْضُهُمْ الذكر والأنثى؛ فهذا يصح إذا أراد به الشجر؛ فمنه ما يثمر ومنه ما لا يثمر؛ فالذي يثمر: هو أنثى، والذي لا يثمر: هو ذكر. وأما على غير هذا فإنه لا يصح. وأصل الزوجين: هو اسم أشكال وأمثال واسم أضداد؛ ففيه دليل نفي ذلك كله عن

(4)

اللَّه، وأصل الزوج: هو من له المقابل من الأشكال والأضداد؛ أخبر أنه جعل الخلق كله ذا أشكال وأضداد؛ من نحو الليل والنهار؛ والذكر والأنثى؛ فهو في حق المنافع كشيء واحد في حق أنفسهم؛ كالأشياء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ). أي: يذهب ظلمة الليل بضوء النهار؛ وضوء النهار بظلمة الليل، أو يلبس أحدهما الآخر، أو يغطي الليل ما هو بالنهار بادٍ ظاهر للخلق، وبالنهار ما هو مستور خفي على الخلق واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). فيما ذُكِر؛ دلالة البعث والإحياء، ودلالة التدبير والعلم والحكمة، ودلالة الوحدانية. (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في آياته وحججه لا لقوم يعاندون آياته ويكابرونها. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). ذكر أن الآيات تكون آيات لهم؛ بالتفكر والنظر فيها؛ واللَّه أعلم؛ لا أن تصير آيات مجانًا بالبديهة. أو يقول: إن منفعة الآيات تكون لمن تفكر فيها؛ لا لمن ترك التفكر والنظر. والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) دل قوله: (قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ) أن التجاور إنما يذكر ويثبت إذا كانت الأرض قطعًا، وأما إذا كانت الأرض، أرضًا واحدة؛ فإنه لا يقال فيها التجاور؛ فهذا يبطل قول من يقول: إن التجاور إنما يذكر فيما فيه الشركة؛ فتجب الشفعة فيما فيه الشركة؛ وأما في غيره فلا تجب وأمَّا عندنا: هو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: أنه إنما أثبت التجاور في الأرض التي صارت قطعًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ). القطع المتجاورات: هي الأرضون الضواحي التي تصلح للزرع. (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ) أي: جنات متجاورات أيضًا، والجنات هي البساتين المحفوفة بالأشجار؛ فيها ألوان الثمار. (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ).

قيل: (صِنْوَانٌ) وهو النخلتان في أصل واحد، (وَغَيْرُ صِنْوَانٍ): النخل المتفرق وقيل: الصنوان: ما كان أصله واحدًا؛ وهو متفرق، (وَغَيْرُ صِنْوَانٍ) والتي تنبت وحدها: وقيل: (صِنْوَانٌ): هي النخلة تخرج؛ فإذا خرجت انشعبت لعد خروج الأصل؛ فهو الصنوان، ولهذا قيل: " عَئُم الرجل صنو أبيه ". (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ). أي: يسقى ما ذكر؛ من الزروع والنخيل والثمار والجنان بماء واحد. (وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ). يذكر هذا - واللَّه أعلم - أن جوهر الأرض كلها واحد؛ وهي قطع متجاورة؛ بعضها ببعض، ثم هي مختلفة في حق الثمار والفواكه، وكذلك الأشجار والنخيل؛ كلها من جوهر واحد من جنس واحد، والأرض في جوهرها واحد وتسقى كلها بماء واحد؛ ثم يخرج مختلفًا في ألوانها وطعومها وطيبها وخبيثها ومناظرها؛ ليعلم أنها لم تكن بنفسها؛ ولا بالأسباب التي جعل لها؛ ولكن بلطف واحدٍ مدبِّرٍ عليم حكيم؛ لأنها لو كانت بأنفسها وطباعها أو بالأسباب، لكانت كلها واحدة متفقة في طيبها وخبيثها وألوانها وطعومها؛ فلما لم يكن ما ذكرنا على لون واحد ولا طعم واحد ولا منظر واحد؛ دل أنه كان بتدبير مدبر واحد؛ عليم لطيف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ). قيل: في الحمل؛ بعضها أكثر حملا من بعض، وبعضها يحمل؛ وبعضها لا، ولكن ما ذكرنا في الطيب والخبيث والطعم واللون والمنظر - مفضل بعضه على بعض. وأصله: أن الأرض واحدة متجاورة؛ متصلة بعضها ببعض، والماء واحد أيضًا؛ ثم خرجت الثمار والفواكه والزروع والأعناب مختلفة متفرقة؛ ليعلم أن ذلك ليس هو عمل الأرض؛ ولا عمل الماء، ولا عمل الأسباب والطباع؛ ولكن باللطف من اللَّه؛ لأنه لو

(5)

كان بالماء أو الأرض؛ أو بالأسباب أو الطباع؛ لكانت متفقة مستوية. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ) لما ذكرنا من وحدانيته؛ وتدبيره؛ وعلمه؛ وحكمته. (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي: لقوم همتهم العقل والفهم؛ والنظر والتفكر في الآيات، لا لقوم همتهم العناد والمكابرة، أو لقوم ينتفعون بعقلهم وعلمهم. وقال الحسن: هذا مثل ضربه اللَّه لقلوب بني آدم كانت الأرض في الأصل طينة واحدة؛ فسطحها الرحمن ثم بطحها؛ فصارت الأرض قطعًا متجاورات؛ فينزل عليها الماء من السماء، فتخرج هذه زهرتها وثمرتها وشجرها؛ وتخرج نباتها ويحيا مواتها، وتخرج هذه سبختها وملحها؛ وخبثها؛ وكلتاهما تسقى بماء واحد؛ فلو كان الماء مالحًا؛ قيل: استسبخت هذه من قبل الماء كذلك الناس: خلقوا من آدم - عليه السلام - فينزل عليهم من السماء تذكرة واحدة؛ فترق قلوب؛ فتخشع وتخضع، وتقسو قلوب؛ فتسهو وتلهو وتجفو؛ أو كلام نحوه. ثم قال الحسن: واللَّه؛ ما جالس القرآن أحدٌ إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان؛ ثم تلا قوله: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) قال الحسن: إن تعجب - يا مُحَمَّد - من تكذيبهم إياك في الرسالة؛ فعجب قولهم؛ حيث قالوا: (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: وإن تعجب - يا مُحَمَّد - مما أوحينا إليك من القرآن؛ كقوله - في الصافات - (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ). (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي: أعجب أيضًا قولُهم، يقول: لكن قولهم أعجب عندك؛ حين قالوا: (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) تكذيبًا للبعث. وأصله - واللَّه أعلم -: يقول: إنك إن عجبت، من قولهم في تكذيبهم إياك في الرسالة؛ ولم أتكن، رسولا من قبل؛ فقولهم وإنكارهم قدرة اللَّه على البعث والإحياء

(6)

بعد الموت أعجب؛ إذ قد رأوا وشاهدوا من قدرة اللَّه وآياته؛ ما لو تفكروا وتأملوا ولم يعاندوا، عرفوا أنه قادر على ذلك كله؛ فوصفهم اللَّه تعالى بالعجز؛ وأنه لا يقدر على البعث والإحياء بعد الهلاك - أعجب من تكذيبهم إياك في الرسالة، ولم يكن سبق منك إليهم ما يوجب رسالتك وتصديقك، وقد سبق من اللَّه إليهم - ما يعرفهم قدرته على ذلك؛ وعلى أكثر منه. وأصله - واللَّه أعلم - وإن تعجب لإنكارهم رسالتك وتكذيبهم إياك؛ ولم يكن منك إليهم حقيقة الهداية والنعم والآيات والحجج، وإنما كان منك البيان والدعاء؛ فأعجب: قولهم في إنكارهم قدرة اللَّه على البعث؛ وقولهم في اللَّه سبحانه ما قالوا فيه؛ بعد معرفتهم حقيقة ذلك كله؛ باللَّه إليهم. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ). يشبه أن يكونوا لما كفروا بالبعث؛ كان كفرهم بالبعث كفرًا بالله؛ لأنهم عرفوه عاجزا، حيث قالوا: لا يقدر على بعث الخلق، ومن عرف ربه عاجزًا - فهو لم يعرف الرب الحقيقة؛ والإله الحقيقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: صار الكفر في أعناقهم أغلالا؛ حيث أنكروا الرسالة في البشر، ثم جعلوا الأصنام والأوثان معبودهم؛ يعكفون عليها ويخضعون؛ فذلك هو الأغلال في أعناقهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) في الآخرة كقوله: (خُذُوُه فَغُلُّوُه. . .)، (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). * * * قوله تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ). الاستفعال يكون على وجهين: يكون طلب الفعل ويكون الفعل نفسه؛ كقوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، قيل: أجيب لكم، وقوله تعالى: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)

أي: ليجيبوا لي، وقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) فإن كان على طلب الفعل؛ فهو ما سألوا رسول اللَّه العذاب، كقوله: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)، وكقوله: (وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ)، وقولهم: (إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ. .) الآية، فبدءوا بسؤالهم الهلاك قبل سؤالهم، تأخير العذاب وإمهاله، وتأخير العذاب عندهم وإمهاله، من الحسنة؛ فاستعجلوا بهذا قبل هذا. وإن كان الفعل نفسه. فقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) أي: عجلوك - يا مُحَمَّد - بالسيئة إليك، قبل أن تكون منهم إليك حسنة؛ حيث كذبوك في الرسالة، وآذوك في نفسك، ولم يكن منهم إليك إحسان من قبل واللَّه أعلم بذلك. وقيل: (بِالسَّيِّئَةِ): العذاب؛ على ما ذكرنا. (قَبْلَ الْحَسَنَةِ). أي: قبل العفو، وسؤالهم السيئة والعذاب بجهل منهم أنه رسول وأنه صادق؛ لأنهم لو علموا أنه رسول، وأنه صادق، فيما يخبر ويوعد من العذاب، كانوا لا يسألون؛ لأنهم يعلمون أن اللَّه يقدر على أن ينزل عليهم العذاب، لكن سألوا ذلك؛ بجهلهم بأنه رسول سؤال استهزاء وسخرية. فإن كان على هذا سؤالهم - كان فيه دلالة أن العقوبة والعذاب؛ قد يلزم من جهل الأمر؛ إذا كان بسبيل العلم به والنظر والتفكر فيه، وهَؤُلَاءِ جهلوا أنه رسول اللَّه؛ لتركهم النظر والتفكر. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: العقوبات؛ أي: قد كان في الأمم الخالية العقوبات؛ بسؤالهم العذاب

(7)

والمعاندة في الآيات إذا جاءت؛ كأنه - واللَّه أعلم - يصبر رسوله على سفه قومه؛ لسؤالهم العذاب والآيات ثم المعاندة فيها، يقول: كان في الأمم الماضية من سؤال العذاب والآيات ثم المعاندة من بعد نزولها؛ فنزلت لهم العقوبات؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المثلات: الأمثال والأشباه. وكذلك ذكر في حرف حفصة (وقد خلت من قبلهم الأمثال) وتأويله - واللَّه أعلم - أي: (وقد خلت من قبلهم الأمثال)؛ ما لو اعتبروا بها كان مثلا لهم، ولكن لا يعتبرون؛ فيمنعهم عن أمثال ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَذُو مَغْفِرَةٍ) أي: لذو ستر على ظلمهم؛ وتأخير العذاب إلى وقت؛ كقوله: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ)، وقوله: (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: لذو مغفرة للناس على ظلمهم إذا تابوا، وماتوا عليها، أو يكون قوله (لَذُو مَغْفِرَةٍ) للمؤمنين على ظلمهم، وإن ربك لشديد العقاب، لمن لم يتب، ومات على الظلم والشرك. وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) للكفار؛ وعلى التأويل الأول: وإِن ربك لشديد العقاب؛ إذا عاقب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ... (7) وقال في موضع آخر: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ)، وقال في آية أخرى: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) إلى آخر ما ذكر؛ فيحتمل سؤالهم الآية قوله تعالى: (كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ)، عين تلك الآيات التي أتت بها الرسل الأولون، وليس عليه أن يأتي بعين تلك الآية؛ إنما عليه أن يأتي بآية تخرج عن عرفهم وطباعهم، والرسل جميعًا لم يأتوا بآية واحدة؛ إنما جاءوا بآيات مختلفات، كل جاء بآية سوى ما جاء بها الآخر؛ فقال له: ليس عليك ذلك إنما أنت منذر. أو سألوا آيات سؤال الاعتناد

لدى هلاكهم، أعلى ما فعل الأولون؛ فقال: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ) قد عفا هذه الأمة إحضار آيات وإنزالها لدى هلاكهم، وإن كانوا هم في سؤالهم الآيات معاندين؛ لأنهم قد جاءهم من الآيات؛ على إثبات رسالته وإظهارها؛ ما كفتهم، لكنهم يعاندون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ): لا تملك إتيان الآيات، (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ)، وقال: (لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ) الآية. أو يقول: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ): ليس إليك إنشاء الآيات واختراعها؛ (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ). أي: داع يدعو إلى توحيد اللَّه ودينه؛ كقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). وقوله: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) يحتمل: لكل وقت هاد. ثم اختلفوا أنه: مَنْ ذلك الداعي؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: نبي من الأنبياء، وقَالَ بَعْضُهُمْ: داع؛ دليل سوى النبي. وقالت الباطنية: هو إمام يكون معصومًا مثل النبي لئلا يزيغ عن الحق؛ ولكن عندنا معصومًا أو لم يكن معصومًا، فإن في القرآن ما يمنع عن الزيغ؛ ويعرف ذلك منه إذا زاغ؛ وضل عن الحق.

(8)

(وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) أي: داع وهو كما قال: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). قوله تعالى: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى). قيل: يعلم أنها حملت ذكرًا أو أنثى مستويًا أو غير مستوٍ مؤفًّا؛ يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن علمه وقدرته أنه لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه شيء، فَإِنْ قِيلَ: هذا دعوى: ما الذي يعلمنا أنه يعلم ذلك؟ قيل: اتساق تدبيره ولطفه يدل على علم ذلك فيه؛ حيث رباه فيه وأنشأه مستويًا غير مؤفِّ سليما عن الآفات، ونماء الجوارح كلها على الاستواء؛ لا يكون بعضها أكبر وأعظم وبعضها أنقص وبعضها أتم؛ نحو العينين؛ تراهما مستويتين؛ لا زيادة في إحداهما دون الأخرى؛ بل تنموان على الاستواء، وكذلك اليدان والرجلان والأذنان؛ وأمثاله؛ فدل ذلك على العلم له به والتدبير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ). أي: يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد. قال عامة أهل التأويل: (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ): ما تنقص عن التسعة الأشهر، (وَمَا تَزْدَادُ): على التسعة الأشهر، فكان الحسن يقول: غيضوضة الرحم: أن تضع لستة أشهر أو لسبعة أشهر أو ثمانية، وأما الزيادة: فما زاد على تسعة أشهر. وفي حرف أُبي: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُل أُنْثَى وَمَا تَضَعُ) ولكن يحتمل قوله: (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) وجهين: أحدهما: (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ) أي: ما لا تحمل شيئًا؛ وهي التي تكون عقيمًا لا تلد، والغيضوضة تكون ذهاب الشيء، قال اللَّه - تعالى -: (وَغِيضَ الْمَاءُ)،

(9)

أي: ذهب. (وَمَا تَزْدَادُ) أي: ما تحمل وما تغيض الأرحام، فتلد بدون الوقت الذي تلد النساء، وما تزداد على الوقت الذي تلد النساء. أو (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) في زيادة عدد الأولاد ونقصانهم؛ ما تحمل واحدًا أو أكثر من واحد، أو يكون في زيادة قدر نفس الولد ونقصانه؛ لأن من الولد ما يصيبه في البطن آفة؛ فلا يزال يزداد له نقصان في البطن، ومنه ما ينمو ويزداد؛ وأمثاله. واللَّه أعلم. (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) مقدَّر بالتقدير؛ ليس على الجزاف؛ على ما يكون عند الخلق، ولكنه بتقدير وتدبير. (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يغيب عنه شيء، ولكن هو عالم بالذي يغيب عن الخلق ويشهده الخلق؛ أي: ما يغيب عنهم وما يشهدونه عنده بمحل واحد في العلم به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَالِمُ الْغَيْبِ): ما غاب بنفسه، وما شهد بنفسه؛ فالغائب بنفسه: هو ما لم يوجد بعد؛ ولم يكن، والشهادة: ما قد وجد وكان، يعلم ما لم يوجد بعد أنه يوجد أو لا يوجد، وإذا وجد، كيف يوجد؟ ومتى يوجد؟ وفي أي: وقت يوجد؟ وما جد وشهد؛ يعلمه شاهدًا موجودًا. على هذين الوجهين يجوز أن تخرج الآية؛ واللَّه أعلم؛ ويعلم ما غاب عنهم مما شهدوا من نحو قوة الطعام في الطعام، والقوة التي في الماء، وماهية البصر والسمع، والعقل والروح، وكيفيتها، وهذا كله مما غاب عن الخلق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ). المتعال، عن جميع ما يحتمله الخلق؛ يقال: هذا عظيم القوم؛ وكبيرهم، وهذا واحد زمانه؛ لا يعنون عظيم النفس وكبيره أو توحده من حيث العدد؛ ولكن من حيث نفاذ الأمر له والمشيئة فيهم؛ والعزة والسلطان، وذلة الخلق له والخضوع؛ فعلى ذلك لا يفهم مما وصف هو به؛ ما يفهم من الخلق من عظم الجسم وكبر النفس، وعلى ذلك ما وصف هو بأسماء - لا يحتمل ذلك في الخلق، يقال: أول وآخر، وظاهر وباطن، وعظيم ولطيف؛ ليعلم أنه ليس يفهم مما أضيف إليه؛ ووصف هو به؛ ما يفهم مما يضاف إلى الخلق؛ إذ من قيل في الشاهد: إنه عظيم - لم يقل إنه لطيف، ومن قيل: إنه أول - لم يقل

(10)

له: آخر، وكذلك الظاهر والباطن؛ إذا وصف بأحدهما انتفى عنه الآخر، وذلك مما وصف به اوخائب وأضيف إليه، ليعلم أنه لا يفهم بما يوصف هو به؛ ويضاف إليه ما يفهم؛ مما وصف به الخلق وأضيف إليهم. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ... (10) في نفسه في حال انفراده (وَمَن جَهَرَ بِهِ) لغيره (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) وفي ظلمة الليل (وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ). قيل: ظاهر بالنهار، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ): من يكون في السرب وهو الغار بالنهار، وقَالَ بَعْضُهُمْ: من هو مستخف بالليل: أي: ساكن بالليل في مقره، وسارب بالنهار: أي: متصرف متقلب بالنهار في حوائجه. ذكر هذا صلة ما تقدم؛ وهو قوله: (يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ) ويعلم -أيضًا- ما تزداد، وما ذكر أن عالم الغيب والشهادة، يقول -أيضًا-: يعلم من أسر القول، ومن جهر به، ومن كان مستخفيًا بالليل أو ساربًا بالنهار، أي: يعلم كل شيء؛ لا يخفى عليه شيء: من عمل سرا من الخلق؛ أو عمل بظاهر منهم. يذكر هذا - واللَّه أعلم - ليكونوا على حذر من المعاصي؛ لأن من علم أن عليه رقيبًا حفيظًا يكون أحذر وأخوف؛ ممن يعلم أن ليس عليه ذلك. وقال مقاتل: سواء منكم؛ عند اللَّه؛ من أسر القول ومن جهر به، وسواء منكم من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار؛ أي: من هو مستخف بالمعصية في ظلمة الليل، أو هو منتشر بتلك المعصية بالنهار؛ معلن بها؛ فعلم ذلك كله عند اللَّه؛ سواء. في ذلك تذكير أمرين: أحدهما: يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم؛ من أول حالهم إلى آخر ما ينتهون إليه يستأدي بذلك شكره؛ ليستديموا بذلك تلك النعم أبدًا ما كانوا. والثاني: يذكرهم علمه بجميع أحوالهم وأفعالهم؛ ليكونوا أبدًا على حذر من معاصيه، والخلاف له. أما علمه هو ما ذكر اللَّه: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى. . .) إلى قوله: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ. . .) الآية.

(11)

وأما نعمه فهو ما ذكر. (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) وقوله: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هم الأمراء، والشرط الذي يحفظونه في ظواهر من أمره؛ يخبر أنه محفوظ عليه الخفيات من أمره؛ حيث قال: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ. . .) الآية؛ حيث أخبر أنه يعلم ذلك ومحفوظ عليه الظواهر من أمره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ): الملائكة الذين يحفظونه، وعلى ذلك روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يجتمعون فيكم عند صلاة العصر وصلاة الصبح يحفظونه من بين يديه ومن خلفه "، مثل قوله: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)، قال: الحسنات من بين يديه والسيئات من خلفه؛ الذي عن يمينه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) يحتمل قوله: (لَهُ)، أي: لله معقبات يحفظونه، ويحتمل: (لَهُ) من كل ذكر وأنثى؛ يكون مثله قوله: (يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى). وقوله: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) يحتمل قوله: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، أي: يحفظون نفسه من البلايا والنكبات التي تنزل على بني آدم؛ فإن كان في حفظ نفسه فقوله من أمر اللَّه؛ أي: من عذاب اللَّه وبلاياه؛ كقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا)، وهو عذابنا. ويحتمل قوله: يحفظون أعماله؛ بأمر اللَّه، ثم يحتمل قوله: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) وجوهًا: يحتمل: من بين يديه: الخيرات التي يعملها، ومن خلفه: الشرور والسيئات، ويحتمل قوله: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ): ما قذم من الأعمال، (وَمِنْ خَلْفِهِ): ما بقي وأخر؛ كقوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)، ويحتمل (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ): ما مضى من الوقت، (وَمِنْ خَلْفِهِ): ما بقي. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

(12)

يشبه أن يكون هذه النعمة؛ نعمة الدِّين من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو القرآن، أو ما كان في أمر الدِّين؛ لا يغير ذلك عليهم إلا بتغيير يكون منهم؛ كقوله: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)؛ وكقوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم). ويحتمل أن يكون ذلك في النعمة الدنياوية؛ من الصحة والسلامة والمال، لا يغير ذلك عليهم إلا بتغيير ذلك من أنفسهم. فَإِنْ قِيلَ: إن الأنبياء قد كانوا بلوا بشدائد وبلايا؛ ولا يحتمل أن يكون ذلك منهم البداية في التغيير. قيل: أبدلت لهم مكان تلك النعمة خيرًا منها فليس ذلك بتغيير؛ ولكن لما ذكرنا أنه أبدلت لهم مكان النعمة نعمة هي خير منها. ثم ما كان من النعم؛ والأفضال من الطاعات لها حق التجدد والحدوث؛ يكون التغيير عليهم حالة اختيارهم؛ وتغييرهم على أنفسهم، وأما الأفعال التي لها حق البقاء؛ يكون التغيير من اللَّه من بعد؛ وهو من نحو السلامة والصحة والسعة، والذي له حق التجدد والحدوث الطاعات [والمعاصي]. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ). الآية ترد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون: إنه لا يريد إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين، وقد أخبر أنه إذا أراد بهم سوءًا؛ (فَلَا مَرَدَّ لَهُ. . .) الآية. دل هذا أنه قد يريد بهم السوء إذا غيروا هم ما أنعم اللَّه عليهم، أراد أن يغير عليهم والمعتزلة يقولون يملك الخلق دفع سوء إرادة اللَّه بهم، وإذا أراد الخير يملكون رد ذلك، واللَّه يقول: (فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ)، ولا مردّ لسوئه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ). أي: ليس لهم في دفع العذاب الذي أراد بهم ولي يدفع عنهم أو نصير ينصرهم؛ كقوله (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ). * * * قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا).

(13)

أي: مخوفًا ومطمعًا أو ما تخافون وتطمعون. وقال أهل التأويل: خوفًا للمسافر وطمعًا للمقيم. وقيل: خوفًا لأهل البنيان؛ وطمعًا لأهل الأنزال. وعندنا يطمعون ويخافون قوم واحد؛ يطمعون نفعه في وقت المنفعة، ويخافون ضرره في غير وقت النفع، أو يطمعون نفعه ويخافون ضرره، أو يطمعون مضيه؛ ويخافون نزوله والضرر به في غير وقت النفع؛ ونحوه. ويحتمل وجهًا آخر في قوله: (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) أي: يريكم خوفًا موعودًا وطمعًا موعودًا؛ لأن البرق نور ونار، فالنور يطمع النور الموعود في الجنة، والنار تخوف النار الموعودة في الآخرة؛ لأن فيها نارًا؛ ألا ترى أنه إذا اشتد خيف على من أصابه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ). قيل: أي: يرفع السحاب الثقال الذي فيه المطر والماء. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)، يقال: نشأت السماء؛ إذا ارتفع الغيم فيها، ويسمى الغيم نشأ، وقوله إنشاء؛ أي: أخذ فيه، ويقال: أنشأ اللَّه الخلق أي: خلقهم، نشأ: ارتفع، وأنشأ: رفع، وهو من هذا. واللَّه أعلم. (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) اختلف في الرعد والبرق: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو اسم ملك من الملائكة موكل بالسحاب؛ صوته تسبيحه. وعلى ذلك رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أقبلت يهود إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقالوا: يا أبا القاسم: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: " ملك من الملائكة موكَّل بالسحاب؛ معه مخاريق من نار؛ يسوق بها السحاب حيث شاء اللَّه "؛ فقالوا: ما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: " زجرة السحاب إذا زجره؛ حتى ينتهي إلى حيث أمر "، قالوا: صدقت.

فإن ثبت هذا؛ فهو هو. وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن البرق والرعد؟ فقال: الرعد: الملك، والبرق: ضربة السحاب بمخراق من حديد. وقيل: الرعد: ملك على ما ذكرنا، يزجر السحاب بالتسبيح ويسوقه؛ فإذا شذَّت سحابة ضمها، وإذا اشتد غضبه صار من فيه النار؛ فهي الصواعق. وقيل: هي الريح تسوق السحاب؛ فإذا تراكمت السحاب؛ فلم تجد منفذًا صوتت؛ فذلك صوتها. وقال بعض الفلاسفة: الرعد اصطكاك الأجرام؛ فيحدث هذا الصوت؛ بمنزلة الحجر يحك الحجر. وقَالَ بَعْضُهُمْ من الفلاسفة: إنما هي ريح تختنق تحت السحاب فتصدعه فذلك الصوت منه. أي: شيء كان الرعد: الملك، أو الريح، أو ما كان فالتسبيح يحتمل من كل شيء، على ما أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - التسبيح من كل شيء؛ حيث قال: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، فيحتمل تسبيح الخلقة؛ جعل في خلقه كل شيء حصانة وبراءة منشئه من كل ما وصفه الملحدون، ودلالة ألوهيته وربوبيته. ويحتمل تسبيحه: قول جعل في سرية كل شيء تسبيحه وتنزيهه ما لا يفهمه الخلق. وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الرعد ملك، وهذا تسبيحه، والبرق صوته الذي يزجي به السحاب. قيل: أمثال هذا كثير، واللَّه أعلم بذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة؛ سوى أنه هول هائل يهول الخلق، ويذكرهم سلطانه وعظمته، ولولا أنهم اعتادوا ذلك؛ وإلا لم تقم أنفسهم لسماع ذلك. وقوله: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أي: يذكرهم سلطانه وعظمته يكون ذلك تسبيحه، وما ذكروا من سلطانه وعظمته، (وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي: تسبيح الملائكة من خوفه، الرعد يسبح ويذكر الخلق عظمة اللَّه وسلطانه، فذلك الثناء عليه والملائكة يسبحونه

فيما بينهم وبين ربهم، فلم يذكر فيهم التسبيح بحمده، وذكر في الرعد والملائكة من خيفته، أي: من خوفه، ثم الخوف يخرج على وجهين: أحدهما: خوفًا من عقوبته؛ لأنه قد جاء فيهم الوعيد إذا زلوا كقوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ. . .) الآية. والثاني: خوف رهبة وهيبة لا خوف عقوبة؛ لأن اللَّه تعالى وصفهم بالطاعة له والاستسلام، كقوله: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وقوله: (وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ. . .) الآية، ونحو ذلك. ثم خوف الهيبة لا يزول في الآخرة، وخوف العقوبة يزول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ) قيل: الصعقة: الصيحة التي فيها موت البعض، ويذهب عقل البعض، كقوله: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ). وقيل: هي اسم العذاب وقد ذكرنا فيما تقدم ذكره في بعض الأخبار أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن شيء من أمر الرب فجاءت صاعقة فأحرقته فنزل (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ) أي: في توحيد اللَّه؛ لأن أهل الكفر كلهم كانت مجادلتهم في توحيد اللَّه وألوهيته وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: شديد الانتقام والعقوبة وقيل: شديد القوة وقيل: شديد الأخذ. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) من الكيد والمكر، وأصل المحال الحيلة، لكن سمي باسم الأول؛ لأنه جزاء الحيلة، فيكون كتسمية جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء

(14)

اعتداء، والمكر هو ما ذكرنا أنه الأخذ من حيث الأمن، من حيث لا يشعرون به. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المحال عندي من المكر. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المعقبات الحفظة الذين يحفظونه بأمر اللَّه، ويقال عقبته أي: حفظته، وأما قوله (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)، أي: لا رادّ لحكمه قال ويقال في غير هذا أعقب فلان فلانًا، أي: ذهب هو وجاء هو، ويقال: عقبت أي: رجعت، ومأخذهما من العقب، ويقال: رجع على عقبيه، أي: من حيث جاء. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: معقبات: ملائكة يعقب بعضها بعضا في الليل والنهار إذا مضى فريق خلف بعده فريق آخر يحفظونه من أمر اللَّه، أي: بأمر اللَّه. وقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) أي: ولي، مثل قادر وقدير، وحافظ وحفيظ وذلك جائز في اللغة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) يحتمل وجهين: يحتمل أي: له عبادة الحق، وليس لمن دونه عبادة الحق، أي: هو المستحق للعبادة ليس ممن يعبد دونه بالذي يستحق العبادة وعبادة الحق له، ليس لمن دونه. والثاني: له دعوة الحق؛ أي: له إجابة دعوة الحق ليس يملك من دونه إجابة من دعا بالحق. فعلى التأويل الأول الدعوة: العبادة، وعلى الثاني الدعوة: الإجابة، أي: له إجابة دعوة من دعا بالحق واللَّه أعلم هو يملك إجابة دعوة الخلق، فأما من عبد دونه ودعي دونه لا يملك ذلك، يدل على ذلك قوله: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) أي: والذين يدعون من دونه لا يملكون الإجابة، أو لا يملكون ما يأملون من عبادتهم الأصنام فيكون مثله ما ذكر (إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) وهو ضرب مثل من يدعو من دون اللَّه كباسط كفيه إلى الماء هو - واللَّه أعلم - ليس من يدعو من دون الله إلا كباسط كفيه إلى الماء فيدعو الماء، فكما لا يجيبه الماء وإن دعاه فعلى ذلك من يدعو الأصنام لا يملكون إجابته، واللَّه أعلم بذلك، أو أن يكون وجه ضرب هذا المثل أن من عبد دون اللَّه أو دعا من دونه ليس إلا كباسط كفيه إلى الماء وهو على بعد من

(15)

الماء، فكما لا يصل هو إلى الماء، لا يصل من عبد دون اللَّه إلى ما يأمل ويطمع، أو يحتمل من وجه آخر، وهو أن الماء يغترف إذا قبض الكف، ولا سبيل إلى الاغتراف إذا بسطت، فعلى ذلك من عبد دون اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) أي: دعاؤهم وعبادتهم لا يعقب ْلهم إلا الخسار في الآخرة حاصله: يضل ذلك كله عنهم لا يصلون إلى ما يأملون بالدعاء والعبادة، كقوله: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) يحتمل قوله: (يسجُدُ) على حقيقة السجود يسجد له المؤمن والكافر جميعًا أما المؤمن فإنه يسجد له بالاختيار والطوع. ويحتمل ما ذكر من السجود وجوهًا: أحدها: حقيقة السجود فإن كان هذا فهو في الممتحنين خاصة. والثاني: سجود الخلقة فإن كان على هذا فهو في جميع الخلائق جعل اللَّه في خلقة كل شيء دلالة وحدانيته وآية ألوهيته وربوبيته. والثالث: سجود الأحوال، فهو في المؤمن والكافر جميعًا أما المؤمن فهو يسجد له في كل حال وأما الكافر فإنه يسجد له ويخضع في حال الشدة والضيق ولا يسجد له في حال السعة والرخاء ويشبه أن يكون الكافر يكون سجوده لله اختيارا وطوعا حيث قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) إنهم؛ وإن عبدوا الأصنام؛ فيرون السجود والعبادة لله، لكنه لم يقبل ذلك منهم؛ لإشراكهم غيره في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ). أي: يسجد ظلالهم بالغدو والآصال، ينتقل ظل كل أحد بانتقال نفسه؛ ينتقل حيث تنتقل نفسه؛ فذكر الغدو والآصال؛ لأنه بالغدو والعشي يظهر الظل. ويحتمل السجود: أنه يسجد له؛ أي: يخضع له من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا؛ فإن كان على الخضوع؛ فهو في الخلائق كلهم؛ في البشر وغير البشر؛ وذي الروح وغير ذي الروح. (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) أي: ظلالهم تخضع له أيضًا بالغدو والآصال.

(16)

ويحتمل: أن يكون المراد من السجود سجود الخلقة: فيسجد له خلقة كل أحد. فإن قيل: ما معنى الغدو والآصال؟ قيل: يحتمل: أبدًا دائمًا: ليس على مراد الوقت؛ ولكن على الأوقات كلها. * * * قوله تعالى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ). أمره أن يسألهم: من رب السماوات والأرض؟ ثم أمره أن يجيب هو لهم؛ فيقول الله وهو في الظاهر دعوى، أكثر ما في هذه الآية دعوى، وبعضه حجاج، وهو قوله: (لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا)، وقوله: (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) لأنهم يقرون بهذا؛ لا يخلقون كخلقه؛ ولا يملكون دفع الضر؛ ولا جَرّ النفع. وقوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). (قُلْ) إنما أمره أن يسألهم من رب السماوات والأرض، ولم يقل من ربكم فإنما أمره أن يسألهم ما لا يتجاسرون أن يقولوا الأصنام التي يعبدونها هي أرباب السماوات والأرض فلا بد أن يقروا اللَّه رب السماوات والأرض، فإذا أقروا بهذا أنه رب السماوات والأرض قد دخل ما في السماوات والأرض في ربوبيته، إذ السموات والأرض، إنما خلقهما لأهلهما؛ فإذا كان ربَّ السماوات والأرض - كان ربَّ ما فيهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) أمره أن يسألهم ثم يسبقهم بالإجابة؛ لأنه هو السابق بكل خير، وهم يجيبون له أنه رب السماوات والأرض. دليله: حرف أبي وابن مسعود وحفصة؛ حيث قرءوا (من رب السماوات والأرض قالوا الله) يدل إنه أمره أن يسبقهم بالإجابة، كما كان هو السابق على كل خير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ). يقول - واللَّه أعلم - إذا أقررتم أن رب السماوات والأرض هو اللَّه؛ وهو الإله؛ فكيف

اتخذتم من دونه هذه الأصنام آلهة أربابًا وعبدتموها أو كيف جعلتم من ليس هو رب السماوات والأرض - أولى ممن أقررتم بالعبادة له أنه ربهما؟ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) إذ لا يملكون نفعًا لأنفسهم، ولا دفع الضر عنها؛ فكيف يملكون نفع غيره أو دفع ضر عن غيره؟ فعرفهم أنهم لا يملكون ذلك؛ وأن اللَّه هو المالك؛ فكيف تركتم عبادة من يملك ذلك؛ وعبدتم من لا يملك؟. فيخرج تأويله على وجهين: أحدهما: يقول: لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرا، فكيف اتخذتم دون اللَّه آلهة؟. والثاني: لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا مع وجود الحاجة فيها؛ فكيف تعبدون على رجاء النفع لكم بقولكم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ). وقوله: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ). أي: تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها أنها عمي لا تبصر شيئًا؛ واللَّه هو البصير؛ فكيف تركتم عبادة من يبصر؛ وعبدتم من لا يبصر؟ هل يستوي ذلك؟ أي: لا يستوي. أو يقول لهم: إنكم بعبادتكم الأصنام طمعتم شفاعتهم عند اللَّه؛ وهم عمي وأنتم بصراء؛ فهل رأيتم أعمى يقود بصيرا في الشاهد؟ أو هل رأيتم من لا يبصر يكون دليلا لبصير؟ فإذا لم تروا ذلك؛ فكيف طمعتم من الأصنام ذلك. وقال أهل التأويل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ): الأعمى: الكافر، والبصير: المؤمن. (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ). الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان. ووجه قولهم؛ حيث شبهوا الكفر بالظلمة، والإيمان بالنور؛ لأن الظلمة تحجب وتستركل شيء، والنور يرفع ذلك الحجاب وذلك الستر؛ فالإيمان له دلائل وحجج؛ ترفع تلك الحجب والستر؛ فينور له كل شيء. والكفر ليى له حجج ودلائل ترفع ذلك؛ فهو ظلمة لم يضئ له شيئًا، والإيمان نور؛ حيث أضاء له، ونور كل شيء له بالدلائل والحجج التي ذكرنا. فصار الكافر كالأعمى لا يبصر شيئًا؛

(17)

لأنه في الظلمة، والمؤمن كالبصير؛ لأن معه الدلائل والحجج. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ). أي: بل جعلوا لله شركاء في العبادة؛ بعد ما علموا أنهم لا يملكون لهم نفعًا إن عبدوها ولا ضرًّا إن تركوا العبادة لها. وقوله: (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ). أي: خلق هَؤُلَاءِ الأصنام؛ التي عبدوها وأشركوها في ألوهيته؛ كخلق اللَّه؛ فتشابه عليهم خلقه من خلق الأصنام؛ أي: عرفوا أنها لم تخلق شيئًا كما خلق اللَّه؛ فكيف أشركوا هذه الأصنام في عبادة اللَّه وألوهيته؛ وهم كأنهم قد أقروا أن اللَّه هو خالق كل شيء. وهذا ينقض على المعتزلة قولهم؛ حيث قالوا: إن اللَّه لم يخلق أفعال العباد ولا يقدر على خلقها؛ فإذا كان اللَّه لم يخلقها؛ فهم خلقوها - على زعمهم - فيكون موضع تشابه الخلق عليهم - على قولهم - فيدل على بطلان قولهم وفساد مذهبهم. والله الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) في السماوات والأرض (وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ). أي: كل شيء دونه تحت قدرته وقهره وسلطانه، والأصنام التي تعبدونها مقهورة مغلوبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا. . . (17)، إلى آخر ما ذكر من الأمثال؛ إلى قوله (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ). قال بعض أهل التأويل: هذا مثل ضربه اللَّه لليقين والشك؛ فاحتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها: فأما الشك فلا ينفع منه عمل، وأما اليقين فينفع اللَّه به أهله، وهو قوله: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) أوهو الشك، (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) وهو اليقين، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبيثه في النار؛ كذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وقال قتادة: قوله: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) الصغير بصغره والكبير بكبره. (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا) يقول: رابيا (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) والجفاء: ما يتعلق بالشجر من الزبد، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض؛ فضرب المثل للحق والباطل. يقول - واللَّه أعلم - كما اضمحل هذا الزبد؛ الذي ظهر فوق الماء؛ فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترجى بركته، كذلك يضمحل الباطل عن أهله؛ كما اضمحل هذا الزبد؛ وكما مكث هذا الماء في الأرض، وقر قرارها فأمرعت ورجيت بركته كذلك، وأخرجت له نباتها؛ كذلك يبقى الحق لأهله؛ كما بقي هذا الماء في الأرض. (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ) يقول: يبقى خالص هذا الذهب والفضة حين أدخل في النار؛ وذهب خبثه؛ كذلك يبقى الحق لأهله. (أَوْ مَتَاعٍ) يعني هذا الحديد والصفر الذي ينتفع به؛ وفيه منافع، يقول: كما بقي خالص هذا الحديد وهذا الصفر؛ حين أدخل النار وذهب خبثه؛ كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي خالصهما. وقال الكلبي: قوله: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) وهو القرآن؛ فاحتمله القلوب بأهوائها؛ ذو اليقين على قدر يقينه، وذو الشك على قدر شكه؛ فاحتملت الأهواء باطلا كثيرًا وجفاء: فالماء هو الحق، والأودية هي القلوب، والسيل الأهواء، والزبد الباطل، والحق المتاع والحلية. قال: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) فالزبد وخبث الحديد وخبث المتاع: هو الباطل " من أصاب من هذا شيئًا لم ينتفع به، فكذلك الباطل يوم القيامة لا ينتفع بباطله. وأمَّا الحلية والماء والمتاع: فهو الحق؛ من أصاب شيئًا منه انتفع به، وكذلك صاحب الحق يوم القيامة ينتفع بالحق. أما الحلية: فالذهب والفضة، وأما المتاع: فالصفر والحديد والرصاص والنحاس، ونحوه، ليس شيء من هذا ينتفع به حتى يدخل النار؛ فيميز صفوه من خبثه. وقال الحسين بن واقد: وهو قول مقاتل؛ ضرب اللَّه مثل الكفر والإيمان؛ ومثل الحق

والباطل، فقال: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)، سالَ الوادي الكبير على قدر كبره؛ والصغير على قدر صغره؛ فاحتمل السيل زبدًا رابيًا أي: عاليًا، ثم قال: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ)؛ الذهب والفضة، ثم قال: (أَوْ مَتَاعٍ) الشَّبَهُ والحديد والصفر والرصاص، (زَبَدٌ مِثْلُهُ): أي: للسيل زبد مثله لا ينتفع به؛ أوالماء ينتفع به، وللحلي والمتاع أيضًا زبد مثل زبد السيل؛ إذا أدخل النار؛ وهو خبثه لا ينتفع به والحلى والمتاع ما خلص منهما ينتفع به فمثل الأودية مثل القلوب ومثل السيل مثل الأهواء ومثل الماء والحلي والمتاع الذي ينتفع به مثل الحق، ومثل زبد الماء وخبث الحلي والمتاع الذي لا ينتفع به مثل، الباطل فكما ينتفع بالماء وما خلص من الحلي والمتاع الذي ينتفع به أهله في الدنيا؛ فكذلك الحق ينفع أهله في الآخرة؛ وكما لا ينفع الزبد؛ وخبث الحلي؛ وخبث المتاع أهله في الدنيا؛ فكذلك الباطل لا ينفع أهله في الآخرة (كَذَلِكَ) أي: هكذا يضرب اللَّه الأمثال، أي: يبين اللَّه ما ذكر من مثل الحق والباطل، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) قال: يعني يابسًا؛ فلا ينتفع به، (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ) من الماء؛ (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) فيسقون ويزرعون عليه وينتفعون به. فهذه ثلاثة أمثال ضربها اللَّه في مثل واحد؛ يقول: هكذا يبين اللَّه الأمثال والأشباه (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) أي: أجابوا (لِرَبِّهِمُ) في الدنيا؛ بالإيمان والتوحيد (الْحُسْنَى) لهم؛ وهي الجنة في الآخرة. ضرب اللَّه مثل الإيمان والحق؛ ووصفهما بالثبات والقرار والطيب؛ بالأرض الطيبة مرة؛ وشجرة طيبة ثانيًا، وضرب مثل الكفر والباطل؛ بالأرض الخبيثة؛ والشجرة الخبيثة، ووصفهما بالخبث والذهاب؛ فقال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ. . .)، وقال: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)، وقال: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ. . .) الآية، وضرب مثل المؤمن مرة بالبصير والسميع، ومثل الكافر بالأعمى والأصم؛ فقال: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا)، وضرب مثل الكفر؛ مرة بالظلمات؛ ومرة بالرماد والموت، ومثل الإيمان بالنور والضياء والحياة؛ ونحوه. فهذه الأمثال التي ضرب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - تخرج كلها مخرج الدعوى في الظاهر؛ إذ

ليس فيها بيان الحق منها؛ وبيان المحق من غير المحق؛ سوى أن فيها: هل يستوي ذا مع ذا؛ لا يستوي على ما ذكر، وهل يستوي الطيب والخبيث؛ أو البصير والسميع أو الأصم والأعمى؛ أو الميت أو لحي؛ أو الظلمات والنور؛ وأمثاله، هذا كله غير مستو. وكل أهل الأديان وإن - اختلفت مذاهبهم - يقول كل: أنا الذي عليه هو الحق؛ والباطل هو الذي عليه غيري، وينفي كلٌّ عن نفسه العمى والصمم؛ وكونه في ظلمة؛ ويدعي كونه في النور؛ ونحوه. فليس في نفس الأمثال التي ضربت بيان الحق من الباطل والمحق من غيره؛ فذلك يعرف بغيرها بالدلائل والحجج والبراهين؛ وهو ما ذكر (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ. . .) الآية، فبالدلائل والحجج والبراهين يعرف الحق من الباطل والمحق من غير المحق؛ فللإيمان والحق دلائل وحجج يعرف ذوو العقول - بالعقول - حسنه وطيبه، وما يعقب من ثمرته، ويبين قبح الكفر والباطل لذوي العقول بالعقول، واستخباثهم الباطل؛ وما يعقبه لأهله من الخبث والقبح والشر. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (زَبَدًا رَابِيًا) أي: عاليًا على الماء (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ) أي: حلي أو متاع آنية يعني من فِلز الأرض وجواهرها؛ مثل الرصاص والحديد؛ ونحوه، والذهب والفضة؛ حيث تعلوها - إذا أذيبت - مثل زبد الماء. والجُفاء ما رمي به الوادي إلى جنباته؛ يقال: أجفأت القدر بِزَبدها: إذا ألقت زبدها عنها. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (رَابِيًا): أي: مرتفعًا فوق ظهر الماء؛ وهو واحد، ويقال: زبد الماء: إذا صار له زبد (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ) هو من الحلي؛ من الذهب والفضة؛ مما يتحلى به؛ (فَيَذْهَبُ جُفَاءً) أي: باطلا لا ينتفع به، وأما الجفاء: فهو إظهار التهاون بالإنسان؛ وقلة الاكتراث له؛ والاستخفاف به. وقال: الجفاء هو الغثاء، ويقال: قد أجفأ الوادي: إذا علاه ذلك ثم جرى به الماء. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: والغثاء - عندي -: ما حمله السيل؛ من العيدان والبعر؛ وما يشبه ذلك. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى)، أي: يبسًا. قال أبو عبيد: الجفاء الجمود، ويذهب إلى أن الزبد يجمد ويجتمع على الماء، ثم

(18)

يذهب بمائها. وقال الفراء يذهب جُفاء: أي: يذهب سريعًا كما جاء. وقال الشيخ - رحمه اللَّه -: ويشبه أن يكون المثل الذي ضرب بالماء هو للدِّين وهو أن الدِّين الحق الذي أنزل من السماء واحد؛ لكن الناس اتخذوا أديانًا متفرقة، ومذاهب مختلفة؛ كقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)، فالدِّين الذي أمر بسلوكه واتباعه واحد؛ وهو كالماء الذي أنزل من السماء واحد صاف؛ وهو الأصل؛ فحذف منه أشياء لا يعبأ به ولا يكترث؛ فعلى ذلك السبل. أو أن يكون وجه ضرب مثله بالماء؛ وهو أن الماء إذا أنزل من السماء أنزل طيبًا عذبًا، لكن اختلف ألوانه وطعومه باختلاف جواهر الأرض؛ بعضه خرج مالحًا أجاجًا، وبعضه مرًّا لا ينتفع به؛ وبعضه عذب، وذلك على اختلاف جواهر الأرض، وإلا كان المنزّل من السماء كله عذب طيب؛ فالذي ينتفع به واحد؛ وهو العذب. فعلى ذلك الدِّين الذي ينتفع به - واحد؛ والبواقي لا ينتفع بها كالمياه المرة والمالحة، أو يكون غير هذا؛ ونحن لا نعرفه واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) أي: أجابوا ربهم فيما دعاهم إليه، وإنما دعاهم إلى السبب الذي يوجب لهم دار السلام وهي الجنة بقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، دعاهم إلى دار السلام ومكن لهم من الإجابة له والرد، فمن أجابه فيما دعاه كان له دار السلام، والحسنى الذي ذكر،

(19)

ومن رد دعاءه كان له النار ودار الهوان؛ فأيهما اختار، فله الموعود الذي وعد؛ إن اختار إجابته إلى ما دعاه؛ فله النعيم الدائم الذي وعد ودار السلام؛ وإن اختار الرد وترك الإجابة، فله ما وعد من العذاب الدائم والهوان. والأمثال التي ذكر أنها (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) هو هكذا للمؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون بها، وكذلك ما ذكر من القرآن أنه هدى ورحمة للمؤمنين، وأمَّا على أهل الكفر؛ فهو عمى وضلال. وكذلك قوله: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)، وأمّا قلوب الكفرة فما ذكر: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، و (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)، وأمثاله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ). أي: ضِعْفه معه؛ لافتدوا به، يذكر هذا - واللَّه أعلم - أن الذي كان يمنعهم عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه - رغبتهم في هذه الدنيا؛ وميلهم إليها؛ يتمنون - لما يحل فيهم من العذاب والشدائد - أن يكون لهم ما في الأرض جميعًا أن يفتدوا به. (أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ). أي: يحاسبون حسابًا يسوءهم؛ لأن حسناتهم التي عملوها وطمعوا الانتفاع بها - لم تنفعهم بل صارت كالسراب الذي ذكر: (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) ولم يتجاوز عن سيئاتهم (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) أي: الذي يأوون إليه؛ هو جهنم وبئس المهاد؛ لما يسوءهم ذلك واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) أي: من يعلم الحق حقًّا كمن هو يعمى عنه ولا يعلم؟ أو من يعلم الحق أنه حق؛ كمن يعلمه باطلًا؟ ليسا بسواء؛ كقوله: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ). أي، إنما يتذكر - بالتذكير أولو الألباب وذوو العقول؛ الذين ينتفعون بعقولهم ولُبّهم. ثم بين من هم فقال: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) يحتمل عهد اللَّه عهد خلقه؛ يوفون بما في خلقتهم من العهد؛ إذ في خلقة كل أحد - دلالة وحدانيته، وشهادة ألوهيته؛ فوفوا ذلك العهد.

(21)

ويحتمل: عهد اللَّه ما جرى على ألسن الرسل، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم؛ وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ. . .) الآية، (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) الآية. (وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ). العهد والميثاق واحد، وسمى العهد ميثاقا؛ لأنه يوثق المرء، ويمنعه عن الاشتغال بغيره. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) الصلات التي أمر اللَّه بها أن توصل على جهات ومراتب: أما ما بينه وبين المؤمنين: ألَّا يحب لهم إلا ما يحب ولا يصحبهم إلا بما يحب هو أن يصحب، وأما فيما بينه وبين محارمه: أن يؤوي ويحفظ الحقوق التي جعل اللَّه لبعضهم على بعض؛ ولا يضيعها. وأما فيما بينه وبين الرسل: فهو أن من حقهم أن يوصل الإيمان بالنبيين جميعًا؛ والكتب كلها. هذا واللَّه أعلم الصلة التي أمر اللَّه أن يوصل بها. (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) إما في التقصير فيما أمر أن يوصل، وإما بالتفريط في ذلك، وترك الصلة. (وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) أي: شدة الحساب؛ حين لم تنفعهم حسناتهم؛ ولا يتجاوز عن شيء من سيئاتهم؛ فذلك يسوءهم. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ... (22) قد ذكرنا فيما تقدم أن الصبر: هو كف النفس وحبسها عما تهواه؛ على ما تكره ويثقل عليها. ثم يحتمل كفها وحبسها عن الجذع في المصائب، وعلى أداء ما افترض اللَّه عليهم وأمرهم بها، أو كفوا أنفسهم وحبسوها عن المعاصي، يكون الصبر على الوجوه الثلاثة التي ذكرنا. واللَّه أعلم.

وقوله: (ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) يحتمل وجهين. يحتمل: ابتغاء رضوان اللَّه. ويحتمل: ابتغاء وجه يكون لهم عند اللَّه، وهو المنزلة والرفعة، ولذلك سمي الرفيع وذو المنزلة: وجيهًا كقوله: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، أي: ذو منزلة ورفعة في الدنيا والآخرة. وعلى ذلك يخرج قوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، أي: ثَمَّ الجهة التي أمر اللَّه أن يتوجه إليها، فعلى ذلك هذا (صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) أي: ابتغاء المنزلة والرفعة التي عند ربهم؛ أو ابتغاء رضوان اللَّه ومرضاته واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ). أي: داموا على إقامتها؛ ليس أنهم أقاموا مرة ثم تركوها؛ ولكن داموا على إقامتها، وعلى ذلك قوله: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، أي: دوموا على إقامتها. ويحتمل قوله: (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) أي: جعلوها قائمة أبدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً). يحتمل كل نفقة: الصدقة والزكاة وما ينفق على عياله وولده، (سِرًّا وَعَلَانِيَةً) أي: ينفق في كل وقت؛ سرا من الناس وعلانية منهم أي: ينفق على جهل من الناس؛ وعلى علم منهم؛ ينفقون على كل حال؛ لا يمنعهم علم الناس بذلك عن الإنفاق، بعد أن يكون ابتغاء وجه ربهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ). أي: يدفعون بالحسنة السيئة، ثم يحتمل وجهين: أحدهما: يدفعون بالإحسان إليهم العداوة التي كانت بينهم؛ كقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ. . .) الآية. والثاني: يدرءون الإساءة التي كانت لهم إليهم بالخير إليهم والمعروف، ولا يكافئون بالسيئ السيئ؛ وبالشر الشر؛ ولكن يدفعون بالخير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي: إذا سُفه عليهم حلموا،

(23)

والسفه سيئة؛ والحلم حسنة. (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ). أي: عقبى أُولَئِكَ الذين صبروا؛ على ما ذكر؛ من وفاء العهد والصلة التي أمروا بها أن يصلوا؛ والصبر على أداء ما أمر به وافترض عليهم؛ والانتهاء عما نهى عنه - الدار التي دعاهم إليها بقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ). والثاني: (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي: عقبى حسناتهم دار الجنة، وأُولَئِكَ لهم عقبى هذه الدار الجنة، أو عاقبتهم دار الجنة. ثم نَعَتَ تلك الدار؛ فقال: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) عدن: قال أهل التأويل: عدن: هو بطان الجنة؛ وهو وسطها، وقَالَ بَعْضُهُمْ: عدن هو الإقامة؛ أي: جنات يقيمون فيها؛ يقال: عدن: أي: أقام. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ). فَإِنْ قِيلَ: كيف خص بالذكر الآباء والأزواج والذرية؛ وهم قد دخلوا في قوله: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) وفي قوله: (يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) فما معنى تخصيصهم بالذكر؟ هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: أنهم أسلموا؛ فاخترموا؛ أي: ماتوا كما أسلموا؛ ولم يكن لهم مما ذكر من الخيرات والحسنات؛ فأخبر أن هَؤُلَاءِ يدخلونها -أيضًا- ويلحقون بأُولَئِكَ. والثاني: لم يبلغوا الدرجة التي بلغ أُولَئِكَ؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يبلغهم درجة أُولَئِكَ ويلحقهم به؛ كقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. . .) الآية يضم بعضهم إلى بعض في الآخرة كما كانوا في الدنيا، يضم كل ذي قرين في الدنيا قرينه إليه في الآخرة. وفي قوله: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ) وما ذكر دلالة أن صلاح غيره وإن قرب منه لا ينفعه؛

(24)

حتى يكون في نفسه صلاح، حيث قال: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ. . .) إلى آخر ما ذكر؛ وهو ما قال لنوح: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)، دل هذا أن صلاح والده أو قريبه لا يجدي له نفعًا في الآخرة واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ). هذا يحتمل أن يكون لمقامهم ومنازلهم أبواب؛ فيدخل عليهم من كل باب ملك. والثاني: يحتمل أن يكون يأتي كل ملك بتحفة غير التحفة التي أتى بها الآخر على اختلاف خيراتهم وقدر أعمالهم. (مِنْ كُلِّ بَابٍ) أي: من كل نوع من التحف. وفيه وجهان: أحدهما: أن الملائكة يكونون خدم أهل الجنة، وفي ذلك تفضيل البشر عليهم. أو أن يكون على حق المصاحبة؛ لما أحبوا هم أهل الخير من البشر في الدنيا؛ لخيرهم؛ فجعل اللَّه بينهم الرفقة، والصحبة في الآحرة واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) كقوله: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) هو ما ذكرنا في قوله أُولَئِكَ لهم عقبى الدار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) والعهد قد ذكرناه في غير موضع، وكذلك النقض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ). كل حرف من هذه الحروف يقتضي معنى الحرف الآخر؛ إذا نقضوا العهد، والميثاق: قد قطعوا ما أمر اللَّه به أن يوصل؛ وسعوا في الأرض بالفساد، وإذا قطعوا ما أمر اللَّه به أن يوصل: نقضوا العهد؛ وسعوا في الأرض بالفساد؛ إلا أن يقال: إن نقض العهد يكون بالاعتقاد؛ وذلك يكون بينهم وبين ربهم، وكذلك قطع ما أمر اللَّه به أن يوصل إذا كان الأمر الذي أمر به صلة الإيمان بالنبيين والكتب جميعًا؛ فإن كان صلة الأرحام؛ فهو فعل؛ والسعي في الأرض بالفساد فعل أيضا؛ من زنا أو سرقة أو قطع الطريق، وغير ذلك من المعاصي ما كان، فهو الإفساد في الأرض واللَّه أعلم. والإفساد في الأرض يحتمل:

(26)

منعهم الناس من الإيمان به وتصديقه أو غيره من المعاصي، أو قطع الطريق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) يحتمل ما أمر اللَّه به أن يوصل: ما ذكرنا من وصل الإيمان ببعض الرسل بالكل وبجميع الكتب، ويحتمل: صلة الأرحام التي فرض عليهم صلتهم؛ قطعوا ذلك. أو أمرهم أن يصلوا أعمالهم بما اعتقدوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ). اللعنة: هي الطرد - في اللغة - والإبعاد؛ كأنهم طردوا وأبعدوا عن رحمة اللَّه في الآخرة، أو طردوا وأبعدوا من هداية اللَّه وإرشاده في الدنيا. (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ). قد ذكرنا أنهم دعوا إلى دار؛ وحذروا عن دار: دعوا إلى دار السلام؛ فإن أجابوا فلهم الحسنى؛ على ما ذكر، وحذروا عن دار الهوان؛ فإن لم يحذروا فلهم دار السوء والهوان. أو سماها سوء الدار؛ لما يسوء مقامهم فيها، أو ذكر لأهل النار سوء الدار مقابل ما ذكر لأهل الجنة: حسن المآب وحسن الثواب والحسنى. * * * قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ). يرغبهم فيما عنده ويؤيسهم عما في أيدي الخلق، ويقطع رجاءهم عن ذلك؛ لأن الذي كان يمنعهم عن الإيمان به، ويحملهم على تكذيب الرسل؛ وترك الإجابة - هذه الأموال التي كانت في أيدي أُولَئِكَ، وبها رأوا دوام الرياسة والعز والشرف لهم في هذه

الدنيا؛ فقال: هو الباسط لذلك؛ والقاتر لا أُولَئِكَ، هو يوسع على من يشاء، ويقتر على من يشاء؛ ليس ذلك إلى الخلق، وذكر أنه يبسط الرزق لمن يشاء من أوليائه وأعدائه، ويقتر على من يشاء من أعدائه وأوليائه، ليعلموا أن التوسيع في الدنيا والبسط لا يدل على الولاية، ولا التقتير والتضييق على العداوة، ليس كما يكون في الشاهد؛ يوسع على الأولياء ويبسط، ويضيق على الأعداء؛ لأن التوسيع في الدنيا والتضييق بحق المحنة وفي الآخرة، بحق الجزاء، [ويستوي] في المحنة الولي والعدو، ويجمع بينهما في المحنة؛ ويفرق بينهما في الجزاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا). يحتمل قوله: (وَفَرِحُوا) صلة ما تقدم؛ وهو قوله: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ. . .) إلى قوله: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ)، ويفرحون بالحياة الدنيا. ثم الفرح يحتمل وجوهًا: يحتمل: فرحوا بالحياة الدنيا؛ أي: رضوا بها؛ كقوله: (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) أي: فرحوا، سرورًا بها. فَإِنْ قِيلَ: إن المؤمن قد يسر بالحياة الدنيا؟ قيل: يُسَرُّ ولكن لا يُلْهيه سروره بها؛ ولا يغفل عن الآخرة، وأما الكافر: فإنه لشدة سروره بها وفرحه عليها؛ يلهي عن الآخرة؛ وعن جميع الطاعات. وهكذا العرف في الناس أنه إذا اشتد بالمرء السرور بالشيء؛ فإنه يلهي عن غيره ويغفل عنه. أو يكون قوله: (وَفَرِحُوا) أي: أشروا وبطروا؛ كقوله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)، وهو الأشر والبطر. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ). تأويله - واللَّه أعلم - أي: ما الحياة الدنيا - مع طول تمتعهم بها بتمتع الآخرة - إلا كمتاع ساعة أو كمتاع شيء يسير؛ وهو كقوله: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) وكقوله: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)، يظنون - مع طول

(27)

ما متعوا في هذه الدنيا - عند متاع الآخرة كأنهم ما متعوا بها إلا ساعة؛ فعلى ذلك قوله: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)، وهو ما ذكر في موضع آخر: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)، عند متاع الآخرة؛ لأن متاع الآخرة ونعيمها دائم متصل غير منقطع؛ لا يشوبه آفة ولا حزن ولا خوف، ومتاع الدنيا منقطع غير متصل؛ مشوب بالآفات والأحزان؛ لذلك كان قليلا عند متاع الآخرة ونعيمها. وقال بعض أهل التأويل: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) أي: إلا لهو وباطل لكن الوجه فيه ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) يحتمل سؤالهم الآية أنفس الآيات التي أتت بها الرسل من قبل قومهم، أو سألوا آيات سموها، كقوله: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا. . .) الآية، (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ. . .)، إلى آخر ما ذكر من الآيات، سألوها منه، أو سألوه آيات تضطرهم وتقهرهم على الإيمان؛ كقوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ). وفيه دلالة أنه لو شاء لأنزل عليهم آيات؛ لآمنوا كلهم بها، واهتدوا، وعنده أشياء لو أعطاهم لكان ذلك سبب اهتدائهم وتوحيدهم؛ وكذلك لو أعطى أشياء لكان ذلك سبب كفرهم جميعًا؛ كقوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ. . .) الآية، لكنه لا ينزل الآية على شهواتهم وأمانيهم، ولكن ينزل أشياء؛ تكون عند النظر والتأمل حجة؛ فمن تأمل فيها وتفكر لاهتدى وآمن بالاختيار، ومن أعرض عنها ولم يتفكر ضل وزاغ بالاختيار. ويحتمل قوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً) أي: إن نشأ إيمانهم واهتداءهم ننزل عليهم آية، وذلك تأويل قوله على أثر سؤالهم الآية. (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ). أي: ينزل من الآيات ما يهتدي بها المنيب إليها والمقبل، ويضل المعرض عنها؛

(28)

والصادر بالاختيار، ويكون اهتداؤهم باختيارهم؛ أوضلالهم باختيارهم؛ لا بالاضطرار والقهر؛ ألا ترى أنه قال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) وهو القرآن الذي أنزله على رسوله؛ فهو وصف المقبل المنيب إلى ذكر اللَّه؛ يسكن وتطمئن قلوبهم بالتأمل والتفكر فيها وأصله أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: شاء اهتداء من علم أنه يختار الاهتداء والإيمان، وشاء ضلال من علم أنه يختار فعل الضلال والزيغ، يشاء ألكل؛ لما علم منه أنه يختار ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وتسكن إليه. وقال بعض أهل التأويل: هو في الحلف في الخصومات؛ ألا في الحلف باللَّه؛ أتطمئن وتسكن، قلوب الذين آمنوا لا تطمئن بالحلف بغير اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ألا بالقرآن؛ وبما في القرآن من الثواب، تسكن وتطمئن قلوب الذين آمنوا. ويشبه أن يكون قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) أي: تفرح وتستبشر قلوب الذين آمنوا بذكر اللَّه ألا بذكر اللَّه تستبشر وتفرح قلوب الذين آمنوا؛ لأنه ذكر في الكفرة الفرح بالحياة الدنيا؛ وهو قوله: (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا)، وذكر في المؤمنين الاستبشار والفرح بذكر اللَّه، وفي أُولَئِكَ ذكر أن قلوبهم تشمئز بذكر الرحمن وتستبشر بذكر من دونه؛ وهو قوله: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أخبر اللَّه تعالى أن قلوب المؤمنين تستبشر وتفرح بذكر اللَّه، وقلوب أُولَئِكَ تستبشر وتفرح بذكر من دونه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ... (28) يخرج على وجهين: أحدهما: تطمئن قلوبهم بذكر اللَّه لهم، وذكر اللَّه لهم التوفيق والتسديد والعصمة، ونحوه. والثاني: تطمئن قلوبهم بذكرهم اللَّه، وذكرهم اللَّه: إحسانه ونعمه وعظمته وجلاله، ونحوه.

(29)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) طوبى، قيل: خير لهم وغبطة، وقيل: حسنى لهم ونعمى لهم، وقيل: يقال: طوبى لك؛ إن أصبت خيرًا، وقيل: هو اسم الجنة بلسان الحبشة. وقيل: بالهندية، وقيل: اسم شجرة في الجنة أصلها في دار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وأغصانها في دار أمته، فإن كان هذا، وهو اسم شجرة؛ فذلك لا يستقيم إلا على تقدمة كان أهل الكتاب؛ ادعوها لأنفسهم؛ فأخبر أنها للذين آمنوا لا لهم كقولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)، ادعوا الجنة لأنفسهم؛ فأخبر أنها ليست لهم؛ ولكن للذي أسلم وأخلص وجهه لله؛ فعلى ذلك يشبه أن يكونوا ادعوا طوبى لأنفسهم فأخبر أنها ليست لهم، ولكن للذين آمنوا. وإن كان في مشركي العرب؛ فهم ينكرون البعث والجنة والنار، فيشبه أن يكونوا قالوا: إن كان بعث على ما تقولون وجنة وطوبى؛ فهي لنا؛ كقوله: (لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (طُوبَى): كلمة مدح اللَّه ثوابهم، وغبطهم بها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (طُوبَى): كرامة أعد اللَّه لأوليائه، وهي مذكورة في الكتب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) أي: كما أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) وقال كل واحد من الرسل: (رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ. . .) الآية أي: كل رسول كان

أرسل قبلك كان أمر أن يقول ما ذكر؛ كذلك أرسلناك إلى قومك رسولا، وإن كانوا يكفرون بالرحمن؛ فقل أنت ما قال أُولَئِكَ الرسل: (رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ. . .) الآية، لم تخل أمة عن رسول؛ كقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). (لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يشبه أن يكون هذا صلة قوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، يقول: أرسلناك لتتلو أنباء الرسل والأمم الذين كانوا من قبلك عليهم؛ ليكون آية لرسالتك؛ ليعلموا أنك إنما علمت تلك الأنباء بالله تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ). يقول - واللَّه أعلم - هم يكفرون بالرحمن؛ وفي كل الخلائق آية توحيد الرحمن وألوهيته؛ ولا في كل الخلائق آية لرسالتك، وهم مع ذلك كله يكفرون بالرحمن؛ فعلى ذلك يكفرون بآيات رسالتك. وقال أبو بكر الأصم: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) هو صلة قوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، وكانوا هم أهل التعبد من الكبراء؛ فقال: لو جئتهم بقرآن سيرت به الجبال؛ أو قطعت به الأرض؛ أو كلم به الموتى، يقول: لو جئت بذلك كله كان أمرهم التكذيب والعناد؛ وهو كقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ. . .) الآية وقوله: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ. . .) الآية، يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن عنادهم أنهم لا يؤمنون بالآية - وإن عظمت - إلا أن يشاء اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا) كقوله: (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أي: الأمر لله؛ من شاء أن يؤمن فيؤمن، ومن شاء ألا يؤمن فلا يؤمن ألبتَّة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) أي: يكفرون باسم الرحمن؛ لأنهم قالوا: إن محمدًا كان يدعونا إلى عبادة اللَّه وتوحيده فالساعة يدعونا إلى عبادة الرحمن وألوهيته؛ فذلك عبادة اثنين؛ فقال: (قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ) أي: دعائي إلى عبادة الرحمن وألوهيته وهو دعائي إلى عبادة اللَّه، وهو واحد ليس هو باثنين ولا عدد؛ كقوله:

(31)

(قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) أي: عدد الأسماء لا يوجب عدد الذات؛ إذ يكون لشيء واحد في الشاهد أسماء مختلفة؛ فاختلاف الأسماء لا يوجب اختلاف الذات؛ فعلى ذلك في اللَّه تعالى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الرَّحْمَن) اسم من أسماء اللَّه في الكتب الأول، قالوا: كتبها رسول اللَّه؛ أبوا أن يقرءوا به، قالوا: وما الرحمن، إنا لا نعرفه؛ فنزل: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ). واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) إلى آخر ما ذكر. قال بعض أهل التأويل: تأويله: لو أن قرآنا ما، غير قرآنك؛ سيرت به الجبال؛ من أماكنها؛ أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى، لفعلناه بقرآنك أيضًا، ذلك ولكن لم نفعل بكتاب من الكتب التي أنزلتها على الرسل الذين من قبلك، ولكن شيء أعطيته أنبيائي ورسلي. (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا). يقول: بل جميع ذلك الأمر كان من اللَّه؛ وليس من قبل القرآن؛ أي: لو فعل بالقرآن ذلك كان جميع ذلك من اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا) إن شاء فعل ما سألتم، وإن شاء لم يفعل ويشبه أن يكون غير هذا أقرب؛ أن يكون صلة ما تقدم من سؤالهم الآيات؛ وهو قوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، فيقول: لو أن قرآنك الذي تقرؤه عليهم: لو سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى لما آمنوا بك؛ ولما صدقوك على رسالتك على ما لا يؤمنون بالرحمن، وكل الخلائق له آية لوحدانيته

وألوهيته، يخبر عن شدة تعنتهم وتمردهم في تكذيبهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليعلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن سؤالهم الآية سؤال تعنت وتمرد؛ ليس سؤال استرشاد واستهداء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ). أي: لو أن قرآنا ما عمل ما ذكر لكان هذا القرآن؛ تعظيمًا لهذا القرآن. والتأويل الذي ذكرنا قبل هذا كأنه أقرب. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة ما تقدم؛ من قوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ. . .) الآية، يقول - واللَّه أعلم -: أفلم ييئس الذين آمنوا عن إيمان من كان على ما وصف اللَّه، وتمام هذا كأن المؤمنين سألوا لهم الآيات، ليؤمنوا؛ لما سألوا هم آيات من رسول اللَّه؛ فيقول: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) عن إيمان هَؤُلَاءِ؛ وهو كما قال: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)، كأن المؤمنين سألوا لهم الآيات ليؤمنوا؛ فقال: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ) يَا أَيُّهَا المؤمنون (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) أي: يؤمنون على طرح (لا) على هذا التأويل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا): أفلم يتبين للذين آمنوا أنهم لا يؤمنون؛ لكثرة ما رأوا منهم من العناد والمكابرة. فسروا الإياس بالعلم والأيس؛ لأن الإياس إذا غلب يعمل عمل العلم؛ كالخوف والظن ونحوه جعلوه يقينًا، وعلمًا للغلبة؛ لأنه إذا غلب يعمل عمل اليقين والعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ): أي: أفلم يعلم الذين آمنوا أن اللَّه يفعل ذلك، لو شاء لهدى الناس جميعًا.

وقوله: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) قالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: قوله: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) خطأ من الكاتب، إنما هو (أَفَلَمْ يَتبين للَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ) (¬1) فمعناه: أي: قد تبين للذين آمنوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) أي: أفلم يعلم الذين آمنوا، أي: قد علم الذين آمنوا، لو شاء اللَّه إيمان الناس واهتداءهم لآمنوا واهتدوا. وقال صاحب هذا التأويل: إن هذا جائز في اللغة: ييئس: يعلم، وذكر أنها لغة " نخع " وغيرها. واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) مقطوع من قوله (أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ. . .) الآية، وهو موصول بما تقدم من قوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ثم قال جوابًا لما قالوا؛ كأنه قال: لو يشاء اللَّه لهدى الناس جميعًا ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء، أي: علم منه أنه يختار الضلال، ويؤثره؛ يشاء ذلك له، ومن علم منه أنه يختار الهدى يشاء ذلك له، ويكون قوله: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) مقطوع لا جواب له، كأنه قال: أفلم ييئس الذين آمنوا عن إيمانهم لكثرة ما رأوا منهم من العناد والتعنت بعد رؤيتهم الآيات والحجج، كأن أهل الإيمان والإسلام سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الآيات التي سألوا هم؛ رغبة في إسلامهم؛ وإشفاقًا عليهم؛ فيقول - واللَّه أعلم -: ألم يأن للذين آمنوا الإياس من إيمانهم؛ أي: قد أنى للذين آمنوا أن ييئسوا من إيمانهم؛ كقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ. . .) الآية، فعلى ذلك هذا يقول: قد أنى للذين آمنوا أن ييئسوا من إيمانهم، ولو شاء اللَّه لهدى الناس جميعًا؛ وقوله: (أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) صلته قوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) (أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ ¬

_ (¬1) تقدم رد ذلك القول الموضوع من المفسِّر - رحمه اللَّه - في سورة النساء.

(32)

لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) كقوله: (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا). قَالَ بَعْضُهُمْ: الذين حاربوا رسول اللَّه. (تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ). القارعة: هي ما يقرع القلوب ويكسرها، ثم قرعهم يكون بعذاب، وقتل، وغيره؛ من الهزيمة ونحوه وبسبي ذراريهم [وبغنم] المسلمين أموالهم. (أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أو تكون القارعة بجيرانهم الذين قرب منكم دارهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تزال سرية من سرايا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تحل ببعضهم؛ أو ينزل هو قريبًا منهم؛ حتى يأتي وعد اللَّه، وعد اللَّه يكون بوجهين: أحدهما: أن يظفره بهم جميعًا، وأن يورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم. والثاني: يكون وعد اللَّه فتح مكة؛ كقوله: (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا. . .). (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) ما وعد رسوله؛ من الفتح والنصر وغيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ). يحتمل ما ذكر؛ من إصابة القارعة؛ الجوع والشدائد التي أصابتهم، ويحتمل القتال والحرب؛ التي كانت بينهم وبينهم. وقوله: (أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ) نزول السرايا بقرب من دارهم. (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) يحتمل فتح مكة، أي: تحل قريبًا من دارهم حتى يأتي ما وعد اللَّه؛ من فتح مكة عليك، أو أن يكون وعد اللَّه هو البعث واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) يقول: ولقد استهزأ برسل من قبلك قومُهم؛ كما استهزأ بك قومُك، يُعَزِّي نبيهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليصبر على تكذيبهم.

(33)

وقال أبو بكر الأصم: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) من تقدم من الرسل سألهم قومهم الآيات والعذاب بالهزء، ثم بين بهذا أن ما سألوه من الآية أرادوا الهزء، وهو صلة ما تقدم من قوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يقول: أمهلتهم في كفرهم وهزئهم. هذا يدل أن تأخر العذاب عنهم لا يؤمنهم. وقوله: (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) يقول: أحللت بهم جزاء ما كانوا يهزءون منه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فكيف كان عقاب اللَّه؟ أي: شديد عقابه؛ وهو كقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا. . .) الآية، وقيل: كيف رأيت عذابي لهم أي: أليس وجدوه شديدًا. والثالث: (فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ): أي: أليس ما أوعدهم الرسل من العذاب كان حقًا وصدقًا. * * * قوله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ). قال أبو بكر الأصم: يقول: من الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت اللَّه أم شركاؤكم فالقائم هو المدبر الحافظ بكل ما فيه الخلق ويشبه أن يكون تأويله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ) أي: حافظ وعالم على كل نفس بما كسبت؛ أو بالرزق لهم والدفع عنهم، كمن هو أعمى عن ذلك، ليسا بسواء كقوله: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ. . .) الآية. أو يقول: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت؛ كمن هو غير قائم عليه؟ ليسا بسواء. وقال مقاتل: أفمن هو قائم على رزقهم وطعامهم. ثم قال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ). أي: وصفوا لله شركاء وعبدوها؛ واللَّه أحق أن يعبد من غيره.

يقول اللَّه: أنا القائم على كل نفس؛ أرزقهم وأطعمهم؛ أفأكون أنا وشركائي الذين لا يفعلون ذلك سواء؟!! والوجه فيه ما وصفنا: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، أي: يرزق ويبصر ويعلم ما تعمل وتكسب ويحفظ، عن أنواع البلايا؛ كمن هو أعمى جاهل عاجز عن ذلك كله؟ أي: ليس هذا كذلك. ويسفههم في إشراكهم الأصنام التي عبدوها في الألوهية والعبادة، وهي بالوصف الذي ذكر؛ كمن هو أعمى عاجز عن ذلك؟ أي: ليسا بسواء. وقوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) يحتمل قائم على كل نفس بما كسبت؛ فيما قدر لها وقواها أو في الجزاء يجزي على ما تكسب. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) في العبادة؛ أو في تسميتهم آلهة، لا يعلمون ما كسب لها، ولا يملكون جزاء ما كسبوا لها أيضًا. يبين سفههم في - جعلهم هذه الأصنام والأوثان شركاء لله في العبادة؛ وتسميتهم آلهة؛ مع علمهم أنهم لا يقدرون ولا يملكون شيئًا من ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ سَمُّوهُمْ). قال بعض أهل التأويل: قوله: (قُلْ سَمُّوهُمْ) بذلك الاسم؛ ولو سموهم، سموهم بكذب وباطل وزور. وعندنا قوله: (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي: لو سميتموها آلهة واتخذتموها معبودًا؛ فسموهم أيضًا بأسماء سميتم اللَّه؛ من نحو: الخالق والرازق والرحمن والرحيم؛ ونحوه. يقول - واللَّه أعلم - إذ سميتم هذه الأصنام آلهة ومعبودًا، سموهم أيضًا: خالقًا ورازقا ورحمانا ورحيمًا، وهم يعلمون أنها ليست كذلك. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ). أي: أم تنبئون اللَّه؛ وهو عالم بما في السماوات وما في الأرض؛ وعالم بكل شيء، وهو لا يعلم في الأرض ما تقولون من الآلهة وما تصفونه بالشركاء؟! وكذلك يخرج قوله:

(قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)، أم تنبئونه بما ليس في الأرض شيء مما تقولون وتصفون شيء؛ أي: يقول: أتنبئون اللَّه بما لا يعلم في السماوات والأرض، وهو عالم بكل شيء؟ أي: تقرون بأنه عالم بكل شيء؛ وهو لا يعلم ما تقولون وتسمونه من الشركاء وغيره. والثاني: أم تنبئونه بما لا يعلم؛ أي: ليس في الأرض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ). قال أهل التأويل: (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي: بل بباطل من القول وزور. ويشبه أن يكون بظاهر من القول؛ أي: بضعيف من القول وخفيف، يسمون الشيء الذي لا حقيقة له ولا ثبات ظاهرًا باديًا؛ كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) أي: ضعيف الرأي: وخفيفه؛ لا حقيقة له ولا قرار. ويحتمل قوله: (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) في الخلق والأسلاف؛ أي: لم يظهر ما يقولون؛ ويصفون؛ إشراك هذه الأصنام؛ وتسميتها آلهة ومعبودًا؛ فيكون (أم) في موضع حقيقة ويقين؛ على هذا التأويل واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ). قال بعض أهل التأويل: (مَكْرُهُمْ): قولهم الذي قالوه من الكذب والزور؛ أنها آلهة وأنها شركاء الله لكن يشبه أن يكون قوله: (مَكْرُهُمْ) أي: مكرهم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث احتالوا حيلا؛ ليقتلوه لئلا يظهر هذا الدِّين في الأرض، ويطفئون هذا النور؛ ليدوم عزهم وشرفهم في هذه الدنيا؛ وهو كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، والمكر: هو الاحتيال؛ والأخذ من حيث الأمن. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ). صدوا؛ لما علموا من مكرهم واختيارهم ما اختاروا والسبيل، المطلق هو سبيل اللَّه؛ وإلا كان جميع الأديان والمذاهب يسمى سبيلا؛ كقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)

(34)

لكن ما ذكرنا أن السبيل المطلق هو سبيل اللَّه، والكتاب المطلق كتاب اللَّه، والدِّين المطلق دين اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ). من أضله اللَّه فلا يملك أحد هدايته، ومن هداه فلا يملك أحد إضلاله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) العذاب لهم في الحياة الدنيا يحتمل: القتل والقتال؛ والخوف والجوع؛ وأنواع البلايا؛ كقوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ) أي: أشد. (وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) أي: مالهم من عذاب اللَّه من واقٍ يقيهم من عذابه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) يحتمل: وصف الجنة التي وعد المتقون؛ أو صفة الجنة التي وعد المتقون. ويحتمل: أي: شبه الجنة التي وعد المتقون. كشبه النار التي وعد الكافرون؛ أي: ليسا بشبيهين ولا مثلين، لا تكون هذه مثل هذه ولا تشبهها؛ كقوله: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ. . .) الآية. يقول - واللَّه أعلم - يقول: الذي وصفه كذا من النعم الدائمة - كالذي يكون عذابه ووصفه كذا؛ أي: لا يكون؛ فعلى ذلك الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ). أي: ثمار الجنة دائمة لا تزول ولا تنقطع؛ ليس كثمار الدنيا، ونعيمها ليس من ثمرة من ثمار الدنيا إلا وهي تزول وتنقطع في وقت؛ فأخبر أن ثمار الآخرة - وما فيها من النعيم - غير زائلة ولا منقطعة، وكذلك عذابها أدائم، لا يزول. (وَظِلُّهَا) أيضًا. أخبر أن ظل الجنة لا يزول ولا ينقطع، لا يكون فيها شمس يزول ظلها بزوالها. وصف جميع ما فيها بالدوام والمنفعة: الظل شيء لا أذى فيه؛ وفيه منافع، والشمس فيها أذى ومنافع، وكذلك جميع ما يكون من الأشياء في الدنيا؛ يكون فيها منافع ومضار؛ وأنها تزول وتنقطع؛ فأخبر أن ظل الآخرة وما فيها من النعم دائمة باقية؛ غير زائلة ولا

(36)

منقطعة، ولا مضرة فيها؛ ليس كنعيم الدنيا وظلها. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ). أي: جزاء الكافرين النار، ظاهر هذا أن يكون: الذين اتقوا تقى الشرك؛ لأنه ذكر عقبى الكافرين النار؛ أي: جزاء وعقبى ما ذكرنا؛ أي: تلك الجنة جزاء الذين اتقوا الشرك، وعقبى الكافرين النار؛ أي: جزاء الكافرين النار. أو عقبى هذه للذين اتقوا الجنة، وعقبى أُولَئِكَ النار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي: عاقبة أعمالهم وحسناتهم الجنة؛ وعاقبة أعمال الذين كفروا بتوحيد اللَّه النار. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ). يشبه أن تكون الآية صلة قوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ)؛ فأخبر - عز وجل -: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)؛ بذكر الرحمن. ثم اختلف في قوله: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أصحاب مُحَمَّد؛ فرحوا بما أنزل إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ): أهل التوراة يفرحون بما أنزل إليك يذكر هاهنا أنهم يفرحون بما أنزل إليك، ويذكر في موضيع: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ). وقال في موضع آخر: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) فمن تلا منهم الكتاب حق تلاوته ولم يبدله ولم يغيره - فهو يؤمن به؛ ويفرح بما أنزل على مُحَمَّد، ومن غيَّره وبدَّله - فهو لم يفرح بما أنزل عليه. وقوله: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) تأويله - واللَّه أعلم - كأنه قال: والذين آتيناهم منافع الكتاب أُولَئِكَ يفرحون بما أنزل إليك، وهو ما قال في آية

(37)

أخرى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ)، لأن أكثرهم لا يؤمنون بما أنزل على مُحَمَّد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ). يحتمل: أهل الكتاب كانوا ينكرون بعض ما أنزل إليه؛ لا ينكرون كل ما أنزل إليه؛ وإنما ينكرون نعته وصفته؛ لأنهم كتموا نعته وصفته التي في كتبهم. ويحتمل قوله: (وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) مشركي العرب؛ وهم أيضًا أنكروا بعض ما أنزل إليه؛ وهو ما ذكر: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ)، في قوله: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)، ونحوه، لم ينكروا كله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو). كأن هذا قاله على إثر قول كان منهم؛ كأنهم دعوه إلى أن يشاركهم في عبادة الأصنام، أو دعوه أن يكون على ما كان آباؤهم؛ فقال: قل إنما أمرت أن أعبد اللَّه وأمرت ألا أشرك به. ويحتمل قوله: (وَلَا أُشْرِكَ بِهِ) قال ذلك من نفسه. (إِلَيْهِ أَدْعُو) يقول: إلى توحيد اللَّه أدعو غيري ثم أخالف وأعبد غيره؟ (وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي: إليه المرجع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) أي: كما علمناك آدابًا وأعطيناك النبوة - كذلك أنزلنا عليك. (حُكْمًا عَرَبِيًّا) قيل حكمة عربية، وكانت العرب لا تفهم الحكمة؛ أو أنزلنا ما فيه حكم. وتفسير قوله: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) ما ذكر في آية أخرى؛ وهو قوله: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) سمى القرآن حكما؛ لأنه للحكم أنزل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ). هذا يدل أنهم كانوا يدعونه إلى أن يشاركهم في بعض ما هم فيه. (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ) وينصرك ويمنعك من عذاب اللَّه. (وَلَا وَاقٍ) يعني العذاب.

(38)

قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً). قال بعض أهل التأويل: نزل هذا وذلك: أن اليهود عيَّروا رسول اللَّه، وطعنوا في كثرة النساء والأولاد؛ وقالوا: لو كان نبيا على ما يزعم لكان لا يمتع بالنساء؛ ولا يطلب الأولاد، كما يفعله غيره؛ وكانت النبوة تشغله عن ذلك. فأنزل اللَّه تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا. .) الآية، أي: الاستمتاع بالنساء واستكثاره أمنهن، - لم يمنع عن الاختصاص بالنبوة والرسالة، على ما لم يمنع غيره من الرسل الذين كانوا من قبله. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ). أي: لا يملكون إنزال الآيات من أنفسهم؛ إنما يتولى اللَّه إنزالها إذا شاء ذلك؛ وهو كقول عيسى؛ حيث قال: (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ. . .) الآية، أخبر أن ما يأتي من الآيات إنما يأتيها بإذن اللَّه وبأمره؛ لا من نفسه. يحتمل أن يكون جواب ما ذكر أهل التأويل، وجواب غير ذلك أيضًا؛ وهو طعنهم الرسل باكل والشرب والمشي في الأسواق، وسؤالهم الآيات التي سألوهم، وجواب إنكارهم الرسل من البشر يقول: لست أنت بأول رسول طعنت بما طعنك به قومك؛ ولكن كان قبلك رسل طعن قومهم بما طعن به قومك؛ وسألوهم من الآيات ما سأل به قومك؛ فلم يكن ذلك لهم عذرًا في رد ما ردوا وترك ما تركوا؛ بل نزل بهم العذاب، فعلى ذلك قومك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ). اختلف فيه: قال قائلون: لكل كتاب أجل؛ وهي: الكتب التي أنزلت على الرسل؛ يعمل بها إلى وقت؛ ثم تنسخ أو يترك العمل بها. وقال قائلون: هو ما قال: لكل أجل كتاب؛ أي: لكل ذي أجل أجله؛ إلى وقت انقضائه؛ ليس يراد به الكتابة باليد؛ ولكن الإثبات؛ كقوله: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

(39)

الْإِيمَانَ) أي: أثبت؛ ليس أن كتب هنالك باليد، فعلى ذلك قوله: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) أي: إثبات إلى وقت. ويحتمل قوله: لكل كتاب أجل؛ أي: لكل ما كتب له الأجل؛ وجعل له الوقت؛ من العذاب ينزل بالمعاندين والنصر للرسل؛ فإنه لا يكون قبل ذلك الوقت، ولا يتأخر أيضًا عن ذلك الوقت؛ وهو كقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) قال قائلون: قوله: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ) المحو - هاهنا -: أن أنشأه في الابتداء بمحو؛ ليس على أن كان مثبتًا فمحاه، ولكن أنشاه هكذا ممحوا؛ وهو كقوله: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ) ليس أنه كان منشأ كذا ثم محي؛ ولكن أنشأه في الابتداء ممحوًّا، وكقوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ) ليس أنها كانت موضوعة ثم رفعها؛ ولكن أنشأها مرتفعة كما هي، فعلى ذلك هذا. ثم يحتمل ذلك الأعمال التي كانت معفوَّة في الأصل؛ من نحو أعمال الصبيان؛ والأعمال التي لا جزاء عليها. وقال قائلون: على إحداث محو؛ ثم هو يحتمل وجوهًا: يحتمل: ما ينسخ من الأحكام - فهو على محو الحكم به؛ والعمل ليس على محو نفسه؛ (وَيُثْبِتُ): وهو ما لا ينسخ؛ ولا يترك العمل به والحكم. ويحتمل المحو: محو الأحوال؛ وهو ما ينقل ويحول من حال إلى حال؛ من حال النطفة إلى حال العلقة، ومن حال العلقة إلى حال المضغة، يحوله وينقله من حال إلى حال أخرى؛ فذلك هو المحو. ويحتمل المحو -أيضًا-: هو ما يختم به العمر؛ السعادة أو الشقاء: إذا كان كافرًا ثم أسلم في آخر عمره - محيت الأعمال التي كانت له في حال كفره؛ فأبدلت حسنات،

(40)

وإذا كان مسلمًا ثم ختم بالكفر - محيت أعماله التي كانت له من الصالحات، فلم ينتفعوا بها. أو أن يكون ما ذكر من المحو والإثبات: هو ما يكتب الحفظة من الأعمال والأفعال يمحي عنها ما لا جزاء لها ولا ثواب؛ ويبقي ما له الجزاء والثواب ويترك مكتوبًا كما هو. أو يكون للخلق مقاصد في أفعالهم؛ والحفظة لا يطلعون على مقاصدهم؛ فيكتبون هم ما هو في الحقيقة حسنة؛ لقصده سيئة؛ على ظاهر ما عمل، أو حسنة في الظاهر؛ وهو في الحقيقة سيئة؛ فيغير ذلك؛ فيجعل ما هو في الحقيقة شر وفي الظاهر خير - شرّا بالقصد، وما هو في الحقيقة خير وفي الظاهر شر - خيرًا. أو أن يكون في كتابة الحفظة لكنه من وجه آخر؛ وهو أن الحفظة يكتبون الأعمال؛ ثم يعارض ذلك بما في اللوح المحفوظ؛ فمحى من كتابة الحفظة من الزيادة؛ ويثبت فيها ما كان فيه من النقصان. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ). هذا يحتمل: عنده الذي يعارض به كتب الملائكة. ويحتمل: وعنده أُم الكتاب الذي يستنسخ منه الكتب التي أنزلت على الأنبياء والرسل؛ وهو في اللوح المحفوظ. وفيه دلالة أن اختلاف الألسن لا يوجب تغيير المعنى؛ لأنه لا يدري أن تلك الكتب في اللوح بأي لسان هي، ثم أنزل منه كل كتاب على لسان الرسول الذي نزل عليه، وكذلك الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم؛ لا يحتمل أن يكتبوا بلسان الخلق؛ لأنه يظهر لو كانوا يكتبون بلسان هَؤُلَاءِ؛ فدل أنهم إنما يكتبون بلسان أنفسهم، فهذا كله يدل أن اختلاف اللسان لا يوجب اختلاف المعنى. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) كأنه صلوات اللَّه وسلامه عليه طمع أو سأله أن يريه جميع ما وعد له من إنزال

(41)

العذاب عليهم، وأنواع ما وعد؛ فقال: إن شئنا نريك بعض ما وعدناهم، وإن شئنا نتوفاك ولم نرك؛ فإنما عليك البلاغ؛ أي: ليس لك من الأمر شيء؛ أي: ليس إليك هذا إنما عليك البلاغ؛ وهو كقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. . .) الآية. إنما عليك كذا؛ فيخرج مخرج العتاب والتوبيخ؛ ليس مخرج الوعد والعدة؛ إذ قوله: ذا، وذا، بحرف شك أولا يجوز أن يضاف إليه ذلك. وقوله: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) هذا في الظاهر حرف شك، فهو يخرج على الوعد أو على النهي عن سؤال كان من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: فإن كان على النهي - فكأنه نهاه أن يسأل إنزال العذاب عليهم؛ يقول: إن شئنا أنزلنا وإن شئنا لم ننزل، وإن كان على الوعد؛ يقول: نريك بعض ما وعدنا؛ ولا نريك كله، وإلا ظاهره حرف شك. وقوله: (وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) يحتمل حساب ما وعد وجزاءه، ويحتمل الحساب المعروف؛ الذي يحاسبهم يوم القيامة. واللَّه أعلم. أي: لا يتركهم هملًا سدى، أو قوله: (وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) أي: إلينا الحساب، أو لنا الحساب، وذلك جائز في اللغة. * * * قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَرَوْا). قد ذكرنا في ما تقدم أنه إنما هو حرف تعجب وتنبيه؛ فهو يخرج على وجهين: أحدهما: على الخبر؛ أي: قد رأوا أنا فعلنا ما ذكر. والثاني: على الأمر؛ أي: أرَوْا أنَا، فعلنا ما ذكر؛ وهو ما ذكر من قوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي: قد ساروا في الأرض؛ أو سيروا. (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما جعل من أرض الكفرة للمسلمين؛ بالفتح لهم؛ والنصر على

أُولَئِكَ؛ والإخراج من سلطان أُولَئِكَ الكفرة وأيديهم، وإدخالها في أيدي المسلمين؛ فذلك النقصان. وهو، واللَّه أعلم لما وعد لرسوله أن يريه يعض ما وعد لهم؛ فقال الكفرة عند ذلك: أين ما وعد أن يريك؟ فقال عند ذلك: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا) أي: ألم يروا أنه جعل بعض ما كان لهم من الأرضين للمسلمين؛ فإذا قدر على جعل البعض - الذي كان لهم لهَؤُلَاءِ؛ لقادر أن يجعل الكل لهم؛ فهلا يعتبرون. هذا واللَّه أعلم ما أراد بما ذكر من النقصان. وقال قائلون: نقصان الأرض: موت فقهائها وعلمائها وفنائها. ووجه هذا: وهو أن الفقهاء والعلماء - هم عمَّار الأرض وأهلها؛ وبهم صلاح الأرض؛ فوصف الأرض بالنقصان بذهاب أهلها، وهو كما وصف الأرض بالفساد؛ وهو قوله: (لَفَسَدَتِ الأَرْضُ)، وقوله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) فالأرض لا تفسد بنفسها؛ ولكن وصفت بالفساد؛ لفساد أهلها، فعلى ذلك لا تنقص هي بنفسها؛ ولكن وصفت بالنقصان؛ لذهاب أهلها، وعمارها وفقهائها وعلمائها. ثم يحتمل ذهاب العلماء المتقدمين، الذين تقدموا رسول اللَّه في الأمم السالفة؛ وهم علماء أهل الكتاب؛ فيقول ألا يعتبرون بأُولَئِكَ الذين قبضوا وتفانوا من علمائهم؟ فلا بدّ من رسول يعلمهم الآداب والعلوم؛ ويجدد لهم ما دَرَس من الرسوم وذهب، من الآثار؛ فكيف أنكروا رسالته؟ وفي بعث الرسول حدوث العلماء؛ وذلك وقت حدوث العلماء وزمانه؛ فإن كان أراد العلماء المتأخرين وففهاءهم - فيخرج ذلك مخرج التعزية له؛ أي: تصير الأرض بحال توصف بالنقصان، بذهاب العلماء والفقهاء. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ). قيل: لا رادَّ لحكمه، وحكمه: يحتمل: العذاب الذي حكم على الكفرة؛ يقول: لا رادَّ للعذاب الذي حكم عليهم؛ أوهو كقوله: (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)، أي:

(42)

احكم بالعذاب الذي حكمت عليهم. ويحتمل قوله: (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي: لا يتعقب أحد حكمه؛ ولا يعقب أحد سلطانه؛ كما يكون في حكم الخلائق يتعقب بعض عن بعض، وكما ذكر في الحفظة: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)، يتعقب بعض عن بعض في الحفظ؛ وفيما سلطوا. واللَّه أعلم. (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) هذا قد ذكرناه في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) أي: مكر الذين من قبلهم برسلهم؛ كمكر هَؤُلَاءِ بك يصبر رسوله على أذاهم به. ثم يحتمل المكر به وجهين: أحدهما: مكروا بنفسه؛ هموا قتله وإهلاكه. والثاني: مكروا بدينه الذي دعاهم إليه وأراد إظهاره؛ هموا هم إطفاء ذلك وإبطاله وكذلك مكر الذين من قبلهم برسلهم يخرج على هذا. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا). هذا أيضًا يخرج على وجهين: أحدهما: يقول: فلله جزاء المكر جميعًا؛ يجزى كلا بمكره. والثاني: أي: لله حقيقة المكر يأخذهم جميعًا بالحق من حيث لا يشعرون، وأما هم فإنما يأخذون ما يأخذون لا بالحق ولكن بالباطل، ولا يقدرون على الأخذ من حيث لا يشعرون إلا قليلا من ذلك، فحقيقة المكر الذي هو مكر بالحق في الحقيقة لله لا لهم. ْويحتمل قوله: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا) أي: لله تدبير الأمر جميعًا، إن شاء أمضاه؛ وإن شاء منعه، إليه ذلك لا إليهم. أو لله حقيقة المكر يغلب مكره مكر أُولَئِكَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) من خير أو شر. (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ). يشبه أن يكون عقبى الدار معروفًا عندهم؛ وهي الجنة، فيكون صلة قولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، فيقول - واللَّه أعلم - سيعلمون هم لمن عقبى الدار؛ أهي لهم أم هي للمؤمنين؟ أو أن يكون جواب قوله: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا).

(43)

أنهم لما رأوهم مفضلين في أمر الدنيا ووسع عليهم الدنيا - ظنوا أن لهم في الآخرة كذلك؛ فقال ذلك جوابًا لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (43) أي: قالوا. (لَسْتَ مُرْسَلًا) أي: لن يبعثك اللَّه رسولا، وهم كانوا يقولون كذلك له فأمره أن يقول لهم. قوله تعالى: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) إني نبي رسول اللَّه إليكم بالآيات التي آتي بها، أو كان قال لهم ذلك؛ لما بالغ في الحجاج والبراهين في إثبات الرسالة والنبوة؛ فلم يقبلوا ذلك فأيس من تصديقهم؛ فعند ذلك قال: قوله تعالى: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) أي: يعلم من كان عنده علم الكتاب؛ يعني التوراة؛ فيشهد أيضًا أني رسول نبي؛ أي: يعلم من كان عنده علم الكتاب أني على حق؛ وأني رسول اللَّه؛ وهو كقوله: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً. . .) الآية. وقوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)، ومن قرأ بالخفض: (ومِنْ عِنْدِه عِلمُ الكتابِ) فتأويله - واللَّه أعلم -: أي: من عند اللَّه جاء علم هذا الكتاب؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكذلك روي في بعض الأخبار؛ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه كان يقرأ: (ومِنْ عِنْدِه عِلمُ الكتابِ) بالخفض، وأما القراء جميعًا فإنهم يختارون النصب (وَمَن عِندَه عِلْمُ الكتابِ). قال أبو عبيد: وقرأ بعضهم: [(ومِن عِندِهِ عُلِمَ الكتابُ) بخفض الميم والدال ورفع العين؛] وقال: لكن لا أدري عمن هو. وروي عن عبد اللَّه بن سلام أنه قال: فيَّ نَزَلَ: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) هذا يؤيد أن يثبت قول أهل التأويل؛ حيث قالوا: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ): عبد اللَّه بن سلام وأصحابه. واللَّه أعلم. * * *

سورة إبراهيم

سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام قيل: مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * * * قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الر كِتَابٌ): الر: كناية عن حروف مقطعة جعلها - بالحكمة - كتابًا. (أَنْزَلْنَاهُ): أي: جمعناها أوأنزلناها، وجعلناها كتابًا، أعني تلك الحروف المقطعة كتابًا؛ وأنزلناه إليك بعدما لم تكن تدري ما الكتاب؛ وهو كما قال: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)؛ وقوله: (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ). (لِتُخْرِجَ النَّاسَ). وما يضاف الإخراج إلى اللَّه فإنه يكون بإعطاء الأسباب، وحقيقة ما يكون به الأفعال، وهي القدرة، وما يضاف الإخراج إلى الرسل؛ فإنه لا يكون إلا بإعطاء الأسباب؛ لأنه لا يملك أحد سواه إعطاء ما به يكون الفعل، ثم الأسباب تكون بوجهين: أحدهما: الدعاء إلى ذلك. والثاني: ما أتى بهم من البيان والحجة على ذلك؛ فهو الأسباب التي يملك الرسل إتيانها، وأما ما به حقيقة الفعل؛ فإنه لا يملكه إلا اللَّه. وقوله: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) قيل: من الكفر إلى الإيمان، سمى الكفر: ظلمات؛ وهو واحد؛ لأنه يستر جميع منافذ الجوارح؛ من البصر والسمع واللسان؛ يبصر ما لا يصلح؛ ويسمع ما لا يصلح، وكذلك القول: يقول ما لا يصلح، وكذلك جميع الجوارح والإيمان يرفع ويكشف جميع الحجب والستور؛ ويضيء له كل مستور. والثاني: قوله: (مِنَ الظُّلُمَاتِ) أي: من الشبهات إلى النور؛ أي: إلى الإيمان والهدى. وقوله: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) الإخراج المضاف إلى اللَّه والهداية تخرج

(2)

على وجوه أربعة: أحدها: يأمر ويدعوهم إلى ما ذكر. والثاني: يكشف ويبين. والثالث: يرغب ويرهب، حتى يرغبوا في المرغوب ويحذروا المرهوب. والرابع: تحقيق ما يكون به الهداية، وذلك لا يكون إلا باللَّه؛ وهو التوفيق والعصمة، وأما الوجوه الثلاثة الأُول فإنها تكون برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ يأمر ويدعو؛ ويرغب ويرهّب؛ وببين ويكَشف. واللَّه أعلم. وقوله: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ) كأنه قال: كتاب أنزلناه إليك؛ لتأمر الناس بالخروج مما ذكر إلى عا ذكر. الثاني: أنزلناه لتخرج به الناس مما ذكر. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ). قيل: بأمر ربهم؛ أي: تدعوهم بأمر ربهم. وقال قائلون: بعلم ربهم؛ أي: أنزل هذه الحروف المقطعة بعلمه. والثالث: يحتمل بتوفيق رجهم الإذن من اللَّه، يحتمل أحد هذه الوجوه التي ذكرنا: الأمر والعلم والتوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) هو اللَّه؛ أي: يدعوهم إلى طريق ألله الذي من سلكه نجا. (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) سمى عزيزًا؛ لأن كل عزيز به يعز، أو يقال: عزيز؛ لأنه عزيز بذاته ليس بغيره كالخلائق، أو العزيز: هو الذي لا يغلب، والحميد: هو الذي لا يلحقه الذم في فعله؛ كالحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في تدبيره. وقال أهل التأويل: العزيز: المنيع، والحميد: الذي هو يقبل اليسير من العبادة. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) من قرأ بالخفض صيّره موصولا بالأول، وجعله كلامًا واحدًا؛ وأتبع الخفض

(3)

بالخفض. ومن قرأ بالرفع: (اللَّهُ الَّذِي) وجعله مقطوعًا عن الأول أعلى أحق الابتداء؛ فقال: (اللَّهُ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). ذكر قوله: (اللَّهُ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)؛ ليعلم أنه بما يأمر الخلق؛ ويدعوهم إلى دينه؛ ويمتحنهم بأنواع المحن لا يفعل ذلك لمنافع نفسه أو لحاجته في ذلك؛ بل لحاجة الممتحنين ولمنافعهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ). قال قائلون: الويل: هو الشدة، وقيل: الويل: هو اسم وادٍ في جهنم. وقال الأصم: الويل: هو نداء كل مكروب وملهوف من شدة البلاء، وقول الحسن كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وصف أُولَئِكَ الذين ذكر أن فيهم الويل من هم؛ فقال: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ) أي: آثروا واختاروا الحياة الدنيا على الآخرة؛ أي: رضوا بها واطمأنوا فيها؛ كقوله: (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا)، اختاروا الحياة الدنيا للدنيا؛ لم يختاروا للآخرة؛ فالدنيا أنشئت لا للدنيا ولكن إنما أنشئت للآخرة؛ فمن اختارها لها؛ لا ليسلك بها إلى الآخرة - ضلّ وزاغ عن الحق. وقوله: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ) وهو ما ذكرنا: يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة؛ حتى يلهوا عن الآخرة؛ ويسهوا فيها ويغفلوا، وإلا أهل الإسلام ربما يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، وهو ما ذكرنا: أنهم يختارون ذلك للآخرة، وأُولَئِكَ للدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). يحتمل (وَيَصُدُّونَ): وجهين: أحدهما: أعرضوا هم بأنفسهم. والثاني: صرفوا الناس عن سبيل اللَّه؛ الذي من سلكه نجا، لكن إنما يتبين ويظهر ذلك بالمصدر صد يصد صدا: صرف غيره، وصد يصد صدودا: أعرض هو بنفسه.

(4)

(وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا). أي: طعنًا وعيبًا فيه، دكَ هذا على أن الآية في الرؤساء منهم والقادة الذين كانوا يصدون الناس عن سبيل اللَّه ويبغون في دين اللَّه الطعن والعيب؛ فما وجدوا إلى ذلك سبيلا قط. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ). الضلال: يحتمل وجوهًا: يحتمل: (الضلال): أي: هلكوا هلاكًا لا نجاة فيه قط. ويحتمل الحيرة والتيه؛ أي: تحيروا فيه وتاهوا حتى لا يهتدوا أبدًا. ويحتمل (الضلال) البطلان؛ أي: في بطلان بعيد؛ حتى لا يصلحوا أبدًا، وهو في قوم علم اللَّه أنهم لا يهتدون أبدًا؛ ويختمون على الضلال، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ). لو كان غيره من الكتب أرسلت بغير لسان الأمم لكان هذا الكتاب يجب أن يكون مبعوثًا بلسان قومه؛ لأنه جعل هذا الكتاب نفسه حجة وآية لرسالته؛ لأنهم يعجزون عن إتيان مثله؛ وهو كان بلسانهم؛ ليعلموا أنه جاء من اللَّه؛ إذ لو كان من اختراع الرسول - لقدروا هم على اختراع مثله؛ لأن لسانهم مثل لسانه، فإذا عجزوا عن إتيان مثله - دلَّ أنه منزَّل من اللَّه تعالى لا من عند الخلق. ثئم يحتمل قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) وجوهًا: قال قائلون: هذا بعد ما اختلفت الألسن؛ أرسل هذا وفيه أنباء أوائلهم الذين كان

لسانهم غير لسان هَؤُلَاءِ، وأخبارهم ليعلموا أنه إنما عرف تلك الأنباء والأخبار اشتي كانت بغير لسانهم باللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أرسل بلسان قومه؛ لئلا يكون لهم مقال كقوله: (لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ. . .) الآية. والثالث: أنه إذا كان بلسانهم يكون آلف وأقرب إلى القبول؛ من إذا كان بغيره؛ إذ كل ذي نوع وجنس يكون بجنسه ونوعه آلف من غير نوعه وجوهره؛ وهو كقوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا)، إذ ليس في وسع البشر رؤية الملك والنظر إليه على ما هو عليه، فعلى ذلك: كل ذي لسان يكون بلسانه أفهم وأقرب للقبول وآلف من غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ). قال قائلون: ليكون أبين لهم وأفهم. وقال قائلون: ليبين لهم فيفهموا قول رسولهم. وقوله: (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ). أي: يضل اللَّه من آثر سبب الضلال، ويهدي من آثر سبب الذي به يهتدي؛ يهديه ذلك. وقال قائلون: يضل اللَّه من يشاء ويهدي من يشاء: هذا حكم اللَّه؛ أن يضل المكذبين ويهدي المصدقين، لكن الوجه فيه ما ذكرنا بدءًا أنه يضل من آثر سبب الضلال؛

(5)

ويهدي من يشاء هذا حكم اللَّه: أن يضل المكذبين ويهدي المصدقين؛ أي: من آثر سبب الاهتداء. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز؛ لأن جميع الخلائق مفتقرون إليه لأنه يعزّ من عزّ. أو أن يكون العزيز: هو الذي لا يغلب، والحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في الحكم والتدبير، أو الحكيم في بعث الرسل وفي جميع فعله، ولم يؤخذ عليه في فعله خطأ قط، مصيبٌ وضع كل شيء موضعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) يحتمل آياته: حججه وبراهينه التي أرسل بها على وحدانية اللَّه وألوهيته. ويحتمل آياته: التي بعثها إلى موسى ليقيمها على رسالته. إن شئت قلت: آياته: حججه وإن شئت سميتها أعلامًا، والآيات والأعلام والحجج - كله واحد؛ فيكون أعلام وحدانية اللَّه وألوهيته أو أعلام رسالته. وقال قائلون: (بِآيَاتِنَا): أي: بديننا، أي: أرسلنا موسى بديننا، ليدعوهم إليه. (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). وعلى ذلك بعث جميع الرسل والأنبياء، بعثوا ليخرجوا قومهم من الظلمات إلى النور، وقد ذكرنا هذا في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ). التذكير: هو العظة؛ أي: عظهم بأيام اللَّه. قال قائلون: أيام اللَّه: نعمه. قال قتادة: أمره أن يذكرهم بنعم اللَّه التي أنعمها عليهم؛ فإن لله عليكم أيامًا من النعم؛ كأيام القوم؛ كم من خير قد أعطاه اللَّه تعالى لكم؛ وكم من سوء قد صرفه

اللَّه تعالى عنكم، أوكم من كرب نفسه اللَّه تعالى عنكم، وكم من غَمٍّ فرجه الله تعالى عنكم؛ فاللهم ربنا لك الحمد. وقال قائلون: أيام اللَّه: وقائعه؛ أي: ذكّرهم بوقائع اللَّه في الأمم السالفة؛ كيف أهلكهم لما كذبوا الرسل. هذا يحتمل: أن يذكرهم بنعم اللَّه التي كانت على المصدقين بتصديقهم؛ وهو ما أنجى المصدقين من التعذيب والإهلاك؛ إهلاك تعذيب. أو ذكر المكذبين منهم بالوقائع التي كانت على أُولَئِكَ بالتكذيب؛ وهو الإهلاك. ويشبه أن يكون قوله: (بِأَيَّامِ اللَّهِ): الأيام المعروفة نفسها، أمره أن يذكرهم بها؛ ْلأن الأيام تأتي بأرزاقهم؛ وتمضي بأعمالهم وأعمارهم؛ إن كان خيرًا فخير وإن كان شرًّا فشر، وتفني أعمارهم وآجالهم، وفيما تأتى بأرزاقهم نعمة من اللَّه عليهم، وفي ذهاب أعمارهم وآجالهم إظهار سلطان اللَّه وقدرته، فأمره أن يذكرهم بذلك. واللَّه أعلم. هذا يشبه أن يكون أمر موسى أن يذكر بني إسرائيل ما كان عليهم من فرعون؛ من أنواع التعذيب، ثم الإنجاء من بعد، يقول - واللَّه أعلم - ذكرهم الأيام الماضية وما يتلوها، وهذا أشبه وأقرب. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) وقد ذكرنا أن الصبر: هو كف النفس عن معاصي اللَّه وعن جميع مناهيه، والشكر: هو الرغبة في طاعته، أخبر أن فيما ذكر آيات لمن كف نفسه عن المعاصي؛ ورغب في طاعته، لا لمن تطاول على الرسل؛ وتكبر عليهم؛ وترك إجابتهم؛ ولم يرغب فيما دعوه إليه، ليس لأمثال هَؤُلَاءِ عبرة وآية ولكن لمن ذكرنا. ويشبه أن يكون الصبار والشكور كناية عن المؤمن لأن كل من آمن باللَّه ووحَّده - اعتقد الكف عن جميع معاصيه، والرغبة في كل طاعته، وإن كان يقع أحيانًا في معصيته، فكأنه قال: إن في ذلك لآيات للمؤمنين، على ما ذكر في غيره من الآيات؛

(6)

من ذلك قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)، و (لِلْمُوقِنِينَ)، و (لِلْمُتَّقِينَ)؛ ونحوه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) يشبه أن يكون هذا على الإضمار؛ وهو ما ذكر في آية أخرى؛ أي: اذكروا نعمة اللَّه عليكم (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا. . .) الآية. واذكروا أيضًا: (إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ) قيل يعذبونكم (سُوءَ الْعَذَابِ). وقال قائلون: يكلفونكم سوء العذاب (وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ). السوم: الإذاقة والتعريض؛ يقال: سامني كذا: أي: أذاقني وعرضني، ويقال: سمت الدابة على الحوض: أي: عرضتها. (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) هذا أيضًا قد ذكرناه؛ فيما تقدم في سورة البقرة والأعراف. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِذْ تَأَذَّنَ) قال ربكم. وقيل: إذ أعلم ربكم وأخبر، والعرب ربما قالت: أفعلت في معنى تفعلت؛ فهذا من ذلك، ومثله في الكلام: أوعدنى وتوعدنى؛ وهو قول الفراء، وحقيقته: وعد ربكم أو كفل ربكم؛ لئن شكرتم لأزيدنكم، لم يقل: لئن شكرتم نعمة كذا، ولا بيِّن أي نعمة: النعم كلها، أو نعمة دون نعمة، ولا قال: شكرتم بماذا، وقال لأزيدنكم؛ لم يذكر الزيادة في ماذا؛ ومن أي: شيء هي. فيشبه أن يكون قوله: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) بالتوحيد؛ أي: وحَّدتم اللَّه في الدنيا؛ فيما خلقكم خلقًا؛ وركب فيكم ما تتلذذون وتتنعمون في الدنيا؛ وفيما قومكم من أحسن تقويم. (لَأَزِيدَنَّكُمْ) النعم الدائمة في الآخرة؛ فيصير على هذا التأويل كأنه قال: لئن أتيتم شاكرين في الآخرة لأزيدنكم النعم الدائمة، وإلى هذا يذهب ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أو قريب منه؛ ألا ترى أنه قال: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) أي: ولئن كفرتم ولم توحدوه؛ وأشركتم غيره فيه؛

(8)

وصرفتم شكر تلك النعم إلى غيره إن عذابي لشديد. ويحتمل أن يكون كل نعمة يشكرها يزيد له من نوعها في الدنيا؛ ويدوم ذلك له. وفي قوله: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) لطف وفضل؛ لأن الشكر هو المجازاة والمكافأة لما سبق، واللَّه تعالى لا يكافئ فيما أنعم؛ لأنهم يستزيدون لأنفسهم الزيادة بالشكر الذي ذكر؛ فهو ليس بشكر في الحقيقة، لكن هذا منه لطف، ذكره؛ وهو كما قال الله تعالى: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا. . .) الآية، وقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. . .) الآية، فهذه الأنفس والأموال في الحقيقة لله؛ ليست لهم؛ فهم فيما يقرضون، يقرضون لأنفسهم، وكذلك في الشراء يشترون لأنفسهم من مولاهم، لكنه ذكر شراه من أنفسهم؛ لطفًا منه وفضلا؛ فعلى ذلك فيما ذكر من الشكر له يطلبون الزيادة لأنفسهم؛ لطفًا منه، وإن كان الشكر في الظاهر موضوعه المكافأة لما سبق، فهو فيما بين الرب والعباد ليس بمكافأة؛ ولكن سبب الزيادة، ولكن سمي شكرًا؛ لطفًا منه وفضلا على ما ذكر التصدق قرضًا؛ واللَّه أعلم، ألا ترى أنه قال: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أي: غني بذاته، ليس يأمر ما يأمر لحاجة نفسه، ولا لمنفعة له، ولكن ما امتحنكم إنما امتحنكم لحاجة أنفسكم، ولمنفعة أبدانكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي: غني، عن عبادة خلقه؛ حميد عند خلقه؛ وهو ما ذكرنا أنه ليس يأمرهم فيما يأمر لمنفعة نفسه أو لحاجة نفسه؛ ولكن لمنافع تحصل للخلق ولحوائج تبدو لهم، وكذلك النهي عما ينهى ليس ينهى لخوف مضرّة تلحقه؛ ولكن للضرر يلحقهم ولآفة تتوجه إليهم. يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن غناه؛ عما يأمر خلقه من طاعته وعبادته وتوجيه الشكر إليه. والحميد: هو الذي لا يلحقه الذم في فعله، يقول - واللَّه أعلم -: إنهم وإن كفروا، وكان علم اللَّه منهم أنهم يكفرون؛ فعلمه بذلك لا يجعله في إنشائهم مذمومًا. واللَّه أعلم.

(9)

قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ. . .) الآية. يشبه أن يكون الخطاب لأهل الإيمان منهم، والرسل خاطبهم - عَزَّ وَجَلَّ - تصبيرًا منه لهم، وتنبيهًا على تكذيب الكفرة إياهم؛ وأذاهم واستهزائهم بهم؛ فقال: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: قد أتاكم نبأ الذين من قبلكم ما فيه مزجر لكم عن مثل معاملتهم الرسول، وهو ما ذكره: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ). إنه نزل بهم بتكذيبهم الرسل والاستهزاء بأتباعهم، لذكر هذا لهم؛ ليهون ذلك عليهم وليخف؛ لأن من علم أن له شركًا فيما بُلي به وامتحن كان ذلك عليه أهون، وأخف من أن يكون هو المخصوص به. ويحتمل أن يكون الخطاب لأهل الكفر منهم؛ يقول: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: قد أتاكم خبر الذين من قبلكم؛ أنه ماذا أنزل بهم بتكذيبهم الرسل واستهزائهم يأتياعهم؛ فينزل بكم، ما نزل بهم؛ لأن الذي أنزل ذلك عليهم حي قادر على إنزال مثله؛ فيخرج ذلك مخرج التوقيح والتوبيخ والتعيير والوعيد؛ ليحذروا

عن صنيع أُولَئِكَ. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ). فيه دلالة أن تكلف معرفة الأنساب وحفظها إلى آدم شغل وتكلف؛ لأنه أخبر أن فيهم من لا يعلمه إلا اللَّه وروي في الخبر أنه كان ينسب إلى مُضَر، ولا ينسب إلى أكثر من ذلك. قال أبو بكر الأصم: قوله: (لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) يكذب من ادعى معرفة الأنساب المتقدمة؛ لأنه قال: (لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ)، وقد أخبر أيضًا أنه لم يقص عليه خبر الكل بقوله: (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)، فمن البعيد أن يتكلف تعرف ما لم يقصق على رسوله واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ). قيل: البينات: بينات على وحدانية اللَّه وألوهيته، ويحتمل الحجج التي أتوا بها الرسل على إثبات الرسالة والنبوة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البينات: ما يتقون، وما يأتون، وما يحل عليهم وما يحرم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ). يحتمل أن يكون هذا على التمثيل والكناية عن التكذيب وترك الإجابة؛ لأن رد الأيدي في أفواههم يمنعهم عن التصديق؛ كقوله: (كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ. . .) الآية، إذا ترك إجابته، وقوله: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، وأمثاله. ويشبه أن يكون على تحقيق جعل الأيدي في أفواههم، ثم يخرج على وجهين: أحدهما: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) في أفواه الرسل: فيقولون إنكم كذبة. ويحتمل: رد الأيدي في أفواه أنفسهم يصوتون وشمتهزئون بهم وبأتباعهم؛ كقوله: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ. . .) الآية، وقد ذكرنا معناه في موضعه؛ فعلى ذلك هذا يحتمل ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ. . .) الآية. وقد ذكرنا معناه؛ يحتمل قوله: (بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) التوحيد؛ لأنهم أرسلوا بالدعاء إلى توحيد اللَّه والعبادة له، يدل على ذلك قولهم: (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ

(10)

مُرِيبٍ) وقول الرسل (أَفِي اللَّهِ شَك. . .) الآية. ويحتمل قوله: (إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) من إثبات الرسالة، وإقامة الحجة عليها، (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) من التصديق بالرسالة والنبوة. (مُرِيبٍ): هذا يدل أنهم كانوا على شك مما يعبدون من الأوثان والأصنام؛ لأنهم لو كان لهم بيان في ذلك وحجة ودعاء إليه؛ لكانوا لا يقولون: (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) ولكن كانوا يقطعون فيه القول؛ فدل أنهم كانوا على شك وريب في عبادتهم الأصنام والأوثان التي عبدوها. ثم الشك والريب؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: هما سواء، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشك: هو الشك المعروف، والريب: هو النهاية في الشك. وقال بعض أهل التأويل في قوله - تعالى -: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ): أي: عضوا على أصابعهم غيظًا على ما دعوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ردوا عليهم قولهم أو كذبوهم، وهو ما ذكرنا بدءًا؛ وقال: ردوا عليهم بأفواههم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) أي: أفي ألوهية اللَّه شك؟ أو في عبادة اللَّه شك؟ أي: ليس في ألوهيته ولا في عبادته شك إذ تقرون أنتم أنه إله وأنه معبود، وكذلك أقر آباؤكم أنه إله وأنه معبود، فليس في ألوهيته ولا في عبادته شك؛ إنما كان الشك في عبادة من تعبدون دونه، من الأوثان والأصنام وألوهيتها؛ لأن آباءكم أقروا بألوهية اللَّه وأنه معبود، حيث قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعاؤنَا عِندَ اللَّهِ)، وأقروا أنه خالق السماوات والأرض، وفاطر جميع ما فيهما بقولهم: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، وإن الأصنام التي عبدوها لم تخلق شيئا؛ فليس في اللَّه شك عندكم إنما الشك فيما تعبدون دونه؛ أو في وحدانية اللَّه. أو يقول: أفي اللَّه شك أنه معبود؟ أي: ليس في اللَّه شك أنه لم يزل معبودًا إنما الشك

في الأصنام التي قالوا: إنما نعبدهم لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللَّه زلفى؛ فأما في اللَّه فلا شك أنه لم يزل معبودًا فاطر السماوات والأرض. يشبه أن يكون على الإضمار؛ أي: أفي اللَّه شك وقد تقرون أنه فاطر السماوات والأرض؛ وتعلمون أنه خالقهما. ويحتمل أن يكون على الاحتجاج؛ أي: أفي اللَّه شك وهو فاطر السماوات والأرض؟! أي: تعلمون أنه فاطر السماوات والأرض وتقرون أنه خالقهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ). هذا يحتمل وجهين: يحتمل: ليغفر لكم ذنوبكم التي كانت لكم في حال الفترة إذا أسلمتم. وفيه دلالة - واللَّه أعلم -: أن المآثم التي كانت لهم في وقت الفترة - مأخوذة عليهم؛ ثم وعد لهم المغفرة إذا أسلموا. والثاني: وعد المغفرة والتجاوز؛ لما كان منهم من الافتراء على اللَّه؛ والقول فيه بما لا يليق به؛ إذا أسلموا وتابوا عن ذلك؛ أي: إنكم، وإن افتريتم على اللَّه وقلتم فيه ما قلتم؛ وكذبتم رسله، فإذا أسلمتم وتبتم وصدقتم رسله - غفر لكم ذلك كله وفيه ذكر لطفه وحسن معاملته خلقه. ويحتمل أيضًا قوله: (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) وجواب ما قالوا: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا). أويحتمل أيضًا قوله: (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ويقول: إذا أسلمتم وتبتم لا تتخطفون؛ ولكن تبلغون إلى آجالكم المسماة ويؤخركم إلى أجل مسمّى. يتعلق المعتزلة بظاهر هذه الآية أن لكل إنسان أجلين: أجل في حال إذا كان فعل فعل كذا، وأجل في حال إذا فعل كذا؛ لكن جعل الأجلين إنما يكون بجهل في العواقب ممن من يجهل العواقب، فأمَّا اللَّه سبحانه وتعالى فهو عالم بما كان ويكون؛ فلا يحتمل أن

(11)

يجعل له أجلين؛ وهو عالم بما يكون؛ فإنما جعله أجله بالذي علم أنه يكون منه؛ في الوقت الذي جعله، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا). في قولهم تناقض من وجهين: أحدهما: أنهم تركوا طاعة رسلهم واتباعهم؛ لأنهم بشر مثلهم؛ ثم أطاعوا آباءهم واتبعوهم في عبادة الأصنام، وهم بشر مثلهم، حيث قالوا: (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) وفذلك تناقض في القول. والثاني: أنهم لم يروا الرسل متبوعين؛ لأنهم بشر ثم لا يخلو هم بأنفسهم من أن يكونوا متبوعين استتبعوا غيرهم دونهم، أو كانوا أتباعًا لغيرهم؛ حيث قالوا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، فذلك تناقض في القول. (فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ). سألوا الحجة على ما دعوا إليه من ألوهية اللَّه تعالى وربوبيته، أو على ما ادعوا من الرسالة من اللَّه، وفي كل شيء وقع عليه بصرهم دلالة وحدانية اللَّه وألوهيته، لكنهم سألوا ذلك سؤال تعنت وعناد، وكذلك قد أقاموا الحجج على ما ادعوا من الرسالة؛ لكنهم تعاندوا وكابروا في ردّ ذلك فسألوا سؤال آية وحجة؛ تضطرهم وتقهرهم على ذلك، أو يكون عند إتيانها هلاكهم؛ فأجابهم الرسل فقالوا: (وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: ما كان لنا أن نأتيكم بآية تكون بها هلاككم؛ إنما ذلك إلى اللَّه: إن شاء فعل؛ وإن شاء لم يفعل. وقوله: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ... (11) أي: ما نحن إلا بشر مثلكم، أولكن اللَّه يمن على من يشاء، في دلالة، رد قول الباطنية؛ لأنهم ينكرون كون الرسالة في جوهر البشرية؛ ويقولون: إنما تكون الرسالة في جوهر الروحانية؛ فهم - صلوات اللَّه عليهم وسلامه - إنما أجابوا قومهم؛ حيث قالوا لهم: ما أنتم إلا بشر مثلنا؛ وقولهم: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ولم يذكروا شيئًا سوى البشرية؛ فدل أن قول الباطنية باطل؛ حيث قالوا: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).

(12)

فيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه لا يختص أحدًا بالرسالة؛ إلا من كان منه ما يستحق به الرسالة؛ وهم صلوات اللَّه عليهم؛ لم يذكروا سوى منة اللَّه عليهم، دل أنه يمن عليهم ويختصهم؛ لا بشيء من الاستحقاق ويكون منهم من الأعمال؛ ولكن بالمنة والفضل منه عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ). هو ما ذكرنا: الإذن موضوعه الإباحة، هو مقابل الحجر؛ لكن الإذن المذكور في القرآن ليس كله على وجه واحد؛ ولكن يتجه في كل موضع ويحتمل على ما يليق به، قال اللَّه تعالى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي: بنصر اللَّه؛ لأن الهزيمة هي موضع النصر؛ تحمل عليه، وتال: (وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بإنشاء اللَّه؛ فعلى ذلك الإذن هاهنا؛ حيث قال: (وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بإنشاء اللَّه، السلطان وإجرائه على أيدينا. ويحمل الإذن المذكور في القرآن على ما يصلح ويليق بما تقدم ذكره. ويحتمل الإذن هاهنا الأمر؛ أي: بأمر اللَّه نأتي أي: إن أمرنا اللَّه بذلك نأتى به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). يشبه أن يكون ذكر هذا على إثر وعيد وأذى كان منهم إليهم؛ فقالوا: على اللَّه يتكل ويعتمد المؤمنون في دفع وعيدكم وأذاكم. وقوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على الأمر؛ أي: على اللَّه توكلوا أنها المؤمنون؛ في جميع ما يتوعدكم أهل الكفر؛ وفي جميع أموركم. ويحتمل على الإخبار عن صنيع المؤمنين أنهم إنما يتوكلون على اللَّه، وبه يعتمدون في جميع أمورهم؛ ومنه يرون كل خير وبر، لا بالأسباب التي لهم ولا يرون منها. وأما أهل الكفر فإنما يتوكلون ويعتمدون بالأسباب؛ ومنها يرون كل سعة وخير. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) كأن هذا يخرجع على إئر جواب كان منهم؛ لما قال الرسل: (وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ

(13)

بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فأجابوهم بحرف؛ فعند ذلك قال الرسل: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ) لكنه لم يذكر ما كان منهم؛ ولكن ذكر جواب الرسل لهم: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) قَالَ بَعْضُهُمْ: وقد بين لنا سلوك سبلنا. وعندنا قوله: (وَقَدْ هَدَانَا) أي: وفق لنا السلوك في السبل التي علينا أن نسلكها؛ وأكرم لنا ذلك؛ أي: ما لنا ألا نتوكل عليه في النصر والظفر عليكم؛ وقد وفقنا وأكرمنا السلوك في السبل التي علينا سلوكها، وذلك أعسر من القيام للأعداء والنصر بهم؛ وقد أكرمنا ما هو أعسر وأعظم؛ فإن ينصرنا أولى. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا). يحتمل أن يكون هذا قبل أن يأمروا بالقيام لهم والاستنصار منهم؛ أمروا بالصبر على أذاهم؛ فقالوا: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا). ويشبه أن يكون قوله: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ) أنهم قالوا ذلك؛ لما كان أهل الكفر في كثرة؛ وكان أهل الإسلام وأتباع الرسل في قلة؛ يستقلون أهل الإسلام ويعاتبون على ذلك؛ فقالوا عند ذلك: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ) بالنصر على أعدائنا؛ والغلبة عليهم، وقد أكرمنا بما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) كأنه يخرج على الأمر؛ أي: على الله فتوكلوا؛ لا تتوكلوا على غيره. ويشبه أن يكون على الخبر؛ أي: لا يتوكل المؤمن إلا على اللَّه؛ لا يتوكل على غيره؛ كقول الرسول حيث قال: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ. . .) الآية، وهو قول هود، وقول المؤمنين: (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا. . .) الآية، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) الإخراج يحتمل وجوهًا ثلاثة: أحدها: على حقيقة الإخراج من البلد إلى غيره من البلدان والأرضين. ويحتمل الإخراج: الحبس (لَنُخْرِجَنَّكُمْ)؛ أي: لنحبسنكم عن الانتفاع بالبلد، وبأهله وبما فيه، ويحتمل الإخراج: القتل؛ أي: نقتلنكم؛ وقد كان أهل الكفر يوعدون ويخوفون الرسل وأتباعهم بهذه الثلاثة؛ كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الآية

ونحوه. ثم في وعيدهم الذي أوعدوا الرسل وجوهًا ثلاثة حيث تجاسروا إقبال الرسل بمثل هذا الوعيد ومع الرسل آيات وحجج: أحدها: أنهم رأوا أنفسهم مسلّطين على أُولَئِكَ؛ قاهرين عليهم، وكانوا أهل كبر وتجبر؛ ألا ترى أنه قال: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)، دل هذا أنهم كانوا رأوا أنفسهم - كما ذكرنا - أهل تسليط وتجبر. والثاني: قالوا ذلك لهم؛ لما لم يكن عندهم ما يدفعون حجج الرسل وبراهينهم؛ فهمُّوا قتلهم وإخراجهم؛ لعجزهم عن دفع ما ألزمهم الرسل، وهكذا الأمر المتعارف بين الخلق: أن الخصم لا يقصد إهلاك خصمه؛ ما دام له الوصول إلى الحجاج؛ فإذا عجز عن ذلك فعند ذلك يهم بقتله ويقصد إهلاكه. والثالث: جواب الرسل إياهم عند القول إليه بالقول الذي ليس فوقه أحسن منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا). الملة: الدِّين؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا يتوارث أهل الملتين " وقوله تعالى: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي: دين إبراهيم. وقوله: (لَتَعُودُنَّ) ليس أنهم كانوا فيها وتركوها؛ ولكن على ابتداء الدخول فيها على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ). وعد لهم النصر؛ والظفر عليهم؛ والتمكين في أرضهم مع قلة عدد أتباع الرسل وضعف أبدانهم؛ ومع كثرة الأعداء وقوة أبدانهم؛ ليعلموا أنهم قالوا ذلك بوحي من اللَّه؛ ووعده إياهم، لا من حيث أنفسهم، واللَّه أعلم. فكان على ما أخبروا؛ فكان ذلك من آيات رسالتهم، وما ينبغي لهم أن يطلبوا لهم من الرسل الآيات والحجج على ما ادعوا؛ لأنهم لم يدعوهم إلى طاعة أنفسهم أو عبادتها؛ إنما دعوهم إلى وحدانية الله تعالى وألوهيته، وجعل الطاعة والعبادة له دون ما عبدوها من الأصنام، وذلك في شهادة خلقتهم؛ وشهادة كل خلقة؛ وإن لطف وصغر؛ فلم يحتاجوا إلى أن يقيموا البراهين

والحجج على ما ادعوا ودعوهم إليه؛ لكنهم كانوا قومًا معاندين مكابرين لا يقبلون قولهم ولا يصدقونهم؛ تعنتًا منهم وتكبرًا، لم ينظروا في خلق اللَّه ليدركوا آثار وحدانيته وألوهيته؛ فكلفوا إقامة الحجج والآيات؛ لئلا يكون لهم مقال واحتجاج، وإن لم يكن لهم الاحتجاج. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي. . .) الآية. قوله - تعالى - ذلك يحتمل وجوهًا؛ لأنه قد سبق خصال ثلاث؛ ما يحتمل رجوع هذا الحرف إلى كل واحد من ذلك. أحدها: قوله: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) فيحتمل قوله ذلك: المن والفضل لمن خاف مقامي وخاف وعيد. وسبق أيضًا قوله: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ) أي: ذلك الهدى والسبل التي هدانا إليها؛ أي: ذلك الهدى والهداية لمن خاف مقامي وخاف وعيد. وسبق أيضًا: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ. . .) الآية أي: ذلك النصر والظفر بهم والتمكين في الأرض لمن خاف مقامي وخاف وعيد. ثم قوله: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: خاف مقامي في الدنيا والآخرة، وتأويله - واللَّه أعلم - أي: خاف سلطاني ونقمتي وعذابي في الدنيا والآخرة، أمَّا في الدنيا لما نزل بمكذبي رسله وأنبيائه، وخاف وعيده وعذابه في الآخرة حيث وعد أنه يحل بهم بالتكذيب وترك الإجابة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خاف مقامي في الآخرة؛ وهو كقوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) يخاف ذلك المقام، وخاف ما وعد من العذاب في النار. ثم قوله: (مَقَامِي) حيث أضاف إليه، ليس في الاشتباه بأقل من قوله: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)؛ وأقل من قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ)، وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ. . .) الآية، وأمثاله؛ فكيف اشتبه هذا على أهل التشبيه؛ ولم يشتبه قوله: (مَقَامِي)؛ حيث سألوا في ذلك؛ ولم يسألوا في هذا؛ وهذا إن لم يكن أكثر في الاشتباه؛ فليس بأقل، والأصل في هذا وأمثاله؛ من قوله: (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ)، (وَإِلَيْهِ مَآبِ)، و (ومَتَابِ)، ذكر هذا؛ وإن كان الخلائق جميعًا في الدارين جميعًا - يكون مصيرهم ومرجعهم إليه؛ لأنه - جل وعلا - لم يخلقهم للمقام في الدنيا والدوام فيها؛

(15)

إنما خلقهم للزوال عنها والفناء، والمقام في الآخرة والدوام فيها؛ لكن خلقهم في هذه الدنيا - ليمتحنهم ويبتلون فيها؛ ثم يصيرون إلى دار المقام، فالآخرة هي المقصودة في خلقهم في الدنيا؛ لا الدنيا؛ فإذا كان كذلك أضاف المصير إلى نفسه، لما هو المقصود في خلقهم؛ وإن كانوا في الدنيا والآخرة صائرين إليه، غير غائبين عنه طرفة عين؛ ولا فائتين، وباللَّه النجاة. ذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنباء الرسل الماضية وأتباعهم؛ وأنباء أعدائهم؛ وما عامل بعضهم بعضًا، وما نزل بالأعداء - بما عاملوا رسلهم - من العذاب والاستئصال وأنواع البلايا، وما أكرم رسله وأتباعهم وأولياءهم من النصر على أعدائهم؛ والظفر بهم، والتمكين في الأرض، وجعل ذلك كله كتابًا بالحكمة؛ يتلى ليعلم؛ أن كيف يعامل الأعداء والأولياء؛ وليرغب فيما استوجب الأولياء من الكرامات وليحذروا عن مثل صنيع الأعداء؛ وليعلموا أن كيف عامل اللَّه رسله وأولياءه، وكيف عامل الرسل ربهم، أضاف الرسل جميع ما نالوا من الخيرات والكرامات إلى اللَّه؛ كأن لا صنع لهم في ذلك؛ حيث قالوا: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، ذكر قوله: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ليعلم أن الخير ليس يكون بالجوهر؛ ولكن بفضل من اللَّه تعالى وبرحمته، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) وأمثاله، أضافوا ذلك إليه؛ كأنهم لا صنع لهم في ذلك. وذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ما أكرم أولياءه ورسله؛ من النصر والتمكين والإنزال في الديار، كأنهم استوجبوا ذلك بفعلٍ كان منهم؛ وهو قوله: (ذَلِكَ) أي: ذلك النصر والتمكين، وما ذكرنا من الوجوه (لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) ذكر أنهي استوجبوا ذلك، لا أن كان، (ذَلِكَ) من اللَّه بحق إفضاله وامتنانه؛ ليعلموا معاملة اللَّه رسله وأولياءه، ومعاملة الرسل والأولياء لسيدهم ومولاهم. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) يحتمل وجهين: أحدهما: الاستنصار؛ استنصروا اللَّه على أعدائهم؛ كقوله: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: يستنصرون.

(16)

والثاني: (وَاسْتَفْتَحُوا) أي: تحاكموا إلى اللَّه في النصر للأحق منهم؛ والأقرب إلى الحق؛ كقوله: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا. . .) الآية، وهو التحاكم إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ). هو ما ذكرنا: تحاكموا إلى اللَّه؛ فنصر أولياءه، وأهلك أعداءه، على ما ذكر أن أبا جهل قال: اللهم دينك القويم وأياديك الحسنة، أينا كان أَحبَّ إليك وأقرب إلى الحق - فانصره؛ فنصر المؤمنين وأهلك الأعداء. وقوله: (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي: تجبر على رسله وأوليائه، والعنيد: قيل: المعرض المجانب عن الحق والطاعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجبار: القاتل على الغضب والضارب على الغضب؛ وهو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ... (16) أي: من وراء عذاب الدنيا لهم عذاب جهنم. وقوله: (مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ): الوراء: قد يستعمل في أمام وخلف؛ أي: من أمام ما حل بهم جهنم، ويحتمل: وراء ما أصابهم؛ ما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ). أي: يسقى في جهنم صديدًا مكان ما يسقون في الدنيا؛ وهو الذي يسيل من القروح والجروح، جعل اللَّه للكافرين في الآخرة مكانًا بما كان لهم في الدنيا؛ لباسًا وشرابًا وطعامًا؛ ما كانت تكرهه أنفسهم، جعل مكان ما يسقون في الدنيا من الماء - في النار: الصديد والغسلين والحميم، ومكان الطعام في الدنيا - في النار: الزقوم والضريع، ومكان اللباس: القطران ونحوه، ومكان القرين والصديق في الدنيا: يجعل قرينه الشيطان، كقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)، إذ ذلك كله يمنعهم عن دين اللَّه؛ ويصدهم عن ذكره، ليكون جزاؤهم من نوع ما كان يمنعهم في الدنيا عن طاعته. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الصديد الذي يسقون: هو أن النار تجرحهم وتقرحهم؛ فيسيل - من ذلك - الصديدُ؛ فيسقون من ذلك.

(17)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا؛ ولكن يجعل شرابهم فيها صديدًا؛ كشراب أهل الجنة وطعامهم من غير أصل. وقوله: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ) ويحتمل: يسقى من ماء في ظنهم ماء؛ وهو في الحقيقة صديد. ويحتمل أن يكون في الحقيقة والظاهر صديدًا؛ لكن يشربون؛ رجاء أن يدفع عطشهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) قال أَبُو عَوْسَجَةَ: التجرع: ما يشربه مكرهًا عليه. (وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ). يقال: أسغته: أي: أدخلته في الحلق؛ يقال: أسغته فساغ، أي: دخل سهلًا من غير أن يؤذيه، وكذلك قيل في قوله: (سَائِغٌ شَرَابُهُ) أي: سهل في الحلق، وساغ في حلقه؛ إذا دخل دخولا سهلا لا يؤذيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ). قال قائلون: يأتيهم الغمّ والهم من كل مكان، وكذلك المتعارف في الخلق: إذا اشتد بهم الغم والهم والشدة، يقال: كأنك ميت؛ أو تموت غمًّا. وقال بعضهم: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ) أي: أسباب الموت؛ ما لو كان من قضائه الموت فيها - لماتوا؛ لشدة ما يحل بهم، ولكن قضاؤه؛ ألا يموتون فيها. قوله تعالى: (وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) موت حقيقة يستريح من العذاب.

(18)

وقوله: (مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: من كل ناحية من فوق؛ ومن تحت؛ ومن خلف، ومن قدام؛ كقوله: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)، وقال: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ)، أخبر أن النار تأتيهم وتأخذهم من كل جانب ومن كل جهة. ويحتمل (مِنْ كُلِّ مَكَانٍ): أي: ومن كل سبب من تلك الأسباب التي تأتيهم؛ ما لو كان قضاؤه الموت - لماتوا بكل سبب من تلك الأسباب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ليس من موضع من جسده ومن سائر جوارحه - إلا الموت يأتيه منها؛ من شدة ما يحل بهم؛ حتى يجدوا طعم الموت وكربه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ وَرَائِهِ) أي: ومن وراء ذلك العذاب - عذاب غليظ لا ينقطع ولا يفتر، وصفه بالغلظ والشدة؛ لدوامه والإياس عن انقطاعه. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ) هو - واللَّه أعلم -: على التقديم أوالتأخير؛ أي: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح. ثم تحتمل (أَعْمَالُهُمْ): الأعمال التي كانت لهم في حال إيمانهم، ثم كفروا، بما أحدثوا من الكفر؛ أبطل ذلك الأعمال الصالحة في الإيمان؛ وهو ما ذكر: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ). أو يكون محاسنهم التي كانت لهم في حال الكفر؛ طمعوا أن ينتفعوا بتلك المحاسن في الآخرة؛ فما انتفعوا بها؛ فصارت كالرماد الذي تذروه الريح الشديدة؛ لم ينتفع صاحب ذلك الرماد به بعد ما عملت به الريح ما عملت؛ فعلى ذلك: الأعمال الصالحة التي عملوها في حال كفرهم، أو أعمالهم الصالحة التي كانت لهم في حال الإيمان؛ ثم أحدثوا الكفر - لا ينتفعون بها. وقال في آية أخرى: (أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ)، فيشبه أن يكون هذا في أعمالهم السيئة في أنفسها فرأوها صالحة حسنة؛ كقوله: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا)، فشبه ما كان في نفسه سببًا بالسراب؛ لأنه لا شيء هنالك؛ إنما يرى

(19)

خيالا، فعلى ذلك: أعمالهم السيئة في أنفسها فرأوها حسنة صالحة، وما كان وما شبه بالرماد - فهي أعمالهم الصالحة في أنفسها؛ لكن الكفر أبطلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ). اليوم لا يكون عاصفًا؛ ولكن على الإضمار؛ كأنه قال: في يوم فيه ريح عاصف، كقوله: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)، النهار لا يبصر ولكن يُبصَر فيه أو يُبصَر به. والعاصف: قيل: هو القاصف الكاسر الذي يكسر الأشياء. أو يكون قوله: (اشْتَدَّتْ بِهِ)، والعاصف والقاصف - حرفان يؤديان جميعًا معنى واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ) كالرماد الذي ذكرنا أن صاحبه لا يقدر به بعدما عملت به الريح وذرته. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ). يحتمل: ذلك الكفر هو الضلال البعيد؛ لا نجاة فيه أبدًا. أو ذلك الكفر الذي أتوا به بعيد عن الحق واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ). (أَلَمْ تَرَ) حرف تنبيه عن عجيب بَلَغَه وعلم به غفل عنه، أو نقول: حرف تنبيه عن عجيب لم يبلغه بعد ولم يعلم به. على هذين الوجهين يشبه أن يكون واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ). قال عامة أهل التأويل: بالحق أي: للحق، وتأويل قولهم - واللَّه أعلم -: للحق: أي: للكائن لا محالة؛ وهي الآخرة؛ لأنه خلق العالم الأول للعالم الثاني؛ والمقصود في خلق هذا العالم هو العالم الثاني؛ فكان خلقهما للثاني لا للأول الأنه لو كان للأول،

(20)

دون الثاني؛ يحصل خلقهما للفناء، وذلك خارج عن الحكمة؛ وهو ما قال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ). وقال قائلون: للحق الذي وجب له عليهم بالامتحان والابتلاء، خلقهما للشهادة له على الممتحن. أو يقول: خلقهما بالحق: أي: بالحكمة. وقوله: (أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ). إن كان الخطاب به لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيصير كأنه قال: قد رأيت وعلمت أن الله خالق السماوات والأرض بالحق. وإن كان الخطاب به لغيره من أُولَئِكَ يقول: اعلموا أن اللَّه خلق السماوات والأرض بالحق؛ لم يخلقهما عبثًا باطلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ). قال بعض أهل التأويل: هذه المخاطبة يخاطب بها أهل مكة؛ يذكر قدرته وسلطانه على بعثهم بعد الموت والهلاك؛ يقدر على إذهابكم وإهلاككم، ويقدر أيضًا أن يأتي بغيركم، فعلى ذلك: يقدر على بعثكم بعد مماتكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) قال أهل التأويل: أي: عليه هين يسير، ولكن عندنا - واللَّه أعلم -: (وَمَا ذَلِكَ): أي: ذهابكم وفناؤكم عليه ليس بشديد عليه ولا شاقّ؛ ليس كملوك الأرض إذا أذهب، شيء من مملكتهم يشتد ذلك عليهم، فأما اللَّه سبحانه وتعالى لا يزيد الخلق في سلطانه ولا في ملكه؛ ولا ينقص فناؤهم وذهابهم منه شيئًا؛ كقوله: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) أي: شديد عليهم وهو ما وصفهم - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، ذكر مكان العزة الشدة، ومكان الذلة - هاهنا - الرحمة. أو أن يكون قوله: (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) أي: ما بعثكم وإحياؤكم بعد الممات على اللَّه بشاقٍّ ولا شديد. * * * قوله تعالى: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ

(21)

وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا ... (21) قال مقاتل: خرجوا إلى اللَّه من قبورهم جميعًا، وقال: (جَمِيعًا) لأنه لا يغادر أحد إلا بعث. ويحتمل وجوهًا أخر سوى ذلك: وهو أن قوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ): أي: لأمر اللَّه؛ أو لوعده الذي وعد أنهم يبعثون. أو يريد الحكم، اللَّه يحكم في بعثهم. (وَبَرَزُوا): أي: ظهروا به ووجدوا؛ فيكونون به موجودين ظاهرين بعد أن كانوا فائتين ذاهبين غائبين؛ أي: عندهم في الدنيا أنهم كانوا فائتين غائبين عن اللَّه؛ فيومئذ يعلمون أنه كان لا يخفى عليه شيء من أفعالهم وأحوالهم؛ وهو ما ذكرنا في قوله: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ)، وقوله (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)، وأمثاله، أي: يعلمهم مجاهدين صابرين كما علمهم غير مجاهدين وغير صابرين؛ وكقوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَ) يعلمهم شهودًا كما علمهم غيبًا. فعلى ذلك قوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) أي: يكونون له موجودين ظاهرين واللَّه أعلم. وإضافة البروز إليه في الآخرة وإن كان بروزهم له في الدارين جميعًا، وكذلك المصير، إليه والمرجع إليه والمآب ونحوه؛ فهو - واللَّه أعلم - لما لا ينازع أحد في البروز في ذلك اليوم؛ وقد ينازعونه في الدنيا. أو خُصّ ذلك البروز بالإضافة إليه؛ لما هو المقصود من إنشائه إياهم وخلقهم؛ ليس المقصود في خلقهم وإنشائهم الأول؛ ولكن الآخر؛ فخص ذلك بالإضافة إليه. واللَّه أعلم.

وقوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) أي: يومئذ يعلمون أنه كان لا يخفى عليه شيء؛ وكأنهم لم يكونوا يعلمون؛ قبل ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ). قال قائلون: قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا): أي: دافعون عنا من عذاب اللَّه؛ إذ كنا لكم أتباعًا وأنتم متبوعين؛ فادفعوا عنا ذلك. لكن هذا بعيد؛ أن يطلبوا منهم دفع العذاب عنهم وقد رأوهم في العذاب؛ فلو قدروا على دفع ذلك عنهم؛ لدفعوا أولا عن أنفسهم؛ إلا أن يكون فيهم حيرة وعمى؛ كما كان في الدنيا، فللحيرة ما قالوا؛ كقوله: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى. . .). والأشبه أنهم يطلبون عنهم رفع بعض العذاب عنهم، وتحمل بعض لأن مؤنة الأتباع في العرف يتحملها المتبوع؛ فيطلبون منهم رفع شيء وتحمل بعض ما حل بهم؛ وهو ما ذكر في آية أخرى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ)، طلبوا منهم تحمل بعض ما حلَّ بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ). قال بعض أهل العلم: إن الكفرة جميعًا - أتباعهم ومتبوعهم - أعلم بهداية اللَّه من المعتزلة؛ لأنهم قالوا: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) علموا أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لو هداهم لاهتدوا؛ ويملك هدايتهم، والمعتزلة يقولون: قد هدى اللَّه جميع الكفرة وجميع الخلائق؛ فلم يهتدوا، وأنه لو أراد أدت يهدي أحدا لم يمكلك، والكفرة - حيث قالوا: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) رأوا وعلموا أن اللَّه لو هداهم لاهتدوا؛ لأنهم لو لم يهتدوا بهدايته إذا هداهم لم يعتذروا إلى أتباعهم (لَهَدَيْنَاكُمْ)، وكذلك، قال إبليس: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي)، أضاف الإغواء إليه؛ وهم يقولون: لا يُغوي اللَّه أحدًا، فإبليس أعلم بهذا من المعتزلة. وقولهم. (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ) أي: لو رزقنا الله الهدى وأكرمنا به لهديناكم؛ ولكن لم يرزقنا ذلك ولم يكرمنا. وقال أبو بكر الأصم: تأويل قولهم: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ): لو كان الذي كنا عليه

(22)

هدى لهديناكم؛ فهذا صرف ظاهر الآية عن وجهها بلا دليل؛ فلو جاز له هذا جاز لغيره صرف جميع الآيات عن ظاهرها بلا دليل مع أن الأتباع؛ قد علموا أن الذي كانوا عليه لم يكن هدى؛ فلا معنى لهذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ). قال أهل التأويل: إنهم قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نجزع لعل اللَّه يرحمنا؛ فجزعوا حينا؛ فلم يرحموا، ثم قالوا: تعالوا نصبر لعل اللَّه يرحمنا؛ فلم يرحموا؛ فعند ذلك قالوا: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ) لكن لا يحتمل أن يقولوا ذلك بعد الامتحان والاختبار، لكن كأنهم قالوا ذلك بالذي سمعوا؛ وهو قوله: (فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، ولما سمعوا ذلك عند ذلك قالوا: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ) أي: مَنْجى ومَخْلَص، لا يحتمل أن يقولوا: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ) في أول أحوالهم وأمورهم، ولكن يحتمل ما ذكر أهل التأويل أنهم يقولون ذلك عند الإياس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) قَالَ بَعْضُهُمْ: (قُضِيَ الْأَمْرُ): أي: أُدخل أهل الجنةِ الجنةَ؛ وأهل النارِ النارَ؛ يقوم إبليس خطيبًا في النار؛ فخطب كما ذكر. وقال قائلون: (قُضِيَ الْأَمْرُ) أي: مُيِّز وبُيِّنَ أهل الجنة من أهل النار؛ قبل أن يدخل أهل النار النار؛ وأهل الجنة الجنة - قام خطيبا فخطب لأتباعه كما ذكر. ويحتمل قوله: (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أي: لما فرغ من الحساب ومن أمرهم؛ عند ذلك يخطب؛ ما ذكر؛ وهو كقوله: (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي: لما فرغ من السماع؛ فعلى ذلك هذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أي: لما نزل بهم العذاب. ويشبه أن يكون قوله: (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) هو أن اللَّه كان وعد أن يقوم إبليس خطيبًا لهم؛ فقضى الأمر؛ أي: أنجز ما وعد؛ أنه يخطب أو أن يكون لأهل الكفر لجاجات ومنازعات فيما بينهم يوم القيامة؛ كقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)؛ وكقوله: (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ. . .) الآية،

ْيكذبون في الآخرة، ويكون لهم لجاجة على ما كان منهم في الدنيا، أو يحتجون فيقولون: إن إبليس هو كان غلبنا وقهرنا؛ لأنه كان يرانا ونحن لم نكن نراه؛ فالمغلوب المقهور غير مأخوذ بما كان منه في حكمك، يحتجون بمثل هذه الخرافات واللجاجات، ويقولون: هو الذي أضلنا، فيقوم عند ذلك إبليس خطيبًا بينهم وقال: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ) حتى أقهركم وأغلبكم إلا الدعاء؛ فاستجبتم لي طائعين؛ غير مقهورين ولا مضطرين واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ). يشبه أن يكون وعده ما وعد على ألسن الرسل: أن البعث، والجنة، والنار، والحساب، والعذاب - كائن لا محالة. أو جميع ما أوعد من مواعيده - فذلك كله حق أي: كائن لا محالة. (وَوَعَدْتُكُمْ). يحتمل ما ذكر؛ حيث قال: (لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ)، وأمثاله من عِدَاته؛ كانت كلها أماني وغرورًا وكذبًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ) يحتمل السلطان وجهين: أحدهما: أي ما كان لي عليكم من ملك وقهر وغلبة أقهركم وأغلب عليكم إلا الدعاء؛ فاستجبتم لي طوعًا. ويحتمل قوله: (مِنْ سُلْطَانٍ): من حجة وبرهان؛ أي: لم يكن لي حجة وبرهان على ما دعوتكم إليه؛ إنما كان لي دعاء ووساوس، وكان مع الرسل حجج وبراهين، فتركتم إجابتهم؛ واستجبتم لي بلا حجة وبرهان؛ أي: لم أقهركم، ولم أغلب عليكم؛ لكن هذا لا يصح؛ لأنه لو كان له عليهم سلطان القهر والغلبة لكانوا معذورين غير معذبين؛ لأن المقهور والمغلوب مضطر؛ فالمضطر معذور؛ ولكن السلطان هو الحجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ). ليس مراده - لعنه اللَّه - أنه لا يلام؛ ولكن مراده: أن ارجعوا إلى لائمة أنفسكم واشتغلوا بها؛ فإن ذلك كان منكم لم يكن مني إلا الدعاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ). قيل: ما أنا بناصركم وما أنتم بناصري، وقيل: ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمغيثين

(23)

لي، وقيل: ما أنا بمانعكم وما أنتم بمانعي، ما نزل بي هذا كله واحد. وقوله: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي: ما أنا بمالك إغاثتكم وإنقاذكم، وما أنتم بمالكي إغاثتي، وإلا لو كان لهم ملك ذلك لفعلوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ). أي: كفرت بما أشركتموني في عبادة اللَّه وطاعته؛ أي: كنت بذلك كافرًا. ويحتمل: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أي: كفرت بما أشركتموني في عبادة اللَّه وطاعته، أي: كنت بذلك كافرًا، ويحتمل (إِنِّي كَفَرْتُ)، أي: تبرأت اليوم؛ مما أشركتموني مع اللَّه في الطاعة والعبادة من قبل. أحد التأويلين يرجع إلى أنه يتبرأ في ذلك اليوم؛ وقتما قام خطيبًا. والثاني: إني كنت تبرأت من ذلك في الدنيا، وقتما أشركوه (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أي: أذن لهم بالدخول في الجنة. قوله: (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ). الإذن هاهنا كأنه الرحمة؛ أي: خالدين فيها برحمة ربهم. (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ). يحتمل السلام الثناء، أي: يثنون على ربهم؛ كقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: يسلم بعضهم على بعض، ويحْيي بعضهم بعضًا بالسلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السلام هو اسم كل خير ويمن وبركة؛ كما قال: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا. . .) الآية، واللَّه أعلم.

(24)

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ). قد ذكرنا أن كلمة (أَلَمْ تَرَ) حرف تنبيه عن عجيب كان بلغهُ؛ فغفل عنه، أو تنبيه عن عجيب لم يبلغه. وقال أبو بكر الأصم: هي كلمة يفتتح بها العرب عند الحاجة؛ يقول الرجل لآخر: ألم تر إلى ما فعل فلان؛ ونحوه. هذا يحتمل في غيره من المواضع وأما في هذا فإنه غير محتمل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) قيل: بين اللَّه مثلا وأظهر. (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ). قال أبو بكر الكيسانى: (كَلِمَةً طَيِّبَةً): هو هذا القرآن، (كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ): هي الكتب التي أحدثها الناس، شبه القرآن بالشجرة الطيبة؛ وهي النخلة؛ على ما ذكر؛ إن ثبت، أو كل شجرة مثمرة. وشبه الكتب التي أحدثها الناس بالشجرة الخبيثة؛ وهي التي لا تثمر. وقال: إنما شبه القرآن بالشجرة الطيبة؛ لأن الشجرة الطيبة هي باقية إلى آخر الدهر؛ ينتفع بها الناس بجميع أنواع المنافع، لا يقطعونها؛ فهي تدوم وتبقى دهرًا، فعلى ذلك القرآن ينتفع به الناس وهو دائم أبدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ). أصلها ثابت لها قرار، فعلى ذلك: القرآن هو ثابت بالحجج والبراهين؛ والكتب التي أحدثها أُولَئِكَ هي باطلة فاسدة؛ لا حجة معها ولا برهان؛ كالشجرة الخبيثة التي هي غير مثمرة؛ لا بقاء لها ولا قرار ولا ثبات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكلمة الطيبة: هي الإيمان والتوحيد؛ شبهها بالشجرة الطيبة؛ وهي التي تثمر وتنمو وتزكو هي على ما وصفها - عَزَّ وَجَلَّ - في قوله: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)، فعلى ذلك الإيمان والتوحيد لا يزال يثمر لأهله الخيرات والأعمال

الصالحات؛ كالشجرة التي وصفها أنها تؤتي أهلها أكلها في كل حين وكل وقت، أصلها ثابت بالحجج والبراهين، وفرعها في السماء، في كل وقت يرتفع ويصعد به العمل إلى السماء. والكلمة الخبيثة: هي الكفر؛ لأنه لا منفعة لأهلها فيها، إذ لا عاقبة له ولا حجة معها ولا برهان، إنما شيء أخذوه عن شهوة وأمانِيَّ، فكان كالشجرة الخبيثة التي لا ثمرة لها، ولا منفعة لأحد فيها، فهي لا تبقى ولا تدوم. فذلك قوله: (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ). ويشبه أن يكون ضرب المثل لغير هذا المعنى؛ وهو أنه ذكر جواهر طيبة وجواهر خبيثة؛ مما يقع عليها الحواس ويقع عليها البصر؛ ليكون كل جوهر من هذه الجواهر التي يقع عليها الحواس؛ ويقع عليها البصر - من خبيث أو طيب - دليلا وشاهدًا على ما غاب عن الخلق؛ ولا يقع عليها الحواس. وهكذا جعل اللَّه تعالى هذه المحسوسات والأشياء الظاهرة - دليلا وشاهدًا لما غاب عنهم؛ ولا يقع عليه الحس، تدرك بالعقول التي تركب فيهم؛ ليرغب الطيب؛ مما يقع عليه الحس والبصر؛ على الموعود الغائب، ويحذر الخبيث المحسوس عما غاب وأوعد، وكذلك هذه الآلام والأمراض والشدائد التي جعل في هذه الدنيا؛ لتزجرهم عن الأفعال التي بها يستوجبون مثلها في الآخرة، وكذلك النعم التي في الدنيا واللذات، جعلها لتدلهم على النعم الدائمة. على هذا يجوز أن يخرج لا أنه أراد بالشجرة الطيبة الشجرة نفسها أو بالشجرة الخبيثة الشجرة نفسها ولكن ما وصفنا. واللَّه أعلم بذلك. وقال قائلون: ضرب اللَّه مثل الشجرة الطيبة مثلا للمؤمن؛ هو في الأرض وعمله يصعد إلى السماء كل يوم؛ فكما تؤتي الشجرة أكلها كل حين كذلك المؤمن يعمل لله في ساعات الليل والنهار.

(25)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّ حِينٍ ... (25) قال قائلون: كل عام؛ لأنها تثمر في كل عام مرة. وقال قائلون: ستة أشهر من وقت طلوعها إلى وقت إدراكها. وقال قائلون: كل عشية وغدوة؛ كقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ). وقال قائلون: شهرين؛ وأمثاله. ويشبه أن يكون ما ذكرنا: أنه ليس في وقت دون وقت، ولكن الأوقات كلها في كل وقت وكل ساعة. فإن قال لنا ملحد: إن الكلمة التي ضرب اللَّه مثلها بالشجرة الطيبة - هي كلمتنا، ونحن المراد بذلك. والكلمة الخبيثة التي ضرب اللَّه مثلها بالشجرة الخبيثة - هي كلمتكم؛ وأنتم المراد بها لا نحن. قيل: قد سبق لهذا المثل أمثال ودلائل على أن الكلمة الطيبة هي التي لها عاقبة وآخرة، وكل أمر له عاقبة والنظر في آخره - فهو الحق، والذي أنتم عليه لا عاقبة له ولا آخرة، وفي الحكمة: إن كل أمر لا عاقبة له - فهو باطل؛ والكفر لا عاقبة له. والثاني: أن الإيمان والتوحيد له الحجج والدلائل، والكفر مما لا حجة له ولا دلائل؛ إنما هو مأخوذ بالأماني والشهوة: من تسويل الشيطان وتزيينه؛ لذلك كان ما ذكرنا. وتحتمل الكلمة الطيبة -أيضًا-: أن تكون الوحي الذي أوحى اللَّه إلى رسوله، والكلمة الخبيثة: ما أوحى الشيطان إليهم؛ كقوله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ. . .) الآية.

(26)

فوحي اللَّه: هو ثابت دائم ينتفع به أهله في الدنيا والعاقبة، ووحي الشيطان: هو باطل مضمحل لا عاقبة له؛ ولا ينتفع به أهله. واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ... (26) قَالَ بَعْضُهُمْ: استؤصلت، وقيل: انتزعت. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: اقتلعت من أصلها؛ يقال: جثثت الشجرة أجثها جثًّا: إذا قلعتها من أصلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ). هو ما ذكرنا. وقال بعض أهل التأويل: شبه كلمة الشرك بحنظلةٍ قطعت؛ فلا أصل لها في الأرض ولا فرع في السماء؛ أي: لا يصعد له عمل، وشبه كلمة الإيمان؛ في نفعها وفضلها وثباتها وقرارها في الأرض؛ بما ذكر من الشجرة. واللَّه أعلم. ثم من الناس من احتج بهذا المثل في خلق الإيمان والكفر؛ فقال: لأنه ضرب مثله بما هو خلق؛ وهو الشجرة؛ فعلى ذلك الإيمان. ولكن عندنا لا بهذا يجب أن يستدل على خلقه، ولكن لما ثبت أن منشئهما واحد لأنه لو كان منشئهما مختلفًا لكان لا يضرب مثل هذا بهذا ولا هذا بهذا؛ فإذا ضرب دل أن منشئهما واحد؛ فإذا ثبت ذلك دل على ما وصفنا. ومن الناس من استدل بهذا أنه يزداد وينقص؛ حيث شبهه بالشجرة؛ وهي تزداد وتنقص، ونحن نقول: ليس فيه دلالة ما ذكروا؛ لأن الشجرة في نفسها ليست بذي حدّ، والإيمان ذو حدّ؛ فما يزداد إنما هو في حق التزيين والتحسين. وأمَّا الإيمان نفسه: فإنه لا يزداد؛ كالشجرة إذا تورقت وخرجت ثمارها توصف بالزينة والحسن، فأما نفس الشجرة: فلا توصف بالزيادة؛ فعلى ذلك الإيمان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ). يحتمل: يبين اللَّه الأمثال التي يقع عليها الحس، ويقع عليها البصر، والأشياء الظاهرة؛ لتدلهم على ما استتر وغاب عنهم، يدركون بالعقول ما استتر وخفي بالظاهر والمحسوس.

(27)

(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لعلهم يتعظون. وقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً) الكلمة الطيبة: تحتمل التوحيد وفروعها: هي الخوف، والخشوع، والخضوع، والرغبة والرهبة. وأكلها: هو الأعمال الصالحة والخيرات تكون منه. والكلمة الخبيثة: هي الشرك. وفروعها: ما يكون منه في الشرك؛ من القساوة، والتمرد، والعناد. وأكلها: هو الأعمال التي تكون منه في الشرك. أو أن يكون الكلمة الطيبة: هي الأعمال. وفروعها: هي الشرائع والأحكام التي تعمل. وأكلها: هو ما يثاب عليه في الدنيا والآخرة أبدًا. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) ذكر مرة بالتثبيت ومرة بذكر الزيادة؛ بقوله: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ)، ومرة بذكر الابتداء والتجديد؛ بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ). وقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، فالتجديد والابتداء في حادث الوقت؛ لأن تلك الأفعال تنقضي وتذهب ولا تبقى، وأما الزيادة على ما كان يضم شيئًا إلى ما كان، والثبات على ما كان فكله واحد في الحقيقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ). أضاف الإضلال مرة إلى نفسه؛ ومرة إلى الشيطان، ولا شك أن ما أضيف إلى الشيطان إنما أضيف على الذم، فإذا كان ما ذكر؛ فتكون الجهة التي أضيف إلى اللَّه - غير الجهة التي أضيف إلى الشيطان، الجهة التي أضيف إلى اللَّه: هو أن خلق فعل الضلال من الكافر، وما أضيف إلى الشيطان: هو على التزيين والتسويل؛ لتصح الإضافتان. ولو كان على التسمية - على ما يقوله المعتزلة: إذ سماه ضالا - لكان كل من سمى آخر ضالا كافرًا جاز أن يسمى مضلا، فإذا لم يسم - بتسميته ضالا أو كافرًا - مضلا دل أنه إنما سمى اللَّه نفسه مضلا؛ لتحقيق الفعل له فيه؛ وهو ما ذكرنا: أن خلق فعل الضلال منه. والمعتزلة يقولون: إن اللَّه هدى الخلق جميعًا؛ لكنهم لم يهتدوا وضلوا من غير أن يكون اللَّه أضلهم. فهذا صرف ظاهر الآية إلى غيره بلا دليل.

(28)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ). وعلى قول المعتزلة: لا يقدر أن يفعل ما يشاء؛ لأنهم يقولون: شاء إيمان جميع البشر؛ ولكنهم لم يؤمنوا؛ وكذلك قال: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، وهم يقولون: أراد إيمانهم؛ لكنه لم يفعل ما أراد؛ ولا يملك، وقد أخبر أنه: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) و (مَا يَشَآءُ) وهم يقولون: لم يملك أن يفعل ما شاء وأراد، بل العباد يقولون ما شاءوا غير ما شاء هو، فتأويلهم خلاف لظاهر القرآن. واللَّه أعلم. وقوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) يشبه أن يكون هذا صلة قوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً) على تأويل من يقول: إن الكلمة الطيبة هي القرآن، يكون القول الثابت هو القرآن. يقول - واللَّه أعلم - يثبت اللَّه الذين آمنوا في الحياة الدنيا؛ حيث تلقوه بالإجابة والقبول والعمل به، وفي الآخرة؛ أي: بالآخرة والبعث؛ يقرون به، (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ)؛ حيث تركوا الإجابة له، وتلقوه بالرد، والمكابرة، والعناد. ومن يقول: الكلمة الطيبة: التوحيد والإيمان - يكون القول الثابت: هو الإيمان؛ يثبتهم في الحياة الدنيا باختيارهم؛ وفي الآخرة، قيل: في قبورهم؛ يثبتهم لإجابة منكر ونكير، ويمكن لهم ذلك، ويضل اللَّه الظالمين الذين تركوا الإجابة له في الحياة الدنيا وفي القبور؛ حيث تركوا الإجابة في الدنيا. ويحتمل أن يكون قوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)؛ هو ما ذكر، (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، ثبت من أجاب اللَّه إلى ما دعا في الدنيا، وفي الآخرة يهديه الطريق الذي به يوصل إلى دار السلام، والكافر حيث ترك إجابته إلى ما دعاه، ويضله في الآخرة طريق دار السلام؛ بترك إجابته في الدنيا. واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) في هداية من اختار الإجابة والاهتداء، وإضلال من اختار ترك الإجابة والغواية. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا).

اختلف في نزوله: قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه السورة، كلها نزلت بمكة إلا هذه الآية فإنها نزلت بالمدينة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت بمكة كلها. فمن يمّول: نزلت بالمدينة - يقول: قوله: (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ) هو بَدْر؛ أي: حملوهم إلى بدر حتى قتلوا؛ لأنه لم يكن بمكة بدر؛ إنما كان بالمدينة. ومن يقول: نزلت بمكة - يقول: (دَارَ الْبَوَارِ): هي جهنم؛ على ما فسَّره ظاهر الكتاب، وهو الأشبه بظاهر الآية؛ لأنه بيِّن تلك الدار؛ فقال: (جَهَنَّمَ). وفي الآية دلالة أن الآية كانت في عظمائهم وكبرائهم؛ حيث قال: (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ. . .) الآية. ثم اختُلف في النعمة؛ التي ذكر أنهم بدلوها كفرًا؛ فهي تحتمل وجوهًا: أحدها: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد أنعم عليهم في هذه الدنيا؛ ووسعها عليهم؛ فحرموا تلك النعم على أنفسهم؛ فجعلوها للأصنام التي عبدوها وسيبوها؛ ولم ينتفعوا بها، من نحو البَحِيرة التي ذكر، والسائبة، والوَصِيلة، والحامي، وما جعلوا للأصنام هو ما ذكر (وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا)، فذلك تبديل النعمة كفرًا؛ حيث حرموا ما أنعم اللَّه عليهم وأحل لهم. والثاني: تلك النعمة مُحَمَّد أو القرآن أو الإسلام وهو نعمة، كذبوهم أوكفروهم. أو أن يكونوا بدلوا الشكر الذي عليهم - بما أنعم عليهم كفرًا، جعلوها سببًا للكفر؛ فلم يشكروه بما أنعم عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا) حقيقته يخرج على وجهين: أحدهما: بدلوا وصرفوا ما أنعم اللَّه عليهم؛ وهو مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن أنفسهم؛ حتى أخذ منهم؛ بدلوا به كفرًا. والثاني: بدلوا به كفرًا بعدما سألوا ربهم (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ. . .) الآية؛ فلم يشكروا ما أنعم عليهم، وبدلوا الشكر كفرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ).

(29)

أي: أنزلوا، دل هذا أن الآية نزلت في الرؤساء من الكفرة، والأئمة منهم؛ حيث أخبر أنهم أحلوا قومهم دار البوار. ذكر (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) على الماضي؛ لأنه قد وجد منهم الجناية بالإحلال في دار البوار، وذكر في دخولهم جهنم على الاستئناف؛ بقوله: (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) لما لم يوجد بعد سيوجد، ويجوز أن يستدل بهذا لأصحابنا لمسألة: وهي أن العبد إذا حفر بئرًا ثم أعتق؛ فوقع في البئر إنسان: ينظر إلى قيمة العبد يوم حفر؛ لأن الحفر منه جناية، وإلى الواقع فيه يوم الوقوع لا يوم الحفر؛ لأنه لم يوجد بعد يوم الحفر جناية. أو أن يقال: أحلوا أرواحهم دار البوار؛ فتدخل أجسادهم يومئذ، لم تدخل بعد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ... (30) ثم فسر أنهم لم أحلوا قومهم دار البوار؟ فقال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا): أعدالا وأمثالا، (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ). يحتمل قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) في العبادة؛ يعبدون كما يعبد اللَّه، أو في التسمية؛ يسمونها آلهة؛ كما يسمى اللَّه، جعلوا له أندادًا في هذين الوجهين، يذكر سفههم؛ حيث جعلوا ما لا يسمع، ولا يبصر، ولا ينفع، ولا يدفع، ولا يضر أمثالا وأعدالا، لله؛ على علم منهم أن اللَّه هو الذي خلقهم، ورزقهم، وينعم عليهم، وهو الذي يدفع عنهم كل بلاء وشدة. وجائز أن يكون قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) هو تفسير ما ذكر؛ من تبديل النعمة كفرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَمَتَّعُوا) بهذه النعم التي ذكر أنهم بذلوها كفرًا. (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) هذا في قوم ماتوا على الكفر، أو يقول: قل تمتعوا في الدنيا أو تمتعوا بالكفر فإن مصيركم إلى النار، هذا في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا وفيه دلالة إثبات الرسالة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: البوار: الهلاك والفناء، يقال: بار الرجل يبور بورًا؛ فهو بائر، وقوم بور أي: هالكون. ويقال: بارت السوق، وبارت السلعة: إذا كسدت ويقال: بارت المرأة تبور بوارًا؛ فهي بائرة: إذا كبرت. وفي حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " نعوذ باللَّه من بوار الأيِّم "؛ قيل: يعني من كسادها. واللَّه أعلم.

(31)

قوله تعالى: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ). يحتمل إقامة الصلاة، إقامة الإيمان بها؛ كقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)، هو إقامة الإيمان به، إذ لا يحتمل الحبس إلى أن يقيموا إقامة الفعل والوفاء؛ إذ في ذلك حبسهم أبدًا. ويحتمل إقامة الوفاء بها والفعل؛ لأنه إنما خاطب المؤمنين على إقامتها، وقد سبق منهم ما ذكرنا من الإيمان بها. كيف يحتمل الأمر بإقامتها إقامة الإيمان به، وقد سبق منهم ما ذكرنا من الإيمان بها، قيل: هذا جائز يأمرهم بإقامة الإيمان بها في حادث الوقت؛ إذ للإيمان حكم التجدد في كل وقت؛ وهو كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ)، أي: آمنوا في حادث الوقت؛ فعلى ذلك هذا يحتمل الأمر بإقامتها - إقامة الإيمان بها. ويحتمل ما ذكر من إقامة الصلاة في الآية؛ والإنفاق - هي الصلاة المعروفة المعهودة، والزكاة المعروفة المفروضة؛ والإدامة لهما واللزوم بهما، ويحتمل القبول والوفاء بهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً). قال الحسن: الأمر بالإنفاق مما رزقناهم الزكوات المفروضات؛ ألا ترى أنه ذكر الوعيد في آخره وقال: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ) ولا يحتمل الوعيد في صدقات التطوع؛ وهو ما ذكر أيضًا في آية أخرى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)، ولا يحتمل طلب الرجوع والتأخير إلى أجل في النوافل؛ دل أنه أراد به الزكوات المفروضات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا): هي التطوع، والعلانية: الفريضة؛ لأن الفريضة لا بد من أن تظهر وتعلن، وليس في أدائها رياء واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ).

(32)

(لَا بَيْعٌ فِيهِ): أي: يوم لا يقدر أحد أن يبيع نفسه من ربه؛ وفي الدنيا يقدر أن يبيع نفسه من ربه؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)، وقوله: (إنَّ اللَّهَ اشتَرَى)، وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) لا يقدر أحد بيع نفسه من ربه، ويحتمل نفسه. قوله: (لَا بَيْعٌ فِيهِ): أي: لا ينفعه بيع نفسه منه في ذلك اليوم؛ وإن باع؛ كقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) وقوله: (فَلَمَّا رَأَوا بَأسَنَا. . .) الآية، فعلى ذلك الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا خِلَالٌ): هو مصدر خاللت؛ وهو من الخلة والصداقة. ثم هو يحتمل وجهين: أحدهما: ألا تنفعهم الخلة التي كانت بينهم في الدنيا؛ لأن كل خلة كانت في الدنيا مما ليست لله فهي تصير عداوة في الآخرة؛ كقوله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ. . .) الآية. أخبر أن الأخلاء؛ الذين كانوا يخالون في الدنيا؛ للدنيا - فهم الأعداء إلا الخلة التي كانت لله؛ فهي تنفع أهلها؛ وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) وأمثاله، يخبر أن الخلة التي كانت بينهم في الدنيا؛ لا لله؛ فهي تصير عداوة في الآخرة؛ حتى يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضا. والثاني: أن يكون لهم شفعاء وأخلاء؛ ولكن لا يشفعون؛ كقوله: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)، أو يشفع لهم لكن لا تقبل؛ كقوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ). * * * (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) إلى آخر ما ذكر. فيه دلالة أن تدبير اللَّه محيط متسق بجميع ما في السماوات والأرض، وعلمه محيط بجميع الخلائق؛ حيث ذكر أنه:، (وَأَنزَلَ مِنَ

(34)

السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) يعني البشر، جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض؛ مع بعد ما بينهما؛ دل أنه عن تدبير، فعل هذا وعلم، وأنه تدبير واحد؛ عليم؛ قدير. ثم ما ذكر: من تسخير السماوات والأرض؛ مع شدة السماء وصلابتها، وغلظ الأرض وكثافتها، وتسخير البحر؛ مع أهواله وأمواجه، وتسخير الأنهار الجارية، وتسخير الشمس، والقمر، والليل، والنهار لهذا البشر. في ذلك كله وجهان: أحدهما: يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم؛ من المنافع التي جعل لهم؛ في تسخير هذه الأشياء التي ذكر لهم؛ على جهل هذه الأشياء أنهن مسخرات لغيرهن؛ يستأدي بذلك شكرها. والثاني: يذكر سلطانه وقدرته؛ حيث سخر هذه الأشياء؛ مع شدتها، وصلابتها، وغلظها، وأهوالها. ومن قدر على تسخير ما ذكر - قادر على البعث والإحياء بعد الموت. ويحتمل ما ذكر؛ من تسخير الأشياء التي ذكر: أنه أنشأ هذه الأشياء مسخرة مذللة لنا، والثاني: سخر لنا؛ أي: علَّمنا من الأسباب والحيل التي يتهيّأ لنا الانتفاع بها والتسخير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ... (34) فيه لغتان وتأويلان قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلٍّ)؛ على التنوين؛ (مَا سَأَلْتُمُوهُ) على الجحد؛ أي: آتاكم من غير أن سألتم الأشياء التي ذكر أنه سخرها لنا؛ أي: آتاكم من غير سؤال ولا طلبة. والثاني: وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه؛ لأنه أعطانا أشياء قبل أن نعلم أنه يجب أن نساله؛ حيث خلق هذه الأشياء التي ذكر من قبل أن يخلقنا. وقال الحسن: (مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ)؛ قال: ما لم تسألوه؛ وهو ما ذكرناه؛ فإن قيل: إنا نسال أشياء لم نعطها، فما معنى الآية؟ قيل بوجوه: أحدها: ذكر حرف التبعيض؛ وهو ما قال: (مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ). والثاني: وآتاكم علم منافع ما سألتموه قبل أن تسألوا؛ وجهه علم الانتفاع به. والثالث: وآتاكم من كل ما يحق السؤال ويليق به.

على هذه الوجوه تخرج الآية. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تحصوها؛ أي: لا تشكروها؛ أي: لا تقدروا شكرها. وقال بعضهم: أي: لا تقدروا إحصاءها وعدها، وهكذا إن أقل الناس نعمة لو تكلف إحصاء ما أعطاه ما قدر عليه؛ من حسن الجوهر والصورة، واستقامة التركيب والبنية، وسلامة الجوارح، وغير ذلك مما لا سبيل له إلى ذكرها وإحصائها؛ إلا بعد طول التفكر والنظر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ): لا تحيطوا بكنهها ونهايتها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). الظلوم: أي: ظلم نفسه؛ حيث صرفها إلى غير الجهة التي جعلت وأمر، وأدخلها في المهالك، وألقاها في التهلكة. كفار لنعمه؛ حيث صرف شكرها إلى غير الذي جعلها له. واللَّه أعلم. واستدل بعض المعتزلة بقوله: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ) أن صاحب الكبيرة يخلد في النار؛ لأنه أوعد بترك الصلاة والزكاة التخليد أبدًا، وترك الصلاة والزكاة من غير عذر - من الكبائر، دل أنه ما ذكرناه. فنقول نحن - وباللَّه التوفيق -: إن الآية تحتمل الأمر بإقامة الصلاة؛ وما ذكر من الزكاة والصدقة إقامة الإيمان بها؛ على ما ذكرنا من تأويل بعض المتأولين، فإن كان على هذا على إقامة الإيمان بها - فمن ترك ذلك فهو - يخلد أبدًا لا شك فيه، أو يكون من استحل تركها؛ فهو بالاستحلال يكفر؛ فهو يخلد، أو يترك لعذر؛ فهو لا يخلد على اتفاق القول. فإذا كان ما ذكرنا محتملا دل أن الآية مخصوصة. ثم معرفة تخليد صاحب الكبيرة إنما هي بالدلائل سوى هذا، إذ ليس في ظاهر الآية دلالة التخليد؛ لما ذكرنا من احتمال الخصوص، دل أنه إنما يطلب الدليل من وجه آخر.

(35)

قَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَلَا خِلَالٌ) ومصدر خاللت فلانًا خلالا ومخالة، والاسم الخلة والمخلة؛ وهي الصداقة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَلَا خِلَالٌ): قال: من المخالة؛ يعني المودة. (دَائِبَيْنِ): قال: يجريان أبدًا، وهو من الدوب؛ أي: التعب. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا). أي: مأمنًا، سمي آمنا، لما يأمن الخلق فيه؛ كما سمي النهار مبصرًا، والنهار لا يبصر ولكن يبصر فيه، ومثله كثير. ثم يحتمل قوله: (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) قال بعض أهل التأويل: إنما طلب إبراهيم أن يجعله آمنًا على أهله وولده خاصة، لا على الناس كافة؛ إذ قد سفك فيه الدماء، وهتك فيه الحرم؛ دل أنه جعله آمنا على أهله وولده خاصة، ولكن لو كان ما ذكروا محتملا - ما يصنع بقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا. . .) الآية، وقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)، وغيره من الآيات. أخبر أنه جعل تلك البقعة مأمنًا للخلق يأمنون فيها. ثم يحتمل وجهين: أحدهما: جعله آمنًا بحق الابتلاء والامتحان، ألزم الخلق حفظ تلك البقعة عن سفك الدماء فيها، وهتك الحرم، وغير ذلك من المعاصي، وإن كانوا ضيعوا ذلك، وعملوا فيها ما لا يصلح؛ كالمساجد التي بنيت للعبادة وإقامة الخيرات - ألزم أهلها وعلى جميع الخلائق حفظها عن إدخال ما لا يصلح ولا يحل، ثم إن الناس قد ضيعوا ذلك، وعملوا فيها ما لا يليق بها ولا يصلح، فعلى ذلك الحرم الذي أخبر أنه جعله مأمنًا.

والثاني: جعله مأمنًا بالخلقة من ذا الوجه، يجوز أن يقال: كيف سفك فيه الدماء وهتك فيه الحرم؛ وهو بالخلقة جعله مأمنًا؟ قيل: يجوز هذا بحق العقوبة؛ وإن كان بالخلقة آمنًا؛ ألا ترى أنه قال: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. . .) الآية، الطيبات بالخلقة حلال؛ لكنه حرم عليهم ذلك بالظلم الذي كان منهم؛ بحق العقوبة والانتقام، فعلى ذلك الحرم؛ جعله مأمنا بالخلقة، ثم قتل فيه عقوبة؛ لما كان منهم من المعاصي. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) الآية. فَإِنْ قِيلَ: كيف دعا وطلب منه العصمة؛ وقد عصمه بالنبوة والرسالة؛ واختارهما له من ذلك كله؟ قال بعض أهل التأويل: إنما سأل عصمة ولده وذريته؛ لما علم أن ذريته قد يختلفون في دين اللَّه وتوحيده، وما ذكر نَفْسَهُ؛ لما المعروف أن من دعا لآخر بدأ بنفسه. قالت المعتزلة: دعاء إبراهيم وطلبه العصمة؛ مما ذكر؛ يدل أنه قد يجوز أن يدعى بدعوات عبادة؛ وإن كان قد أعطاه ذلك، أو يعلم أنه مغفور. قيل: دعاء إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم السلام؛ يجوز أن يكون عصمتهم كانت مقرونة بما طلبوه منه، وسألوه وتضرعوا إليه؛ إذ معلوم أنهم لم يستفيدوا تلك العصمة؛ بإهمالهم أنفسهم، وتركهم إياها سُدى؛ بل إنما أوجب لهم ذلك بما أجهدوا أنفسهم في طاعة اللَّه. ثم الآية على المعتزلة من وجهين: أحدهما: أن إبراهيم طلب منه العصمة عن عبادة الأصنام، وهو علم أنه يعتصم إذا عصمه عن ذلك، واهتدى إذا هداه، وهم يقولون: اللَّه يعصم ولا يعتصم العبد، ويهدي ولا يهتدي العبد. ويقولون: إذا أعطى أحدًا ذلك، خرج ذلك من يده، ولا يملك إعطاء ذلك، فعلى قولهم تخرج دعوات الرسل على الاستهزاء أو على الكتمان؛ لأن من سأل من آخر شيئًا يعلم أنه ليس ذلك عنده؛ فهو هزء، أو سأل وهو يعلم أنه قد أعطاه ذلك؛ فهو كتمان، وكان خوف الأنبياء والرسل والكبراء من الخلق أشد وأكثر على دينهم، والزيغ عما هم عليه؛ لما خافوا أن يكونوا عند اللَّه على غير ما هو عند أنفسهم، كانوا أبدا

(36)

وجلين خائفين على سلب ما هم عليه، وهكذا الواجب أن يكون الخوف على من نعمه عليه أكثر؛ فخوفه أشد. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَاجْنُبْنِي) أي: باعدني، وجنبني أيضًا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: جنبني وإياهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) نسب الإضلال إلى الأصنام - وإن لم يكن لها صنع في الإضلال لأنهم بها ضلوا، وكانت الأصنام سبب إضلالهم، وقد تنسب الأشياء إلى الأسباب، وإن لم يكن للأسباب صنع فيها نحو ما ذكرنا من قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ. . .)، والسورة لا تزيدهم رجسًا، لكن نسب الرجس إليها لما كانت هي سبب زيادة رجسهم، وهو أنها لما نزلت يزداد لهم بها تكذيبًا وكفرا بها، فنسب ذلك إليها، فعلى ذلك الأول. والثاني: ينسب إلى الأحوال التي كانت بها؟ ما لو كانت تلك بذوات الأرواح، لكانت تضل وتغوي كذي الروح، ممن يكون منه الإضلال، لأنها تزين وتحلى بالأشياء؛ نحو ما نسب الغرور إلى الدنيا؛ وإن كانت الدنيا لا تغر؛ لأنها تكون بحال لو كانت تلك الأحوال من ذي الروح لكان ذلك تغريرًا، فعلى ذلك نسبة الإضلال إلى الأصنام. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي). يشبه أن يكون (مِنِّي): أي: موافقي في الدِّين، أو في الولاية، وحاصله - والله أعلم -: معي في الدِّين وفي أمر الدِّين، وكذلك معنى ما روي:، " من غشَّ فليس منا " أي: ليس بموافق لنا، أو ليس معنا، أو ليس من ملتنا، وكذلك قوله: (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي: من ملتي. وحاصله: فمن تبعني وأجابني فيما دعوته إليه وأمرته به فإنه مني؛ أي: مما أنا عليه، وكذلك قوله: " من غشَّ فليس منا " أي: ليس مما نحن عليه.

(37)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). يشبه قوله: (وَمَنْ عَصَانِي) ليس عصيان شرك، ولكن عصيان ما دون الشرك؛ فإنه غفور رحيم. أو من عصاني فإنك غفور؛ أي: ساتر عليه الكفر إلى وقت معلوم؛ إذ الغفران: هو الستر؛ فستر عليه إلى أجل؛ كقوله: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ) أو يقول: (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): أي: تمكن له من التوبة والإسلام؛ فيسلم ويتوب؛ فتغفر له ما كان منه من العصيان؛ وترحم عليه. وقوله: (وَمَنْ عَصَانِي) فيما دعوته إليه وأمرته به (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تمكن له من التوبة، والرجوع عما كان؛ فتغفر له وترحمه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) لا يحتمل أن يكون قال هذا أول ما قدم تلك البقعة؛ لأنه قال: (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ولا بيت هنالك، دل أنه إنما دعا بهذه الدعوات: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) وما ذكر (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا. . .)، إلى آخر ما ذكر؛ بعد ما رفع البيت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) دل أنه إنما أسكن بعض ذريته؛ لم يسكن ذريته كلها؛ حيث قال: (مِنْ ذُرِّيَّتِي). قد امتحنه اللَّه بمحن ثلاثة؛ لم يمتحن بمثلها أحدًا من الأنبياء: أحدها: امتحنه بإسكان ولده بواد غير ذي زرع؛ وغير ذي ماء، مما لا يحتمل قلب بشر تركه في مثل ذلك المكان مثله، دل أنه إنما فعل بأمر من اللَّه تعالى. والثاني: امتحنه بذبح ولده حتى إذا أشرف على الهلاك - فداه اللَّه تعالى بكبش. والثالث: امتحنه بإلقائه في النار؛ فألقى حتى إذا أشرف على الهلاك - جعلها الله

تعالى عليه بردًا وسلامًا. ففي ذلك كله دلالة رسالته. وكانت له هجرتان: إحداهما إلى مكة؛ حيث أسكن فيها ولده، والهجرة الثانية إلى بيت المقدس؛ وهو ما ذكر: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا. . .) الآية. ثم قوله: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) هو دعاء بتعريض لا بتصريح، والدعاء بالتعريض؛ والسؤال بالكناية أبلغ وأكثر من السؤال بالتصريح، وهو كدعاء آدم وحواء: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا. . .) الآية، فهذا أبلغ في السؤال من قوله: اغفر لنا وارحمنا؛ لأن مثل هذا قد سئل من دونه؛ ولا يكون فيه ما ذكر فيه من الخسران. وقوله: (مِنْ ذُرِّيَّتِي) يحتمل أن يكون كلمة (من) صلة؛ أي: أسكنت ذريتي، ويحتمل على التبعيض؛ أي: أسكنت بعض ذريتي، على ما ذكر في بعض التأويلات: إسماعيل وإسحاق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ). يحتمل قوله: (الْمُحَرَّمِ) وجهين: أحدهما: حرمه أن يستحل فيه ما لا يحل ولا يصلح؛ لكنه خص تلك البقعة بالذكر؛ وإن كان ذلك لا يحل في غيرها من البقاع؛ لفضل الحرمة التي جعلها اللَّه لها، كما خص المساجد بأشياء؛ لفضلها على غيرها من الأمكنة والبقاع. والثاني: قوله: (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ): أي: الممنوع؛ يقال: حرم: أي: منع؛ كقوله: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ)، ليس ذلك على التحريم ألا يحل له المراضع؛ ولكن على المنع؛ أي: منعنا عنه؛ لنرده إلى أمه، فعلى ذلك قوله: (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أي: الممنوع عن الخلق لله؛ حتى لم يقدر واحد من الفراعنة والملوك الغلبة عليها وإدخالها في منافع أنفسهم، بل هي ممنوعة عنهم؛ على ما كان، وفيه آية الوحدانية له والألوهية. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ). قال بعض أهل التأويل: فيه تقديم يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) ليقيموا الصلاة لك عند بيتك.

ويحتمل أيضًا غير هذا؛ وهو أن يقال: (أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي: ليس فيه ما يشغلهم عن الصلاة؛ لأن الزرع وغيره من النعيم يمنع الناس عن إقامة الصلاة، والعبادة لهم، أي: أسكنت من ذريتي بواد ليس فيه زرع يشغلهم عن إقامة الصلاة، ثم يحتمل الصلاة: الصلاة المعروفة، ويحتمل الصلاة: الدعاء والأذكار؛ وغيرها من الدعوات، ويحتمل قوله: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ): الصلاة، نفسها؛ وغيرها من الطاعات، وكذلك قوله: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ). يحتمل سؤاله ربه - أن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم - وجهين: أحدهما: لما أسكن ذريته في مكان لا ماء فيه ولا نبات ولا زرع؛ ففي مثل هذا المكان يستوحش المقام فيه؛ فسأل ربه أن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم؛ ليأتوا ذلك المكان؛ فتذهب عنهم تلك الوحشة؛ فيستأنس بهم، أو سأله أن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم؛ ليتعيشوا بما ينقل إليهم من الزاد والأطعمة إذ أسكنهم في مكان لا زرع فيه، ولا ماء يعيشون فيه به، وقد جعل اللَّه بنية هذا البشر؛ أن لا قوام لهم إلا بالأغذية والأطعمة، فسأل ربه؛ ليتعيشوا بما يحمل إليهم. وقال أهل التأويل: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) للحج، وقالوا: لو قال: فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم؛ ولم يقل (من) لحجه الخلق جميعًا: الكافر والمؤمن، لكن لا يحتمل عندنا أن يكون سؤاله للخلق جميعًا أو يكون قوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) للخلائق جميعًا: للكافر والمؤمن، بل يرجع ذلك إلى خصوص. والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). يحتمل: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) تلك الثمرات، ويحتمل: لعلهم يشكرون بما جعل لهم من التعيش بما يحمل إليهم من الأغذية والأطعمة. وقوله: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ) ليس على تخصيص الثمرات، ولكن سأل الثمرات وما

(38)

به غذاؤهم وقوامهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) لا يحتمل أن يكون مثل هذا الدعاء منه مبتدأ، بل كأنه - واللَّه أعلم - عن نازلة دعاه؛ إذ يعلم صلوات اللَّه عليه أنه كان يعلم ما يخفون وما يعلنون، لكن لم يبين: ما تلك النازلة؛ وأهل التأويل يقولون: قال هذا؛ أي: (تَعْلَمُ مَا نُخْفِي) من الحزن والوجد على إسماعيل وأمه حين تركهما بواب لا ماء فيه ولا زرع، ويقولون: (وَمَا نُعْلِنُ) وهو قوله: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي)، لكن لا نعلم ذلك. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَا). كان هذا جوابًا عن اللَّه وإخبارًا منه إياه؛ أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ أي: لا يخفى عليه ما لا أمر فيه ولا نهي ولا جزاء؛ فكيف يخفى عليه الأعمال التي عليها الجزاء والأمر؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) قال أهل التأويل: إنه وهب له الولد؛ وهو ابن كذا وامرأته ابنة كذا؛ لكن لا نعلم ذلك سوى ما ذكر أنه وهب له الولد على الكبر في وقت الإياس عن الولد؛ حيث بشر بالولد؛ فقال: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ)، وحيث قالت امرأته لما بشرت بالولد (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا)، يعلم أنه وهب له الولد؛ وهما كانا كبيرين في وقت الإياس عن الولد. وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) يكون حمده على الأمرين جميعًا: على الهبة؛ وعلى الولادة في حال الكبر؛ وهو حال الإياس؛ إذ كل واحد مما يوجب الحمد عليه والثناء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) قيل: لمجيب الدعاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) قد سبق من اللَّه الأمر بإقامة الصلاة؛ وهو المقيم لها؛ فدل الدعاء منه والسؤال؛ على أن يجعله مقيم الصلاة - أن عند اللَّه لطفا سوى الأمر لم يعطه؛ فسأله ذلك؛ هو التوفيق. وعلى قول المعتزلة؛ لقولهم: إنه قد أعطى كل شيء حتى لم يبق عنده ما يعطيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ).

(41)

قَالَ بَعْضُهُمْ: تقبل دعائي في إقامة الصلاة لنفسه وذريته؛ لكن لا يجب أن يخص دعاء من الدعوات التي سأل ربه؛ وقد دعا ربه بدعوات كثيرة؛ نحو ما قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، وقوله: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)، وقال: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ)، وغير ذلك من الدعوات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) طلب من ربه المغفرة لوالديه. قال الحسن: إن أمَّه كانت مسلمة، وأما أبوه: فكان كافرًا؛ لأنه قال: (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ)، فخص والده بالضلال؛ دل أن أمه كانت مسلمة؛ لكنا لا نعلم ما حال الأم: أمه كانت مسلمة أو كافرة، وأما أبوه فهو لا شك أنه كان كافرًا. ثم لا يحتمل دعاؤه لوالديه؛ وهما كافران؛ إن كانت أمه كافرة؛ إلا على إضمار الإسلام؛ أي: اغفر لهما إن أسلما، أو أن يكون سؤاله المغفرة لهما سؤال الإسلام نفسه، أو أن يكون طلب منه الستر عليهما في الدنيا، وألا يفضحهما ولا يخزيهما، لكنه سأل المغفرة يوم يقوم الحساب. ولا يحتمل طلب الستر إلا أن يفصل بين قوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) ووبين قوله: (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) يبتدئ بالمؤمنين يوم يقوم الحساب، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم ودعاء إبراهيم وسؤاله المغفرة لوالديه يكون سؤال السبب؛ الذي يستحقان به المغفرة من ربها، ويكونان أهلا لها؛ وهو التوحيد ومعرفة المولى؛ وهو ما ذكرنا في أمر نوح قومه الاستغفار له، وكذلك قول هود؛ حيث قال: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ. . .) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ). يحتمل قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ): بالعدل؛ يقول الرجل لآخر: أقم حسابي أي: اعْدل فيه. وإقامة الحساب: العدل فيه؛ على ما توجبه الحكمة، لا يزاد ولا ينقص؛ كقوله: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ): يوم يحاسبون، قيام الحساب: هو المحاسبة نفسها واللَّه أعلم.

(42)

ويحتمل قوله: (إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) كانت له حاجات أخفاها، طلب قضاءها؛ فقال: تعلم حاجاتي؛ أخفيتها، أو أعلنتها فاقضها لي، أو أن يكون قومه طعنوا في شيء؛ فقال ذلك على التبري من ذلك؛ إنه يعلم ما نخفي وما نعلن، ولم يعلم ذلك الذين يطعنون في (مِنِّي) واللَّه أعلم؛ كقول عيسى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي)، أو أن يكون قال ذلك؛ لأن أهل الأديان جميعًا كانوا يوالون إبراهيم ويدعون أنه على دينهم؛ ولذلك قال: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا. . .) الآية. برأه اللَّه مما ادعى كل فريق. ثم منهم؛ من كان من هذه الفرق؛ يدعون الأسرار عن اللَّه والإخفاء عنه؛ فقال هذا ليعلم الناس توحيده؛ أنه لا يخفى عليه شيء؛ أُخفي أو أعلن؛ ليعرفوا توحيده أنه ليس شيء يخفى عليه. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: المخاطب بهذا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة؛ على علم منه أن رسول اللَّه كان لا يظن أن اللَّه يغفل عما يعمل الظالمون؛ لكنه خاطب به كما خاطب به في قوله: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)، وقوله: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وأمثاله، نهاه مع العلم أنه لا يفعل ذلك، وأصله في هذا أن العصمة لا ترفع المحنة، وليس المحنة إلا الأمر والنهي؛ إذ لو رفعت العصمة المحنة؛ والأمر والنهي؛

(43)

لذهبت فائدة العصمة، ولا حاجة تقع إليها، فدل أن العصمة تزيد في المحنة، ومع المحنة يحتاج إليها وينتفع بها. ويحتمل أن يكون الخطاب بالآية غيره، كل ظان يظن باللَّه الغفلة عن ظلم الظالم؛ وهو كما خاطب بقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)، إنما خاطب به كل غارٍّ بربه الكريم لا كل إنسان، فعلى ذلك خاطب بقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) وكل ظان باللَّه الغفلة عن ظلم الظالمين، ثم إن الذي حملهم على الظن باللَّه الغفلة عن ظلم الظالم - حلمه، وتأخيره العذاب عنهم عن وقت ظلمهم، وترك أخذهم بذلك: فمنهم من ادعى الغفلة عن ذلك؛ لما رأوا من عادة ملوك الأرض أن من ظلم أحدًا منهم انتقم منه في أعجل وقت يقدر على الانتقام منه؛ فحمل تأخير الله العذاب منهم؛ والانتقام منهم - على القول بالغفلة. ومنهم من ادعى الرضا؛ بما اختاروا هم من الشرك والكفر باللَّه، وادعوا الأمر بذلك؛ لما لم يأخذهم ولم يستأصلهم بصنيعهم؛ فاستدلوا بذلك على رضاه بفعلهم، وأمره إياهم بذلك. فأخبر رسوله أن تأخيره العذاب عنهم وإمهاله إياهم - ليس عن غفلة عنه، ولا عن سهو، ولا لرضاه به وأمره ولكن إنما يؤخرهم ليوم، ثم وصف ذلك اليوم؛ لشدة فزعه وهوله فقال. (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ (43) قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا كله يرجع إلى الطرف والبصر؛ يقول: شاخصة أبصارهم مهطعين: ناظرين إليه؛ أي: إلى الداعي، مقنعي رءوسهم: رافعي رءوسهم، لا يرتد إليهم طرفهم؛ لهول ذلك اليوم، هذا كله يصرفون إلى الأبصار دون النفس؛ لأن الإهطاع والإقناع: هو للنظر ولشخوص الأبصار. ومنهم من صرف قوله: (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)، و (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) إلى البصر، وصرف قوله: (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) إلى الأنفس؛ وهو ما ذكر في موضع آخر: (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ)، أي: مسرعين إليه الإجابة؛ رجاء التخلص والنجاة عما حل بهم؛ بترك الإجابة.

والإهطاع: قيل: هو النظر الدائم، والإقناع: هو الرفع؛ رفع الرءوس، مهطعين: أي: مديمي النظر، مقنعي رءوسهم أي: رافعيها، وعلى تأويل بعضهم: مسرعين؛ على ما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ): أي: رافعيها؛ ملتزقة إلى أعناقهم. وقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ). يخرج على وجهين: أحدهما: يقول: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)، وقت خلقه الخلق وإنشائهم؛ عما يكون منهم من الظلم؛ أي: لا عن غفلة وسهو عن ظلم الظالمين أنشأهم وخلقهم؛ ولكن على علم بما يكون منهم أنشأهم وخلقهم؛ لكن أنشأهم على علم منه؛ بذلك؛ لأن منافع ما يكون منهم وضرره يرجع إليهم؛ فلم يخرج إنشاؤه إياهم على علم منه ذلك، عن الحكمة. والثاني: ما ذكرنا أن تأخيره العذاب عنهم - ليس لغفلة منه بذلك؛ ولكن لما في أخذهم بالعذاب وقت صنيعهم زوال المحنة؛ لأنه يصير العذاب والثواب مشاهدة. والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ). قيل: خالية؛ لهول ذلك اليوم؛ أي: خالية عن التدبير؛ لأن في الشاهد أن من بلي ببلايا وشدائد يتدبر ويتفكر في دفع ذلك؛ فيخبر أن أفئدتهم هواء يومئذ: أي: خالية عن التدبير؛ إذ أفئدتهم لا تكون معهم؛ لشدة أهواله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) أي: لا شيء فيها؛ ما ينتفعون بها، وهكذا الهواء - هواء كل شيء - يوصف بالخلاء عن كل شيء. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى

(44)

أَجَلٍ قَرِيبٍ ... (44) يحتمل قوله: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ) قولهم الذي يقولون يومئذ: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ). ويحتمل: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ) الذي يحل بهم. ثم أخبر عما يقولون - إذا حل بهم العذاب -: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) قال بعضهم: إلى الدنيا؛ والدنيا أجلها قريب، لكن هذا لا يحتمل؛ لأن الدنيا أولى، والآخرة آخرة، فلو جاز هذا لتكون الآخرة أولى؛ فذلك بعيد، لكن طلبوا - واللَّه أعلم - الرد إلى حال الأمن؛ ليجيبوا داعيه؛ إذ لم تنفعهم إجابتهم في حال الخوف والهول، وما حل بهم إنما حل بتركهم الإجابة، في حال الأمن؛ فطلبوا الرد إلى الأمن؛ ليجيبوا داعيه لتنفعهم إجابتهم؛ حيث قالوا: (نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ). لم يبين بما أقسموا في هذه الآية؛ وهو ما بين في آية أخرى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ). ثم قوله: (مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ): قال قائلون: ما لكم من زوال من الدنيا، أي: كنتم تقولون: أن ليس إلا الدُّنيَا لا زوال لنا عنها؛ أحياء وموتى؛ كقولهم: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا. . .) الآية، على ما ذكر من قسمهم أنهم لا يبعثون. وقال قائلون: قوله: (مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) جواب لسؤالهم: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) على الاستئناف؛ قال: ما لكم عما أنتم فيه من العذاب إلى ما تسألون من المدة والتأخير؛ أي: ما لكم إلى ذلك سبيل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ): أي: تنزع قلوبهم؛ حتى صارت في حناجرهم؛ فلا تخرج من أفواههم، ولا تعود إلى أماكنها؛ لشدة هول ذلك اليوم وفزعهم عليه، وهو على التمثيل والكناية؛ كقولهم: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ. . .) لشدة خوفهم، وهو على التمثيل؛ إذ لا يحتمل بلوغ القلوب الحناجر في الدنيا حقيقة؛ إذ لو بلغت ذلك لخرجت فماتوا، إذ الدنيا يحتمل الموت فيها، فدل أن ذلك على التمثيل لشدّة خوفهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... (45) بتكذيبهم الرسل.

(46)

وتأويله - واللَّه أعلم -: أنهم كانوا يطلبون من ربهم الرد إلى حال الأمن؛ ليجيبوا بقولهم: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ)؛ واللَّه أعلم، فقال: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بتكذيبهم الرسل أي: سكنتم في الدنيا في مثل منازلهم ومساكنهم؛ فرأيتم ما نزل بأُولَئِكَ الذين صنعوا مثل صنيعكم. وذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) من التعذيب والاستئصال ثم لم يتعظوا بما حل بهم، فعلى ذلك إذا رددتم إلى حال الأمن لا تتعظون بما حل بكم في هذه الحال، وهو ما قال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) فيما يقولون: إنهم يجيبون دعوته، هذا - واللَّه أعلم - تأويله. وقال بعض أهل التأويل: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ): أي: عملتم مثل أعمالهم، (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) من الاستئصال بالتكذيب؛ بتكذيبهم الرسل؛ فلم تتعظوا بذلك؛ فلا تتعظون بهذا أيضًا إذا رددتم. واللَّه أعلم. وفي قوله: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. . .) إلى آخر ما ذكر: دلالة لزوم النظر والاستدلال، ولزوم القياس، ودلالة لزوم العقوبة؛ وإن كان لم يعلموا به؛ بعد أن مكنوا من العلم به. أما دلالة النظر والاستدلال: هو قوله: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ): فهلا نظرتم ما حلَّ بهم من تكذيبهم الرسل؛ واتعظتم به. ودلالة القياس: هو ما خوفهم أن ينزل بهم ما نزل بأُولَئِكَ؛ لأنهم اشتركوا في المعنى الذي نزل بأُولَئِكَ؛ ما نزل وهو تكذيبهم الرسل، وسوء معاملتهم إياهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ): أي: (وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ)؛ ما لو تفكرتم فيها ونظرتم ثم لكان ذلك لكم موعظة وزجزا عن مثل صنيعكم. أو يقول: وضربنا لكم الأمثال: أي: قد بينّا لكم الأمثال والأشباه ما يعرفكم؛ لو تأملتم أن أُولَئِكَ لكم أشباه وأمثال، وصنيعهم لصنيعكم أشباه وأمثال؛ فينزل بكم ما نزل بهم. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) مكروا، واحتالوا على إهلاك الرسل وقتلهم؛ كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ. . .) الآية، وكيدهم الذي ذكر - في غير آي من القرآن - برسل اللَّه؛ حتى قال الرسل فيكيدوني جميعًا، ومكروا أيضًا بدين اللَّه الذي أتت به الرسل، مكروا

واحتالوا على إطفاء ذلك النور؛ فأبى اللَّه ذلك عليهم، وأظهر دينه، وأبقى نوره إلى يوم القيامة، كقوله: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ) كأن مكرهم وحيلهم يرجع - في أحد التأويلين - إلى أنفس الرسل حين هموا وتعمدوا إهلاكهم. والثاني: يرجع إلى إطفاء الدِّين؛ الذي أتى به الرسل؛ والنور الذي دعوا إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ). يحتمل: عند اللَّه جزاء مكرهم؛ الذي مكروا برسل اللَّه وبدينه. أو (وَعِندَ اللَّهِ مَكرُهُمْ): أي: عند اللَّه العلم بمكرهم، محفوظ ذلك عنده، لا يفوت ولا يذهب عنه شيء؛ فيجزيهم بذلك في الآخرة. أو (وَعِندَ اللَّهِ مَكرُهُم): أي: عند اللَّه الأسباب التي بها مكروا، من عند الله استفادوا؛ وهو النعم التي أعطاهم، والأموال التي ملكهم، والعقول التي ركب فيهم؛ بما قدروا على المكر والاحتيال عند اللَّه ذلك كله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ). اختلف في تلاوته، وقراءته، وتأويله: قرأ بعضهم: (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ) بالدال (¬1)؛ وهو حرف عبد اللَّه بن مسعود، وأبي، وابن عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهم. وقرأ بعضهم (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ) بالنون. ثم اختلف في قوله: (وَإِنْ كَانَ). وقال الحسن وغيره: و (إن) بمعنى: (ما)، أي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، قال: كان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال، و (إن) بمعنى: (ما) كثير في القرآن، كقوله: (لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) أي: ما كنا فاعلين؛ وكقوله: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي: ما نحن إلا بشر مثلكم. ¬

_ (¬1) هكذا (وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ)

(47)

وقد تستعمل (إن) في موضع (قد)؛ كقوله: (إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا) أي: قد كان وعد ربنا لمفعولا. فمن حمله على (ما) فقد استهان بمكرهم، واستخف به؛ فقال: إن مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال، والجبال أوهن وأسرع زوالا من رسالة الرسل ودين اللَّه، بل رسالة الرسل؛ ودين اللَّه أثبت من الجبال، لأن دين اللَّه، ورسله معهما حجج اللَّه وبراهينه، فإذا لم يعمل مكرهم في إزالة الجبال - لا يعمل في إزالة دين الله ورسالة الرسل، ومعهما الحجج والبراهين. ومن قال: (وَإِنْ كَانَ): قد حمله على الاستعظام بمكرهم. وعلى ذلك: من قرأ (كاد)، بالدال على الاستعظام بمكرهم؛ كقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) من عظيم ما قالوا في اللَّه كادت السماوات أن تنشق، فعلى ذلك مكرهم جميعًا الوجهين: أن يستهان مرة ويستعظم؛ إلا أن يقال: إن كلمتهم من حيث الشرك والكفر عظيمة، ومن حيث احتيالهم ومكرهم - في إزالة ذلك النور وإطفائه - ضعيفة. واللَّه سبحانه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) الخطاب به يحتمل ما ذكرنا: أي: لا تحسبن أن ما تأخر؛ من نزول ما وعد؛ أنه يخلف وعده الذي وعد رسله؛ كما لم يكن تأخير العذاب عنهم؛ من وقت ظلمهم عن غفلة وسهو، ولكن كان وعده إلى ذلك الوقت، وخلف الوعد في الشاهد من الخلق - إنما يكون لوجهين: أحدهما: لما لا يملك إنجاز ما وعد. والثاني: لما يضره الإنجاز، فتعالى اللَّه عن ذلك كله. وقول - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: عزيز: لا يعجزه شيء. وقيل: عزيز: قاهر يقهر ويذل؛ فالخلائق كلهم أذلاء دونه. وقوله: (عَزِيزٌ): أي: غالب قاهر ذو انتقام لأوليائه من أعدائهم؛ أي: غالب الأعداء وقاهرهم، وناصر الأولياء.

(48)

وأما ما قال أهل التأويل في قوله: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ). إنه نزل في شأن نمرود، وإنه اتخذ تابوتًا، وربط ثورًا على قوائمه، وما ذكروا إلى آخره - فلا علم لنا إلى ذلك، وأظنه أنه كله خيال، فلا نقول إلا القدر الذي ذكر في الآية. و" لَتزولُ " بنصب اللام الأولى، وبرفع الآخرة: على معنى التوكيد، و (لِتَزُولَ) بكسر اللام الأولى، ونصب الآخرة: على الجحد؛ أي: ما كانت الجبال لتزول من مكرهم، وهو ما ذكرنا. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ... (48) قال الحسن: تفنى هذه الأرض، ثم تعاد من ساعته مستوية، لا شجر فيها، ولا جبال، ولا آكام، قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تبدل هذه الأرض أرضًا غير هذه؛ بيضاء نقية، لم يسفك عليها دم، ولم يعمل عليها بالمعاصي، وكذلك السماوات. ومنهم من يقول: لا تبدل عينها؛ ولكن يتغير صفتها وزينتها؛ كما يقول الرجل لآخر: تبدلت يا فلان، لا يريد تبدل أصله وعينه؛ ولكن تغير الأخلاق والدِّين، فعلى ذلك ما ذكر من تبديل الأرض والسماوات. والأشبه أن يكون على اختلاف الأحوال؛ لأنه ذكر في آية: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) وقال: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ)، وقال: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ) (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)، (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)، و (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ)، وقال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ)، وقال: (فَجَعَلْنَاهُ

هَبَاءً مَنْثُورًا)، ذكر مرة تمد الأرض، وذكر مرة أنها تخبر وتحدث عما عمل عليها، وذكر في السماء بالتشقق والانفطار، وفي الجبال بالسير والمرور مرة؛ ومرة بالرفع ومرة أخبر أنه جعلها هباء منثورا وأمثاله. فيشبه أن يكون هذا كله على اختلاف الأحوال والأوقات؛ إذ يوم القيامة يوم ممتد؛ فيكون كل ما ذكر على ما قال يومئذ؛ (فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ)؛ قال في آية: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)، وقال: (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، وقوله: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، فهو - واللَّه أعلم -: على اختلاف الأحوال والأوقات، فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم بذلك. وتبديل الأرض والسماوات: يحتمل وجهين: أحدهما: تبديل أهلها على ما يذكر؛ الأرض والقرية، والمراد منها الأهل؛ كقوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا)، وقوله: (قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً. . .) الآية، ونحوه كثير. والثاني: تبديل نفس الأرض. ثم يحتمل كل واحد من الوجهين وجهين: إما تبديل أهلها: هو أن يكونوا مستسلمين خاضعين له في ذلك، ولم يكونوا في الدنيا كذلك. والثاني: تبدل أهلها: هو أن يكون الأولياء في النعم الدائمة، واللذة الباقية، والأعداء في عذاب وألم وشدة، وكانوا في هذه الدنيا جميعًا مشتركين - الأولياء والأعداء - في اللذات والآلام. فإن كان تبديل نفس الأرض - فهو يخرج على وجهين أيضًا: أحدهما: تبديل زينتها وصفتها. والثاني: تبديل عينها وجوهرها؛ وهو ما ذكر: أن أرض الجنة تكون من مسك وزعفران، ونحو ما روي في الخبر واللَّه أعلم. كأن قوله: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) صلة قوله: (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ. . .) الآية فقالوا: متى يكون ذلك؟ فقال: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) يخرج جوابًا لسؤالهم واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). قد ذكرنا تخصيص بروزهم لله يوم القيامة أنه - واللَّه أعلم - أنشأ هذا العالم الأول للعالم الثاني، فالعالم الثاني هو المقصود في إنشاء هذا العالم، فخص بروزهم يومئذ له؛ لما هو المقصود في إنشائهم. وقال قائلون: تخصيص البروز له يومئذ؛ لأنهم يخرجون من قبورهم للحساب لا لغيره، فهو يحاسبهم؛ فأضاف البروز إليه؛ لما لا يخرجون إلا له، وأما في الدنيا: فإنما يخرجون لحوائج أنفسهم؛ لذلك خرج التخصيص له والإضافة. وقوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ): يحتمل وجهين: أحدهما: برزوا له مستسلمين خاضعين، قابلين طائعين، ولم يكونوا في الدنيا كذلك. والثاني: يبرزون له؛ لما وعدوا وأوعدوا؛ بارزون لوعده ولوعيده، ولما دعوا إليه، ورغبوا فيه. والثالث: يبرزون له؛ لما لا يملكون إخفاء أنفسهم وسترها؛ بل ظاهرين له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). الواحد: الذي لا شريك له، والقهار: يقهر الخلائق كلهم؛ ويغلبهم: الجبابرة، والفراعنة. أو يبرزون له ليجزيهم، على ما ذكر تعالى (لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ) وذكر (مِنْ قَطِرَانٍ): قيل: (القطر) هو النحاس أو (آنٍ) أي: قد انتهى حره، كقوله: (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ). وقيل: الصفر وقَالَ بَعْضُهُمْ (مِنْ قَطِرَانٍ) أي: من نحاس أنى لهم أن يعذبوا به،. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من القطران المعروف الذي يطلى به الإبل؛ ذكر هذا لأنه أشد إحراقًا واشتعالا.

(49)

وقوله: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) إلى آخر ما ذكر: جعل الله عذاب الكفرة في الآخرة بالأسباب والأشياء التي كانوا يفتخرون بها في الدنيا؛ من اللباس والشراب والأصحاب؛ وغيره، وهو كان سبب منعهم عن إجابة الرسل فيما دعوهم إليه؛ فجعل تعذيبهم في الآخرة بذلك النوع من النار؛ فقال: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) يقرن ويقيض بعضهم ببعض؛ كقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا. . .) الآية؛ لأنه كان يتبعه ويأتمر بأمره؛ وكقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا. . .) الآية، وكذلك الرؤساء منهم، والمتبوعون. وقوله: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ... (50) لما كانوا يفتخرون في الدنيا بلباسهم، وكذلك كل نوع كانوا يفتخرون به في الدنيا، ويمنعهم عن الإجابة؛ إجابة الرسل، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. والأصفاد: قيل: الأغلال: قد قرن بعضه إلى بعض في الأغلال، واحدها: صفد؛ وهو قول الْقُتَبِيّ، وكذلك قول أبي عَوْسَجَةَ في الأصفاد، إلا أنه قال: واحدها: صفاد، والصفد العطيّة. (سَرَابِيلُهُمْ): قمصهم، واحدها: سربال. (مِنْ قَطِرَانٍ): القطر - ما ذكرنا - النحاس، والآن الذي قد اشتد حَرُّه، وهو قول الْقُتَبِيّ وأبي عَوْسَجَةَ. ذكر هذه المواعيد والشدائد، وأنواع ما يعذبون به في الآخرة، ونعيمها على ألسن من قد ظهر صدقهم بالآيات والحجج؛ ليحذروا ما أوعدوا، ويرغبوا فيما رغبوا لئلا يكون لهم الاحتجاج يومئذ؛ كقوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)، وقوله: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ. . .) الآية، ونحوه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ). لأن أيديهم مغلولة إلى أعناقهم؛ فلا يقدرون أن يتّقوا النار بأيديهم ذكر هذا؛ لأن في الشاهد: من أصاب وجهه، أذًى يتقي عنه بيده، فيخبر أنهم إنما يتقون ذلك بوجوههم. واللَّه أعلم.

(51)

(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ (51) لما ذكرنا؛ يبرزون لله؛ ليجزيهم من خير وشر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: كان قد جاء حسابه. والثاني: ذكر هذا؛ لأن الحساب إنما يبطئ لما لا يتذكر من له الحساب لمن يحاسبه في الشاهد - فيما يحاسبه، فيطول الحساب أو الاشتغال بشيء يشغله عنه، أو لجهل بالحساب. فأما اللَّه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء، ولا يشغله شيء عن شيء، كله محفوظ عنده؛ فهو سريع الحساب. واللَّه أعلم. أو نقول: إنما يطول الحساب في الشاهد؛ ويمتد لما يحتاج إلى التفكر أوالنظر، والتذكر في ذلك، فاللَّه سبحانه متعال عن التفكر والنظر، بل كل شيء محفوظ عنده. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52) يحتمل قوله: (هَذَا بَلَاغٌ): القرآن؛ هو بلاغ للناس، على ما ذكر في صدر السورة: قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ. . .) الآية، هو بلاغ على ما ذكر. واللَّه أعلم. (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ): أي: بالقرآن أيضًا على ما ذكر: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)، ويحتمل قوله: (هَذَا بَلَاغٌ) ما ذكر من المواعيد؛ وهو قوله: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) إلى آخر ما ذكر؛ أي: هذا الذي ذكر بلاغ يبلغهم لا محالة، ولينذروا بما ذكر. (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ). لا شريك له؛ بالآيات التي أقامها على وحدانية اللَّه وألوهيته. (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) أي: ذوو العقول، واللَّه أعلم. * * *

سورة الحجر

سُورَةُ الْحِجْرِ ذكر أنها مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * * * قوله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ). قد ذكرنا فيما تقدم: أنه يحتمل أن الحروف المقطعة كناية عن كتابه وآياته، أو آياته؛ أنه جمعها على ما توجبه الحكمة؛ فجعلها كتابًا أو آيات كتاب يتلى، أو يكون كناية عن الإنباء والإخبار عن الأمم السالفة؛ التي لم يشهدها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، تلك الأنباء والأخبار التي جعلناها كتابًا أو آيات؛ ليعلموا أن هذا الكتاب إنما نزل من السماء، وأنه إنما علم بالوحي من اللَّه، وقد ذكرنا هذا في غير موضع. (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ). قال: بيَّن فيه ما يؤتى، وما يتقى. أو (مُبِينٍ): يبين بين الحقّ والباطل. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) قال عامة أهل التأويل: إنما يودون الإسلام والتوحيد، بعد ما عذب بالنار قومًا من أهل التوحيد بذنوبهم، ثم أخرجوا منها بالشفاعة أو بالرحمة، فعند ذلك يتمنى أهل الشرك؛ ويودون الإسلام والتوحيد؛ لكن هذا بعيد ألا يتمنوا إلا في النار بعد ما أخرج أُولَئِكَ وقد أصيبوا الشدائد والبلايا؛ من قبل أن يأتوا النار، قال اللَّه تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ

(3)

أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) الآية، أخبر أنه يتمنى عند حلول الموت - الإسلام؛ حيث طلب الرجوع إلى الدنيا، دل أنهم يودون الإسلام؛ قبل الوقت الذي ذكروا، أو يتمنون الإسلام إذا حوسبوا، أو إذا بعث أهل الجنة إلى الجنة وبعثوا هم، إلى النار، يتمنون الإسلام قبل ذلك بمواضع، وربما يتمنى الآحاد من الكفرة، ويودون لو كانوا مسلمين في أحوال؛ وأوقات؛ يظهر لهم الحق، وقد بانَ لهم الحق؛ لكن الذي يمنعهم عن الإسلام - فوت شيء من الدنيا، وذهاب شيء قد طمعوا فيه. وقال الحسن في قوله: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ): قسم؛ لما ذكر: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)؛ يقول: أقسم بالحروف المقطعة أنهم يوذون الإسلام. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) هذا ليس على الأمر، ولكن على الوعيد، والتهديد، والإبلاغ في الوعيد، وتأكيد؛ كقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ. . .) الآية،، هو على الوعيد؛ حيث قال: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، فعلى ذلك قوله: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا) وعيد بقوله: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، ويشبه أن يكون: ذرهم ولا تكافئهم بصنيعهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) المحق من المبطل، وأن المحق والمبطل من أنت أو هم؛ أو سوف يعلمون نصحك إياهم، وشفقتك لهم، أنك نصحت لهم، وأشفقت عليهم لا أن خنتهم أو يعلموا بما سخروا بكم وهزءوا. وقوله: (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ). الأمل: الطمع، اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: منعهم طمعهم أنهم وآباءهم قد أصابوا الحق، ذلك منعهم عن الإجابة، والنظر في الآيات والحجج. والثاني: تقديرهم بامتداد حياتهم؛ ليبقى لهم الرياسة، والشرف، ذلك الذي كان

(4)

يمنعهم عن الإجابة له، والانقياد له، والنظر في الآيات والحجج. والثالث: يطمعون هلاك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويتمنون ذلك، وانقطاع ملكه، وأمره، والعود إليهم، فذلك الذي كان منعهم. وفي حرف حفصة: (ذَرْهُم يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ). وقوله: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا. . .) الآية في قومٍ علم اللَّه أنهم لا يؤمنون، آيس رسوله عن إيمانهم؛ وهو كقوله: (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) قال الحسن: وما أهلكنا من أهل قرية إهلاك تعذيب؛ إلا وقد أرسلنا إليهم رسلا بكتاب معلوم، نتلو ذلك الكتاب المعلوم عليهم، فإذا كذبوهم وأيسوا من إيمانهم؛ فعند ذلك يهلكون هلاك تعذيب، وهو ما قال: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)، فعلى ذلك الأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) يقول: كتاب فيه أجل معلوم مؤقت لها؛ على هذا التأويل؛ كأنه قد خرج جوابًا لقول كان من أُولَئِكَ الكفرة من استعجالهم الإهلاك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) أي: ما تسبق أمة عن أجلها الذي جعل اللَّه لها بالإهلاك، وما تستأخر عنه، وهو ما قال: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) أي: ما يستأخرون ساعة عن الوقت الذي جعل لهم ولا يستقدمون. فهذا ينقض على المعتزلة قولهم؛ حيث قالوا: إن اللَّه يجعل لخلقه آجالا، ثم يجيء آخر فيقتله قبل الأجل الذي جعله له، واللَّه يقول: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، وقال: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ)، يخبر أنه لجاءهم العذاب؛ لولا ما جعل من أجل مسمى؛ قد وعد جل وعلا أن يفي بما وعد؛ من البلوغ إلى الأجل الذي سمى.

(6)

وعلى قول المعتزلة: لا يملك إنجاز ما وعد؛ لأنه يجيء إنسان؛ فيقتله؛ فيمنع الله عن وفاء ما وعد، فذلك عجز وخلف في الوعد، فنعوذ باللَّه من السرف في القول، والزيغ عن الحق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ... (6) يعني: القرآن. (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ). قال الحسن: قوله: يَا أَيُّهَا الذي تدعي أنه نزل عليه الذكر: إنك لمجنون؛ فيما تدعي من نزول الذكر، هو على الإضمار الذي قال الحسن، وإلا في الظاهر متناقض؛ لأنهم كانوا لا يقرون بنزول الذكر عليه؛ لأنهم لو أقروا نزول الذكر عليه لكان قولهم متناقضا فاسدًا. (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) سموه مجنونًا، والذي حملهم على تسميتهم إياه مجنونًا وجوه: أحدها: أنهم لما رأوه أنه قد أظهر الخلاف لذوي العقول منهم والأفهام، والدعاء إلى غير ما هم فيه؛ فرأوا أنه ليس يخالف أهل العقول والفهم إلا بجنون به؛ فسموه مجنونًا. والثاني: رأوه قد أظهر الخلاف للفراعنة والجبابرة، الذين كانت عادتهم القتل والهلاك من أظهر الخلاف لهم؛ في أمر من أمورهم الدنياوية؛ فكيف من أظهر الخلاف لهم، في الدِّين؟ فظنوا أنه ليس يخالفهم، ولا يخاطر بنفسه وروحه إلا لجنون فيه. والثالث: قالوا ذلك لما رأوه؛ كان يتغير لونه عند نزول الوحي عليه؛ فظنوا أن ذلك لآفة فيه، ومن تأمل حقيقة ذلك علم أن من قرفه بالجنون فيه هو المجنون لا هو؛ حيث قال: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ. . .) الآية، وقال: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)، أخبر أنهم لو تفكروا عرفوا أنه ليس به جنة، ولكن عن معاندة ومكابرة؛ يقولون؛ وجهل، وسموه مرة ساحرًا؛ فذلك تناقض في القول؛ لأنه لا يسمى ساحرًا إلا لفضل بصر وعلم؛ فذلك تناقض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) تأويله - واللَّه أعلم - يقولون له: إنك تزعم أن الملائكة يأتونك بالوحي، فهلا أظهرت

(8)

لنا إذا أتوك؛ فننظر إليهم ملائكة هم - على ما تزعم - أم شياطين؟ وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو ما تأتينا بالملائكة فيشهدون أنك رسول اللَّه، وأنك أرسلت على ما تدعي من الرسالة؛ فقال: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ ... (8) إلا بالموت، (وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أنْ ليس في وسع البشر رؤية الملائكة على صورتهم؛ فقال: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ): إلا بالموت، لو رأوا لماتوا؛ لما لم يجعل في وسعهم رؤية الملائكة، وهو كقوله: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ. . .) الآية، أخبر أنه لو أنزل عليهم الملك - لماتوا؛ إذ ليس في وسعهم رؤية أن ملائكة على صورتهم، ثم أخبر أيضًا أنه لو جعله ملكًا لجعله رجلا، ويكون في ذلك لبس على أُولَئِكَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ): أي: إلا بالحجج والآيات والبراهين على الرسل، وعلى من هو أهل لذلك، ليس على كل أحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا بِالْحَقِّ): أي: إلا بالعذاب الذي يكون فيه هلاكهم، وهكذا إن الملائكة لا تنزل إلا بالعذاب الذي فيه هلاكهم أو بالحجج والبراهين. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ... (9) يعني القرآن وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) حتى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفيما وكل الحفظ إلى نفسه؛ لم يقدر أحد من الطاعنين مع كثرتهم منذ نزل موضع الطعن فيه، وذلك يدل أنه سماوي، وأنه محفوظ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ): أي: محمدًا عليه أفضل الصلوات: أي: نحفظه بالذكر الذي أنزل عليه؛ كقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وكقوله: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي. . .) الآية. أخبر أنه إنما يهتدي بما يوحي إليه ربُّه، فعلى ذلك يحفظه بالقرآن الذي أنزل عليه. ويحتمل أن يكون الذكر: النبوة؛ أي: إنا نحن نزلنا النبوة، وإنا له: أي:

(10)

لرسوله؛ لحافظون له: بالنبوة والرسالة. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ). قيل: في ملك الأولين. وقيل: في فرق الأولين. وقيل: في جماعات الأولين، وهو واحد. (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (11) يصبر رسوله على استهزاء قومه إياه، وأذاهم له. يقول - واللَّه أعلم -: لست أنت المخصوص بهذا، ولكن لك شركاء وأصحاب في ذلك؛ ليخف ذلك عليه ويهون؛ لأن العرف في الخلق أن من كان له شركاء وأصحاب في شدة أصابته أو بلاء يصيبه - كان ذلك أيسر عليه، وأهون من أن يكون مخصوصًا به، من بين سائر الخلائق. واللَّه أعلم. كان هذه الآية صلة قولهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ)، فكأنه لما سمع هذا اشتد عليه، وضاق صدره بذلك؛ فعند ذلك قال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. . .) إلى آخره، يصبره على أذاهم وهزئهم به؛ فإنما يشتد عليه ذلك؛ على قدر شفقته ونصيحته لهم، وكان بلغ نصيحته وشفقته لهم ما ذكر: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، كادت نفسه تهلك، أو ذكر هذا له لما أن هَؤُلَاءِ - أعني قومه - إنما استهزءوا به تقليدًا لآبائهم، واستهزاء بهم وتلقنوا منهم، لا أنهم أنشئوا ذلك من أنفسهم، وأُولَئِكَ - أعني: الأوائل - إنما استهزءوا برسلهم، لا تقليدًا بأحد، ولكن إنشاء من ذات أنفسهم، فمن استهزأ بآخر فشتمه تقليدًا واقتداء وتلقنًا - كان ذلك أيسر عليه وأخف ممن فعل به من ذاته؛ لأنه إنما يلقن المجانين والصبيان ومن به آفة، بمثل ذلك؛ فهم الذين يعملون بالتلقين، وأما العقلاء السالمون عن الآفات - فلا، فذلك أهون عليه من استهزاء أُولَئِكَ برسلهم واللَّه أعلم.

(12)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: كذلك نسلك التكذيب والاستهزاء في قلوب المجرمين؛ لا يؤمنون به، يقول: من حكم اللَّه أن يسلك التكذيب في قلب من اختار التكذيب وكذبه، ومن حكمه أن يسلك التصديق في قلب من صدقه واختاره؛ كقوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وكقوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (كَذَلِكَ) نجعل الكفر والتكذيب (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) بكفرهم؛ كقوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ. . .) الآية، وقوله: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)، ونحوه. ويحتمل قوله: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) الحجج والآيات؛ ليكون تكذيبهم وردهم الآيات والحجج، وتكذيبهم تكذيب عناد ومكابرة، لا يؤمنون به. وقوله: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي: مثل الذي سلكنا في قلوب المؤمنين؛ من قبول الآيات والحجج، والتصديق لها؛ لما علم أنهم يختارون ذلك - نسلك في قلوب المجرمين؛ من تكذيب الآيات والحجج وردها؛ لما علم منهم الرد والتكذيب لها. هذا يحتمل، ويحتمل غير هذا مما ذكرنا. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) يحتمل قوله: (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) بالتكذيب، والرد، والمعاندة، والمكابرة، بعد قيام الحجج والآيات. ويحئمل: (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ): الهلاك والاستئصال عند مكابرة حجج اللَّه، ومعاندتهم إياها. وقال بعض أهل التأويل: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ) أي: نجعله؛ على ما ذكرنا، الكفر بالعذاب (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ)، (لَا يُؤمِنُونَ بِه) أي: لا يصدقون بالعذاب (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) بالتكذيب لرسلهم بالعذاب، فهَؤُلَاءِ يستنون بسنتهم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ): أي: ندخله؛ يقال: السالك: الداخل، والسلوك: الدخول، وسلكت أدخلت، وتصديقه: قوله: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ).

(14)

وقال: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي: أدخل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن سفههم وعنادهم في سؤالهم الآيات؛ وطلب نزول الملائكة بقوله: (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) يقول: إن سؤالهم الآيات؛ وما سألوا متعنتين مكابرين؛ ليسوا هم بمسترشدين، لكن أهل الإسلام لا يعرفون تعنتهم بالذكر؛ حيث قال: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ. . .) الآية، ثم قال: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)، وذلك أن المؤمنين كانوا يشفعون لهم بسؤالهم الآيات لعلهم يؤمنون؛ فأخبر: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) وفعلى ذلك قوله: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) يخبر أنهم بسؤالهم نزول الملائكة؛ معاندين مكابرين - ليسوا بمسترشدين. ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ): يعني على الملائكة بابا حتى رأوا، وعاينوا الملائكة ينزلون من السماء ويصعدون؛ فلا يؤمنون؛ وقالوا: (إنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) وقيل: حيرت وسدت، (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ): أي: سحرت أعيننا؛ فلا نرى ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ) أي: لهم (بَابًا مِنَ السَّمَاءِ) وكقوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) أي: للنصب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَظَلُّوا فِيهِ) حتى (يَعْرُجُونَ) فيه ويعاينون نزول الآيات ويشاهدون كل شيء (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) ويؤيس رسوله وأصحابه عن إيمانهم، وقوله تعالى: (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) يقولون ذلك لشدة تعنتهم وسفههم، وينكرون معاينة ذلك. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا

(16)

أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا (16) قيل: نجومًا، ويحتمل البروج: المنازل التي ينزل فيها الشمس والقمر والنجوم، جعل لكل واحد من ذلك منزلا، ينزل في كل ليلة في منزل على حدة. ويحتمل ما ذكر من البروج: هي مطالع ما ذكر من الشمس والقمر والنجوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) يعني السماء للناظرين. وفي قوله: (وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) دلالة نقض قول من ينهى عن النظر إلى السماء من القراء؛ لأنه أخبر أنه زينها للناظرين، ولا يحتمل أن يزينها للناظرين، ثم ينهى عن النظر إليها، دل أنه لا بأس أللناظرين، وقال في آية أخرى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا. . .) الآية، وقال في موضع آخر: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ)، وجعل اللَّه في الشمس والقمر والنجوم منافع: يهتدون بها الطرق في ظلمات الليل، وجعلها مصابيح في الظلمات، وأخبر أنه زينها للناظرين؛ لأن ما يقبح في العين من المنظر لا يتفكر الناظر فيه ولا ينظر إليه؛ فزينها لهم؛ ليحملهم ذلك على التفكر فيه، والنظر إليها؛ ليعلموا أنه تدبير واحد؛ حيث جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض؛ مع بعد ما بينهما، وجعل أشياء هي في الظاهر أشباهًا؛ وهي في الحقيقة كالأضداد لها، ومنها ما هي في الظاهر أضداد، وهي كالأشكال؛ نحو النور والظلمة: هي في الظاهر أضداد، صارت كالأشكال؛ حيث تضيء النجوم في ظلمات الليل؛ حتى ينتفع بذلك أهل الأرض، وهما في الظاهر أضداد، فصارت بما يظهر من منافعها كالأشكال، وجعل لا ينتفع بضوء النجوم مع نور القمر، ولا ينتفع بنور القمر مع ضوء الشمس، وهن أشكال؛ فصارت بما يذهب كل واحد منهما بسلطان الآخر؛

(17)

كالأضداد ليعلم أنه تدبير واحد؛ حيث صارت الأضداد كالأشكال، والأشكال كالأضداد في حق المنفعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَفِظْنَاهَا ... (17) يعني: السماء، (مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) ذكر أن الشياطين كانوا يصعدون السماء فيستمعون من أخبار السماء من الملائكة، مما يكون في الأرض؛ من غيث وغيره، ثم زادوا فيها ما شاءوا فيلقون ذلك إلى الكهنة؛ فيخبر الكهنة الناس، فيقولون: ألم نخبركم بالمطر في يوم كذا وكذا، وكان حقا، ثم منعوا عن ذلك - عن صعودهم - أعني السماء، وحفظوا عنهم، فجعلوا يسترقون السمع، فسلط اللَّه الشهب عليهم، حتى يقذفون؛ وهو قوله: (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا). وقوله: (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ). ويحتمل (وَحَفِظْنَاهَا): أي: أهلها من الشيطان الرجيم لما ذكرنا من ذكر أشياء من القرية والمصر والعير، وغيره، والمراد منه: أهله، فعلى ذلك هذا، إلا أن أهل السماء بأجمعهم أهل ولاية اللَّه؛ وأهل طاعته، وأما أهل الأرض: ففيهم من الغاوين الضالين، فهم أولياء الشيطان؛ كقوله: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ. . .) الآية. ويحتمل حفظ السماء نفسها: بالملائكة، وهو ما ذكر: (وَيُقْذَفُونَ. . .) الآية. ويحتمل: بالشهب؛ التي في غير آي من القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَجِيمٍ): اللعين، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود: (من كل شيطان لعين) واللعين: - في اللغة -: فهو المطرود المبعد، وهو على ما ذكر (دُحُورًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ... (19) وقال في، آية أخرى: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) يعني الجبال، في ظاهر هذا أن الأرض كأنها تضطرب وتنكفئ بأهلها، فأثبتها بالجبال، وإلا من طبعها التسفل والانحدار، وكذلك الجبال من طبعها التسفل والانحدار، فكيف كان ثباتها بشيء كان طبعه التسفل والتسرب؟ إلا أن يقال: إن طبعها كان الاضطراب والانكفاء فأثبتها بالجبال عن الاضطراب والانكفاء؛ أو أن يقال: من طبعها ما ذكرنا: التسفل والانحدار؛ إلا أن اللَّه - بلطفه - أثبت ما هو طبعه التسفل، بما هو طبعه كذلك؛ ليعلم لطف الله وقدرته، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (فِيهَا): يعني في الجبال، (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ): يعني: ما يوزن من نحو: الذهب، والفضة، والحديد، والرصاص، ونحوه مما يستخرج منها، وهذا كأنه ليس بصحيح؛ لأنه لا يقال في الذهب، والفضة والحديد: إنه أنبت في الأرض؛ كما يقال ذلك لنبات وما ينبت فيها، وإنما يقال للذهب، والفضة، والحديد: جعلنا فيها، أو خلقنا فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا): يعني: في الأرض؛ من كل ألوان النبات، (مَوْزُونٍ): أي: معلوم مقدر بقدر؛ كقوله: (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). ويحتمل: وأنبتنا فيها ما يصير موزونًا في الآخرة من الزروع وغيرها من الحبوب، أو ما ذكرنا؛ أي: معلوم مقدر، واللَّه أعلم، ليس على الجزاف؛ على ما يكون من فعل جاهل على غير تدبير ولا تقدير. ويحتمل قوله: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ): ما لو اجتمع الخلائق - لم يعرفوا قدر ما يزداد وينمو من النبات؛ في لحظة واحدة؛ وطرفة عين، في أول ما يخرج ويبدو من الأرض، وذلك موزون عنده؛ معلوم قدره، ليعلم لطفه، وقدرته، وتدبيره، وعلمه، وأنه تدبير واحد؛ حيث لم يختلف ذلك؛ ولم يتفاوت. واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَظَلُّوا فِيهِ): أيْ صاروا يومهم (يَعْرُجُونَ): يرتفعون ويصعدون. وقال غيره: ظلوا: أي: [مالوا]، كقوله: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)، أي: مالت، وقال: قوله: (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا): أي تحيرت؛ يقال: تسكر بصره: إذا تحير، وقال: يقال أيضًا تحيرت، يقال: سكر اللَّه بصره: أي: حيره، وسكرت الريح تسكر سكرًا: إذا سكنت، ويقال: ليل ساكر، أي: ساكن، وسكرت الماء أسكره سكرًا: أي: حبسته،

(18)

والسكر: السد، والسكور جمع، والسكر: مصدر سكر يسكر سكرًا؛ فهو سكران، وقوم سكرى وسكارى، والسكرة: الغمرة، والغمرة: الشدة، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، أي: شدته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: سكرت: غشيت، ومنه يقال: سكر النهر: إذا سدّ، فالسكر اسم ما سكرت، وسكر الشراب منه؛ إنما هو الغطاء على العقل والعين. وقال الحسن: سكرت - بالتخفيف -: سحرت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (بُرُوجًا): قال: اثنا عشر برجًا، وأصل البرج الحصن والقصر وقوله: (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) يقول: حفظناها من أن يصل إليها شيطان أو يعلم من أمرها شيئًا إلا استراقًا، ثم يتبعه شهاب مبين: أي: كوكب مضيء. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ (18) يقال: استرقت السمع: أي: تغفلت قومًا حتى سمعت حديثهم؛ وهم لا يعلمون، وهكذا لو علم الملائكة أن الشياطين يسترقون السمع، ويختطفون - لمنعوا من ذلك، وامتنعوا عن التكلم به؛ حتى لا يستمعون كلامهم، وحديثهم. و (شِهَابًا): كوكب، وقيل: الشهاب: خشبة في طرفها نار، والشهبان جماعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (شِهَابٌ مُبِينٌ) لرسول اللَّه كان له خاصةً لم يكن قبل واللَّه أعلم. وقوله: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ... (20) أي: في الأرض والجبال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ). قال الحسن: أي: جعلنا لكم في الأرض معايش ما تتعيشون به، ولمن حولكم أيضًا، جعل فيها معايش، لا ترزقونه أنتم؛ إنما ذلك على اللَّه، هو يرزقهم وإياكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ): الوحوش والطير، وأما الأنعام: فإنه قد أشركهم البشر في المعايش، وكان غير هذا أقرب وأوفق: وهو أن أهل مكة كانوا يمنون على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويقولون: نحن ربيناه، وغذيناه، وأنفقنا عليه، ورزقناه؛ ثم فعل بنا كذا، فخرج هذا جوابًا لهم: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) أي: محمدًا.

(21)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) يحتمل هذا - واللَّه أعلم -: وإن من شيء يخزن في الخلق - إلا عندنا خزائنه؛ أي: إلا عندنا تلك الخزائن؛ أي: ما تخزنون من الأشياء، فتلك عندنا وفي خزائننا. (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). على هذا (وَمَا نُنَزِّلُهُ): أي: ما نعطيه (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ): أي: وإن كان عندكم مخزونًا محبوسًا - فإن ذلك كله في خزائنه، أعطى من شاء، وحرم من شاء. ويحتمل قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) والخزائن: هي الأمكنة الخفية التي تخزن فيها الأموال، وبواطن من الأرض، يقول - واللَّه أعلم -: وإن من شيء كان في بواطن الأرض، وأمكنة خفية - إلا عندنا تدبير ذلك وعلمه، يخبر أن تدبيره وعلمه فيِ الخفية من الأمكنة - كهو في الظاهر؛ لا يخرج شيء عن تدبيره وعلمه، بل كل ذلك في تدبيره وعلمه. وقال الحسن: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ): أي: الماء الذي جعل به حياة كل شيء، ولا يخرج شيء عن منافعه، فهو خزائن الأشياء كلها، وبه قوام كل شيء، وقال: ألا ترى أنه قال: (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)، ذكر الإنزال: وهو الذي ينزل من السماء طاهرًا. هذا الذي قاله محتمل، لكن تمامه أن يقال: إن الماء خزانة، والخزانة: هي الموضع الذي يخزن فيه، وفي الماء قوة ومعنى؛ يكون فيه حياة الخلق، ومنافعهم، فيما جعل فيه لا في نفس الماء، ألا ترى أنه يصيب عروق الشجر؛ فتظهر منافعه في غصونها؛ في أعلاها؛ فثبت أن فيه قوة سرية، ومعنى يكون المنافع بها لا بنفس الماء، واللَّه أعلم بذلك. ثم ما ذكر من الخزائن، والرياح، والماء، والمطر، وغير ذلك من النعم؛ يذكر على الاحتجاج عليهم؛ لأنه إنما أنشأ هذه الأشياء، وخلقها لهَؤُلَاءِ، لا أنه أنشأها لنفسها، فإذا كان أنشأها لهم - فلا يحتمل أن يتركهم سدى؛ لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم ولا يجعل لهم عاقبة يثابون أو يعاقبون؛ ولذلك قال في آخره: (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ).

(22)

وقوله: (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) على التأويل الأول: ما ذكرنا، أي: ما نعطيه إلا بقدر معلوم؛ وإن خزنه وحبسه. ويحتمل: (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي: بقدر سابق معلوم، ذلك إن كان على هذا - فإنه يدل على أن ما يكون ويحدث - إنما يكون لقدر سابق؛ لا يكون غير ما سبق تقديره. أو (بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) محدود؛ أي: ليس ينزل جزافًا، ولكن معلومًا محدودًا. والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَوَاقِحَ): حوامل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا لا يصح، لو كان على هذا - لكان ملاقح وملقحات. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (لَوَاقِحَ) تلقح الشجر: أي: تنبت ورقها وهي ملقحة، وقال: يقال: ناقة لاقح: أي: حامل قد حملت، ونوق لواقح، ويقال: حرب لاقح: أي: شديدة، وسحاب لاقح: الذي فيه ماء - أي: مطر - وريح لاقح: أي: ملقح تلقح الشجر؛ أي: تنبت ورقه وحمله، ويقال: ملقح، ويقال: ألقح الرجل إذا لقحت إبله؛ أي: حملت، ورجل ملقح، واللقوح: الناقة التي معها ولد صغير، والجمع: لقاح، وجمع الجمع: لقائح، واللقح: اللواقح؛ وهي الحوامل من الإبل. قَالَ الْقُتَبِيُّ: قال أبو عبيدة: (لَوَاقِحَ): إنما هي ملاقح؛ جمع ملقحة، يريد أنها تلقح الشجر، وتلقح السحاب؛ كأنها تنتجه، واللواقح: المنتجة الثمار من الأشجار، والسحاب، وغيره. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ). هو ما ذكرنا على التأويل في قوله: (فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ)، وعلى تأويل الحسن: هو ما ذكر من الماء والمطر. (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ): أي: حابسين لما جرى به الذكر؛ من المطر والماء؛ الذي ذكر أنه أنزل من السماء. ويحتمل (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ) أي: لله (بِخَازِنِينَ): أي: ليست خزائنه في أيديكم؛ ولا بيد أحد، ولكن بيد اللَّه، عَزَّ وَجَلَّ. وعلى تأويل الآخر: (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ): بمدبرين ما خزن في الأرض ودفن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)

(24)

أي: الباقون، يفنى الخلقُ كله؛ فيبقى هو، ولذلك سمي من خلف الميت وارثًا؛ لأنه يموت ويبقى الوارث؛ وهو باقٍ وكذلك يخرج قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) قَالَ بَعْضُهُمْ: ولقد علمنا المستقدمين من المكذبين منكم؛ ما حل بهم بالتكذيب، وقد علمنا المستأخرين من المكذبين منكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ولقد علمنا من كان منهم ومات، وقد علمنا المستأخرين: من يكون منهم ويولد؛ ولذلك قال: (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ): من مضى ومن بقي لم يكن بعد؛ إلى يوم القيامة. وقال الحسن: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) وفي الخير (الْمُسْتَأْخِرِينَ) في الشّر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في القرن الأول والآخر، لكنه بعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) الحكيم: هو الذي يضع الأشياء مواضعها. والثاني: هو الذي يجعل الأشياء مواضعها، فالأول قد يعرف الخلق وضع الأشياء مواضعها، وأما الثاني: فلا يكون ذلك إلا باللَّه. وقوله: (عَلِيمٌ): عليم بمصالح الخلق، ومالهم وما عليهم. أو عليم بوضع الأشياء مواضعها. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ

(26)

خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وقال في آية آخرى: (خَلَقَكُم مِنْ طِينٍ)، وقال: (مِنْ طِينٍ لَازِبٍ)، وقال في آية أخرى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ)، وقال: (خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، ذكر مرة الحمأ المسنون؛ وقيل: هو الطين الأسود المتغير، وذكر مرة التراب، ومرة الطين اللازب: وهو الملتزق، ومرة من سلالة الطين، فيشبه أن يكون على الأحوال، واختلاف الأوقات: كان في حال الأول ترابًا، وفي حال طينًا لازبًا، وفي حال حمأ مسنونًا؛ وهو الذي اسودَّ وتغير؛ لطول مكثه، وصلصالا وفخارًا. فقبل أن يكون خلقًا مركبًا الجوارح فيه والعظام - كان على هذه الأحوال الثلاثة على ما أخبر من تغير أحوال أولاده؛ حيث قال: (خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ)، ذكر فيه أحوالا ثلاثة قبل أن يخلق لحمًا وعظمًا، في حال كان نطفة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة. فعلى ذلك يحتمل ما ذكر في آدم: من تراب، وطين، وحمأ ونحوه، إن كان على اختلاف الأحوال على ما ذكرنا. أو أن يكون على التشبيه والتمثيل، ووجه التمثيل بالطين: الذي ذكر؛ وهو أن الطين الذي يكون كالصلصال، والفخار، واللازب؛ ونحوه - هو الطين الطيب؛ الذي يكون منه البنيان، والأوانى، والقدور، وجميع أنواع المنافع. وأما الطين الذي يخبث - فإنه لا يتخذ منه شيء مما ذكرنا، ولا يتهيأ اتخاذ شيء من ذلك، فشبه خلق آدم بالطين الذي يجتمع فيه جميع أنواع المنافع، فعلى ذلك جمع في آدم جميع أنواع المنافع والخير، كالطين الطيب. ثم فيه دلالة قدرته، وسلطانه، وذكر نعمه؛ حيث أخبر أنه خلق آدم من تراب وطين؛

وما ذكر، وليس في التراب، ولا في الطين - من أثر البشرية - شيء، وكذلك ليس في النطفة التي خلق البشر منها من أثر البشرية شيء؛ ليعلم أنه قادر على إنشاء الأشياء من شيء، ومن لا شيء؛ إذ ليس فيما ذكر من الطين والتراب؛ الذي خلق منه أبا البشر من أثر البشرية فيه شيء، ولا في النطفة التي خلق منها أولاده؛ من أثر البشرية والإنسانية من اللحم، والعظم، والشعر، وغيره، وما ركب فيهم: من العقل، والعلم، والتدبير، والجوارح، وغير ذلك - شيء؛ ليعلم قدرته وسلطانه على خلق الأشياء: لا من شيء؛ وليعرفوا نعمه التي أنعمها عليهم؛ حيث أخبر أنه خلق آدم من طين لازب، وصلصال، وما ذكر، وذلك وصف الطين الطيب؛ لأن ما خبث من الطين لا يبلغ المبلغ الذي وصفه، ولا يصير إلى تلك الحال، وإن طال مكثه؛ لأنه لا ينتفع به لا من اتخاذ البنيان، والأواني، والقدور، ولا ينبت الزروع أيضًا، فيحتمل على التمثيل الذي ذكرنا لا على التحقيق، أو على التحقيق على الأحوال المختلفة. فدل أنه إنما خلقه من طين لازب؛ طاب أصله. فعلى ذلك يحتمل النطفة التي يخلق منها البشر تكون طاهرة، وهي لا تصيب شيئًا، وهي على غير الوصف الذي يخرج؛ لأنه قال: (مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ)، وقال: (مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ). والصلصال: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو التراب اليابس. والحمأ: الطين الأسود. والمسنون: المنتن المتغير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصلصال: هو الذي إذا ضربته تصوت؛ ومنه يقال: صلصلة اللجام والفرس؛ إذا كان يصلصل؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصلصال: الطين اليابس الذي لا يصيبه النار؛ فإذا نَقَرْتَهُ صوّت، فإذا مسته النار - فهو فخار: والمسنون: المتغير الرائحة، والمسنون -أيضًا-: المصبوب، وسننت الشيء: إذا صببته صبًّا سهلا، وسنّ الماء على وجهك، وهو قول الْقُتَبِيّ.

(27)

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ): الحمأ: التراب الأسود يكون في أسفل البئر، ومن هذا سمي الحمي؛ لأنه يحمي أن يرعى، ويقال: حميت الحرب، والشمس، والتنور، يحمى: إذا اشتد حره. ومسنون: أي: مخلوق. وقال الحسن: المسنون: الذي سن عليه خلقة الخلق؛ يعني أولاده على خلقته؛ أي: على خلقته خلق الخلق، وأمثال هذا. واللَّه أعلم بذلك. وقوله تعالى: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) قَالَ بَعْضُهُمْ: الجان: هو إبليس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجان: هو أبو الجن، وإبليس: هو أبو الشياطين؛ سقوا شياطين لتمردهم في فعلهم، ذلك مقتدر من فعلهم، ألا ترى أنه ذكر من الإنس والجن شياطين؛ وهو قوله: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) وذلك لتمردهم، والجان مقتدر عن الجن. واللَّه أعلم بذلك. والسموم: قَالَ بَعْضُهُمْ: السموم: لهب النار؛ وليس له دخان؛ وهو المارج من نار، والمارج هو المنقطع منها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من جنس النار؛ كأنه أراد لهبها، وقال: (مِنْ نَارِ السَّمُومِ): الحارَّة التي تقتل، فإذا كان السموم، والمارج - ما ذكر بعضهم أنه لهب النار - فمن طبعه الارتفاع والعلو، فعلى ذلك ما خلق منه طبعه الارتفاع والعلو؛ وهو الجانّ الذي ذكر، والطين طبعه التسفل والانحدار إلى الأرض؛ فعلى ذلك ما خلق منه طبعه الهوى إلى الأرض، والميل إليها. والجانّ: قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجن: واحدُ الجان، والجمع: جان؛ سمي ذلك لاستجنانه. وقال غيره: الجن: الجماعة، والجانّ الواحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ (29) أي أتممته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وقال في آية أخرى: (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا).

(30)

لم يشتبه هذا على الناس، ولم يفهموا أمن قوله: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)، (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)، ما فهموا من نفخ الخلق، فما بالهم فهموا من قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، و (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، ونحوه - استواء الخلق؟ بل فهم نفخه من فهم نفخ الخلق أكثر من استوائه؛ لأنه أمكن صرف الاستواء إلى وجوه؛ ولا يمكن صرف النفخ فيه، لكنه اشتبه عليهم؛ لأنهم اقتدروا فعل اللَّه بفعل الخلق، ولا يجب أن يقتدروا بالخلق على ما لم يقتدروا في قوله: حدود اللَّه، وحكم اللَّه، وعباد اللَّه، وخلق اللَّه، وأمثاله. وقد أخبر أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، أو تلقين من الشيطان. وقوله: (رُوحِي) (رُوحِنَا) أي: الروح الذي به حياة الخلق؛ أي: خلق الذي يكون به حياة الخلق على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ). يحتمل أن يكون قوله: (خَالِقٌ بَشَرًا) ما ذكر خبر أنه سيفعل، وأمر لهم بالسجود؛ فيكون الأمر بالسجود بعد ما خلقه إياه، فهذا يدل أنه قد يجوز تقدم الأمر عن وقت الفعل. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) ظاهر الأمر بالسجود؛ والاستثناء - الذي ذكر - يدل أن إبليس من الملائكة؛ لأن فيهم كان الأمر بالسجود، ومنهم وقع الثنيا، وقد ذكرنا اختلافهم وأقاويلهم فيما تقدم؛ مقدار ما حفظناه. قال: والأصل بأن كل ما خرج مخرج الاستثناء - فيجب أن يسقط اسم ما أجمل؛ نحو قول الرجل الآخر: لك علي عشرة إلا درهمًا، يسقط الاستثناء ما أجمل من الاسم حتى صار تسعة، وكذلك إذا قال: ألف إلا خمسين، وإذا لم يسقط ذلك الاسم - فلابد أن يكون الكل فيه مضمرًا؛ نحو قول الرجل: رأيت علماء بلدة كذا إلا فلانًا - يجب أن يضمر فيه حرف الكل، حتى يقع على كل؛ نحو أن يقول: رأيت كل علماء بلدة كذا إلا

(31)

فلانًا، فعلى ذلك تخصيص العموم. وقال الحسن: في قوله: (مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: الصلصال: هو الطين الحر الذي يتصلصل من صلابته ويبوسته، والحمأ الطين، والمسنون: قال: مسنون خلقته؛ فهو سنة للخلق بعده من ذريته؛ أن يخلقوا على خلقته؛ وكقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ)، يقول: استلها من بين ظَهراني الطين؛ لا من كل طين خلقه، وكذلك قال في تناسل ذريته؛ وهو قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) ليس من كل ما؛ خلقه؛ ولكن استلها من بين ظهراني الماء. وقال: الجانّ: إبليس؛ هو أبو الجن (خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ): أي: من قبل آدم (مِنْ نَارِ السَّمُومِ): يقول: السموم: هو اسم من أسماء جهنم، ولها أسماء كثيرة، أخبر أنه خلقه من نار السموم؛ أي: جهنم. والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) (قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وقال في موضع آخر: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ) وقال له: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)، وقال في موضع آخر: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)، وقال في موضع آخر (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ)، وقال في موضع آخر: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). ذكر مثل هذا على اختلاف الألفاظ، ومعلوم أن هذه المخاطبات معه - لم تكن معه مرارًا؛ ولكن بمرة واحدة. وقال أبو بكر الأصم: ذكر اللَّه تعالى قصة إبليس، وقصة الأنبياء جميعًا في مواضع على اختلاف الألفاظ؛ لأنها كذلك كانت في كتبهم، فذكرها على ما في كتبهم؛ ليعلموا أن نبي اللَّه إنما عرف ذلك باللَّه؛ ليدلهم على صدقه، وفيه دلالة أن اختلاف الألفاظ وتغييرها - لا يوجب اختلاف الحكم بعد ألا يغير المعنى، فهذا يدل أن الخبر إذا أُدِّي معناه على اختلاف لفظه - فإنه يجوز، وكذلك إذا قرأ بغير لسان الذي أنزل - فإنه يجوز إذا أتى بمعناه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) قوله: (فَاخْرُجْ مِنْهَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: اخرج من السماء إلى الأرض. وقَالَ بَعْضُهُمْ:

(35)

اخرج من الأرض إلى جزائر البحر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اخرج من الجنة، وأمثاله أو اخرج من صورة الملائكة إلى صورة الأبالسة، وجائز أن يقال: اخرج من كذا: أي: تحول من مكان كذا إلى مكان كذا على حقيقة الخروج، ولسنا ندري كيف كان كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَجِيم) قيل: الرجيم: الملعون. وقيل: الرجيم: ما يرجم بالكواكب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)] اللعنة: هي الطرد - في اللغة - والخذلان، طرد عن رحمته إلى يوم الدِّين، حتى لا يهتدي إلى دين اللَّه وهداه، ثم يوم الدِّين له العذاب الدائم واللعنة القائمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) لعن اللعين، وطرد عن رحمته إلى يوم الدِّين؛ أي: لا تدركه الهداية؛ لأن الهداية في الدنيا إنما تدركه برحمته، والرحمة في الآخرة هي العفو عما لزمه؛ ووجب عليه. مسألة تكلموا فيها: ما الحكمة في خلق اللَّه تعالى إبليس؛ مع علمه ما يكون منه: من إفساد خلقه، والدعاء إلى المعاصي، وإنظاره إلى يوم الوقت المعلوم؛ وقد علم أنه إنما ينظره؛ ليفسد عباده، فمع ما علم أنه يكون منه فما الحكمة في خلقه؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: خلق إبليس وأهل المعاصي؛ مع علمه ذلك؛ ليعلم أنه لم يخلق لمنافع نفسه، ولا لحاجة نفسه، وأن معاصيه لا تضره، ولا تدخل نقصانا في ملكه، فخلقه - مع علمه بما يكون منه - ليعلم أنه لم يخلق الخلق لمنافع نفسه ولا لحاجته، ولكن لمنافع أنفسهم ولحاجاتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلق الأعداء والأولياء؛ نظرًا للأولياء؛ ليعلم أولياؤه الاختصاص الذي اختصهم به، ولو كانوا جميعًا أولياءه - لم يعرفوا فضيلة اللَّه؛ واختصاصه إياهم، وهكذا النعم وإحسان اللَّه، لا يعرف بنفس النعم ونفس الإحسان؛ وإنما يعرف بالبلايا والشدائد التي تحل، فعلى ذلك الأولياء: لو لم يكن الأعداء لم يعرفوا اختصاص الله

(37)

لهم، وفضائله التي أكرمهم بها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلق الأعداء نظرًا للأولياء على ما ذكرنا، لكن من وجه آخر، وأصله أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جائز أن ينشئ أشياء فيها حكمة وسرية؛ لا يبلغها علم الخلق، ولا يدركها حكمة البشر، على ما جعل النعم الظاهرة فيها - حكمة معنى لا يبلغه علم الخلق؛ ولا حكمة البشر، وكذلك البلايا والشدائد فيها حكمة لا يبلغها علم الخلق، فعلى ذلك جائز أن خلق إبليس، وعُصاة الخلق؛ لحكمة جعل في ذلك؛ حكمة لا يبلغها علم الخلق، ولا يدركها حكمة البشر، على ما ذكرنا: من النعمة الظاهرة؛ والشدائد الظاهرة، وأصله أن اللَّه تعالى خلق الخلق على علم منه أنهم يعصون؛ ويعاندون، لكن مكن لهم من الاختيار والإيثار - ما به نجاتهم وهلاكهم؛ إذا اختاروا ذلك، فإذا اختاروا ما به نجاتهم - نجوا، وإذا اختاروا ما به هلاكهم - هلكوا، فيكون هلاكهم باختيارهم، ونجاتهم باختيارهم. وأصله: ما ذكرنا في غير موضع؛ أنه أنشأهم في هذه الدنيا؛ ليمتحنهم فيها، وفي خلق ما ذكر: من إبليس؛ وغيره من الأعداء؛ ليتم لهم المحنة، وفي ترك خلق ذلك ذهاب المحنة؛ وهي دار الامتحان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قال بعض أهل التأويل: إلى النفخة الأولى وقيل: إلى النفخة الثانية، ونحوه. لكنا لا نعلم ذلك، وكأنه تعالى أنظره إلى الوقت المعلوم؛ ولم يبين له ذلك الوقت، ولم يطلعه عليه؛ حيث قال: (وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ. . .) أخبر أنه يرى ما لا يرون هم، وأنه يخاف اللَّه، ولو كان بيّن له الوقت المعلوم - لكان لا يخاف هلاكه قبل ذلك الوقت، فهذا يدل على ما ذكرنا. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ... (39) قال الحسن: قوله: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي): أي: لعنتني. وهذا منه احتيال وفرار عن مذهب

الاعتزال، وما يلزمهم في قوله: (أَغْوَيْتَنِي) يلزم في قوله: لعنتني؛ لأن اللعن: هو الطرد؛ فإذا طرده عن رحمته - فقد خذله، فالطرد والإغواء والإضلال سواء؛ فيلزم في اللعن ما يلزمهم في الإغواء. وقال أبو بكر الأصم: الإغواء واللعن من اللَّه: شتم، لكن هذا بعيد، لا يجوز أن يضاف إلى اللَّه الشتم أنه يشتم؛ لأن الشاتم والساب لآخر - في الشاهد بما يشتمه - مذموم عند الخلق؛ فلا يجوز أن يضاف إلى اللَّه ما به يذم. وأصله: أن قوله: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) يحتمل أنه خلق فعل الغواية منه أو أغواه؛ لما علم أنه يختار الغواية والضلال. وقوله: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ): كأنه يقول: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزيدن لهم في الغواية بما أغويهم، وقد ذكرنا هذا وأمثاله فيما تقدم. فَإِنْ قِيلَ: قوله: (أَغْوَيْتَنِي) قول إبليس؛ وهو كاذب بالإضافة إليه. قيل: لو كان فيما أضاف إليه الإغواء كاذبًا لكذبه فيه، ورد عليه قوله، كما كذبه في قوله ورد عليه: أنا خير منه خلقتني من كذا وخلقته من كذا؛ حيث قال: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا)، فلما لم يرد عليه؛ ولم يكذبه فيما أضاف إليه حرف الإغواء دل أن إضافة الإغواء إليه، والإضلال حقيقة أو أن يكون قوله: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) إنما ذلك منه ذكر فضله وإحسانه؛ حيث أخبر أنه خلفه مما هو أفضل وأعظم مما خلق آدم؛ فيخرج ذلك منه مخرج الشكر. وأما قوله: (أَغْوَيْتَنِي) ليس على ذلك، فلا يحتمل ألا يكذبه، ولا يرد عليه قوله إذا كان كاذبًا فيه؛ لأنه فعل شر أضافه إليه، إذا لم يكن منه الإغواء؛ لذلك اختلفا، أو لو كان قول إبليس - لعنه اللَّه - كذبًا فما تصنعون بقول نوح - عليه السلام - حيث قال: (إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)، وقول موسى: (فَلَمََّا زَاغُوا أَزَاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُم). ثم قوله: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) يحتمل أن يكون منه عزم على ما ذكر، دون أن تفوّه بذلك، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عنه ما كان عزم؛ من الإغواء وغيره بالقول، وذلك جائز؛ يخبر عن العزم والقصد بالقول؛ كقوله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) لا يحتمل أن يكون هذا القول الذي أخبر عنهم قولا منهم؛ لأنه لا أحد من المتصدقين يقول بمثل ذلك عند

(40)

التصدق؛ لكنه إخبار عما قصدوا وعزموا، بالتصدق؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون هذا من اللَّه إخبارًا عما عزم إبليس وقصد؛ على غير التفوه به والقول، وهو ما ذكر (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ)، أخبر أنهم كتموا فيه وأضمروا. ويحتمل أن يكون على التفوه بما ذكر، قال ذلك؛ لما قال له - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) لما شهد اللَّه عليه باللعن إلى يوم الدِّين أيس - لعنه اللَّه - عن الهدى؛ فقال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي): أي: لعنتنى وشهدت عليَّ بذلك (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) المخلِص - بخفض اللام -: هو الذي أخلص له الاعتقاد، والعمل والوفاء، والمخلَص - بنصب اللام -: هو الذي أخلصه اللَّه، وحفظه، وعصمه، واختصه بذلك. والمخلص لا يقال إلا بعد أن يكون لله فيهم صنع، ولهم اختصاص، وفضائل اختصهم بذلك؛ برحمة اللَّه وفضله. والمعتزلة يقولون: لا يستوجب أحد الاختصاص والفضيلة إلا بفعل يكون منه لا يستوجب باللَّه. ويقولون: اللَّه لا يغوي أحدًا لا إبليس، ولا أحدًا من أتباعه؛ فإبليس أعرف باللَّه من المعتزلة؛ حيث رأوا أن اللَّه لا يغوي أحدًا ولا يختص أحدًا إلا بصنع يكون منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله (عَلَيَّ) بمعنى إفيَ: أي: عَلَيَّ صراط مستقيم؛ يقول: هو بيدي لا بيد أحد وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحق يرجع إلى اللَّه، وعليه طريقه لا يعوج على شيء. ويحتمل قوله: (عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ): أي: علي بيانه وهو مستقيم؛ كقوله: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ): أي: بيان قصد السبيل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لما قال إبليس: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) قال اللَّه تعالى: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) يقول: عَلَيَّ ممرّ من أغويته وتابعك؛ كقولك لآخر - إذا أوعدته -: إن طريقك عَلَيَّ. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ... (42) يحتمل قوله: (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) أي: ليس لك عليهم حجة (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ

(43)

الْغَاوِينَ) فإنهم يتبعونك بلا حجة ولا برهان. ويحتمل قوله: (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ): تقهرهم وتضطرهم على ذلك إلا من اتبعك من الغاوين؛ فإنهم يتبعونك على غير قهر واضطرار؛ أي: من كان في علم اللَّه أن يتبعك ويختار الغواية؛ وإن لم يكن إغواؤك إياه؛ فإن لك عليه سلطانًا. وقوله تعالى: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) أي: لموعد إبليس وأتباعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) يحتمل الأبواب المعروفة، ويحتمل الأبواب: الموارد والجهات التي تكون لها؛ ألا ترى أنه قال: (لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) فهذا يدل أن المراد بالأبواب: الموارد والدركات - لا نفس الأبواب؛ إذ جزء مقسوم إنما يكون للدركات؛ لا يكون للأبواب نفسها. قال الحسن، والأصم: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) يعنون بالأبواب: الطبقات والدركات، لكل باب منهم جزء مقسوم: لليهود باب، وللنصارى باب، وللمجوس باب، وللذين أشركوا باب، وللمنافقين باب، ولأهل الكبائر باب وذكر أيضًا بابًا لفريق أدخلوا أهل الكبائر فيها، والصابئين، والدهرية. وعندنا أن ظاهر الآية في الكافرين؛ لأنه قال: (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) والغاوون: هم الكافرون، وكذلك قوله: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ) فإذا كان كذلك؛ فالسبعة الأبواب - التي ذكر - كلها لأهل الكفر، لا يدخل أهل الكبائر فيه. ويحتمل: باب للمتجاهلة؛ وهم الذين ينكرون العالم الشاهد والغائب، لا يقرون بشيء، وباب للدهرية؛ وهم الذين ينكرون الصانع، وباب للثنوية، وهم الذين يقولون بالاثنين، وباب للذين أشركوا؛ وهم يقولون بالواحد؛ لكنهم يشركون فيه غيره؛ يعبدون الأصنام والأوثان، وباب لليهود، وباب للنصارى، وباب للمنافقين. فذلك سبعة أبواب، وليس لأهل الكبائر باب مسمى معلوم، إنما ذلك كله لأهل الكفر. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

(46)

إن كان أهل الكبائر في قوله: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) فيكون قوله: إن المتقين الذين اتقوا الكبائر؛ وإن كان أصحاب الكبائر لم يدخلوا في قوله: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ)، فيكون قوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) للذين اتقوا الشرك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي جَنَّاتٍ). أي: في: بساتين، والبساتين: هي التي التقت بالأشجار والنخيل. والعيون قد تكون جارية في الدنيا، وقد تكون غير جارية، فأخبر في آية أخرى بأن عيون الآخرة تكون جارية؛ بقوله: (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ). (وَعُيُونٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر العيون؛ ليعلم أن مياه الجنة - ليست تكون من الثلوج والأنهار العظام - على ما تكون في الدنيا - ولكن تنبع فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر العيون؛ لأنه ينبع في بستان كل أحد عين على حدة، لا يأتي بستانه من ملك آخر، ومن بستان آخر، على ما يكون في الدنيا؛ ولكن تنبع في جنة كل أحد عين على حدة، على ما أراد اللَّه، ليس أنها تتصل بالأرض؛ كما ذكر في قصّة بني إسرائيل: (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا)، أنشأ اللَّه في ذلك الحجر ما يخرج لهم على غير اتصاله بالأرض، ولكن بلطفه ينشئ فيه ماء، فعلى ذلك في الجنان التي وعد. ويشبه أن يكون ذكر هذا لما يختلف رغائب الناس في الدنيا: منهم من يرغب في العين؛ ويتلذذ بالنظر إليها، ومنهم من يرغب في النهر الجاري، فذكر مرة العيون، ومرة الأنهار؛ كقوله: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، على ما ذكر مرة الخيام، والقباب، والغرف، وأنواع الفرش والبسط، والكيزان والأكواب، والجواري والغلمان، وغير ذلك على ما يرغب الناس في الدنيا: منهم من يرغب في نوع لا يرغب في نوع آخر؛ فذكر فيها كل ما يرغبون في الدنيا؛ ليبعثهم ذلك على العمل الذي به يوصل إلى ذلك. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ): أي: اجعلوا دخولكم فيها بسلام؛ على ما أمرهم في الدنيا أن يجعلوا الدخول في المنازل بالسلام؛ كقوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا

(47)

عَلَى أَنْفُسِكُمْ. . .) الآية، وعلى ما أخبر أن الملائكة يسلمون عليهم؛ كقوله: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ)، وكقوله: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ): أي: ادخلوها بسلام لا يصيبكم مكروه؛ آمنين لا ينغصهم خوف ولا حزن، على ما أخبر (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: [ .... ]. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ (47) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي: نزعنا ما في صدورهم من غل؛ الذي كان في الدنيا بالكفر؛ فصاروا إخوانا بالإسلام الذي هداهم إليه؛ فكانوا إخوانًا، ثم قيل لهم: ادخلوا الجنة بلا غلٍّ، وهو ما قال: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا)، قد نزع من قلوبهم الغل في الدنيا، فصاروا إخوانا فدخلوا الجنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) وفي الآخرة إذا دخلوا الجنة وتقابلوا واتكئوا على سرر، فعند ذلك ينزع الغل من قلوبهم، والمظالم التي كانت بينهم، فإذا كان هذا فهو بين أهل الإسلام. وعلى ذلك يحتمل أن يكون كل من جفا آخر في الدنيا أن ينسى اللَّه ذلك منهم في الجنة؛ لأن ذكر الجفاء ينغص النعم التي فيها، وكذلك ما يكون بين الرجل وولده من الجفاء والعقوق - يجوز أن ينسى ذلك عليهم. وعلى ذلك ما روي عن عليٍّ رضي الله عنه؛ قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال اللَّه: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَقَابِلِينَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: يجعل اللَّه منازلهم بعضها مقابل بعض؛ فينظر بعضهم إلى بعض، ويزور بعضهم بعضًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يأمر اللَّه السرر التي هم عليها جلوس؛ ليكون بعضها مقابل بعض، إذا

(48)

اشتهى بعضهم زيارة بعض، ولا يكونون مدبرين؛ ولا معرضين، بل مقبلين، يخبر عن اجتماعهم في الآخرة في الشراب، وأنواع المطاعم على ما يستحسن في الدنيا الإخوان بينهم الاجتماع على الشراب والطعام، والتلذذ، والنظر بعضهم إلى بعض، فعلى ذلك أخبر أن لهم في الآخر كذلك اجتماع في الشراب، والنظر، وأنواع التلذذ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ (48) أي: عناء ومشقة، أخبر أنه لا عناء يمسهم كما يكون في الدنيا؛ لأن في الدنيا: من أطال المقام في موضع يمل عن ذلك ويسأم، وكذلك إذا أكثر من نوع من الطعام؛ أو الشراب، أو الفاكهة - يمل عن ذلك ويسأم، ويؤذيه، ولا يوافقه، فأخبر أن أهل الجنة لا يملون ولا يؤذيهم طعامها؛ وإن أكثروا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ). أخبر أنهم لا يخرجون منها، ولا هم يطلبون الخروج منها؛ كقوله: (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)؛ لأن خوف زوال النعم ينغص على صاحبها تلك النعمة، وطعمها؛ فأخبر أنهم فيها أبدًا، وتلك النعمة لهم دائمة غير زائلة عنهم واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) قَالَ بَعْضُهُمْ: (نَبِّئْ عِبَادِي) أي: أخبرهم (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) لمن استغفرني وتاب عما ارتكب من معاصيه، (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) لمن عصاني، ولم يستغفر، ولم يتب إليه. ويحتمل غير هذا؛ وهو أن يقول: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) لئلا ييئسوا من رحمتي، ولا يقنطوا مني، ولكن يرجون رحمته وعفوه، ويخافون عذابه ونقمته، ونبئهم أيضًا أن عذابي هو العذاب الأليم لئلا يكونوا آمنين أبدًا؛ فيكون فيه أمر بأن يبشر، وأن ينذر؛ كأنه قال بشر أوليائي أني أنا الغفور الرحيم لأوليائي، وأن عذابي شديد أليم لأعدائي. وفي قوله: (نَبِّئْ عِبَادِي) فيه بشارة ونذارة: أما البشارة: فهو قوله: (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وأما النذارة: فهو قوله: (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ).

(51)

قوله تعالى: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ). أي: نبئ قومك عن ضيف إبراهيم؛ أي: نبئهم بتمام ما فيه من الزجر والموعظة؛ لأن في ذلك أخبار ما نزل بالمكذبين؛ بتكذيبهم الرسل، وهو الإهلاك، ونجاة من صدق الرسل، ففيه تمام ما يزجرهم، ويعظهم، من الترهيب والترغيب، فإن فيهم آية لرسالتك ونبوتك؛ لأنه يخبرهم على ما في كتبهم لم يشهدها هو، فيدلهم أنه إنما عرف ذلك باللَّه. أو نبئهم؛ فإن ذلك ما يزجرهم عن مثل صنيعهم، وفيه ذكر نعم اللَّه؛ لأنهم جاءوا بالبشارة؛ بشارة الولد، وجاءوا بإهلاك قوم مجرمين، فذلك بالذي يزجرهم عن مثله، والبشارة ترغبهم في مثل صنيع إبراهيم، فنبئهم فإن فيه ما ذكرنا. ودل قوله: (ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ) أن الضيف اسم لكل نازل على آخر، طعم عنده أو لم يطعم، وكان نزله للطعام أو لا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ... (52) أي: سلموا على ايراهيم، فرد إبراهيم عليهم السلام. وقال أبو بكر الأصم: السلام جعله اللَّه أمانًا بين الخلق، وعطفًا فيما بينهم، وسببًا لإخراج الضغائن من قلوبهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جعل اللَّه السلام تحية على كل داخل على آخر، وهو ما ذكرناه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السلام: هو اسم كل خير وبز وبركة؛ كقوله: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي: خائفون. قال بعض أهل التأويل: إنما خاف؛ لأنه ظن أنهم لصوص وأهل ريبة، لكن هذا لا يحتمل أن يخاف منهم؛ ويظن أنهم لصوص وأهل ريبة، وقد سلَّموا عليه وقت ما دخلوا

(53)

عليه، واللصوص وأهل الريبة إذا دخلوا بيت آخر لا يسلمون عليه، لكنه إنما خافهم إذ رأى أيديهم لا تصل إليه؛ كما قال: (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)، عند ذلك خافهم؛ فلما رأى ذلك ظن إبراهيم أنهم ملائكة؛ إنما جاءوا لأمر عظيم؛ حيث لم يتناولوا مما قرب إليهم؛ وبين إبراهيم وبين المكان الذي يرتحل منه - مكان يقع لهم الحاجة إلى الطعام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَوْجَلْ ... (53) أي: لا تخف: (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ). وقال في آية أخرى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)، والحلم: هو الذي ينفي عن صاحبه كل أخلاق دنية، والعلم: هو الذي يدعو صاحبه إلى كل خلق رفيع؛ ليعلم أنه اجتمع فيه جميع الخصال الرفيعة، ونفى عنه كل خلق دنيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ... (54) أي: أبشرتموني أن يولد لي، وأنا على الحال التي أنا عليها، أو يرد إليَّ شبابي وشباب امرأتي. (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) على الحال التي أنا عليها وامرأتي، أو يرد الشباب إلينا، وإلا لا يحتمل أن يخفى عليه قدرة اللَّه هبة الولد في حال الكبر، لكنه لم ير الولد يولد في تلك الحال، فاستخبرهم أنه يولد في تلك الحال، أو يرد إلى حالة أخرى حالة الشباب. واللَّه سبحانه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) أي: بما هو كائن لا محالة، أي: وعد كائن لا محالة، والواجب على كل من أنعم عليه بنعمة أن يشتغل بالشكر للمنعم، لا يستكشف عن الوجوه التي أنعم، والأحوال التي يكون عليها. ثم في بشارة الولد بشارتان: إحداهما: بشارة بالغلام. والثانية: بالبقاء والبلوغ إلى وقت العلم؛ حيث قالوا: (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ)، وهو ما قال في آية أخرى: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، ففي قوله " كهلا " دلالة وبشارة: إلى أنه يبقى إلى أن يصير كهلا، وإلا الكهل يضعف.

(57)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ). قد ذكرنا فيما تقدم أن الأنبياء قد نهوا عن أشياء قد عصموا عنها ما لا يحتمل أن يكون منهم ما نهوا عنه؛ نحو قوله: (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، و (مِنَ الظاِلمينَ)، (الكافرين)، وأمثاله، وذلك مما لا يتوهم كونه منهم؛ وذلك لما ذكرنا أن العصمة لا ترفع المحنة؛ لأنها لو رفعت لذهبت فائدة العصمة؛ لأنها إنما يحتاج إليها عند المحنة، وأمَّا إذا لم يكن محنة فلا حاجة تقع إليها، فعلى ذلك إبراهيم لم يكن قنط من رحمة ربه؛ أنه لا يهب له الولد في حال كبره؛ ولكن ما ذكرنا، ثم بين أنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون: أخبر أن القنوط من رحمة اللَّه هو ضلال، والإياس من رحمته كفر، فعندهم تضيق رحمته حتى لا يسع فيها الكبائر، والمعتزلة يقنطون من رحمة ربهم؛ لقولهم في أصحاب الكبائر ما يقولون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قيل: فما خبركم، وما قصتكم، وما شأنكم؟ والخطب: الشأن؛ أي: على أي أمر وشأن أرسلتم. (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) لم يحتمل أن يكون أول ما أخبروا إبراهيم وقالوه هذا، ولكن كان فيه ما ذكر في آية أخرى: (قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ)، (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)، فقال إبراهيم (إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا)، يذكر هاهنا على الاختصار؛ فذلك يدل أن الخبر إذا أدى معناه يجوز، وإن لم يؤت بلفظه على ما كان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ (59) كأن الثنيا هاهنا تكون عن الأشخاص، وأنفس أهل القرية؛ عن قوله: (مُجْرِمِينَ)؛ لأن آل لوط لم يكونوا مجرمين؛ فلا يحتمل الاستثناء من ذلك. أو لا يكون على حقيقة الثنيا، وإن كان في الخبر استثناء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ ... (60) أخبر أنهم يهلكون قومه، ثم استثنى له منهم، ثم امرأته من آله؛ ففيه دلالة أن الثنيا

(61)

ليس برجوع؛ لأنه لو كان رجوعًا لكان يوجب الكذب في الخبر، ولكن في الثنيا بيان تحصيل المراد مما أجمل في اللفظ. وفيه دلالة أيضًا أنه يجوز أن يستثنى من الاستثناء؛ لأنه اسشى امرأته من آله؛ بقوله: (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ) فحصلت المرأة من قومه؛ حيث استثناها من آله. وفيه أنه قد يجوز أن يستثنى من خلاف نوعه؛ لأنه استثنى آل لوط من قومه، والمجرم ليس من نوع الصالح، ثم استثنى امرأته من آله؛ وهي ليست منهم. وفيه أيضًا أن آل الرجل يكون أتباعه؛ حيث استثنى آله منهم، يدخل فيه من تبعه؛ ألا ترى أنه قال: آل فوعون، وإنما هم أتباعه، وآل موسى، وآل هارون، وآل عمران: كل يرجع إلى أتباعهم، فيدخل في قولهم: اللهم صلِّ على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد - كل من تبعه. واللَّه أعلم. وقوله: (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ). قال أبو بكر الأصم: (قَدَّرْنَا إِنَّهَا): أي: أخبرنا، لكن هذا منه احتيال على تقوية مذهب الاعتزال؛ لأنهم ينكرون أن يكون أفعال العبيد مقدرة لله مخلوقة، ففي ذلك دلالة أن أفعالهم مخلوقة لله، مقدرة له، وأصله: أي: قدرنا بقاءها من الأصل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَمِنَ الْغَابِرِينَ): أي: الباقين. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الغابرون: الباقون، والغابرون: الماضون أيضًا؛ يقال: غبر يغبر غبرًا: إذا بقي، وإذا مضى أيضًا. * * * قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)

(63)

أي: إنكم قوم منكرون؛ لا تعرفون بأهل هذه البلدة، وإنما قال لهم هذا؛ لأن قومه إنما يعملون ما يعملون بالغرباء؛ لا يعملون بأهل البلد؛ ألا ترى أنهم قالوا له: (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ)، أن تضيف أحدًا منهم. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) هذا ليس بجواب لما سبق من قوله: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)، ولكن قالوا ذلك له، واللَّه أعلم بعدما كان بين لوط وقومه مجادلات ومخاصمات من ذلك قوله: (إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ)، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ)، وغير ذلك من المخاصمات. وقد كان لوط يعدهم العذاب بصنيعهم الذي كانوا يصنعون؛ ولذلك قالوا له: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)؛ فعند ذلك قالوا: (بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: بما كانوا فيه يشكون؛ بما كان يعدهم من العذاب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي: بما كانوا، يجادلون وينازعون، أو يقول: بل جئناك بجزاء ما كانوا يمترون. ثم امتراؤهم، يحتمل مجادلتهم إياه، ويحتمل ما كانوا عليه من الريبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ): أي: بنجاتك؛ ونجاة أهلك وإهلاك قومك. وقال بعضهم: (وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ): أي: بالعذاب الذي كنت تعدهم. (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) فيما نقول، يحتمل هذا: أن لم يكن هذا منهم قولا قالوه؛ لأن لوطًا يعلم أنهم صادقون فيما يقولون؛ حيث علم أنهم ملائكة اللَّه، لكن أخبر عنهم على ما كانوا عليه، على غير قول كان منهم. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) أي: ببعض من الليل. وقَالَ بَعْضُهُمْ بسحر؛ على ما قال: (نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ)

(66)

وهو بعضٌ سحرًا كان أو غيره. (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ) أي: سر من ورائهم، وهكذا الواجب على كل مولى أمر جيشٍ أن يتبع أثرهم، أو يأمر من يتبع أثرهم؛ ليلحق بهم من تخلف منهم، ويحمل المنقطع منهم؛ وليكون ذلك أحفظ لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ (وَلَا يَلْتَفِتْ) أي: لا يتخلف منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون. وقال في آية أخرى: (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ). فإنها تتخلف عنكم؛ فيصيبها ما أصاب أُولَئِكَ، هذا يدل أن ليس في تقديم الكلام وتأخيره منع، ولا في تغيير اللسان ولفظه بعد أن يؤدي المعنى خطر؛ لأن قصة لوط وغيرها من القصص ذكرت وكررت على الزيادة والنقصان، وعلى اختلاف الألفاظ واللسان، فدل أن اخلاف ذلك لا يوجب تغييرًا في المعنى، ولا بأس بذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ): أي: لا ينظر أحد وراءه، فهو - واللَّه أعلم - لما لعلهم إذا نظروا وراءهم فرأوا ما حلّ بهم: من تقليب الأرض وإرسالها عليهم - لا تحتمل بنيتهم وقلوبهم؛ فيهلكون أو يصعقون، ألا ترى أن موسى مع قوته لم يحتمل اندكاك الجبل، ولكن صعق؛ فصار مدهوشا في ذلك الوقت، فهَؤُلَاءِ أضعف، وما حلّ بقومهم أشد فَبِنْيَتُهُم أحرى ألا تتحمل ذلك. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) قوله: (وَقَضَيْنَا) قيل: أوحينا إليه، كقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ): أي: أوحينا إليهم، وقال بعضهم: قوله: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ) أي: أنهينا إليه وأعلمناه، وهو قول الكسائي والْقُتَبِيّ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ الْأَمْرَ). يحتمل قوله: ذلك الأمر هو ما ذكر: أن دابر هَؤُلَاءِ مقطوع مصبحين، هذا الذي

(67)

أوحى إليه وأعلمه. ويحتمل قوله: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ) أي: أوحينا إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أن ذلك الأمر الذي بلغك مقطوع مصبحين. ويحتمل الوحي إلى لوط على البشارة: أن دابر قومه مقطوع مصبحين. أي: مقطوع نسلهم، فيه إخبار عن قطع نسلهم، وفي الخبر عن قطع نسلهم إخبار عن هلاكهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أصل هَؤُلَاءِ. وقال بعضهم: دابر هَؤُلَاءِ مقطوع: أي: مستأصلون، (مُصْبِحِينَ): ليس يريد به حين أصبحوا، وحين بدا طلوع الفجر، ولكن أراد طلوع الشمس؛ ألا ترى أنه قال: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ)، وإشراق الشمس: هو ارتفاعها وبسطها في الأرض، دلّ أنه ما ذكرنا. واللَّه أعلم. والصيحة: تحتمل وجوهًا: أحدها: ذكر الصيحة؛ لسرعة هلاكهم أي: قدر صيحة. والثاني: أهلكوا بالصيحة، أو صاح أُولَئِكَ لما أهلكوا، والصيحة اسم كل عذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) يحتمل: يُسَرُّون بنزول أضيافه، أو يبشر بعضهم بعضا؛ لما رأوا بهم من حسن الهيئة والمنظر، ورفعة اللباس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) يحتمل هذا وجهين: فلا تفضحوني في ضيفي؛ فإنهم إنما نزلوا بنا على أمن منا؛ فلا تفضحوني عندهم، وهو ما قال في آية أخرى: (وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي)، ويحتمل: لا تفضحوني في الخلق، يقولون: إن في أهل بيت لوط يُفعل بالأضياف كذا، وإنما عرف أهل بيتي عند الخلق بالصلاح والأمن فلا تفضحوني في الخلق؛ واتقوا الله في صنيعكم بالرجال، ولا تخزون عند الخلق؛ قيل: هو من الهوان. ويشبه أن يكون قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) أن يكون الإخزاء: هو الفضيحة، دليله ما

(70)

ذكر: أن هَؤُلَاءِ ضيفي فلا تفضحون؛ فيكون هذا تفسير ذلك. ويحتمل الهوان، وكذلئط قيل في قوله: (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ)، أي: الهوان اليوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) هذا يدل على أنه قد كان سبق النهي عن إنزال الأضياف؛ كأنهم قد نهوه عن إنزال الأضياف؛ لذلك قالوا: (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ). قال أبو بكر الأصم: يخرج قولهم: (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) مخرج الاعتذار له؛ لأنهم كانوا يعظمون الرسل - أعني: أقوام الرسل جميعًا - إذ لم يكن من الرسل، إليهم، سوى الخلاف في الدِّين والدعاء إلى دين اللَّه، فهم وإن كذبوا الحجج التي أتت بها الرسل فقد كانوا يعظمونهم؛ ألا ترى أنه قال لرسولنا صلوات اللَّه عليه: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. . .) الآية، والأول أشبه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) وفي موضع آخر: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)، وقد ذكرنا في السورة التي فيها ذكر هود. قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما عرض عليهم نساء قومهم؛ لأنه كالأب لهم على ما ذكر أن نساء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمهاتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في ذكر البنات إخبار منه لهم بنهاية فحش صنيعهم؛ لأنه يجوز ورود الشرع على بناته لهم، ولا يجوز حل ذلك بحال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) قال الحسن: يقسم اللَّه بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يقسم إلا باللَّه، وإنما أقسم بحياة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ولم يقسم بحياة غيره وبغيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لَعَمْرُكَ) كلمة تستعملها العرب في أقسامهم؛ على غير إرادة القسم بحياة أحد. ومنهم من قال: إنما ذلك على التعريض؛ وأصله: أن اللَّه قد أقسم بأشياء: أقسم بالشمس، والقمر، والليل، والنهار، وأقسم بالجبال، والسماء، وغيرها من الأشياء التي تعظم عند الخلق، فرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد أخبره أنه أرسله رحمة للخلق وهدى - أولى أن يعظم بالقسم به؛ ألا ترى أنه قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)

(73)

فمن كان رحمة للعالم كله أولى أن يعظم من غيره؛ إذ منافعه أعتم وأكثر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَعَمْرُكَ): القسم ليس بحياة الرسول؛ ولكن بدينه، وهو قول الضَّحَّاك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: السكرة: الشدة التي تحل بهم عند الموت، شبههم بحيرتهم التي فيهم بسكرة الموت، يعمهون أي: يترددون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في ضلالتهم وكفرهم، يعمهون: يتحيرون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) قد ذكرنا في غير موضع اختلافهم في الصيحة: قَالَ بَعْضُهُمْ: الصيحة هي العذاب نفسه؛ أي: أخذهم العذاب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمي (الصَّيْحَةُ) لسرعة نزوله بهم، وأخذه إياهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُشْرِقِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أشرقت الشمس: إذا ارتفعت وأنارت، وشرقت: إذا بزغت، وهو قول الكسائى. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مُشْرِقِينَ): أي: إذا أشرقوا، أي: إذا طلعت الشمس عليهم، وقد ذكرنا هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) قد ذكرناه في السورة ألتي فيها ذكر هود. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) قَالَ بَعْضُهُمْ: (لِلْمُتَوَسِّمِينَ): للمتفرسين؛ من الفراسة، وروي في ذلك خبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ يرويه أبو سعيد الخدري؛ قال: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه " قال: ثم قرأ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ). فإن ثبت الخبر، وثبت تلاوة هذه الآية على إثر ما ذكر فهو هو.

(76)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِلْمُتَوَسِّمِينَ): المعتبرين. وقيل: المتفكرين. وقيل: الناظرين. ذكروا أنه آية للمعتبرين، ولكن لم يبينوا من أي وجه يكون آية لمن ذكر؛ فيحتمل وجوهًا: أحدها: آية للمتوسمين: للمعتبرين لرسالته؛ لأنه ذكر قصة إبراهيم ولوط - على ما كان - وهو لم يشهدها؛ فذلك يدل على صدقه وآية لرسالته. والثاني: آية لصدق خبر إبراهيم، وصدق لوط؛ لأنهم كانوا يخبرون قومهم أن العذاب ينزل بهم، وغير ذلك من الوعيد، فيدل ذلك على صدق خبر الأنبياء عليهم السلام في كل ما يخبرون. والثالث: في هلاك من أهلك منهم؛ ونجاة من أنجى منهم - آية لمن ذكر، من هلك منهم هلك بالتكذيب، ومن نجا منهم نجا بالتصديق؛ فيكون لهم آية. والرابع: قد بقي من آثار من هلك منهم آية؛ فيكون هلاكهم آية لمن ذكر. وأصل هذا أن اللَّه ذكر: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ): أي: المؤمنين المتقين، والاعتبار والتفكر للمؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون. قال: والمتوسم: هو الذي يعمل بعلامة، وكذلك المتفرس: هو الذي يعمل بعلامة في غيره، ينظر في غيره: بأن هلاكه بمَ كان؟ فينزجر عن صنيعه ويتعظ به، وهو كالمتفقه الذي يعمل بالمعنى. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) أي: طريق دائم لا يزول، يعلم أن في ذلك لآية للمؤمنين؛ وهو ما ذكرنا أن الآية تكون للمؤمن. واللَّه أعلم. ذكر في الآية الأولى: (الآيات) لأنه أنبأ إبراهيم وقصته، وقصة قوم لوط؛ ففي ذلك آيات لمن ذكر. وذكر في هذه الآية: (لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)؛ لأنه ذكر شيئًا واحدًا؛ وهو السبيل.

(78)

قوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ). أي: وقد كان أصحاب الأيكة لظالمين. والأيكة: ذكر أنها الغيضة من الشجر؛ وهي ذات آجام وشجر، كانوا فيها فبعث إليهم شعيب وهم في الغيضة. وذكر أبعض، أهل التأويل: أن شعيبًا بعث إلى قومين: إلى أهل غيضة مرة، وإلى أهل مدين مرة؛ على ما ذكر: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا)، وقال في آية أخرى: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177). وقوله: (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ) سمى اللَّه تعالى الكفرة بأسماء مختلفة: سماهم مرة ظالمين، ومرة فاسقين، ومرة مشركين، واسم الظلم قد يقع فيما دون الكفر والشرك، وكذلك اسم الفسق يقع فيما دون الكفر والشرك، ثم الكفر لم يقبح لاسم الكفر، وكذلك الإيمان لم يحسن لاسم الإيمان؛ إذ ما من مؤمن إلا وهو يكفر بأشياء ويؤمن بأشياء؛ قال اللَّه تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ)، المؤمن يكفر بالطاغوت وبالأصنام؛ التي كان أهل الكفر عبدوها، وكذلك الكافر يؤمن بأشياء ويكفر بأشياء: يؤمن بالأصنام ويكفر باللَّه؛ فثبت أن الكفر لاسم الكفر - ليس بقبيح، وكذلك الإيمان لاسم الإيمان - ليس بحسن، ولكن إنما حسن؛ لأنه إيمان باللَّه، والكفر إنما قبح؛ لأنه كفر باللَّه. وأما الظلم: فهو لاسم الظلم قبيح، وكذلك الفسق لاسم الفسق قبيح؛ فسماهم بأسماء هي لاسمها قبيحة، لكن الإيمان المطلق هو الإيمان باللَّه، والكفر المطلق هو

(79)

الكفر باللَّه، وإن كان يسمى بدون اللَّه كفرًا وإيمانًا؛ كما قلنا: الكتاب المطلق كتاب اللَّه، والدِّين المطلق دين اللَّه؛ وإن كان اسم الكتاب والدِّين يقع على ما دونه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) ذكر الانتقام منهم؛ ولم يذكر هاهنا بِمَ كان الانتقام، وقال في آية أخرى: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ)، وقال في آية أخرى: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ)، وقال في آية أخرى: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ)، فيحتمل أن يكون الرجفة لقوم؛ والصيحة لقوم؛ وعذاب يوم الظلة لقوم منهم، أو كان كله واحدًا؛ فسماها بأسماء مختلفة، وليس لنا إلى معرفة ذلك العذاب حاجة - سوى ما عرف أنهم إنما أهلكوا أو عذبوا بالتكذيب؛ ليكون ذلك آية لمن بعدهم؛ ليحذروا مثل صنيعهم. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) للرسل؛ كما انتقمنا من قوم لوط للوط؛ بسوء صنيعهم، وسوء معاملتهم إياه، فعلى ذلك ننتقم من أهل مكة لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ بسوء صنيعهم ومعاملتهم إياه، وقد كان ما نزل بأصحاب الأيكة كفاية مزجر لهم، وعظة لا يحتاج إلى ذكر ما نزل بقوم لوط. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُمَا) قَالَ بَعْضُهُمْ: يعني قوم لوط، وقوم شعيب. وقوله: (لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ): أي: طريق مستبين؛ أي: بين هلاكهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ)، (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) - واحد؛ أي: بين واضح آثارهم من سلك ذلك الطريق؛ أو دخل قراهم ومكانهم - لاستبان له آثار هلاكهم؛ وما حل بهم. وقوله: (لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ): أي: طريق يُؤتم، ويقصد؛ بين واضح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) قال أهل التأويل: أصحاب الحجر: هم قومُ صالحٍ ثمودُ، وقالوا: الحجر: هو اسم واد. وقيل: هو اسم القرية على شط الوادي؛ نسبوا إليه. وقوله: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) قال أهل التأويل: يعني بالمرسلين أولم

(81)

يذكر؛ صالحًا وحده، لكن ذكر المرسلين؛ لأن صالحًا كان يدعوهم إلى ما كان دعا سائر الرسل، فإذا كذبوه فكأن قد كذبوا الرسل جميعًا؛ إذ كل رسول كان يدعو إلى الإيمان بالرسل جميعًا، فإذا كذب واحد منهم - فقد كذب الكل. واللَّه أعلم. وقوله: (وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) تحتمل الآيات: آيات وحدانية اللَّه وحججه، ويحتمل: جميع الآيات: آيات الوحدانية، وحججه، وآيات رسالتهم. (مُعْرِضِينَ): أي: لم يقبلوها؛ فإذا لم يقبلوها - فقد أعرضوا عنها؛ أو أعرضوا عنها، أي: كذبوها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) يحتمل آمنين عما وعدهم صالح من عذاب اللَّه؛ حيث قالوا: (يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، كانوا آمنين عن ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا آمنين عن أن يقع عليهم ما نحتوا لحذاقتهم، وهو ما قال: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ)، على تأويل بعضهم: حاذقين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) يحتمل: أخذتهم ظاهرة بالنهار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) يحتمل قوله: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ): أي: ما كانوا ينحتون، لا يغنيهم من عذاب اللَّه من شيء. ويحتمل: فما أغنى عنهم ما عملوا من عبادة الأصنام والأوثان؛ حيث قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ولقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) أي: لم يغنهم ما عبدوا من عذاب اللَّه. أو يقول: ما أغنى عنهم ما متعوا وأنعموا في هذه الدنيا؛ في دفع عذاب اللَّه عن أنفسهم؛ كقوله: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ. . .) الآية، أي: وإن أعطوا ما ذكر؛ من السمع، والبصر، والأفئدة، إذا لم ينظروا، ولم يتفكروا في آيات الله فجحدوها.

(85)

قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ). يحتمل (بِالْحَقِّ): الحق الذي جعل لنفسه على أهلها، والحق الذي لبعض على بعض، والحق: هو اسم كل محمود مختار من القول والفعل، والباطل: اسم كل مذموم من القول والفعل. قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا شهودًا لله بالحق على أهلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا بِالْحَقِّ): أي: لم يخلقهما لغير شيء؛ ولكن خلقهما للمحنة؛ يمتحنهم بالعبادة فيها، وإلى هذا ذهب الحسن. وقيل: خلقهما وما بينهما لأمر كائن؛ أي: لعاقبة: للثواب أو الجزاء، لم يخلقهم للفناء خاصة؛ ولكن للعاقبة؛ لأن خلق الشيء للفناء خاصة عبث؛ وهو ما قال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، أخبر أن خلقهم لا للرجوع إليه ولا للعاقبة - عبث، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وجائز أن يكون قوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) على الاحتجاج على أُولَئِكَ لإنكارهم الساعة، لوجهين: أحدهما: ما ذكرنا أنه لو لم تكن الساعة حصل خلقهما وما بينهما للفناء خاصة؛ وخلقُ الشيء للفناء خاصةً عبث باطل؛ كبناء البناء للنقض خاصة لا لعاقبة تقصد - عبث. والثاني: أنه يكون في ذلك التسوية بين الأعداء والأولياء، وفي الحكمة التفريق

(86)

بينهما، وما قال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الآية. لم يكن ظنهم أنه خلقهما باطلا؛ ولكن لما أنكروا البعث صار في ظنهم خلقهما باطلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي: أعرض عنهم، ولا تكافئهم بما آذوك بألسنتهم وفعلهم (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فإني أكافئهم عنك على أذاهم إياك وصنيعهم يومئذ. والصفح الجميل: هو ما لا نقض فيه ولا منة في العُرف؛ أي: اصفح الصفح ما يوصف فيه بتمام الأخلاق، وما لا نقض فيه ولا منة يحتمل الصفح الجميل: هو أن يصفح ولا يمنّ عليهم، كأنه أمره أن يصفح صفحًا لا منة فيه. قوله تعالى: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فتجزى أنت على صفحك الجميل؛ وهم على أذاك. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه على علم بما يكون منهم من المعصية والخلاف خلقهم، لا خلقهم عن غفلة وجهل بذلك؛ ليعلم أنه لم يخلق الخلق لحاجة نفسه ولا لمنفعة نفسه، ولكن خلقهم ليمتحنهم بما أمرهم به ونهاهم، ولما يرجع إلى منافعهم وحوائجهم. والثاني: إن ربك هو الخلاق لخلقه؛ العليم بمصالحهم بأن الصفح الجميل لهم، ذلك أصلح في دينهم من المكافأة. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) اختلف في قوله: (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي): قَالَ بَعْضُهُمْ: (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي): المثاني: هو القرآن كله؛ كقوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ). وقيل: سمي مثانيًا لترديد الأمثال فيه والعبر والأنباء؛ فإن كان على هذا فيكون قوله: (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي): أي: سبعًا من القرآن العظيم.

ثم يحتمل السبع الطوال؛ على ما ذكر بعض أهل التأويل؛ كأنه قال: آتيناك سبعًا من القرآن العظيم. ويحتمل: (سَبْعًا) يعني فاتحة الكتاب من القرآن؛ أي: آتيناك فاتحة الكتاب من القرآن. وقال قوم: يقولون: سبع المثاني: فاتحة الكتاب، ويروون على ذلك حديثًا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مروي عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الحمدُ لله أم القرآن وأم الكتاب، والسبعُ المثاني " وعن أُبَي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما أنزل اللَّه في التوراة والإنجيل مثل أم القرآن؛ وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي؛ ولعبدي ما سأل ". ومنهم من يقول: المثاني: القرآن كله؛ يذهب إلى ما ذكرنا من الآية؛ وبما يروى عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور والقرآن مثلُها - يعني أمّ القرآن - وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت " ذكروا أنها سبع من المثاني؛ فإن كان سبع المثاني فاتحة الكتاب، يصير كأنه قال: ولقد آتيناك سبعًا؛ وهي المثانى، وإن كان سبعًا من المثاني هي السبع الطوال يكون هكذا: أي: آتيناك سبعًا؛ وهو المثاني. وروي أيضًا عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقال: " آتاني السبع الطوال مكان التوراة والمثاني مكان الإنجيل، وفضلني ربي بالمفصل " ثم إن ثبت ما روي في الخبر أن سبع المثاني فاتحة الكتاب وإلا الكفّ والإمساك عن ذلك أوْلى؛ لأنه لا حاجة بنا إلى معرفة ذلك، وليس يكون تسميتنا إياها سوى الشهادة، وما خرج مخرج الشهادة - من غير حصول النفع لنا - فالكف عنه والإمساك أولى. ومنهم من يقول: هن المفضل. ومن قال: المثاني فاتحةُ الكتاب - قال: لأنها تثنى في كل ركعة أو ما جعل فيها مكررة معادة؛ لأن كل حرف منها يؤدي معنى حرف آخر؛ فسمي مثاني بذلك. ومن قال: المثاني: هو القرآن؛ قال: لما ذكرنا؛ لأن أمثاله، وأنباءه، وغيره معادة

(88)

مرددة. ومن قال: المثاني السبع الطوال - فقال: لأنه يثنى فيها حدود القرآن، وفرائضه، وعامة أحكامه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ). سماه عظيمًا، وسماه مجيدًا، وحكيمًا؛ وهو اسم الفاعلين، ولا عمل له ولا فعل في الحقيقة؛ لكنه يخرج - واللَّه أعلم - على وجوه: يحتمل: سمَّاه عظيمًا مجيدًا؛ لما عظمه وشرفه ومجده، فهو عظيم مجيد حكيم: أي: محكم، الفعيل بمعنى المفعول، وذلك جائز في اللغة. أو سماه بذلك لأن من تمسك به؛ وعمل به؛ يصير عظيمًا مجيدًا، حكيمًا، أو سماه عظيمًا مجيدًا حكيمًا: أي: جاء من عند عظيم هو مجيد حكيم، وأصل الحكيم: هو المصيب، الواضع كل شيء موضعه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) يحتمل المراد بقوله: (عَينَيكَ) نفس العين. ثم هو يحتمل وجهين: أحدهما: نهى رسوله أن ينظر إلى مامتع أُولَئِكَ مثل نظرهم؛ لأنهم ظنوا أنهم إنما متعوا هذه الأموال في الدنيا لخطرهم وقدرهم عند اللَّه، وعلى ذلك قالوا: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) وقال: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي. . .) الآية، ونحوه، ظنوا أنهم إنما متعوا في هذه الدنيا؛ لخطرهم وقدرهم عند اللَّه؛ لذلك قالوا ما قالوا؛ فنهاه أن ينظر إلى ذلك بعين الذين نظروا هم إليه؛ ولكن بالاعتبار. والثاني: نهاه أن ينظر إلى ذلك نظر الاستكبار والتجبر على المؤمنين، والاستهزاء بهم على ما نظروا هم؛ لأنهم بما متعوا من أنواع المال استكبروا على الناس، واستهزءوا بهم؛ إذ البصر قد يقع أعلى ما ذكر، من غير تكلف؛ فيصير كأنه نهاه عن الرغبة والاختيار فيما متعوا فيه؛ لأن ما متعوا به هو ما ذكر، (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا)، وقال في آية أخرى (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ). وقوله: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) فيما متعوا فإنهم إنما متعوا لما ذكر، ويحتمل النهي عن مدّ

العين لا العين نفسه ولكن نفسه؛ كأنه قال: لا تمنَّيَن نفسك فيما متعوا هم ولا ترغبنها في ذلك؛ فإنه ليس يوسع ذلك عليهم لخطرهم وقدرهم؛ ولكن ليعلم أن ليس لذلك خطر عند اللَّه وقدر؛ حيث أعطى من افترى على اللَّه، وجحد نعمه وفضْله. وفي الآية تفضيل الفقر على الغنى؛ لأنه نهى رسوله أن يمد عينيه إلى ما متعوا، ومعلوم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا مدّ إلى ذلك ليس يمد للدنيا ولا لشهواته؛ ولكن يستعين به في أمر جهاد عدوه، ويعين به أصحابه في سبيل الخيرات، ثم نهاه مع ذلك عنه؛ دل أن الأخير والأفضل ما اختاره من الفقر، وقصور ذات يده. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَزْوَاجًا مِنْهُمْ). أي: أصنافًا من الأموال، وألوانًا من النعم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَزْوَاجًا مِنْهُمْ): أي: الأغنياء منهم وأشباهه؛ فإن كان قوله: (أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) هو أصناف الأموال - فهو على التقديم والتأخير، كأنه قال: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا منهم أزواجًا. وإن كان أزواجًا منهم هو أصناف الناس فهو على النظم الذي جرى به التنزيل؛ أي: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به قومًا منهم. وفي قوله: [(لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ)] دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه لا يعطى أحدًا شيئًا إلا ما هو أصلح له في الدِّين، ولو كان ما متع هَؤُلَاءِ أصلح لهم في الدِّين - لم ينه رسوله عن مد عينيه إليه، دلّ أنه قد يعطي ما ليس بأصلح في الدِّين، وكذلك قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، أخبر أنه إنما يملى لهم ليزدادوا إثمًا، وهم يقولون: يملي لهم ليزدادوا خيرًا. وكذلك قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ. . .) الآية، هذه الآيات كلها تنقض عليهم قولهم، وقد ذكرنا هذا في غير موضع فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ).

(89)

يحتمل النهي نفسه نهاه أن يحزن عليهم؛ إشفاقًا عليهم؛ بل أمره أن يغلظ عليهم؛ كقوله: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)، وعلى هذا يخرج قوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي: ارفق بهم، ولِنْ عليهم، واشدد على أُولَئِكَ، واغلظ عليهم؛ وهو ما وصفهم: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أخبر أنهم أهل شدة على الكفار وأهل غلظة، رحماء بينهم، وأهل ذلة على المؤمنين، وأهل شدة عليهم؛ أي: على الكفار، فعلى ذلك هذا. ويحتمل أن ليس على النهي؛ ولكن على التخفيف والتسلي، ودفع الحزن عن نفسه؛ لأنه كان يحزن لكفرهم باللَّه وتركهم الإيمان؛ حتى كادت نفسه تتلف لذلك؛ كقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) الآية، وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ) الآية، وأمثاله. ويحتمل أيضًا وجهًا آخر: وهو أنه كان يحزن عليهم، ويضيق صدره؛ لما مكروا به وكادوه؛ كقوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)، فإني أكافئهم. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) يحتمل: أنا النذير على معاصيه، المبين على طاعاته، أو النذير على العصاة من عذاب اللَّه، المبين لأموره ونواهيه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) قال الحسن: الكتب كلها قرآن؛ يعني كتب اللَّه اقتسموها وجعلوها عضين؛ أي: فرقوها بالتحريف والتبديل؛ فما وافقهم أخذوه، ومالم يوافقهم غيَّروه وبدلوه؛ كقوله: (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) ونحوه، فذلك اقتسامهم وتعضيتهم على قوله، وكقوله: (قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)، وقوله: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا)، ونحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اقتسامهم: وهو أن نفرًا من قريش كانوا اقتسموا عقار مكة؛ ليصدّوا الناس عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فيقول طائفة منهم - إذا سئلوا عنه -: هو كاهن، وطائفة أخرى: هو شاعر، ساحر، مجنون، ونحوه. وعضين: قولهم: هو: سحر، شعر، كهانة، أساطير الأولين، افترى على اللَّه كذبًا، وأمثال ما قالوا. فذلك اقتسامهم

(92)

وعضتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم: أي: آتيناك المثاني والقرآن العظيم؛ أنزلناه عليك كما أنزلنا التوراة والإنجيل على اليهود والنصارى؛ فهم المقتسمون كتاب اللَّه؛ فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: عضيت الجزور: أي: قسمتها عضوًا عضوًا. وقال غيره: هو من العضة: وهو السحر؛ بلسان قريش؛ يقال للساحر عاض. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: المقتسمون: قوم تحالفوا على عضة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وأن يذيعوا ذلك بكل طريق، ويخبروا به النزاع إليهم. وعضين: أي: فرقوه وعضوه. وقيل: فرقوا القول فيه، وهو ما ذكرنا. واللَّه أعلم. وقوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) قوله: (فَوَرَبِّكَ): قيل: قسم أقسم به تعالى. (لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: الخلائق كلها؛ كقوله: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)، أخبر أنه يسألهم جميعًا: الرسل عن تبليغ الرسالة، والذين أرسل إليهم عن الإجابة لهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ): هَؤُلَاءِ الذين سبق ذكرهم؛ المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين، والذين استهزءوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه؛ يسألهم عن حجج ما فعلوا، والمعنى الذي حملهم على سوء معاملة رسوله وكتابه، لأي: شيء نسبتم رسولي وكتابي إلى السحر، والكذب، والكهانة، والافتراء على اللَّه؟ لا يسألون ما فعلتم؟ وأي شيء عملتم؛ لأن ذلك يكون مكتوبًا في كتبهم؛ يقرءونه؛ كقوله: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)، وهو وعيد شديد في نهاية الوعيد والشدة؛ لأنه وعيد مقرون بالقسم، وكل وعيد قرن بالقسم فهو في غاية الشدة؛ إذ لو جاءنا ذلك الوعيد من ملك من ملوك البشر يجب أن يخاف؛ فكيف من ربنا؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)

قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ): أي: استقم كما تؤمر؛ كقوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ). فهو في كل ما أمر به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اصدع: أي: امض بما تؤمر من تبليغ الرسالة. (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ). أي: أعرض عن مكافأتهم؛ ومعناه - واللَّه أعلم - امض على ما تؤمر؛ من تبليغ الرسالة إليهم ولا تخفهم، ولا تهبهم، ولا يمنعنك شيء عن تبليغ الرسالة؛ الخوف، ولا القرابة، ولا شيء من ذلك، ولكن امض على ما تؤمر؛ وهو كما قال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا)، وقال: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: لا يمنعكم عن القول بالحق والعدل بغضكم إياهم، ولا قرابتكم التي فيما بينكم، فعلى ذلك قوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ): أي: امض على ما أمرت من تبليغ الرسالة، ولا يمنعنك عن ذلك: الخوف، والوعيد، والقرابة التي فيما بينك وبينهم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ): أي: أظهر ذلك، وأصله: الفرق والفتح؛ يريد: اصدع الباطل بحقك؛ حتى يأتيك الموقن به؛ وهو الموت. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: اصدع: أي: امض على ما تؤمر، وصدعت: أي: مضيت؛ وذلك من المضي، وأصل هذا كله: الشق، ويقال: تصدعوا: أي: تفرقوا. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي: أعرض عن مكافأتهم؛ فأنا أكافئهم عنك على ما آذوك. وقال بعض أهل التأويل: قوله: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) وهو منسوخ بآية السيف؛ لكن على الوجه الذي ذكرنا ليس بمنسوخ، ويحتمل: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)؛ إن كان أراد به القتال والدعاء إلى التوحيد فهو في وقت دون وقت أو في قوم خاص علم الله أنهم لا يجيبونه ولا يؤمنون به أيئس رسوله عن إيمانهم فقال: أعرض عن هَؤُلَاءِ ولا

(95)

تشتغل بهم ولا تدعهم فإنهم لا يؤمنون ولكن ادع قومًا آخرين واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ): الكفرة جميعًا؛ فمنعناهم عن أن يصلوا إليك؛ على ما قصدوا إليك من إهلاكك، وغيره؛ كقوله: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) والذين كانوا على الطرق والمراصد؛ ليصدوا الناس عن سبيل اللَّه؛ على ما ذكر في القصة؛ العدد الذي ذكر سبعة أو خمسة؛ كفاه اللَّه بأن أهلكهم بما ذكر أهل التأويل: أن الذين استهزءوا به هلكوا جميعًا بعقوبات مختلفة. وقوله تعالى: (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) قوله: (يَجْعَلُونَ) وليس على الجعل؛ لأنهم لو جعلوا لكان؛ لأن كل مجعول كائن موجود؛ ولكن قوله: (يَجْعَلُونَ): أي: يزعمون أن مع اللَّه إلهًا آخر؛ إما في التسمية أو في العبادة، وكذلك قوله: (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) هم لا يقدرون على أن يجعلوه عضين، ولكن زعموا أنه كذا؛ لأن اللَّه وكل حفظه إلى نفسه؛ بقوله: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وقال: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، أخبر أنه يحفظه حتى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ فلو قدروا على جعله عضين - لكان قد أتى الباطل من بين يديه، دل أنه على القول الذي قالوا؛ وهو على المجاز كقوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، وقوله: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)، فهو على المجاز، على ما عندهم، إما بحق التسمية لها أنها آلهة، وإما بصرف العبادة إليها، ظاهر هذا أن المستهزئين الذين ذكرهم أنه كفاه عنهم هم الكفرة جميعًا؛ لكن يحتمل في الذين ذكرهم أهل التأويل كانوا على مراصد مكة، أضاف ذلك إليهم ونسب؛ لأنهم هم الذين أمروا غيرهم أن يجعلوا دونه إلهًا؛ فكأنهم فعلوا ذلك، وهم قالوا.

(97)

وقوله: (كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) الذين فعلوا به ما فعلوا ممن تقدم ذكرهم؛ فيكون قوله: (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ) على إضمار (كان)؛ أي: الذين كانوا يجعلون مع اللَّه إلهًا آخر. وإن كان في الذين يكونون من بعد - فهو على ظاهر ما ذكر؛ يجعلون على المستقبل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ). أي: سوف يعلمون ما عملوا من الاقتسام، والعضة، والاستهزاء برسول الله وأصحابه، إذا نزل العذاب بهم. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) وما قالوا؛ من الاقتسام، والعضة، والاستهزاء به، وأنواع الأذى الذي كان منهم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ أي: نعلم ذلك، وهو محفوظ عندنا، نجزيهم على ذلك فلا يضيقن صدرك؛ لذلك فهو على التصبير على الأذى، والتسلي عن ذلك، وترك المكافأة لهم، واللَّه أعلم. وكان يضيق صدره؛ مرة لتركهم الإجابة له، ومرة للأذى باللسان. والثاني: على علم منا بما يكون منهم، ومن ضيق صدرك بذلك، لكن أنشأناهم ومكناهم على علم منا بذلك؛ امتحانًا منا إياك بذلك وإياهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) قال بعض أهل التأويل: أي: صل بأمر ربك وكن من الساجدين؛ أي: من المصلين. وقوله: (فَسَبِّحْ): هو أمر؛ فإذا فعل ذلك كان بأمر ربه؛ فلا معنى لذكر الأمر من بعد قوله: (بِحَمْدِ رَبِّكَ) إن كان الحمد هو الأمر؛ على ما قال بعض أهل التأويل. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن قوله: (فَسَبِّحْ) أي: نزه اللَّه عن جميع ما قالت الملحدة فيه؛ إذ التسبيح هو التنزيه في اللغة (بِحَمْدِ رَبِّكَ)؛ أي: بثناء ربك؛ أي: نزهه عن ذلك كله بثناء تثنيه عليه، وكن من الساجدين؛ أي: من الخاضعين؛ إذ السجود هو الخضوع. أو أن يكون أمره إياه بالتسبيح على التسلي، وتوسيع صدره بالذي يكون منهم؛ أي: فسبح ربك مكان ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ ... (99) يحتمل التوحيد؛ أي: وحِّد ربك، وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كل عبادة ذكرت في القرآن - فهو توحيد يأمره باعتقاد الإخلاص له في كل أمر، ويحتمل العبادة

نفسها؛ يأمره بالعبادة له؛ شكراً له؛ على ما روي في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه صلى حتى تورمت ساقاه؛ فقيل له: ألم يغفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: " بلى، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟! ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ): أي: ما تيقنت به؛ وهو الموقن به. وكذلك قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)، أي: من يكفر بالمؤمن به فقد حبط عمله؛ لأن الإيمان لا يكفر به، فعلى ذلك اليقين لا يأتيه؛ ولكن يأتيه الموقن به. وكذلك ما ذكر: الصلاة أمر اللَّه؛ أي: بأمر اللَّه، وهو المأمور به؛ لأن الصلاة لا تكون أمر اللَّه، لكن بأمر اللَّه، وكذلك ما يجيء من هذا النحو. ويحتمل قوله: (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فيهم؛ وهو ما وعد من العذاب فيهم؛ أي: يتيقنون بذلك واللَّه أعلم. * * *

سورة النحل

سُورَةُ النَّحْلِ مكية إلا ثلاث آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * * * قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) قال بعض أهل التأويل: سورة النحل كلها مكية إلا ثلاث آيات؛ فإنها نزلت بالمدينة واللَّه سبحانه أعلم بالصواب. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ). في قوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) وجهان: أحدهما: أن يعرف قوله: أمر اللَّه، ما أراد به وما الذي استعجلوه، وإنما استعجلوه الساعة والقيامة؛ بقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَ. . .) الآية، ونحوه من الآيات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمر اللَّه هو عذابه، وكذلك أجميع، ما ذكر في جميع القرآن من أمر اللَّه؛ المعنى منه عذابه؛ كقوله: (جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ)، أي: عذابه، ونحوه. ويحتمل قوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ): رسوله الذي كان يستنصر به أهل الكتاب على المشركين؛ كقوله: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الآية، وكان يتمنى مشركوا العرب أن يكون لهم رسول كسائر الكفرة؛ كقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ. . .) الآية، (فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) ذهاب ما كنتم تتمنون بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو شيء آخر. واللَّه أعلم. ثم إنه لم يرد بقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) وقوعه؛ ولكن قربه؛ أي: قرب آثار أمر اللَّه؛ كما يقال: أتاك الخبر، وأتاك أمر كذا؛ على إرادة القرب؛ لا على الوقوع. وجائز أن يكون قوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) أي: ظهر أعلام أمر اللَّه وآثاره، ليس على إتيان أمره من مكان إلى مكان؛ كقوله: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، وآثاره: هو رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان به يختم النبوة؛ فهو كان أعلام الساعة على ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: " بعثت أنا

(2)

والساعة كهاتين " أشار إلى أصبعين لقربها منه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ). لأنه لا منفعة لكم فيها فلماذا تستعجلونه؟ كقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ)، إذ لا منفعة لهم فيه، بل فيه ضرر عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). سبحان: هو كلمة إجلال اللَّه يجريها على ألسن أوليائه على تنزيه ما قالت الملحدة فيه، وتعاليه عن جميع ما نسبوا إليه من الولد، والصاحبة، والشريك، وغيره من الأشباه والأضداد، تعالى عن ذلك. سُبْحَانَ اللَّهِ: حرف يذكر على أثر شيء مستبعد، أو مستعجب، أو مستعظم؛ جوابًا لذلك، وهو ما ذكره على أثر وصف أو قول لا يليق باللَّه من الولد، والشريك، ونحوه؛ فقال: (سُبْحَانَ اللَّهِ) على التنزيه مما وصفوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (بِالرُّوحِ) أي: بالوحي الذي أنزله على رسله، والرحمة، أو الروح: الرحمة؛ وهو الذي به نجاة كل من رحمه اللَّه، وهداه لدينه؛ وهو ما ذكر؛ حيث قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ). وقيل: الرسالة أهي القرآن والرسالة، وما ذكر روحًا؛ لأنه به حياة الدِّين؛ كما سمي الذي به حياة الأبدان أرواحًا. وقال الحسن: قوله: (بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ): أي: بالحياة من أمره؛ وهو ما ذكرنا من حياة الدِّين. وقوله تعالى: (عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).

(3)

أي: على من يشاء أن يختص من عباده ويختاره، وهو مشيئة الاختيار؛ وإن كان غيره يصلح لذلك، وفيه دلالة اختصاص اللَّه بعضهم على بعض؛ وإن كان غيره يصلح لذلك. وقولهَ عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ). على هذا جاءت الوسل والأنبياء عليهم السلام جميعًا بالإنذار والدعاء إلى وحدانية اللَّه، وتوجيه العبادة إليه. وقوله: (أَن أَنذِرُوا) هو صلة ما تقدم من قوله: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ) أن أنذروا، ولا يوصل بما تأخر، ثم يخرج على الإضمار؛ أي: أنذروا وقولوا: إنه لا إله إلا أنا فاتقون. * * * قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ). قد ذكرنا قوله: (بِالْحَقِّ) في غير موضع أنه لم يخلقهما وما فيهما عبثًا، إنما خلقهم لأمر كائن، أو للمحنة، والجزاء، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). من لا يخلق، ولا ينفع، ولا يضر، ولا يدفع في الذي يخلق، وينفع، ويضّر، ويدفع تعالى عن ذلك وتبرأ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - نعمه عليهم، وقدرته، وسلطانه، وعلمه؛ لأنه لو اجتمع الخلائق كلهم؛ على أن يدركوا المعنى الذي به تصير النطفة نسمة وإنسانا - ما قدروا عليه حيث خلق من النطفة إنسانًا على أحسن تقويم؛ وأحسن صورة. وفيه نقض قول الدهرية؛ حيث أنكروا خلق الشيء من لا شيء؛ لأنهم لم يدركوا المعنى الذي به خلق الإنسان من النطفة؛ فيلزمهم أن يقروا بخلق الشيء من لا شيء، وإن لم يشاهدوا ذلك ولم يدركوا، وفيه دلالة البعث؛ لأن من قدر على إنشاء الإنسان من النطفة؛ وليس فيها من آثار الإنسان شيء يقدر على البعث وإنشاء الأشياء؛ لا من شيء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (خَصِيمٌ): هو الذي يجادل بالباطل (مُبِينٌ): أي: ظاهر مجادلته بالباطل ومخاصمته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخصيم: هو الجدل الذي يجادل فيما كان. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الخصيم: هو المخاصِم، والمخاصَم كلاهما خصيم، ويقال: فلان خصيمي أي: خصمي. مبين: ظاهر خصومته، والخصيم: هو الفعيل، والفعيل: قد يستعمل في موضع الفاعل والمفعول جميعًا؛ فكأنه قال: فإذا هو خصيم مبين: أي: منقطع عن الخصومة؛ بيِّن انقطاعه، وهو ما ذكر من خصومته في آية أخرى؛ وانقطاع حجته؛ حيث قال: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)، فهذا احتجاج عليه؛ فانقطعت حجته، وبهت الذي أنكر قدرته على البعث؛ حيث لم يتهيأ له جواب ما احتج عليه.

(5)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) يحتمل قوله: (خَلَقَهَا لَكُمْ) على الظاهر؛ أن خلق هذه الأشياء وخلق لنا فيها دفئا ومنافع؛ كقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا). ويحتمل قوله: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ): أي: هو خلقها، ثم أخبر أنه خلق لنا فيها منافع يذكر أنواع المنافع والنعم التي أنعم علينا، مفسرة مبينة، واحدة بعد واحدة؛ في هذه السورة، وفي غيرها من السور، إنما ذكرها مجملة غير مشار إلى كل واحدة منها؛ على ما أشار في هذه السورة؛ ليقوموا بشكرها، وليعلموا قدرته على خلق الأشياء لا من الأشياء. ثم قوله: (فِيهَا دِفْءٌ): قَالَ بَعْضُهُمْ: الدفء نسل كل دابة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما ينتج منه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الدفء ما استدفأت به، ويشبه أن يكون تفسير الدفء والمنافع الذي ذكر هو ما فُسِّر في آية أخرى؛ وهو قوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ. . .) الآية، جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - الأنعام وما ذكر وقاية لجميع أنواع الأذى من السماوي وغيره؛ مما يهيج من الأنفس من الحرّ، والبرد، والجوع، وغير ذلك مما يكثر عدها، ويطول ذكرها، وجعل فيها منافع كثيرة: من الركوب، والشرب، والأكل؛ كما قال: (وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ)، وقال: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ)، وأخبر أيضًا أن فيها جمالا وزينة؛ بقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) فإن قال قائل: أي جمال يكون لنا فيها حين الإراحة وحين السرح. وقال بعض أهل التأويل: وذلك أنه أعجب ما يكون؛ إذا راحت عظامًا ضروعها، طوالا أسنمتها. (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) وإذا سرحت لرعيها. أو أن يكون الجمال عند الإراحة والسرح: شرب ألبانها، وقرى الضيف من ألبانها؛ في الرواح والمساء. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ): وذلك أنهم كانوا

(7)

يشرون عند الإراحة والتسريح، وذلك السرور يظهر في وجوههم؛ فإذا ظهر ازداد لهم جمالا وحسنًا، وهكذا المعروف في الناس: أنهم إذا سروا يظهر ذلك السرور في وجوههم؛ فيزداد لهم بذلك جمالا، وإذا حزنوا وأصابهم غم - يؤثر ذلك الغم نقصانًا في خلقتهم؛ فيزداد لهم قبحًا وتشويهًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم إذا أراحوها أو سرحوها رأى الناس أن أربابها أهل غنى؛ وأهل ثروة، وأنهم لا يحتاجون إلى غيرهم، وأن يكون لغير إليهم حاجة؛ فيكون لهم بذلك ذكر عند الناس وشرف، وذلك جمالهم وشرفهم فيها، والجمال لهم فيها ظاهر؛ لأن ما يبسط ويفرش إنما يتخذ منها ومن أصوافها، وكذلك ما يلبس إنما يكون منها، وإنَّمَا يبسط، ويفرش، ويلبس للتجمل والبهاء. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) ذكر أيضًا ما جعل فيها لنا من النعم ما تحمل من الأثقال، من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد؛ ما لو لم يكن أنشأهن أعني: الأنعام التي أخبر أنها تحمل أثقالنا إلى ذلك بدونه إلا بجهد وشدة، وذلك - واللَّه أعلم - أن اللَّه جعل في هذه الأنفس حوائج وقواما ما لا قوام لها إلا بذلك؛ فلعله لا يظفر بما به قوام النفس إلا في بلد آخر أو مكان آخر، فلو تحمل ذلك بنفسه - لكان في ذلك تلف نفسه، وذهاب ما به قوامه، فذكر أنه خلق لنا ما نحمل به من بلد إلى بلد؛ مما به قوام أنفسنا وحاجاتنا. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) أي: من رحمته ورأفته ما جعل لكم من المنافع في الأنعام؛ وما ذكر، أو ذكر هذا ليرحموا على هذه الأنعام التي خلقها لهم؛ في الإنفاق عليها، والإحسان إليها؛ وذكر فيه: (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) وذلك لا يوصل إلى أكله إلا بالذبح؛ ليعلم أن الذبح فيما يؤكل ليس بخارج من الرحمة والرأفة. وذلك ينقض على الثنوية قولهم؛ حيث أنكروا ذبح هذه الأشياء ويقولون: إنهم يتألمون بالضرب، والقتل، والذبح؛ كما تتألمون أنتم، فمن قصد أحدكم بالقتل فهو

سفيه عندكم غير حكيم ولا رحيم، بل موصوف بالقساوة والسفه، فاللَّه سبحانه موصوف بالحكمة، والرحمة، والرأفة، لا يجوز أن يأمر بالذبح والقتل لهذه الأشياء؛ إذ ذلك مما يزيل الرحمة والحكمة. فيجاب لهم بوجوه: أحدها: أن اللَّه خلق هذا البشر في هذه الدنيا للمحنة ولعاقبة قصدها، إمَّا ثوابًا وإمّا عقابًا، وأخبر أنه خلق هذه الأشياء لنا، وجعل لنا فيها منافع، تتأمل وتقصد، وقد نجد في الشاهد من هو موصوف بالرحمة والرأفة على نفسه، يجرح نفسه الجراحات، ويحمل عليها الشدائد والمكروهات؛ لمنافع تقصد وخير يتأمل في العاقبة، ثم لم يوصف بالسفه، ولا بالخروج عن الحكمة والرحمة، من نحو الحجامة والافتصاد، وشرب الأدوية الكريهة الشديدة ما لو لم يتأمل ما قصد من النفع والعافية في العاقبة؛ ما تحمل تلك المكروهات والشدائد، فدل ما وصفنا أن تحمل الأذى، والألم، والمكروه - غير خارج عن الحكمة والرحمة، ولا الفعل بما فعل سفه؛ إذا كان لمنافع تقصد في العاقبة، وعاقبة تتأمل. فيبطل قول الثنوية: أن ذلك مما يزيل الرحمة؛ على أن هذه الأنعام والبهائم لم تخلق للمحنة وللجزاء في العاقبة؛ ولكن خلقت لمنافع البشر؛ فلهم الانتفاع بها؛ مرة بلحومها، ومرة بحمل أثقالهم والانتفاع بظهورها، مع ما ذكرنا أن تحمل المكروهات وأنواع الشدائد، والآلام - لا تخرج الفعل عن الحكمة، ولا تزيل الرحمة والرأفة إذا قصد به النفع، في العاقبة، وطمع فيه الخير. وهذا يدل أنه أبيح لنا الانتفاع بها؛ والذبح على غير جعل حقيقتها لنا؛ حيث لم يبح لنا إتلافها؛ إذ لو كان أصول الأشياء لنا لكان لا يمنع عن الإتلاف، فدل أنه أبيح لنا الانتفاع بها على غير جعل الحقيقة والأصول لنا، فيبطل قول من يقول: إن الأشياء في الأصل على الحل والإباحة حتى يقوم ما يحظر. قال أبو عبيد: (حِينَ تُرِيحُونَ) يقال منه: أرحت الإبل أريحها إراحة، والإراحة عند العرب: أن يصدر الرعاء مواشيها بالليل إلى مآويها؛ ولهذا سمي ذلك الموضع: المراح. وقوله: (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) هو إخراجها إلى المرعى؛ يقال: سرحتها، أسرحها سرحًا وسروحا. وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ. والدفء: ما ذكرنا أنه من الاستدفاء.

(8)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) قوله: (وَزِينَةً) يحتمل وجهين: أحدهما: أن الماشي هو دون الراكب، والمشي يؤثر نقصانًا في الوجه والركوب لا، وذلك زينة؛ على ما ذكرنا في قوله: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ). والثاني: أن الراكب إذا نظر إلى الماشي سرّ بركوبه، فالسرور يظهر في وجهه، وذلك يزيد في حسنه وجماله، وأصله: ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ. . .) الآية، (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) بيِّن أنه لماذا خلق الأنعام وما جعل فيها؛ وهو ما ذكر: أنه جعل فيها الدفء والمنافع ومنها تأكلون، وبيّن أنه لماذا خلق الخيل؛ وهو ما ذكر: لتركبوها وزينة. وسئل ابن عَبَّاسٍ: عن لحوم الخيل؟ فقرأ: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) ولم يقل: لتأكلوها؛ فكره أكلها لذلك. وتمام هذا أن اللَّه ذكر الأنعام، وما ذكر من النعم والانتفاع بها، وبالغ في ذكرها؛ لأنه قال: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) وقال: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. . .) الآية، وقال: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ)، وقال: (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا. . .)، إلى آخر ما ذكر، ذكر جميع ما ينتفع به؛ من أنواع المنافع ذكرًا شافيًا مبالغا غير مكفي، فدل ما ذكر في الخيل من الركوب، وكذلك في البغال والحمير؛ على أنه ليس فيها منفعة أخرى سوى ما ذكر؛ وهو الركوب؛ إذ خرج الذكر لها على المبالغة والاستقصاء؛ ليس على الاكتفاء، ولو كان هنالك منفعة أخرى لذكر على ما ذكر في غيره. واللَّه أعلم. والثاني من الأشياء: أشياء يعرف خبثها؛ بنفار الطباع، والصبيان أول ما بلغوا يرغبون في ركوبها، لا أحد يرغب في أكلها إلا من غير طبعه عما كان مجبولا به؛ فهو يرغب في أكله، وأما من ترك وطبعه يستخبث وينفر طبعه عن أكله. واللَّه أعلم. وروي عن جابر قال: لما كان يوم خيبر أصاب الناس مجاعة، وأخذوا الحمر الأهلية

فذبحوها، فحرم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لحوم الحمر الإنسية، ولحوم الخيل والبغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وحرم الخلسة والنهبة. وروي عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خلاف ذلك قال: أطعمنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر. وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: نحرنا فرسًا في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأكلنا. وفي بعض الأخبار: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لحوم الحمر وأذن لنا في لحوم الخيل. قلنا: قد يجوز أن يكونوا أكلوه في الحال التي كان يؤكل فيها الحمر؛ لأن النبي إنما نهى عن أكل لحوم الخيل صحيحًا، فقد يجوز أن يكونوا أكلوا لحم الفرس في حال الإباحة؛ إذ لم يذكروا الوقت. وعن الحسن قال: كان أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يأكلون لحوم الخيل في مغازيهم، وكان الحسن لا يرى فيها بأسا على كل حال، وقول الحسن: إنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل في مغازيهم يدل على أنهم كانوا يأكلونها في حال الضرورة. رُويَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الخيل لثلاثة: فهي لرجل كذا، ولرجل آخر كذا، وعلى رجل وزر ". يبيِّن أنها لا تصلح لغير ذلك، ولو صلحت للأكل لقال: الخيل لأربعة؛

(9)

ولقال: ولرجل طعام. ومما يبين ما ذكرنا: أن البغل حرام؛ وهو من الفرسة؛ فلو كانت أمه حلالا كان هو أيضًا حلالا؛ لأن حكم الولد حكم أمه؛ لأنه منها أو هو كبعضها، فمن حرم لحم البغل لزمه أن يحرم لحم الفرسة في حكم النظر والمقاييس؛ ألا ترى أن حمار وحش لو نزا على حمارة أهلية لم يؤكل ولدها، ولو أن حمارًا أهليًّا نزا على حمارة وحشية؛ فولدت أُكل ولدها، أفلا ترى أنه جعل حكم الولد حكم أمه؛ ولم يعتبر بالفحل، فلما كان لحم البغل حرامًا وجب أن يكون لحم الفرسة كذلك. إلا أن أبا حنيفة - رحمه اللَّه - كان لا يطلق تحريم أكلها؛ لما فيها من الشبهة، والاختلاف، والأحاديث المروية عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لكنه ذكر الكراهة للشبهة التي فيها؛ وكان أبو يوسف - رحمه اللَّه - يبيح أكلها. وقد يجوز أن يحتج لأبي يوسف؛ في الفرق بين المولود من الفرسة وبين ولد الحمارة الوحشية إذا نزا عليها حمار أهلى بأن ولد الحمارة لم يتغير عن جنس أمه؛ فحكمه حكمها، والبغل ليس من جنس أمه؛ هو من جنس ثالث، فلذلك لم يكن سبيلها بسبيله. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). أخبر أنه يخلق ما لا نعلم؛ فليس لنا أن نتكلف في علم ذلك. أو يخلق من النعم - فيما خلق - ما لا تعلمون أنتم أنها نعم. أو قال: يقول قوم: أن ليس لله أن يخلق شيئًا لا يطلعه الممتحن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: على اللَّه بيان قصد السبيل، وهو الهدى: يبين الهدى من الضلالة، ويبين من السبل التي تفرقت عن سبيله؛ كقوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْهَا جَائِرٌ) أي: عليه بيان ما يجوز منها؛ من قصد السبيل يعدل ويجار، أو يقال: وباللَّه يوصل إلى قصد السبيل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَعَلَى اللَّهِ) أي:

(10)

وباللَّه يوصل بقصد السبيل؛ وهي السبل التي ذكرنا، (وَمِنْهَا جَائِرٌ) كقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: طريق الحق والعدل لله، وقد يستعمل حرف (على) مكان (له) كقوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) أي: للنصب وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) أي: لربهم، كقوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، (وَمِنْهَا جَائِرٌ): وهي السبل المتفرقة عن سبيله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ). قد ذكرنا تأويله، وقوله: (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) يخرج على وجهين: أحدهما: لو شاء أكرم الخلق كله اللطف الذي أكرم أولياءه؛ فاهتدوا به؛ فيهتدون. والثاني: لو شاء أعطاهم جميعًا الحال التي يكون بها الاهتداء؛ وهو ما قال: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، إلى آخر ما ذكر؛ لما لا يحتمل أنه إذا كان ذلك مع الكفار لكفروا جميعًا، وإذا كان تلك الحال للمسلمين لا يسلمون. * * * قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) موصول بقوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ)، وقوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ)، وقوله. (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا) (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ).

(11)

يقول: الذي خلق لكم ما ذكر من الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء لكم؛ منه شراب، ومنه شجر هذا يحتمل ما ذكرنا: أنه أنزل من السماء ماء لنا؛ ثم أخبر أنه منه شراب، ومنه شجر. ويحتمل: هو الذي أنزل من السماء ماء، ثم أخبر: (لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ). ثم يحتمل قوله: (مِنْهُ شَرَابٌ) جميع ما يشرب من الأشربة؛ إذ منه تكون الأشربة جميعًا؛ وجميع الأشياء. ويحتمل (مِنْهُ شَرَابٌ) الماء خاصة. (وَمِنْهُ شَجَرٌ): الشجر: معروف؛ هو الذي يعلو ويرتفع في الأرض؛ لا يسمى الحشيش وما ينبسط على وجه الأرض شجرًا، فظاهر هذا أن يرجع إلى ذلك المعروف؛ إلا أنه ذكر شجرًا (فِيهِ تُسِيمُونَ): أي: تزرعون، دل هذا أنه إنما أراد بالشجر المنبسط على وجه الأرض والمرتفع عليها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: السائمة: الراعية، وكذلك قال أبو عوسحة، وقال أبو عبيدة: أسمت سائمتي: أي: رعيتها؛ وكذلك قوله: (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ)، أي: الراعية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) أي: ينبت لكم بالماء الذي ذكر أنه أنزل من السماء الزرع، والزيتون، وجميع ما ذكر، جعل اللَّه - بلطفه - الماء لقاح كل الأشياء المختلفة والمتفقه، ليس كغيره من الدواب؛ حيث لم يجعل لقاح شيء من جنس آخر، إنما جعل لقاح كل نوع من نوعه، وجعل في الماء بلطفه سرية توافق جميع الأشياء المختلفة، لو اجتمع الخلائق على إدراك ذلك - وإن اجتهدوا - لم يقدروا عليه، يعرفون الماء ظاهرًا؛ ولكن لا يدركون ما فيه من اللطف والسرية؛ التي يكون بها حياة كل أحد وموافقته. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). ذكر أن فيه آية لقوم يتفكرون، ولم يذكر أنه لماذا؟ لكنه ذكر أنه آية لقوم يتفكرون؛

(12)

بالتفكر يعرف أنه آية لماذا، وهذا يدلّ على أن الأشياء التي غابت عنا ظواهرها بالتفكر والنظر تدرك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ ... (12) وما ذكر. ووجه تسخير هذه الأشياء لنا: هو أن اللَّه خلق هذه الأشياء، وجعل فيها منافع للخلق؛ تتصل تلك المنافع إلى الخلق شئن؛ أو أبين أحببن أو كرهن؛ جعل في النهار معاشًا للخلق؛ وتقلبًا فيه يتعيشون ويتقلبون، وجعل الليل راحة لهم وسكنًا، ينتفعون بهما شاءا أو أبيا، وكذلك ما جعل في الشمس والقمر والنجوم من المنافع: من إنضاج الفواكه والثمرات، وإدراك الزروع وبلوغها، ومعرفة الحساب والسنين والأشهر، ومعرفة الطرق والسلوك بها، وغير ذلك من المنافع ما ليس في وسع الخلق إدراكه، ينتفع الخلائق بما جعل فيها من المنافع شاءت هذه الأشياء أو أبت، فذلك وجه تسخيرها لنا. ويحتمل ما ذكر من تسخير هذه الأشياء لنا: ما جعل في وسعنا استعمال هذه الأشياء؛ والانتفاع بها، والخيل التي بها نقدر على استعمالها في حوائجنا. ويحتمل تسخيرها لنا: ما ينتفع بهن شئن أو أبين بالطباع. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ). يحتمل وجهين: يحتمل: أي: بأمره تنفع الخلائق ويحتمل (بِأَمْرِهِ): أي: كونها في الأصل هكذا؛ بأن تنفع الخلق. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). قال في الآية الأولى: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) جعل اللَّه تعالى التفكر سبيلا للعقول إلى إدراك الأشياء المغيبة بالحواس الظاهرة؛ إذ لا سبيل للعقل إلى إدراك ما غاب عنه إلا بالحواس الظاهرة، والتفكر فيها؛ لأن ما غاب عن الحواس الظاهرة، لا يدركه العقل؛ فجعل الحواس الظاهرة سبيلا للعقول إلى إدراك المغيب عنها. ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في الآية الأولى: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، وذكر في الآية الثانية: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، وفي الآية الثالثة: (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)، وفي الرابعة: (لَعَلَّكُمْ تشَكُرُونَ): فهو - واللَّه أعلم - كرره على مراتب؛ لأنه بالتفكر فيها يعقل ويعلم، ثم بعد العلم والعقل والفهم

(13)

يتذكر، وإذا تذكر عند ذلك شكر نعمه، ثم قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) و (يَتَفَكَّرُونَ) وما ذكر فيه: دلالة وحدانية اللَّه تعالى، ودلالة تدبيره وعلمه وحكمته، ودلالة بعث الخلائق، ودلالة قدرته وسلطانه؛ لأن الليل والنهار يأتيان الجبابرة والفراعنة، ويذهبان بعمرهم ويفنيانه؛ شاءوا أو أبوا، فذلك آية سلطانه وقدرته؛ ليعلم أن له السلطان والقدرة، لا لهم، وفيهما دلالة البعث؛ لأنه إذا أتى هذا ذهب الآخر حتى لا يبقى له أثر، ثم ينشئ مثله بعد أن لم يبق من الأول شيء ولا أثر، فالذي قدر على إنشاء النهار أو الليل بعد ما ذهب أثره وتلاشى - لقادر على إنشاء الخلق بعد ما ذهب أثرهم. وكذلك الشمس، والقمر، والنجوم، وما ذكر: لما اتسق هذا كله على سنن واحد؛ وتقدير واحد؛ على غير تفاوت فيها ولا تفاضل، وعلى غير تقديم ولا تأخير بل جرى كله على سنن واحد، وتقدير واحد، وميزان واحد؛ من غير تفاوت أولا تفاضل، ولا اختلاف. دل أنه على تدبير واحد خرج ذلك، لا على الجزاف، وأن مدبر ذلك كله واحد؛ إذ لو كان تدبير عدد لخرج مختلفا متفاوتًا، فدل أنه تدبير واحد لا عدد، وأنه على تدبير غيرٍ خرج وجرى كذلك، لا بنفسه، وأنه على حكمة، وعلم جرى كذلك، فدل على لزوم الرسالة والعبادة له؛ فهذا - واللَّه أعلم - تأويل قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) أي: مختلفًا أصنافه وجواهره. يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن قدرته، وسلطانه، ونعمه التي أنعم عليهم بها. أما سلطانه وقدرته: ما خلق في الأرض وأنبت فيها بالماء لم يرجع إلى جوهر الأرض وجنسها، ولا إلى جوهر الماء وجنسه، وهما كالوالدين: الماء كالأب، والأرض كالأم، فلم يرجع ما خرج منهما من جنسهما، ولا من جوهرهما؛ كما كان في سائر الأشياء رجع التوالد منها إلى جنس الوالدين وجوهرهما؛ بل رجع التوالد والنشوء من الأرض والماء إلى جنس البذر وجوهره؛ ليعلم قدرته وسلطانه على إنشاء الأشياء؛ بأسباب وبغير

(14)

أسباب، ومن شيء ومن لا شيء. ويذكر نعمه: حيث أخبر أنه خلق في الأرض من الأصناف المختلفة، والجواهر المتفرقة؛ لينتفعوا بها. ويحتمل قوله: (مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) من جنس واحد؛ من شيء واحد؛ لأنه يكون من جنس واحد ألوان مختلفة، ومن قدر على إنشاء ألوان مختلفة من شيء واحد لا يعجزه شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)، وفي آية: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، وفي آية (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، وفي آية: (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، و (لِلْمُتَوَسِّمِينَ)، وفي آية: (لِلْمُؤْمِنِينَ). فيحتمل أن يكون كله كناية عن المؤمنين؛ كأنه قال: إن في ذلك لآية للمؤمنين؛ إذ يجمع الإيمان جميع ما ذكر: من التفكر، والتذكر، والعقل، والاعتبار، والصبر، والشكر، وغيره. ويحتمل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، و (يَعْقِلُونَ)، و (يَذَّكَّرُونَ): أي: لقوم همتهم الفكر والنظر في الآيات، ولقوم همتهم التفهم والاعتبار فيها، لا لقوم همتهم العناد، والمكابرة، والإعراض عن النظر في الآيات والفكر فيها. وفي ذكر الآية للمتفكرين، والعاقلين، والمتذكرين: لما منفعة الآية تكون لهَؤُلَاءِ، وإن كانت الآيات لهم ولغيرهم، فمنفعتها لمن ذكر. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وتسخيره إياه لنا: هو ما بذل للخلق ما فيه من أنواع الأموال التي خلق اللَّه فيه: من الحلى والجوهر واللؤلؤ، وبذل ما فيه من الدواب: السمك وغيره، فلولا تسخير اللَّه إياه للخلق؛ وتعليمه إياهم الحيل التي بها يوصل إلى ما فيه من الأموال النفيسة؛ وإلا ما قدروا على استخراج ما فيه والوصول إليه؛ لشدة أهواله وأفزاعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا). يحتمل السمك خاصة. ويحتمل السمك وما فيه من الدواب؛ من نوع ما لو كان بريًّا أكل؛ من نحو الجواميس وغيرها. وقوله تعالى: (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا). يحتمل الحلية: اللؤلؤ والمرجان؛ الذي ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ). ثم يحتمل قوله: (حِلْيَةً): أي: ما يتخذ منه حلية. وهذا جائز؛ أن يسمى الشيء باسم ما يتخذ منه؛ وباسم ما يصير به في المتعقب. أو يسمى حلية؛ لأنه زينة.

ولا شك أن اللؤلؤ والمرجان هما زينة؛ ألا ترى أنه ذكر في الأنعام زينة وجمالًا، وفي الخيل والبغال كذلك، فالزينة في اللؤلؤ والمرجان أكثر، والجمال فيه أظهر أخبر أنه جعل لنا الوصول إلى ما في قعر البحر وهو ما ذكر من اللؤلؤ وأنواع الحلي، وما في بطن البحر: وهو ما ذكر من اللحم الطري، وما هو على وجه الماء: وهو السفن التي ذكر. ووجه تسخيره إيانا الخيل والأسباب التي علمنا؛ حتى نصل إلى ما فيه؛ فكأنه قال: سخرت لكم البحر من أسفله إلى أعلاه. وفي ذلك دلالات: إحداها: إباحة التجارة بركوب الأخطار؛ لأن الغائص في البحر يخاطر بنفسه؛ وروحه، وكذلك راكب السفن؛ فلولا أنه مباح له طلب ذلك؛ وإلا ما ذكر هذا في منته؛ إذ هو يخرج مخرج ذكر الامتنان. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) قال الحسن، والأصم: المواخر: السفن المحشوات؛ الوافرة أحمالها وأثقالها، يذكر منَّته التي منَّ بها عليهم؛ حيث جعل لهم السفن والفلك؛ التي يحمل بها الأحمال الثقال العظام في البحار ما سبيلها التسفّل والانحدار في البحر؛ فأمسكها فيه بالسفن العظام الثقيلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مواخر: أي: جارية مقبلة مدبرة بريح واحدة في البحر؛ لأن ماء البحر راكدة؛ فأجرى السفن فيه بالرياح؛ حيثما أرادوا وقصدوا؛ إذ الأشياء قد تجري على الماء، إذا كان له جرية، وأما إذا كان راكدًا ساكنًا فلا سبيل إلى ذلك؛ فيذكر عظيم منته وقدرته على إجراء السفن في الماء الراكد بالريح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَوَاخِرَ) أي: جواري تشق الماء شقًّا وتخرقه، يقال: مخرت السفينة؛ ومنه: مخر الأرض: إنما هو شق الماء لها؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. وكذلك قال أبو عبيدة: إنه من شق السفن الماء. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المواخر:

(15)

المستقبلة، يقال: استمخر الإنسان الريح: إذا استقبلها. وقال أبو عبيدة: مواخر من الاستدبار؛ يقال: إذا أراد أحدكم البول فليستمخر الريح: أي: يستدبرها. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ). يحتمل بالتجارة التي جعل فيها؛ حيث جعل سبيل قطع البحار إلى بلاد نائية بعيدة بالسفن؛ ليبتغوا ما به قوام أبدانهم وأنفسهم؛ إذ جعل بنيتهم بنية لا تقوم إلا بالأغذية، ولعلهم لا يظفرون ما به قوام أبدانهم وبنيتهم في بلادهم؛ فيحتاجون إلى البلاد النائية البعيدة عنهم، فمنَّ عليهم بذلك؛ كما من بقطع المفاوز والبراري بالدواب؛ بقوله: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ). أو قال: (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بما يستخرج منه، ولعلكم تشكرون جميع ما ذكر: من ألوان النعم والمنافع؛ من أول السورة إلى آخرها؛ يستأدي به شكره. وفي قوله: (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) دلالة إباحة التجارة، وطلب الفضل بركوب الأخطار واحتمال الشدائد؛ حيث أخبر أنه سخر البحر؛ حتى أمكنهم ركوبه بالحيل والأسباب التي علمها لهم؛ لأن الغواص يخاطر بروحه ونفسه، وكذلك راكب السفينة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) أي: ألقى في الأرض الجبال؛ لئلا تميد بكم؛ قال بعض أهل التأويل: قوله: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ) لئلا تميد بكم، لأنها بسطت على الماء؛ فكانت تكفو بأهلها؛ كما تكفو السفينة في الماء؛ فأثبتها بالجبال؛ لتقر بأهلها، لكن لو كان على ما ذكروا أنها بسطت على الماء لكانت لا تكفو ولا تضطرب، ولكنها تتسرب في الماء وتنهار فيه؛ لأن من طبعها التسقل والتسرب في الماء؛ إلا أن يقال: إن اللَّه - عز وجل - جعل - بلطفه - طبعها طبع ما يضطرب؛ وتكفو؛ فعند ذلك يحتمل ما ذكروا. والله أعلم. ولو قالوا: إنها بسطت على الريح لكان يحتمل ما قالوا؛ ويكون أشبه بقولهم؛ ألا ترى أن السراج في الآبار والسروب لا يضيء بل ينطفئ كما أسرج؛ فيشبه أن يكون انطفاؤه لريح تكون في الأرض، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، واللَّه أعلم بذلك.

(16)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: بسطت على ظهر الثور فكانت تضطرب بتحركه فأرساها بما ذكر، والله أعلم. ثم قوله: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا) يخرج ذكر ذلك منه ذكر الامتنان والنعمة؛ لأن له أن يترك الأرض على ما خلقها؛ ولا يثبتها بالجبال؛ لتميد بأهلها وتميل؛ فلا يقدروا على القرار عليها والانتفاع بها، لكنه - بفضله ومنته - أثبتها بالجبال؛ ليقروا عليها، ويقدروا على الانتفاع بها. وكذلك له ألا يجعل لهم فيها أنهارًا جارية؛ فيكون مياههم من آبارها، وكذلك له أن يحوجهم بأنواع الحوائج؛ ثم لا يبين لهم الطرق والسبل التي بها يصلون إلى قضاء حوائجهم، ويكلفهم طلب الطرق والسبل التي بها يصلون إلى قضاء حوائجهم، ويكلفهم طلب الطرق والسبل التي بها تقضى حوائجهم بأنواع الحوائج، ثم لا يبين لهم الطرق والسبل، لكنه بفضله ومنّه بيَّن لهم الطرق والسبل التي تفضي إلى البلدان والأمكنة التي فيها تقضى حوائجهم، وكذلك بفضله جعل لهم في الأرض أنهارًا جارية، وأثبت الأرض بالرواسي؛ ليقروا عليها، وذلك كله بمنه وفضله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) يحتمل تهتدون الطرق والسبل التي تفضيهم إلى الحوائج. ويحتمل: تهتدون الهدى المعروف؛ بما ذكر من نعمه ومننه. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) هذا أيضًا يخرج مخرج ذكر المنن والنعم عليهم؛ لأنهم لولا ما جعل اللَّه أعلامًا في البحار والبراري يعرفون بها السلوك فيها؛ وإلا لم يقدر أحد معرفة الطرق في البحار والبراري. ثم يحتمل الأعلام: مرة بطعم الماء والجبال التي جعل فيها وبالرياح، ومرة تكون بالنجم؛ يعرفون بطعم الماء أن هذا الطريق يفضي إلى موضع كذا، وكذلك يعرفون بالجبال وبالرياح، يعرفون السبل إلى حوائجهم ومقصودهم. وكذلك بالنجم يعرفون الطرق؛ فالأعلام مختلفة بها يهتدون الطرق والسبل.

(17)

ويحتمل: يهتدون بما ذكر من الأعلام والنجبم سبب اهتدائهم إلى توحيد اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: على الاحتجاج عليهم؛ أي: لا تجعلوا من لا يخلق ولا ينفع ولا ينعم كمن هو خالق الأشياء كلها؛ منعم النعم عليكم، (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ): أي: إن صرف العبادة والشكر إلى غير خالقكم وغير منعمكم جور وظلم. والثاني: يخرج مخرج تسفيه أحلامهم؛ أنهم يعبدون من يعلمون أنه ليس بخالق، ويتركون عبادة من يعلمون أنه خالق الأشياء كلها، أفلا تذكرون واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: وإن تعدوا أنفس نعمة اللَّه التي أنعمها عليكم وأعينها لا تقدروا على عدّها لكثرتها. والثاني: (وَإِنْ تَعُدُّوا): وإن تكلفتم واجتهدتم كل جهدكم أن تقوموا لشكر ما أنعم اللَّه عليكم ومنَّ، وما قدرتم على القيام لشكر واحدة منها؛ فضلا أن تقوموا للكل. والثالث: يخرج على العتاب والتوبيخ؛ أي: كيف فرغتم لعبادة من لا يخلق ولا ينعم عن عبادة من خلق وأنعم، وكنتم لا تقدرون على إحصاء ما أنعم عليكم؛ فضلا أن تقوموا لشكره. وقال الحسن في قوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا): لا تعرفوا كل النعم؛ لأنه كم من النعم ما لا يعرفه الخلق؛ كقوله: (نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)، فإذا لم يعلموا لم يقدروا إحصاءها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: إنكم وإن افتريتم على اللَّه، وعاندتم حججه وآياته، وكذبتم رسله فإذا استغفرتم؛ وتبتم عما كان منكم؛ يغفر لكم ذلك كله؛ كقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).

(19)

والثاني: (لَغَفُورٌ): أي: يستر عليكم ما كان منكم؛ ما لو أظهر ذلك لافتضحتم؛ لكنه برحمته ستر ذلك عليكم، رحيم بالستر عليكم. أو ذكر (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) على أثر ذكر النعم وأنواع المنافع؛ ليكونوا رحماء على ما ذكر مما سخر لنا وأذل. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: ذكر هذا ليكونوا أيقظ وأحذر؛ لأن في الشاهد من يعلم أن عليه رقيبًا حافظًا بما يفعل، كان هو أرقب وأحفظ لأعماله، ويكون أحذر ممن يعلم أنه ليس عليه حافظ ولا رقيب. والثاني: يعلم ما تسرون من المكر برسول اللَّه، والكيد له من القتل، والإخراج، وغير ذلك أي: يعلم ذلك، كله منكم، ما أسررتم وأعلنتم، وهو يخرج على نهاية الوعيد والتعيير، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) يحتمل يدعون: أي: يسمونها: آلهة، وربما كانوا يدعونهم عند الحاجة. ويحتمل (يَدْعُونَ): يعبدون؛ أي: الذين يعبدون من دون اللَّه لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون؛ فهذا يرجع إلى الأول؛ أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) يحتمل المراد بقوله: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ): الذين عبدوا الأصنام والأوثان وجميع من كفر باللَّه؛ هم أموات غير أحياء؛ لأن اللَّه تعالى سمَّى الكافر في غير آي من القرآن ميّتًا؛ فيشبه أن يكون قوله: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ) أيضًا. (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). أي: يشعرون حين يبعثون، أي: لو شعروا هذا في الدنيا ما شعروا في الآخرة؛ لم

(22)

يعلموا ما عملوا. ويحتمل قوله: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ): الأصنام التي عبدوها؛ هن أموات غير أحياء. قَالَ بَعْضُهُمْ: أموات لأنها لا تتكلم، ولا تسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، ولا تضرّ؛ كالميت (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ): أي: ليس فيها أرواح ينتفع بها كالبهائم والأنعام، ويكون قوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) راجعًا إلى الذين عبدوا الأصنام؛ لأنها لا تشعر أيان يبعثون، وهم يعلمون أنها لا تشعر ذلك؛ لكن هم يشعرون حين يبعثون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) يبعث الآلهة والذين عبدوها جميعًا؛ كقوله: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ) وقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يحشر أُولَئِكَ الذين عبدوا الأصنام، (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ): أي: حين يبعثون، ولو شعروا ذلك في الدنيا ما فعلوا ما فعلوا، وإن كان قوله: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) راجعًا إلى الملائكة والملوك الذين عبدوا دون اللَّه يكون تأويل قوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ): أي: لا يشعرون وقت يبعثون، وإن كان راجعًا إلى الأصنام، فقوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ): أي: لا يشعرون أنهم يبعثون، لا يحتمل أن يكون قوله: (لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) وإن يقال ذلك، في الأصنام؛ لأن أُولَئِكَ يعلمون أنهم لا يخلقون، وإنما يقال ذلك في الأصنام: لا تسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، فدل أن ذلك راجع إلى الملائكة والذين عبدوهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) قد ذكرنا فيما تقدم ما يبين إبطال ما كانوا يعبدون، وما لا يليق بأمثالها العبادة لها؛ ونصبهم آلهة ثم ذكر ما يبين جعل الألوهية والربوبية أنه لواحد، وأنه هو المستحق لذلك دون العدد الذي عبدوها؛ فقال: إلهكم إله واحد لا العدد الذي عبد أُولَئِكَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ).

(23)

يحتمل قوله: (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ): أي: منكرة للإيمان بالآخرة والبعث بعد الموت. أو قلوبهم منكرة لجعل الألوهية والربوبية لواحد وصرف العبادة إليه؛ كقولهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ). ويحتمل قوله: (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) لما جاء به الرسول، وهم مستكبرون على ما جاء به من اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) يحتمل مستكبرون على رسول اللَّه، لم يروه أهلا لخضوع أمثالهم لمثله، أو مستكبرون إلى ما دعتهم الرسل؛ لأن الرسل جميعًا دعوا الخلق إلى وحدانية اللَّه وجعل العبادة له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) يحتمل قوله: (مَا يُسِرُّونَ): من المكر برسول اللَّه، والكيد له، (وَمَا يُعْلِنُونَ) من المظاهرة عليه. أو يعلم ما يسرون من أعمالهم الخبيثة التي أسروها وما أعلنوها، يخبر أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم؛ أسروا أو أعلنوا. وقوله: (لَا جَرَمَ) قال الأصم: (لَا جَرَمَ): كلمة تستعملها العرب في إيجاب تحقيق أو نفي تحقيق؛ كقولهم: حقُّا، ولعمري، وايم اللَّه، ونحوه. وقال الحسن: هو كلمة وعيد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا جرم، وحقُّا، وبلى، ولا بدّ، كله في الحاصل: يرجع إلى واحد، وهو وعيد؛ لأن قوله: (يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) وعيد. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ). لأنه لا يحب الاستكبار، ولا يليق لأحد من الخلائق أن ينكبر على غيره من الخلق؛ لأن الخلق كلهم أشكال وأمثال، ولا يجوز لكل ذي مثل وشكل أن يتكبر على شكله ومثله؛ لأن تكبر بعضهم على بعض كذب وزور؛ إذ جعل كلهم أمثالا وأشكالا، لذلك كان زورًا وكذبًا، وقد حرم اللَّه الكذب والزور، وجعله قبيحًا في العقول.

(24)

قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ). أي: قال الأتباع للرؤساء: ماذا أنزل ربكم؟ قال الرؤساء: أنزل أساطير الأولين، أو يخرج على الإضمار، كأنهم قالوا لهم: ماذا يقول إنه أنزل ربكم عليه؟ فقالوا عند ذلك: أساطير الأولين، وإلا لا يحتمل أن يكون ذكروا أساطير الأولين، جواب سؤالهم: ماذا أنزل ربكم؟ مفردًا؛ لأنهم كانوا يقرون باللَّه بقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)؛ فلا يحتمل أن يكونوا إذا سئلوا ماذا أنزل ربكم؛ فيقولون: أساطير الأولين إلا أن يكون في السؤال زيادة قول، أو في الجواب إضمار؛ فيكون - واللَّه أعلم - كأنه قال: وإذا قيل لهم: ماذا يزعم هذا أنه أنزل عليه ربكم؟ قالوا عند ذلك: إنه يقول: أساطير الأولين؛ كقوله: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ) أي: قالوا: يَا أَيُّهَا الذي يزعم أنه نزل عليه الذكر. أو يكون قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) فقالوا: لم ينزل اللَّه شيئًا إنما يقول أساطير الأولين، ومثل هذا يحتمل أن يكون. وقوله: (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قال أَبُو عَوْسَجَةَ: أحاديث الأولين والواحد أسطور، وهي الأحاديث المختلقة؛ كقوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ) أي: لا أصل له؛ وأصله الكذب. وهكذا عادة أُولَئِكَ الكفرة يقولون للأنباء: أساطير الأولين، وكانوا ينسبون ما يقرأ عليهم إلى السحر، ولو كان في الحقيقة سحرًا أو أحاديث الأولين كان دليلا له. أو قالوا ذلك على الاستهزاء له، وذلك جائز أن يخرج قولهم ذلك على الاستهزاء. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ

(25)

بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يحتمل: أنهم يحملون أوزارهم كاملة؛ يعني الذين قالوا للرسل: أساطير الأولين، ومن أوزار الذين يقلدون رسلهم، ووفدهم الذين بعثوا عن السؤال عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فحملوا أوزار أنفسهم؛ وأوزار الرسل وأوزار الذين يقلدون الرسل ويقتدون بهم بغير علم؛ لأنهم لم يعلموا أن أُولَئِكَ يقتدون بالرسل فيضلون، وهم وإن لم يعلموا فذلك عليهم؛ لأنهم هم الذين سنوا ذلك؛ وهو كما روي: " من سَنَّ سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " ويحتمل: ليحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين طمعوا الإسلام؛ إذا أسلموا سقط تلك الأوزار عنهم. وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ): هم لم يفعلوا ما فعلوا ليحملوا أوزارهم، ولكن معناه - واللَّه أعلم - أي: ليصيروا حاملين لأوزارهم والذين أضلّوهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يحتمل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي: بسفه. (أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) أي: ساء ما يحملون. وقوله: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي: لم يعلموا أن تصير أوزارهم عليهم، أو لم يعلموا ما يلحق بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) لم يزل كانت عادة الكفرة بالمكر برسل اللَّه؛ والكيد لهم، وكذلك مكر كفار مكة برسول اللَّه، يذكر هذا - واللَّه أعلم - لرسول اللَّه ليصبره على أذاهم إياه؛ كما صبر أُولَئِكَ على مكر قومهم وترك مكافأتهم إياهم؛ كقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). ثم مكرهم الذي ذكر كان يخرج على وجهين: أحدهما: فيما جاءت به الرسل؛ كانوا يتكلفون تلبيس ما جاءت به الرسل على قومهم. والثاني: يرجع مكرهم إلى أنفس الرسل؛ من الهم بقتلهم وإخراجهم من بين

(27)

أظهرهم؛ ونحوه، فخوف بذلك أهل مكة بصنيعهم لرسول اللَّه؛ أن ينزل بهم كما نزل بأُولَئِكَ الذين مكروا برسلهم؛ لئلا يعاملوه بمثل معاملة أُولَئِكَ رسلهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ). قال الحسن: هذا على التمثيل بالبناء الذي بُني على غير أساس؛ ينهدم ولا يعلم من أي: سبب أنهدم، فعلى ذلك مكرهم يبطل ويتلاشى؛ كالبناء الذي بني على غير أساس ويشبه أن يكون على التمثيل من غير هذا الوجه؛ وهو أنهم قد مكروا وأحكموا مكرهم بهم؛ فيتحصنون بذلك؛ كالبناء الذي يتحصن به؛ فأبطل اللَّه مكرهم؛ كقوله: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا. . .) الآية، وقوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ). هو ما ذكرنا من إبطال مكرهم الذي به كانوا يتحصنون؛ كوقوع السقف الذي به يتحصن من أنواع الأذى والشرور. ويحتمل على التحقيق؛ وهو ما نزل بقوم لوط؛ من الخسف، وتقليب البنيان، وإمطار الحجر عليها. وأما ما ذكر بعض أهل التأويل: من الصرح الذي بنى نمرود وبنيانه، ووقوعه عليهم؛ فإنا لا نعلم ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ). كذلك كان يأتي العذاب الظلمة الكذبة؛ من حيث لا علم لهم بذلك؛ كقوله: (فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً. . .) الآية، وقوله: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ)، هو من الإتيان، ومعلوم أنه لا يفهم من إتيانه الانتقال من مكان إلى مكان، ولكن إتيان عذابه، أضيف إليه الإتيان؛ لما بأمره يأتيهم، ومنه [ .... ]، فعلى ذلك لا يفهم من قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، وقوله: (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ. . .) الآية إتيانُ الانتقال ومجيئه من مكان إلى مكان، وقد ذكرنا هذا وأمثاله في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ... (27) أخبر أنه يخزيهم يوم القيامة بعد ما عذبهم في الدنيا؛ بقوله: (وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ).

(28)

وقوله: (يُخْزِيهِمْ): قال أهل التأويل: يعذبهم، وكأن الإخزاء هو الإذلال، والإهانة، والفضح، يذلهم، ويهينهم، ويفضحهم في الآخرة؛ مكان ما كان منهم من الاستكبار، والتجبر على النبي وأصحابه، وكذلك قوله: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا)، أي: لا يذلهم، ولا يهينهم؛ لتواضعه للمؤمنين، وخفض جناحه لهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي: تعادون أوليائي فيهم، أو تعادونني فيهم. وقوله: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ) ليس له بشركاء؛ ولكن أضاف إلى نفسه: شركائي؛ على زعمهم في الدنيا أنها شركاؤه، وكذلك قوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ) أي: إلى ما في زعمهم؛ وتسميتهم إياها آلهة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي: كنتم تخالفون فيهم وتعادون؛ أي: تخالفون المؤمنين في عبادتهم إياها؛ لأنهم يقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وهم شفعاؤنا عند اللَّه، ونحوه، كانوا يخالفون المؤمنين، وكانوا يشاقون في ذلك؛ إلا أنه أضاف ذلك إلى نفسه لأنهم أولياؤه، وأنصار دين اللَّه، وأضاف إليه المخالفة والمشافة لأنهم خالفوا أمر اللَّه. وقوله: (قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ). قال أهل التأويل: الذين أوتوا العلم الملائكة الكرام الكاتبون، لكن هم وغيرهم من المؤمنين محتمل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ) أي: الذل والهوان والافتضاح وكل سوء على الكافرين هكذا يقابل كل معاند ومكابر في حجج اللَّه وبراهينه مكان استكبارهم وتجبرهم في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) قال الحسن: تتوفاهم الملائكة من بين يدي اللَّه يوم الحساب إلى النار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تتوفاهم الملائكة - وقت قبض أرواحهم - ظالمي أنفسهم بالشرك والكفر باللَّه.

(29)

وعلى تأويل الحسن: يكون قوله: (ظَالِمِي أَنْفُسِهِ) في الدنيا، ويجوز أن يوصفوا بالظلم في الآخرة أيضا؛ بكذبهم فيها في قولهم: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) وقولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وأمثاله من الكذب؛ حيث ينكرون الإشراك في ألوهية اللَّه وعبادته، كأن هذا الإنكار والكذب منهم في أول حالهم، ظنّا منهم أن ذلك ينفعهم، فإذا لم ينفعهم إنكارهم طلبوا الرد إلى الدنيا، أو إلى حال الأمن؛ ليعملوا غير الذي عملوا؛ كقولهم: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، فإذا لم يردوا وأيسوا عن ذلك؛ فعند ذلك أنطق اللَّه جوارحهم؛ حتى تشهد عليهم بما كان منهم فعند ذلك يقرون، ويعترفون بذنوبهم؛ كقوله: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: يسلمون ويستسلمون لأمر اللَّه، ولكن لو كان ما ذكروا لم يكونوا ينكرون عمل السوء، كقولهم: ما كنا نعمل من سوء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ): هو الاستخزاء، والخضوع والتضرع. ويشبه أن يكون قوله: (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) عند الموت يؤمنون عند معاينة ذلك، أو سلموا عليهم في الآخرة على ما رأوا في الدنيا المؤمنين يسلم بعضهم على بعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) في الآخرة، واللَّه أعلم بذلك، فأكذبهم اللَّه في قولهم: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)؛ فقال: (بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذا وعيد يخبر ألا يجوز كذبهم في الآخرة، ولا يحتمل كما جاز في الدنيا؛ ولم يظهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا (29)، وقوله: (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي: بئس مقام المتكبرين الذين تكبروا على دين اللَّه، أو تكبروا على ما جاء به الرسل من اللَّه، وما أنزل اللَّه عليهم. * * * قوله تعالى: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا). قال أهل التأويل: هذا قول المؤمنين؛ مقابل قول المشركين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَاذَا أَنزَلَ

(31)

رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ). ثم اختلف في قوله: (قَالُوا خَيْرًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قَالُوا خَيْرًا) أي: قولهم الذي قالوا أنه أرسل بحق، وأنه كذا خير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قَالُوا خَيْرًا) حكاية عما أنزل على رسول اللَّه عصم: و (خَيْرًا): أي: أنزل عليه ربنا خيرًا، أو أن يكون الناس الذين يأتون من الآفاق يسألون عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإذا سألوا المؤمنين: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيرًا، وإذا سألوا الكفرة قالوا: أساطير الأولين. وجائز أن يكون أتباع المؤمنين سألوا كبراءهم: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيرًا، مقابل ما كان من كبراء الكفرة لأتباعهم أساطير الأولين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) من النصر لهم، والظفر على عدوهم. (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) لهم مما كان أعطاهم في الدنيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: للذين أحسنوا العمل في هذه الدنيا لهم حسنة في الآخرة، ولدار الآخرة خير لهم مما كان أعطاهم في الدُّنيَا؛ أي: الجنة خير وأفضل للمؤمنين مما أوتوا في الدنيا. (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ): قال هذا للمؤمنين مكان ما قال للكافرين: (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)، ثم نعت الدار التي وعد المتقين؛ فقال: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ (31) من اللذات والشهوات. فَإِنْ قِيلَ: أرأيت لو شاءوا أن يكون لهم درجات الأنبياء ومنازل الأبرار والصديقين؛ أيكون لهم ما شاءوا؟ قيل: لا يشاءون هذا؛ لأن مثل هذا إنما يكون في الدنيا إمّا حسدًا؛ وإما تمنيًا، فلا يكون في الجنة حسد؛ لأن الحسد هو أن يرى لأحد شيئًا ليس له؛ فيحسد أو يتمنى مثله، فأهل الجنة يجدون جميع ما يتمنون ويخطر ببالهم، فلا معنى لسؤالهم ربهم ما لغيرهم، واللَّه أعلم.

(32)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) ظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) على تأويل الحسن: تتوفاهم الملائكة وهم طيبون من بين يدي اللَّه يوم الحساب، يقولون لهم: (سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) وقد ذكرنا: أن السلام هو تحية؛ جعل اللَّه بين الخلق في الدنيا والآخرة؛ وقد ذكرناه في غير موضع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الذين تتوفاهم الملائكة بقبضهم الأرواح في الدنيا، يقبضون أرواحهم وهم طيبون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: طيبون أحياء وأمواتًا، وهم المؤمنون الذين طابت أعمالهم في الدنيا. يحتمل السلام وجهين: أحدهما: تحييهم الملائكة بالسلام في الجنة؛ كما يحيي أهل الإيمان في الدنيا بعضهم بعضا. والثاني: السلام يكون منهم أمن عن جميع الآفات والمكروهات، واللَّه سبحانه أعلم. * * * قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (34) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ). هذا الحرف يخرج على الإياس له من إيمانهم؛ أي: ما ينظرون لإيمانهم إلا وقت قبض أرواحهم، أو وقت نزول العذاب عليهم؛ أي: لا يؤمنون إلا في هذين الوقتين، ولا ينفعهم إيمانهم في هذين الوقتين؛ لأن إيمانهم إيمان اضطرار؛ كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)، وكقوله: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) يؤمنون عند معاينتهم بأس اللَّه؛ لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، يخبر أنهم ينظرون ذلك الوقت يؤيس رسوله عن إيمانهم، لما علم أنهم لا يؤمنون؛ ليرفع عنه مؤنة الدعاء إلى الإيمان والقتال معهم. وقوله: (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) يحتمل العذاب في الدنيا، ويحتمل عند معاينتهم العذاب

وقوله تعالى: (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: كذلك فعل المعاندون، والمكابرون، الذين كانوا من قبل برسلهم؛ من التكذيب لهم، والعناد، وتركهم الإيمان إلى الوقت الذي ذكر، كما فعل قومك من التكذيب لك يا مُحَمَّد والعناد. ويحتمل كذلك فعل الذين من قبلهم؛ أي: هكذا أنزل العذاب بمن كان قبل قومك بتكذيبهم الرسل والعناد معهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ظلَمَهُمُ اللَّهُ) بما عذبهم (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث وضعوا أنفسهم في غير موضعها الذي وضعها اللَّه، وحيث صرفوها عن عبادة من نفعهم، وأنعم عليهم، واستحق ذلك عليهم إلى من لا يملك نفعًا ولا ضرًّا، ولا يستحق العبادة بحال، فهم ظلموا أنفسهم؛ حيث صرفوها عن الحكمة إلى غير الحكمة لا اللَّه؛ إذ الله وضعها؛ حيث توجب الحكمة ذلك، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، والحكمة: هي وضع الشيء في موضعه، فهم وضعوا أنفسهم في غير موضعها، فأما الله تعالى فقد وضعها في المواضع التي توجب الحكمة وضعها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ). كأنه قال: ما ينتظرون للإيمان بعد الحجج السمعيات، وبعد الحجج العقليات، والحجج الحسيات إلا نزول الملائكة بالعذاب من اللَّه تعالى عليهم؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد أقام عليهم الحجج السمعيات والعقليات والحسيات، فلم يؤمنوا به ولم يصدقوه، فيقول: إنهم ما ينتظرون إلا الحجج التي تقهرهم وتضطرهم، فعند ذلك يؤمنون؛ وهو ما ذكر من نزول العذاب بهم. أو يقول: ما ينظرون بإيمانهم إلا الوقت الذي لا ينفعهم إيمانهم، وهو الوقت الذي تخرج أنفسهم من أيديهم؛ فأخبر أن إيمانهم لا ينفعهم في ذلك، وهو ما قال: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ. . .) الآية.

(35)

قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، وقال في سورة الأنعام قوله تعالى: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، وقال: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا)، وقال هاهنا: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). و (هل): هو حرف استفهام في الظاهر، لكن المراد منه: ما على الرسول إلا البلاغ المبين؛ على ما قاله أهل التأويل، ما قد كان من اللَّه من البيان أن ليس على الرسل إلا البلاغ المبين. وكذلك قوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ)، أي: ما ينظرون إلا أن تأتيهم كذا. وكذلك قوله: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى) (أم): هو حرف شك، ومراده: ما للإنسان ما تمنى، وأمثاله لما سبق من اللَّه ما يبين لهم أن ليس للإنسان ما تمنى، وقد ذكر تأويل قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) في سورة الأنعام. ويحتمل قولهم هذا وجوهًا: أحدها: قالوا ذلك على الاستهزاء به؛ كقوله: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا). والثاني: قولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ) أي: لو أمر اللَّه أن نعبده ولا نعبد غيره لفعلنا؛ كقوله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا. . .) الآية. والثالث: قالوا: لو لم يرض اللَّه منا ذلك ما تركنا فعلنا ذلك؛ ولكن أهلكنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ... (36) يخبر رسوله أنك لست بأول رسول، مبعوث إلى أمتك؛ ولكن قد بعث إلى كل أمّة

رسول، وهو كقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)، يصبره على ما يصيبه منهم من المكروه والأذى؛ أي: لست أنت بأول من يصيبه ذلك، بل كان لك قبلك إخوان أصابهم من أممهم ما يصيبك من أمتك. وقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ). هو على الإضمار؛ كأنه قال: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا وقلنا لهم: قولوا: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ. . .) الآية، (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) على ذلك كان بعث الرسل جميعًا إلى قومهم بالدعاء إلى توحيد اللَّه؛ وجعل العبادة له، والنهي عن عبادة الأوثان دونه؛ كقوله: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). ويكون قوله: (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ): كقوله: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) هما واحد. والطاغوت: قَالَ بَعْضُهُمْ: كل من عبد دون اللَّه فهو طاغوت. وقال الحسن: الطاغوت هو الشيطان، أضيف العبادة إليه بقوله: (لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ)، لأن من يعبد دونه يعبد بأمره، فأضيف لذلك إليه، وقد ذكرنا هذا أيضًا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ). هذا يدل أنه لم يرد بالهدى البيان؛ على ما قاله بعض الناسي؛ إذ قد سبق منه البيان لكل واحد، وما ذكر أيضا: (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) وهذا يرد على المعتزلة قولهم؛ حيث قالوا: الهدى: البيان من اللَّه، لكن الهدى منه في هذا الموضع ليس هو البيان، هو ما يكرم اللَّه به عبده؛ ويوفقه لدينه. وقوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ) لاختياره الهدى (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) أي: لزمت للزومه الضلالة واختياره إياه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ. . .) الآية. قال الحسن: قوله: (فَسِيرُوا) ليس على الأمر؛ ولكن كأنه قال: لو سرتم في الأرض لرأيتم كيف كان عاقبة المكذبين؛ بالتكذيب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سيروا؛ كأنه على الحجاج عليهم أن سيروا في الأرض؛ فإنكم ترون

(37)

آثار من كان قبلكم الذين أهلكوا بالتكذيب، كان النبي يخبرهم من أنباء الأمم الخالية؛ وما نزل بهم، فينكرون ذلك؛ فقال عند ذلك: فسيروا في الأرض فانظروا إلى آثار من كان قبلكم. ويشبه أن يكون ليس على السير نفسه؛ ولكن على التأمل والنظر في آثار أُولَئِكَ وأمورهم أنه بم نزل بهم ما نزل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) قال أبو بكر الأصم: قوله: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ):، كان يحب ويحرص على هدى قراباته؛ كقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)، فقال: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ)؛ أي: لا يهديهم بضلالهم وقت ضلالهم أو لا يهديهم وقت اختيارهم الضلال، أو لا يهدي من علم أنه يختار الضلال أويهلك على الضلال، أو لا ينجي من يهلك على الضلال. وفيه لغات ثلاث: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) أي: لا يُهْدَى من أضله اللَّه؛ أي: إذا أضله اللَّه فليس أحد يهديه، و (لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ)؛ ما ذكرنا، و (لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ)؛ أي: لا يهتدي من أضله اللَّه، واللَّه أعلم بذلك. أو لا يهتدي في الآخرة طريق الجنة مَنْ أضله اللَّه في الدنيا لاختياره الضلال، وهو كقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وقت اختيارهم الكفر والظلم، أو لا يهدي من علم منه أن يختار الضلال والظلم، أو لا يهدي من يلزم الضلال وقت لزومه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ). ظاهر تأويله. * * * قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ).

فَإِنْ قِيلَ: لنا: ما الحكمة والفائدة في ذكر قسمهم الذي أقسموا في القرآن؛ وجعل ذلك آية تتلى؟ وذلك القسم الذي أقسموا كان بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وهم علموا ذلك ليس كالأنباء والقصص التي كانت من قبل، إذ كان ذلك شيئا غاب عنه لم يشهدها؛ فأخبرهم على ما كان، ففي ذلك إثبات رسالته ونبوته؟ فالحكمة والفائدة من ذكرها في القرآن؛ وجعلها آيات تتلى؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى. وأمَّا القسم الذي أقسموا ليس فيه ما ذكرنا من إثبات الرسالة؛ وهم قد علموا ذلك؛ فما الفائدة في ذكره؟ قيل: يشبه أن يكون ذكره لنا - عَزَّ وَجَلَّ - لنعلم نحن عظيم سفه أُولَئِكَ؛ وقلة عقولهم، وحلم الرسول واحتمال ما احتمل منهم من الأذى والمكروه؛ لنعلم نحن أن كيف يعامل السفهاء؛ وأهل الفساد؛ والعصاة من الناس؛ على ما عامل رسل الله أقوامهم؛ مع عظيم سفههم وقلة عقلهم، فذلك فائدة ذكر قسمهم في القرآن قد تكلف أُولَئِكَ الكفرة الكبراء منهم في تلبيس الآيات والحجج، التي أتت بها الرسل: مرة بالقسم الذي ذكر؛ حيث أقسموا باللَّه جهد أيمانهم أنه لا يبعثون، ومرة بالنسبة إلى السحر، ومرة بالافتراء، ومرة بالنسبة إلى الجنون، وفي الإنباء بأنه إنما يعلمه بشر منا، يريدون بذلك التلبيس على الأتباع. ثم البعث واجب بالعقل، والحكمة، وأخبار الرسل؛ إذ ليس خبر أصدق من أخبار الرسل وآثارهم، وهم ممن يقبلون الأخبار، فأخبار الرسل أولى بالقبول والتصديق من غيرهم؛ لأن معهم آيات صدقهم ودلالات تحقيقهم. وأما العقل فهو أن كون هذا العالم وإنشاءه للفناء خاصة خارج عن الحكمة، إذ كل عمل لا يكون له عاقبة حميدة عبث، وهو كما قال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا. . .) الآية، أخبر أنه إذا لم يكن رجوع إليه يكون خلقه إياهم عبثًا.

وأما الحكمة فهي أن الانتقام لأوليائه من الظلمة واجب لظلمهم، والإحسان لأهل الإحسان، فلو لم يكن بعث والحياة بعد الموت؛ لينتقم من الظالم لظلمه، ويجزى المحسن لإحسانه يذهب فائدة الترغيب على الطاعة والإحسان، ووعيد الظالم بالانتقام، فالبعث واجب؛ للوجوه التي ذكرنا، والتفريق بين الأولياء والأعداء؛ وقد جمعهم في هذه الدنيا، وفي الهحكمة التفريق بينهما. وقوله: (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ). ذكر أن مشركي العرب كانوا لا يقسمون باللَّه إلا فيما يعظم من الأمر، ويشتد عليهم؛ تعظيمًا له وإجلالا؛ إنما كانوا يقسمون بالأصنام والأوثان التي عبدوها، فإذا حلفوا باللَّه فذلك جهد أيمانهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا). قوله: (بَلَى) رد على قولهم: (لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) فقال: بلى يبعث. وقوله: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا). يحتمل (وَعْدًا): أي: وعد أنه يبعثهم، فحق عليه أن ينجز ما وعد، أو حقا عليه أن يعد البعث والإنجاز له، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه نفى عنهم العلم لما لم ينتفعوا بعلمهم، فهو كما نفى عنهم السمع والبصر وغيرهما من الحواس؛ لما لم ينتفعوا بها انتفاع ما لذلك كان خلقها، فنفى ذلك عنهم. والثاني: نفى عنهم ذلك على حقيقة النفي؛ لأنهم لم ينظروا؛ ولم يتأملوا في الآيات والأسباب التي بها جعل لهم الوصول إلى العلم، فلم يعلموا، ثم لم يعذرهم بجهلهم ذلك؛ لما جعل لهم سبيل الوصول إلى علم ذلك بالنظر والتأمل في الآيات والحجج، لكنهم شغلوا أنفسهم في غيرها، ولم ينظروا في الأسباب التي جعلها لهم سبيل الوصول إليه، فهذا يدل أن من جهل أمر اللَّه ونهيه يكون مؤاخذًا به؛ بعد أن جعل له سبيل الوصول إليه بالدلائل والإشارات، فلا يخرج مؤاخذته إياه؛ وعقوبته بترك أمره عن الحكمة، وأما

(39)

في الشاهد من أمر عبده شيئا؛ ولم يعلمه ما أمره، ثم عاقبه بذلك؛ فهو خارج عن الحكمة؛ إذ لا سبيل إلى الوصول بما أمر به إلا بالتصريح، ولم يكن منه تصريح إعلام، لذلك كان ما ذكر؛ ألا ترى أنه أوعد لهم الوعيد الشديد في الآخرة بقوله: (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39). يحتمل قوله: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: ليعلم أتباعهم أن الرؤساء كانوا كاذبين، وإلا كان الرؤساء منهم كانوا كاذبين عند أنفسهم. أو أن يكون قال ذلك لما ادمًمى أُولَئِكَ الكفرة أن الآخرة لهم؛ كقوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى. . .) الآية. فقال جوابًا له: ليعلم الذين كفروا منهم أنهم كانوا كاذبين؛ لادعائهم الآخرة لأنفسهم. ثم قوله: (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما اختلفوا في البعث: منهم من صدقه، ومنهم من كذبه يقول: يبين لهم ذلك. ويحتمل قوله: (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي: في الدِّين والمذهب؛ لأنهم اختلفوا في الدِّين والمذهب، وكل من ادعى دينا ومذهبا؛ حتى دعى غيره إلى دينه ومذهبه يتبين لهم المحق منهم من غيره؛ والصادق منهم من الكاذب. وقوله: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39). يحتمل كفرهم بالبعث؛ وإنكارهم إياه، أو كفروا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو وحدانية اللَّه (أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ). في إنكار ما أنكروا، يتبين لهم ذلك في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) يخبر عن سرعة نفاذ أمره، وسهولة الأمر عليه، أنه يكون أسرع من لحظة بصر ولمحة عين وفيه دلالة أن خلق الشيء ليس هو ذلك الشيء؛ لأنه عبَّر بـ (كن) عن تكوينه، ويكون عن المكون، وكذا كنى عنه بالشيء؛ لقوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ) فكنى عنه بوقوع القول

(41)

عليه، والتكوين ثبت أن التكوين غير المكون، ثم لا يخلو من أن يكون التكوين بتكوين آخر إلى ما لا نهاية له، أو لا بتكوين، وقد بينا فسادهما جميعًا، وهما وجها الحديث، ثبت أن اللَّه تعالى به موصوف في الأزل، وباللَّه التوفيق. والثاني: من فعله كسب سمي كاسبًا، ومن فعله باسم سمي به، فلو كان فعل اللَّه كلية الخلق يسمى به، فيسمى ميتا، متحركًا ساكنًا، خبيثًا طيبًا، صغيرًا كبيرًا، ونحو ذلك، فإذا كان يتعالى عن ذلك وقد سمي فاعلا، مميتا محييا، محركًا مسكنًا، جامعًا مفرقًا؛ ثبت أن فعله غير مفعوله، وأنه بذاته يفعل الأشياء؛ لا بغيره، وفي ذلك لزوم الوصف له به في الأزل، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا). كان ظلمهم إياهم على وجوه: منهم من ظلم بالإخراج من الدّيار والطرد من البلد؛ كقوله: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ. . .) الآية، ومنهم من ظلم بالمنع عن الهجرة، ومنهم ظلم بالمنع عن إظهار الإسلام؛ والعمل له، وأنواع ما أوذوا وظلموا بإظهارهم الإسلام، وإجابتهم رسول اللَّه، واتباعهم إياه. ثم وعد لهم في الدنيا حسنة؛ فقال: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ): قيل: لنعطينهم، وقيل: لنرزقنهم، وهو واحد. (فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً). تحتمل الحسنة في الدنيا العزّ بعد الذل، والسعة بعد الضيق، والشدة والنصر والغلبة لهم بعد ما كانوا مقهورين مغلوبين في أيدي الأعداء، والذكر والشرف بعد الهوان، هذه الحسنة التي بوأهم في الدنيا.

(42)

والمهاجرة: المقاطعة؛ كأنه قال: والذين قاطعوا أرحامهم، وأقاربهم، وأموالهم، ومكاسبهم، وديارهم، فأبدل اللَّه لهم مكان الأرحام والأقارب أخلاء وإخوانًا، ومكان أموالهم أموالا أخرى، وكذلك الدور وكل شيء تركوا هنالك؛ فأبدلهم مكان ذلك كله. وأما قوله: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). يشبه أن يكون ذكر هذا عن حسد كان من الكفرة للمهاجرين؛ لما أنزلهم في المدينة، وبوأهم فيها، وأعزهم، ورفع ذكرهم، وأمرهم، ونصرهم حسدهم أهل الكفر بذلك، فعند ذلك قال: ولأجر الآخرة لهم أكبر وأعظم في الآخرة، لو كانوا يعلمون ما وعد لهم في الآخرة. ويحتمل أيضًا قوله: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) هَؤُلَاءِ المهاجرون فيخفّ عليهم احتمال ما أوذوا وظلموا، ويهون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) قال الحسن: أي: على ربهم يثقون في إنجاز ما وعد لهم في الآخرة أنه ينجز ذلك. ويحتمل قوله: (صَبَرُوا) على أمره، أو صبروا على الهجرة، وانقطاع ما ذهب عنهم، وفراق ما كان لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) هذا - واللَّه أعلم - يكون على إثر أمر كان من الكفرة، نحو ما قال أهل التأويل: أنهم قالوا: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، وقالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ) ونحوه؛ من كلامهم، فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي: إلا بشرًا، أي: لم نرسل من غير البشر، فيكون قوله: (إِلَّا رِجَالًا) كناية عن البشر، أو أن يكون قوله: (إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي:، لم يبعث من النساء رسولا إنما بعث الرسل من الرجال إلى الرجال والنساء، واللَّه أعلم وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس على الأمر بالسؤال، ولكن لو سألتم أهل الذكر لأخبروكم أنه لم يبعث الرسول من قبل إلا من البشر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الأمر بالسؤال؛ أي: اسألوا أهل الذكر فتقلدوهم؛ أي: إن كان

(44)

لا بد لكم من التقليد فاسألوا أهل الذكر فقلدوهم؛ ولا تقلدوا آباءكم ومن لا يعرف الكتاب، ولكن قلدوا أهل الذكر، وقوله تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: فاسألوا أهل الذكر فقلدوهم؛ إن كنتم لا تعلمون بالبينات والحجج؛ لأنهم كانوا أهل تقليد، لم يكونوا أهل نظر وتفكر في الحجج والبينات. ويحتمل أن يكون قوله: (إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) والحجج التي أتت بها الرسل فيكون تأويله: أي اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون البينات والزبر التي أتت بها الرسل ليخبروكم، أن الرسل إنما بعثوا من البشر بالبينات والكتب، فيكون على التقديم الذي ذكره بعض أهل التأويل: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم بالبينات والزبر. ويحتمل قوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أي: أهل الشرف من أهل الكتاب؛ ليبينوا لكم البينات والزبر؛ لأنهم يأنفون الكتمان والكذب، وإن كان أهل الذكر جميع أهل الكتاب، فالسؤال عن الرسل أنهم كانوا من البشر والرجال؛ لأنهم يعلمون ذلك. وقوله: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ (44) قيل: أنزل إليك القرآن؛ لتبين للناس ما نزل إليهم. يحتمل قوله: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) من أنباء الغيب؛ وما غاب عنهم، وما لله عليهم، وما لبعضهم على بعض، ولتبين لهم جميع ما يأتون وما يتقون، وما يحل وما يحرم. (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في ذلك. ويحتمل قوله: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ) لهم ما حرفوا من كتبهم وبدلوه وغيروه، فيكون فيه آية لرسالتك، أو يكون الذي أنزل إليه كالمنزل إليهم، حيث ذكر أنه يبين ما أنزل إليه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ).

(46)

قوله: (أَفَأَمِنَ). قد ذكرنا أنه حرف استفهام؛ إلا أنه من اللَّه غير محتمل ذلك، وهو على الإيجاب. ثم هو يخرج على وجهين: أحدهما: على الخبر أنهم قد أمنوا مكره. والثاني: على النهي؛ أي: لا تأمنوا؛ كقوله: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ). هذا يشبه أن يكون على هذا الذي ذكرنا أنه إخبار عن أمنهم مكر اللَّه، وعلى النهي ألا يأمنوا، ثم أخبر أنه لا يأمن مكر اللَّه إلا القوم الخاسرون الكافرون؛ لأنهم كذبوا الرسل فيما أوعدوا لهم من العذاب، فأمنوا لذلك، أو لما لم يعرفوا اللَّه، ولم يعرفوا حقوقه، ونعمته، ونقمته، فأمنوا لذلك وأمَّا من عرف اللَّه؛ وعرف حقه، ونعمته، وعرف نقمته؛ فإنه لا يأمن مكره، واللَّه أعلم. ثم قوله: (مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: مكرهم السيئات: هو ما مكروا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه ما لو أصابهم ذلك لساءهم، وما ظاهروا عليهم عدوهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مكرهم السيئات: هو أعمالهم التي عملوها، وكل ذلك قد كان منهم، كانوا مكروا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وكانوا ظاهروا عليهم عدوهم، وقد عملوا أعمالهم الخبيثة السيئة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ). أي: أمنوا حين مكروا السيئات أن يخسف اللَّه بهم الأرض، أو يأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون في الحال التي لا يكون لهم أمن ولا خوف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ (46) قيل: في أسفارهم وفي تجاراتهم؛ لأن الناس إنما يسافرون ويتجرون في البلدان في حال أمنهم.

(47)

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ (47) قَالَ بَعْضُهُمْ: على تقريع، وقال: على تنقيص من الأموال وغيره؛ كقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. . .) الآية، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) أي: يأخذ قرية فقرية؛ وبلدة فبلدة، حتى يأتي قريبًا منهم، ثم يأخذهم، كلما أخذ قرية كان لهم من ذلك خوف، فذلك أخذ بتخوف، وهو ما قال: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ. . .) الآية، وعد الله حلوله قريبًا من دارهم، كان يخوفهم حتى نزل بساحتهم، فذلك أخذ بالتخوف، يخبر أن عذابه لا يؤمن حلوله. وأخذه إياهم في كل حال؛ في الحال التي ليس لهم أمن ولا خوف؛ أي: لم يغلب هذا على هذا، وفي الحال التي يكونون آمنين في تقلبهم وحوائجهم، وفي الحال التي يكونون متخوفين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ). حيث لم يستأصلكم، ولم يأخذكم بما كان منكم من الافتراء على اللَّه، والتكذيب لرسله، والمكابرة، والمعاندة لآياته وحججه وقتئذ، ولكن أمهلكم وأخر ذلك عنكم. أو رءوف رحيم إذا تبتم ورجعتم عما كان منكم يرحمكم ويغفر لكم ذلك. * * * قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ). قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا). يحتمل وجهين: أحدهما: أن قال ذلك لقوم قد تقرر عندهم وثبت أن كل شيء يسجد لله ويخضع له، فقال ذلك لهم على العتاب: إنكم قد علمتم أن كل شيء لم يركب فيه العقل، ولم يجعل فيه الفهم والسمع يخضع لله ويسبح له، فأنتم لا تخضعون له مع ما ركب فيكم العقول

وجعل فيكم الأفهام وغيرها، والثاني: على الأمر؛ أي: اعلموا أن كل شيء من خلق اللَّه يسجد له ويخضع، وقد أقام عليهم من الحجة على ذلك ما لو تأملوا وتفكروا لعلموا أن كل ذلك يخضع ويسبح، والا ظاهر قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ) أن يقولوا: لم تر أن كان الخطاب لأهل مكة على ما ذكره أهل التأويل، لكن يخرج على هذين الوجهين اللذين ذكرتهما، ويشبه أن يكون ذكر قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ. . .) الآية لما استوحش أهل الإسلام مما عبد أُولَئِكَ الكفرة الأصنام، وعظيم ما قالوا في اللَّه ما قالوا، فقال لذلك: أولم يروا إلى كذا. وقوله: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يريد بالظلال شخص ذلك الشيء، والظلال كناية عن الشخص، كما يقال: رأيت ظل فلان؛ أي: شخصه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بالظل الظل نفسه، لكن خضوعه وسجوده يكون للشمس والقمر. وعلى تأويل من يجعل الظل كناية من الشخص يجعل كل نفس تفيء خضوعًا وسجودًا. ثم معنى سجود: هذه الأشياء الموات وخضوعهن، من نحو قوله: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ) ومن نحو قوله: (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ)، وقوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)، وقوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، وقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ)، وأمثاله. يحتمل وجوهًا: أحدها: أن يجعل اللهَ عَزَّ وَجَلَّ - بلطفه في سرية هذه الأشياء معنى تعلم السجود لله والخضوع له، وهو كما ذكر في الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، أخبر أنها تجري بأمره، دل أنها تعلم أمر اللَّه. وقوله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). أخبر أنها تشهد وتنطق، ولولا أنها تفهم وتعلم الخطاب؛ والا ما خوطبت، وإن

(49)

كانت مواتًا فعلى ذلك تسبيحها وخضوعها جائز أن يكون اللَّه يجعل في سرية هذه الأشياء ما تعرف السجود والتسبيح وتفهمه. والثاني: يكون سجود هذه الأشياء وتسبيحها بالتسخير، جعلها مسخرات لذلك، وإن لم تعلم هي ذلك ولم تعرف، لكن جعلها بالخلقة كذلك. والثالث: أنه جعل خلقة هذه الأشياء دالة وشاهدة على وحدانية اللَّه وألوهيته، فهن مسبحات لله وساجدات وخاضعات له؛ بالخلقة التي جعلها دالة وشاهدة على وحدانية اللَّه وألوهيته، هذا - واللَّه أعلم - معنى سجودهن وخضوعهن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ دَاخِرُونَ). قيل: صاغرون ذليلون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يذكر هذا - واللَّه اعلم - أنه يسجد له أعلى الخلائق وأعلمهم وهم الملائكة، ويسجد له أشد الخلق وأصلبه وهو الجبال والسماوات والأرض، ويسجد له أيضًا ويخضع أسفه الخلق وأجهله وهو الدواب وغيرها، وأنتم أبيتم السجود له والخضوع، واستكبرتم عن عبادته، فهَؤُلَاءِ الذين ذكرهم يسجدون، يخبر عن سفه أُولَئِكَ في إبائهم السجود له والخضوع، واستكبارهم عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ (50) قَالَ بَعْضُهُمْ: خوف الملائكة والرسل خوف هيبة اللَّه وجلاله لا خوف نزول شيء من نقمته عليهم، وخوف غيرهم من البشر خوف نزول شيء يضر بهم، وكذلك رجاؤهم وطمعهم رجاء نفع يصل إليهم، ورجاء الملائكة والرسل، وطمعهم رجاء رضاء اللَّه عنهم لا رجاء نفع يصل إليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يخافون خوف العقوبة والانتقام؛ لأنهم ممتحنون، وكل ممتحن يخاف عذاب اللَّه ونقمته، ألا ترى أنه كيف أوعدهم الوعيد الشديد وقال: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي

(51)

إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ. . .) الآية، وقال إبراهيم عليه السلام: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، خاف عبادة غير اللَّه، ومن خاف ذلك يخاف وعيده وعذابه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ). الفوق، والتحت، والأسفل، ونحوه في الأمكنة والمجلس ليس فيه فضل عز وشرف ومرتبة؛ لما يجوز أن يكون الذي كان فوق هذا في المكان والمجلس تحته وأسفل منه؛ فلا يزداد لهذا بما صار فوقه عز وشرف ومرتبة، ولا لهذا بما كان تحته ذل، وهوان؛ لأنه لا يفهم من فوقه: فوق المكان ولا تحته؛ لأن من صعد الجبال والأمكنة المرتفعة لا يوصف بالعلو والعظمة، وإذا قيل: فلان أمير على العراق أو على خراسان كان في ذلك تعظيم؛ لأنه ذكر بالقدرة والسلطان ونفاذ أمره ومشيئته وقدرته وسلطانه فيهم، أو اطلاعه على جميع ما يسرون ويضمرون، ويعلنون، ويظهرون، وعلمه على جميع أفعالهم على هذا يجوز أن يتناول الفوق، واللَّه أعلم. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). وصفهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضل خضوعهم له وطاعتهم إياه، وهو ما قال: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ)، وهو ما قال: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، ومثله. * * * قوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ). لا نعلم الخطاب بهذا أنه لمن كان الخطاب بهذا لأهل مكة؛ فهم قد اتخذوا آلهة بقولهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا. . .) الآية، إلا أن يخاطب به الثنوية والزنادقة، فإنهم يقولون باثنين، ويشبه أن يكون أهل مكة وإن اتخذوا آلهة فإنهم في

(52)

الحقيقة عباد إلهين؛ لأنهم إنما كانوا يعبدون تلك الأصنام بأمر الشيطان وطاعتهم إياه، فنسب العبادة إليه؛ لما بأمره يعبدون هذه الأصنام واللَّه أعلم؛ ألا ترى أن إبراهيم قال لأبيه: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)، وإن كان في الظاهر لا يعبد الشيطان، لكن لما بأمره يعبد الأصنام أضاف العبادة إليه، أو أن يكون المراد من ذكر اثنين: إنما هو على الزيادة على الواحد، كأنه قال: لا تتخذوا ولا تعبدوا أكثر من إله واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). لا تخافون الأصنام التي تعبدونها؛ فإنكم إن تركتم عبادتها لا تضركم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) أي: وله يخضع ما في السماوات والأرض وأنتم لا تخضعون، أو ما في السماوات والأرض كلهم عبيده وإماؤه؛ فكيف أشركتم عبيده في ألوهية اللَّه تعالى وربوبيته؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: دائمًا؛ لأن غيره من الأديان كلها يبطل ويضمحل، ويبقى دينه في الدارين جميعًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) أي: مخلضا، من الوصب والنصب، والتعب، وتأويله - واللَّه أعلم -: أي: وله دين لا يوصل إليه إلا بتعب وجهد؛ فاجتهدوا واتعبوا؛ لتخلصوا له الدِّين؛ هذا معنى قوله: (مخلصا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ). أي: مخالفة غير اللَّه تتقون؛ أي: لا تخافوا ولكن اتقوا مخالفة اللَّه لا تتقوا مخالفة، غيره. أو يقول: لا تخافوا غير اللَّه ولا تتقوا سواه، ولكن اتقوا اللَّه واتقوا نقمته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) أي: تتضرعون؛ يخبر عن سفههم وقلة عقلهم أنهم يعلمون أن له ما في السماوات والأرض، وأن كل ذلك ملكه، وأن ما لهم من النعمة منه، وأن ما يحل بهم من البلاء

(55)

والشدة هو الكاشف لهم والدافع عنهم، ثم يكفرونه ويصرفون شكرها منه إلى غيره في حال الرخاء والسعة، ويؤمنون به في حال الشدة والبلاء؛ فيقول: أنا المنعم عليكم تلك النعم، وأنا المالك للكشف عنكم لا الأصنام التي عبدتموها، فكيف كفرتم بي في وقت الرخاء والسعة وآمنتم بي في وقت الضيق والبلاء؟! كانوا يخلصون له الدِّين في وقت ويشركون غيره في وقت، فيقول: أديموا لي الدِّين بقوله: (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبً) ولا تتركوا الإيمان بي في وقت وتؤمنوا بي في وقت، وكذلك كان عادتهم: كانوا يكفرون بربهم في حال الرخاء والسعة، ويؤمنون به في حال البلاء والشدة؛ كقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ. . .) الآية. ويحتمل أن يكون فرض الجهاد على المسلمين والقتال معهم لهذا المعنى؛ لأن من عادتهم الإيمان في وقت البلاء والشدة والخوف، ففرض عليهم القتال معهم؛ ليضطروا إلى الإيمان فيؤمنوا ويديموا الإيمان، ومنذ فرض القتال معهم كثر أهل الإسلام فدخلوا فيه فوجًا فوجًا، وكان قبل ذلك يُدخَل فيه واحدًا واحدًا. وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) فإنما أخبر عما عرفوا وتقرر عندهم أن كل ذلك من عند اللَّه؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يجهعلوا ما آتاهم اللَّه وأنعم عليهم سبب كفرهم باللَّه. والثاني: يكفرون بنعم اللَّه - تعالى - بعبادتهم الأصنام، وصرفهم الشكر عنه. ويشبه أن يكون إخباره عن سفههم من وجه آخر؛ وهو أنهم لم يروا في البشر أحدًا يطاع ويخضع إلا أحد رجلين: دافع بلاء عنه، أو جاز نفع إليه، فالأصنام التي عبدوها ليس منها دفع بلاء ولا جز منفعة، فلماذا يعبدونها؟ وقال أبو بكر: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ): أي بالقرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). هذا وعيد من اللَّه لهم، يقول: فسوف تعلمون ما ينزل بكم من كفران نعمة وصرف

(56)

الشكر عنه أنه مهلكهم ومنزل بهم عذابه. وفي قوله: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ). أي: تتضرعون، موعظة للمؤمنين أيضًا؛ لأنهم يجعلون يتضرعون إلى اللَّه إذا أصابهم الضر والبلاء، وإذا انكشف ذلك عنهم تركوا ذلك التضرع ونسوا ربهم؛ فيعظهم لئلا يصنعوا مثل صنيع أُولَئِكَ، يقول واللَّه أعلم؛ أي: تعلمون أن ما بكم من نعمة فمن اللَّه؛ فكيف تصرفون شكرها إلى غيره في حال؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَجْعَلُونَ ... (56) أي: يقولون (لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يجعلون للأصنام والأوثان التي يعبدونها نصيبًا مما رزقناهم، من الأنعام والحرث وغيره الذي جعل اللَّه لهم. ولا يعلمون لهم نصيبًا في ذلك؛ وهو كقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا)، حرموا على أنفسهم ما جعل اللَّه لهم وجعلوه لآلهتهم. ويحتمل قوله: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا) وهو الشيطان؛ أي: ما يجعلون للأوثان، فذلك للشيطان في الحقيقة، لأنه هو الذي أمرهم بذلك، وهو الذي دعاهم إلى ذلك، وهو كقوله: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكنهم إذا عبدوا الأوثان فكأن قد عبدوا الشيطان؛ لأنه هو أمرهم بذلك، وهو دعاهم إلى ذلك، فعلى ذلك ما يجعلون للأوثان ذلك للشيطان لما ذكرنا، لكن لا يعلمون أن ذلك له نصيب. ويحتمل قوله: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا) أي: يعلمون أن ليس لها نصيب في ذلك، ولكن يجعلون ذلك لها على علم منهم أن لا نصيب للأوثان في ذلك، وهو كقوله: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) أي: أتنبئون اللَّه بما يعلم أنه ليس ونحوه، أي: يعلم غير الذي تنبئون، وقد ذكرنا قوله: (يجعَلُونَ) على القول، أي: يقولون: وإلا لا يملكون جعل ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ).

(57)

يحتمل قوله: (تَفْتَرُونَ): تسميتهم الأصنام آلهة، ويحتمل افتراؤهم على اللَّه ما قالوا: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، زعموا أن ما فعل آباؤهم أوفعلوا هم، كان بأمر من اللَّه ورضاه؛ حيث تركهم على ذلك، فذلك افتراؤهم. وقوله: (تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ). يحتمل السؤال الجزاء؛ أي: تاللَّه لتجزون عما كنتم تفترون، ويحتمل السؤال سؤال حجة، يسألون على ما ادعوا على اللَّه من الأمر الحجة على ذلك، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ). أي: يقولون: لله البنات، يخبر عن شدة سفههم؛ حيث يأنفون ويستحيون عن البنات، ثم ينسبون ذلك إلى اللَّه ويضيفونها إليه، يصبر رسوله على أذى الكفرة؛ حيث قالوا فيه ما قالوا: إنه ساحر، وإنه مفترٍ، ونحوه، على علم منهم ويقين أنه ربهم وخالقهم، لمحمن أنكر رسالته أولى بالصبر على قوله والحلم منه. (سُبْحَانَهُ). كلمة تنزيه عما قالوا فيه، وحرف تعجيب؛ حيث نسبوا إلى اللَّه ما كرهوا لأنفسهم (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ): يجعلون لأنفسهم البنين ويجعلون لله ما يكرهون لأنفسهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)

(59)

قَالَ بَعْضُهُمْ: قول العرب: قبح اللَّه وجهك، وسوّد اللَّه وجهك ليس على إرادة السواد والقبح، ولكن على إرادة ما يكرهه. وقال الحسن: قوله: (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أي: متغيرًا من الغم وهو كظيم: أي: حزين، وهكذا العرف في الناس أنه إذا اشتد بهم الحزن والغم، يظهر ذلك في وجوههم قبحًا وسوادًا. (يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) يذكر فيه كيف يصنع به: أيمسكه على هون أي: على هوان يضر به ويسيء صحبته أم يدسه في التراب وهو حي؛ فيقول: إن ربي اختار البنات فأبعث بها إلى ربي، فإنه أحق بها، وهي الموءودة التي قال اللَّه: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ)، وإنَّمَا كانوا يصنعون ذلك خشية إملاق؛ كقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) في جعلهم لله ما كرهوا لأنفسهم، أو في قولهم: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، أو في قولهم: (هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا)، ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (مَثَلُ السَّوْءِ) أي: لهم جزاء السَّوْءِ؛ وهو النار. وقال الحسن: مثل السوء: أي: صفة السوء التي وصفوا بها ربهم أنه اختار البنات. (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى). أي: الصفة الأعلى التي ليس لها شبه؛ فإن تلك الصفة من صفته، ويشبه أن يكون قوله: (مَثَلُ السَّوْءِ) بما سماهم مرة موتى، ومرة فسقة، ومرة ظلمة، ومرة هم في الظلمات، وأمثاله، لهم ذلك الوصف بما أنكروا الآخرة، وذلك مما توجبه الحكمة والعقل والشريعة، فلهم ذلك الوصف والمثل السوء؛ بما أنكروا ما توجبه الحكمة والعقل والشريعة. ويحتمل (مَثَلُ السَّوْءِ): شبه السوء. ويحتمل (مَثَلُ السَّوْءِ): النعت والصفة، فإن كان هو على الشبه فهو في الدنيا؛ لما

(61)

شبههم في غير آي من القرآن، بالشجرة الخبيثة والكلمة الخبيثة، وبالرماد وبالزبد والتراب، ونحوه. وإن كان على النعت والصفة فهو في الآخرة، وهو ما ذكر: الذي يحشرون على وجوههم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى). أي: لأولياء اللَّه المثل الأعلى، وهم المؤمنون، لا أن اللَّه وصف المؤمنين بالحياة، والنور، والعدل، وغير ذلك من الأسماء الحسنة، وذلك لله في الحقيقة، لكنه بفضله ومنه وصفهم وسماهم بذلك، فأضيف إلى اللَّه؛ لما بفضله استوجبوا لا باستحقاق أنفسهم. وكذلك قوله: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، أضيف ذلك إليه؛ لما بفضله يستوجبون تلك الأسماء التي سماهم. ويحتمل قوله: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى): أي: لأولياء اللَّه المثل الأعلى، كأنه قال: وللذين يؤمنون بالآخرة مثل الأعلى، مقابل ما ذكر؛ حيث قال: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال الحسن: العزيز بالغلبة منه في الأشياء كلها على ما أمره، وكل شيء دونه ذليل، الحكيم بالعدل منه في كل قضاء قضى وقد ذكرناه في غير موضع. وقوله: (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في هذا الموضع كأنه قال: وهو العزيز بنفسه لا بخلقه وأوليائه؛ كما يكون لملوك الأرض؛ يكون عزهم بخدمهم وحشمهم، فإذا ذهبوا أو عصوه يصير مقهورًا مغلوبا، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - فهو عزيز بذاته. والحكيم: أي: إنشاؤه العصاة منهم على علم منه بذلك، لم يخرج ذلك على غير الحكمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) دل قوله: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أنَّ له أن يستأصلهم ويهلكهم بما كان منهم؛ لكنه - بفضله - تركهم إلى المدة التي ضرب لهم؛ لأنه لو لم يكن له ذلك لم يكن للوعيد الذي أوعد معنى. وقال أبو زيد البلخي إن اللَّه بما أوعد من الوعيد ليس يوعد لمضرة نفسه ولا لنفع

يصل إليه، ولكن يوعد بما توجبه الحكمة، فدل أن الوعيد لازم واجب. ونحن نقول: يوعد بما توجبه الحكمة، وقد أمهلهم بعد الوعيد، فعلى ذلك يجوز أن يخرجهم من النار بعد ما أدخلهم النار؛ بما ارتكبوا من الكبائر. ثم في قوله: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ. . .) الآية - دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: ليس لله أن يهلك قومًا قد علم منهم الإيمان في وقت، أو يكون في أصلابهم من يؤمن؛ إذ قد كان ممن أوعد ذلك الوعيد من بعضهم الإيمان أو في أصلابهم من قد كان آمن، فدل الوعيد لهم أنه قد يهلك من يعلم أنه يؤمن في آخر عمره؛ إذ لا يوعد إلا بما له أن يفعل لكنه بفضله أخره إلى وقت وفيه دلالة أن له أن يفعل بما ليس ذلك باصلح لههم في الدِّين. ثم اختلف في قوله: (بِظُلْمِهِمْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا للكفرة خاصة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لهم وللمؤمنين كل مرتكب زلة؛ إذ ما من أحد ارتكب زلة إلا وقد استوجب العقوبة بذلك والمؤاخذة به، لكنه بفضله عفا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بالدابة: الدابة التي خلقها لهم، إذا أهلك الناس فقد أهلك الدواب؛ إذ خلقه إياها لهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: ما ترك عليها من دابة: أي: على ظهر الأرض من دابة؛ لأن الدواب إنما تتعيش بالذي يتعيش الناس؛ فإذا هلكوا هم هلكت الدواب أيضًا؛ لما ذهب سبب عيشها. وجائز أن يكون أراد بالدابة البشر؛ أي: ما تركهم بظلمهم ولكن يهلكهم، وسماهم دابة لأنه إذا ذكرهم في موضع الظلم وإن كان سماهم في غير موضع بالأسماء الحسنة، وهو كما سماهم في موضع آخر دابة؛ حيث قال: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)، ولا شك أن البشر دخلوا في هذه التسمية، فعلى ذلك جائز دخولهم في الأخرى، وإن كان المراد مما ذكر من الدابة البشر فالأنبياء والرسل إنما يكون هلاكهم بقطع نسلهم؛ لأن الأنبياء أكثرهم ولدوا من الآباء الظلمة؛ فإذا أهلك

(62)

آباؤهم لم يولد الرسل والأنبياء، فيكون هلاكهم لا بظلم هَؤُلَاءِ ولكن بقطع النسل. وإن كان المراد بتلك الدابة الدواب أنفسها فلأن الدواب إنما أنشئت للبشر ولمنافعهم، فإذا أهلكت الدواب أهلك المنشأ لهم، واللَّه أعلم. وفي قوله: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: يجعل اللَّه للخلق آجالا، ثم يجيء كافر فيقتله دون بلوغ الأجل الذي جعله اللَّه؛ حيث أخبر أنهم لا يستأخرون ساعة - بعد الأجل المضروب لهم - ولا يستقدمون قبل ذلك، وهم يقولون: بل يستقدمه كافر فيقتله، فذلك سرف في القول. وهذا يخرج على وجهين: أحدهما: لا يتأخر الأجل الذي جعل لهم ساعة ولا يتقدم عن ذلك. والثاني: لا يجاب في التأخير ولا في التقديم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) كانوا يجعلون لله أشياء يكرهون ذلك لأنفسهم من نحو البنات، يقولون: لله البنات؛ ويكرهون لأنفسهم البنات، ويجعلون له الشركاء من عبيده؛ وهم كانوا يكرهون لأنفسهم الشركاء من عبيدهم، وأمثاله؛ كقوله: (ضَرَبَ لَكُم مَّثَلا مِن أَنفُسِكُم. . .) الآية. يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن سفههم وسرفهم في القول، ويخبر عن حلمه؛ حيث لم يستأصلهم ولم يهلكهم مما قالوا في اللَّه من عظيم القول من الولد والشريك؛ لنعلم أنه لم يمهلهم لغفلة ولا سهو ولكن لحلم؛ لأن يحلم الخلق في ذات اللَّه ولا يعجلوا بالعقوبة؛ إذ لو أراد إهلاكهم لأهلكهم ساعة قالوا ذلك؛ ولا يمهلهم يعيشون، لكن أخر ذلك ليوم، وهو ما قال: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا. . .) الآية. وجائز أن يكون قوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ) أي: يجعلون لأولياء اللَّه مما يكرهون لأنفسهم؛ لأنهم يقولون: إن لهم الحسنى في الآخرة؛ وهي الجنة، وإن للمؤمنين النار؛ بقوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ).

قال أبو بكر الأصم: يقولون: إنا على دين اللَّه وعلى الحق لعبادتنا، ويقولون: إن لهم الحسنى يعنون أنهم محسنون في أعمالهم، وبما هم عليه من دين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى) يعنون البنين، لأنهم كانوا يضيفون البنات إلى اللَّه وينسبون البنين إلى أنفسهم، فذلك الحسنى الذي ذكروا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بأن لهم الحسنى: أي: الجنة؛ كقوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى. . .) الآية. ثم كذبهم في قولهم فقال: (لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) ليس لهم الحسنى على ما زعموا؛ ولكن النار، وقد ذكرنا قوله: (لَا جَرَمَ) فيما تعَدم، كان أهل الكفر فرقا، منهم من ادعى الاشتراك في نعيم الآخرة كما كان لهم اشتراك في نعيم الدنيا؛ كقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ)، ومنهم من ادعى الآخرة لأنفسهم كما كانت لهم الدنيا، فجائز أن يكون قوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ) وهم الذين ادعوا الحسنى - وهي الجنة - لأنفسهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ). هو من الفرط؛ وهو: السبق والتقدم، كأن الآية في الرؤساء منهم، أخبر أنهم سابقون أتباعهم إلى النار، وهو كقوله: (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ)، الأولى هم المتبوعون، وأخراهم الأتباع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: معجلون إليها بين يدي أتباعهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مُفْرَطُونَ) أي: متروكون، منسيون في النار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مُفْرَطُونَ) مبعدون عن رحمة اللَّه لكن هذين ليسا بتأويل ألبتَّة، إذ كل من في النار فهو منسي متروك فيها مبعد عن رحمة اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وأنهم مدخلون فيها. والوجه فيه ما ذكرنا.

(63)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) هذا لا يحتمل أن يكون هذا القسم منه ابتداء؛ ولكن كأنه عن إنكار كان منهم للرسالة، فعند ذلك أقسم بقوله: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) وأكد بما أنكروا الرسالة بالقسم الذي ذكر، فقال: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا مُحَمَّد. قوله: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما أرسلناك إلى أمتك (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) كما زين لأمتك فهو كان وليهم يومئذ كما هو ولي لأمتك اليوم، يصبّره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) يقول ليس هَؤُلَاءِ بأول من زين لهم الشيطان أعمالهم، ولكن كان في الأمم الماضية من زين لهم الشيطان أعمالهم فيكذبون رسلهم، فلست أنت بأول مكذب، بل كان لك شركاء في التكذيب (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو وليهم اليوم، في الدنيا؛ لأن الدنيا هي دار الولاية بينهم، كقوله: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وقوله: (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)، وأمّا في الآخرة فيصيرون أعداء، كقوله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) وقوله: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ. . .) الآية وقوله: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ)، ونحوه، ولا يحتمل أن يكونوا أولياء في الآخرة ثم يلعن بعضهم بعضا، ويتبرأ بعضهم من بعض، فذلك علامة العداوة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) في الآخرة، أي: أولى بهم فيقرن بهم، كقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)، فهو وليهم: أي: صاحبهم، كقوله: (احْشُرُوا. . .) الآية، وكقوله: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ): الكتب التي كانت من قبلهم؛ لأنهم اختلفوا في كتبهم، فمنهم من بدَّل، ومنهم من غير وحرَّف، فيقول - واللَّه أعلم -: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي: في كتبهم؛ لأن هذا الكتاب أنزله مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، يبين هذا الكتاب ما اختلفوا في كتابهم، الحق من الباطل.

(65)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي: في الرسل والأديان وفي الكتاب المنزل عليه، اختلفوا عنه في ذلك كله، يبين لهم الحق من الباطل في جميع ما اختلفوا فيه بالكتاب الذي أنزله عليك؛ إذ فيه أنباء الأمم الماضية، وهو لم يشهدها، ولم يختلف إلى من يخبره عنها ثم أنبأهم على ما كانت، فدل أنه إنما عرف ذلك باللَّه، ومنه نزل ذلك، وفيه دلالة أن الحوادث التي علم اللَّه أنهم يبتلون بها إلى يوم القيامة أنه جعل لهم سبيل الوصول إلى بيانها في الكتاب، إمّا بيان كناية وإما بيان تصريح، حيث قال: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ. . .) الآية، حيث لم يدعهم في الاختلاف على غير بيان، فعلى ذلك علم أنهم يبتلون بالحوادث التي ليس لها نصوص في الكتاب لا يحتمل ألا يبين لهم ذلك ويدعهم حيارى، لكن البيان على وجهين: بيان تصريح يعقل بديهة العقل. وبيان كناية يدرك بالنظر والتأفل والاستدلال. وأصله في قوله: (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي: إلا لتبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه؛ لأنهم اختلفوا في المحق في ذلك؛ لأن كل فريق منهم ادّعى أنه هو المحق، وأن الذي هو عليه الحق، وأن غيره على باطل، فأخبر أنه أنزل الكتاب عليه ليبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) جعل اللَّه تعالى رسوله وكتابه هدى ورحمة للمؤمنين؛ لأنهم آمنوا بهما، وصدقوهما، وقبلوهما، فصار ذلك لهم، هدى ورحمة ونورًا، وأمَّا من كذبهما ولم يقبلهما فهو عذاب عليهم وعمى، وهو كقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. . .) الآية. وهو ما ذكر (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى). * * * قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) يذكر - عَزَّ وَجَلَّ -

(66)

قدرته وسلطانه، حيث أخبر أنه ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض وهي ميتة، ويخرج منها نباتًا وزروعًا وأشجارًا، فمن قدر على هذا لقادر على إحياء الأنفس بعد موتها لأنه لا فرق بين الإحياءين إحياء الأرض واحياء الأنفس، إذ من قدر على أحدهما قدر على الآخر (إِنَّ فِي ذَلِكَ) فيما ذكر (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: لآية لقوم يسمعون المواعظ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لآية لقوم يسمعون الآيات والحجج، وأما من لم يسمع فلا يكون له آية، وأصله: إن في ذلك لآية لقوم ينتفعون بسماعهم، ولآية لقوم يعقلون، أي: ينتفعون بعقولهم، وأصله أن هذا كله يصير آية للمؤمنين على ما ذكر كله؛ لأنهم هم العاقلون عن اللَّه ما أمرهم به ونهاهم عنه، وهم يسمعون آياته ومواعظه، وكله كناية عن المؤمنين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) والعبرة الآية، أي: أنشأ لكم أنعامًا فيه الآية، هو صلة قوله: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) أي: أنزل من السماء ماء، وأنشأ الأنعام لكم فيه الآية أنشأ - عَزَّ وَجَلَّ - في الأنعام لبنًا غذاء الأولاد، في الوقت الذي لا يحتمل الغذاء بالعلف، وجعل لأربابها الانتفاع بذلك اللبن وفي الأشياء التي لا يؤكل لحمها لم يجعل لأربابها الانتفاع بما يفضل من اللبن، ولم يجعل لها فضل لبن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ذكر بالتذكير، فظاهره أن يذكر بالتأنيث؛ لأنه إما أن يريد به الأمهات التي يدر منها اللبن أو جماعة من الذكران منها، فكيفما كان فهو يذكر بالتأنيث، لكن بعضهم يقول: ذكر باسم التذكير على إرادة الأصل الذي به كان اللبن، وهو الفحل، وهذا يدل لأبي حنيفة وأصحابه - رحمهم اللَّه - لقولهم في لبن الفحل أنه يحرم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر باسم التذكير على إرادة الجنس والجوهر من بين الأجناس

(67)

والجواهر دون العدد والجماعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) وقال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنه: يعني استخراج اللبن من بين فرث ودم، وذلك أن العلف إذا وقع في الكرش طبخه الكرش، فيجعل الفرث أسفله والدم أعلاه واللبن بين ذلك، ثم يسلط الكبد عليهم فيجري الدم في العروق، واللبن في الضرع، ويُبقي الفرث في الكرش كما هو. وقال بعض الفلاسفة: إن العلف إذا وقع فيه يصير منه فرثًا، ثم يصير منه دمًا، ثم يصير لبنًا خالصًا، فهو كالنطفة التي وقعت في الرحم، تصير علقة، ثم تصير مضغة مأكولة، فعلى ذلك اللبن الذي، ذكر واللَّه أعلم. ويحتمل ما قاله بعض الفلاسفة أن العلف يصير فرثًا، ثم دمًا، ثم لبنًا. ويحتمل أن يكون مجرى اللبن بين ما ذكر من الفرث والدم، فأي الوجهين كان، كان فيه اللطف الذي ذكرنا. ووجه ذكر هذا - واللَّه أعلم - على الامتنان وكذلك ما ذكر من الثمرات والأعناب أنه بلطفه أخرج اللبن الصافي أصفى الأشياء وألطفها من بين أخبث الأشياء وأكدرها في رأي العين، فمن قدر على حفظ هذا مما ذكر بلا حجاب يدرك أو حاجز يعرف لقادر على إنشاء الأشياء من لا شيء لأن الخلائق لو اجتمعوا على أن يدركوا السبب الذي به كان حفظ هذا من هذا وامتناعه عن الخلط بالخبيث ما أدركوا ذلك، وكذلك ما يخرج من النخيل والكروم الثمرات الطيبة والأعناب الحلوة من غير أن يرى أثر ذلك فيها، ومن غير أن يدركوا السبب الذي كان به الأعناب والثمرات، دل أنه قادر على إنشاء الأشياء من لا شيء إذ هي خشبة يابسة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا (67) قَالَ بَعْضُهُمْ: السكر ما يحرم منه، والرزق الحسن: ما يحل من ثمرها. وقال بعضهم: السكر: ما يتخذ من الشراب، والرزق الحسن: ما يؤكل تمرًا وزبيبًا،

ونحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السكر خمر الأعاجم، والرزق الحسن ما ينبذون ويخللون ويأكلون. وروي في بعض الأخبار أنه حرم السكر، ولم يفسر الآية. وفي بعض الأخبار أنه بعث معاذا إلى اليمن، وأمره أن ينهاهم عن نبيذ السكر. وعن عبد اللَّه قال: إن أولادكم ولدوا على الفطرة فلا تسقوهم السكر، فإن الله تعالى لم يجعل في حرام شفاء. وليس بين فقهاء الأمصار في تحريم السكر وفضيخ البسر ونقيع الزبيب إذا أسكر كثيرها ولم يطبخ - اختلاف أنها حرام، وقد ذكرنا هذا في سورة البقرة (إِنَّ فِي ذَلِكَ) لما ذكر [(لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)]: يعقلون. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الفرث ما في الكرش؛ لأن اللبن كان طعامًا، فخلص من ذلك الطعام دم، وبقي منه فرث في الكرش، وخلص من الدم لبنًا سائغًا أي: سهلا في الشرب، لا يشجى به شاربه ولا يغص. وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: أسغته: أي: أدخلته في حلقي سهلا. وقوله: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) أي: تتخذون منه ما يحرم أكله، ورزقًا حسنًا: ما يحل منه، وهو كقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ. . .) الآية.

(68)

أو يخرج على تذكير النعم في الوقت الذي كان السكر حلالا، أي: تتخذون منه سكرا ما تشربون، ورزقًا حسنًا سوى الشراب. * * قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا. . .) إلى آخر ما ذكر. قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَوحَى) أي: قذف في قلوبها أن افعلي ما ذكر، والوحي هو القذف؛ سمي بذلك لسرعة وقوعه، ونفاذه في القلوب من غير أن يشعر الملقى فيه والمقذوف في قلبه أن أحدًا فعل ذلك أو ألقاه فيه، وهو ما مكن اللَّه للشيطان من الوسوسة في القلوب من غير أن يعلم الموسوس إليه والمقذوف في قلبه أن أحدًا دعاه إلى ذلك أو زين له ذلك، وكذلك ما يلهم الملائكة بني آدم من أشياء من غير أن يعلموا أن أحدًا دعا إلى ذلك أو زين ذلك له، أو ألقاه في قلوبهم فهذا كله يرد على من ينكر الشيطان والملائكة، وهم طائفة من الملحدة يقولون: إن الشهوات والأماني التي جعلت في أنفسهم هي التي تبعثهم وتهيجهم على ذلك لا الشيطان. فيقال لهم: إن الإنسان قد يناله أشياء من غير أن كان منه تفكر في ذلك، أو أماني أو سابق تدبير، فذلك يدل أن غيرًا ألقى ذلك في قلبه وقذف، لا عمل الأماني والشهوات، وهذا أيضًا يدل على لطف اللَّه في البشر أنه يوفقهم على الطاعات ويحثهم عليها من غير أن علموا أن لغير في ذلك صنعًا، وكذلك الخذلان في المعاصي وأنواع الأجرام التي يكتسبونها. ثم يحتمل قوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي: النحل وغيرها من البهائم - وجهين: أحدهما: يحتمل أنه أنشأ هذه البهائم على طبائع تعرف بالطبع مصالحها، ومهالكها، ومعاشها، وما به قوام أبدانها وأنفسها، وما به فسادها وصلاحها من غير أن يعلم أن أحدًا يدعوهم إلى ذلك، أو يشير إليها، أو يأمر وينهى، ولكنه بالطبع يعرف ذلك ويعلم من نحو أشياء يعلمهن أشياء بالطباع من غير أن يعلم أن أحدًا علمهن ذلك من نحو الوز يسبح

(69)

في الماء بالطبع من غير أن يعلم أنها تسبح، وكذلك الطير الذي يطير في الهواء من غير أن يعلم بالطيران، فعلى ذلك يحتمل فهم هذه البهائم وعرفانها ما ذكرنا من المصالح والمهالك من غير أن يعلم أنها تعرف ذلك، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل خلقة هذه الأشياء بالذي يقفون على المخاطبات والأمر والنهي، ويعرفون ذلك ما لا يعرف مثله البشر ألا ترى أن البشر لا يعرفون المهالك والمصالح إلا بالتعلم، والبهائم وإن صغر ذلك تعرف حتى تتوقى المهالك وترغب في المصالح، ومما يدل أن هذه الأشياء مما يفهم الأمر والنهي والمخاطبات قوله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20). وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)، ألا ترى أنهم فهموا الخطاب حيث ردوا عليهم الجواب بقوله: (أَنطَقَنَا) فذلك ما ذكرنا، واللَّه أعلم. فذلك الوحي والقذف لكل البهائم لا للنحل خاصة لما ذكرنا من معرفتها المهالك والمصالح، وما به معاشها وغذاؤها مما به فسادها وهلاكها حتى عرفت ذلك من غير أن تعلم، والبشر لا يعرفون إلا بالتعلم، فهو - واللَّه أعلم - لوجهين: أحدهما: للمحنة أن البشر امتحنوا بالتعليم، فذلك من اللَّه امتحان لهم، والبهائم لا محنة عليهم، فعرفوا ذلك على غير تعلم، أو كان ذلك للبشر بالتعلم؛ لفضل بعض على بعض في العلم بالتعليم؛ إذ البهائم يستوي صغيرها وكبيرها في معرفة ذلك، وفي بني آدم تتفاضل وتتفاوت بالتعلم، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: فإذا كانت البهائم كلها مشتركة في ذلك الإلهام والوحي فما معنى تخصيص النحل بالذكر من غيرها من البهائم؟ قيل: يحتمل تخصيص النحل بالذكر - واللَّه أعلم - لما أن هذه الأشياء غير النحل لا تعطي تلك المنافع التي جعلت فيها، ولا تبذل للبشر إلا بالرياضة والتعلم، والنحل تعطي ذلك لهم وتبذل من غير تعلم ولا رياضة، واللَّه أعلم. ثم قوله: (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) وقوله: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ (69)، وقوله: (فَاسْلُكِي

سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) ونحوه، ظاهره أمر، لكن حقيقته تمكين وتسهيل، نحو قوله: سيروا في كذا، هو في الظاهر أمر، وفي الحقيقة تمكين وتيسير. ثم في هذه الآية، وفي قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ) وفيما سبق من الآيات، وهو قوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) وفي قوله: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) دلالة قدرته على إنشاء الأشياء من لا شيء، ودلالة علمه وتدبيره؛ لأنه أخرج من هذه الجواهر المختلفة أشياء من غير جوهرها وجنسها ما لم يكن شيء مما أكل منها هذه البهائم من الجواهر التي أخرج منها، من نحو العسل الذي أخرج من الفواكه التي أكلت، واللبن من العلف الذي أكل، والعصير والسكر والأعناب من الكروم؛ إذ ليس شيء خرج منها من جنس ما أكل، ولا من جوهر ما سقى، دل أنه كان فعل عليم قادر على إنشاء الأشياء من لا شيء ولا سبب، وفيه دلالة علمه وتدبيره وحكمته؛ لأن إنشاء ذلك اللبن في البطن على غير جوهر ما تناولت، ومن خلاف لونه في تلك الظلمات دل أن علمه وتدبيره غير مقدر بعلم الخلق، وأن حكمته غير مقدرة بحكمة الخلق، وكذلك قدرته غير مقدرة بقدرة الخلق، ثم قوله: (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) قيل: طرق ربك ذللا، وقيل مطيعة، وقيل من الذل، أي: الرفق واللين، كقوله: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وقوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ. . .) الآية من الذل، ومن الرفق واللين، وهذا يخرج على وجهين. أحدهما: ذللت سبل ربها، وسهل السلوك فيها حتى تسلك كيف شاءت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) قيل: مما يبنون، ويحتمل مما يتخذ من العريش، وهو الذي يتخذ من الخشب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ). قال الحسن: الشهد والعسل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مختلف في الطعم، وقيل: في الألوان: الأبيض، والأحمر، والأصفر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: فيه شفاء للناس، من كل

داء، حتى القروح، وكل شيء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فِيهِ شِفَاءٌ) من داء دون داء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فِيهِ شِفَاءٌ) يعني: في القرآن، فيه شفاء القلوب للدِّين. ويحتمل قوله: فيه شفاء للأجساد، فإن أراد هذا فهو ظاهر، لا شك أن فيه ذلك الشفاء. ويحتمل: فيه شفاء للدِّين، فإن كان هذا فيكون ذلك من جهة النظر فبه يدرك ويوصل إلى ذلك الشفاء. وقوله: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: من نوع ما تأكل النحل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من جميع الثمرات التي تكون في الجبال. عن عبد اللَّه قال: القرآن والعسل هما الشفاءان، القرآن شفاء الدِّين، والعسل شفاء الأبدان. وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل اللغة: إن الوحي في كلام العرب على وجوه: منها: وحي النبوة، وهو إرسال اللَّه الملائكة إلى أنبيائه ورسله، كقوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا)، ومنها: وحي الإشارة كقوله: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)، ومنها: وحي الإلهام، وهو كقوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)، وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى)، وقوله (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)، ونحوه. ومنها: وحي الأسرار، كقوله: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن أصل الوحي عندنا هو أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئًا للاستتار والإخفاء وقد يكون ذلك بالإيماء والخط. وأصل الوحي ما ذكرنا أنه سمي به لسرعة وقوعه وقذفه في القلب.

وقال أبو بكر: تأويل الوحي أن يعلم الذي يوحي إليه ويرشده، وذلك من وجهين: أحدهما: أن اللَّه أرشد كل دابة سوى الإنسان إلى مصلحتها، والهرب عن مهلكها ومتلفها بما فطوها اللَّه عليه، كما أرشد الإنسان إلى ما يصلحه في دينه ودنياه بالتعليم، فمثل اللَّه تعليمه كل دابة ما فيه مصلحتها ومفسدتها بما دبرها عليه، كما علم الإنسان بالقول والبيان، فقال: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي: أرشدها ودلها بفطرتها (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ) بيوتًا فيها (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) يعني: واتخذي مما يبني الإنسان لمسكنه. وقال: العريش: الحيطان التي لا سماء لها، بفطرتها تتخذ خلاياها في كل ذلك لمنافع الخلق، ثم قال: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) والثمرات مختلفة الطعم والمنظر والمشبم: (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) وهو ما سبل اللَّه لها من الرزق والمأوى (ذُلُلًا) قال: يقول: ذلك ذلل لك كل شيء قدره لرزقك ومسلكك، وذللك في طلب ما سبل لبني آدم وجعلها سببًا لمنافعهم وصغر قدرك لديهم فذلك قدرته وسلطانه على ما شاء؛ ليعلموا أن خالقهم لا يعجزه شيء، وأنه القدير على ما يعدهم من البعث والثواب والعقاب. وقوله: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ) يقول: الجنس واحد، ثم هو ضروب كألوان التمر والعنب وسائر الثمار في مذاقه ومشامه ومنظره، وكله عسل فيه شفاء للناس لمنافعهم وملاذهم وفيما أراهم اللَّه من قدرته على ما يشاء من ذلك، فيه شفاء لهم في الدِّين والعلم، يعلمون بما يشاهدون من تدبير اللَّه وقدرته، على ما بينا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) يقول: لعبرة ودليلا وبرهانًا (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيما يشاهدون من تدبير اللَّه وتقديره وقدرته على ما يشاء، واللَّه أعلم. وقال في قوله: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ) يقول: ولكم عبرة ودليل أن النخل أجذاع خشب لا طعم فيها والكرم خشب أيضًا وما فيهما من سعف وورق لا عسل فيها ولا عنب، فأخرج اللَّه منهما ثمرات مختلفات، فيه عسل، وفيه تمر وزبيب، وتتخذون منه ما تلذون من الشراب. وقال: هذا قبل تحريم الخمر، والسكر: كل ما أسكرهم، وتتخذون منه أيضًا رزقًا حسنًا، أي: طيبًا، وهو ما تأكلون منها، سوى ما تشربون، وتكسبون بها أموالا كثيرة، منَّ اللَّه به عليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السكر: كل شيء حرمه اللَّه من ثمارها من الشراب، الخمر من العنب، والسكر من التمر، والرزق الحسن: ما أحل من ثمرها، الزبيب، والتمر،

(70)

والنبيذ، وقال السكر: ما أسكر، والرزق الحسن: الخل، وأشباهه (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) ودليلا وبيانا (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ما ينبهون، فيعلمون أن الذي لم يعجز عما خلق لهم من الثمار من خشب يابس يقدر أن يحيي الموتى، ويخلق ما يشاء، وما عرفه الخلق أنه يكون من النطفة الولد، ومن الماء والأشجار الفواكه، ومن العلف اللبن، وغير ذلك من الحوادث التي تحدث من الأشياء، وتلك أسبابها ما لم يدرك كون تلك الأشياء فيها ولا يرى لا يعرف ذلك إلا بتعليم من هو عالم بذاته لأن علم ذلك لو كان لا بتعليم لو اجتهدوا كل جهدهم لم يدركوا حدوث تلك الأشياء مما ذكرنا، ولا كونها منها، دل أن الذي علمهم هو عالم بذاته؛ فإذا ثبت كونه بعالم بذاته وإن كانوا لم يشاهدوا إلا عالمًا بغير، فعلى ذلك هو قادر على إنشاء الأشياء من لا شيء وإن كانوا لم يعاينوا في الشاهد شيئًا إلا من شيء، وفيه أن ما يحدث ويكون من اللبن بالعلف الذي يؤكل، أو الطعام الذي يتناول، أو الفواكه والثمار التي تخرج ليس يكون بنفس الماء، أو بنفس الطعام والعلف، ولكن باللطف من اللَّه تعالى؛ لأنه قد يسقي ذلك الماء الشجر والنخل في حال ثم لا يكون فيه الثمر، وكذلك الدواب تعلف في حال لا يكون ذلك منه. * * * قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا) فَإِنْ قِيلَ لنا أيُّ منَّةٍ له علينا في ذكر خلقنا ثم توفيه إيانا ورده لنا إلى الحال التي ذكر وهو حال الجهل حتى لا نعلم شيئًا. قيل ذكر هذا - واللَّه أعلم - يحتمل وجوهًا: أحدها: يذكرهم أنه هو الذي خلقكم، ثم هو يتوفاكم، ثم هو يملك ردكم إلى الحال التي لا تعلمون شيئًا، وفي ملكه وسلطانه تتقلبون، فكيف عبدتم الأصنام والأوثان التي لا يملكون شيئًا من ذلك وأشركتموها في ألوهيته وعبادته، أو يذكر هذا أنه خلقكم ولم تكونوا شيئًا، ثم يتوفاكم بعد ما أحياكم، ثم يردكم إلى الحال التي لا تعقلون شيئًا بعدما

(71)

جعلكم عقلاء علماء، فمن يملك هذا ويقدر على هذا، يقدر على الإحياء بعد الموت والبعث بعد الفناء. أو يذكر هذا؛ ليعلموا أنه لم يكن المقصود بخلقهم الفناء خاصة، لكن لأمر آخر قصد بخلقهم، وهو ما ذكر فيما تقدم من أنواع النعم وتسخير ما ذكر من الأشياء لهم ليعلموا أن المقصود في خلقهم لم يكن الفناء خاصة؛ إذ لو كان الفناء خاصة لم يحتج إلى ما خلق لهم من الأغذية والنعم التي أنشأ لهم والأشياء التي سخرها لهم. وقال أبو بكر الأصم: قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ) وكنتم نطفًا أمواتًا فأحياكم، ثم يتوفاكم أطفالا وشيوخًا، ومنكم من يعمر إلى أرذل العمر، يقول: يرده بعد قوة وعلم وتدبير الأمور إلى الخرف والجهل بعد العلم ليبين لخلقه أن العمر والرزق ليس بهما ربي وقوي؛ لأنهما ثابتان ثم يبلى ويفنى بهما ويرجع إلى الجهل، ولكن بلطف من اللَّه وتدبير منه، لا بالأغذية، واللَّه أعلم. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) بما دبر في خلقه مما يدركون به قدرة خالقهم، وتصريفه الأمور، وبما يكونون به حكماء وعلماء أن الذي دبرها حكيم قدير على ما شاء، والحكمة فيما ذكر من تفريق الآجال ليكونوا أبدًا خائفين راجين؛ لأنه لو كانت آجالهم واحدة يأمنون ويتعاطون المعاصي على أمنٍ، لما يعلمون وقت نزول الموت بهم. والثاني: ليعلموا أن التدبير في أنفسهم وملكهم لغيرهم لا لهم؛ لأن التدبير والأمر لو كان إليهم لكان كل منهم يختار من الحال ما هو أقوى وآكد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) قال بعض أهل التأويل: يذكر هذا مقابل ما أشركوا خلقه وعباده في ألوهيته وعبادته، يقول: فضل اللَّه بعضكم على بعض في الرزق والأموال حتى بلغوا السادة والموالي فلا ترضون أن يكون عبيدكم ومماليككم شركاء في ملككم وأموالكم، فكيف ترضون لله أن يكون عبيده ومماليكه شركاء، إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل. وقال أبو بكر الأصم: قوله: (فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أغنى بعضكم، وأفقر بعضًا، وجعل منكم أحرارًا وعبيدًا (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) بالغنى والتمليك (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ

عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) من عبيدهم (فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ) إذ يستوي المولى وعبده فيما ملكت يمينه، يقول: فليس أحد منكم يرضى أن يكون عبده بمنزلته فيما يملك سواء، فإذا رأيتم أنتم ذلك نقصا بكم لو فعلتم، فكيف زعمتم أن اللَّه أشرك بينه وبين أحجار حتى أشركتم ما ملككم اللَّه بينه وبين الأوثان في العبادة وفيما آتاكم من رزق، فقلتم: هذا لله، وهذا لشركائنا (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) يقول أنعم اللَّه عليهم بأنفسهم وأرزاقهم وأموالهم وأولادهم، فأشركوا غير اللَّه فيها، وجحدوا نعمة اللَّه عليهم بها عصوا، وبها كفروا، ثم ألزمهم النظر في الفضل الذي ذكر أنه فضل بعضهم على بعض إلى عين الفضل الذي كان من اللَّه، لا إلى الأسباب التي اكتسبوها، ليعلموا أنهم لم ينالوا تلك الفضائل باستحقاق منهم، ولكن إنما نالوا بفضل منه ورحمة، فيكون ذلك دليلا لهم فيما أنكروا من أفضال اللَّه، واختصاصه بعضهم بالرسالة والنبوة، وإن كانوا جميعًا من بشر، ومن جنس واحد على ما فضل بعضهم على بعض في الرزق، والسعة، والملك، والحرية والسلطان، وإن كانوا جميعًا في الجنس واحد، فإذا لم تنكروا هذا النوع من الفضل والاختصاص لبعض على بعض، فكيف أنكرتم ذلك الفضل والاختصاص بالرسالة من فضله ورحمته، فلذلك قال - واللَّه أعلم -: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)، أخبر أنه برحمته وفضله ينال ما ينال من الرسالة وغيرها، لا بالاستحقاق والاستيجاب كان منهم، أو أن يذكر سفههم بأنهم يأنفون أن يشركوا عبيدهم ومماليكهم في ملكهم وأموالهم ولهم بهم منافع من الخدمة والإعانة في الأمور، فما بالهم يشركون أحجارًا وخشبا، لا منفعة لأحد منهما في ألوهية اللَّه وربّوبيته وفي عبادته: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) على تأويل النبوة بفضل اللَّه وبرحمته يجحدون أنه لا يفضل بعضا على بعض بالرسالة، أو يجحدون ما آتاهم اللَّه من النعم، فيصوفون نعمه إلى غيره، وهي الأصنام التي عبدوها، فقالوا: هذا لشركائنا، أو يصرفون شكر نعمه إلى غيره، وهي الأوثان التي عبدوها، واللَّه أعلم. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ

(72)

وَحَفَدَةً ... (72) قال الحسن وغيره: الحفدة: الخدم والمماليك، فهو على التقديم، على تأويل هَؤُلَاءِ، يقول: جعل لكم من أنفسكم أزواجًا وخدمًا من جنسكم؛ لأنه ذكر فيما تقدم: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ. . .) الآية، يذكرهم نعمه وفضله الذي ذكر أنه جعل لكم من جنسكم أزواجًا وخدمًا تحت أيديهم، يستمتعون بالأزواج، ويستخدمون الخدم والمماليك، وهم من جنسهم وجوهرهم، يذكرهم فضله ومننه عليهم. أو يشبه أن يكون هذا صلة قوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا. . .) الآية، كانوا يأنفون عن البنات، ويدفنونهن أحياء إذا ولدن أنفا منهن، يقول - واللَّه أعلم -: كيف تأنفون منهن وقد جعل لكم من البنات أزواجًا تستمتعون بهن حتى لا تصبروا عنهن، وكذلك جعل لكم من البنات والبنين الذين ترغب أنفسكم فيهم ما لولا البنات لم تكن لكم الأزواج التي تستمتعون بهن، ولم يكن لكم البنون الذين ترغبون فيهم، والأنصار والأعوان والخدم الذين ترغبون فيهم، يبين ويذكر تناقضهم في الأنفة منهن يأنفون منهن، ومن البنات يكون ما يرغبون فيهم؛ فهذا يدل أن النساء يصرن كالملك للأزواج، ويصرن تحت أيديهم في حق ملك الاستمتاع، كالمماليك في حق ملك الرقاب، ثم جعل - عَزَّ وَجَلَّ - التناسل في الخلق على التفاريق، وتقلبهم من حال إلى حال، وتنقلهم أبدًا كذلك ليكون أذكر لتدبيره، وأنظر في آياته ودلالاته، ولو شاء لأنشأ الخلق كله بمرة واحدة، وأفناهم بدفعة واحدة، وكذلك ما جعل لهم من الأرزاق وأنواع النبات، لو شاء لأخرج لهم ذلك كله بمرة واحدة في وقت واحد، لكنه أنشأ لهم بالتفاريق ليذكرهم النظر في آياته وتدبيره، ليكون ذلك لهم أدعى إلى المرغوب، وأحذر للمرهوب، وكذلك ما ردد من الأنباء والقصص، والمواعيد، وذكر الجنة والنار في القرآن في غير موضع ليبعثهم ويحثهم على النظر في آياته وتدبيره، ويركبهم في كل وقت في المرغوب، ويحذرهم عن المحذور والمرهوب، ثم قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) وقال في آية أخرى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ)، وقال: (وَلَا تَقْتُلُوَا أَنْفُسَكُمْ)، ونحوه، ذكر الأنفس في هذا كله، ثم لم يفهم أهل الخطاب من هذا كله معنى واحدًا وشيئًا واحدًا، وإن كان في حق اللسان واللغة واحدا لكنهم فهموا في كل

غير ما فهموا في آخر، فهذا يدل أنه لا يفهم الحكمة والمعنى في الخطاب بحق ظاهر اللسان واللغة، ولكن بدليل الحكمة المجعولة في الخطاب، ومن اعتقد في الخطاب الظاهر حسم باب طلب الحكمة فيه والمعنى؛ لأنه يجعل المراد منه الظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) هو ما ذكرنا، وحفدة اختلف فيه، قَالَ بَعْضُهُمْ: الحفدة: الخدم والمماليك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحفدة: ولد الولد. وقال ابن مسعود رضيَ اللَّهُ عنه: الحفدة: الأختان وروي عنه أنه قال: الحفدة: الأصهار فالأصهار والأختان عنده واحد، وقيل: الحفدة: الأعوان والأنصار يذكرهم التناقض فيما يأنفون من البنات أن كيف يأنفون عنهن ومنهن يكون لكم الأعوان والأنصار، والأختان في أمر الدنيا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحفدة: بنو البنين، وقال أيضًا: الحفدة: الأعوان، والحافد: المجتهد في العبادة وفي العمل، يقول: حفد يحفد، أي: خدم واجتهد، وقوله: وإليك نسعى ونحفد، أي: نجتهد. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الحفدة: الخدم والأعوان، يقال: هم بنون وخدم. وقال: أصل الحفد: مداركة الخطو والإسراع في المشي، وإنَّمَا يفعل ذلك الخدم، فقيل لهم: حفدة، واحدها: حافد. وقال: ومنه يقال في دعاء الوش: وإليك نسعى ونحفد. وقال أبو عبيد: وأصل الحفد: العمل وقال: ومنه الحرف في القنوت: نحفد، أي: نعمل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الطيبات: الحلالات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطيبات: أي: كل ما طاب ولانَ ولطف، ورزق غيركم من الدواب

(73)

والبهائم كل ما خشن، وخبث يذكرهم مننه عليهم ونعمه عليهم، ليستأدي بذلك شكره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أبالشيطان يصدّقون، ويجيبونه إلى ما دعاهم من الأنفة من البنات، وبنعمة اللَّه هم يكفرون، أي: هذه البنات لكم نعمة، فكيف تكفرونها، وقال: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي: أبالشيطان إلى ما دعاكم وبنعمة اللَّه أي: بمُحَمَّد يكفرون، أو بالإسلام، أو بالقرآن. وقال أبو بكر الأصم: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) يقول: تقرون بأنكم عبيد لأحجار. وثذلون لها وتعبدونها، (وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) يقول: وبما أنعم اللَّه عليكم في أنفسكم وما خولكم ورزقكم تكفرون به، وكان الشكر أولى بكم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا) فائدة ذكر هذا لنا - واللَّه أعلم - لئلا نتبع بعض المخلوقين بأهوائنا، ولا نكل في أمورنا إلى من نعلم أنه لا يملك ضرّا ولا نفعًا، ولا يستطيع شيئا من الرزق، كما تبع أُولَئِكَ في عبادة من يعلمون أنه لا يملك شيئًا، ولا نفعًا ولا ضرا فيعبدونه؛ يذكر سفههم في عبادتهم من يعلمون أنه لا يملك شيئًا من النفع والضر والرزق لئلا نعمل نحن مثل صنيعهم بمن دون اللَّه من المخلوقين. ثم اختلف في قوله: (مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا) وقال الحسن: هو على التقديم، أي: يعبدون من دون اللَّه شيئًا لا يملك لهم ما ذكر.

(74)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعبدون من دون اللَّه ما لا يملك لهم رزقًا من السماوات والأرض، ولا يستطيعون شيئًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعبدون من دون اللَّه ما لا يملك لهم رزقًا من السماوات والأرض ولا يستطيعون شيئًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعبدون من دون اللَّه ما لا يملك لهم رزقًا من السماوات والأرض ولا شيئًا (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) أي: لا تتخذوا لله أمثالا من الخلق وأشباها في ألوهيته وعبادته، أو لا تقولوا لله إن له أشباهًا وأمثالا. أو يقول: فلا تجعلوا لله أمثالا في العبادة له، وأشباها في تسميتها آلهة، على علم منكم أن ما يكون لكم إنما يكون باللَّه لا بالأصنام التي تجعلونها أمثالا لله في العبادة والألوهية. وجائز أن يكون قوله: (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) أي: فلا تضربوا لأولياء الله الأمثال، فإنه قد بين محل أوليائه ومكانهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) أن لا مثل له من الخلق ولا شبه (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ذلك، أو أن اللَّه يعلم بمصالحكم، وأنتم لا تعلمون ما به صلاحكم وهلاككم. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) ضرب المثل بهذا من وجهين: أحدهما: أن من لا يقدر ولا يملك أن ينفق في - الشاهد عندكم ليس كمن يملك ويقدر أن ينفق، فهو كقوله: (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ). وقوله: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ. . .)، أي: ليس يستوي البصير والأعمى، ولا الأصم والسميع، فعلى ذلك لا يستوي من يملك الإنفاق والإنعام على الخلق، وهو المعبود الحق، كمن لا يملك ذلك، وهو المعبود الباطل. والثاني: ضرب مثل المؤمن والكافر، أن الكافر لا ينفق ما أنعم عليه من المال في طاعة اللَّه وفي خيراته، والمؤمن ينفق جميع ما أنعم عليه وأعطى في طاعة الله وخيراته فليسا بسواء من أنفق في طاعة اللَّه كمن لا ينفق شيئًا أحدهما يكون ضرب مثل الإله الحق والمعبود الحق بالمعبود الباطل، والثاني مثل المؤمن بالكافر ثم في الآية وجوه من الدلائل.

(76)

إحداها: أن القدرة لا تفارق الفعل، حيث قال: (عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) ثم قال: (وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ) جعل مقابل الفعل القدرة، فلو كانت تفارق الفعل لكان ذكر مقابل القدرة قدرة مثلها، أو مقابل الفعل فعلا مثله، فلما ذكر مقابل القدرة الفعل دل أنها لا تفارق الفعل، وفيه أن العبد لا يملك حقيقة الملك، حيث ذكر عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء، وإن قدر على ما يملك إنما يملك بإذن من له الملك، وكذلك الخلائق كلهم لا يملكون حقيقة الإملاك، إنما حقيقة الملك في الأشياء لله وإن قدراوا على ما يملكون إنما يملكون بالإذن على قدر ما أذن لهم. وفيه أن العبد لا يملك الإنفاق والتصدق، حيث قال: (عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) ثم قال فيمن يملك: (وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنهُ) دل أنه لا يملك العبد الإنفاق والهبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر الحمد لله على إثر ما ذكر؛ لأنه عرَّف رسوله النعم وأنواع المنافع، ثم عرفه على إثر ذلك الحمد لله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحمد لله ثناء، أخبر أن أكثرهم لا يعلمون حمد اللَّه وثناءه. وقوله: (وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا) أي: من أوليائنا، أو من أولياء ديننا، وذلك جائز سائغ في اللغة، ثم قوله: (لَا يَعْلَمُونَ) يحتمل نفي العلم عنهم لما لم ينتفعوا بما علموا، أو على حقيقة النفي لما لم ينظروا في الآيات والحجج، ولم يتأملوا فيها فلم يعلموا، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ ... (76)، إلى آخر الآية " قالوا: هذا المثل كالأول، يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما في الأول. أحدهما: المؤمن والكافر، شبه الكافر بالمملوك الأبكم الذي لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه، لا يأتي المولى بخير، ولا ينتفع به، وشبه المؤمن بالذي يأتي المولى بكل خير ونفع، يقول: هل استوى هذا مع هذا عندكم؟ لا يستوي، فعلى ذلك لا يستوي الكافر الذي لا يعمل شيئًا من طاعة اللَّه، ولا يأتي بخير والمؤمن الذي يعمل كل طاعة اللَّه، ويأتي بكل خير، ويأمر بكل عدل.

(77)

والثاني: ضرب مثل الإله المعبود الحق بالمعبود الباطل، يقول: هل يستوي من أتاكم بكل نعمة وكل خير، ويأمر بكل عدل، بمن هو أبكم لا يقدر على شيء، ولا يضر، ولا ينفع، ولا يجيب، وهو عيال على من يعبده ويخدمه، هل يستوي هذا مع ذلك؟ لا يستويان مثلا ألبتَّة غير أن المثل هاهنا ضرب بالذي لا ينفق بالحق، ولا يأمر بالعدل، ذكر مقابل الأبكم الذي يأمر بالعدل، وفي الأول ضرب مثل الذي لا يملك الإنفاق بالذي يملك الإنفاق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي: هو على الحق المستقيم، وهو المعبود بالحق. قال أَبُو عَوْسَجَةَ الكَل: العيال، وكذلك قال غيره من أهل الأدب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكل الفقير، وهو واحد، والأبكم: الأخرس، وهو الذي لا ينطق ألبتَّة. وقال: (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) بالتوحيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (77) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: ما ذكر أهل التأويل من السؤال عن الساعة وعن وقتها، كقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لخفائها على أهلها؛ لأن كل خفي ثقيل، أخبر أنه لا يجليها إلا لوقتها، فوقت قيامها لا يعلمه غيره. والثاني: ولله علم ما غيب أهل السماوات وأهل الأرض، أي: ما غيب بعضهم من بعض، فذلك ليس بمغيب عن اللَّه بل ما غاب عن الخلق وما ظهر لهم، فذلك لله كله ظاهر بمحل واحد، وهو كقوله: (يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ). والثالث: قوله: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: له علم ما في سرية هذه الأشياء الظاهرة ما لا سبيل للخلق إلى علم ذلك، وإن كانوا يعلمون هذه الأجسام والأشياء الظاهرة، وتقع حواسهم عليها لا يعلمون ما في سريتها: من نحو الماء الذي به حياة كل شيء، ونحو النطفة التي يخلق منها الإنسان - لا يعلمون المعنى الذي به يصير إنسانًا، ومن نحو السمع والبصر والعقل يعلمون ويرون ظواهر هذه الحواس، ولكن لا يدركون المعنى الذي به يسمع وبه يبصر وبه يعقل ويفهم.

يقول - واللَّه أعلم -: ولله علم ما غاب عن الخلق ما في هذه الأشياء الظاهرة والأجسام المرئية. أو يقول: ولله ملك ما غاب عن أهل السماوات والأرض، وملك ما لم يغب عنهم وظهر؛ فيكون كقوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كأنه قال - واللَّه أعلم - ولله العلم الذي غيب عن أهل السماوات وأهل الأرض، وهي الساعة: لم يطلع عليها غيره. وقوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ). قَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ) أهون على اللَّه وأيسر من لمح البصر؛ إذ ليس شيء أيسر وأهون على الإنسان من لمح البصر؛ لأنه يلمح البصر، (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ). أي: بل هو أقرب، أي: أيسر من لمح البصر. وقال الحسن: إعادة الخلق على اللَّه أيسر وأهون من لمح البصر؛ لأنه يلمح بصره فيبصر به - بلحظة - ما بين الأرض إلى السماء، وهو مسيرة خمسمائة عام. يقول: من قدر أن ينشئ في خلق من خلائقه ما يبصره بلمحهَ البصر مسيرة خمسمائة عام - لقادر على إعادة الخلق وبعثهم بعد الفناء، بل هو أقرب أي: إعادته إياهم أسرع وأقرب من لمح البصر، إلى هذا يذهب الحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ) أي: ما وقت قيام الساعة إلا لمح البصر، أي: ليس بين وقت قيامها وبين كونها إلا لمح البصر، بل هو أقرب من لمح البصر، لكنه مثل لمح البصر لما ليس شيء عند الناس أسرع وأهون من لمح البصر، ولما ذكرنا أنه يلمح البصر، ولا يشعر به لسرعته ولخفته عليه؛ فذكر هذا على التمثيل، ليس على إرادة حقيقة الوقت بقدر لمح البصر، ولكن على المبالغة في السرعة، وذكر أقصى ما يقع في الأوهام ويتصور؛ من نحو ما قال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)، وما قال: (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)، (وَلَا يُظلَمُونَ نَقِيرًا)، وأمثاله كله يذكر على التمثيل ليس على التحقيق، أي: فمن يعمل من قليل وكثير يره،

(78)

شرًّا كان أو خيرًا، وكذلك (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) و (نَقِيرًا)، أي: لا يظلمون شيئًا، وكذا (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي: لا يملكون شيئا؛ لأن القطمير لا يملك؛ فإنما يذكر هذا وأمثاله على التمثيل الذي ذكرنا. أو أن يكون تأويل قوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، أي: ليس ما بين الساعة وبينكم مما مضى من الوقت إلا قدر لمح البصر، أي: لم يبق من وقت قيامها مما مضى إلا ما ذكر من لمح البصر أو أقرب مما ذكر على الاستقصار مما بقي. (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وعلى البعث والإعادة، وعلى كل شيء، لا يعجزه شيء. وظاهر الآية ينقض على المعتزلة قولهم؛ لإنكارهم خلق أفعال العباد؛ لأنه أخبر أنه على كل شيء قدير، وعلى قولهم: هو غير قادر على العالم بشيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) يذكر بهذا قدرته وسلطانه على ما سبق: من ذكر سرعة القيامة، والعلم بها، والحكمة التي جعل في البعث؛ فقال: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا): خلق الولد في ظلمات ثلاث، وجعل غذاه بغذاء الأمهات وبقواهن، ثم تقلبه في تلك الظلمات من حال إلى حال: ما لو اجتهد الخلائق أن يعلموا اغتذاءه بغذاء الأمهات، وتقليبه من حال إلى حال، ومن جوهر إلى جوهر - ما قدروا على ذلك؛ فيدل هذا على أن من قدر على هذا، وعلم هذا في تلك الظلمات لقادر على البعث وإعادة الخلق بعد الفناء، وعلْم ما غاب عن الخلق. ويذكرنا ابتداء أحوالنا أنه أخرجنا من بطون أمهاتنا ونحن لا نعلم شيئًا، ثم صيَّرنا بحال صرنا عالمين أشياء، يذكرنا نعمه ومننه علينا في بلوغنا إلى الأحوال التي صرنا إليها بعدما كنا ما ذكر. والثاني: يذكرنا أنكم كنتم بالحال التي ذكر؛ لنعلم أنه صيرنا في البطون بلا استعانة بأحد منا ولا عون منه إلى أحد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ).

(79)

فمن قدر على جعل السمع حتى يسمع الأصوات ويميز بينها، والبصر ليبصر ويميز بين ألوان الأجسام، والفؤاد ليفهم ويعقل ما له وما عليه، ما لا يدركون ماهية ما به يسمعون ويبصرون ويعقلون، وما به يميزون بين ما ذكرنا فهو قادر على إنشاء الخلق بعد الفناء والإعادة بعد الموت. ثم ذكر على أثر قوله: (لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا): السمع والبصر والأفئدة؛ فذلك يدل على أن هذه الأشياء من أسباب العلم بالأشياء، بها يوصل إلى العلم بالأشياء؛ فمن أعطي أسباب العلم بالشيء فكأنْ قد أعطي له العلم به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). هو حرف شك في الظاهر؛ ذكر - واللَّه أعلم - لأنه لا كل الناس يشكرون نعمه، أو لكي يلزمهم الشكر. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ). أي: من قدر على إمساك الطير، وهي أجسام كغيرها من الأجسام في الهواء بلا إعانة في الأسفل ولا تعلق بشيء من الأعلى، لقادر على إنشاء الخلق وإعادتهم بعد الفناء.

(80)

أو يقول: أو لم يروا إلى اللطف الذي جعل في الطير، والحكمة التي أنشأ فيها حتى قدرت على الاستمساك في الهواء، والطيران في الجو: ما لو اجتمع الخلائق جميعًا أن يدركوا ذلك اللطف أو تلك الحكمة - ما قدروا على إدراكه. وفي ذلك نقض قول المعتزلة؛ لأن الطيران فعل الطير، ثم أضاف ذلك إلى اللَّه حيث قال: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ): دل ذلك أن لله في ذلك صنعًا وفعلًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). جميع ما ذكر يكون آية لمن آمن؛ لأنه هو المنتفع. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: لمح البصر: سرعة النظر، وجو السماء: هواؤها، ويقال: بطن السماء، ويقال: جوف السماء، ويقال: الجو: ما اطمأن من الأرض. والأول أشبه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) ظاهر هذا أنه قد جعل لنا من البيوت -أيضًا- ما ليس بسكن؛ لأنه قال: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا)، وهو ما ذكر في قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ): وهو كالمساجد والرباطات وغيرها. ويشبه أن يكون ذكر هذا؛ ليعرفوا عظيم مننه ونعمه، حيث جعل الأرض بمحل يقرون عليها ويمكن لهم المقام بها؛ بالرواسى التي ذكر أنه أثبت فيها بعدما كانت تميد بهم ولا تقر بها، أخبر أنه أجعل، فيها رواسى أو أن يكون حرف (من) صلة، أي: جعل لكم بيوتًا تسكنون فيها. ثم قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) يحتمل وجهين: أحدهما: أي: سخر لكم الأرض حتى قدرتم على اتخاذ المساكن فيها تسمكنون. أو جعل لكم بيوتًا، أي: علمكم تسكنون فيها. ثم قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا): أي أعلمكم، ما تبنون فيها من البيوت

ما لولا تعليمه إياكم ما تقدرون على بناء البيوت فيها؛ يذكر مننه عليهم، واللَّه أعلم. وفي هذه الآيات في قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا). ونحوه: دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه ذكر أنه جعل بيوتًا سكنًا، والسكن فعل العباد؛ دل أن لله في فعلهم صنعًا. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا)، قال أهل التأويل: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا)، أي: من صوفها، لكنه أضافها إلى الجلود؛ لما من الجلود يخرج، ومنها يجز ويؤخذ، وهو ما ذكر. (وَمِنْ أَصْوَافِهَا): وهو صوف الغنم. (وَأَوْبَارِهَا): وهو صوف الإبل. (وَأَشْعَارِهَا): ما يخرج من المعز. (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ): قيل: ليوم سفركم وسيركم. (وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: في المصر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في السفر حين النزول. والجعل في هذا يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا في قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا): أحدهما: على التسخير لهم، والثاني: على التعليم. ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في البيوت المتخذة من المدر السكنى؛ حيث قال: (مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا)، ولم يذكر في البيوت المتخذة من الجلود والأوبار والأشعار؛ فكأنه ترك ذكره في هذه، الذكر في الأول ذكر تصريح، وذكر في الثاني ذكر دلالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَثَاثًا) قيل: الأثاث والرياش: واحد، وهو المال. وقيل: ما يتخذ من الثياب والأمتعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ). يحتمل إلى حين، إلى وقت بِلَى ذلك الأثاث، أو إلى حين وقت فنائهم.

(81)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) يحتمل قوله: (ظِلَالًا) البيوت التي ذكر وهي تظلهم، ويحتمل الأشجار. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا). وهى الغِيرَان والبيوت التي تتخذ في الجبال؛ تقيهم من الحرّ والبرد. (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ). قيل: القميص والدروع، ثم ذكر أن ما ذكر من البيوت والأكنان والسرابيل تقيكم الحر، وتقيكم أيضًا بأس العدو. (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ). على ما ذكر من أنواع النعم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ). ذكر أنها تقى من الحر، وهي تقى الحر والبرد جميعًا؛ فكان في ذكر أحدهما ذكر الآخر ذكر كفاية.

(82)

وقوله: (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ). أي: كذلك يتم ذكر نعمته عليكم؛ ليلزمهم الإسلام أو حجته، ثم يحتمل النعمة على ما تقدم ذكره، ويحتمل: الرسول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). جميع ما ذكر من النعم والآيات في هذه السورة من أولها إلى آخرها؛ إنما ذكر لهذا الحرف، وهو قوله: (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). وما ذكر (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) و (لَعَلَّكُمْ (تَهْتَدُونَ): يحتمل أن يكون هذه الأحرف كلها واحدًا، ويحتمل أن يكون لكل حرف من ذلك معنى غير الآخر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) عن الإجابة لك وعما تدعوهم إليه. (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). أي: ليس عليك إجابتهم، إنما عليك التبليغ إليهم والبيان لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) يحتمل النعمة - هاهنا - محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا يعرفونه لكنهم أنكروه؛ كقوله: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)، وما ذكر: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ). ويحتمل: (نِعْمَتَ اللَّهِ): يعرفون نعمة اللَّه، وهو ما ذكر عرفوها أنها من اللَّه (ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا)؛ بعبادتهم الأصنام، وصرفهم شكرها إلى غيره، كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، مع ما يعرفون: أن اللَّه هو خالقهم، وأن ما لهم كله من عند اللَّه يعبدون الأصنام؛ فتكون عبادتهم دون اللَّه كفران نعمة اللَّه.

(84)

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ): يوم سيركم؛ ظعن يظعن: سار، والسراويل: القميص. يقول: (تَقِيكُمُ)، أي: تستركم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (ظِلَالًا)، أي: ظلال الشجر والجبال. وقوله: (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). هذا - واللَّه أعلم - في قوم علم اللَّه أنهم يؤمنون بما ذكر لهم من أنواع النعم والأفضال؛ ليعلم أن الإسلام من أعظم نعم اللَّه، لا يناله أحد إلا بنعمته. وقال بعض أهل التأويل: سميت سورة (النحل) سورة النعم؛ لما فيها من ذكر النعم وأنواع منافع الخلق من أولها إلى آخرها. * * * قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) وقوله: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: شهيدها: أن يشهد عليهم من نحو ما ذكر من شهادة جوارحهم عليهم، وهو قوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ. . .) الآية وقوله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ. . .) الآية، وقوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)، ونحو ذلك من الآيات التي فيها ذكر الشهادة عليهم؛ عند إنكارهم أعمالهم التي عملوها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: شهيدها: رسولها الذي بعث إليهم يشهد عليهم أنه قد بلغ إليهم رسالات ربهم، وهو كقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)، والنذير: هو الرسول المبعوث إليهم، وهو ما ذكر -أيضًا-: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)

وكقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، وقال: (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ). أخبر أنه يجيء بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شهيدًا على أُولَئِكَ: أن الرسل قد بلغوا الرسالة إليهم، وهو ما ذكر: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)، وقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ. . .) الآية، وقوله: (وَيَومَ يُنادِيهِم): يسأل الرسل عن تبليغ الرسالة إلى قومهم، ويسأل قومهم عما أجابوا الرسل. إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل، واللَّه أعلم. جميع ما ذكر في القرآن من مجيئه وإنبائه ونحوه جائز أن يكون ذلك البعث تفسير ذلك كله. قوله: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ): كذا من ذلك، وقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) و (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ)، وقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)، فهو البعث، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا). قال الحسن: لا يؤذن لهم بالاعتذار؛ لأنه لا عذر لهم، وهو ما قال: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)؛ لأنه لا عذر لهم، وأعذارهم لا ينفع لهم شيئا؛ إذ اعتذارهم من نحو قولهم: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا)؛ وقولهم: (لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)، ونحو هذا مما لا ينفعهم ذلك؛ فلا يؤذن لهم لذلك. (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). قال الحسن: ولا هم يقالون، وكذلك قال في قوله: (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ)، أي: من المقالين، أي: لا يقالون مما كان منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يؤذن لهم ولا يمكن لهم من التوبة والرجوع عما كانوا؛ لأن ذلك الوقت ليس هو وقت التوبة والرجوع، كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ). وهذه الآية، وقال: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ)، ونحوه - (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) العتاب في الخلق: هو تذكير ما كان من الفرط؛ ليرجع عما كان منه، وذلك في الآخرة لا يحتمل.

(85)

ويحتمل قوله: (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا)، أي: لا يؤذن لهم بالكلام، كقوله: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)، أو: لا يؤذن للشفعاء أن يشفعوا للذين كفروا، ويؤذن للشفعاء أن يشفعوا للمؤمنين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) أي: وقعوا فيه؛ دليله ما ذكر. (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ). دل هذا أنه لم يرد به رؤية العذاب؛ ولكن الوقوع فيه؛ فلا يخفف عنهم؛ لأنه يدوم، ولا تخفيف مما يدوم من العذاب. (وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ). أي: يمهلون من العذاب. والثاني: لا يخفف عنهم عما استحقوا واستوجبوا، أو ما ذكرنا: أنه لا يكون لعذابهم انقطاع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) قال الحسن: قوله: (شُرَكَاءَهُمْ)، أي: قرناءهم وأولياءهم من الشياطين، كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ. . .) الآية، وكقوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ. . . الآية، وقوله: (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) وقوله: (نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا. . .) الآية. وقوله: (شُرَكَاءَهُمْ): أولياءهم الذين كانوا لهم في الدنيا فهم شركاؤهم الذي ذكر. وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ)؛ على هذا التأويل: كنا ندعوك وإياهم من دونك. (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ). أي: يقولون لهم: (إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ).

(87)

وقَالَ بَعْضُهُمْ قولهم: (هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ): الأصنام التي عبدوها. (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ): أي: يكذبونهم، وهو ما ذكر: (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ)؛ يكذبونهم فيما قالوا، ويخبرون أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: شركاؤهم الملائكة الذين عبدوهم، كقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ): أخبر أنهم إنما عبدوا الجن بأمرهم ولم يعبدوهم، أو يكون شركاؤهم رؤساءهم الذين انقاد الأتباع لهم ويحتمل الأصنام وما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ). هو ما ذكرنا: يقولون لهم: إنكم لكاذبون، أو يكذبونهم فيما يزعمون ويدعون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) أي: يخضعون كلهم لله يومئذ، ويخلصون له الدِّين، ويسلمون له الأمر والألوهية. (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي: بطل عنهم ما طمعوا بعبادتهم الأصنام والأوثان التي عبدوها من الشفاعة وغيرها؛ كقولهم: (مَا نعبُدُهُم إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ): بطل عنهم ما طمعوا ورجوا من عبادة أُولَئِكَ من الشفاعة لهم، والقربة إلى اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) قَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلَاءِ كانوا رؤساء الكفرة وقادتهم ضلوا هم بأنفسهم وأضلوا أتباعهم؛ فلهم العذاب الدائم بكفرهم بأنفسهم، وزيادة العذاب بإضلال غيرهم، وهو كقوله: قوله تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ). وكقوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ. . .) الآية: أخبر أنهم يحملون أوزارهم، وأوزار الذين أضلوهم ومنعوهم عن الإسلام؛ فعلى ذلك قوله: (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ)؛ بما أضلوا أتباعهم، وسعوا في الأرض بالإفساد، وهو قول

(89)

أبي بكر الأصم. وقَالَ بَعْضُهُمْ؛ إن عذابهم كلما أراد أن يفتر بنضج الجلود، زيدت لهم - بتبديل الجلود - نارها كلما أرادت أن تخمد زِيد لهم سعيزا؛ كقوله: (بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا)، وقوله: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)؛ فذلك هو الزيادة في العذاب. ويحتمل غير ذلك، وهو أن عذاب الكفر دائم أبدًا؛ فيزداد لهم عذابًا بما كان لهم في الكفر - سوى الكفر - أعمال ومساوٍ، كما يعفى ويتجاوز عن المؤمنين ما كان منهم من المساوي؛ كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ)؛ مقابل ما كان يعفى عن المؤمنين المساوي، زيد لأهل الكفر، على عذاب الكفر؛ لمساويهم. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (زِذنَاهُم عَذَابًا ضِعفا بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)، وأصله أن جزاء الآخرة من الثواب والعذاب على المضاعفة؛ لأنه دائم لا انقطاع له. وما ذكر من الزيادة والفوق وغيره - فهو على المضاعفة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) يحتمل قوله: (مِن أَنفُسِهِم)، أي: من البشر، ويحتمل ما ذكرنا من شهادة الجوارح عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ). هو ما ذكرنا: يشهد الرسول عليهم بالتبليغ، ويشهد لمن أجابه وأطاعه، وعلى من رد كذبه بالرد والتكذيب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ). يحتمل قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ): ما ذكر في هذه السورة؛ لأنه ذكر فيها جميع أصناف النعم وجواهرها، ووجوه الأسباب التي بها يوصل إليها، وذكر فيها ما سخر لهم من أنواع الجواهر، وفيه ذكر ما وعد وأوعد، وأمر ونهى، وذكر ما حل بالأعداء وما ظفر أولياؤه بهم. وفيه ذكر سلطانه وقدرته، وذكر سفه الكفرة وعنادهم، وذكر ما يؤتى ويتقى؛ فذلك تبيان لكل شيء. أو أن يكون في الكتاب تبيان كل شيء، وفي القرآن ما ذكرنا: من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأخبار الأمم الماضية وأمثالهم، وجميع ما يؤتى ويتقى؛ ففيه تبيان

كل شيء من الوجه الذي ذكرنا. أو أن يكون أنزل عليه الكتاب أتبيانا، لكل ما دعا به الرسل وجاءت به الرسل والكتب جميعًا. في هذا الكتاب جميع ما أتى به الرسل والكتب من الأمر والنهي والوعد والوعيد، كقوله: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ). ثم اختلف في ذلك البيان: قَالَ بَعْضُهُمْ: تحتمل الآية وجهين: أحدهما: الخصوص على الأصول دون الفروع؛ كذكر الكمال للدِّين، لكن ذلك وصف الدِّين، وقد يقع له الكمال بالكتاب والسنة، وهذا للكتاب؛ فلم يجز التقصير عن الاشتمال عما لزمت الحاجة في أمر الديانة. وذكر أن الكتاب تبيان لكل ما وقعت إليه حاجة في أصول الدِّين: من الإيمان، وأنواع العبادات، والأحكام مع الحدود والحقوق، ومكارم الأخلاق: تنتظم صلة الرحم، وعشرة الإخوان، وصحبة الجيران، ونحو ذلك؛ فتشتمل هذه الجملة على أصول الدِّين، وما وراءها يكون موكولًا إلى بيان الرسول؛ ليفي الكتاب بما شرط له تلاوة ودلالة الوجه. والوجه الثاني: أن يكون تبيانا لكل شيء منتظمًا لما فيه، مجمله ومبهمه ومشكله، ولبيان الرسول مجمله وتفسيره مبهمه، وإيضاحه، ودلالته على مشكله. وقال: والسنن كلها بيان للكتاب؛ لارتباط بعض ببعض. ثم قد يحتمل الآيات التي فيها ذكر البيان والتفصيل وجوهًا غير الوجهين اللَّذين ذكرتهما: أحدها: أنه تبيان كل شيء ظهر فيه التنازع بين أهل الأديان، وألزمتهم الضرورة فيه إلى البيان؛ فجعل اللَّه الكتاب تبيانا ألزمهم بالتدبر العلم بأنه من عند اللَّه؛ بخروجه عما عليه وسع القوم عن نوع ما ذكر فيه من الحجج والأدلة، وبما أعجزهم عن الطمع في تأليف مثله ونظمه؛ ليعرفوا أن اللَّه قد أعانهم فيما مستهم الحاجة، وألجأتهم الضرورة إلى من يطلعهم على الحق فيما لو أهملوا عن ذلك لتولد منه العداوة والعناد؛ فأنعم اللَّه عليهم به، وبين فيه جميع ما بين إليه من الحاجة لدوام الأخوة. والثاني: أن يكون فيه تبيان كل شيء بالطلب من عنده، وبالبحث فيه الظفر بكل ما ينزل بهم من الحاجات إلى الأبد؛ فيكون هو أصل ذلك. لكن باختلاف الأسباب يوصل إلى حقيقة العلم به، وذلك نحو ما جعل الماء حياة لكل شيء ووصف أن في السماء رزق

جميع الخلق؛ فأخبر أنه أنزل من السماء اللباس والرياش لكل شيء، وأخبر أنه خلقنا من تراب، ثم أخبر أنه خلقنا جميعًا من نفس واحدة؛ على رجوع كل ما ذكر باختلاف الأسباب والتوالد إليه، واللَّه أعلم. وذلك كما قال أهل الكلام في جعل المحسوسات أدلة لكل غائب: جعلها اللَّه أدلة توصل إليه بالتأمل والنظر فيكون المحسوس مبينًا من ذلك، وإلا على اختلاف الدرجات في حد البيان مع ما قد جعله اللَّه كذلك، حتى إن في الفلاسفة من تكلف استخراج كلية أمور العالم العلوي والسفلي. وما على ذلك مدار ما عليه من هذا المحسوس؛ فمثله أمر القرآن، واللَّه الموفق. والثالث: أن يكون فيه بيان على الرمز والإشارة مرة، وعلى الكشف ثانيًا؛ فما كان منه على الرمز فهو مطلوب في المعاني وطريق الرسول إلى ما في تلك المعاني من الأمور المختلفة: منها ما يقع بمعونة الوحي من غير الكتاب على اختلاف وجوه الوحي من إرسال على لسان ملك، أو رؤيا، أو إلهام. والتأمل في ذلك، أو الاستدلال بما قد أوضحه بعد توفيق اللَّه للحق في ذلك وعصمته عن الزيغ. أو على ما شاء من ترتيب الحكماء في حق التفاهم لغوامض الأمور، أو غير ذلك مما يريد اللَّه أن يطلع عليه نبيه؛ فإن لطف رب العالمين بما عامل به الأخيار يجل عن احتمال العبارة عنه أو تصويره في الأوهام، نحو كتابة الحفظة، وقبض ملك الموت أرواح الخلق في وقت واحد في أطراف الأرض، ونحو ذلك، وذلك كله حد اللطف الذي يعجز البشر عن الإحاطة؛ فعلى ذلك أمر تبيان كل شيء مع ما يحتمل الرجوع بتأويل الآية إلى أغلب الأمور وأعمها، كقوله - تعالى -: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، وغيره، ولا قوة إلا باللَّه. والأصل عندنا: أن ليس للبيان عدد يجب حفظ العدد، على ما ذكره قوم: أنه على خمسة أوجه؛ إنما هو أمران: أحدهما: ما يبين هو. والثاني: ما يبين غيره، لكن الوجه الذي به يقع ما غاب عن الحواس بالبيان أصله

(90)

الواقع تحت الحواس؛ إذ البين الذي من جحده حرم أول درجات البيان ومنع عن فهم المجحود عنه؛ إذ الجحود يكفى كلًّا مؤنة خصومته، ثم غيره مما يصير بالتأمل على الوجوه التي جعلت للوصول إليه، وإن بعد أو قرب بدليله كالمحسوس؛ إذ التأمل في الأسباب هو سبب الوصول إلى ما غاب، كاستعمال الحواس فيما يشهد؛ فمن أراد القطع على حد أو شيء يحتاج إلى دليل فيه. وأصل البيان - حقيقة - هو الظهور، وأسباب إظهار الأشياء متفاوتة، وعلى ذلك مقاديرها من الظهور، وجملته ارتفاع التواتر عن القلوب، وتجلي حقائق الأمور لها؛ على قدر العقول في الإدراك وما يتجلى للقلوب على مقدار ما يحتمل من الظهور. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُدًى وَرَحْمَةً). يجب أن يكون قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، وقوله: (وَهُدًى وَرَحْمَةً) - كله واحد الرحمة والهدى والبيان، وبرحمته وبهداه يتبين لهم ويتضح، لكنهم قالوا: البيان للناس كافة يبين ويتضح إلا من عاند وكابر، والهدى والرحمة للمؤمنين خاصة؛ على ما ذكر وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين؛ ذلك للمسلمين خاصة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. . .) إلى آخر ما ذكر.

قال الحسن: قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) فيما بين الناس، أي: يأمر بالحكم فيها بينهم بالعدل، (وَالْإِحْسَانِ): هو ما كلفهم بالطاعة له، أو أن يكون الأمر بالإحسان إلى أنفسهم أو إلى الناس، وجَائز أن يكون الأمر بالعدل فيما بينه وبين اللَّه، والإحسان فيما بينه وبين الخلق، أي: يعامل ربه بالعدل؛ لأن العدل هو وضع الشيء موضعه، وهو لا يقدر على المجاوزة عن العدل حتى يكون في حد الإحسان فيما بينه وبين ربه، ويقدر أن يصنع إلى خلقه أكثر مما يصنعون هم إليه؛ فيكون محسنًا إليهم، وأما إلى اللَّه فلا يكون محسنًا. (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى). أي: إعطاء ذي القربى الصدقة من غير الزكاة المفروضة. (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ). هي المعاصي، أي: نهى عن المعاصي كلها. وقال أبو بكر الأصم: (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)، أي: بالحق الذي له عليهم، والإحسان: هو ما تعبدهم من العبادات والطاعات التي جعل بسبب عطف بعضهم على بعض. (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى). صلة القرابة والأرحام. (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ). قال ابن عَبَّاسٍ ومقاتل وقتادة وهَؤُلَاءِ: قوله: (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ): بالتوحيد، (وَالْإِحْسَانِ)، أي: أداء الفرائض، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وقتادة. وقال مقاتل: قوله: (وَالْإِحْسَانِ): هو فيما بينهم، يحسن بعضهم إلى بعض، (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى): صلة الأرحام، (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ)، أي: الزنى، (وَالْمُنْكَرِ)، أي: السكر، (وَالْبَغْيِ): مظالم الناس.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: المنكر: ما لا يعرف في الشرائع والسنن. ويقال: المنكر: ما أوعد اللَّه عليه النار، والبغي: الاستطالة، والظلم، ثم يجب أن نقرر حقيقة العدل: ما هو؟ فهو - واللَّه أعلم -: وضع كل شيء موضعه؛ فيدخل فيه كل شيء: التوحيد وغيره؛ بجعل الربوبية والألوهيةِ لله لا شريك فيها غيره، ولا يصرفها إلى غيره، ولا يضيف، بل ينسب الربوبية والألوهية إلى اللَّه، والعبودية إلى العباد، ولا يضاف العبودية إلى اللَّه، ولا الربوبية والألوهية إلى العباد؛ فذلك العدل ووضع كل شيء موضعه: الربوبية في موضعها، والعبودية في موضعها، هذا - واللَّه أعلم - معنى العدل. وأمَّا الإحسان: فهو ما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إن جبريل سأله عن الإحسانِ حين سأله عن الإيمان والإسلام؛ فقال ما الإحسان؟ فمَال: " أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ كَأنكَ تَراهُ، فَإنْ لَم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَهُ يَرَاكَ ". ومن يعمل لآخر بحيث يراه وينظر إليه يكون أبدًا طالب رضاه في ذلك العمل، وإخلاصه له وطلب مرضاته فيه؛ فهو يحتمل وجوهًا ثلاثة - أعني الإحسان -: أحدها: ما ذكر أنه يعمل له كأنه يراه، وذلك فيما بينه وبين ربه. والثاني: فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يحب لهم كما يحب لنفسه فيما أذن له في ذلك، أو نقول على الإطلاق يحب لهم كما يحب لنفسه. فإن عورض بالقتال والحروب التي بيننا وبين أهل الحرب، وذلك بالذي لا نحب لأنفسنا ونحب لهم - قيل: في ذلك طلب نجاتهم وتخليصهم من الهلاك والعذاب الدائم الأبدي، وذلك ما نحبه نحن لأنفسنا: أن يسعى أحد في نجاة أحدنا من المهلكة؛ ألا ترى أنه قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وليس في القتال في الظاهر رحمة، لكن في الحقيقة رحمة؛ حيث يحملهم القتال على الإسلام؛ إذ كان قبل نصب القتال والحروب معهم لم يسلم إلا قليل منهم؛ فلما نصب الحروب معهم والقتال دخلوا في الإسلام أفواجًا أفواجًا؛ فصار ذلك في الحقيقة رحمة، وإن كان في رأي العين في الظاهر ليس برحمة.

وكذلك هذه المصائب والبلايا التي تحل بالخلق، هي في الحقيقة نعمة ورحمة؛ ولذلك عدها وسماها بعض الناس؛ لما تعقب من الثواب والنعمة إذا صبر عليها، ورأى ذلك منه حقا وعدلًا، ورأى حال الضراء والسراء منه؛ فهو بطيب نفسه في جميع الأحوال تنصرف به من الشدة والضيق، فإذا رأى نعمة، لما تعقب من الخير والنفع في العاقبة - فمن هذه الجهة يجوز أن يقال: ذلك نعمة ورحمة، وأمَّا في ظاهر الحال فلا؛ وذلك أن كل بلاء ينزل بأحدٍ، فصبر عليهِ كان في ذلك خصال أربعة: أحدها: تكفير ما كان ارتكب من المعاصي. والثاني: معرفة العبودة وملك غيره عليه. والثالث: ما يعقب من الثواب والنعيم الدائم. والرابع: معرفة النعم من الشدة؛ لأنه بالشدة يعرف النعم. وأمَّا الإحسان إلى نفسه: فهو أن يحفظها عما فيه هلاكها. وقوله: (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ). هو ما يكبر ويفحش من الشيء. (وَالْمُنْكَرِ). هو الشيء الغريب الذي لا يعرف؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم: (سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) سماهم منكرين لما لم يعرفهم؛ فالمنكر: ما يفعل من هو معروف بالخير والصلاح من الزلات لما يكون ذلك منهم غريبًا؛ إذ لم يعرفوا بذلك، فذلك منهم منكر. و (الْفَحْشَاءِ). ما يكون من أهل الفساد والشرور، وذلك مما يكبر ويفحش ذلك منهم. (وَالْبَغْيِ). هو الظلم، ويحتمل أن يكون هذا كله المنكر والفحشاء والبغي وكله واحد: الفحشاء هو المنكر، والفحشاء هي البغي، والمنكر هو الفحشاء والبغي، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعِظُكُمْ).

(91)

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ينهاكم عما ذكر كله. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). وتنتهون عنه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الموعظة هي التي تلين القلوب القاسية، وتصرفها إلى طاعة اللَّه، وقد ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) يحتمل أمره بوفاء العهد، العهود التي يُعطي بعضهم لبعض، أمرهم بوفاء ذلك، ونهاهم عن نقضها، ويلزمهم وفاء عهد اللَّه وإن لم يعاهدوا في ذلك، لكنه ذكر وفاء العهد إذا عاهدوا وئهى عن النقض؛ لأن ترك وفاء ما عاهدوا، ونقض ما أعطوا على ذلك شرطًا أقبح وأفحش مما لم يعاهدوا، وهو كقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)؛ ترك الوفاء ونقضه بعد قولهم: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا): أفحش، وأفحش من نقضه إذا لم يكن لهم عهد سابق وشرط متقدم، وهذا - واللَّه أعلم - معنى أمره بوفاء العهد إذا عاهدوا، وإن كان وفاء العهد لازمًا لهم، وإن لم يعاهدوا؛ إذ جعل اللَّه البشر بحيث يقبلون الحكمة والمحنة، وجعل بنيتهم وخلقتهم بحيث يقدرون على القيام بذلك، كقوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا. . .) الآية، أي: أبى خلقتهم وبنيتهم، أي: لم يجعل خلقة هذه الأشياء وبنيتها بحيث تحتمل ذلك، (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ)، أي خلقته وبنيته تحتمل ذلك والقيام بها، وتحتمل أن تكون العهود التي أمر بوفائها إذا عاهدوا على الأيمان التي يقيمون بها، حيث قال: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا): ذكر الأيمان ونهى عن نقضها، ثم لا يحتمل أن يكون النهي عن النقض في الأيمان التي يأثم بها المرء إذا حلف؛ لأنه نهى عن نقضها، ولو كان يأثم بعقدها لكان لا ينهى عن نقضها؛ لأن الأيمان التي ياثم بها المرء إذا حلف يؤمر بنقضها أو لا يؤمر بوفائها وحفظها، ثم ذكر فيه بعد توكيدها، ولم يسغ نقض اليمين، وإن لم يؤكدها إذا لم يكن في الوفاء بها إثم، لكنه ذكر التوكيد؛ لأن النقض بعد ذلك أفبح وأفحش من النقض على غير التوكيد؛ على ما ذكر من القبح والفحش في بعض العهود بعد ما عاهدوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) هو حَلِفُهم باللَّه؛ لأن مشركي العرب كانوا لا

(92)

يقسمون باللَّه إلا ما يعظم من الأمر ويجل، وذلك آخر أقسامهم؛ ولذلك قال بعض أهل التأويل في قوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ): يقول: جهد أيمانهم هو قسمهم باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا). قيل: كانوا يحلفون فيما بينهم على جعل اللَّه كفيلًا عيهم، وقيل: الكفيل: هو الشهيد الحافظ، وهكذا يؤخذ الكفيل فيما يؤخذ؛ ليحفظ المال أو النفس. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ). من الوفاء بما عاهدوا أو النقض، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) اختلف في تأويل الآية: قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية نزلت في مخالفة أهل الكفر بعضهم بعضًا، وهو أن يرث بعضهم بعضًا، وينصر ويعين بعضهم بعضًا، ويحلفون على ذلك ويقسمون؛ فإن هلكوا في ذلك - أي: في نصر بعضهم بعضًا وإعانة بعضهم بعضا، - ثم إذا رأوا الكثرة والغلبة مع غير الذين خالفوهم - نقضوا ذلك، ورجعوا إلى الذين معهم الكثرة والغلبة؛ فنهوا عن ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في الذين يكونون بعد رسول اللَّه وأصحابه لما علم أنه يكون خوارج وأهل اختلاف في الدِّين، فربما كانت الكثرة والغلبة لهم على أهل العدل؛ فنهى من عاهد أهل العدل وبايعهم - أن يترك بكثرتهم وغلبتهم الكون مع أهل العدل، وإعانتهم، ونقض ما عاهدوا؛ ولذلك قال: (إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ). وقال: هذا يدل أنه في أهل الإسلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في أهل النفاق؛ أنهم كانوا يقسمون باللَّه إنهم ينصرون رسول اللَّه وأصحابه، ويقولون: إنا معكم، كقوله: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ. . .) الآية، كانوا يُرُون من أنفسهم الموافقة لهم، والنصر، والعون

لهم على أعدائهم ويحلفون على ذلك، ثم إذا رأوا الكثرة مع الكفرة والغلبة، وقلة المؤمنين - تحولوا إلى أُولَئِكَ، ونقضوا أيمانهم، وكانوا معهم، كقوله: (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ. . .) الآية. ويحتمل قوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ. . .) أي: لا تكونوا في نقض العهود والمواثيق كالمرأة التي تنقض غزلها من بعد قوة، وجائز أن يكون غير هذا. يقول: ولا تظنوا في اللَّه أن يكون في إنشاء الخلق كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة؛ فلو لم يكن بعث لكان يكون في إنشاء الخلق كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة، وقد عرفتم قبح ذلك؛ فعلى ذلك: إنشاء الخلق إذا لم يكن بعث يكون في القبح ما ذكر. ثم ضرب اللَّه مثل من أعطى العهد والمواثيق ووكد الأيمان في ذلك، ثم نقض ذلك بامرأة تغزل ثم تنقض ذلك الغزل من بعد قوة أنكاثًا؛ يقول - واللَّه أعلم -: كما لم تنتفع هذه المرأة بغزلها إذا نقضته من بعد إبرامها إياه؛ كذلك لا ينتفع ولا يوثق بمن أعطى العهد، ثم نقضه. يقول: فلا هي تركت الغزل تنتفع به، ولا هي تركت القطن والكتان كما هو؛ فكذلك الذي يعطي العهد ثم ينقضه فلا هو حين أعطاه وفَّى به، ولا هو ترك العهد، فلم يعطه ونحوه. ثم اختلف في تلك المرأة: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي امرأة من قريش حمقاء بمكة، كانت إذا غزلت نقضته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا على التمثيل؛ يقول - واللَّه أعلم -: أي لو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه - لقلتم: ما أحمق هذه!! فعلى ذلك من أعطى العهد والميثاق، ثم نقض - فهو كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا). قال أبو بكر الأصم: الدخل: الذي لا يصح ولا يستقيم؛ يقال: هذا مدخول، أي: غير صحيح. وقال غيره: (دَخَلًا)، أي: خديعة ومكرًا يخدع بعضكم بعضًا، وهو قول

(93)

أبي عَوْسَجَةَ أيضا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (دَخَلًا بَيْنَكُمْ)، أي: خيانة ودغلًا بينكم. (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ). أي: فريق. (أَرْبَى). من فريق. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَنْكَاثًا): هي جمع " نِكْثٍ "، والنكث - من الحبل - خيوط تنكث ثم تطرق وتصير صوفًا، ثم من بعد ذلك تفتل. قال: والمِطْرَق: قضيب يضرب به الصوف حتى ينفش ويلين كما يُنْدَف القطن، يقال: طرقت الصوف - أطرقه طرقا - أي: ضربته، ويقال: نفشته - أنفشه نفشًا - أي: فرقت بينه فتفردّ، ومنه قوله: قوله تعالى: (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ). ويقال: حبل مَثْنِي: إذا كان طاقين، ومثلوث، ومربوع، ومخموس ومسدوس ومسبوع، ومثمون ومتسوع، ومعشور. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الأنكاث: ما نقض من غزل الشعر وغيره، واحدها: نكث. يقول: لا تؤكدوا على أنفسكم الأيمان والعهود ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا؛ فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت ثم نقضت ذلك فجعلته أنكاثًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) قال الحسن: (وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ) المشيئة - هاهنا - مشيئة القهر والقسر، أي: لو شاء لجبرهم وقهرهم على الإيمان فآمنوا جميعًا. فهذا فاسد؛ لأنه لا يكون بالقهر والجبر إيمان؛ لأنه لا صنع للعبد في حال القهر والجبر؛ فيبطل تأويله؛ إذ لا يجوز أن يثبت إيمان في تلك الحال. وقال أبو بكر: تأويله قوله: لو شاء لأنزل لهم آية حتى يؤمنوا جميعًا بتلك الآية، كقوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ): أخبر أنه لو أنزل آية يكونون لها خاضعين، لكن عندنا أنهم ليسوا يؤمنون ويخضعون للآية، ولكن بما شاء لهم ذلك، ولا يحتمل أن تحملهم الآية على الإيمان، شاءوا أو أبوا؛ ألا

ترى أنهم يكذبون يوم الحشر عند معاينتهم الآيات، وهو قوله: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ) إلى قوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ): أخبر أنهم يكذبون وقد عاينوا الآيات، وليست الآية التي تنزل عليهم في الدنيا بأعظم من الآيات التي يعاينونها يوم القيامة، ثم لم يمنعهم ذلك عن الكذب؛ دل أن الآية ليست تحملهم على الإيمان، ولا تضطرهم عليه، ولكن لو شاء لآمنوا بالاختيار فيبطل تأويله. ثم الآية تحتمل عندنا وجهين: أحدهما: قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) بظاهر السبب الذي إذا أعطاهم لآمنوا له، (وَلَوْلَا أَن يكونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً. . .) الآية: أخبر أنه لو ما يرغب الناس في الكفر فيكونون كفارًا كلهم، وإلا جعل سقف أهل الكفر ومعارجهم من فضة؛ فلو أنه جعل ذلك بعينه لأهل الإسلام وفي أيديهم لآمنوا -أيضًا- كلهم؛ لأنه لا يحتمل أن يكون ذلك في أيدي الكفرة؛ فيحمل أهل الإسلام على الكفر، وإذا كان ذلك بعينه لأهل الإسلام - لا يحمل أهل الكفر على ترك الكفر والدخول في الإسلام. والوجه الثاني: لو شاء لجعلهم أمة واحدة بلطف منه: يشرح صدره للإسلام من غير أن يعلم أن أحدًا ألقى ذلك في قلبه، من نحو ما مكن للشيطان عدو اللَّه؛ حتى يقذف في قلوب الخلق ويلقي وساوس، من غير أن يعلموا أن أحدًا دعا إلى ذلك وألقى إلى قلوبهم؛ ألا ترى أن إبليس لما وسوس إلى آدم - عليه السلام - ليتناول من الشجرة التي نهى عنها ربه لو علم أنه إبليس لما أجابه، وكذلك ما مكن للملائكة من تثبيت قلوب الذين آمنوا، وإلقاء أشياء في قلوبهم، ويلهمونهم، وهو قوله: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا)، من غير أن يعلموا أن أحدًا دعاهم إلى ذلك، أو ألقى أحد ذلك في قلوبهم؛ فمن ملك تمكين عدوه وملائكته على ما ذكرنا يملك شرح الصدر للإسلام والدعاء إلى ذلك من غير أن يعلموا أن أحدًا فعل ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ). على قول الحسن: على الحكم لذلك. وقال أبو بكر الأصم: يضل بالنهي من نهى، ويهدي بالأمر. لكن هذا فاسد؛ لأنه لو كان بالنهي مضلًا وبالأمر هاديًا - لكان مضلًا للأنبياء والرسل؛ لأنه قد نهاهم بمناهٍ؛ فيكون مضلًّا لهم.

(94)

فَإِنْ قِيلَ: لم يصر ما ذكرت؛ لأنهم لم يرتكبوا المناهي - قيل: الارتكاب فعلهم؛ فلا يحتمل أن يكون بفعلهم ذلك؛ فدل أن ما ذكرنا فاسد، وعلى قولهم يكون بالنهي عاصيًا مضلّا، وعندنا قوله: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) أي: يخلق فعل الضلال منهم، أو يضل من علم أنه يختار الضلال على الهدى ويخذلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). هو ظاهر. وقوله: (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) قد ذكرنا. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا). قال أبو بكر: دل قوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) أن الآيات التي تقدم ذكرها في أهل الإسلام؛ لأنه أخبر أنه تزل قدم بعد ثبوتها، وهو الكفر بعد الإسلام. وعندنا هو ما ذكرنا أن قوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) بالخوف، (بَعْدَ ثُبُوتِهَا) أي: بعدما كانوا آمنين؛ لأنهم بأيمانهم كانوا يأمنون، وبنقضهم العهود والأيمان يخافون، فيكون قوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) كناية عن الخوف، والثبوت كناية عن الأمن، أي صاروا خائفين بنقضهم العهود والأيمان بعدما كانوا آمنين بها، واللَّه أعلم.

(95)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). على هذا التأويل: يذوقون ذلك في الدنيا؛ بالقتل والقهر، ويحتمل في الآخرة؛ بما صدوا الناس عن دين اللَّه، واستبدلوا به الكفر بعد الإيمان. (وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) قَالَ بَعْضُهُمْ: عهد اللَّه: دين اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عهد اللَّه الذي عهد إليهم. ويحتمل عهد اللَّه: ما أعطوا من العهد والأيمان، أي: ينقضوها بشيء يسير؛ إنما عند اللَّه هو خير لكم دائم باقٍ، وهذا زائِل فانٍ، أو ما يجزي بوفاء ما عهدوا خير لكم من هذا، أي: يجزيكم بوفاء ما ذكر من العهد - خير لكم من غيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) أي: ما أخذتم من الأموال واكتسبتم بنقض العهود والأيمان ينفد ويفنى، وما عند الله من الجزاء والثواب بوفاء العهد بافي. (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ). يحتمل قوله: (صَبَرُوا) على ما أمروا به، ونهوا عنه، وصبروا على وفاء العهد. (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). يحتمل قوله: (بِأَحْسَنِ)، أي: الجزاء الذي يجزيهم على الصبر أحسن من وفاء العهد، أو يجزيهم بأحسن ما عملوا، أي: يجعل سيئاتهم حسنات؛ كقوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)، وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) اختلف أهل التأويل في قوله: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً): قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (حَيَاةً طَيِّبَةً) في الآخرة، وهي الجنة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حَيَاةً طَيِّبَةً) في الدنيا. فمن قال: الحياة الطيبة هي الجنة، في الآخرة، يكون تأويله: من يكن عمله في الدنيا صالحًا فليحيينه اللَّه في الآخرة حياة طيبة؛ وإلا ظاهر قوله: (مَن عَمِلَ صَالِحًا) إنما هو على عمل واحد، وى لك قوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً): ظاهره على حسنة واحدة، لكن الوجه به ما ذكرنا: من يكن عمله في الدنيا صالحًا فيفعل ما ذكر. وقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)، أي: ما تؤتينا في الدنيا آتنا حسنة، أو أن يكون على الختم به، أي: من ختم بالعمل الصالح فيحييه اللَّه حياة طيبة في الجنة، كقوله: من جاء بالحسنة فله كذا. وقال الحسن: الحياة الطيبة هي الجنة؛ لأن في الدنيا ما ينغص حياته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحياة الطيبة في الدنيا؛ فتأويله: من يكن همه وجهده في الدنيا العمل الصالح فلنحيينه حياة طيبة، أي: نوفقه ونيسره الخيرات والعمل الصالح والطاعات، وهو ما روي أنه قال: " كُل مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ "، وكقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)، وكقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) ونحوه؛ فذلك هو الحياة الطيبة في الدنيا؛ حيث يسَّر عليه العمل الصالح، ووفق للطاعات والخيرات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)، أي: قنع في الدنيا بما قسم اللَّه له ورزقه، ورضي به، (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) مما أزال عنه هم طلب الفضل، وغمهُ، وذله وحرصه عليه؛ لأن أكثر هموم الناس في الدنيا وذلهم؛ لما لم يرضوا بما قسم اللَّه لهم، ولم يقنعوا به؛ فهو يحيا حياة طيبة لما عصم من ذلك، واللَّه أعلم.

(98)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) أي: في الآخرة. (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). على تأويل من قال: الحياة الطيبة في الدُّنيَا. وقَالَ بَعْضُهُمْ - وهو قول أبي بكر -: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): في الدنيا، ما ذكر هَؤُلَاءِ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حَيَاةً طَيِّبَةً) الرزق الحلال. وقوله: (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): وقد ذكرنا. * * * قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) وقوله - عزَّ وجلَّ -: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ). وقال في آية أخرى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ). وقال في آية أخرى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ) الآية. فيجب أن يتعوذ من همزاته على ما أمر رسولَه، أو عند نزغ الشيطان على ما ذكر، لكنه إذا تعوذ منه - تعوذ من همزاته ونزغاته. فَإِنْ قِيلَ: كيف خصت قراءة القرآن بالتعوذ منه دون غيره من الأذكار، والعبادات، والأعمال الصالحة؟ قيل: قد يتعوذ منه دون غَيره -أيضًا- في غيره من العبادات والأذكار؛ بقولهم: " بسم

(99)

اللَّه "؛ إذ لا يفتتح شيء إلا به؛ فذلك تعوذهم منه، لكن التعوذ في هذا تعوذ بكناية، والتعوذ في قراءة القرآن بالتصريح؛ وذلك أنه حجة وبرهان؛ فطعن الأعداء فيما هو حجة في نفسه أكثر من الأفعال التي فعلوها؛ ألا ترى أنه كان يلقنهم - أعني الشيطان وأولياءه - أنه سحر، وأنه: أساطير الأولين، وأنه إنما يعلمه بشر، ونحوه. وقوله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ): كانوا يطلبون الطعن في القرآن؛ لأنه حجة وبرهان، ولم يشتغلوا في طعن فعل من الأفعال أو ذكر من الأذكار؛ فعلى ذلك يجوز أن يكون التعوذ منه - فيما هو حجة - بالتصريح، وفي غيره بكناية، واللَّه أعلم. ثم في هذه الآية، وفي غيرها من قوله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)، وقوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) - لم يفهم أهلها منها على ظاهر المخرج؛ ولكن فهموا على مخرج الحكمة؛ لأن ظاهر المخرج أن يفهم التعوذ بعد فراغه من القراءة، وكذلك يفهم من الأمر بالقيام إلى الصلاة الوضوء بعد القيام إليه، ثم لم يفهموا - في هذا ونحوه - هذا؛ ولكن فهموا: إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ باللَّه، وكذلك فهموا من قوله: (إِذَا قُمْتُمْ) أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة (فَاغسِلُوا)، ولم يفهموا كل قيام؛ إنما فهموا قيامًا دون قيام، أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون، وفهموا من قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ)، وفهموا من قوله: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا)، وكذلك فهموا من قوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) - الفراغ منها؛ دل أن الخطاب لا يوجب المراد والفهم على ظاهر المخرج؛ ولكن على مخرج الحكمة والمعنى. وأصل التعوذ هو الاعتصام باللَّه من وساوس عدوه وكيده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس له سبيل على الذين آمنوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السلطان: الحجة، أي: ليس له حجة على الذين آمنوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي ليس له ملك على الذين آمنوا - ملك القهر والغلبة - إنما ملكه على الذين يتولونه، لكن ليس له ملك القهر على الذين يتوتونه أيضا؛ إنما يتبعونه ويطيعونه

(100)

بإشارات منه طوعًا؛ فدل أن تأويل الملك لا يصح في السلطان، ويكون تأويله السبيل أو الحجة. ثم يحتمل قوله: (لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) - بالقرآن؛ لأنه ذكر على أثر ذكر القرآن، ويحتمل: الذين آمنوا بربهم، وهما واحد في الحاصل؛ (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ): حجته أو سبيله على الذين يتخذونه وليًّا، فيطيعونه في كل أمره وجميع إشاراته وما يلقي إليهم، وأصله: ليس له سلطان على الذين آمنوا بربهم. (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). في جميع أحوالهم وساعاتهم؛ أي: لا سلطان له ولا سبيل على من آمن به وتوكل عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) يحتمل قوله: (بِهِ مُشْرِكُونَ). إبليس يتبعونه ويعدلون بربهم، ويحتمل (بِهِ مُشْرِكُونَ): بربهم، والتوكل: هو الاعتماد به، وتفويض الأمر إليه في كل حال: السراء والضراء وفي وقت الضيق والسعة؛ فذلك التوكل به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) الآية تحتمل وجهين: أحدهما: ما قاله أهل التأويل على التناسخ أن يبدل آية مكان آية، وهو على تبديل حكم آية بحكم آية أخرى، لا على رفع عينها. والثاني: قوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ)، أي: بدلنا حجة بعد حجة، وآية بعد آية لرسالته. (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) كلما أتاهم حجة على أثر حجة، وآية بعد آية يقولون: إنما أنت مفتر. ينسبون إليه

(102)

الافتراء: أنه افترى، وكذلك كان عادتهم المعاندة والمكابرة؛ كقوله: (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ)، وكقوله: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)، ونحوه من الآيات. كلما أتى بهم حجة وآية بعد آية كانوا يستقبلونه بالتكذيب لها، ونسبة رسول اللَّه إلى الافتراء من نفسه؛ ويزداد لهم بذلك كفرًا، وهو ما قال: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ): أخبر أنه كان يزداد لأهل الإيمان بما ينزل عليهم من سُورَةٍ إيمانًا، ويزداد لأهل الشرك رجسًا وكفرًا إلى كفرهم مثل هذا. ولو كان يحتمل أن يكون حرف (إذا) مكان (لو) - لكان أقرب، ويكون تأويله: ولو أنزلنا حجة بعد حجة وآية على أثر آية جديدة - فما آمنوا؛ كقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)، وكقوله: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ. . .) الآية، أي: لو أن هذا القرآن - قرآن سيرت به الجبال أو كلم به الموتى - فما آمنوا به؛ لعنادهم؛ فعلى ذلك: الأول قد يحتمل قوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) بالسؤال مكان آية (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ). يحتمل قوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) به صلاحهم وغير صلاحهم، أو أن يكون: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) من تثبيت قلوب الذين آمنوا؛ كقوله: (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا)، أو أن يكون (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ): جبريل على رسوله؛ جوابَا لقولهم: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)، وكقوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)، أي: ليس بمفتر؛ ولكن نزله جبريل من ربه. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) يحتمل قوله: (بِالْحَقِّ)، أي: بالحق الذي عليهم، أو بالحق الذي لبعضهم على بعض. والحق في الأقوال: هو الصدق، وفي الأفعال: صواب ورشد، وفي الأحكام: عدل وإصابة، والحق: هو الشيء الذي يحمد عليه فاعله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى).

(103)

هذا تفسير قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)؛ لأنه أخبر أنه: ليثبت الذين آمنوا؛ نذكر من زيادة الإيمان - هو التثبيت - الَّذِي ذكر هاهنا - قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، وذكر قوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) - مقابل قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)؛ ليعلم أن الزيادة التي ذكر في سورة التوبة - هي ما ذكر هاهنا من التثبيت والطمأنينة ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ). أي: هدى من الجهالات والشبهات التي كانت تعرض لهم، أو من الضلالة، وبشرى للمسلمين. وقال: في آية أخرى: (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)؛ ليعلم أن الإيمان والإسلام واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) هم لم يقولوا إنما يعلمه بشر؛ ولكن كانوا ينصُّون واحدًا فلانا، لكن الخبر من الله على ذكر البشر؛ ألا ترى أنه أخبر أن (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). دل أن البشر - الذي أخبر عنهم أنهم يقولون: إنه يعلمه - كان منصوصًا عليه مشارًا إليه؛ حيث قال: لسان هذا أعجمى، ولسان النبي عربي؛ فكيف فهم هذا عن هذا، وهذا من هذا، ولسان هذا غير لسان هذا؟! وما قاله أهل التأويل: أنه كان يجلس إلى غلام يقال له كذا، وهو يهودي يقرأ التوراة؛ فيستمع إلي قراءته، وكان يعلمه الإسلام حتى أسلم، فعند ذلك قالت له قريش: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، ولو كان ما ذكروا أنه كان يعلمه الإسلام فأسلم؛ فلقائل أن يقول: كيف فهم ذلك الرجل منه لسان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولسانه غير لسانه؟! على ما أخبر؛ لكن يحتمل أن يكون ذلك في القرآن؛ حيث قالوا: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)، ثم يقولون: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)؛ فيقول - واللَّه أعلم -: إنه كيف علمه هذا القرآن، وهو لا يفهم من لسانه إلا يسيرًا منه؛ فأنتم لسانكم عربي لا تقدرون أن تأتوا بمثله، ولا بسورة من مثلها، ولا بآية؛ فكيف قدر على مثله من لا يفهم لسانه، ولا كان ذلك بلسانه؟! يخرج ذلك على الاحتجاج عليهم. وبعد، فإن في قولهم ظاهر التناقض؛ لأنهم قالوا: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)، ثم قالوا:

(104)

(إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، فالذي علمه غيره ليس بمفتر؛ إنما يكون الافتراء من ذات نفسه فهو ظاهر التناقض. وقوله: (عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). يحتمل: مبين ما لهم وما عليهم، أو مبين للحقوق التي لله عليهم وما لبعضهم على بعض، أو مبين: أي بين أنه من عند اللَّه نزل؛ ليس بمفترى. وهذه الآية ترد على الباطنية قولهم؛ لأنهم يقولون: إن رسول اللَّه هو الذي ألَّف هذا القرآن بلسانه، ولم ينزله اللَّه عليه بهذا اللسان؛ فلو كان على ما ذكروا ما كان لأُولَئِكَ ادعاء ما ادعوا على رسول اللَّه من الافتراء. قوله: (يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يميلون إليه، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ؛ قالوا: الإلحاد: الميل، وكذلك سمي اللحد لحدًا؛ لميله إلى ناحية القبرِ. وقال الكسائي: هو من الركون إليه، أي: يركنون. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) قال الحسن: إنه - واللَّه - من كذب بآيات اللَّه فهو ليس بمهتد عند اللَّه. وقال أبو بكر: لا يهديهم اللَّه بتكذيبهم الآيات. فهو كله خيال على كل من يشكل ويخفي أن من كذب بآيات اللَّه فهو غير مهتد من يظن هذا، وقول أبي بكر -أيضًا- من يتوهم أن من كذب بآيات اللَّه أنه يهديه - هذا فاسد، خيال كله، وأصله عندنا قوله: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ)؛ لعنادهم ومكابرتهم؛ لأنهم كانوا يعاندون بآيات اللَّه ويكابرونها، ويكذبون مع علمهم أنها آيات، وأنها حق أو قال ذلك في قوم علم أنهم لا يؤمنون، ويموتون عليه؛ فمن علم منه أنه لا يؤمن لا يهديه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ... (105) لا الذين يؤمنون بها ويصدقونها. (وَأُولَئِكَ).

(106)

الذين كذبوها. (هُمُ الْكَاذِبُونَ). * * * قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ). قوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) يحتمل وجهين - حيث ذكر من كفر باللَّه -: أحدهما: كفر باللَّه في زعم المكره؛ لأنه أكرهه به ففي زعمه كافر باللَّه؛ لطلبه ذلك منه، وهو كقوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ): في زعمهم؛ لأنهم لم يكونوا آلهة، وكقوله: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ): سماه إلهًا؛ لأنه - في زعم السامري - إله. والثاني: من كفر باللَّه شارحًا صدره بالكفر هو الكافر به حقًّا، وأما من أظهر الكفر بلسانه بالإكراه، وقلبه معتقد بالإيمان على ما كان مطمئنًّا به - فهو ليس بكافر. وأصله: أن من اعتقد مذهبا أو دينا أن يعتقده بخصال ثلاث: إحداها: يقلد آخر؛ لما رآه أبصرَ وآخذ وأعلم فيه، وهو لا يبلغ ذلك، فيقلده؛ لفضل بصره وعلمه فيه ورأيه. والثانية: يعتقد للشبهة؛ لما يتراءى عنده أنه الحق؛ فيعتقده لذلك للشبهة التي ذكرنا. والثالثة: يعتقد لما يتضح له الحق فيعتقده. فلهذه الوجوه الثلاثة يعتقد من يعتقد دينا أو مذهبا، فأما أن يعتقد الإنسان مذهبا مجانا على الجزاف فلا؛ فكان إظهار كفر هذا لإكراه من أكرهه لم يصر كافرًا. وأصله أن الإيمان والكفر إنما يكونان بالاختيار؛ فإن الإكراه يزيل اختيار من كفر؛

لذلك يبقى على الإيمان على ما كان؛ لما لم يوجد منه اختيار الكفر. فَإِنْ قِيلَ: أليس أمرنا أن نقاتل أهل الكفر؛ ليسلموا، وذلك إسلام بإكراه؟! وعلى ذلك نطق الكتاب، وهو قوله: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)، وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أمِرتُ أن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّه "، ثم إذا أسلم لخوف السيف - كان إسلامه إسلامًا في الظاهر ما يمنع كذلك أنه إذا أكره على الكفر، فأجرى كلمة الكفر على لسانه - كان كفره كفرًا في الظاهر؛ فيحكم بكفره كما حكم في الإسلام على الإكراه؛ فما الفرق فيه؟! قيل: إن ذلك كان يجيء إلا أن اللَّه - تعالى - أعفى عباده عن ذلك؛ فأبقاهم على الإيمان وحكمه، وإن أظهروا بلسانهم كلام الكفر بعد أن تكون قلوبهم مطمئنة بذلك؛ فضلًا منه ونعمة، وإلا: القياس أن يحكم بحكم الكفر إذا تكلم بكلام الكفر، وأمَّا الطلاق والعتاق والنكاح ونحوه، وهو ظاهر على ما تكلم به، عامل واقع؛ لأن الطلاق والعتاق ونحوهما مما يتعلق بالكلام نفسه لا بغيره، فهو - وإن أكره على ذلك - فهو مختار للتكلم به، قاصد له؛ لأن المكره لو أحب أن يستعمل لسانه بالتكلم بما ذكر ما قدر عليه؛ دل أنه على الاختيار يتكلم، وأما البيع والشراء ونحوه لم يتعلق بالكلام نفسه؛ إذ قد يكون

بالأخذ والتسليم دون التكلم به؛ لذلك عمل الإكراه في إبطاله كما أبقاهم على الإيمان وحكمه، وإن أظهر بلسانه كلام الكفر بعد أن يكون قلبه مطمئنا بذلك، وعلى ذلك ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " رُفِعَ عَنْ أُمتِي الْخَطَأُ وَالنسيَانُ وَمَا اسْتكْرِهُوا عَلَيه "؛ وذلك في الكفر ليس في غيره؛ لأن الإكراه على الكفر كان ظاهرًا يومئذ، ولم

يكن في غيره من طلاق وغيره. وأمَّا قتالنا إياهم؛ ليسلموا - فهو يحتمل وجوهًا: أحدها: على المجازاة؛ كقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فنقاتلهم ليظهروا الإسلام، وإن لم يعرف حقيقة على المجازاة. والثاني: قبلنا منهم الإسلام على الإكراه لنقرهم فيما بين المسلمين؛ فيرون الإسلام ويتعلمون منهم حقيقة؛ ألا ترى أنه قال: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ)؛ سمّاهنّ مؤمنات، ثم أمرنا بامتحانهن، بقوله: (فَامْتَحِنُوهُنَّ)؛ فإنما يمتحنَّ؛ ليظهر حقيقة إيمانهن، وإلا لم يكن للامتحان معنى لولا ذلك. وأصله: أن اللَّه جعل حقيقة الإيمان والكفر بالقلب دون اللسان وغيره من الجوارح؛ لأن غيره من الجوارح يجوز استعمالها بالإكراه، وأمَّا القلب فإنه لا يملك أحد سواه

(107)

استعماله، وذلك بفضله ومنه. (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا). ومن شرح صدره بالكفر فهو كافر به إن كان ليس على الإكراه؛ لما ذكرنا أنه باختياره الكفر ينشرح له الصدر لما لا يعمل الإكراه على القلب. (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). ظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أي: ذلك الغضب والعذاب بأنهم. (اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ). يحتمل وجهين: أحدهما: استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة؛ جحودا وإنكارا، وإلا نفس الاستحباب قد يكون من المؤمن؛ فلا يزيل عنه اسم الإيمان؛ كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إلى قوله - تعالى - (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ)؛ فلم يزل عنهم اسم الإيمان باختيارهم واستحبابهم الحياة الدنيا؛ فدل أن الأول عن الجحود له والإنكار، وهذا على الميل إليه دون الجحود؛ أو أن يكون كذلك لما لم يروا الآخرة كائنة لا محالة ولكن ظنا ظنوا لعلها كائنة؛ كقولهم: (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)، وأمَّا أهل الإسلام فإنهم لم يكونوا فيها ظانين متشككين؛ ولكن متحققين مستيقنين؛ فاستحقوا بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ). وقت اختيارهم الكفر؛ لأن اللَّه لا يهدي القوم المختارين الكفر على الإيمان؛ وقال ذلك لقوم علم اللَّه أنهم يختارون الكفر، وأنهم يموتون على الكفر؛ فلا يهديهم.

(108)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) الطبع: هو التغطية: تغطي ظلمة الكفر نور القلب والسمع ونور البصر، كأن لكل أحد نورين وبصرين، ظاهر وباطن يبصر بهما جميعًا؛ فإذا ذهب أحدهما أو عمي - صار لا يبصر؛ كمن يبصر ببصر الظاهر، إنما يبصر بنور بصره ونور الهواء؛ فإذا دخل في أحدهما آفة ذهب الانتفاع، وصار لا يبصر شيئًا؛ فعلى ذلك للقلب بصر خفي، وبصر ظاهر الذي هو معروف؛ فإنما يبصر بهما؛ فإذا غطى ظلمة الكفر بصر القلب صار لا يبصر شيئًا؛ ألا ترى أنه قال: (لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)، أخبر أن الأبصار الظاهرة لم تعْمَ؛ ولكن عميت القلوب التي في الصدور، هذا يدل على - ما ذكرنا واللَّه أعلم - معنى طبع السمع والبصر. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).

(109)

يحتمل: غافلون عن النظر في آياته وحججه، ويحتمل: غافلون عما يحل بهم؛ بكفرهم وتكذيبهم آيات اللَّه وحججه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا جَرَمَ ... (109) قد ذكرنا ما قيل فيه: لا بد، وحقّا، وقيل: هو حرف وعيد. (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ). قال الحسن: إنهم - واللَّه - خسروا الجنة ورحمة اللَّه، خسروا أهلهم ومنزلهم الذي كان لهم في الجنة، وخسروا منهم أنفسهم حين قذفوها في النار. وقال أبو بكر الأصم: خسروا النعم الدائمة الباقية بالزائلة الفانية، وخسروا أنفسهم؛ حيث قتلوا، وأسروا في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) قيل: عذبوا على الإيمان بمكة، ثم جاهدوا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه عدوَّهم، وصبروا على ذلك. (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). قيل: من بعد الفتنة لغفور لما كان منهم، (رحيم) ذكر مرتين: أحدهما: قوله: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا)، ثم قال: (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، قيل: من بعد الفتنة، فيجيء أن يكتفى بواحد يقول: لغفور رحيم موصولًا بقوله: للذين فعلوا ما ذكر، لكنه ذكر مرتين - واللَّه أعلم: إنه لغفور لهم يعني: لهَؤُلَاءِ الذين فتنوا وعذبوا، ولغيرهم. ذكر أهل التأويل أن أناسًا من المؤمنين خرجوا إلى المدينة فأدركهم المشركون؛ ليردوهم؛ فقاتلوهم؛ فمنهم من قتل، ومنهم من نجا؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا. . .) الآية. ومنهم من يقول -أيضًا-: فيهم نزل قوله: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا. . .) الآية. وأكثرهم قالوا: إن قوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ

(111)

مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ): إنما نزل في عمار بن ياسر، وليس لنا إلى ذلك حاجة؛ إنما الحاجة فيما ذكرنا من الحكم فيه والحكمة، واللَّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) قال الحسن: (تُجَادِلُ)، أي: تخبر، (عَنْ نَفْسِهَا): عما عملت من خير أو شر. وقال أبو بكر الأصم: إن كل نفس رهينة بما كسبت من شر حتى يكون طائرًا في عنقه. ولكن ليس لنا فيما ذكر هَؤُلَاءِ مجادلة، المجادلة: المخاصمة؛ كأنها تخاصم عن نفسها من ارتكاب أشياء، ودعوى أشياء على ما ذكر في غير آية؛ من قوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن جهنم تزفر زفرة حتى لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا وقد جثا بركبتيه؛ خوفا منها؛ فعند ذلك تجادل وتخاصم كل نفس عن نفسها، ويشبه أن يكون مجادلتهم على غير هذا، وهو ما ذكر: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ)؛ فتلك مجادلتهم أنفسهم، وكقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ)، وكذلك ما ذكر في المنافقين: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ. . .) الآية. وذلك كله مجادلتهم أنفسهم، أو أن يقال: (تُجَادِلُ) لكن لا يفسر: ما تلك المجادلة؛ لأن اللَّه - تعالى - ذكر المجادلة، ولم يذكر ما تلك المجادلة؟ وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). أي: لا ينقصون من حسناتهم ولا يزدادون على سيئاتهم. وهذه الآية ترد على المعتزلة؛ لأنهم يقولون بالتخليد لصاحب الكبيرة، وقد أخبر أنه: توفى كل نفس ما عملت من سوء، ولا توفى ما عملت من الخيرات والطاعات. * * * قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ

(112)

عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) وقوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ... (112) اختلف في ضرب المثل بهذه الآية، وفي نزولها: قَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب المثل لأهل مكة، وفيها نزلت - بقريات نزل بهم العذاب؛ بتكذيبهم رسلهم في بني إسرائيل، يحذر أهل مكة بتكذيبهم رسول اللَّه نزول العذاب بهم كما نزل باوائلهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب المثل لأهل المدينة، وفيهم نزل بأهل مكة؛ يحذر أهل المدينة؛ لئلا يكذبوا محمدًا كما كذب أهل مكة؛ فيحل بهم كما حل بأهل مكة من الناس الجوع والخوف؛ بالتكذيب. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ). قيل: هي مكة؛ أهلها كانوا آمنين فيها من خير أو شر، مطمئنين يأتيهم رزقهم من كل مكان. ويحتمل قرية أخرى غيرها؛ كانوا على ما ذكر. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ)

(113)

أي: كفرت بالشكر لأنعم اللَّه، أي: لم يشكروها، ليس أنهم لم يروها من اللَّه - تعالى - وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ). اللباس: هو ما يستر وجوه الجواهر، ألا ترى أنه سمى الليل لباسًا؛ لما ستر وجوه الأشياء؛ فعلى ذلك الجوع يرفع الستر واللباس الَّذِي كان قبل الجوع؛ لأن الجوع إذا اشتد غير وجه صاحبه، ورفع ستره، والجوع: ما ذكر أنه أصابهم جوع حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة. والخوف: ما ذكر أنه بعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إليهم؛ ألا ترى أنه قال: " نُصِرتُ بالرعْب مَسِيرةَ شَهْرَينِ "، وقيل: الخوف: القتل. وقوله: (رَغَدًا). قال الكسائي: رغد الرجل إذا أصاب مالا أو عيشا من غير عناء وكدّ. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: رغدًا، أي كثيرًا واسعًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) قوله: (رَسُولٌ مِنْهُمْ)، أي: من أنفسهم، من نسبهم وحسبهم، يعرفونه، كقوله: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ). (مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ). بالتكذيب؛ حيث وضعوا الشيء في غير موضعه، أو ظالمون على أنفسهم. أخبر أنه بعث الرسول من جنسهم ومن حسبهم؛ لأنه إذا كان من غير جوهرهم لم يظهر لهم الآية من غير الآية، ولا الحجة من الشبهة؛ لأنه إذا خرج على غير المعتاد والطوق عرفوا أنه آية، وأنه حجة؛ إذ لا يعرفون من غير جوهرهم الخارج عن المعتاد والطوق، ويعرف ذلك من جوهرهم، وكذلك يعرف صدق من نشأ بين أظهرهم من كذبه، ولا يعرف إذا كان من غيرهم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) قَالَ بَعْضُهُمْ: الحلال والطيب: واحد، وهو الحلال، كأنه قال: كلوا ما أحل لكم؛ كقوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ)، أي: ما حل لكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حَلَالًا طَيِّبًا)، أي: حلالًا يطيب لكم ما تتلذذون به؛ لأن من الحلال ما لا تتلذذ به النفس ولا

(115)

تستطيب؛ بل تكره، وقوله: تستطيب له أنفسكم وتتلذذ به، لا ما تستخبث به؛ لأن اللَّه جعل غذاء البشر ما هو أطيب وألذ، وجعل للبهائم والأنعام ما هو أخبث وأخشن؛ لأن ما هو أطيب أدعى للشكر له. ويحتمل أن يكون قوله: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا): لا تبعةَ عليكم. وفي الآية دلالة أنه قد يرزق ما يخبث ولا يحل على ما يختارُهُ؛ حيث شرط فيه الحلال. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). الشكر له عليهم لازم، وإن لم تعبدوا؛ وهو كقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): طاعته وطاعة رسوله واجبة، وإن لم يكونوا مؤمنين، أو يقول: وجِّهوا شكر نعمه إليه إن كنتم عابدين له بجهة، أي: افعلوا العبادة له والشكر في الأحوال كلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) أي: حرم أكل الميتة وما ذكر؛ كأنه قال هذا، وذكر على أثر تحريمهم أشياء أحل لهم - لحومًا حرموا على أنفسهم - أشياء أحل لهم: من الزرع والأنعام، والبحيرة والسائبة، وما ذكر؛ فقال: لم يحرم ذاك؛ ولكن إنما حرم ما ذكر من الميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه، على هذا يجوز أن يخرج تأويله، وأمَّا على الابتداء فإنه يبعد، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (فَمَنِ اضْطُرَّ). إلى ما ذكر من المحرمات. (غَيْرَ بَاغٍ). على ما نهى عنه، وهو الشبع؛ كقوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ). (وَلَا عَادٍ). إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (غَيْرَ بَاغٍ): يستحله في دينه؛ فلا عاد ولا متعدٍّ في أكله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (غَيْرَ بَاغٍ) على المسلمين مفارق بجماعتهم مُشَاق لهم، ولا عاد: عليهم؛ يستفهم، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم وأقاويلهم. وأمَّا تأويله عندنا: (غَيْرَ بَاغٍ): على المسلمين سوى دفع الإهلاك عن نفسه، (وَلَا

(116)

عَادٍ): متعد ومتجاوز اضطراره، ولا يحتمل ما قاله بعض الناس: غير باغ على الناس ولا متعد عليهم؛ لوجهين: أحدهما: أنه لا يحتمل البغي على الناس في حال الاضطرار؛ لأنه لا يقدر عليه والحال ما ذكر. والثاني: أنه - وإن كان باغيًا على ما ذكروا - لم يبح له التناول من الميتة؛ يكون باغيًا على نفسه؛ لأنه إن لم يتناول هلكت نفسه؛ فيصير باغيًا على نفسه فدل أنه على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) يحتمل: أي: لا تعودوا إلى ما وصفت ألسنتكم من الكذب هذا حلال وهذا حرام، وألا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم: هذا حلال وهذا حرام. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا تقولوا لما أحللتموه: هذا حلال، ولما حرمتموه: هذا حرام، وهو كقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ. . .) الآية. وفي هذه الآية دلالة ألا يسع لأحد أن يقول: هذا مما أحله اللَّه وهذا مما حرمه اللَّه؛ إلا بإذن من اللَّه، ومن يقول بأن الأشياء في الأصل على الإباحة أو على الحظر؛ فهو مفتر بذلك على اللَّه الكذب؛ لأن اللَّه لم يأذن له أن يقول ذلك؛ بل نهاه عن ذلك مما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ). أي: تكونوا مفترين على اللَّه الكذب إذا قلتم ذا. فَإِنْ قِيلَ: كيف سماهم مفترين على اللَّه بتسميتهم الحرام حلالًا، والحلال - حرامًا؟ قيل: لأن التحليل والتحريم، والأمر والنهي - ربوبية، فإذا حرموا شيئًا أحله اللَّه، أو أحلوا شيئا حرمه اللَّه - فكأنهم على اللَّه افتروا أنه حرم أو أحل، أو حرموا هم وأحلوا فأضافوا ذلك إلى اللَّه - تعالى - أنه هو الذي حرم أو أحل فقد افتروا على اللَّه؛ لأن من أحل شيئا حرمه اللَّه، أو حرم شيئًا أحفه اللَّه - فقد كفر وليس من انتفع بالمحرم، أو ترك الانتفاع بالمحلل - كفر؛ إنما يصير آثمًا مجرمًا، وكذلك تارك الأمر ومرتكب النهي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ).

(117)

في تحليل ما حرم عليهم، وفي تحريم ما أحله، وقولهم: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا). وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (لَا يُفْلِحُونَ). أي: لا يفلحون وهم مفترون على اللَّه، وأمَّا إذا انتزعوا من الافتراء وتابوا أفلحوا، ولا يفلحون في الآخرة؛ إذا كانوا مفترين على اللَّه في الدنيا. ثم قوله: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ... (117) على الابتداء؛ وإنما سمي قليلًا - واللَّه أعلم - لوجوه: أحدها: أن متاع الدنيا على الزوال والانقطاع؛ فكل ما كان على شرف الزوال والانقطاع فهو قليل، كما قيل لكلِّ آتٍ: قريب؛ لما يأتي لا محالة؛ فعلى ذلك كل زائِل منقطع - قليل. والثاني: سمي قليلًا؛ لما هو مشوب بالآفات والأحزان وأنواع البلايا والشدائِد؛ فهو قليل في الحقيقة، أو أنه سماه قليلًا؛ لما أن متاع الدنيا قليل عما وعَدَ في الآخرة؛ فمتاعها من متاع الآخرة قليل؛ لما ليس فيها الوجوه التي ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) وهو ما قمق في سورة الأنعام، وهو قوله: (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا) إلى قوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ)، وقوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا. . .) الآية. طوقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ). بتحريم ما حرمنا عليهم؛ لأنا إنما حرمنا عليهم تلك الطيبات عقوبة لهم، وهو ما قال في سورة النساء، وهو قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا)، وهو ما قال: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ)، أخبر أنه إنما حرم عليهم ذلك؛ بظلم كان منهم عقوبة وجزاء لبغيهم، لكن هم ظلموا أنفسهم في ذلك. أو أن يكون قوله: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ)؛ لأنهم عبيده وإماؤه؛ ولله أن يمتحن عباده وإماءه بتحريم مرة، وبتحليل ثانيًا، ولكن ظلموا أنفسهم؛ حيث وجهوها إلى غير مالكها، أو صرفوا شكر ما أنعم عليهم إلى غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) أي: عمل السوء بجهالة، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن الفعل فعل جاهل وسفيه وإن لم يجهل؛ يقال لمن عمل السوء: يا جاهل يا سفيه.

(120)

والثاني: جهل ما يحل به بعمله السوء. ثم قوله (إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ. . .) إلى آخره، يمكن أن يكون في الآية إضمار لم يذكر؛ لأنه قال: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) ثم كرر ذلك الحرف على الابتداء من غير أن ذُكر له جواب، وهو قوله (إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) (مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). فظاهر الجواب أن يقول: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)؛ على ما ذكرنا في قوله: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا. . .) الآية؛ لكن يخرج على الإضمار، أو على التكرار: على إرادة التأكيد، أو على الابتداء والاكتفاء بجواب ذكره في موضع آخر. ثم قال: [(ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)]: هذا - والله أعلم - جوابه، أي: إن ربك من بعد التوبة لغفور رحيم، فهمُوا قبل أن يعمل السوء، والعرب قد تكرر أشياء على إرادة التأكيد، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا). قال عبد اللَّه بن مسعود: الأمة: الذي يعلم الناس الخير، والقانت؛ المطيع لله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمة قانتًا، أي: مؤمنًا وحده والناس كلهم كفار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان أمة، أي: إمامًا يقتدى به في كل خير؛ كقوله: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا).

وقال الحسن: كان أمة، أي سنة يقتدى به. ويحتمل أن يكون سماه: أمة، لما كان كالأمة والجماعة من القيام مع الأعداء؛ لأنه، وإن كان منفردًا وحده، فكان قيامه مع الأعداء والأكابر منهم كالجماعة والأمة، والممتنع عنهم كالمتفرد. وأصل الأمة؛ قيل: الجماعة والعدد. ويحتمل قوله: (كَانَ أُمَّةً)، أي: مجمع كل خير وكل طاعة؛ لما عمل هو من الخير عمل الجماعة، واجتمع فيه كل خير؛ فسمي أمة لهذا الذي ذكرنا، أو أن يكون تفسير الأمة ما ذكر على أثره: (قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا)، والقانت، قيل: المطيع، والقنوت هو القيام - كما ذكر - أنه سئل عن أفضل الصلاة؟ فقال: " طولُ القُنُوتِ "؛ أي:

(121)

طول القيام؛ فعلى هذا: المعنى: هو القائم لله في كل ما يعبده وأمر به. وقيل: (أُمَّةً)، أي: دينًا؛ لقوله: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، أي: دينكم دينا واحدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَنِيفًا). قيل: الحاج، وقيل: الحنيف: المسلم، وقيل: المخلص، وفيه كل ذلك: كان حاجا مسلمًا مخلصًا لله، وأصل الحنف: الميل، أي: كان مائلا إلى أمر اللَّه وما يعبده به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). لا شك أنه لم يكن من المشركين، لكنه ذكر هذين الوجهين. أحدهما: لما ادعى كل أهل الأديان أنهم على دينه وانتسب كل فرقة إليه فبرأه اللَّه من ذلك، وأخبر أنه ليس على ما هم عليه من الدِّين؛ وهو ما قال: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا. . .) الآية. والثاني: ذكر هذا: أنه لم يكن من المشركين بقوله: (هَذَا رَبِّي)؛ لأنه هو كان ذلك عنه على ظاهر ما نطق: كان ذلك في الظاهر إشراكًا، ففيه مشبه في ظاهره؛ فبرأه اللَّه عن ذلك وأخبر أن ذلك منه لم يكن إشراكًا، ولكن على المحاجة خرج ذلك منه محاجة قومه؛ لقوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) أي: لم يصرف شكر نعمه إلى غير المنعم، بل صرف شكرها إلى منعمها، والشكر في الشاهد هو المكافأة، ولا يبلغ أحد من الخلائق في المرتبة التي يكافئ اللَّه في أصغر نعمة أنعمها عليه، ولا يتفرغ أحد عن أداء ما عليه من إحسان اللَّه عليه فضلًا أن يتفرغ لمكافأته؛ لكن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضله ومنه سمي ذلك شكرًا، وإن لم يكن في الحقيقة شكرًا؛ كما ذكر الصدقة التي تصدق بها العبد إقراضا كما سمى تسليمه لنفسه وبذله الأمر لله - شراء، وإن كانت أنفسهُم وأموالهم في الحقيقة - له، ولا يطلب المرء في العرف القرض من عبده، وكذلك شراء؛ لكنه بلطفه وفضله عامل عباده معاملة من لا ملك له في أنفسهم وأموالهم؛ فعلى ذلك في تسمية الشكر؛ واللَّه أعلم.

(122)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اجْتَبَاهُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: لرسالته ونبوته، واجتباه من بين ذلك القوم وجعله إمامًا يقتدى به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). وهو دين الإسلام، وهو ما ذكر: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) قَالَ بَعْضُهُمْ: الثناء الحسن، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحسنة في الدنيا؛ لأن جميع أهل الأديان يتوئونه ويرضونه. ويحتمل أن يكون قوله: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)، أي: ما آتاه اللَّه - لم يؤته إلا حسنة؛ على ما ذكر في قوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) - أي: ما آتيتناه في الدنيا، آتنا كلها حسنة؛ لأن قوله: (حسَنَة) إنما هي اسم حسنة واحدة أو أن يكون (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) عند قبض روحه، أي: على الحسنة قبض روحه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). أي: لم ينقص ما آتاه في الدنيا عما يؤتيه في الآخرة، وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً): النبوة والرسالة، أو أن يقال: إنه لم يبين الحسنة التي أخبر أنه آتاها إياه؛ لكنه خص به كما هو خص في قوله: اللهم صل على مُحَمَّد كما صليت على إبراهيم. قد كان من إبراهيم معنى؛ حتى خص اللَّه إبراهيم به من بين غيره؛ فذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) أي: دين إبراهيم وسبيله، وذكر في بعض الأخبار عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال جبريل - عليه السلام - إلى إبراهيم - صلوات اللَّه على نبينا وعليه - يوم التروية، فراح به إلى منى فعلمه المناسك كلها، وأراه أباه، فأوحى اللَّه إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؛ فنحن أمرنا أن نتبع ملته في الحج وفي غيره.

(124)

وأصل الملة: الذين، واللَّه أعلم؛ كقوله: " لا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَينِ "، أي: أهل دينين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) قَالَ بَعْضُهُمْ: اختلافهم؛ وذلك أن موسى - عليه السلام - أمر بني إسرائيل أن يتفرغوا في كل سبعة أيام يومًا للعبادة، وهو يوم الجمعة، وينزعوا فيه عمل دنياهم؛ فقالوا: نتفرغ يوم السبت؛ فإن اللَّه لم يخلق يوم السبت شيئًا؛ فقال فريق منهم: انظروا إلى ما يأمركم نبيكم؛ فخذوا به، فذلك اختلافهم؛ فجعل لهم يوم السبت على ما سألوا، فاستحلوا فيه المعاصي؛ فحرم اللَّه عليهم العمل فيه؛ عقوبة لهم. وقال الحسن وقتادة: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ)، أي: إنما لعن في السبت؛ فمسخوا قردة (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ)، وكان اختلافهم أنه حرمه بعضهم، واستحله بعضٌ. وقال أبو بكر: اختلافهم كان في تكذيب الرسل والأنبياء فمنهم من صدق، ومنهم من كذب؛ فحرم عليهم يوم السبت؛ عقوبة لهم؛ أو أن يكون اختلافهم ما سألوا موسى من الآيات العجيبة والأسئلة [الوَخْشة]؛ كقولهم: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)

(125)

وكقوله: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)، ونحوه بعدما أقام عليهم من الآيات ما كانت لهم فيها كفاية فيشبه أن يكون اختلافهم الذي ذكر ذلك. وقوله: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ): يخرج على وجهين: أحدهما: (إنما جعل محنة السبت على الذين اختلفوا فيه)، أي: على الذين فسقوا فيه؛ حيث قال: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). والثاني: إنما جعل عقوبة السبت على الذين اعتدوا فيه دون الذين اختلفوا فيه؛ لأن فريقًا منهم قد نهوهم عن ذلك، وفريقًا قد اعتدوا؛ فاهلك الذين اعتدوا دون الذين نهوهم. وقوله: (اخْتَلَفُوا فِيهِ): يحتمل فيه، أي: في موسى، أو في يوم السبت الذي اختلفوا فيه وعوقبوا فيه، واللَّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). يحكم بينهم بالجزاء، ويحكم بما بين لهم المحق من المبطل: لكن لو قيل: قد بين في الدنيا: بين المحق من المبطل؛ حيث أهلك فريقًا؛ وأنجى فريقًا؛ فكيف قال: يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون؟ لكن يشبه أن يكون ذلك بالجزاء على ما ذكرنا. * * * قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) وقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ). قيل: دين ربك. (بِالْحِكْمَةِ). قال الحسن: الحكمة: القرآن، أي: ادعهم إلى دين اللَّه بالقرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بالحكمة: بالحجة والبرهان، أي: ادعهم إلى دين اللَّه بالحجج والبراهين؛ أي: ألزمهم دين اللَّه بالحجج والبراهين؛ حتى يقروا به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ). قال الحسن: أي عظهم بالمواعظ التي وعظهم اللَّه - تعالى - في الكتاب.

وقال أبو بكر: أي ذكرهم النعم التي أنعم عليهم، (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، أي: جادلهم أحسن المجادلة بلين القول، وخفض الجانب والجناح؛ لعلهم يقبلون دينهم، ويخضعون لربهم. وكذلك اختلفوا في قوله: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، وقوله: (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ): قال الحسن: الكتاب والحكمة: واحد؛ اسم شيء، وهو القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكتاب هو القرآن، وهو سماع الوحي، والحكمة: وحي الإلهام، وهو السنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكتاب: هو التنزيل، والحكمة: هي المعنى المودع فيه؛ فمن يقول: إن الكتاب والحكمة واحد، وهي القرآن يقول في قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ): القرآن، ومن يقول عنه: إنهما غيرٌ - يقول - هاهنا -: إن الحكمة: الحجة والبرهان، إما من جهة الإلهام أو من جهة الانتزاع من الكتاب. ويحتمل أن يكون قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ): التي ذكر في هذه السورة؛ من ذلك قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ): يعني: من بطون النحل، وقوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) وما ذكر أنه يخرج من الخشب اليابسة - الأعناب وأنواع الثمرات ونحوه؛ فذلك كله بحكمته، أي: ادعهم إلى دينه وذكرهم بهذا، وهم يقرون به؛ ليقبلوا دينه ويخضعوا لأمره. والموعظة الحسنة: ما ذكر في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. . .) الآية. وذلك كله مستحسن في العقل وتوجبه الحكمة؛ لأن العدل والإحسان، وما ذكر من إيتاء ذي القربى - الصدقة - مستحسن في عقل كل أحد. والانتهاء -أيضًا- عن الفحشاء والمنكر مستحسن، مستقبح ارتكابه وإتيانه؛ كأن الحكمة هي التي تشتمل على العلم والعمل جميعًا؛ كأنه قال: ادعهم إلى دين اللَّه بالعلم والعمل جميعًا؛ حتى ينجع ذلك فيهم؛ أو: ادعهم باللين وخفض الجناح مرة، وبالعنف والخشونة ثانيًا؛ فيكون وضع الشيء موضعه، ثم قال: (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). يحتمل - واللَّه أعلم - أي: جادلهم بالذي يقرون على ما ينكرون، وهو ما ذكر: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ. . .) الآية، وقوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا)

(126)

وقوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا. . .) الآية، وقوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. . .) الآية، وقوله: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ. . .) الآية، ونحو هذا. يجادلهم بأحسن المجادلة بالذي يقرون أنه كذلك على الذي ينكرون؛ فيلزمهم القبول والخضوع له. ثم في الآية دلالة تعليم المناظرة في الدِّين وكيفية المعاملة - بعضهم لبعض - فيها؛ حيث قال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ): التي عنده بالقرآن أو غيره من الحجج والبينات، (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ): هكذا يجب أن يناظر بعضهم بعضًا بالوجه الذي وصف اللَّه، وعلى ذلك ما ذكر اللَّه في كتابه: مناظرة الأنبياء والرسل مع الفراعنة والأكابر، وهو ما قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ. . .) إلى آخر ما ذكر، وقوْله: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ. . .) الآية ومناظرة فرعون مع موسى - صلوات اللَّه عليه - حيث قال: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية، ولما قال: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)، وقوله: (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ)، وما قال: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)، وأمثاله مما يكثر، فهذه مناظرة الرسل والأنبياء مع الفراعنة والأعداء؛ فكيف المناظرة بين الأولياء؟! فهذا كله يرد على من يأبى المناظرة في الدِّين ويمتنع عن التكلم فيه والاحتجاج. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ). في الآية نسبتهم إلى الضلال إشارة وكناية لا تصريحًا؛ لأنه لم يقل لهم مصرحًا: إنكم قد ضللتم عن سبيله؛ لحسن معاملته التي علم رسوله وأمره أن يعاملهم؛ لأن ذلك أقرب إلى القبول وأَمْيل إلى القلوب وآخذ؛ ألا ترى أنه قال لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) اختلف في سبب نزول ذلك:

قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن نفرًا منهم قد مثلوا يوم أحد مثلة سيئة: من قطع الآذان، وتجديع الأنوف، وبقر البطون، ونحوه؛ فقال أصحابهم: لئن أدالنا اللَّه منهم لنفعلن ولنفعلن كذا وكذا. فأرادوا أن يجازوا بذلك؛ فأنزل اللَّه: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ. . .) الآية. وفيه البشارة لهم بالنصر والظفر على أعدائهم؛ لأنه لو لم يكنْ لهم الظفر فكيف يقدرون على معاقبة مثل ما عاقبوا؛ دل أنه على البشارة لهم بالنصر والظفر بهم. وفيه دلالة جواز أخذ من لم يتول القتل والأخذ والضرب؛ لما لعلهم لا يظفرون بأُولَئِكَ الذين تولوا ذلك، لكن لا يؤاخذ إخوانهم بهم؛ لما بمعونة بعضهم بعضا فيها، ويكون فيه دليل أخذ قطاع الطريق بالقتل والقطع، وإن كان الذي تولى ذلك بعضٌ منهم؛ لما أن من تولى ذلك إتما تولى بمعونة من لم يتول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما نزلت الآية في ابتداء الأمر الذي كان القتل مع الكفرة قتل مجازاة؛ مثل قوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً)، وكقوله: (فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ)، ومثله؛ فإذا كان على المجازاة أمر ألا يتجاوزوا عقوبتهم، ولكن بمثله، وأمَّا إذا كان القتال معهم لا قتال مجازاة فإنهم يقتلون جميعًا إذا أبوا الإسلام؛ بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ. . .) الآية، وقوله - عليه السلام -: " أُمِرتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلا اللَّه "، وقوله - تعالى - (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن قد نزلت في أهل الإسلام، وحكمه في القصاص والقطع فيما دون النفس والجراحات: أمر ألا يتجاوزوا حقوقهم؛ كقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)، وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. . .) الآية، وقوله:

(127)

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى. . .) الآية. وقوله - عزّ وجلَّ -: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ). على ذلك. (لَهُوَ خَيْرٌ) أي: الصبر خير (لِلصَّابِرِينَ). ودل قوله: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) على أن الآية في القصاص لا في الحرب؛ لأنه في الحرب لا يقال اصبر ولا تصبر، بل يكون الصبر جهادًا؛ دل أنه في غير المحاربة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) أي: ما توفيقك على الصبر إلا باللَّه؛ كقول شعيب: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ. . .) الآية

(128)

والثاني: واصبر وما صبرك إلا باللَّه، أي: تركك القصاص لأمر اللَّه؛ حيث أمرك به، لا لضعف أو عجز فيك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ). قال: إنه كان يحزن ويضيق صدره؛ لمكان كفرهم باللَّه، وتركهم الإيمان باللَّه؛ كقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)؛ فقال: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ): لذلك على التسلي والتخفيف لا على النهي عن ذلك. ويحتمل: أن يكون قوله: (وَلَا تَحْزَنْ): على المؤمنين الذين قتلوا واستشهدوا؛ لأنهم مستبشرون فرحون عند ربهم بما آتاهم اللَّه من فضله؛ كقوله: (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، أي: لا تحزن عليهم، وهم فيما ذكر. أو لا تحزن على المؤمنين، ولا يضيقن صدرك مما يمكر بك أُولَئِكَ الكفرة؛ إذ كانوا يكفرون برسول اللَّه وبأصحابه ويؤذونهم، أخبر أن لا يضيقن صدرك لذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في أمر حمزة سيد الشهداء: أنه مُثِّل به وجرح جراحات عظيمة؛ فاشتد على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " لَئِنْ ظَفِرنَا بِأُولَئِك لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وَلَنَفْعَلَنَّ كَذَا "؛ فنزلت الآية: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ. . .)، لكن إن ثبت هذا فإنه يكون في الوقت الذي كان يؤخذ غيره - القاتل والجارح - بالقتل، وذلك قد كان في الابتداء؛ ألا ترى أنه قال: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ. . .): كانوا هموا أن يأخذوا الحرَّ بالعبد والذكرَ بالأنثى، حتى نزل هذا فصار منسوخًا به، وبقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ). ولو كان يؤخذ غير القاتل بالقصاص - لم يكن فيه حياة، أو إن قالوا في الحرب مع الكفرة فذلك لا يحتمل؛ لأنه في الحرب لهم أن يقتلوا الكل، وألا يتركوا واحدًا منهم؛ دل أنه يخرج على أحد وجهين: على النسخ الذي ذكرنا. أو على النهي عن أخذ أكثر من حقه، وكقوله: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ... (128)

يحتمل: اتقوا، مخالفة اللَّه ورسوله بالنصر لهم والعون؛ فإن اللَّه ناصركم ومعينكم عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ). في العمل والتوحيد، أو يقول: إن اللَّه مع الذين اتقوا محارم اللَّه وارتكاب مناهيه بالنصر لهم والمعونة. (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) إلى نعم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالقيام بالشكر لها. وباللَّه التوفيق، وصلى اللَّه - تعالى - على سيدنا مُحَمَّد وآله أجمعين. * * *

سورة بني إسرائيل

سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا). (سُبْحَانَ): كلمة إجلال اللَّه عن الأكفاء، وتنزيهه عن الشركاء، وتبريئه عما قالت المعطّلة فيه وظنت الملاحدة به: من الولد، والحاجات، والآفات، وجميع معاني الخلق. وروي في بعض الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن تفسير: (سُبْحَانَ اللَّهِ)؛ قال: هو تنزيه اللَّه عن كل سوء. ومعنى قوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا) هو - واللَّه أعلم - كأنه ذكر أن من قدر على أن يسري بعبده ليلًا مسيرة شهر يقدر على إحياء الموتى بعد الموت، ويملك: حفظ رسوله والنصر له وإظهار آيات نبوته ورسالته، وقطع جميع حيل المكذبين له والمخالفين. وقوله: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا). سماه أقصى، وهو الأبعد، من قصا يقصو قصوّا؛ فهو قاصي، كأنه لم يكن يومئذ إلا المسجد الحرام - ومسجده بالمدينة ومسجد بيت المقدس؛ فسماه لذلك - واللَّه أعلم - المسجد الأقصى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) سميّ: مباركًا؛ لكثرة أنزاله وخيراته وسعته. وقيل: سميّ: مباركًا؛ لأنه مكان الأنبياء ومقامهم؛ فبورك فيه ببركتهم منافع، والله أعلم.

(2)

وقوله - عزَّ وجلَّ -: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا). أي: لنريه من آياتنا الحسية بعد ما أراه الآيات العقليَّة؛ لأن الآيات الحسية أكبر في قطع الشبه ودفع الوساوس من العقلية؛ إذ لا يشك أحد فيما كان سبيل معرفته الحسق والعيان. وقد يعترض ربما الشبه والوساوس في العقليات؛ لأنه لا يشك أحد في نفسه أنه هو؛ فأَحبَّ - عَزَّ وَجَلَّ - أن يري رسوله آيات حسية تضطر المنصفين على قبولها، والإيمان بها، والإقرار له أنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لما يعلمون أن ما كان يخبرهم من أخبار - حيث قال: إنه رأى عِيرَ فلان، وأمورًا - يعلمون أنه لا يقول إلا عن مشاهدة وعيان؛ لأنه كان ما أتى من الآيات العقليات قالوا: إنه سحر، وما ذكر من الأشياء التي كانت في كتبهم المتقدمة - قالوا: (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، و (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ). ليس ذلك عمل سحر ولا إفكًا ولا افتراء ولا أساطير الأولين؛ على ما نسبوه إلى السحر مرة وإلى الإفك والافتراء ثانيًا، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). أي: من قدر على ما ذكر لا يحتمل أن يخفى عليه شيء من قول أو عمل، ثم ما روي من الأخبار أنه عُرِج به إلى السماء حتى رأى إخوانه الأنبياء الماضين قبله، وما ذكر فيها - فنحن نقول ما قال الصديق - رضوان اللَّه عليه -: " إن كان قال ذلك فأنا أشهد على ذلك "، وإلا نَقُلْ على مقدار، ما في الآية: إنه أسرى به إلى بيت المقدس المسجد الأقصى، ولا نزيد عليه؛ لأته من أخبار الآحاد فلا تسع الشهادة له. * * * قوله تعالى: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ). يعني: التوراة.

(3)

(وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ). كل كتب اللَّه: هدى لمن استهدى، ورشد لمن استرشد، وبيان لمن استوضح؛ لأنها دعت إلى ثلاث خصال: دعت إلى معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، وصالح الأعمال. ونهت عن ثلاث: عن مساوي الأعمال، وعن سفاسف الأمور، ودناءة الأخلاق ورداءتها. ذكر أنه جعل الكتاب هدى لبنى إسرائيل؛ لأن منفعة الكتاب حصلت لهم: أنهم هم الذين استهدوا به؛ فعلى ذلك هو هدى لمن استهدى، واللَّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا). أي: معتمدًا، أي: قلنا لهم فيه، أو ذكرنا لهم فيه، أو أمرناهم فيه: ألا تتخذوا من دوني وكيلًا، أي: معتمدًا موكولًا، الوكيل: هو موكول الأمر إليه، معتمد في الأحوال عليه، قائم في جميع ما وكل إليه بالتبرع والتفضل. وقوله - عَزَّ وجل -: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) قَالَ بَعْضُهُمْ: يعني بالذرية الأنبياء الذين كانوا من قبل، أي: كانوا من ذرية نوح ومن حمل معه، وهم بشر؛ قال: ذكر هذا لإنكارهم، بعث الرسل من البمثمر؛ حيث قالوا: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا). والثاني: يحتمل غيره، أي: من ذرية من حملنا مع نوح، أي: هَؤُلَاءِ من ذرية من حملنا مع نوح؛ فكيف خالفوا آباءهم الذين كانوا على الهدى، وتابعوا غيرهم؟! أو يذكر أن هَؤُلَاءِ الرسل من ذرية من حملنا مع نوح، وهم بشر، فكيف أنكروا الرسول من بشر؟! ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على النداء والدعاء: يا ذرية من حملنا مع نوح، في السفينة - في أصلاب الرجال وأرحام النساء زمان الطوفان - لا تتخذوا من دوني وكيلًا، قيل: رئا وإلهًا، وقيل: شريكا. وأصله ما ذكرنا أن الوكيل: هو المعتمد. (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا). يعني: نوحًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: سماه شكورًا؛ لأنه كان يذكر ربه في كل أحواله، وقال بعضهم: الشكور هو الذي يبتغِي مرضات منعمِهِ، ويجتنب مساخطه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشكور هو المطيع لله.

(4)

وقد ذكرنا معنى الشكر: أنه اسم المكافأة، أو يقال: كانت عبادته لله عبادة شكر لا عبادة استغفار، أي: كان شكورًا في عبادته لا مستغفرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) اختلف في قوله: (وَقَضَيْنَا): قال الحسن وغيره: أوحينا إليهم وأخبرناهم وأعلمناهم في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قضينا عليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كتبنا عليهم فكيفما كان، ففيه نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر: أنه أخبرهم وأعلمهم؛ على تأويل من زعم أن القضاء - هاهنا - هو الإعلام والإخبار لهم؛ فيقال لهم: كان أخبرهم وأعلمهم؛ ليصدق في خبره أوْ لا: فإن كان أخبرهم ليصدق في خبره - فذلك منه حكم أنهم: ليفسدن في الأرض مرتين؛ فإن كان تأويل القضاء: الكتاب والحكم، فهو ظاهر، وهو ما نقول: إن كل فاعلٍ فعلًا طاعة كانت أو معصية - كان بحكمه. ثم من سأل آخر عن المعصية أنها كانت بقضاء اللَّه؛ فلا يجب أن يجاب له على الإطلاق: بـ (نعم) أو ب (لا)، إلا أن يبين أنه ما يريد بالقضاء وما يفهم منه؛ لأن القضاء يتوجه إلى وجوه: يرجع إلى الخلق؛ كقوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)، أي: خلقهن. والقضاء: الأمر؛ كقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، أي: أمر ربك. والقضاء: الحكم؛ كقوله: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) أي: احكم ما أنت حاكم. ولم يعرف القضاء: الحمل والدفع؛ على ما يقوله المعتزلة، ونحوه، فلا يجاب على الإطلاق إلا أن يبيِّن أنه ما أراد بالقضاء؟ فإن أراد بالقضاء: الحكم: فعند ذلك يقال: نعم، كان بقضائه وحكمه، وليس فيما قضى وحكم دفعه في المعصية. ثم اختلف في قوله: مرتين: قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: إن بني إسرائيل عصو ربهم؛ فسلط اللَّه عليهم

(5)

جالوت؛ فقتلهم، وسبى ذراريهم وأموالهم، فكانوا كذلك زمانًا، ثم تابوا ورجعوا عن ذلك، ثم بعث اللَّه داود؛ فقتل جالوت، واستنقذهم من يديه، وردهم إلى مكانهم، ثم عادوا إلى ما كانوا من قبل؛ ثم سلط عليهم بختنصر؛ ففعل بهم ما فعل جالوت، ثم تابوا، فبُعِث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بعث - أولًا - بختنصر، ثم فلانا وفلانًا، وهو ما قال: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ) إلى قوله: (وَإِن عُدتُم عُدْنَا) أي: عدتم إلى العصيان عدنا إلى العقوبة، ولكن ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى ما فيه من وجوه الحكمة والدلالة: أحدها: فيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر عما كان في كتبهم من غير أن علم ما في كتبهم، ولا اختلف إلى أحد منهم؛ فكان - على ما أخبر - دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه بما أخبره في كتابه. وفيه أنه لم يُهْلَك قوم بنفس الكفر إهلاك استئصال، حتى كان منهم مع الكفر السَّعْيُ في الأرض بالفساد، والعناد للآيات. وفيه أن ليس على اللَّه حفظ الأصلح لهم وإعطاؤه في الدِّين؛ حيث لم يُمِتهُمْ على الإيمان، ولكن تركهم حتى عصوا ربهم، ثم سلط عليهم من قتلهم على تلك الحال، ودعاهم إلى دينه وهو كفر؛ فلو كان عليه إعطاء الأصلح لأماتهم على الإسلام؛ فذلك أصلح لهم في الدِّين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا). قيل: لتجترئون جراءة عظيمة، وقيل: لتقهرُن ولتعلن غلبة؛ كقوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ) أي: قهر وغلب، ألا ترى أنه قال: (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ)، ثبت أنه على الغلبة والقهر. وقيل: العلو هو العتو والجراءة والتكبر، وهو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) أي: جاء وعد هلاك من عصى منهم أولًا، وخالف أمر اللَّه وكفر به. (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ). قال الحسن: قوله: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ) ليس على بعث الوحي إليهم؛ ولكن على التخلية، أي: خلينا بينهم وبين عباد أولي بأس شديد، أي: أولي بطش شديد وقوة؛

(6)

كقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي: أخلينا بينهم وبين الشياطين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ) أي: أسلطنا عليكم. وقوله: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) رد على المعتزلة؛ لأنه ذكر أنه بعث عليهم عبادا أولي بأس شديد، وإنما بعثهم لجزاء إساءتهم ولسوء صنيعهم، وذلك شريفعل بهم؛ دل أن لله صنعًا في جميع فعل العباد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: جاسوا - من التجشس)، أي: يتجسَّسون أخبارهم ويسمعون أحاديثهم، وهم جنود جاءوا من فارس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَجَاسُوا) أي: قتلوا الناس في الأزِقَّة، وقيل: في الطرق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا). أي: الذين قالوا: (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) وعدًا كائنًا مفعولًا، أي: كان وعدًا موعودًا مفعولًا كائنًا، وإلا الوعد لا يأتي، وكذلك قوله: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي: موعودًا مأتيا، وكذلك ما أشبه هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) أي: الغلبة والهلاك عليهم. (وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا). أي: أكثر رجالًا منكم - قبل ذلك - وعددًا، ثم إذا عصوا ثانيًا، وكفروا بربهم سلط اللَّه عليهم قومًا آخرين! فدمروا عليهم، فذلك قوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ). الهلاك والتدمير، أي: موعود الآخرة. (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ). ثم وعد لهم الرحمة إن تابوا ورجعوا عن ذلك بقوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ). ثم أوعدهم العود إليهم بالعقوبة بقوله: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا)، أي: وإن عدتم إلى المعاصي عدنا

عليكم بالعقوبة. ثم قول أهل التأويل: إنه سلط عليهم بختنصر وجالوت ثم فلانا وفلانًا - فذلك لا يعلم إلا بالخبر عن رسول اللَّه، وليس في الآية سوى أنه بعث عليهم (عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)؛ فلا يزاد على ذلك إلا بالخبر، سوى أنه ذكر هذا لنا، وفيه وجوه من الحكمة: أحدها: ما ذكرنا من إثبات نبوة مُحَمَّد ومن صدق رسولهم؛ حيث حذرهم العقوبة بعصيانهم، فكان كما قال. وفيه تحذيرنا عن مثل صنيعهم؛ لأنهم ليسوا بذلك أَوْلى من غيرهم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ)، أي: عاثوا بين الديار، وأفسدوا. ويقال: جاسوا، وحاسوا. (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ). أي: الدولة. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (أَكْثَرَ نَفِيرًا). أي: عددًا، وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَكْثَرَ نَفِيرًا): هو من الخروج والنفر، ومعناه: أكثر عددًا، وقال أبو عبيدة: (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ): معناه، أي: فقتلوا في ديارهم. وقال قتادة: النفير: الْمُقاتِلَة الذين يستنفرون للقتال، أي: لو استنفرتم أنتم، واستنفر أُولَئِكَ كنتم أكثر منهم. ثم جاء قوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا) إلى قوله: (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ)، معلوم أنه لم يكن في كتابهم هذا اللفظ: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ)؛ (فَجَاسُوا) - على الابتداء، ولكن كان - واللَّه أعلم -: إذا جاء وعد أولاهما لنبعثن عبادًا أولي بأس شديد يتجسسون أو يجوسون، لكنه خاطب بهذا - واللَّه أعلم - الذين كانوا بحضرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن كانوا هم لم يفعلوا ما ذكر؛ لكن لما فعل أوائلهم خاطب هَؤُلَاءِ؛ لما كانوا يفتخرون بأوائلهم ويقولون: هم أبناء اللَّه وأحباؤه، فيذكر هَؤُلَاءِ نعمه التي أنعم على أُولَئِكَ، ويحذرهمْ صنيعهم، وهو ما خاطبهم بقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ. . .) وقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ)، ونحوه: خاطب هَؤُلَاءِ الذين كانوا بحضرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعاتبهم على صنيع أُولَئِكَ وفعلهم؛ وإن كان هَؤُلَاءِ لم يقولوا ذلك لما رضوا بصنيع أُولَئِكَ وفعلهم؛ استئداء منهم

(7)

الشكر؛ لما أنعم على أُولَئِكَ، وتحذيرًا لهم عن مثل صنيعهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) لا لله؛ إذ إليكم يرجع منفعة ذلك، وأنتم تجزون على ذلك: (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا). أي: فعليها؛ كقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ. . .) الآية، أي: عليها ضرر ذلك، وعلى ذلك جميع ما أمر اللَّه عباده من الأعمال أو نهاهم عنها إنما أمر ونهى؛ لمنفعة أنفسهم ولحاجتهم؛ لا لمنفعة له أو لحاجة له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، أي: إليها، أي: إلى أنفسكم تسيئون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ). أي: إذا جاء وعد موعود الآخرة، وهو العقوبة بعصيانهم وتكذيبهم رسل اللَّه، وقوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ)؛ بالتغيير وتبديل الدِّين. (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ). بواوين: على الجماعة، وبواو واحدة: على الواحد: (لنسوء وجوهكم)، ولم يبين من يسوء وجوههم؛ فيشبه أن يكون يبعث قومًا يسوءون وجوههم، كما ذكر في الوعد الأول: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)؛ فهم يسوءون وجوهكم. ومن قرأ بالنون: (لنسوء وجوهكم): أضاف إلى نفسه؛ لما بأمره ما كان يفعل وبتسليطه إياهم عليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر الوجه - هاهنا - كناية عن الحزن والهم والإهانة لهم؛ كما يقال في السرور: أكرم وجهه، أي: أدخل فيه سرورًا، أو ذكر الوجه؛ لما بالوجه يظهر ذلك التغير والقبح، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّّ -: (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّ). في ظاهر الآية أن يدخل الأولون المسجد في المرة الثانية كما دخلوا في المرة الأولى؛ لأنه قال: (كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّ)، لكن يحتمل ليدخل عباد آخرون المسجد في المرة الثانية كما دخل الأولون في المرة الأولى.

(8)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: المسجد - هاهنا - الكنيسة أو البِيعة. وقوله: (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا). أي: ليهلكوا ما علوا به، أي: ما غلبوا به وقهروا، أي: الأسباب التي بها عصوا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَا عَلَوْا)، أي: ليفسدوا ما أهلكوا، والتَّبَار: الفساد، يقال: علوت الشيء، أي: ملكت: وقوله - عزّ وجل -: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) يحتمل: أن يكون ذلك لأُولَئِكَ الذين تقدم ذكرهم، وفيهم نزل ما نزل، يرحمهم إن تابوا، ويشبه أن يكون على الابتداء: عسى ربكم أن يرحمكم بمُحَمَّد. (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا). أي: وإن عدتم إلى التكذيب والعصيان عدنا إلى العقوبة والقتال إلى يوم القيامة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا). قيل: سجنًا لا يخرجون منها، وقيل: محبسًا، وحصيرًا يحصرون فيها، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ). معنى: التأنيث في قوله (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) قيل بوجوه: قيل: إن هذا القرآن يهدي للملة التي هي أقوم الملل وأعدلها، والملة هي الدِّين، دين الله

(10)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يهدي إلى الأمور التي هي أعدل الأمور وأصوبها. وقيل: يهدي إلى السبيل التي هي أقوم السبل وأعدلها. يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها. وجائز أن يكون قوله: (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، أي: للأعمال الصالحات وللخيرات، لأن الأعمال الصالحات قوامها به. ثم قوله: (يَهدِي): يحتمل وجهين: يحتمل: يبين، والثاني: يدعو؛ فهو يهدي الكل لو استهدوا، لكن خص هَؤُلَاءِ لما منفعة تكون لمن ذكر، وقد ذكرنا أن هذا القرآن وغيره من كتب اللَّه هدى ورحمة يدعو إلى ثلاث خصال: إلى معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال ومصالحها. وينهى عن مساوي الأعمال، وداني الأمور، وسوء الأخلاق ودناءتها؛ فهو هدى ورحمة على ما أخبر لمن استهدى به، ورشد لمن استرشد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ). البشارة المطلقة إنما جعلت للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، لم يذكر للمؤمنين خاصة على غير العمل الصالح؛ فالمسألة فيهم غير المسألة في هَؤُلَاءِ. وفيه دلالة أنه يقع اسم المومنين بدون العمل الصالح؛ لأنه قال: (الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ)؛ دل أن ذلك الاسم يقع بدون ذلك الاسم. وفيه دلالة أن اسم الإيمان قد يستحق بدون العمل الصالح؛ حيث يشرط فيه العمل الصالح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا). سماه كبيرًا؛ لكبير خطره عند اللَّه، كما سمى عذاب النار عظيمًا؛ لعظم خطره عنده، أو سماه كبيرًا؛ لأنه أكبر ما يقصد إليه ويرغب فيه، وهو ثواب الجنة، والنار أعظم ما يحذر بها ويرهب عنها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) إنكارهم البعث، وكفرهم به - هو الذي حملهم على تكذيبهم الرسل وكفرهم باللَّه، ليسلم لهم شهواتهم في الدنيا؛ لأن الرسل جميعًا دعوهم إلى ترك شهواتهم في الدنيا، ورغبوهم بما يوجب لهم الثواب في الآخرة وحذروهم عما يوجب العقاب، فأنكروا

(11)

الآخرة والبعث رأسًا ليسلم لهم الدنيا فذلك الذي حملهم على إنكار الرسل وتكذيبهم إياهم؛ ألا ترى أف قال: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، أي: بالقرآن أو بمحمدٍ، إيمانهم بالبعث حملهم على الإيمان بالقرآن والرسول، وتكذيبهم الآخرة حملهم على تكذيب الرسل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا غضب الإنسان يدعو على نفسه وولده وأهله، ويلعن، كدعائه عليهم بالخير؛ لذلك انتصب قوله: (دُعَآءَهُ). وقال الحسن: إن الإنسان يتضايق صدره وقلبه بأدنى شيء يكره؛ فيلعن على نفسه وأهله؛ فلا يجيبه اللَّه، ثم يدعو بالخير؛ فيعطيه، أو نحوه من الكلام. وقوله: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: ويدعو الإنسان بالشر على العلم منه بذلك كدعائه بالخير على العلم منه بذلك. والثاني: يدعو الإنسان بالشر لو أجيب فيه على الجهل منه والغفلة، كدعائه بالخير لو أجيب في ذلك. ثم إن كان ذلك الإنسان هو الكافر فهو يدعو على الاستهزاء؛ كقوله: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) الآية، وكذلك قوله: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)، ونحوه. وإن كان مسلمًا فهو يدعو بالشر على نفسه وأهله عند الغضب على علم منه به، ويدعو أيضًا بالشر على السهو والغفلة منه، نحو ما يسأل الأموال والنكاح، ولعل ذلك شر له. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا لازم؛ لأنه لما خلقه اللَّه فنفخ الروح في بعض جسده - هم أن يقوم؛ فسماه عجولًا، لكن كل الإنسان خلق في الطبع من الأصل عجولًا؛ ألا ترى أنه لا يصبر على أمر واحد ولا على شيء واحد، وإن كان نعمة لم يصبر عليها؛ ولكن يمل عنها؟! وكذلك في أدنى شدة وبلاء إذا بلي به لم يصبر عليه، فأبدًا يريد الانتقال من حال إلى حال؛ ألا ترى أن قوم موسى قد أكرمهم اللَّه بكرامات: من إنزال المن والسلوى

(12)

عليهم من غير كد ولا جهد ولا مؤنة، وكذلك اللباس؛ ثم لم يصبروا على ذلك حتى قالوا: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ)، فسألوا ربهم - الفوم، والبصل، ونحوه؟! على هذا طبِع الإنسان ملولًا عجولًا؛ ألا ترى أن اللَّه مكن في باطنه، وجعل في سعة رياضة نفسه، وصرفها إلى أحد الوجهين اللَّذين يجهد عليه ولا يذم، وهو أن يروضها ويعودها على الصبر والحكم والوقار، ويصرف تلك العجلة إلى الخيرات والطاعات التي يحمد عليها المرء بالعجلة، وإلا: ففي ظاهر الخلقة والطبع منشأ على العجلة وما ذكر؛ ألا ترى أنه قال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21). إلا كذا، وهو ما ذكرنا - واللَّه أعلم - لكن بما امتحنه من الأمر والنهي والترغيب في الموعود والترهيب صيره بحيث يملك إخراجه عما طبع وأنشئ إلى حال أخرى بالرياضة التي ذكرنا؛ ألا ترى أنه ذكر الهلع والجزع، ثم استثنى إلا كذا؟! وعلى ذلك خلق اللَّه الخلق على همم مختلفة وأطوار متشتتة، لم يخلقهم جميعًا على همة واحدة، بحيث يرغبون جميعًا في معالي الأمور ومعاظم الحِرَف وأرفع الأسماء؛ بل طبعهم على أطباع مختلفة: فمنهم من يرغب في معالي الأمور ومعاظم الأمور والحرف، ومنهم من كانت همته الرغبة في الدون من الأمور والحرف في الحجامة والدباغة والحياكة ونحوها، وكذلك في الأسماء، ومنهم بخلاف ذلك، ولو كانت همتهم همة واحدة - لذهب المنافع والمعارف جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: المراد بالليل والنهار: الشمس والقمر، أي: جعلنا في الشمس والقمر؛ ألا ترى أنه أضاف الآية إلى الليل والنهار حيث قال: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)، وحيث قال -أيضًا-: (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) وإنما يعلم ذلك بالقمر؛ ألا ترى أنه قال -أيضًا-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا. . .) الآية، إنما أضاف معرفة عدد السنين والحساب إلى القمر، دل أنه بالقمر يعلم ذلك، وهو قول علي وابن عبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهم - وغيرهم من أهل التأويل؛ ويكون تأويل المحو الذي ذكر في قوله: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ)

ما قالوا في محوه، وهو السواد الذي يرى فيه والنقصان الذي يكون فيه في آخره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: محى منه تسعة وستون جزءًا من سبعين جزءًا، إلى هذا يذهب هَؤُلَاءِ. وأما الحسن وأبو بكر وهَؤُلَاءِ، فهم يقولون: ليس في الآية ذكر الشَّمس والقمر، إنما ذكر الليل والنهار وأخبر أنه جعل آيتين؛ فهما كذلك آيتان، وبهما يعلم عدد السنين والحساب؛ لأنه بالأيام يعرف ذلك، فأمّا الشهور فإنه إنما تعرف بالقمر لا تعرف بالأيام؛ ويكون قوله تأويل: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)، أي: جعلنا آية الليل في الابتداء ممحوة مظلمة، وجعلنا آية النهار مبصرة مضيئة في الابتداء ليس أن كانا جميعًا مبصرتين مضيئتين ثم مُحِي آية الليل وأبقيت آية النهار مضيئة؛ ولكن إنشاء آية الليل في الابتداء مظلمة، وإنشاء آية النهار في الابتداء مبصرة، وهو كقوله: (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)، أي: إنشاؤها في الابتداء كذلك، لا أن السماء كانت موضوعة فرفعها، ولا كذلك الجبال كانت مبسوطة ثم نصبها؛ ولكن إنشاءهما في الابتداء كذلك؛ فعلى ذلك قوله: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)، أي: جعلهما في الابتداء: هذا مظلمًا ممحوًّا، وهذا مبصرًا مضيئًا. (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ): هما آيتان مختلفتان، بل متضادتان تضاد كل واحدة منهما صاحبتها؛ إذ كل واحدة تنسخ الأخرى حتى لا يبقى لها أثر، وهما آيتان دالتان على وحدانية اللَّه تعالى؛ لأنه لو كانا فِعْلَ عدد - لكان إذا أتى هذا على هذا وغلب عليه - منع من أن يكون للآخر سلطان أو أمر؛ فإذ لم يكن دل أنه صنعُ واحدٍ، وفيهما دلالة تدبيره؛ حيث جريا على سَنَنٍ واحد ومقدار واحد، على غير تفاوت يكون فيهما وتفاضل، أو تغير على ما كان ومضى؛ دل أنه عن تدبير خرجا وكانا كذلك. وفيه دلالة علمه وحكمته لما جعل فيهما من المنافع ما لو كان الليل سرمدًا ذهب منفعة الليل نفسه، ولو كان النهار سرمدًا لذهب منفعة النهار رأسًا. وفيه دلالة البعث؛ لأنه يتلف أحدهما إذا جاء الآخر حتى لا يبقى له أثر بتة، ثم يعيده على ما كان من غير أن يعلم أنه غير الأول.

(13)

ثم قول (آيَتَيْنِ)، والآية علامة، وعلامتهما لا تعرف إلا بالتأمل والنظر فيهما؛ فعلى ذلك ألا يفهم، مراد ما في القرآن والمعنى المودع فيه - إلا بالتأمّل والنظر فيه. وفيهما دلالة نقض قول أصحاب الطبائع وأصحاب النجوم والدهرية وجميع الملاحدة: أما نقض قول أصحاب الطبائع: لما ذكرنا من اتساق مجراها على سنن واحد وأمر واحد، دل أنه بالتدبير صار كذلك لا بالطبع. وأمَّا نقض قول أصحاب النجوم لما جعل النجوم مسخرة لمنافع الخلق ومغلوبة يغلبها ضوء الشمس ونور القمر حتى لا ترى؛ دل أنه لا تدبير لها وأن التدبير لغيرها. وعلى غيرهم من الملاحدة ما ذكرنا من اتصال منافع هذا بهذا ومنافع هذا بهذا، دل أنه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ). يحتمل الفضل الذي ذكر: الرزق والمعاش الذي ذكر في آية أخرى: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا)، ويحتمل أنواع فضل تكون في الذين. (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ). هو ما ذكرنا أنه بهما يعرف عدد السنين والحساب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا). يحتمل التفصيل تفصيل آية من أخرى، أي: لم يجعلهما آية واحدة؛ على ما ذكر. وقال الحسن: أي فصل بين ما أمر عباده ونهاهم، أي: بين وفصل ما يؤتى مما يتقَى، و (فَصَّلْنَاهُ): أي: فصله تفصيلًا لم يتركه مبهمًا؛ بل بين غاية البيان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اختلف في قوله: (طَائِرَهُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: (طَائِرَهُ): شقاوته وسعادته، ورزقه وعيشه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عمله الذي عمل من خير أو شر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حظه ونصيبه من عمله، وهو جزاؤه ونحو ذلك، فذلك كله يرجع إلى

معنى واحد؛ لأنه إنما يسعد ويشقى بعمله الذي يعمله، وكذلك جزاء عمله؛ ولذلك قال الحسن في تأويل قوله: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا)، أي: بأعمالنا التي عملناها، ثم يخرج تسمية العمل وما ذكروا طائرًا؛ لوجهين: أحدهما: على وجه التفاؤل والطيرة؛ كانوا يتفاءلون ويتطيرون بأشياء: بالطائر وغيره، ويقولون جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له بكذا من الشر؛ على طريق الفأل والطيرة؛ فخاطبهم على ما يستعملون، وأخبر أن ذلك يلزم أعناقهم، وهو ما قال اللَّه - تعالى -: (يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ)، وكقوله: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ)، وقوله -أيضًا-: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ. . .) الآية، ونحوه. والثاني: سمى الأعمال التي عملوها طائرًا؛ لما أن الذي يتولد منه تلك الأعمال كالطائر، وهو الهمة، أو لا يخطر بباله شيء؛ ففي الأخطار لا صنع له فيه، ثم يهمُّ، ثم تبعث الهمَّة على الإرادة، ثم الإرادة تبعث على الطلب والعمل، فالهمة التي في النفس التي يتولد منها الأعمال كالطائر؛ فسماه لذلك باسمه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي عُنُقِهِ). يحتمل أن يكون العنق كناية عن النفس، أي: ألزمناه نفسه، وذلك جائز؛ يقال: هذا لك عليَّ وفي عنقي. والثاني: ذكر العنق؛ كما يقول الرجل لآخر إذا أراد التخلص من عمل: قلَّدتك هذا العمل وجعلته في عنقك، أي: تكون أنت المأخوذ به إثمًا إن كان في ذلك شر، وأنت المأجور به المثاب إن كان فيه خير. والمعنى في قوله: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)، أي: لا يؤخذ غيره بعمله وشقائه؛ ولكن هو المأخوذ به، وهو ما قال: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ)، وقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)؛ هذه الآيات الثلاثة معناها واحد، وهو ما ذكرنا ألا يؤخذ غيره بعمل آخر، ولا تحمل نفس خطيئة أخرى ولا وزرها، ولكن كل نفس هي تحمل خطيئة نفسها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا). هذا يحتمل وجهين:

(14)

أحدهما: أي: يجعل ما لزم عنقه كتابًا يلقاه منشورًا. والثاني: أي: يجعل بما ألزم عنقه كتابًا. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) قيل: شهيدًا، وقيل: كافيًا وحاسبًا، وهو واحد: أن المؤمن بما سبق من صالحاته يقف فيها لا يقطع القول لرجائه في رحمته ولخوفه عن مساويه؛ فلا يشهد على نفسه بالعقوبة. وأما الكافر فإنه يشهد على نفسه بالنار؛ لما لم يكن له ما يطمع رحمته. وقوله: (اقْرَأْ كِتَابَكَ)، أي: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا)؛ فيقال له: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا). وفي ذلك لطف عظيم بقراءة كتابه بأي لسان كان؛ لأنه لم يبين بأي لسان يكتب، ثم يتذكر جميع ما عمل في عمره، وقد ينسى الرجل عملًا يعمل في أدنى مدة، لكن هذا يتذكر في ساعة ووهلة ما كان عاملًا منه. * * * قوله تعالى: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ). أي: من اهتدى إلى ما جعل اللَّه عليه من أنواع النعم، وقام بأداء شكرها فإنما فعل ذلك لنفسه؛ لأنه هو المنتفع به. أو يقول: من اختار الهدى وأجابه إلى ما دعاه مولاه فإنّما يهتدي لنفسه، أي: فإنما اختار ذلك لنفسه؛ لأنه هو المنتفع به وهو الساعي في فكاك رقبته. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ - (وَمَنْ ضَلَّ). أي: من ضل، أي: من اختار الضلال (فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)، أي: فإنما يرجع عليها ضرره، وهو ما ذكر: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا). وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا). وقوله: (وَمَنْ ضَلَّ) عن ذلك (فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا). أي: إلى نفسه يرجع ضرر ضلاله على نفسه؛ كقوله: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

هو ما ذكرنا، أي: لا تحمل نفسق خطيئةَ أخرى، ولا تأثم بوزر أخرى، واللَّه أعلم؛ ذكر هذا ليعلم أن أمر الآخرة خلاف أمر الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يؤخذ نفس مكان أخرى، ويحتمل نفس مؤمنة أخرى، وفي الآخرة لا تؤخذ نفس بدل أخرى. والثاني: قد يتبرع بعض عن بعض بتحمل المؤُنات والقيام في فكاكها، وأمَّا في الآخرة فلا يتبرع بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). يحتمل: ما كنا معذبين تعذيب استئصال في الدنيا إلا بعد دفع الشبه - ودفعها عن الحجج - من كل وجه، وبعد تمامها، وإن كانت الحجة قد لزمتهم بدون بعث الرسل؛ ليدفع عنهم عذرهم من كل وجه، أو أن يكون قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) إفضالًا منه ورحمة، وإن كان العذاب قد يلزمهم، والحجة قد قامت عليهم، والعذاب الذي كانوا يعذبونهم في الدنيا ليس هو عذاب الكفر؛ لأن عذاب الكفر دائم أبدًا لا انقطاع له، وهذا مما ينقطع وينفصل، لكن يعذبون بأشياء كانت منهم من العناد ودفع الآيات، وأما عذاب الكفر فهو في الآخرة أبدًا لا ينقطع. وفي الآية دلالة أن حجة التوحيد قد لزمتهم وقامت عليهم بالعمل، حيث قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)؛ فلو لم تلزمهم لكان الرسل إذا دعوهم إلى ذلك يقولون: من أنتم ومن بعثكم إلينا؛ فإذا لم يكن لهم هذا الاحتجاج دل أن الحجة قد قامت عليهم، لكن اللَّه بفضله أراد أن يدفع الشبه عنهم ويقطع عنهم عذرهم برسول يبعث إليهم؛ لما أن أسباب العلم بالأمور ثلاثة: فمنها ما يعلم بظاهر الحواس بالبديهة، ومنها ما يفهم ويعلم بالتأمل والنظر، ومنها ما لا يعلم إلا بالتعليم والتنبيه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) وهو ما ذكرنا، أي: نخرج بذلك العمل كتابًا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي نكتب ما عمل ثم نقلده في عنقه فيجيء به يوم القيامة.

(16)

وقال أبو عبيدة: طائره حظه. وقال غيره من المفسرين: ما عمل من خير وشر ألزمناه عنقه. قَالَ الْقُتَبِيُّ: وهذان المعنيان يحتاجان إلى بيان. والمعنى فيما أرى - واللَّه أعلم - أن لكل امرئ حظًّا من الخير والشر قد قضاه اللَّه؛ فهو لازم عنقه، والعرب تقول: إن كل ما لزم الإنسان قد لزم عنقه، وهو لازم طائر في عنقه، وهذا لك عليَّ وفي عنقي حتى أخرج منه؛ وإنما قيل للحظ من الخير والشر: طائر؛ لقول العرب ما ذكرنا: جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له الطائر بكذا من الشر؛ على وجه الفأل والطيرة على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان له سببًا، وهو ما ذكر. وقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). التعذيب يكون على وجوه ثلاثة: أحدها: يعذبهم في الدنيا ابتداء بتعذيب؛ امتحانًا وابتلاء بلا جريمة كانت منهم؛ كقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، ونحوه؛ فيكون تنبيهًا وتذكيرًا لهم لا تكفيرًا. والثاني: يعذب تعذيب العناد والمكابرة، وهو تعذيب إهلاكِ استئصالٍ؛ فهو عقوبة لهم، وموعظة للمتقين، وعبرة لغيره، وهو الذي يأتي على أثر وعيد. والثالث: عذاب الموعود في الآخرة؛ يقول: وما كنا معذبين في الآخرة حتى نبعث رسولًا في الدنيا. والأشبه أن يكون ما ذكر من التعذيب هو تعذيب استئصال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) بالتخفيف، والتثقيل: (أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا)، ثم من قال (أَمَّرْنَا) بالتثقيل يحتمل وجهين: أحدهما: (أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا) من الإمارة والتسليط عليهم، أي: أمرنا عليهم وسلطنا

مترفيها، أي: أكثرنا عددهم وسلطنا مترفيها فُسَّاقَهَا ومستكبريها. والثاني: (أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا)، أي: أكثرنا عددهم ومُنَعَّمِيهم؛ يذكر لهم هذا لقولهم: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ. .) الآية. وقولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا. . .) الآية: كانوا يزعمون أنهم لا يعذبون؛ لأنهم قد أنعموا في هذه الدُّنيَا وأكثروا أموالهم وأولادهم؛ فأخبرهم - عَزَّ وَجَلَّ - أنه ما أهلك من الأمم الخالية إلا بعد ما كثر عددهم ووسع عليهم الدنيا؛ لم يهلكوا في حال القلة والضيق؛ كقوله: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا)، أي: كثروا؛ وقوله: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) لم يأخذ بالعذاب الأمم الخالية إلا في حال كثرتهم وأمنهم وغِرَّتهم بالسَّعَة؛ يحذر هَؤُلَاءِ؛ لئلا يغتروا بكثرة أموالهم وأولادهم وعددهم. ومن قال: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) بالتخفيف هو من الأمر، أي: أمرنا عظماءهم وكبراءهم طاعة الرسل والإجابة إلى ما دعاهم إليه، حتى إذا عصوا رسله وتركوا إجابتهم - على العناد والمكابرة - فعند ذلك يهلكون؛ لما ذكرنا أنه لم يستأصل الأمم الخالية إلا بعد عنادهم في آيات اللَّه، ومكابرتهم في دفعها وتكذيبها، لا يهلكهم في أول ما كذبوا آيات اللَّه وخالفوا رسله. وقوله: (مُتْرَفِيهَا)، قَالَ بَعْضُهُمْ: المترف: المنعَّم، وقَالَ بَعْضُهُمْ: المترف: المكرم والمستكبر، وكله واحد. وفي قوله: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) دلالة أن الإرادة غير المراد؛ لأنه أخبر بتقدم الإرادة عن وقت الإهلاك؛ دل أنها غيره؛ وفيه أنه أراد السبب الذي به يهلكون، وهو التكذيب والعناد؛ لما علم منهم أنهم يختارون ذلك؛ إذ لا يحتمل أن يريد هلاكهم، وهو يعلم منهم غير سبب الهلاك؛ فهذا يرد قول المعتزلة: إن الإرادة هي المراد، وأنه لم يرد ما كان منهم من سبب الهلاك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ). بما أراد إهلاكهم وجب عليهم، أو يكون قوله: (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) بما أخبر عن الأمم الخالية، وهو قوله: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا).

(17)

أي: أهلكناهم إهلاكًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) يحتمل أن يكون الخبير والبصير واحدًا، ويشبه أن يكون بينهما فرق؛ الخبير: العالم بأعمالهم، والبصير بمصالحهم ومعاشهم وبجزائهم؛ يقال: فلان بصير في أمر كذا، وفلان أبصر من فلان. ويحتمل أن يكون بذنوب عباده، وهو مكرهم الذي كانوا يمكرون برسول اللَّه؛ فقال: وكفى بمكرهم الذي يمكرون بك. * * * قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ). يحتمل هذا وجهين: أحدهما: أنهم كانوا يعملون بأعمالهم الحسنة في حال كفرهم من نحو الإنفاق والصدقات وبذل الأموال، وغير ذلك - يريدون بذلك العز والشرف والذكر في الدنيا؛ فأخبر أنه من أراد بما يفعل ذلك (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ). والثاني: يكون قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ)، أي: لا يريد بها إلا جمع الأموال وسعتها (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)، ثم أخبر أنه لا كل من أرادها يعجل له ذلك، ولا كل ما أراد يعجل له ذلك؛ ولكن إنما يعجل ما أراد اللَّه ولمن أراد شيئًا يعطي له ذلك، ثم أخبر عما يعطي في الآخرة من أراد العاجلة فقال: (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا). أي: مذمومًا: يسمى بأسماء قبيحة دنية مذمومة عند الخلق، أو يذم ويلام في النار، (مَدْحُورًا): مطرودًا من الأسماء الحسنى ومن الخيرات، أو مبعدًا عن رحمته. وقوله: (مَذْمُومًا): عند نفسه، أي: يذم نفسه يومئذ، أو مذمومًا عند الملائكة والخلق جميعًا. وفي قوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) وجهان:

(19)

أحدهما: يحتمل أن يكون أراد بإهلاكه إياهم موتهم بآجالهم. يقول: هم كانوا عددًا قليلًا زمن نوح، ثم كثروا حتى صاروا قرونًا، ثم ماتوا حتى لم يبق منهم أحد. ويحتمل أن يكون الإهلاك - هاهنا - إهلاك استئصال: فهو يخرج على وجهين: أحدهما: أنه قد استووا في هذه الدنيا - أعني العدو والولي - وفي الحكمة: التمييز بينهما والتفريق؛ فلا بد من دار يفَرَّق بينهما فيها ويميز. والثاني: قد هلكوا جميعًا، وفي العقل والحكمة إنشاء الخلق للإفناء خاصة بلا عاقبةٍ تقصد - عبثٌ باطل؛ فدل أن هنالك دارًا أخرى هي المقصودة حتى صار خلق هولاء حكمة، وفيه إلزام البعث. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) تفسير قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)؛ كأنه قال: من كان يريد العاجلة، وهو كافر بربه مكذب بالآخرة (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)، ومن كان يريد الآخرة، وهو مؤمن بربه مصدق بالآخرة، (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، هذا يدل أنهم إنما أرادوا العاجلة بكفرهم بالآخرة، ثم أخبر أن من أراد بعمله في الدنيا الآخرة، ولها سعيها ما سعى، وهو مؤمن بها. (فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا). أي: مَجز، لا مقبولًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ... (20) أي: المؤمن والكافر يعطى هذا وهذا، أي: لا نحرم عن العاجلة من أراد الآخرة؛ يخبر أُولَئِكَ الكفرة بكفرهم بالآخرة أنه ليس يعطي الدنيا وسعتها لمن يكفر بالآخرة؛ ولكن يعطي من كفر بها ومن آمن بها؛ لئلا يحملهم ذلك على حبهم الدنيا وطلب العز والشرف فيها - على كفرهم بالآخرة؛ حيث قال: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ)، أي: يعطي المؤمن والكافر، والبَر والفاجر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا). أي: ما كان رزق ربك وفضله محظورًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: محبوسًا ممنوعًا. وقال بعضهم: محظورًا: منقوصًا؛ فهو في الآخرة، أي: لا ينقصون في الآخرة من جزائهم، وروي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنَّ اللَّه يُعْطِي الدُّنْيَا عَلَى نِيَّةِ الآخِرَةِ، وَلَا يُعْطِي

(21)

الآخِرَةَ عَلَى نِيَّةِ الدُّنْيَا ". وعن الحسن قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا كَانَ الْعَبدُ هَمُّهُ الآخِرَةَ كَفَى اللَّه لَهُ مِنْ ضَيعَتِهِ، وَجَعَلَ غَنَاءَهُ فِي قَلْبِهِ، وَإِذَا كانَ هَمُّهُ الدُّنْيَا أَفْشَى اللَّه عَلَيهِ ضَيعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيّنَ عَينَيهِ؛ فَلا يُمْسِي إِلا فَقِيرًا، ولا يُصْبحُ إِلا فَقِيرًا ". وقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ)؛ للعاجلة - (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)، وأما من كان يريد العاجلة؛ للآخرة - فهو ليس بمذموم؛ فهو ما ذكر في قوله: (فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)، وهو ما قال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ. . .) الآية، وقوله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. . .). وأمَّا من أراد الحياة الدنيا؛ لحياة الآخرة - فهو ليس بلعب ولا لهو؛ لأن الدنيا لم تُنْشَأ لنفسها؛ إنما أنشئت للآخرة؛ فمن رآها لها وأرادها لنفسها - فهو لعب ولهو، ومن رآها للآخرة وأرادها للآخرة فهو ليس بلعب ولا لهو. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) في الدنيا في الرزق وفي الخلقة: يكون بعضهم أعمى، وبعضهم بصيرًا، أو يكون أصم ويكون سميعًا، ونحوه؛ فعلى ما يكون في الدنيا على التفاوت والتفاضل يكونون في الآخرة كذلك في المنزلة والقدر عند اللَّه، لا في الضيق والسعة والأحوال التي يكونون في الدنيا؛ حيث قال: (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا). ولم يقل: أكثر ولا أوسع، دل أنه على القدر والمنزلة عند اللَّه، لا على اختلاف الأحوال التي يكونون في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)] قد ذكرنا فيما تقدم أن النهي في مثل هذا والخطاب - لرسوله، وإن كان غير موهوم ذلك منه؛ للعصمة التي عصمه؛ فإنه غير مستحيل في ذاته؛ لما ذكرنا أن العصمة إنما

ينتفع بها مع النهي والأمر؛ لأنه لولا الأمر والنهي ما احتيج إليها، أو خاطبه به على إرادة غيرٍ؛ على ما يخاطب به ملوك الأرض الأقرب إليهم والأعظم والخطر منهم دون خسائس الناس ورذالهم. والثاني: أنه يخاطب كلًا في نفسه، ليس أنه يخص رسوله بذلك، ولكن كل موهوم ذلك منه. ويحتمل أن لخاطب به كقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ)، و (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)؛ ليس إنسان أحق بهذا الخطاب من إنسان؛ فعلى ذلك الأول، أو يقول: إنه يخاطب رسوله؛ ليعلم من دونه أن ليس لأحد وإن عظم قدره عند اللَّه وارتفع محله ومنزلته - محاباة في الدِّين؛ لأن الرسل هم المكرمون على اللَّه المعظمون عنده؛ فإذا لم يعف عنهم في هذا - لم يعف من دونهم؛ ألا ترى أنه قال للملائكة: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ)، وهم أكرم خلق اللَّه؛ حيث وصفهم اللَّه أنهم: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)؟!؛ فعلى ذلك الرسل؛ ألا ترى أنه قال على أثره: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) إلى قوله: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا)، ومعلوم أن أبويه كانا ضالين؛ فلا يحتمل أن يخاطب رسوله في قوله: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا)؛ دل أنه خاطب به كل محتَمَل ذلك منه وموهوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا). عند الناس. (مَخْذُولًا). أي: ذليلًا مقهورًا؛ لأن الخذلان هو ضد النصر والعون؛ ألا ترى أنه قال: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ. . .) الآية. ذكر الخذلان مقابل النصر؛ فعلى ذلك قوله: (مَخْذُولًا)، أي: مقهورًا ذليلًا غير منصور، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ

(23)

تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ (23) قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَقَضَى): حكم، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَقَضَى) - هاهنا -: أمر، أي: أمر ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَقَضَى رَبُّكَ)، أي: وصّى ربّك، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبئ - رضي اللَّه عنهما - أنهما كانا يقرآن: (ووصى ربك)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وعهد ربك). وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَقَضَى رَبُّكَ)، أي: حتم ربك، وهو من الفرض والإلزام، أي: فرض ربك وألزم ألا تعبدوا إلا إياه، وكذلك " حكم " ربك وهو أشبه؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ثم قال: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ): دل قوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أن قوله: (إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ) - معناه، أي: فرض الله ورسوله وحكما أمرًا. ثم قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ): فرض وحتم وحكم وأمر ألا تعبدوا إلا إياه، إلا الإله المعبود الحق المستحق للعبادة والربوبية، لا تعبدوا دونه أحدًا، وقد أبان لنا أنه هو الإله والرب المستحق للعبادة والألوهية والربوبية، لا الذين تعبدون من دونه من الأوثان والأصنام بوجوه ثلاثة: أحدها: عجز العقول وجهالتها عن درك كيفية العقول وما بينها؛ لأن العقول لا تعرف كيفية أنفسها ولا ماهيتها، وتعرف محاسن الأشياء ومقابحها؛ فقد عَرَفَتِ الألوهية لله، وحسن العبادة له، وقبحها لغيره.

والثاني: ما يوجد في جميع الخلائق من آثار ألوهيّته وربوبيته، وجعل العبادة له شكرًا له؛ وعلى ذلك جعل في كل جارحة من جوارح الإنسان عبادة؛ شكرًا له لما فيها من آثار ألوهيته. والثالث: السمع، أنبأنا أن لا معبود إلا اللَّه، ولا ألوهيّة لسواه دونه؛ فذلك معنى ما فرض على خلقه وأمرهم ألا يعبدوا إلا إياه، وتأويل حكم ربّك ألا تعبدوا إلا إياه؛ لما أنشأ في خلقة كل أحد آثار وحدانيته، وشهادة ربوبيته استحقاق العبادة له، فذلك تأويل من قال: قضى، أي: حكم. وأما تأويل من قال: قضى، أي: أمر ربك وكلف ألا تعبدوا إلا إياه - يكون فيه أمر بالعبادة له، والنهي عن عبادة غيره؛ كأنه قال: أمر ربك أن اعبدوه، ونهاكم أن تعبدوا غيره، ثم الفرق بين الطاعة والعبادة: يجوز أن يطاع غيره، ولا يجوز أن يعبد غيره؛ لأن الطاعة هي الائتمار؛ كقوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) أي: ائتمروا، وأما العبادة هي الاستسلام والخضوع له والشكر له، ولا يجوز ذلك لغيره سوى اللَّه، أو أن يكون في العبادة معنى لا يدرك، كمعنى الرحمن؛ لا يدرك، حيث لم يجوّز تسمية غيره به؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: وبالوالدين إحسانًا. كأنه قال: وفرض عليكم -أيضًا- وحكم إحسان الوالدين، أو أمركم بإحسان الوالدين، ثم الإحسان في عرف الناس هو الفعل الذي ليس عليه: إنما هو فضل ومعروف يصنعه إلى غيره، هذا هو الإحسان في العرف واللغة، لكن المراد بالإحسان إلى الوالدين هو الشكر، لا ما ذكرنا من الإحسان المعروف عند الناس، وهو ما ذكر في آية أخرى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)، لأن الشكر هو المكافأة والجزاء لما أنعم وصنع من المعروف؛ فهو، واللَّه أعلم. وإن ذكر الإحسان في هذا وفي غيره من الآيات، وهو قوله: (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، وقال في آية أخرى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، وغيرها من الآيات - فالمراد منه، واللَّه أعلم: الشكر لهما؛ لما ذكر في آية أخرى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) والشكر هو المكافأة: أمره أن يكافئ لهما ويجازي بعض ما كان منهما إليه من التربية، والبر، والعطف عليه، والوقاية من كل سوء ومكروه: في البطن، وبعد ما خرج من البطن حتى

كانا يؤثرانه على أنفسهما في السرور، ويجعلان أنفسهما وقاية له من كل سوء ومحذور، فأمر الولد أن يشكر لوالديه؛ جزاء ومكافأة لما كان منهما مما ذكر. وهذا ذكر في الحال التي عجزا هما عن القيام لأمر أنفسهما، والحوائج لهما، وذلك - واللَّه أعلم - لأنهما إذا كانا قويين، قادرين لحوائج أنفسهما ومنافعهما يبران ولدهما، ويحسنان إليه؛ فيحمل برهما وإحسانهما إليه على الطاعة لهما في البر، والإحسان إليهما على المجازاة، وهكذا المعروف عند الناس أنه إذا بر بعضهم بعضًا يبعث ذلك على المكافأة؛ ليدوم ذلك عليهم وألا ينقطع؛ لذلك ذكر - واللَّه أعلم - الإحسان إلى الوالدين في الحال التي هي حال ضعف وعجز؛ حيث قال: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا). ثم أمره أن يذكر الحال التي هو عليها، وهو حال طفوليته وصغره: أن كيف ربَّياه، وبراه، وعطفا عليه، ولانا له - قولًا وفعلا - حتى لم يستقذرا منه شيئًا مما يستقذر الناس بعضهم من بعض، ولم يبعدهما عنه ما يبعد الخلق بعضهم من بعض من أنواع الأذى والخبث؟! فأمره أن يعاملهما إذا بلغا الحال التي كان هو عليها: من الجهل والضعف، والعجز عن القيام بالحوائج على ما كان هو، وبلغا المبلغ الذي يستقذر منهما ويبعد عنهما، أي: لا يستقذر هو منهما، ولا يبعد عنهما؛ كما لم يستقذرا هما منه، ولا ينهرهما عند السؤال والحاجة إليه؛ كما لم يفعلا هما له؛ بل يلين لهما ويذل كما لانا هما له وخضعا، وهو ما قال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ. . .) الآية، وقال في آية أخرى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)، أخبر أنه يرد من بعد القوة والعلم إلى الحال التي كانوا عليها. وهو حال الضعف والجهل؛ حيث قال: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ. . .) الآية، وقال: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ. . .) الآية. فقال: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ): هو كناية عن إظهار الكراهة لهما في الوجه، (وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، أي: لا تُعنفْهما في القول والكلام على ما لم يفعلا هما بك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أُفٍّ) المراد به: هو (أُفٍّ) لا غير، (وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، أي: لا تعنفهما،

ولا تخشن، لكنه ذكر أول حال الاستثقال والكراهة منه وأَخرها، أي: لا تقل لهما (أُفٍّ) على ما يستثقل الناس شيئًا ويكرهون في أول حال يرون شيئًا مستثقلًا مكروهًا - يقولون: أُفٍّ، أي: لا تقل أُفٍّ؛ لئلا يحمل ذلك على العنف والخشونة والنهر؛ وعلى هذا المعنى قالوا في قوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ. . .) الآية قَالَ بَعْضُهُمْ: يغضوا من أبصارهم وليحفظوا فروجهم؛ لأن النظر بالبصر يحمله على الزنى في الفرج؛ ومنه يكون بدء الفجور. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ): ذكر أول حال وآخرها؛ ليمتنعوا عن كل ذلك؛ فعلى ذلك قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا): ذكر أول الحال وآخرها. والثاني، أي: لا تظهر في وجهك من الكراهة وإلاستئقال ليحمل ذلك على العنف وإلاثتهار - فإن كان تأويل قوله: (أُفٍّ) - (أُفٍّ) لا غير، ففيه حجة لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - في قوله: إذا نفخ المصلي في موضع سجوده، فهو كلام يقطع صلاته؛ حيث قال (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ)، أي: لا تتكلم به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمً). حيث نهاه أن يقول لهما: أُفٍّ، ونهاه أن ينهرهما؛ فإذا امتنع عن الأفّ والنهر كان بعد ذلك قولا لينا لطيفًا. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: نهرته وانتهرته، وهو الخشن من الكلام شبه الوعيد. وقال أبو بكر الكَيساني: الكريم: هو الذي يُولِي على آخَرَ نعمه، ويهنيه بترك الأذى والمن؛ كقوله: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)، وقال غيره: في وصف السخي، فقال: الذي يبذل ما احتوى عليه لمن احتاج إليه، وقطع طمعه عما احتوى عليه غيره عند حاجته إليه. ويشبه أن يكون الكريم قريبًا منه. فَإِنْ قِيلَ: إن الوالدين كالمجبولين المطبوعين على البر لأولادهما، والشفقة عليهم، ولا كذلك الأولاد؛ فكيف يشبه بر من كان مجبولًا به مطبوعًا عليه - برَّ من لم يكن ذلك بطبعه. قيل: لذلك ذكر هذا في الولد دون الوالدين، وأمرهم بذلك؛ لأن ما يفعل الوالدان من البر والإحسان إلى الولد يفعلان بطبع، والولد لا؛ لذلك كان ما ذكر واللَّه أعلم. ولهذا ما لم يجعل ولم يشرع قتل الوالد بولده؛ إذ ليس القصاص حياة بينهم، وشرع قتل الولد بوالديه؛ إذ في الوالدين من الشفقة والرحمة ما يمنع قتل الولد، وليس في الولد ذلك؛

(24)

فجعل في قتل الولد والديه القصاص، ولم يجعل في قتل الوالدين ولدهما؛ فعلى ذلك هذا في البرّ والإحسان. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة فيما قرن اللَّه من شكر والديه شكره في غير آية من القرآن: (اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ). قيل: لأنه بهما كان نماؤه من أول حاله إلى آخر ما انتهى إليه من التغذية والتربية والوقاية من كل سوء والحفظ من كل آفة وشر. وفي الآية دليل لقول أبي حنيفة؛ حيث قال في المكاتب: إذا اشترى والده أو أمَّه صار مكاتبًا، وإذا اشترى أخاه أو ذا رحم محرم منه - لم يصر مكاتبًا؛ لأن الأب والأم يصيران كذلك بحق الجزاء والشكر؛ فعليه ذلك، وأمَّا الأخ وغيره من المحارم بحق المعروف؛ فملكه لا يحتمل ذلك. والخطاب من اللَّه - وإن كان مع رسوله - فالمراد منه غيره؛ لأن رسول اللَّه معلوم أنه لم يدرك والديه في الوقت الذي أرسل إليه وخاطبه بما خاطب؛ دلّ أنه أراد بالخطاب غيره - كل محتملٍ منه، ذلك وموهوم منه - وأمره أن يعاملهما بالمعاملة التي ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) يحتمل أن يكون الجناح كناية عن اليدين؛ لأن اليدين في الإنسان بموضع الجناح للطائر، وجناح الطائر يداه؛ فكأنه قال: اخفض واخضع لهما بيديك كما أمره أن يخضع لهما بلسانه بقوله: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، أي: اخضع لهما قولًا وفعلًا. ويحتمل أن يكون الجناح كناية عن النفس، أي: اخضع لهما بجميع النفس والجوارح، وقوله: (الذُّلِّ): يحتمل أن يكون المراد من الذل: الذل نفسه، أي: كن لهما كالمستعين المحتاج إليهما لا كالمعين لهما قاضي الحاجة، ولكن ذليلًا كالمستعين من الآخر رافع الحاجة إليه. ويحتمل أن يكون الذلّ كناية عن الرحمة التي تكون في القلب، أي: اخضع لهما برحمة القلب والجوارح جميعًا؛ ألا ترى أنه قال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي: رحماء على المؤمنين أشداء على الكافرين؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ). وذكر مقابل الذل في تلك الآية - الرحمة في هذا، ومقابل العزة - الشدة؟! فعلى ذلك يحتمل أن يكون قوله: جناح الذل كناية عن الرحمة؛ فيكون معناه: أن اخضع لهما

(25)

بالظاهر والباطن جميعًا على ما ذكرنا في قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، ويحتمل أن يكون على الإضمار؛ فيكون - واللَّه أعلم - كأنه قال: رب ارحمهما كما رحماني وربياني صغيرًا. وقول أهل التأويل: إن هذا منسوخ نسخه قوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ. . .) الآية - بعيد؛ وأمكن أن تكون الآية في المؤمنين والكافرين؛ فالرحمة التي ذكر: تكون في الكافرين سؤال الهداية لهم وجعلهم أهلًا للرحمة والمغفرة؛ وذلك جائز كقول نوح لقومه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) أي: استهدوا ربكم؛ فيهديكم فيغفر لكم ما كان منكم؛ إنه كان لم يزل غفارًا؛ إذ لا يحتمل أن يأمرهم بالاستغفار ويعدهم بالمغفرة على الحال التي هم عليها، وكذلك استغفار إبراهيم لأبيه. أو أن تكون من الرحمة التي يتراحم بعضهم أعضًا، والشفقة التي تكون بين الناس كما يتراحم الصغار والضعفاء، ثم مثل هذه المعاملة التي أمر الولد أن يعامل أبويه يلزم المؤمنين من جهة الدِّين ومكارم الأخلاق أن يعاملهم الناس بعضهم بعضا، غير أن هذا فيما بين الناس ليس بفرض لازم، وذلك فرض لازم؛ لأنها بحق الشكر والجزاء لهما لما كان منهما إليه من البرّ والإحسان، وحق التربية والتعظيم حقهما وجليل قدرهما وخصوصيتهما، وهو كما يقال لرسوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وإلا فقد وصف المؤمنين بتراحم بعضهم على بعض؛ على ما ذكر: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، وأمرهم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ (25) قال بعضسهم: قوله: (أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) من أسرار المحبة لهما والبر والكرامة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ)، أي: أعلم ما تفعله نفوسكم، وهو كما

قال عيسى - عليه السلام -: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، أي: تعلم ما تفعله نفسي، ولا أعلم ما في نفسك من التدبير والتقدير؛ فعلى ذلك هذا. وجائز أن يكون قوله: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) - صلةَ قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ. . .) الآية، أي: ربكم أعلم بما في ضميركم: من الاستقذار إياهما، والاستثقال، والكراهة إذا بلغا المبلغ الذي ذكر، ولكن لا تظهر ذلك لهما ولا يوافق ظاهرك باطنك. أو أن يقول: ربكم أعلم بما في نفوسكم أولا يعلم غيره ما في نفوسكم؛ فلا تراءون الناس بما في قلوبكم؛ ولا تصرفوا ما في ضميركم إلى من لا يعلم ذلك؛ يخاطب الكل على الابتداء ألا يجعل ما في قلبه لغيره؛ بل يخلص له، أو أن يكون قوله: أي: ما تفعله أنفسكم وتدبّرها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ). أي: تصيروا صالحين؛ لأن قوله: (تَكُونُوا) إنما هو في حادث الوقت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا). يشبه أن يكون قوله: (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ) صلة قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، و (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا) أي: لم يزل غفورًا للأوابين ولمن يشاء. ثم اختلف في الأواب: قَالَ بَعْضُهُمْ: الأواب: الرجَّاع التواب، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ. قَالَ الْقُتَبِيُّ: الأواب: التائب مرة بعد مرة، وهو من: آب يئوب، أي: رجع، وهما واحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأواب: المطيع، وقيل: المسبح ونحوه. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ في قوله: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، أي: لِنْ لهما وارفق بهما؛ ذكر بر اللسان للوالدين ولطفه إياهما قولًا وفعلًا، وليس في ظاهر الآية ذكر البر بالمال والإنفاق عليهما؛ فيشبه أن يكون ذلك داخلًا في قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، أو

(26)

لم يذكر ذلك؛ لما أن المال للولد مال لهما؛ ألا ترى إلى ما روي عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومعه أبوه فقال: يا رسول اللَّه، إن لي مالًا، وإن لي أبًا وله مال، وإن أبي يريد أن يأخذ مالي؛ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ " أَوَلَا ترى - أيضًا - أنه أضاف بيوت الولد إليهما؛ حيث قال: (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ)؛ قوله: (مِنْ بُيُوتِكُمْ) - معناه: بيوت أبنائكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا): إنه صلاة الضحى، ويروى في ذلك خبر: روى زيد بن أرقم قال: خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على قوم وهم يصلون الضحى؛ فقال: " صَلَاةُ الأَوابِينَ، إِذَا رَمَضَتِ الفِصَالُ "، وفي خبر آخر عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بثلاث: " أمرني أن أصوم ثلاثًا في كل شهر، وألا أنام إلا على وتر، وأن أصلي ركعتي الضحى، فإنها صلاة الأوابين "، وقد يروى أحاديث كثيرة في الحث على صلاة الضحى وفعلها، وأنه صلى هو: ركعتين، وأربعًا، وستا، وثمانيًا - ما يكثر ذكرها ويطول، ومن صلاها فإنما صلاها على سبيل التطوع، ليس على سبيل اللزوم الواجب والسنة المؤكدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلاها مرة وتركها مرة؛ فكان كصلاة الليل يدرك فاعلها الفضل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) كان الآية هي صلة قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، أي: وقضى -أيضًا- أن تؤتي ذا القربى حقه ومن ذكر، أي: فرض، وحتم، وحكم؛ على اختلاف ما قالوا، وهو كقوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. . .) الآية. أمر - عزّ وجلَّ - ببر الوالدين، والشكر لهما، وصلة ذي القربى، فريضة، ومن ذكر. ثم اختلفوا في قوله: (حَقَّهُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك الحق فريضة، وهو الزكاة؛ حيث جعل تلك صلة ما هو فرض،

(27)

وهو الشكر لله، وجعل العبادة له وشكر الوالدين؛ جزاء لما كان منهما إليه، وقد ذكرنا أن ذلك فرض لازم؛ فعلى ذلك صلة هَؤُلَاءِ؛ إذ صلتهم فريضة؛ لما جاء من المواعيد الشديدة في قطع الرحم، والترغيب في صلتهم. ومنهم من قال: ذلك الحق نفل؛ ألا ترى أنه قال: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)، (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)، وقال: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا) فلا يحتمل ما ذكر من الإعراض عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها في الفرض، دل ائه في النفل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: التبذير والإسراف: واحد، وهو المجاوزة عن الحد الذي جعل في الإنفاق والحقوق، والمجاوزة: عن المحق، إلى غير المحق. روي عن ابن مسعود أنه سئل عن التبذير؛ فقال: إنفاق المال في غير حقه. وكذلك قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: التبذير هو الإنفاق فيما لا ينتفع به. ويحتمل ما ذكرنا أنه يترك الإنفاق على المحق وهم ذوو القربى، وينفق على الأجنبيين. وقوْله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) أي: كانوا أولياء الشياطين. (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا). أي: كفورًا لنعم ربه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) عن الحسن قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يُسأل فيقول: " مَا لآل مُحمدٍ - وَإنَّهُم لَتِسعَةُ أَهْلِ أَبْيَاتٍ - إِلا صَاع مِنْ طَعَام " فأنزل اللَّه تعالى: (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا)، أي: عِدْهم أن

سوف يأتي بالرزق. عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في قوله: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ): إذا سألوك، وليس عندك شيء انتظرت من اللَّه رزقًا يأتيك، (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا): يكون - إن شاء اللَّه - شبه العِدَة. وأمثال هذا قالوه. ويحتمل قوله: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ): إعراض الوجه، ويحتمل إعراض الإجابة؛ فذلك يكون بالاستثقال والاستخفاف، ولما ليس عنده شيء يعطيهم ثانيًا، لكن لا نعرف أن الإعراض كان للاستثقال والاستخفاف، أو لما ليس عنده ما يعطيهم؛ فأمر أن يبين لهم أن الإعراض عنهم ليس للاستثقال والاستخفاف، وكذلك ترك الإجابة لهم، ولكن لما ليس عنده شيء؛ ليعلموا أن الإعراض عنهم ليس للاستخفاف ولا للاستثقال؛ ولكن لما ليس عنده ما يعطيهم، أو يطلب ما يعطيهم، وهو ما قال: (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا). أجمع أهل التأويل أن هذا الإعراض هو السؤال؛ لأنه كان يعرض عنهم لابتغاء ما يعطيهم، فذلك الإعراض يرجع منفعته إلى السؤال. ثم اختلفوا في قوله: (مَيْسُورًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: عِدْهم عِدَةً حسنة: إذا كان ذلك أعطيناك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: عدهم خيرًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قل لهم قولًا لينًا وسهلًا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَيْسُورًا)، أي: حسنًا، وهو من التيسير، ونحو ذلك قالوا، أي:

(29)

اردد عليهم ردًّا حسنًا؛ ليقع عندهم أن الإعراض لما ليس عنده شيء لا لوجه آخر واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) في الإنفاق إذا كان عندك. (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ). فيلومك من رجاك؛ ولكن كما قال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا. . .) الآية، أمر اللَّه أن ينفقوا نفقة ليس فيها سرف ولا إقتار، وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تمسك عن النفقة فيما أمرك ربك به من الحق، ولا تبسطها كل البسط فيما نهاك عنه؛ فتقعد كذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا نهي عن البخل والسرف، فلئن كان هذا نهيًا عن البخل كان قوله: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) نهيًا عن الجود، ولا يحتمل أن ينهى أحد عن البخل والجود؛ لأنهما غريزتان طبعيتان، ولا ينهى أحد عما كان سبيله الطبع والغريزة، ولكن ما ذكرنا - واللَّه أعلم - من كف اليد وقبضها عن الإنفاق في الحق وذي الحق، وبسطها في غير الحق وذي الحق. وقال أبو بكر الأصم: دل قوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) أن قول اليهود: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ): أنهم لم يريدوا حقيقة اليد، ولكن التضييق والتقتير، وكذلك لم يرد بقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) - حقيقة بسط اليد، ولكن أراد التوسيع في الرزق والتكثير؛ ألا ترى أنه قال: (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ). ثم يحتمل الخطاب في هذه الآيات الوجوه الثلاثة التي ذكرنا فيما تقدم في غير موضع: أحدها: أنه خاطب رسوله بذلك كله، وشارك فيه قومه، وفي القرآن كثير أنه خاطب رسوله بأشياء فيشرك قومه في ذلك. والثاني: خاطب كلا في نفسه نحو ما ذكرنا في قوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ)، و (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، وقوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)

(30)

و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، أو (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، ونحوه من الخطابات، خاطب كل أحد في نفسه؛ إذ لا يحتمل أن يخاطب في: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) رسول اللَّه خاصة، ولا يخاطب غيره؛ بل الخطاب به كل الناس وكل إنسان. والثالث: خاطب رسوله على إرادة غيره على سبيل الخصوصية له، نحو ما يخاطب ملوك الأرض خواصهم وأعقلهم من رعيتهم؛ على إرادة ذلك الخطاب غير المخاطبين؛ فعلى ذلك يحتمل هذا، أو أن يكون خاطب بقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) غيره ممن يمسك، ويخاطب بقوله: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) رسول اللَّه؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يحتمل أن يكون ما ذكر، وقد يحتمل البسط؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا). يحتمل قوله: (مَلُومًا): عند نفسك وعند الناس، تلوم نفسك بأنك: لم أنفقت؟! وعند الناس: لما لَم تجد ما تنفق عليهم، وعند اللَّه -أيضًا- إذا أنفقت في غير حق. (مَحْسُورًا): قَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: تحسرك العطية وتقطعك، كما يحسر السفرُ البعيرَ فيبقى منقطعًا: وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من الحسرة، وهي الندامة، يقال: حسر الرجل فهو محسور، وقال: التبذير: الفساد، و (مَلُومًا)، أي: ملومًا محزونًا. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) أي: هو يوسع الرزق على من يوسع، وهو يقتر ويضيق على من يضيق ويقتر، أي: ذلك إلى اللَّه لا إلى الخلق؛ ليقطعوا الرجاء من الخلق، ويروا ذلك من اللَّه لا يرون من غيره. والثاني: ذكر هذا؛ ليدوم الفضل لمن ذكر الفضل، ويتبين لهم حيث قال: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا). ومن الناس من قال بأن قوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) صلة قوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)، يقول - واللَّه أعلم - إنك إن منعته وحرمته، وكان في تقدير اللَّه التوسيع عليه والبسط - لم يضره منعك ولا حرمانك، ولو وسعت عليه وبسطت، وكان في تقديره التضييق والتقتير لم ينفعه بسطك ولا توسيعك؛ ليعلموا أن التوسيع والبسط، والتضييق والمنع من اللَّه، أو ذكر ليقطعوا الرجاء من الخلق

(31)

ويطمعوا في رحمته وفضله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا). أي: عالما بأعمالهم، بصيرًا بمصالحهم وما لهم وما عليهم، أو أن يكون الخبير والبصير واحدًا، أو ذكر هذا؛ ليعلم أنه على علم بما يكون - منهم أنشأهم -: من الخلاف لأمره والرد والتكذيب لرسله، ولم يخرج فعله وإنشاؤه إياهم على علم بما يكون منهم عن الحكمة؛ لأنه لا منفعة له في طاعتهم إياه وائتمارهم، ولا مضرة ولا منفعة في خلافهم إياه؛ بل المضرة والمنفعة في ذلك راجعة إليهم، لذلك كان إنشاؤه إياهم على علم بما يكون منهم حكمة، ومن ملوك الأرض سفهاء وجهلاء؛ لأن ما يرسلون من الرسل، ويعملون من الأعمال، ويسعون لمنافع أنفسهم، ولدفع مضارّهم؛ فإذا فعلوا شيئًا يضرهم - على علم منهم بالضرر - كان ذلك سفها، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ). قال أبو بكر الأصم: إن من عادة العرب أنهم كانوا يقتلون البنات ويقتلون البنين؛ إذا صاروا بحيث لا ينتفعون بهم، ويقتلون الآباء والأمهات؛ إذا بلغوا أرذل العمر؛ فنهى الله أهل الإسلام عن الاستنان بسنتهم، وأمر أن يبزوا الآباء والأفهات إذا بلغوا ذلك المبلغ، وهو ما لمحال: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا. . .) إلى آخر ما ذكر. وفي قتل ما كانوا يقتلون من البنات قطع التناسل والتوالد الذي كان المقصود من إنشاء هذا العالم؛ ذلك إذ المقصود من إنشاء العالم هذا الذي ذكرنا، وفي قتل البنات قطع ذلك وذهاب المقصود من إنشائه، ثم قال:

(32)

(نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ). أي: هم لا يأكلون من أرزاقكم؛ بل لكل منكم رزق على حدة، ليس في بقائهم نقصان في رزقكم ولا في فنائهم زيادة؛ بل كل يأكل رزقه، أو لا ترون أنه قد أنشأ لهم رزقًا لا شركة لكم فيه، وهو ما أنشأ لهم من اللبن في الضرع، ولا تنتفعون أنتم به؟! فظهر أن كلَّا يأكل رزقه، لا يُدْخِل بعضٌ في رزق بعضٍ نقصانًا. ثم قال: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) أي: إن قتلهم في العقول كان خطأ كبيرًا، لما ذكرنا أن في قتلهم قطع ما به قصد في إنشاء هذا العالم وفنائه، أو يقول: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا): في الأمم الخالية. ويشبه أن يكون خطاب ما خاطب هَؤُلَاءِ الآيات: من قتل الأولاد، والزنى، وقتل النفس بغير حق، وغير ذلك ما تقدم وما تأخر؛ لوجهين: أحدهما: ما كان للعرب أفعال وعادات السوء مما يخرج على السفه والقبح في العقل، خارجة عن الحكمة تنهاهم عن ذلك. والثاني: ذكر هذا ونهى؛ لما علم أنه قد يكون في خلقه من يفعل ذلك خشية ما ذكر، ويحملهم ذلك على ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) أي: في العقل كان وقت ما كان فاحشة؛ لأن في إباحة الزنى ذهاب المعارف التي بها يوصل إلى الحكمة والعلم، أو كان فاحشة في الحكمة؛ ألا ترى أنه قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ): دل قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) - على أن هنالك فحشاء قبل الأمر في الحكمة أو في العقل، حتى قال: (لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)؛ إذ لو لم يكن - لكان قال: لا يأمر، حسب، وفي إباحة قتل الأنفس ذهاب ما به قصد من إنشاء العالم. أخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: في قتل الأولاد أنه، (كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا)، وهو ما يعظم في العقل، وذكر في الزنى فاحشة، وهو ما يفحش في العقل والحكمة، وذكر في قتل النفس الإسراف، وقال: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)، والإسراف هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له. ويحتمل قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا)، أي: لا تزنوا؛ فإنه كان فاحشة، ويحتمل: لا تقربوا الأسباب التي بها يوصل إلى الزنى.

(33)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) والحق ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئ مُسْلِمٍ إِلا فِي ثَلاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أوْ قَتْلِ نَفْسٍ بغَيرِ حَقٍّ ". حرم اللَّه قتل النفس بغير حق؛ إذ في إباحته ذهاب ما قصد من إنشاء هذا العالم، وفي التحريم حياة الأنفس، وفي إباحة الزنى ذهاب المعارف وجهالتها، وفي تحريمه: حياة المعارف وإبقاؤها. والوصول إلى الحكمة والعلوم التي يطلب بعضهم من بعض؛ إذ لا يعرف أهل الحكمة من غيرهم؛ ففي ذلك ذهاب العلوم والحكمة. وفي القتل على الذين - إذا استبدله - حياة الذين؛ لأن من تفكر قتل نفسه إذا ترك الذين - أعني دين الإسلام - ورجع عنه، لم يترك دينه الإسلام، ومن تفكر رجمه بالزنى - امتنع عن الزنى وتركه، ومن تفكر أنه يُقْتَل إذا قَتَلَ غيرَهُ - امتنع عن قتله؛ ولذلك قال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ). فَإِنْ قِيلَ - في المرأة إذا ارتدت عن الإسلام -: إنها لا تقتل. قيل: لأنه ليس في قتلها حياة الذين؛ لأن النساء أتباع للرجال في الدِّين؛ لأنهن يسلمن

بإسلام أزواجهن ويصرن ذمة بذمة الأزواج؛ فإذا كان كذلك - فليس في قتلهن حياة؛ ألا ترى أنه روي أنه فلانًا أسلم وأسلم معه كذا وكذا نسوة؟! واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ): والحق ما ذكرنا، وقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ) يحتمل بالإسلام، أو بالذمّة بإعطاء الجزية، وإلا بالحق: ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا). قيل: سلطانًا، أي: تسلطًا وقهرًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سلطانًا، أي: حجة على القتل فيما يستوجب به القصاص. ثم ذكر أنه جعل لولى القتيل سلطانًا، ولم يذكر أي ولي؛ فيشبه أن يكون المراد من الولي الذي يخلف الميت في التركة، وهم الورثة؛ إذ هو حق كغيره من الحقوق؛ فذلك إلى الورثة، فعلى ذلك حق الدم، فكأنه قال: ومن قتل مظلومًا قد جعلنا لورثته سلطانًا، أي: حجة فيما يستوجب. وفي ظاهر هذه الآية دلالة أن للواحد من الورثة القيام باستيفاء الدم؛ إذ لو كان للكل الاستيفاء لدخل في ذلك الإسراف الذي ذكر: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)؛ إذ لو ضر به كل الورثة لصار في ذلك مثله، وقد منعوا عن ذلك، فإذا كان ما ذكرنا كان في ذلك دلالة لقول أبي حنيفة - رحمه اللَّه، حيث قال -: إن الورثة إذا كان بعضهم صغارًا وبعضهم كبارًا كان للكبار أن يقوموا بالاستيفاء دون أن ينتظروا بلوغ الصغار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يقتل غير قاتل؛ وذلك إذ كان من عادة العرب قتل غير القاتل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) أي: لا يجاوز الحد الذي جعل له في القصاص من المثلة والقطع والجراحات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)، أي: في القتل الأول؛ حيث قتل نفسًا بغير حق، فذلك إسراف؛ كما قال: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا).

وقوله: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) هذا يحتمل أن يكون خاطب به ولي القتيل فقال: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)، أي: لا يُجاوز الحد الذي جعل له؛ على ما روي: " إذَا قَتَلْتَ فَأَحْسِنِ القَتْلَ "، والثاني خاطب به القاتل: يقول له لا تقتل؛ فإنه إسراف، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: إن المقتول كان منصورًا بالولي ينصره الولي؛ بقوله: (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا). ويحتمل منصورًا بالمسلمين، أي: على المسلمين وغيرهم دفع ذلك الؤشل عنه؛ هذا على تأويل من يتاول في قوله: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) - قَتْلَ غير قاتل وليه، أو يزيد في جراحاته، ويمثل مثلًا بقول: احذروا ذلك؛ فإن على المسلمين دفع ذلك عنه، أو كان منصورًا في الآخرة. وفي ظاهر هذه الآية دلالة أن القصاص واجب بين الأحرار والعبيد، وبين أهل الإسلام وأهل الذمة؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)؛ فكانت أنفس أهل الذمة والعبيد داخلة في هذه الآية؛ لأنها محرمة وفيه ما ذكرنا أن للكبير من الورثة قتله، وإن كان فيهم صغار. وروي أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل قاتل أبيه فلانًا، وفي الورثة صغار لم يدركوا يومئذ. ويحتمل أن يكون (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) في ظاهر هذا: أن القاتل هو كان منصورًا، ثم

(34)

إنه قال: (كَانَ مَنْصُورًا): هو منصور، فجائز أن يقول: (كَانَ مَنْصُورًا)، قيل: قتل هذا إذا كان على المسلمين مضرة، فلما قتل كان غير منصور، إلا أن يقال: إن الولي صار منصورًا، وذلك جأئز وفي قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا): يحتمل النهي عن نفس الزنى، ويحتمل أسباب الزنى: من نحو القُبْلة، والمس، وغيره؛ على ما ذكر: " العَينَانِ تَزْنِيَانِ، واليدانِ تَزْنِيانِ، والْفَرجُ يُصَدِّقُ ذلكَ كُلَّه أو يُكَذِّبُ ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) قوله: (أَحسَنُ): هو أفعل، فإن كان في الأشكال فهو على غاية الحسن، وإن كان في الجوهرين فهو على طلب الحسن؛ كقوله: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: اتبعوا ما هو طاعة؛ كأنه قال: ولا تقربوا مال اليتيم إلا ما هو خير له وحسن، وهو ما قال: (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا)، يقول: لا تأكلوا إسرافًا وبدارًا، ولكن اقربوا ما هو خير له. وإن كان على طلب الغاية من الحسن، فهو ما قال أبو حنيفة - رحمه اللَّه -: اذا قرب مال اليتيم لمنفعة نفسه فلا يقربه إلا لمنفعة حاضرة لليتيم، لا يقرب ماله لمنفعة جوة، وإذا قرب مال اليتيم لليتيم فإنه يجوز أن يقربه لمنفعة مرجوة له، وإن لم يكن فيه منفعة حاضرة، وقد ذكرنا تأويله وما فيه من الدلالة بقول أبي حنيفة - رحمه اللَّه - فيما تقدم في سورة الأنعام. ثم من الناس من احتج بهذا الآية لقول أبي حنيفة حيث قال: إن للوصي أنْ يبيع مال اليتيم من نفسه إذا كان خيرًا له لأن له أن يبيع من غيره بمثل قيمته؛ فدلّ أن ذكر الخير له إذا كان يبيع من نفسه. وقوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ): كأنه على الإضمار، أي: لا تقربوا مال اليتيم إلا بالوجوه التي هي أحسن له وأنفع، وهو الحفظ له وطلب الربح والنماء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي حتى يستحكم عقله ويستتم تدبيره في ماله وأمره؛ فعند ذلك يكون الأمر

(35)

إليه، وليس فيه أنه لا يكون بعد ذلك الأمر إلى الوصي إن كان؛ ولكن بإذنه يبيع ويشترى. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا). يحتمل أن يكون قوله: (بِالْعَهْدِ) - العهود والمواثيق التي بين الناس أمروا بوفاء ذلك، ويحتمل الأمر بوفاء العهد ما ذكر في هذه الآيات من الأمر والنهي: من نحو ما قال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، إلى هذا الموضع، أي: وأوفوا بذلك كله؛ فإن ذلك كله كان مسئولا يُسأل عنه: وفاء كان ذلك أو نقضًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، أي: ناقض العهد كان مسئولا، ثم إن العهد على وجوه: أحدها: عهد خِلْقة، أو العهد الذي أخذ عليهم على ألسن الرسل أو العهد الذي يجري بين الناس؛ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) أمر بتوفير الكيل إذا كالوا والوزن إذا وزنوا لهم، وإيفاء حقوقهم، وهو ما قال: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)، إن من عادتهم إذا كالوا أو وزنوا يبخسون الناس أشياءهم، ولم يوفروا حقوقهم؛ فنهاهم عن ذلك، وأوعدهم بالوعيد الشديد، وهو قوله: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3). ذِكْرُ تخصيص للكيلي والوزني من بين سائر الأشياء يحتمل وجهين: أحدهما: لما بهما يجري عافة معاملة الناس؛ فأمرهم بإيفاء ذلك. والثاني: لخوف الربا؛ لأن الكيلي والوزني هما اللذان يكونان دَيْنا في الذمة؛ فإذا أخذ شيء منهما أخذ عما كان دينا في الذمة، فإن نقص أو زاد فيكون ربا؛ لذلك خص، وإن كان غيره من الأشياء يؤمر بالإيفاء واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: القسطاس: حرف أخذ من الكتب السالفة ليس بمعرفة، وقال بعضهم: هو العدل، أي: زنو ابالعدل، وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الميزان؛ كقوله: (وَأَوْفُوا

(36)

الْكَيْلَ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِالْقِسْطَاسِ): القبان؛ فكيفما كان ففيه ما ذكرنا: من الأمر بتوفير الكيل والوزن، والإيفاء لحقوقهم، والنهي عن البخس والنقصان. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا). يحتمل قوله: (ذَلِكَ خَيْرٌ) - ما ذكر من توفير الكيل والوزن وإيفاء الحقوق - خير في الدنيا؛ لما فيه أمن لهم من النا. (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)، أي: أحسن عاقبة في الآخرة، ويحتمل قوله ذلك - ما ذكر في هذه الآيات من أولها إلى آخرها: إذا عملوا بها خير لهم في الدنيا وأحسن تأويلًا، أي: عاقبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) قيل: لا تقف، أي: لا -، وقيل: لا تَرْمِ، وقيل: لا تتبع؛ فكيفما كان - ففيه النهي عن القول والرميْ لا علم له به، ولا ترم ما ليس لك به علم، ولا تقل ما ليس لك به علم. (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (كُلُّ أُولَئِكَ) يعني: الشمع والبصر والفؤاد - يُسأل عما عمل صاحبه؛ كقوله: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ. . .) الآية، وقوْله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ)، تُسأل هَؤُلَاءِ عما عمل صاحبها؛ فيشهدون عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو عن كل أُولَئِكَ كان مسئولاً، أي: يسأل المرء عما استعمل هذه الجوارح؛ وأنه: فيم استعملها. وقَالَ بَعْضُهُمْ، قوله: (أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ): يعني الخلائق جميعًا، (عَنْهُ): يعني عما ذكر من السمع والبصر والفواد (مَسْئُولًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، يقول: لا تقل: رأيتُ،

ولم تر، وسمعتُ، ولم تسمع، وعلمتُ، ولم تعلم. ومنهم من قال: في شهادة الزور؛ فإن احتج محتج بهذا في إبطال القياس والاجتهاد؛ فيقول: إذا قاس الرجل فقد قال ما ليس له به علم، لكن ليس كذا؛ لأن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد تكلموا في الحوادث بآرائهم، وشاوروا في أمورهم، وولى أبو بكر عمر - رضوان اللَّه عليهما - الخلافة بغير نصٍّ من الرسول عليها، وجعلها عمر شورى بينهم، ولم يُروَ ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا نقول: إنهم فعلوا ذلك بغير علم، ولا: قالوا ما لم يعلموا؛ فدل ما ذكرنا أن معنى قول اللَّه - تعالى -: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) - ليس يدخل فيه الاجتهاد في الأحكام، وتشبيهه الفرع الحادث بالأصل المنصوص عليه، واللَّه أعلم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)، أي: يتناهى في الثبات إلى حال الرجال، ويقال: ثماني عشرة سنة، وقال: أَشُدُّ اليتيمِ غير أشدِّ الرجل في قوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)، والأشد ما ذكرنا من استحكام عقله وتدبيره إلى ألا يؤخذ بالنقصان، وهو إذا جاوز أربعين يأخذ في النقصان، وإلى أربعين يكون على الزيادة والنماء. ويحتمل قوله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ)، أي: لا تقف ما ليس لك به علم بأسباب العلم، وهو ما ذكر من السمع والبصر، وجائز أن يكون: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا): يسأل عن شكر هذه الأشياء، أو يسأل عما امتحن بهذه الأشياء. وفي قوله: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) - دلالة جواز الاجتهاد؛ لأنه أمر بإيفاء الكيل والوزن، ولا يقدر على ذلك إلا باجتهاد الكائل والوازن؛ لأن كيل الرجل يزيد على كيل غيره وينقص، وربما كال الرجل الشيء ثم يعيد كيله هو بنفسه فيزيد أو ينقص، ولا يكاد يستوي الكيلان وإن كانا من رجل واحد، وإنما يكلف الاجتهاد في كيله وترك التعمد للزيادة أو النقصان فيه؛ فإذا فعل ذلك فقد وفر الكيل وأدى الواجب،

(37)

وهذا عندنا أصل الاجتهاد والاستحسان؛ لأن الكائل إنما يجتهد في توفيته الحق، ولا يعلم يقينًا أنه وفي ما كان عليه من الكيل الذي سمياه في العقد؛ فعلى ذلك الاستحسان إنما هو اجتهاد العالم في اختيار أحسن ما يقدر عليه إذا لم يكن للحادثة أصل يردها عليه ويشبهها به، واللَّه أعلم. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) ليس النهي عن المشي نفسه؛ إنما النهي للمشي المرح، ثم النهي عن الشيء يوجب ضده، وكذلك الأمر، ثم إن النهي عن الشيء يوجب الأمر بضده؛ والأمر بالشيء يوجب النهي بضده، وهاهنا نهي عن المرح؛ فيكون أمرًا بما ذكر؛ كقوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: مرحًا: بطرًا وأَشَرًا، وقيل: متعظمًا متكبرًا بالخُيَلاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر خرق الأرض وبلوغ الجبال طولًا؛ لأن من الخلائق من يخرق الأرض ويدخلها، ويبلغ طول الجبال، وهم الملائكة، ثم لم يتكبروا على اللَّه ولا تعظموا عليه ولا على رسوله؛ بل خضعوا له؛ فمن لم يبلغ في القوة والشدّة ذلك - أحرى أن يخضع له ويتواضع ولا يتكبر. ويحتمل أن يكون ذكر هذا؛ لما أنهم كانوا يسعون في إطفاء هذا الدِّين، وقهر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فيقول: كما لم يتهيأ لكم خرق الأرض وبلوغ الجبال طولًا - لم يتهيأ لكم إطفاء دين اللَّه، وقهر رسوله، وهو ما ذكر: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ)، أو يذكر هذا يقول: إنك لن تبلغ بكبرك وعظمتك مرتبة الرؤساء والقادة ومنزلتهم، على هذا التمثيل يحتمل أن يخرج، واللَّه أعلم. أو يقول: إنك لن تخرق الأرض، أي: لا تقدر أن تخرق الأرض؛ فتستخرج ما فيها من الكنوز والمنافع؛ فتنتفع بها، ولا تقدر أن تبلغ الجبال طولًا؛ فتنتفع بما في رءوس الجبال من المنافع، وكيف تتكبر وتمرح على غيرك، وهو مثلك في القوّة والشدّة. وأصل الكبر أن من عرف نفسه على ما هي عليه من الأحداث والآفات وأنواع الحوائج - لم يتكبَّر على مثله، واللَّه أعلم.

(38)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) أي: كل ما أمر اللَّه به ونهى عنه في هَؤُلَاءِ الآيات. (كَانَ سَيِّئُهُ). بالعقل. (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا): مسخوطًا، وفيه دلالة أن الأمر الَّذِي أمر في هذه الآيات ونهاهم عنه - لم يكن أمر أدب ولا نهي أدب، ولكن أمر حتم وحكم؛ حيث ذكر أن ذلك عند ربك: (مَكْرُوهًا)؛ إذ لو كان أدبًا لم يكره أي شيء ما ذكر في مكروه عند ربك، وهو كقوله: (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي: يسمعون الكل؛ فيتبعون أحسنه، ويتركون غيره؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أي: ذلك الذي أمر اللَّه به ونهى عنه في هَؤُلَاءِ الآيات من الحكمة - ليس من السفه، أي: ما أمر فيها هو حكمة وما نهى عنه إنما نهى عنه؛ لأنه سفه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة - هاهنا - القرآن، قوله: (ذَلِكَ)، أي ذلك الذي أوحى إليك هو حكمة، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة: الإصابة، أي: ذلك الذي أوحى إليك صواب. وقوْله: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)، أي: ما ذكر في هذه الآيات وأمر به ونهى عنه - هو من الحكمة، والحكمة: هي وضع الشيء موضعه، يقول: حكمه: وضَع الشيء موضعه لا وضَع الشيء غير موضعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا). معلوم أن رسول اللَّه لا يجعل معه إلهًا آخر؛ إذ عصمه واختاره لرسالته، لكنه ذكر هذا ليعلم أنه لو كان منه ذلك فيفعل به ما ذكر؛ فمن هو دونه أحق أن يفعل به ما ذكر، وهو ما قال في الملائكة: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ. . .) الآية. أنه عصمهم حتى أخبر أنهم: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)؛ فمن لم يكن معصومًا - لم يوصف أنه لا يسبق بالقول؛ فعلى ذلك قوله: (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا): عند اللَّه، أو عند نفسك، أو عند الخلق.

(40)

(مَدْحُورًا): مبعدًا مطرودًا من رحمته في النار، أو: خاطب به رسوله، وأراد به غيره؛ على ما ذكرنا في غير موضع، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا). يخبر من سفه مشركي العرب أنهم نسبوا إلى اللَّه البنات، والبنين إلى أنفسهم - بقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)، والذي حملهم على ذلك قول أهل الكتاب؛ حيث وصفوا اللَّه بالولد؛ فرأوا أن ما يكون له الولد يكون له البنات؛ فقال: (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا). لم يزد على هذا العظيم ما قالوا في اللَّه؛ فلم يضرب لقولهم ذلك مثلًا؛ لما ليس وراء ذلك مثل يضرب؛ لأنه ضرب مثل ما قالوا بالولد له بانفطار السماء، وانشقاق الأرض، وخرور الجبال؛ حيث قال: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا. . .) الآية: أخبر أن السماوات وما ذكر كادت أن تنقلب عن وجهها؛ لعظيم ما قالوا في اللَّه من الولد. وقال في الشريك: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ. . .) الآية، فهذا غاية ما ذكر من الأمثال لمن قال له بالولد والشريك؛ فليس وراء هذا يذكر لمن قال له البنات، ولكن قال: (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا) لم يزد على ذلك؛ لأن الذي قالوا له ونسبوا إليه نهاية في السفه والسرف في القول، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرًا. أو يقول: (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا): في عقولكم، لو تفكرتم وتدبرتم لعلمتم أن ما قلتم في اللَّه - سبحانه وتعالى - عظيم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ)، أي: أعطاكم ربكم؛ يقال: أصفيته: أي: أعطيته، وأصفاكم، أي: اختاركم.

(41)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قال الحسن: قوله: (صَرَّفْنَا) - يقول: بيّنا في هذا القرآن ما نزل بمكذبي الرسل من الأمم الخالية؛ بتكذيبهم الرسل أفة قائمة؛ (لِيَذَّكَّرُوا): ما نزل بهم؛ فينتهوا عن تكذيبهم الرسل، (وَمَا يَزِيدُهُمْ): ما بين لهم. (إِلَّا نُفُورًا) أي: تكذيبًا للرسل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ولقد صرفنا في هذا القرآن، أي: بيَّنَّا في هذا القرآن والآيات التي تقدم ذكرها - جميع ما يؤتى ويتقى، وما لهم وما عليهم؛ ليعتبروا به، فيؤمنوا، وما يزيدهم القرآن إلا تباعدًا من الإيمان به، وهو ما ذكر: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: صرفنا في هذا القرآن من المواعيد الشديدة أنه ما ينزل بهم في الآخرة من العذاب والعقوبة؛ بصنيعهم وتكذيبهم الرسل، لكن إذ لم يؤمنوا بالآخرة، لم يزدهم ذلك الوعيد إلا نفورًا وبعدًا؛ فإن اللَّه قد ذكر في القرآن المواعظ الكثيرة: ما لو نظروا فيه وتأملوا لكانت تمنعهم وتزجرهم عن مثل صنيعهم، لكن لم ينظروا إليه بالتعظيم؛ ولكن نظروا إليه بالاستهزاء والاستخفاف به؛ لذلك أضيف زيادة النفور إليه، أو أضاف ذلك إليه؛ لما أحدثوا بنزوله الكفر والتكذيب له؛ فأضاف ذلك إليه لما ازداد لهم التكذيب، وحدث لهم الكفر به إذا نزل، كما كان لأهل الإسلام يزداد لهم الإيمان واليقين إذا نزل. وجائز أن يكون قوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا)، أي: يَشْرُفوا؛ كقوله: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، أي: شرفكم، أو ليذكروا ما نسوا وتركوا وغفلوا عنه. ثم قوله: (صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا)، معناه - واللَّه أعلم -: أنزله؛ ليلزمهم الذكر، أو ليكون عليهم، أو ليأمرهم بالذكر، وهو ما ذكرنا في قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي: ليلزمهم العبادة والطاعة، أو ليأمرهم بالعبادة والطاعة، أو أرسل وخلق لمن علم منه العبادة والطاعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَذَّكَّرُوا)، أي ليكون لهم الذكرى بذلك؛ لأنه لا يحتمل أن يبيِّن لهم ويجعل لهم بيانًا؛ لِيَذَّكَّرُوا، ثم لا يكون؛ ولكن ما ذكرنا ليكون لهم الذكرى، وقد كانت لكن لم تنفعهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّّ -: (وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا):

(42)

ليس القرآن بالذي يزيدهم نفورًا، ولكن لما نظروا إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء زاد لهم بذلك نفورًا عندهم وتكذيبًا، وإلّا: القرآن لا يزيد إلا هدى ورشدًا؛ على ما وصفه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) قال عامة أهل التأويل: في الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها، أي: لو كانت هي آلهة معه كما تقولون إذًا لابتغوا التقرب والزُّلْفَى إلى ذي العرش سبيلًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو كانت لهم عقول لابتغت، وأمكن لها من الطاعة والعبادة إذًا لابتغت إلى ذي العرش سبيلًا بالطاعة له والعبادة، وهو ما قال في الملائكة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) الآية، لكن الأشبه أن يكون اللَّه - تعالى - ألا يقول في الأصنام مثل هذا: لو كان معه آلهة، إنما هي خشب، لكن قال فيها ما قال: لا تسمع ولا تعقل ولا تبصر، وما ذكر في آية أخرى: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، وما قال: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا. . .) الآية: مثل هذا أن يقال في الأصنام، وأمّا ما ذكر: (لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ. . .) الآية، معلوم أنها ليست من أهل الابتغاء، إلا أن يقال ما ذكر بعضهم، أي: لو كانت الأصنام التي تعبدونها آلهة؛ على ما تزعمون، إذًا لابتغوا إلى الله سبيلًا، بالطاعة لو لم يكن لهم ذلك، وكانوا من أهلها، لكن الأشبه - إن كان - فهو في الذين يعبدون الملائكة، ويتخذونهم معبودًا أو في الذين يقولون بالعدد الذين لهم تدبير، أو الذين يقولون بقدم العالم وأصوله؛ فهو يخرج على وجوه، فنقول - والله أعلم -: (لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا)، أي: إذًا لأظهروا دلالة ربوبيتهم وألوهيتهم بإنشاء الخلائق، كما أظهر اللَّه - سبحانه - ألوهيته وربوبيته بما أنشأ الخلائق، ولم يظهر ممن يدعون لهم ألوهيته إنشاء شيء من ذلك فدل أنه ليس هنالك إله غيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا)، أي: صاروا كهَؤُلَاءِ: يعني اللَّه، أي: في الإنشاء والإفناء والتدبير، ومنعوه عن إنفاذ الأمر له: في خلقه، والمشيئة له فيهم، واتساق التدبير؛ فإذ لم يكن ذلك منهم دل أنه لا إله معه سواه؛ ولكون كقوله: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو كان معه آلهة كما يزعمون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا،

(43)

في القهر والغلبة؛ على ما عرف من عادة الملوك بالأرض: أنه يسعى كل منهم في غلبة غيره وقهر آخر ويناصبه؛ كقوله: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، أي: غلب وقهر وناصب. ويحتمل غير هذا، وهو أن يمنع كل منهم أن يكون لله الواحد بالخلق دلالة ألوهية وربوبية، وجهة الاستدلال له بذلك؛ فإذا لم يمنعوا ذلك دلّ أنه لا ألوهية لسواه، وهو الأول بعينه. وقال بعض أهل التأويل: لعرفوا فضله ومرتبته عليهم، ولابتغوا ما يقربهم إليه، وقيل: ولابتغت الحوائج إليه، وهذا هو الذي ذكرناه بدءًا من طلب الطاعة له. وقوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) نزه نفسه وبرأها عما يقول الملحدة فيه ووصفوه بالشركاء والأشباه والولد وما لا يليق به؛ فقال: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا). ثم قال: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) ثم يحتمل تسبيح ما ذكر وجهين: أحدهما: جعل اللَّه - تعالى - في خلقه السماوات والأرض وما ذكر دلالة على وحدانية اللَّه وألوهيته، وشاهدة له أنه واحد لا شريك له ولا شبيه؛ فإن كان على هذا فيدخل فيه كل شيء: ذو الروح وغيره؛ فيكون قوله: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ): الكفرة خاصة، وأمَّا أهل الإسلام يفقهون ذلك. والثاني: أنه جعل اللَّه في سرية هذه الأشياء ما ذكر من التسبيح والتنزيه، لكن لا نفقه نحن ذلك ولا نفهمه؛ عليّ ما أخبر: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). وهي لا تعرف - أيضًا - أن ذلك تسبيح على ما جعل في الجوارح والأعضاء تسبيحًا وعبادة له، وإن كانت هي لا تعرف ذلك أنه تسبيح. والئاك: أنه جعل صوت هذه الأشياء تسبيحًا له حقيقة على معرفة هذه الأشياء أنه تسبيح، وإن كان لا يعرف ذلك إلا خواص من الناس، وهم الأنبياء، واللَّه أعلم. وقوْله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا). الحليم: هو ضد السفيه، والثاني: يقال حليم: ليس بعجول، أي: لا يعجل بالعقوبة.

(غَفُورًا) إذا تابوا، أو (غَفُورًا) حيث ستر عليهم فضائحهم، الحلم ما ذكرنا: ضد السفه والعجلة. ذكر هاهنا على أثر ما ذكر منهم من القول الوخش فيه والعظيم أنه حليم؛ ليعلموا أنه عن علم لم يأخذهم بالعقوبة عاجلًا، و (غَفُورًا)؛ ليعلموا أنهم، وإن أعظموا القول فيه؛ يغفر لهم ويتجاوز عنهم إن رجعوا وتابوا. فإن قال لنا ملحد: إنكم تصفون ربكم بالحلم والرحمة، ثم تقولون: إنه يعذب أبد الآبدين في النار بكفر كان منه؛ فأنى يكون فيه رحمة أو حلم؟! قيل: إنكم لا تعرفون ما الحلم وما الرحمة، ولو عرفتم - ما قلتم ذلك، ولو لم يعذب على الكفر أبد الآبدين لم يكن حليمًا ولكن سفيهًا، وكذلك الرحمة، وليس خروج الشيء على غير موافقة الطبع بالذي يخرج صاحبه عن حد الحكمة والرحمة، فأنتم إنما تصورتم الحكمة والرحمة على موافقة طباعكم، وليس كذا. وكذلك يقال للمعتزلة؛ حيث قالوا: إنه لا يعقل إلا ما هو أصلح لنا في الدِّين؛ لأنه جواد؛ فلو منع الأصلح والأخْيَر لم يكن جوادًا موصوفا بالجود، وإنما قدرتم وقلتم على ما وافق طباعكم وأنفسكم، ولو عرفتم حقيقة الجود ما قلتم ذا ولا خطر على بالكم شيء من ذلك، وإنما على اللَّه أن يختار لكل ما علم منه أنه يختار ويؤثر؛ لأنه لا يجوز أن يختار الولاية لمن علم منه أنه يختار عداوته، وكذلك لا يجوز أن يختار العداوة لمن علم منه أنه يختار ولايته، وليس على اللَّه - تعالى - حفظ الأصلح لأحد في الذين؛ بل عليه حفظ ما يوجبه الحكمة والربوبية. وفي ذكر تسبيح ما ذكر من جميع الموات على أثر ما ذكر من قول أُولَئِكَ الكفرة من وصف اللَّه - تعالى - بالولد والشركاء، ونحوه يخرج على وجوه: أحدها: يذكر سفههم؛ أنهم مع ادعائهم العقل والعلم والتمييز والسؤدد - وصفوا الله بالذي لا يليق به، وما يسقط الألوهية والربوبية عنه، على زعمهم، فالذين ليس لهم شيء من ذلك التمييز والفهم والعقل نزهوه عن ذلك كله وبرءوه عن جميع ذلك. والثاني: ذكر تسبيحهم على أثر ذلك؛ ليعلم أنه لا حاجة إلى تسبيحهم، ولا منفعة له في ذلك أن سبح له جميع الخلائق سواهم؛ بل منفعة تسبيحهم ترجع إليهم. والثالث: ذكره لإثبات الرسالة للرسل؛ لأنهم ذكروا تسبيح الموات، ولا يفهم ذلك ولا يعقل إلا بوحي من السماء؛ فذلك يدل على الرسالة. فعلى هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا يجوز ذكر تسبيح ما ذكر على أثر ما ذكر، وكذلك ذكر سجود الموات يخرج على هذه الوجوه التي ذكرناها، واللَّه أعلم.

(45)

قوله تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الكفرة كانوا يمنعون رسول اللَّه عن تبليغ الرسالة إلى الناس وقراءة ما أنزل إليه من القرآن عليهم، وقد أمر بتبليغ الرسالة، فأنزل اللَّه عليه هذه الآية، فأخبر أنه جعل بينه وبين أُولَئِكَ حجابًا مستورًا، ومكن له التبليغ إليهم بالحجاب الذي ذكر، ثم اختلف في ذلك الحجاب: قَالَ بَعْضُهُمْ: شغلهم في أنفسهم بأمور وأشغال حتى بلغ إليهم. ومنهم من يقول: ألقى في قلوبهم الرعب والخوف حتى لم يقدروا على منع ذلك. ومنهم من يقول: صيرهم بحيث كانوا لا يرونه، ويستمعون قراءته وتلاوته، ولم يقدروا على أذاهم به والضرر عليه؛ فبلغهم. وجائز أن يكون ما ذكر من الحجاب هو حجاب الفهم؛ وذلك أنهم كانوا ينظرون إليه بالاستخفاف والاستهزاء به، فحجبوا عن فهم ما فيه، وهو كقوله (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. . .) الآية، يدل على ذلك قوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ. . .) الآية. ثم قال الحسن في قوله: (جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا)، أي: طبع على قلوبهم حتى لا يؤمنوا ومذهبه في هذا أنه يقول: إن للكفر حدًّا إذا بلغ الكافر ذلك الحد طبع على قلبه فلا يؤمن أبدًا، واستوجب بذلك العقوبة والإهلاك بالذي كان منهم، إلا أن اللَّه بفضله أبقاهم؛ لما علم أنه يولد منهم من يؤمن، أو يبقيهم لمنافع غيره، وإلا قد استوجب الهلاك، فيقول الحسن: أضاف ذلك إلى نفسه لما استوجبوا هم بفعلهم. وقال أبو بكر الأصم: أضاف ذلك إليه؛ لأنهم أنفوا عن اتباع الرسل وتكبروا عليهم فاستكبروا، لكن نقول له: الاستكبار الذي ذكرت فعلهم، لا فعل اللَّه؛ فما معنى إضافة ذلك إليه؟! فهو خيال وفرار عما يلزمهم في مذهبهم. وقال جعفر بن حرب: في الآية إضمار؛ لما هم أضافوا ذلك إليه أنه هو جعل كذلك،

(46)

وهو ما قالوا: (قُلُوبنُا في أَكِنَّةٍ)، و (قُلُوبُنَا غُلْفٌ)، ونحوه من الخيال؛ فلو جاز صرف هذه الآيات إلى ما ذكروا من الخيال لجاز لغيرهم صرف الكل إلى مثله؛ فهذا بعيد، ولكن عندنا أن إضافة ذلك إلى نفسه تدل على أن له فيه صنعًا وفعلًا، وهو أن يخذلهم باختيار ما اختاروا هم، أو أضاف ذلك إليه؛ لما خلق ظلمة الكفر في قلوبهم، وهذا معروف في الناس: أن من اعتقد الكفر يضيق صدره ويَحْرج قلبه؛ حتى لا يبصر غيره، وهو ليس يعتقد الكفر لئلا يبصر غيره ولا يهتدي إلى غيره، لكن لا يبصر غيره، فيدل هذا أنه يصير كذلك؛ لصنع له فيه. وكذلك من اعتقد الإيمان يبصر بنوره أشياء، وهو ليس يعتقد الإيمان ليبصر بنوره أشياء غابت عنه؛ دل أنه بغيره أدرك ذلك، وكذلك المعروف في الخلق أن من اعتقد عداوة آخر، يضيق صدره بذلك، وكذلك من اعتقد ولاية آخر ينشرح صدره له بأشياء. فهذا كله يدلّ أن لغيره في ذلك فعلًا، وهو ما ذكرنا من الخذلان والتوفيق، أو خلق ذلك منهم - واللَّه أعلم - فيدخل فيما ذكرنا في قوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً. . .) الآية. وأصله أن ما ذكر من الحجاب والغلاف والأكنة إنما هو على العقوبة لهم لعنادهم ومكابرتهم الحق؛ لأنهم كلما ازدادوا عنادًا وتمردًا ازدادت قلوبهم ظلمة وعمى، وهو ما ذكر في غير آية؛ حيث قال: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. . .) الآية. وقال: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وقال: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): أخبر أن ما ران على قلوبهم بكسبهم الذي كسبوا، وأزاغ قلوبهم باختيارهم الزيغ، وصرف قلوبهم باختيارهم الانصراف؛ فعلى ذلك ما ذكر من جعل الحجاب والأكنة عليها بما كان منهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) قَالَ بَعْضُهُمْ: الشيطان إذا ذُكِرَ اللَّه ولى عنه أوأعرض، وفرَّ منه، وهو ما ذكر: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. . .) الآية، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا): الإنس، أي: ولوا عما دعوهم إليه، وأقبلوا نحو أصنامهم التي عبدوها. وقوله: (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) يحتمل: وإذا ذكرت دلالة وحدانية ربك

(47)

وألوهيته وربوبتته، أو ذكرت دلالة رسالاتك أو دلالة البعث، يحتمل ذكر دلالة هذه الأشياء الثلاثة؛ لأنهم كانوا منكرين لهذه الأشياء؛ فعند ذلك ذكرها. يولون على أدبارهم نفورًا: يحتمل الهرب والإعراض، ويحتمل الكناية عن الإنكار والتكذيب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) كأنهم يستمعون إلى القرآن: إما لما يستحلون نظمه ورصفه، أو يستمعون إليه؛ لما فيه من الأنباء العجيبة، أو يستمعون إليه؛ ليجدوا موضع الطعن فيه، فإن كان استماعهم للوجهين الأولين فإذا جاء موضع الخلاف والتنازع، وهو ما يذكر فيه من دلالة الوحدانية ودلالة الرسالة ودلالة البعث، عند ذلك كانوا يولون الأدبار نافرين؛ لإنكارهم، وإن كان الاستماع لطلب الطعن - فهو محتمل أيضًا. واختلف في قوله: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ). قيل: كانوا يستمعون إليه ليكذبوا عليه؛ كقوله: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ)، كانوا يسرعون إلى استماع ما يقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليكذبوا عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا يستمعون إليه؛ ليجدوا موضع الطعن فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: استمعوا إليه ليروا الضعفة والأتباع أنهم إنما يطعنون فيه بعدما استمعوا إليه وعرفوه؛ فيقع عندهم أن الطعن كان في موضع الطعن، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإذْ هُمْ نَجْوَى). قيل: أي: يتناجون فيما بينهم أنه مسحور وأنه مجنون وأنه كاهن، ثم أخبر اللَّه نبيه ما أسروا فيه وتناجوا بينهم؛ ليدلهم على رسالته وأنه إنما عرف باللَّه، وسماهم ظالمين؛ لما علموا أنه ليس بمجنون ولا مسحور ولكن قالوا ذلك له ونسبوه إلى ما نسبوه من السحر والجنون، على علم منهم أنه ليس كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) بالمجانين والسحرة والكهنة؛ (فَضَلُّوا)، أو ضربوا لك الأسباب التي تزجر الناس وتمنعهم عن الاقتداء بك مما وصفوا له ونسبوه إليه من السحر والجنون والكهانة؛ فذلك

(49)

كان يمنعهم عن إجابة من أراد إجابته والاقتداء به. وقوله - عزّ وجلَّ -: (فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يستطيعون إلى ما قصدوا من منع الناس عنك وصدهم سبيلًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يستطيعون إلى المكر به والكيد له سبيلًا؛ لأنهم قصدوا به ذلك، وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يستطيعون إلى ما نسبوه إليه سبيلًا. وقال الحسن: لا يجدون إلى الهدى والإيمان سبيلًا؛ لما طبع على قلوبهم وجعلها في أكنة وغلف. ويحتمل أن يكون قوله: فلا يستطيعون إلى الاحتجاج على الحجج والدلالات التي أقامها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على التوحيد والرسالة والبعث سبيلًا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وقوله - عزّ وجلّ -: (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا) أي: أئذا كنا عظامًا بالية ناخرة (وَرُفَاتًا)، قيل: ترابا، وقيل: غبارًا، وقيل (وَرُفَاتًا): أي: بالية؛ حتى إذا فتتت - تكسرت وذهبت، كقوله: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ)، أي: غير كائنة، قالوا ذلك كله: إنكارًا للبعث واستهزاءً به أنهم يبعثون ويجزون بأعمالهم، وهذا كأنهم قالوا ذلك على التعجب، والاستبعاد عن كون ذلك، والاستهزاء بذلك، والجهل به هو الذي حملهم على التعجب والاستهزاء بما ذكر. أنكر هَؤُلَاءِ الكفرة قدرة اللَّه على البعث كما أنكر المعتزلة قدرته على خلق أفعال العباد، وليس لهم الاحتجاج على أُولَئِكَ الكفرة بإنشاء الأوّل؛ لأن لهم أن يقولوا: إنكم تقرون بالقدرة على خلق الأول، وتنكرون خلق أفعالهم، وليس لكم الاحتجاج. وقوله - عزّ وجلّ -: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ).

(51)

قال بعض أهل التأويل: أي: لو كنتم حجارة أو حديدًا فيميتكم، لكن هذا بعيد؛ لأنهم لم يكونوا ينكرون الموت؛ إذ كانوا يشاهدون الموت؛ فلا يحتمل الإنكار، ولكن كانوا ينكرون البعث بعد الموت وبعدما صاروا ترابًا ورفاتًا، إلا أن يقال: إنكم لو كنتم بحيث لا تبعثون ولا تجزون بأعمالكم لكنتم حجارة أو حديدًا، لم تكونوا بشرًا؛ لأن الحجارة والحديد ونحو ذلك يخر ممتحن، ولا مأمور بشيء، ولا منهي عن شيء، وأما البشر فإنهم لم ينشئوا إلا للامتحان بأنواع المحن والأمر والنهي والحل والحرمة، فلا بد من الامتحان؛ فإذا امتحنوا بأشياء لا بد من البعث للجزاء والعقاب، فإذا لم تكونوا ما ذكر ولكن كنتم بشرًا فاعلموا أنكم تبعثون وتجزون بأعمالكم على هذا يحتمل أن يصرف تأويلهم، لا إلى ما قالوا؛ وإلا ظاهر ما قالوا وتأولوا لا يحتمل؛ لما لا أحد أنكر الموت. ويحتمل قوله: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ)، أي: لو كنتم ما ذكر حجارة أو حديدًا أو أشد ما يكون من الخلق لقدر أن ينشئكم بشرًا من ذلك؛ فكيف إذا كنتم بشرًا في الابتداء؟! أي: يعيدكم بشرًا على ما كنتم كما أنشأكم في الابتداء من ماء وتراب، وليس في ذلك الماء والتراب من آثار بشر شيء من العظام واللحوم والعصب والجلد وغيرها؛ فمن قدر على إنشاء هذا قدر على إنشاء البشر بعد الموت وبعد ما صار ترابًا ورفاتًا، على هذا يجوز أن يتأول. ووجه آخر أن يقال: ظنوا أن لو كنتم حجارة أو حديدًا أو ما ذكر لبعثكم؛ فكيف تظنون أنه لا يبعثكم إذا كنتم ترابًا ورفاتًا أو كلام نحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ... (51) ذكروا هذا وكل ما يكبر في صدورهم على ما ذكر. (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا). استهزاء منهم به. (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). إنهم، وإن قالوا ما قالوا استهزاء به وسخرية، فقد أمر اللَّه - تعالى - أولياءه المؤمنين أن يحاجوهم محاجة العقلاء والحكماء مع الحجج والبراهين، وإن كانوا قالوا سفهًا واستهزاء، وعلى ذلك عاملهم اللَّه، وإن كانوا سفهاء في قولهم مستهزئين، وكذلك أمر رسله أن يعاملوا قومهم أحسن المعاملة؛ حيث قال: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقال: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وإنما ذكر الله

هذه الآيات؛ ليحاجّ بها هَؤُلَاءِ، ويعلم أن كيف المعاملة مع هَؤُلَاءِ؛ إذ قد أقام اللَّه - تعالى - من الآيات والحجج على بعثهم وإحيائهم حججًا كافية ما لم يحتج إلى مثل هذا، لكنه ذكر هذا؛ لما ذكرنا - واللَّه أعلم -: كأن الذي حملهم على إنكار ذلك وجوه من الاعتبار: أحدها: أنهم لم يروا من الحكمة إماتتهم ثم الإحياء على مثل ذلك إذ لو كان يحييهم ثانيًا - لكان لا يميتهم؛ كنقض البناء على قصد بناء مثله. والثاني: لما رأوا أقوامًا قد ماتوا منذ زمن طويل ثم لم يبعثوا؛ فيقال لهم: إنه قد تأخر كونكم وإنشاؤكم، ثم لم يدلّ تأخركم على أنكم لا تكونون؛ فعلى ذلك لا يدلّ تأخر البعث على أنه لا يكون. وأما جواب الأول فإنه يقال لهم: إنكم تقرون أنه أنشأكم أول مرة وأنه يميتكم، فليس من الحكمة إنشاء ثم الإماتة؛ لأنه يكون كمن بني بناء للنقض والإفناء؛ فإذا كان الأول، حكمة كان الثاني -أيضًا- حكمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّّ -: (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). أي: يعيدكم الذي خلقكم أول مرة ولم تكونوا شيئًا على ما ذكرنا وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من ابتدائه؛ إذ لا أحد في الشاهد يتكلف تعلم إعادة الشيء، ومعرفته، وإنما يتكلفون تعلم ابتداء الصناعات ومعرفتها، ثم يعرفون إعادة ذلك بمعرفة ابتدائية؛ فدل ذلك أنه أهون وأيسر، وهو ما قال: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي: في عقولكم ذلك أهون وأيسر. وقوله - عزّ وجلّ -: (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ). أي: يحركون رءوسهم؛ استهزاء به وهزوًا. (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ). على الاستهزاء أيضًا، أي: لا يكون. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ): قالوا ذلك جهلاً به وإنكارًا، وإلّا لو علموا أنه كائن لا محالة لكانوا لا يقولون ذلك؛ بل يخافون كما خاف الذين آمنوا به. وقوله - عزّ وجلّ -: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا).

(52)

و (عسى) من اللَّه واجب، أي: يكون لا محالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَرِيبًا)، أي: كائنا، القريب يقال على الكون، أي: كائنًا، ويقال على القريب والبعيد كذلك يقال على الإنكار رأسًا، ويقال على الاستبعاد؛ كقوله: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)، أي: هم لا يرونه كائنًا، ونراه نحن كائنًا؛ كقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا): كانوا يستعجلون بها؛ لما لم يكونوا يرونه كائنًا والمؤمنون يرونه كائنًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) يحتمل هذا الدعاء، والإجابة: دعاء الخلقة، وإجابة الخلقة؛ لما كانت خلقتهم تعظم ربهم، وتحمده في كل وقت، وتنبئ على ما ذكرنا في غير آية من القرآن. ويحتمل دعاء القول وإجابة القول والدمل؛ لما كانوا عاينوا قدرته وعظمته أجابوا له بحمده وثنائه؛ كقوله: (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ)، ونحوه أو أن يكون قوله: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ): يوم القيامة - كقوله: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ. . .). وقوله: (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ. . .) الآية: أخبر أنهم يجيبون داعيهم يومئذ ويثنون على اللَّه؛ لما رأوا من الأهوال من ترك الإجابة له في الدُّنيَا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ)، أي: تجيبون داعيه بثنائه وبحمده، أي: تثنون على اللَّه وتخمدونه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا). قال الحسن: قوله: (وَتَظُنُّونَ) أي: تعلمون وتيقنون أنكم ما لبثتم في الدُّنيَا إلا قليلًا، وكذلك قال قتادة، أي: يستحقرون الدنيا ويصغرونها؛ لما عاينوا القيامة وأهوالها. وجائز أن يكون قوله: (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) في القبر وجائز أن يكون في الدنيا يستقصرون المقام فيها لطول مقام الآخرة وأهوالها، ثم من أنكر عذاب القبر احتج بظاهر هذه الآية؛ حيث قال: (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا)، وقوله: (لَبِثْنَا يَوْمًا)، ومثله قالوا في العذاب والشدة: لم يكونوا يستقصرون ويستصغرون المقام فيه؛ إذ كل من كان في عذاب وبلاء وشدة - يستعظم ذلك ويستكثر ولا ينساه أبدًا، هذا المعروف عند الناس فإذا هم استقلوا ذلك واستصغروه حتى قالوا: (يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، وقالوا:

(قَلِيلًا)، ويسيرا، دل ذلك أنهم لم يكونوا في عذاب وبلاء. ويتأولون قوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، على التقديم والتأخير، يقولون تأويله: ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غُدُوًّا وَعَشِيًّا - ليس على ألا يكون لهم عذاب فيما بين ذلك؛ ولكن على ما ذكر في الجنة: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا). ومن يقول بالعذاب في القبر يقول: قوله: (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) في الدنيا، أو يقولون ذلك في وقت وهو ما بين النفختين. كذلك يقولون: إنه يرفع عنهم العذاب ما بين النفخة الأولى والثانية، وهذا احتيال. ويقال -أيضًا-: ليس في استقلالهم المقام والاستقصار ما يدل على أن لم يكن لهم عذاب في القبر؛ لأن العرف في الناس أنهم إذا كانوا في بلاء وشدة ونوع من المرض، ثم نزل بهم ما هو أشد من ذلك وأعظم؛ استصغروا ما كانوا هم فيه ونسوا ذلك؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ إذا عاينوا عذاب القيامة وأهوالها وأفزاعها استصغروا ما كان بهم من العذاب في القبر، ونسوا ذلك؛ ألا ترى أنهم إذا عاينوا الجنة ونعيمها نسوا ما كان لهم من النعم في الدنيا، ولا شك أنه قد كان لهم نعيم في الدنيا فعلى ذلك العذاب. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَرُفَاتًا)، قال: رفاتًا منكسرة، وفتته، أي: كسرته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَكِنَّةً): جمع كنان، مثل غطاء وأغطية. (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى)، أي: يتناجون، يسار بعضهم بعضًا أنه مجنون، وأنه ساحر كاهن وأساطير الأولين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان نجواهم ما ذكر في سورة الأنبياء حين قالوا: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ. . .) الآية؛ فذلك قوله: (وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ)، أي: ما تتبعون (إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا). قال أبو عبيدة: (مَسْحُورًا)؛ أي: قد سحر به، وهو يناقض قولهم، وقد ذكرنا وجه تناقض قوله فيما تقدم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)

(53)

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... (53) يحتمل قوله: (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الوجوه الثلاثة: أحدها: الدعوة؛ كقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) أمره أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فالتأنيث للدعوة، كأنه قال: ادع لهم الدعوة التي هي أحسن الدعوة، على إضمار الدعوة. وجائز على إضمار الحسنة، أي: قل لهم أن يقولوا لهم الحسنة التي هي أحسن. أو على إضمار الأقوال؛ كأنه قال: يقولوا لهم الأقوال التي هي أحسن الأقوال، وإلا ظاهره أن يقول: " يقولوا الذي هو أحسن ". والثاني: على إضمار المجادلة - المناظرة - معهم؛ كقوله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ): أمر رسوله أن يجادلهم أحسن المجادلة والمحاجة معهم. والثالث: في حسن المعاملة معهم والعفو والصفح عما كان منهم إلى المسلمين من أنواع الأذى فأمرهم أن يحسنوا معاملتهم ويصفحوا عنهم، كقوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وكقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. . .) الآية وقوله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ. . .) الآية، ونحوه من الآيات: أمرهم أن يعاملوا أُولَئِكَ أحسن المعاملة، وهو أن اللَّه يتركهم، ولا يكافئهم بسوء صنيعهم، ولكن يعفون عنهم، ويصفحون لما لعلهم يكونون أولياء وحميمًا على ما أخبر، ويصيرون إخوانًا لهم من بعد هذا في حق هذه الآية. وأمَّا من جهة الحكمة، وهو أن اللَّه - تعالى - أنشأ هذا اللسان وجعله ترجمانًا بين الخلق: به يفهم بعضهم من بعض، وبه يقضي الحوائج بعضهم من بعض، وبه قوام معاشهم ومعادهم، وبه بعث الرسل والكتب جميعًا، فإذا كان كذلك فالواجب ألا يستعمل إلا في الخير والحكمة، ولا ينطق به إلا ما هو أحسن وأصوب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ). أي: يفسد بينهم ويوسوس إليهم ويغري بعضهم على بعض؛ ليفسد بينهم، وذلك كقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا). أي: كان الشيطان منذ كان للإنسان عدوّا ظاهرًا عداوته بئنًا. جعل اللَّه - تعالى -

(54)

الشيطان بحيث يوسوس إليهم ويدعوهم إلى أشياء يظنون أن ذلك خير لهم، وأبدًا يلقي إليهم ما يقع عندهم أن ذلك أنفع لهم ويحبب إلى كل مذهبًا يقع عنده هو الحق؛ فيقع بذلك الإفساد وإبقاء العداوة بينهم أبدًا هذا دأبه وشأنه يجبر كلا إلى جهة، ويري كل أحد جهة غير الجهة التي أرى الآخر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: (أَعْلَمُ بِكُمْ): بمصالحكم، وما لا يصلح لكم في الدُّنيَا والآخرة. والثاني: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ): بما تسرون وما تعلنون، وما تعلمون وتفعلون، وإلا: لا شك أنه أعلم بنا منا. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أذى هَؤُلَاءِ، أو إن يشأ يعذبكم فيسقطهم عليكم. والثاني: إن يشا يرحمكم، فيهديكم إلى دينه، ويوفقكم لسبيله، أو إن يشأ، يترككم ويخذلكم، ولا يهديكم إلى سبيله، ولا يوفقكم لدينه. وقوله: (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ): يحتمل الرحمة في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا: هو أن يوفقهم على الطاعة، ويعينهم على ذلك وفي الآخرة: ينجيهم ويدخلهم الجنة. وأما التعذيب في الدنيا: أن يخذلهم ويتركهم على ما يختارون، وفي الآخرة يعذبهم في النار بالذي اختاروا في الدُّنيَا. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لم نجعلك حفيطا على ردهم وإجابتهم وعلى صنيعهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وكيلا، أي: ثقيلا بأعمالهم، أي: لا تؤخذ أنت بصنيعهم؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، وكقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)، أي: مسلطًا عليهم وقاهرًا لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)

يحتمل ما ذكرنا: أنه أعلم بمصالحهم ومفاسدهم، وما يسرون وما يعلنون، ويحتمل غير هذا؛ جوابًا لقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). يقول - واللَّه أعلم - (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أي: أعلم بمن يصلح للنبوة والرسالة، وبمن لا يصلح، ومن هو أهل لها أومن ليس بأهل لها. أو يقول: أعلم بمن في السماوات والأرض، أي: عن علم بما يكون منهم أنشأهم لا عن جهل، أو أعلم بهم من أنفسهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ - (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ). مثل هذا لا يكون إلا في نازلة، لكنه لم يذكر النازلة التي عندها نزلت، ثم اختلف فيما ذكر من تفضيل بعض على بعض: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه أعطى كلًا شيئًا لم يعط غيره؛ من نحو ما ذكر أنه كلَّم موسى، واتخذ إبراهيم خليلًا، وأعطى عيسى إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وهو روح منه وكلمته، وأعطى سليمان ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وأعطى داود زبورًا، وأعطى سيدنا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومثله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فضل بعضًا على بعض في الدرجة والمنزلة والقدر عنده. فالأول: يكون التفضيل في الآيات والحجج، والثاني: في أنفسهم: في المنزلة والقدر. ويحتمل ما ذكر من تفضيل بعض على بعض في الآيات والحجج. ويحتمل في كثرة الأتباع: يفضل بعضهم على بعض بكثرة الأتباع. والثالث: يفضل بعضهم على بعض في القيام بشكر ما أنعم عليه وصبره على ما ابتلاه به. والرابع: [ ..... ] وعلى قول المعتزلة: لا يكون لأحد فضيلة عند اللَّه إلا باستحقاق منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّّ -: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا). جميع كتب اللَّه: زبور؛ لأن الزبور هو الكتاب. وقد ذكرنا أنا لا ندري لأية نازلة ذكر هذا، ولا يحتمل ذكر مثله على الابتداء والاستئناف، لكن فيه أن التفضيل والمنزلة إنما يكون من عند اللَّه، ومن عنده يستفاد لا بتدبير من أنفسهم واستحقاق؛ حيث قال: (انْظُرْ

(56)

كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) لئلا يرى أحد الفضل والمنزلة لنفسه بأسباب منه؛ ولكن من عند اللَّه. وقال الأصم في قوله: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) يقول: يخاطب به أهل الكتاب: أن أوائلكم كانوا يرون لبعض على بعض فضلًا في الدنياوية. ثم إن أُولَئِكَ المفضلين كانوا يتبعون الرسل؛ لما رأوا لهم من الفضل والخصوصية؛ فما بالكم يا أهل مكة لا تتبعون محمدًا، وقد ترون له فضائل وخصوصية ما لا ترون ذلك لأنفسكم ولا لأحد سواه، وكلام نحو هذا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا). وفي سورة سبأ: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. . .) فيشبه أن يكون الآية عندما نزل بهم البلايا والشدائد على ما قاله أهل التأويل، فأمروا عند ذلك أن يطلبوا كشف ذلك عنهم من الذين يعبدون من دون اللَّه، فيقول لهم: ادعوا الذين زعمتم أنها آلهة دونه يكشفوا عنكم ما نزل بكم. ويشبه أن يكون لا على نازلة؛ ولكن على تبيين سفه أُولَئِكَ، حيث قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ): أخبر أن ليس لهَؤُلَاءِ شفاعة عند اللَّه، وأن عبادتهم إياها لا تقربهم إلى اللَّه زلفى، كقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ) أخبر أنهم لا يملكون ما يطعمون بعبادتهم إياها.

(57)

أو أن يذكر هذا؛ لقطع ما يرجون من دون اللَّه من كشف ضر عنهم ودفعه، أو جر نفع إليهم وسوق خير، على ما أخبر أنه لا يملك ذلك أحد سواه كقوله: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ. . .) الآية، وقوله: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ. . .) الآية: أخبر أنه لو فتح هو رحمة لا يملك أحد دونه إمساكها، ولو أمسك هو لا يملك أحد إرسالها دونه، ولو من ضر لا يملك أحد كشفه، وإن أراد خيرًا لا يملك أحد دفعه ورده. هذا يذكر - واللَّه أعلم - للمسلمين؛ لئلا يرجوا أحدًا من الخلائق دون اللَّه ولا يخافوا أحدًا سواه. ثم صرف أهل التأويل تأويل الآية إلى الملائكة، لكن الآية تحتمل كل معبود دون اللَّه: الملائكة والجن والأصنام التي عبدوها. وأمَّا الآية الثانية التي تتلوها ظاهرها في الملائكة والجن، وهو قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ... (57) أي: أُولَئِكَ الذين يعبدون من دون اللَّه يبتغون هم إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ. . .) الآية: اختلف فيه: منهم من صرفها إلى الملائكة. ومنهم من صرفها إلى الجن، وهو قول عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: إن قومًا من العرب كانوا يعبدون الجن، ثم أسلم الجن، فبقِي أُولَئِكَ كما كانوا يعبدونهم بعد إسلامهم؛ فيقول: أُولَئِكَ الذين يعبدون من دون اللَّه يبتغون إلى ربهم الوسيلة؛ فكيف تعبدونهم؟! ومن قال: إنها في الملائكة - اختلفوا في قوله: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ): قال الحسن: يرجون محبته ورضاه، (وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)، أي: خوف الهيبة والجلال والعظمة لا خوف عذاب النار ونقمته؛ لأن اللَّه - تعالى - عصمهم من أن يرتكبوا ما يوجب لهم النقمة والعذاب؛ حيث قال: (لا يعصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم)، وقال: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ)، وقال في قوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ): هذا إخبار أنهم لو قالوا ذلك لفعل بهم ما ذكر ليس

على أن يقول أحد منهم ذلك. وقال أبو بكر: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ): ثوابه، (وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ): نقمته؛ حيث قال: فهم من الوعيد ما قال: (وَمَن يَقُل مِنهُم. . .) الآية؛ فقد أثبت لهم الوعيد فيه، لكن ثوابه ما يتلذذ به وعذابه ما يتألم به ويتوجع. ومنهم من يقول من أهل التأويل (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ)، أي: جنته، لكن هذا يشبه أن يكونوا يرجون صحبة أهل الجنة؛ كقوله: (يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ. . .) الآية. وجائز عندنا صرف قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) إلى الأصنام التي عبدوها من دونه أيضًا، ويكون تأويل: (يَدْعُونَ): يبتغون، أي: لو لم يكن لهم من العبادة والطاعة، وركب فيهم من أسبابها لكانوا كما ذكر، وهو كقوله: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ) أي: لو مكن له وركب فيه ما ركب في البشر ومكن لهم (لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) على ما ذكر من سفه أُولَئِكَ الذين عبدوا من دون اللَّه؛ يقول: كيف تعبدون من لو مكن من العبادة والطاعة لكانوا يبتغون بذلك الوسيلة إلى ربهم؟! أو كيف تعبدون من هو بطاعة ربه يبتغي الوسيلة إليه؟!؛ إن كانت الآية في الملائكة؛ كأنه يذكر سفه أهل مكة؛ حيث سألوا العذاب بقوله: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً. . .) الآية، ونحوه، وأهل السماء والأوض جميعًا يحذرون عذابه. وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ) ما ذكر: ليس هو بأمر في الحقيقة، وإن كان ظاهره أمرًا؛ ولكن إخبار عن عجز ما يدعون من دونه، وتعجيز ما ذكر من كشف الضر ودفعه والتحويل، وكذلك قوله: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً. . .) الآية. ليس هو بأمر؛ إنما هو إخبار عن قدرته أنه لا يعجزه شيء، وإن بدلتم أصلب الأشياء وأعظمها. وقوله - عزّ وجلّ -: (فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ)، أي: دفعه وردّه، وَلَا تَحْوِيلًا): يحتمل وجهين: أحدهما: فلا يملكون تحويل ذلك الضرّ إلى غيركم ولا صرفه. والثاني: (وَلَا تَحْوِيلًا) من الأشد والأثقل إلى الأخف والأيسر والأهون.

(58)

وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا). أي: يحذره أهل السماء وأهل الأرض. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) قال أبو بكر الأصم: وإن من قرية إلا نحن مميتوها، وقد يستعمل الهلاك في موضع الموت؛ كقوله: (امْرُؤٌ هَلَكَ)، أي: مات، ويقال -أيضًا-: هلك فلان، أي: مات، فعلى ذلك يكون قوله: (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا) أي: مميتوها (قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)؛ كقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، وكقوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ). (أَو مُعَذبُوهَا)، أي: منتقموها (عَذَابًا شَدِيدًا)؛ فعلى تأويله يصح على جميع القرى والمدن، ليس قرية دون قرية، ولا مدينة دون مدينة؛ ولكن على الكل على ما أخبر من إهلاك الكل بقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، و (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ). ويحتمل ما ذكر من إهلاك القرية: إهلاك الأهل؛ من إهلاك القرية بعد إهلاكهم؛ على ما فعل بكثير من القرى. وجائز أن يكون يهلك الأهل ويبقى القرية على حالها، ثم تهلك بنفسها قبل يوم القيامة، واللَّه أعلم. وعلى تأويل أبي بكر يفص ذا أو ذا: إمَّا يميتهم أموتا، بآجالهم، أو يعذبهم عذاب إهلاك. وقال الحسن: قوله: (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا)، أي: مميتوها؛ على ما قال أبو بكر؛ (أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا): يقول: إذا قامت الساعة قبل يوم القيامة؛ كقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ. . .) الآية، وقوله: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ. . .) الآية. فذلك كله قبل يوم القيامة، وهو يقول: إن الساعة تقوم على شرار الناس؛ فيكون ما ذكر من التعذيب لأُولَئِكَ الذين تقوم بهم الساعة على قوله. وقال قتادة: هذا قضاء من اللَّه كما تسمعه ليس منه بد: إمَّا أن يهلكها بموت؛

كقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، وإما أن يهلكها بعذاب مستأصل إذا تركوا أمره وكذبوا رسله، وهو ما ذكرنا من الانتقام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يميت أهل القرية الصالحة بآجالهم، وأمَّا القرية الظالمة فيأخذها بالعذاب الذي ذكر؛ فهو في القرون الماضية إن احتمل ذلك. ويشبه أن يكون قوله: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، وهو أن يهلك رؤساء الكفرة وقادتهم؛ فيصير الذين كله دينًا واحدًا، وهو الإسلام؛ على ما قال بعض أهل التأويل في قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) قالوا: هو أن يهلك أهل الكفر؛ فيجعل ملك أهل الكفر لأهل الإسلام؛ فذلك نقصانها من أطرافها: لا يزال ينقص أهل الكفر قرية فقرية وبلدة فبلدة؛ حتى تصير الأرض كلها لأهل الإسلام، وهو ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " زُوِيتْ لِيَ الأرضُ فَأرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبهَا، وَسَيَبلُغُ مُلْكُ أُمَّتي ما زُوي لِي مِنْهَا "، فذلك - واللَّه أعلم - تأويل قوله: قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا)، أي: نهلك أهل الكفر. وبشبه أن يكون قوله: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا): على ما أخبر أنه كان يفني جميع من كان على وجه الأرض، ويجعل الأرض مستوية لا بناء فيها ولا ارتفاع، حيث قال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) وقال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ. . .) الآية، وقال: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا. . .) الآية. أخبر أنه لا يبقي عليها أحد ولا بناء، فتصير كلها (قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)؛ فذلك إهلاكها وتعذيبها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك في الكتاب الذي عند اللَّه - وهو اللوح المحفوظ - مكتوبًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك في جميع كتب اللَّه التي أنزلها على رسله مكتوبًا، أي: ما من كتاب أنزله اللَّه على رسله إلا وكان فيه (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)، و (كُلُّ نَفْسٍ

(59)

ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) مسطورًا، واللَّه أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) أخبر أنه ليس يمنعه من إنزال الآيات إلا تكذيب الأولين بها. فَإِنْ قِيلَ: فأي شيء فيما يكذب الأولون بالآيات؛ ما يمنع إنزالها على هَؤُلَاءِ؟ قيل: كأنه على الإضمار، أي: ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا علمنا بأن الآخرين يكذبون بها كما كذب بها الأولون. فَإِنْ قِيلَ: عن هذا يسأل: أن علمه بتكذيب الآخرين كعلمه بتكذيب الأولين، ثم لم يمنع علمه بتكذيب الأولين إياها إنزالها كيف منع علمه بتكذيب الآخرين ذلك؟! أو ليس قد أرسل الرسول، وأنزل الكتاب على علم منه أنهم يكذبون الرسول والكتاب، ثم لم يمنع علمه بذلك إنزاله الكتاب وإرساله الرسول؟! فكيف منع علمه بتكذيب الآيات منهم عن إرسال الآيات، ولم يمنع علمه بتكذيب الرسول والكتاب على بعث الرسول وإنزال الكتاب؟! قيل: إنه قد مضى من سنته أنه إذا أنزل الآيات على أثر السؤال - أعني: سؤال الآيات - فكذبوها أهلكهم؛ هكذا مضت سنته في القرون الماضية، ثم قد سبق من وعده ألا يهلك هذه الأمة إهلاك تعذيب واستئصال في الدّنيا؛ رحمة منه وفضلًا على ما أخبر رسوله؛ حيث قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فرحمته أن منَّ عليهم بإبقائهم وإزالة العذاب عنهم في الدنيا واستئصالهم؛ فكأنه قال - واللَّه أعلم -: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا ما سبق من وعدنا ورحمتنا: ألا نهلك هذه الأمّة إهلاك استئصال وتعذيب، فذلك الوعد والرحمة الّذي ذكرنا منعنا عن إرسال الآيات على علم منا أنهم يكذبونها إذا أرسلناها إليهم، وقد مضت السنة منا على الإهلاك إذا أنزلنا الآيات على أثر سؤالهم إياها ثم التكذيب من بعد، ثم قد سبق الوعد لهَؤُلَاءِ ألا يهلكوا في الدنيا إهلاك تعذيب؛ رحمة منه لهم على ما أخبر أنه لم يرسل إلا رحمة للعالمين. وأصله: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّّ - قد أنزل الآيات والحجج على إثبات رسالة الرسل آيات كافية، وحججًا تامة ما لم يقع لهم الحاجة إلى غيرها من الآيات والحجج، فما سألوا من الآيات والحجج من بعد إنما سألوا سؤال تعنت وتمرد، لا سؤال استرشاد واستهداء،

فإذا كان سؤالهم الآيات سؤال عناد وتعنت - أهلكوا إذا كذبوها، ولم ينظروا؛ كقوله: (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ)، وقوله: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ)، ونحوه؛ ألا ترى أن عيسى - عليه السلام - سألوه أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء؛ لتكون لهم آية منه؛ فسأله، فأخبر أنه ينزلها عليكم، ثم أخبر ما يفعل بهم إذا كفروا بعد ذلك، وهم كانوا يسألونه سؤال تعنت وتمرد؛ نقال: (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) الآية. هكذا كانت سننه فيمن سأل الآيات سؤال تعنت وعناد. وجائز أن يكون الذي منع عن إرسال الآيات على أثر السؤال وإهلاك هذه الأمة: ما يكون من الإسلام من نسل هذه الأمة بعد نبيهم، وإبقاء التناسل إلى يوم القيامة، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً). قيل: آية لرسالة صالح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مُبْصِرَةً)، أي: معاينة يعاينونها أنها آية من اللَّه لهم؛ حيث رأوها مخالفة لنوقهم، وهو ما قال: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً). (فَظَلَمُوا بِهَا)، أي: كذبوا بها وجحدوها ثم عقروها بعد علمهم أنها آية من اللَّه لهم؛ حيث رأوها وعاينوها خلافا لنوقهم، خارجة عن نوق البشر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا). قال ابن عَبَّاسٍ والحسن وغيرهما: الموت الذريع، أي: السريع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) للناس؛ فإن لم يؤمنوا بها عذبوا في الدنيا. أو يقول: وما نزل بالآيات مقرونة بالسؤال سؤال التعنت فكذبوها - (إِلَّا تَخْوِيفًا) للهلاك، على ما ذكرنا من الآيات التي سألوها. أو أن يكون قوله: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ): على أثر السؤال بها ثم التكذيب لها، (إِلَّا تَخْوِيفًا) لمن تأخر ممن سأل مثلها فكذب

(60)

بها، أو كلام نحوه. ويحتمل الآيات التي ذكر: كسوف الشمس والقمر وغيره، وما نرسل ذلك إلا تخويفًا للناس، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) أي: وقد قلنا لك: إن ربك أحاط بالناس، الإحاطة بالشيء تكون بالوجوه الثلاثة: أحدها: بالغلبة والقدرة والسلطان؛ كقوله: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي: أخذهم الهلاك والغلبة وقدر عليهم. والثاني: الإحاطة: العلم به؛ كقوله: (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) أي: عالمًا، وقوله: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ)، أي: لا يعلمون. والثالث: الإحاطة المعروفة بين الخلق، من إحاطة بعضهم بعضًا، فذلك لا يحتمل في اللَّه سبحانه وتعالى - فهو على الوجهين الأولين: على إحاطة العلم بهم، أو القدرة عليهم والغلبة. ثم قوله: (أَحَاطَ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَحَاطَ) بأعمالهم بما لهم، وما عليهم، وبما لا يصلح لهم وما يصلح، وهو ما ذكرنا في قوله: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا يمكرون برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ يريدون إطفاء نوره، ويمنعونه عن تبليغ الرسالة؛ كقوله: (وَإِذ يَمْكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الآية؛ فيقول (إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ)، أي: قد علم بمكرهم بك، على علم منه بمكرهم بك بعثك رسولًا إليهم، وكلفك على تبليغ الرسالة إليهم، لكنه وعد أن يعصمك منهم ويمنعك عنهم حتى تبلغ الرسالة؛ بقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وقوله: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. . .) الآية. كان - عزَّ وجلَّ - يبعث الرسل ويكلفهم تبليغ الرسالة إليهم على علم منه بما يكون من قومهم من المنع والمكر

برسله، لكنه عصمهم، ومكن لهم؛ حتى بلغوا الرسالة إليهم؛ فعلى ذلك قوله: (إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) بالعلم والقدرة والغلبة عليهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ): قال عامة أهل التأويل: إن الرؤيا التي أراها إياه لم تكن رؤيا المنام؛ ولكن رؤية يقظة ورؤيا عين، معاينة بالتي تنام، لا بالذي لا ينام منه لأنه رُويَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " تَنَامُ عَينَاي، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي "، فإنما أراه من الرؤيا بالعين التي كانت تنام لا رؤيا قلب وعلم. قال سعيد بن المسيب: هي رؤيا منام: روي أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأى قومًا على منابر، فساءه ذلك، فذكر أنهم كانوا يعطون مالًا؛ فذلك فتنة لهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه أري رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في المنام كأنه يدخل المسجد الحرام آمنًا، فأخبر بذلك أصحابه أنه رأى ذلك، فلما كان عام الحديبية، وصرف عن البيت ارتاب بعض الناس في رؤياه، فذلك فتنة للناس على ما أخبر، لكنّه لم يبين له متى يدخل فيه، وقد وعد أنه يدخل فيه آمنًا، وهو ما قال: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)، والفتنة: المحنة الشديدة، فإن كان ذلك في الرؤيا التي رآها في مسير بيت المقدس، وما أخبر من الآيات - لا يتوهم مثل ذلك بتعليم بشر ولا بسحر؛ فذلك الذي أخبرهم أنه رأى فتنة لهم ومحنة في التصديق والتكذيب في الخبر الذي أخبر أمن الآيات، لا يتوهم، مثل ذلك بتعليم بشر، فإن كان على رؤيا منام فهو فتنة لما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ).

أي: كانت الشجرة الملعونة التي ذكرت في القرآن -أيضًا- فتنة لهم؛ كقوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. . .) الآية. ووجه فتنتها لهم: ما ذكر في القصة: أنهم قالوا: إن محمدًا يقول: إن في النار شجرة، والنار من طبعها أن تأكل الشجرة؛ فكيف يكون في النار الشجرة، وهي تأكلها؟ ولكن لم يعرفوا أن شجر النار يكون من النار، وشرابهم من النار، وكذلك طعامهم من النار؛ فإذا كان من النار لم تأكلها النار. ومنهم من قال: الزقوم: هو الزبد والتمر؛ فكيف يكون فيها ذلك؟! فيدعون بذلك الكذب عليه فيما يخبرهم: أن في النار شجرة؛ فتلك الشجرة -أيضًا- كانت فتنة لهم ومحنة في تصديق رسول اللَّه وتكذيبه. وسماها (الْمَلْعُونَةَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن العرب سمت كل ضارّ مؤذ ملعونًا؛ فلذلك سميت شجرة الزقوم ملعونة؛ إذ كانت ضارة لأهلها مؤذية. قال الحسن: سميت: ملعونة؛ لما لعن أهلها بها؛ فسميت باسم أهلها، وهو ما سمي النهار مبصرًا، والنهار لا يبصر؛ ولكن يبصر به؛ فسمي باسمه؛ فعلى ذلك هذا. وأصل اللعن: الطرد؛ فطرد منها كل خير ونفع؛ فهي ملعونة، وكقوله: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ): أضاف الإضلال إلى الأصنام والأصنام لا صنع لها في ذلك؛ لكن كثيرًا من الناس ضلوا بها؛ فكأنها أضلتهم، وكقوله: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، أي: اغتروا بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي الْقُرْآنِ)، أي: ذكرت في القرآن، وإلا: الشجرة لا تكون في القرآن، وهو ما ذكر من المصائب وغيرها، كقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، والمصائب لا تكون في الكتاب؛ لكن ذكرت فيه ويخوفهم بما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) هو ما ذكرنا في قوله: (مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا) وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) فرادهم ما ذكر.

(61)

لأنهم نظروا إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء فزادهم ما ذكر، وأما أهل الإسلام فزاد لهم إيمانًا وهدى؛ لأنهم نظروا إليه بعين التعظيم والتبجيل. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا). قوله: (أَأَسْجُدُ)، أي: لا أسجد؛ كقوله: (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ) فدل هذا أن قوله: (أَأَسْجُدُ) معناه، أي: لا أسجد. ذكر في قصة إبليس ألفاظًا مختلفة: مرة قال: (يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)، وقال في موضع آخر: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ)، وفي موضع آخر: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) ونحوه؛ فجائز أن يكون ذكر هذا على اختلاف الأحوال لا في حال واحدة. هذا على ما ذكر في قصة آدم من اختلاف الأحوال حيث قال مرة: (مِن تُرَابٍ)، وقال مرة: (مِن طِينٍ)، ومرة: (مِنْ صَلْصَالٍ)، ونحوه، وذلك إخبار عن أحوال تغيرت فيها. وجائز أن يكون ذلك بغير هذا اللسان؛ فذكر هاهنا بألفاظ مختلفة؛ والزيادة والنقصان؛ لأن اختلاف الألفاظ لا يغير المعنى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قد أقر إبليس - لعنه اللَّه - بالفضيلة لآدم والإكرام له إما من جهة الطاعة له والنبوة التي أعطاها اللَّه له، وإن ادعى لنفسه الفضيلة عليه من جهة الخلقة؛ بأنه ناري وهو طيني، حيث: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ): أقر بالفضل له عليه، والإكرام: إما لطاعتهم له، أو لما جعله رسولًا إلى خلقه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا): لا يحتمل أن يخاطب ربه ويقول: لئن أخرتني إلى كذا لأحتنكن؛ لأنه لما طلب التأخير والبقاء إلى يوم القيامة كان طالب نعمة منه ومنة؛ فيقول مقابل ما يطلب من النعمة: لئن أعطيتني ذلك لأعصينك؟! إنما يذكر مقابل طلب النعمة الطاعة له والشكر؛ على ما قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ): إنما يقابل بطلب النعمة الطاعة له، وأما مقابلة المعصية - فلا تعرف. ثم يخرج قوله: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) على وجهين: أحدهما: على التأكيد، يقول: أي إنك، وإن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته. أو على التمني منه الأمرين جميعًا: التأخير، واحتناك ذريته، وسؤاله إياهما. ثم اختلف في قوله: (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لأحتوينهم ولأحيطن بهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لأضلنهم؛ على ما ذكر في آية أخرى: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَأَحْتَنِكَنَّ): لأستزلن. وقيل: لأ ستو لين. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَأَحْتَنِكَنَّ)، أي: لأستأصلنهم. ويقال: هو من حنك الدابة، حنك دابته: يحنكها، حنكًا، إذا شد في حنكها الأسفل حبلًا يقودها به. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: لأقودنهم كيف شئت. ثم قوله: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) كأنه سأل ربه التأخير، على ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)؛ كأن اللعين لما سمع قوله: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)، أعلم، أنه لا تناله الرحمة في الإيمان به؛ حيث ذكر اللعنة عليه إلى يوم الدِّين، واللعين هو المطرود عن رحمته،

(63)

فعند ذلك سأل ربه النظرة إلى يوم القيامة؛ ليغوين عباده، وعلم اللعين: أن طاعة خلقه له لا تزيد في ملكه شيئًا، وعصيانهم لا ينقص في ملكه شيئًا. لذلك قال: (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ)، (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ)، (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ)، وما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) مع إحساني إليهم وإنعامي عليهم. (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا). وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على التمكين له ذلك والإقدار على ما ذكر، أي: مكن له ذلك، وأقدر عليه؛ لخذلانه إياه لما عصى ربه وترك أمره؛ لما رأى أمره بالسجود لآدم جورًا منه، حيث قال له: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ). مكن له ذلك، لتتم له اللعنة والخذلان. والثاني: قال ذلك له على التوعد والتهدد؛ ألا ترى أنه ذكر هذا على أثر وعيد، وهو قوله: (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا)، فيخرج على إثر ذلك مخرج الوعيد له ولمن تبعه وأجابه، كقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، لهذا وإن كان ظاهره أمرًا فهو وعيد؛ فعلى هذا قوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) فإن لك ولمن تبعك كذا. أو لما ذكرنا من التمكين له ذلك والإقدار على ذلك ليتم له اللعنة والخذلان. والثاني: قال ذلك الذي لعنه، وإلا لا يجوز أن يكون اللَّه يأمره بما ذكر أن يخرج الأمر بما ذكر مخرج سفه والأمر بالفحشاء، وقد أخبر أنه: لا يأمر بالفحشاء والمنكر، وإنما يأمر بالعدل؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)؛ فلو حمل هذا على الأمر لكان أمرًا بالفحشاء والمنكر فدل أنه يخرج على أحد الوجهين اللذين ذكرناهما، أو على الاستبعاد والإياس عن أن يملك أو يقدر عليهم بما ذكر إلا من اختار منهم اتباعه، وهو ما ذكر: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ. . .) الآية. واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَفْزِزْ): قَالَ الْقُتَبِيُّ، أي: استخف، والرجل: الرجالة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَاسْتَفْزِزْ)، أي: استخف، أي: دعاه فأجابه وأمره فأطاعه؛ وعلى هذا يخرج قوله: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)، أي: أمرهم فأطاعوه، أو دعاهم فأجابوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِصَوْتِكَ). يحتمل وجوهًا ثلاثة: أحدها: على حقيقة الصوت، يكون له صوت يدعو الناس به، فيسمع ذلك الصوت النفس الخفية التي تكون في هذه النفس الظاهرة الكثيفة، ولا تسمعه النفس الظاهرة، على ما يخطر أشياء بالقلب من غير أن يعلم به الإنسان أنه من أين جاء؟ ومن أين هيجانه؟ وعلى ما يقذف ويوسوس أشياء في القلوب من غير أن يعلم ذلك ويطلع عليه؛ فعلى ذلك يجوز أن يكون له صوت يدعو الناس به، وإن كنا لا نسمعه؛ لكنه يسمع النفس الخفية بما يسمع النفس الظاهرة، وبها نبصر - أعني: بالنفس الخفية - ألا ترى أن النائم يرى أشياء ويكون في أقصى الدنيا، ونفسه الظاهرة ملقاة هاهنا؛ فذلك كله بالنفس الخفية. والثاني: على التمثيل، ليس على تحقيق الصوت، لكن ذكر الصوت؛ لما بالصوت يوصل إلى إعلام بعضهم بعضًا، وبه يدعو بعضهم بعضًا عند البعد؛ فذكر الصوت له مكان الوسوسة التي يوسوس الناس أشياء من بعد، ويدعوهم به إلى معاصي اللَّه - تعالى - وكذلك قال الحسن في قوله: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ): من بعد من غير أن كان هنالك تقرب منه. والثالث: على إضافة عمل كل عاص من نحو الغناء والمزامير وغيره، أو ما يضاف عمل كل طاغ وكل ضال إليه؛ أضيف ذلك إليه كما أضاف إليه موسى حيث قال: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، وقوله: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ)، ولم يكن ذلك عمل الشيطان حقيقة، ولكن قال ذلك وأضافه إليه؛ لما بأمره ودعائه يعمل ذلك.

وقال عامة أهل التأويل: (بِصَوْتِكَ)، أي: بدعائك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَجْلِبْ)، أي: اجمعهم، ويقال: وأجلبتهم، أي: أعنتهم -أيضًا- وهو قول أبي عَوْسَجَةَ. وقوله: (بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ). يخرج على الوجوه الثلاثة التي ذكرنا: أحدها: أن يكون له خيل ورجالة من جنسه وجوهره يجلبهم بهم، وإن كنا لا نراهم؛ كما قال: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ. . .) الآية؛ فجائز أن يكون له خيل ورجالة وجنود لا نراهم نحن، وهم يروننا. والثاني: على ما ذكرنا: أنه على التمثيل، لكنه ذكر الخيل والرجل؛ لما بالخيل والمشي يصل بعض إلى بعض عند الحاجة إليه في البعد والقرب؛ فذكر ذلك له على ما ذكرنا في الصوت. والثالث: أنه أضاف كل خيل راكب في معصية اللَّه، أو كل ماش مشى في معصية اللَّه إليه؛ على ما ذكرنا في الصوت: أنه أضاف كل صوت في معصية اللَّه إليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا): قَالَ الْقُتَبِيُّ: (مَوْفُورًا)، أي: موفرًا. وقال غيره: وافرًا. وفي قوله: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأن إبليس سأل ربه التأخير والإبقاء له إلى يوم القيامة، وقد علم أنه إذا أعطاه ذلك له يفي ما وعد، وأبقاه إلى ذلك الوقت، وهم لم يعرفوا ذلك؛ بل قالوا: إنه يجيء عبد فيقتله؛ فيمنعه عن وفاء ما وعد، والإبقاء إلى الوقت الذي وقت له؛ فهو أعرف بربه منهم، وكذلك قال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي)، وهم يقولون لم يغوه؛ فهو أعرف به منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ).

قال بعض أهل التأويل: مشاركته في الأموال: هي أن يجعلوا له البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي؛ على ما كانوا يفعلونه. وأمَّا الأولاد: فإنهم هودوهم ونصروهم، ومجَّسوهم، وهو قول قتادة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مشاركته في الأموال: هي أن يكتسبوها من خبيث وحرام، وينفقونها في مثله وفيما لا يحل. وأمَّا الأولاد: ما ولدوا من الزنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأموال: ما كانوا يذبحون لآلهتهم، ويجعلون لها من الحرث والأنعام. والأولاد: ما ولدوا من الزنا. وجائز أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ. . .)، إلى آخر ما ذكر؛ حتى تشاركهم في الأموال والأولاد. ثم معنى المشاركة له - فيما ذكر، واللَّه أعلم - هو أن هذه الأموال والأولاد لله - تعالى - حقيقة؛ لما هو أنشأها وخلقها؛ فحقيقة الملك له بما ذكرنا، وظاهر الانتفاع لعبيده؛ إذ هذا كله لله بحق المحنة يمتحنهم وحق الانتفاع لهم؛ إذ لا يجوز أن يخلق اللَّه شيئًا لمنفعة نفسه، ولكن يخلق لمنافع أنفسهم؛ ليمتحنهم بها. وقد شرع اللَّه لهم شرائع، وشرع لهم إبليس شرائع، وهو ما ذكر: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، فإذا صرفوا ذلك إلى ما شرع لهم إبليس دون ما شرع اللَّه - فقد أشركوه فيها، وكل ما أطيع فيها مما سنَّ لهم إبليس وشرع لهم - فذلك شركته فيها؛ وذلك أن الأولاد في الشاهد إنما تطلب لأحد الوجوه الثلاثة: إما للاستئناس بهم في حال الوحشة. وإما للاستنصار بهم والعون على أعدائهم.

(65)

وإما للذكر بعد الوفاة. وكذلك الأموال يطلب منها ما ذكرنا: الانتفاع بها في حال الحياة. وإما للمعونة على الأعداء. أو الذكر بعد الموت؛ لخيرات يتركونها، فإذا صرفوها إلى ما أمرهم إبليس أشركوه فيها، ومشاركته إياهم في الأموال هي أن يأمرهم ويدعوهم إلى اكتساب ما يحرم، والإنفاق فيما لا يحل وفي الأولاد، وكذلك يأمرهم بالمعصية، ويدعوهم إليه فيطيعونه ويجيبونه في ذلك، فذلك - واللَّه أعلم - مشاركته. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَعِدْهُمْ). قال عامة أهل التأويل: أي: وعدهم أن لا جنة، ولا نار، ولا بعث، لكن يعدهم بخلاف ما وعد اللَّه، وخوفهم على ضد ما خوفهم اللَّه: ما كان من اللَّه لهم وعد رجاء يكون منه وعد خوف، وما كان من اللَّه وعد خوف، لكون منه وعد رجاء؛ وهو ما قال: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ): أخبر أن ما وعد هو قد أخلف، فذلك تأويل قوله: (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)، أي: كذبًا وباطلًا؛ لأنه يخرج كله على خلاف ما وعد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) يحتمل قوله: (سُلْطَانٌ) وجوهًا ثلاثة: أحدها: القدرة والقهر. والثاني: في الحجة والبرهان. والثالث: الولاية. فأما القدرة والقهر: فليس له عليهم ذلك؛ لأنه لم يجعل له قدرة القهر عليهم شاءوا أو أبوا، وكذلك ليس له عليهم الحجة فيما يدعوهم إليه ويأمرهم به، كقوله يوم القيامة حيت يقول: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ. . .) الآية. وأمَّا سلطان الولاية فإن له ذلك على من اختار اتباعه وتوليه؛ كقوله: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ)، وقوله: (إِنَّ عِبَادِي) المخلصين الذين أخلصوا

(66)

إليَّ، (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) يحتمل قوله: (سُلْطَانٌ)، أي: حجة؛ لأنهم إنما يتبعون أمر اللَّه بحججه؛ فلا يتبعون الشيطان بأمانيه التي يمنيهم، وشبهاته التي يشبه عليهم. أو أن يكون قوله: (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، أي: سلطان القهر والغلبة؛ إنما له عليهم الدعاء والتزيين لا غير. أو أن يكون قوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ): من الحجة والملك على ما ذكرنا؛ إنما سلطانه عليهم سلطان الولاية على الذين يتولونه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا). يحتمل: (وَكِيلًا): عاصفا يعصمك عن تمويهاته وتسويلاته، وناصرًا ينصرك على مكائده، أو مفزعًا تفزع إليه، أو معتمدًا تعتمد عليه في جميع أمورك، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ). (يُزْجِي) يجري وشمير ويسوق الفلك في البحر. قال الحسن: أي: سخر الفلك والسفن لنا في البحر، والدواب في البر؛ لنقطع بها البحار والمفاوز والبراري؛ لنصل بذلك إلى حوائجنا التي جعلت لنا في البلدان النائية والأمكنة البعيدة. وكذلك قال في قوله - تعالى -: (يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، أي: سخر لنا ذلك. ونحن نقول كذلك: سخر لنا ما ذكر، إلا أن إضافة ذلك إليه على قولنا: إن أفعالنا مخلوقة له. ثم يذكر فيه قدرته وسلطانه وعلمه حيث خلق الخشب، وجعل فيه معنى: يقر على وجه الماء مع ثقله، ومن طبع الشيء الثقيل التسرب في الماء والتسفل فيه، ولا

نفهم المعنى الذي به تقر على وجه الماء، وإن كان دون ذلك في الثقل يتسفل فيه ويتسرب. أو جعل ذلك بطبعه بحيث يقر على وجه الماء ولا يتسرب فيه؛ لطفًا منه؛ فمن قدر على إنشاء ما يقر على وجه الماء لمعنى جعل فيه لا نعقله نحن، أو بلطفه - لقادر على إنشاء هذا الخلق وإعادته بعد فنائه وذهابه، وإن كانت عقول الخلائق لا تدرك ذلك، وأفهام البشر تعجز عن دركه؛ فكما قدر على إنشاء ما هو طبعه التسرب في الماء والتسفل فيه، بحيث يقرّ ويركد على الماء يقدر على ما ذكرنا، وحيث قدر على تسكين الأمواج في البحر؛ ليعبر فيها، وخلق رياحًا فيها لتجري السفن كما تجري بالماء الجاري؛ فمن قدر على هذا يقدر على ما ذكرنا من الإحياء بعد الفناء. وفيه ما ذكرنا من تذكير نعمه لنا؛ لنشكره، وتذكيره قدرته وسلطانه؛ لنهاب منه، ولا ننكر قدرته وسلطانه في شيء من الأشياء على ما أنكر قدرته بعض خلقه؛ لقصور عقولهم عن درك ذلك. وفيه وجوه من الدلالة: أحدها: تعليم الأسباب التي بها يوصل إلى قطع البحار والبراري من اتخاذ السفن والحمل عليها وغير ذلك. والثاني: تسخير البحار والبراري لنا ما لولا ذلك ما تهيأ لنا استعمال ذلك. والثالث: دلالة الرسالة؛ إذ لولا خبر السماء، وإلا: ما يعرف أن ما يحتاج إليه هو في تلك البلدان النائية والأمكنة البعيدة، وما يعلم أن ذلك الطريق يفضي إلى تلك الأمكنة إلا بخبر الرسول عن اللَّه، تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: من رحمته أن جعل لكم الفلك والدواب؛ لتصلوا بها إلى أرزاقكم التي في البلاد النائية البعيدة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه لم يزل بكم رحيمًا إذا تبتم ورجعتم عن ذلك. أو كانت الآية في المؤمنين؛ فهو لم يزل بهم رحيمًا، وإن كانت في الأرزاق فيهم جميعًا. فإن قالت الثنوية: إنكم تصفون ربكم بالرحمة والرأفة، وهو يميتكم، ويقتلكم، ويحمل عليكم الشدائد والمؤن العظام؛ فذلك ليس من صفة الرحيم.

(67)

قيل: إنا قد ذكرنا لكم في غير موضع جواب السؤال: إن المرء رحيم على نفسه، وله الرحمة والشفقة عليها، ثم مع ذلك يحمل على نفسه الشدائد والمؤن العظام؛ لما يأمل من النفع في العاقبة: من نحو الحجامة، والافتصاد، وشرب الأدوية الكريهة، ما لولا ما يأمل من النفع في العاقبة - ما تحمل ذلك. وكذلك الوالدان فيهما من الرحمة والرأفة لولدهما ما لا يخفى ذلك على أحد، ثم يحملان على ولدهما ما ذكرنا من الشدائد والمؤن العظام؛ لما يأملون من النفع لهم في العاقبة، ثم لا يمنع ذلك من الوصف بالرحمة والرأفة؛ فعلى ذلك اللَّه - سبحانه وتعالى - لا يمنع ما يحمل علينا من الشدائد عن أن يوصف بالرحمة، ولا يخرجه ذلك عن الحكمة؛ بل هو على ما قال: (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أي: بطل ما كانوا يأملون من عبادتهم الأصنام إلا العبادة التي كانت لله؛ فإنه لم يبطل ما يؤمل من عبادتهم إياه؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، ويقولون: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى): فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن سفههم؛ لعبادتهم الأصنام، وعجزهم عما ياملون منها في الآخرة، حيث لم يملكوا دفع شيء مما مسهم، وكشف ما أصابهم في الدنيا؛ فكيف يأملون ذلك في الآخرة. أو أن يكون (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) أي: ضل الآلهة التي عبدوها دون اللَّه إلا إله الحق المستحق للعبادة؛ فإنه أعانكم ونجاكم من الهلاك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ): هكذا كانت عادتهم أنهم إذا خافوا الهلاك على أنفسهم - أخلصوا الدعاء لله، كقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، الآية، وكقوله: (وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ. . .)، (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)، ونحوه. ويحتمل قوله: (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) عن وفاء ما عهدتم، وإنجاز ما وعدتم؛ لأنهم قالوا: (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، فأعرضوا عن هذا الوعد، ولم يوفوا ذلك.

(68)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا). لنعم ربه، يذكر سفههم من وجهين: أحدهما: عبادتهم من يعلمون أنه لا ينعم عليهم في حال الرخاء، ولا يدفع عنهم البلاء في حال الشدة. والثاني: أن في الشاهد من أنعم على آخر نعمة، وأحسن إليه - يشكر له ويثني عليه، وإذا حل به بلاء وشدة من أحد من الخلائق يدعو عليه ويلعنه، فمعاملة أُولَئِكَ الكفرة مع اللَّه على خلاف معاملة الخلق بعضهم بعضًا: يخلصون له الدعاء في حال الشدة والبلاء، ويكفرون نعمه في حال الرخاء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) على ما خسف قوفا في البر، (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا). على ما أرسل على قوم من الحصباء، وهي الحصى؛ فأهلكهم، (ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا): ناصرًا ينصركم، أو معتمدًا تعتمدون عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) أي: يحوجكم إلى ركوب البحر مرة أخرى، (فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ). أو يذكر هذا أن من قدر على إنشاء ما ذكر من الفلك وإجرائها في البحر، وتسكين أمواجه ودفع أهواله عنكم - لقادر على إهلاككم في البر، وإعادتكم في البحر ثانيًا، وإغراقكم فيه. وفي قوله: (يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) وقوله: (يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) - دلالة أن لله في فعل العباد صنعًا؛ لأنهم هم الذين يسيرون في البحر، وهم الذين يجرون الفلك فيه. ثم أضاف الإجراء إلى نفسه، وكذلك السير؛ ليعلم أن له فيه صنعًا وفعلًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: (تَبِيعًا)، أي: من يتبعنا بدمائكم، ويطالبنا بها. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: التبيع: الكفيل، ويقال: المتقاضي في موضع. وقال غيره: هو من التبعة، أي: لا تجدوا لكم علينا به تبعة، وهو ما ذكرنا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الحاصب: الريح؛ سميت بذلك، لأنها تحصب، أي: ترمي

(70)

بالحصباء، وهي الحصى الصغار، والقاصف: الريح الشديدة التي تقصف الشجر، أي: تكسرها. وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: القاصف: الشديدة من الرياح. وقوله - عزّ وجلَّ -: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) كرمهم بأن خلقهم في أحسن صوه:؛ كقوله: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، وقومهم في أحسن تقويم وأحسن قامة؛ كقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، وكرمهم بأن ركب فيهم العقول التي بها يعرفون الكرامات من الهوان، ويعرفون بها المحاسن من المساوي، والحكمة من السفه، والخير من الشر، وكرمهم بأن جعل لهم لسانًا يتكلمون بها الحكمة وكل خير، وبها يتوصلون إلى درك الحكمة وجمعها، وكرمهم بأن جعل أرزاقهم أطيب الأرزاق وجعل لغيرهم ما خبث منها وما فضل منهم، وكرمهم بأن خلق جميع ما على وجه الأرض لهم؛ كقوله: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، وكرمهم بأن سخر لهم جميع الخلائق: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)، وجعل بني آدم هم المقصودون بخلق جميع الخلائق ونحوه، وكرمهم حيث جعلهم بحيث يتهيأ لهم استعمال السماء والأرض، واستعمال الشمس والقمر، واستعمال البحار والبراري، وجميع الصعاب والشدائد في حوائجهم ومنافعهم ما لا يتهيأ لغيرهم من الخلائق ذلك؛ فذلك تفضيلهم. وجائز أن يكون كرم بني آدم؛ لأنه كرم آدم، أوكرم آدم؛ لأنه أسجد ملائكته له، وبعثه رسولًا إليهم؛ حيث قال: (أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ)؛ فلما كرم آدم صار بنوه مكرمين -أيضًا- ولهذا نقول بأن الأب يصير مشتومًا بشتم ابنه. وما قال أهل التأويل: إنه فضل بني آدم على غيرهم من الحيوان والدواب؛ حين أكلوا وشربوا هم بأيديهم وسائر الدواب يأكلون بأفواههم - هذا الذي ذكروا هو من التفضيل، إلا أن ذكره له خاصة ليس فيه كثير حكمة وفضل؛ لكن فضلهم وكرمهم بما ذكرنا من وجوه الكرامات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ). هذا تفسير ما ذكر من تكريم بني آدم وتفضيله إياهم، ثم يحتمل هذا وجهين: أحدهما: أن جعل لهم البر والبحر مسخرين؛ حتى يصلوا إلى ما في باطن البحر وظاهره من أنواع المال والمنافع.

وكذلك البر سخر لهم؛ حتى يصلوا إلى ما في باطنه من الأموال والمنافع وظاهره. والثاني: أن جعلهم بحيث يقضون حوائجهم التي كانت لهم من وراء البحر ووراء البر - ما لم يجعل ذلك لغيرهم من الخلائق - قضاء الحوائج من ورائهما، وذلك معنى تفضيلهم الذي ذكر، ثم ما ذكر على أثر قوله: (كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، هو تفسير تفضيله وإكرامه؛ حيث قال: (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ). وجائز أن يكون ما ذكر من تكريم بني آدم وتفضيله إياهم - هو ما جعل فيهم من الأنبياء، والرسل، والأتقياء، والأخيار منهم - ما لم يجعل ذلك من غيرهم؛ ألا ترى أن موسى - عليه السلام - قال: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) الآية. وقوله: (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ). هو ما ذكرنا: أن جعل أرزاقهم وغذاءهم ما بلغ في الطيب غايته، ولا كذلك غذاء غيرهم من الدواب ورزقهم؛ لأنهم لا يأكلون إلا بعد أن يستخرجوا منه ما فيه من أذى وخبث وخشونة: من النخالة وغيرها، وفي الطبخ والنضج حتى يبلغ في الطيب واللين غايته. وأمَّا غيرهم من الدواب فإنما يأكلون كما هو نيئًا غير مطبوخ ولا نضيج، وفيه من الخبث والأذى. (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا). أما بعض أهل التأويل فإنه قال: فضلناهم على كثير ممن خلقنا: على الجن والشياطين، وأصحابهم غير الملائكة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: على كثير ممن خلقنا: من الحيوان والدواب، (تَفْضِيلًا): بالأكل بالأيدي، وجعل رزقهم من غير رزق الدواب. ويحتمل (عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا): ممن على وجه الأرض من الجن وغيرهم؛ لما لم يرسل إلى الجن رسول منهم، ولا أنزل عليهم كتاب على حدة، وما جعل أرزاقهم مما يفضل من البشر من العظام والسرجين وغيره، على ما ذكر؛ فذلك وجه تفضيلهم عليهم. وأمّا الكلام في تفضيل البشر على الملائكة والملائكة على البشر - فإنا لا نتكلم في شيء من ذلك؛ لما لا نعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة؛ فالأمر فيه إلى اللَّه في تفضيل هَؤُلَاءِ على هَؤُلَاءِ، وهَؤُلَاءِ على هَؤُلَاءِ، ليس إلينا من ذلك شيء، ولا جائز أن يجمع بين أشر البشر وأفسقهم وبين الملائكة الذين لم يعصوا اللَّه طرفة عين، فيقال: هم أفضل من الملائكة؛ ولكن إن كان لا بد فإنما يجمع بين الأنبياء والرسل

(71)

وأتقى الخلائق وبين الملائكة، فيتكلم حينئذ بتفضيل بعض على بعض؛ فهو ما ذكرنا أن الأمر في ذلك إلى اللَّه، ليس إلينا من ذلك شيء، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ). قال الحسن: هذا صلة قوله: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، فيقول: أي: يوم ندعو كل أناس بإمامهم. ثم اختلف في قوله: (بِإِمَامِهِمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ندعو بإمامهم، أي: بدينهم الذي دانوا به وذبوا عنه، ويدعى كل بدينه الذي دان به وذبَّ عنه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِإِمَامِهِمْ)، أي: برؤسائهم وأئمتهم الذين أضلوهم، أي: يدعى الأتباع بأئمتهم ورؤسائهم الذين أضلوهم حتى يلوم بعضهم على بعض، ويلعن بعضهم على بعض، ويتبرأ بعضهم من بعض؛ كقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا. . .) الآية، وقوله: (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، وقوله: (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)، يدعى الأتباع بالمتبوعين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يدعى كل أناس بداعيهم الذي دعاهم: إن كان رسولًا فبالرسول، وإن كان شيطانًا فبالشيطان، وهو قريب مما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِإِمَامِهِمْ): كتابهم الذي كتب الملائكة أعمالهم فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يدعى بكتابهم الذي أنزل عليهم، يدعى كل بما ذكر؛ ليعلموا أن الحجة قد قامت عليهم، ووجب لهم العذاب باتباعهم ما اتبعوا بلا حجة ولا برهان. وحاصل أقاويل هَؤُلَاءِ ترجع إلى وجوه ثلاثة:

(72)

أحدها: يوم ندعو إمام كل أناس: كان إمامهم في خير أو شر فيجزى له جزاؤه، ثم يكلف هو دعاء أتباعه إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب. والثاني: يدعى كل إمام ورئيس في خير أو شر بأتباعه الذين يتبعونه فيما يدعوهم إليه نحو كل رسول يدعى بقومه الذين اتبعوه، وكل رئيس وشيطان استتبعهم. والثالث: (بِإِمَامِهِمْ): كتابهم الذي كتب لأعمالهم الذي كتبوا؛ كقوله: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا)، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ): كلهم قد يقرءون كتابهم، غير أن المؤمن إذا نظر في الكتاب - فرح به واستبشر بما فيه؛ فسهل عليه القراءة، وهانت لما كان يتبع حجج اللَّه. وأمَّا الكافر إذا نظر في الكتاب، حزن واغتم به؛ فعسر عليه قراءة كتابه، وهو كقوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) الآية. ويقول الكافر: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ. . .) الآية؛ لأنه اتبع ما اتبع بلا حجة. أو أن يكون المؤمن إذا نظر في كتابه، رأى سيئاته مغفورة، كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) - فرح بذلك، والكافر إذا رأى سيئاته باقية عليه، وحسناته قد بطلت - حزن بذلك واغتم؛ لذلك قال ما قال، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) قَالَ بَعْضُهُمْ: من كان في هذه الدنيا أعمى عن توحيد اللَّه والإيمان به مع كثرة آياته ودلالته على وحدانيته - فهو عن الإيمان بالآخرة والبعث بعد الموت - أعمى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من كان في هذه الدنيا أعمى عن الحق - فهو في الآخرة أعمى عن حججه؛ لأنه إذا عمي عن الحق نفسه فهو عن حججه أعمى؛ فتكون (في) بمعنى (عن)؛ إذ الآيات والدلالات على وحدانية اللَّه أكثر وأظهر من الدلالة على البعث والآخرة؛ إذ ليس شيء إلا وفيه أثر وحدانيته ودلالة ألوهيته، ولا كذلك الآخرة؛ فهو عن الإيمان بها أشد عمى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من عمي في هذه الدنيا عن الإيمان باللَّه - فهو في الآخرة أعمى عن الإيمان به؛ لأن الدنيا مما يقبل فيها الإيمان، وفي الآخرة لا يقبل؛ وهو ما قال: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)، أي: حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان به، (كَمَا

فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ)، أي: كما حيل بين أشياعهم وبين الإيمان به، عند معاينة بأس اللَّه وعذابه، وهو قول الحسن. وقال أبو بكر قريبًا من هذا، وهو أن من عمي عن الرشد والحق في هذه الدنيا؛ لجهله به - فهو في الآخرة عند علمه بالرشد والحق أشد عمى، أو كلام نحو هذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من عمي قلبه في الدنيا عن الإيمان باللَّه والتوحيد له - فهو في الآخرة يكون أعمى الوجه والحواس؛ كقوله: (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا)، وكقوله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا. . .) الآية: ما ذكر ذاهبة حواسهم لما تركوا الانتفاع بها في الدنيا لما جعلت لهم الحواس. ويشبه أن يكون قوله: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى): بالافتراء على اللَّه (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى)، أي: مفتر على اللَّه -أيضًا- كقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، ونحوه: يفترون في الآخرة ويكذبون كما كذبوا في الدنيا، وكقوله: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، ثم أخبر عنهم فقال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). وقال قتادة: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى): يقول: ومن كان في الدنيا فيما أراه الله من آياته من خلق السماوات والأرض والجبال والنجوم أعمى (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ) الغائبة عنه التي لم يرها - (أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)، وهو قريب مما ذكرنا. وقال ابن عَبَّاسٍٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن كان في هذه النعم أعمى أن يعلم أنها من ألله - فهو في الآخرة أعمى عن حجته، ويقال: عن دين اللَّه، وأضل طريقا، ويقال: أضل عن حجته. وقال غيره من أهل التأويل: من كان في هذه النعم أعمى - يعني: الكافر - عمي عنها، وهو يعاينها؛ فلا يعرف أنها من اللَّه فيشكر ربها؛ فهو في الآخرة أعمى، يقول: عما غاب عنه من أمر الآخرة من البعث والجزاء - أعمى وأضل سَبِيلًا وأخطأ طريقًا، وبعضه قريب من بعض، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا

(73)

وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) دل هذا على أنه قد كان من الكفرة شيء من الدعاء إلى شيء: يصير به مفتونًا لو أجابهم إلى ذلك، وكذلك كانت عادة الكفرة: كادوا أن يضلّوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويفتنوه عن الذي أوحي إليه، ويصرفوه عنه، كقولهم: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ)، هكذا كانت عادتهم: كانوا يطلبون منه الافتراء على اللَّه والضلال على وجه المكر به، لا ضلال تصريح وكفر تصريح؛ ولكن معنى؛ يؤدي ذلك إلى الضلال والكفر، يريدون منه المساعدة لهم في بعض ما هم فيه بما كانوا يرونه من الموافقة له والمساعدة، لكن اللَّه عصم رسوله عن جميع ما كانوا يطلبون منه؛ بالآيات والحجج التي ذكر في كتابه، وبالعقول؛ كقوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ. . .) الآية: أخبر أنهم لا يؤمنون حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضى. ومن لم يكن معصومًا يجوز أن يوجد منه حرج مما قضى به، وكقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، ومن لم يكن معصومًا يجوز أن يؤذي ولا يلحقه اللعنة، وقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ. . .) الآية، فمن لم يكن معصومًا يجوز أن يكون الخيرة من أمره، وقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وأمثاله من الآيات مما يكثر عدها. وكذلك العقول تشهد أنه كان معصومًا؛ فمن أراد أن يصرف ويزيل عنه العصمة بتأويل يتأوله في بعض الآيات، أو بحديث يرويه - فإنا لا نقبل تأويله، ولا خبره الذي روى، ونشهد أنه كذب. ويجوز أن يكون في خبره الذي روى معنى آخر سواه؛ فليس له أن يروي إلا بالمعنى الذي كان فيه؛ فتأويل أهل التأويل أنه ألقى الشيطان ولقنه عند تلاوته: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) - تلك الغرانيق العلا، وشفاعتهن ترتجى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا ندعك تستلم الحجر إلا أن تستلم آلهتنا، ونحوه.

(74)

إن ذلك كله فاسد خيال؛ أنه كان لا يحوم حول أصنامهم في حال صغره، ولا رأوه دنا منها؛ حتى لم يطمعوا ذلك منه ما دام صغيرًا؛ فكيف طمعوا ذلك الاستسلام لها بعد ما أوحي إليه وصار رسولًا؟! وكذلك ما ذكروا أنهم طلبوا منه أن يطرد بعض الذين اتبعوه - عنه؛ ليكونوا هم أتباعه؛ فهم أن يفعل ذلك فنزل: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، لكن ذلك كله فاسد خيال، لا يحتمل ما توهموا فيه؛ لأنهم لم يعرفوه حق معرفته، وإلا لو عرفوه حقيقة المعرفة ما توهموا فيه شيئا من ذلك، وباللَّه التوفيق والمعونة. ثم قوله: (لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ). قد ذكرنا أن عادتهم ذلك إلا أن اللَّه عصمه عن ذلك. ثم قوله: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) فظاهر الآية يرد جميع ما قال أهل التأويل في هذه الآية؛ لأنه يقول: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ): أخبر أنه قد ثبته؛ فلم يركن؛ لأنه أخبر أنه قد ثبته؛ فلم يكد أن يركن إليهم. وقال: (شَيْئًا قَلِيلًا): سمي ذلك: شيئًا يسيرًا، ولو كان ما قال أُولَئِكَ لكان شيئًا كبيرًا عظيمًا، بل يبلغ الكفر؛ دل أنه لم يكن ما ذكروا، وقال: (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ)، و (كاد): هو حرف بمعنى: قارب، أي: قارب أن يركن؛ كقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ)، أي: قارب أن يتفطرن، وليس فيه أنه ركن إليهم؛ فقولهم فاسد للوجوه التي ذكرنا أحدها: أنه ذكر، (شَيْئًا قَلِيلًا): وما قالوا: كبير عظيم يخاف أن يبلغ الكفر. والثاني: قال (كِدْتَ)، وهو حرف تقارب. والثالث: ذكر على الشرط: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)؛ فلم يركن لما ثبته، وهو ما قال إبراهيم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، وما ذكرنا في قصة يوسف: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ): ليس فيه أنه همَّ، ولا فيه أنه ركن؛ لأنه خرج على الشرط. وقال الحسن في قوله: (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ)، أي: هممت، لكنه هم به هم خطر خطره إبليس. وكذلك قال في قصة يوسف: همت به همّ عزم، وهم بها هم خطر.

(75)

وقال غيره: أرادوا منه أن يجعل لهم مجلسًا على حدة؛ ليسلموا، فهم به أن يفعل ذلك؛ لحرصه على إسلامهم، وإشفاقًا عليهم، فمثل هذا يجوز الفعل إلا أن الرسل لا يجوز لهم أن يفعلوا شيئًا، وإن صغر، إلا بإذن من اللَّه - تعالى - ألا ترى أن يونس - عليه السلام - لما خرج من عند قومه مغاضبًا عليهم بغير إذن منه - عاتبه ربه بذلك معاتبة عظيمة؛ حيث قال: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144). ومثل هذا لو فعله غيره من دونهم كان ممدوحًا محمودًا في ذلك؛ فهذا يدل أن الأنبياء لم يكن لهم صنع شيء وإن قل إلا بإذن من اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ضِعْفَ الْحَيَاةِ)، أي: مثل الحياة. وغيره قال: (ضِعْفَ الْحَيَاةِ): عذاب الدنيا، (وَضِعْفَ الْمَمَاتِ): عذاب الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)، قيل: مانعًا. وقيل: ناصرًا ينصرك، وشافعًا يشفعك إلينا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) قال الحسن: قوله: (لَيَسْتَفِزُّونَكَ)، أي: كادوا ليقتلونك، وليخرجوك منها بالقتل، وقد كانوا هموا قتله، لكن اللَّه عصمه عن ذلك؛ بقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا): هكذا كان سنة اللَّه في الأمم الخالية أنهم إذا قتلوا نبيهم: لم يلبثوا بعده إلا قليلًا حتى أهلكوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الإخراج نفسه، إلا أن اللَّه أخرجه إخراج هجرة إلى المدينة لما سبق من رحمته وفضله ألا يهلك هذه الأمة إهلاك استئصال؛ فلو كانوا هم أخرجوه - لاستوجبوا به الإهلاك؛ لما كان من سنته في الأولين إهلاكهم إذا أخرجوا رسولهم من بينهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: على حقيقة الإخراج منهم: أخرجوا رسول اللَّه من بينهم، وفعلوا

(77)

ذلك؛ فلم يلبثوا بعده إلا قليلًا، حتى أهلكهم اللَّه بالقتل يوم بدر وغيره، وهو ما قال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ): ففيه دلالة أنهم أخرجوه، وأنهم أهلكوا بذلك، وكذلك كانت سنة اللَّه في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك. وقال أهل التأويل في قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ)، أي: ليستنزلونك من أرض المدينة؛ حيث نزل بالمدينة؛ قالت له اليهود: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء والرسل إنما أرض الأنبياء والرسل أرض الشام؛ فإن كنت نبيًّا رسولًا فاخرج إليها فخرج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - متوجهًا إلى الشام، فعسكر على رأس أميال؛ لينتاب إليه أصحابه؛ فنزل به جبريل بهذه الآية، لكن ذكرنا أن هذا وأمثاله لا يحتمل؛ لأنه لا يجوز أن يخرج رسول اللَّه من أرض المدينة إلى أرض الشام بقول أُولَئِكَ اليهود، من غير أن كان من اللَّه إذن له في ذلك، هذا لا يحتمل ولا يتوهم منه ذلك، والوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. ويشبه أن يكون قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، أي: كادوا أن يفتنونك بالمكر والكيد والخديعة لك؛ ليستفزونك من الأرض، لا أنهم كانوا يطمعون أن يفتنوه ويضلوه عن الذي أوحي إليه على التصريح والإفصاح؛ ولكن على جهة المكر به والخديعة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) على قول الحسن: السنة في الأمم الذين قبله: أنهم إذا قتلوا الرسول أهلكوا أو عذبوا. وعلى قول بعضهم: السنة فيهم: أنهم إذا أخرجوا الرسول من بينهم؛ على علم منه: أنهم لا يؤمنون، بعده الإهلاك. وعلى قول بعضهم: على الإخراج نفسه، وهَؤُلَاءِ قد أخرجوا رسولهم من بيهم بقوله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ. . .) الآية. وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ)، لكنهم عذبوا تعذيب رحمة وإهلاك رحمة، لا إهلاك استئصال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا). أي: لعذابنا تحويلًا.

(78)

قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَقِمِ الصَّلَاةَ). يحتمل الأمر بإقامة الصلاة: الأمر بالدوام عليها واللزوم بها، أي: الزم بها وأدها. أو اسم التمام والكمال، أي: أتممها وأكملها بالشرائط التي أمرت بها. ويحتمل قوله: (أَقِمِ): فعلها، ولم يفهم من قوله: (أَقِمِ الصَّلَاةَ) الانتصاب على ما ينصب الشيء ويقام به؛ فدل أنه لا يفهم من الخطاب ظاهره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) زوالها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)، أي: إلى ظلمة الليل (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)، أي: صلاة الفجر، فيقول بعض الناس: في هذه الآية بيان أوقات الصلوات الخمس جميعًا؛ لأنه ذكر أول ما يجب من الصلاة وهي الظهر إلى ما ينتهي وهي الفجر؛ فعلى هذا التأويل (إلى) لا تكون غاية، ولكن تكون كأنه قال: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِدُلُوكِ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: دلوك الشمس: زوالها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)، أي: إلى ظلمة الليل. ومنهم من يقول: فيه ذكر صلوات النهار؛ لأنه ذكر دلوك الشمس، وهو زوالها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)، وغسق الليل هو بدؤ ظلمة الليل. فيدخل زيه الظهر والعصر؛ فعلى تأويل هذا يكون حرف (إِلَى) غاية لا تدخل صلاة

الليل فيه. ثم تخصيص الخطاب لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والأمر له بإقامة الصلاة يكون كأنه قال: (أقم لهم الصلاة)، فإن كان هذا، ففيه دلالة صحة صلاة القوم بصلاة الإمام، وتعلق صلاتهم بصلاة الإمام حيث قال: (أقم لهم الصلاة)، ولو كان كل أحد يقيم صلاة نفسه، لكان لا يقول: (أقم لهم الصلاة)، ولكن يقول (صل الصلاة)؛ فدل أنه على ما ذكرنا. ثم قوله: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ): يحتمل وجهين: أحدهما: أقم الصلاة للذي تدلك له الشمس أي: تسجد، كقوله: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ. . .) الآية. والثاني: أقم الصلاة للوقت الذي يتلو دلوك الشمس الصلاة وأقم قراءة الصلاة. ثم تخصيص الفجر لما ذكر حيث قال: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)، التخصيص لقرآن الفجر لأنه مشهود، والفرضية بها بقوله: أقم قرآن الصلاة على ما ذكرنا. ثم قوله: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) أي: لم يزل في علم اللَّه كان مشهودًا، أو صار مشمهوذا، ثم قال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ): وهي صلاة الفجر، وإنَّمَا ذكر صلوات النهار فدخل صلوات الليل بقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ)، لكنهم يقولون: إن التهجد بعد النوم، وقد يكره النوم قبل فعل المغرب والعشاء فلا يصح هذا. ومنهم من يقول: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) غروبها، وهو قول عبد اللَّه بن مسعود وغيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فيه ذكر صلوات الليل؛ لأنه ذكر بدوّ ظلمة الليل، وذلك بالغروب، وقرآن الفجر وهو آخر ما ينتهي ظلمة الليل؛ لأنه يبقى ظلمة الليل إلى وقت الفراغ من الفجر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ).

يحتمل هذا وجهين: أحدهما: القرآن يكون كناية عن صلاة الفجر، كأنه قال: أقم الصلاة لدلوك الشمس، وأقم -أيضًا- صلاة الفجر؛ لأنه نسق على الأول، ويحتمل قوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)، أي: قراءة الفجر، أي: أقم قراءة الفجر. ويجوز أن يقال: (القرآن) مكان (القراءة)، كقوله: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي: قراءته. ثم من الناس من احتج بفرضية القراءة في الصلاة بهذا؛ لأنه نسق على الأول على ما ذكرنا كأنه قال (أقم القراءة). ومنهم من يقول: إنما حث على قراءة الفجر دون غيرها من الصلوات لما طول القراءة فيها لتقصيره عن الأربع؛ لأنه لم يجعل غيرها من الصلوات ركعتين فحث على قراءتها لهذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا). قال عامة أهل التأويل: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، أي: حرس الليل وحرس النهار، وعلى ذلك رويت الآثار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن الصحابة. وقوله: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا): أي: قراءة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، على هذا حمله أهل التأويل، وعلى ذلك رويت الأخبار، وإلَّا جاز أن يقال فيه بوجه آخر: وهو أن تشهده القلوب والسمع والعقول؛ لأن ذلك الوقت هو وقت الفراغ عن جميع الأشغال والموانع التي تشغل عن الاستماع والفهم عنه ما لا يكون

(79)

ذلك الفراغ لغيرها من الصلوات من صلاة المغرب والعشاء؛ لأنها بقرب من الأشغال والحوائج، ألا ترى أن الجهر بالقراءة إنما جعل في الأوقات التي هي أوقات الفراغ عن الاشتغال: وهي المغرب والعشاء، ثم وقت الفجر هو أخلى وقت عن غيره؛ لأنه بعد فراغ النوم، وقبل هجوم وقت التقلب، فالقراءة فيها والقلوب أشهد لها، لكن أهل التأويل صرفوا ذلك إلى ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) قَالَ بَعْضُهُمْ: النافلة: الغنيمة، كقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) أي: الغنائم، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَافِلَةً لَكَ)، أي: غنيمة لك تغنم بها غنائم أو كلام نحو هذا. وقال الحسن: قوله: (نَافِلَةً لَكَ): أي: خالصة لك، وخلوصها له وهو ألا يغفل هو عن شيء منها في حال من الأحوال، وغيره من الناس يغفلون فيها عن أشياء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر أنه نافلة له؛ لأنه كان مغفورًا له فما يعمل يكون له نافلة، وأما غيره فإن ما يعمل من الخيرات يكون كفارة لذنوبهم فلا يكون لهم نافلة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا). قال: (يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)، تحمد عاقبته بالتهجد، أي: يبعثك ربك مقامًا تحمد أنت تلك العاقبة جزاء بتهجدك في الدنيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَقَامًا مَحْمُودًا) ما يحمده كل الخلائق الأولون والآخرون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَقَامًا مَحْمُودًا) هو مقام الشفاعة، واللَّه أعلم، أي: تشفع لأمتك وأهل العصيان منهم. وجائز أن يكون هو صلة قوله - ما تقدم من قوله: (فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا)، وقوله: (فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)، وقوله: (فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا)، وما ذكر من المواعيد لما سمع هذا وقرع سمعه أخافه ذلك وأفزعه؛ فنزل قوله: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) إن عبدت اللَّه وأطعته في جميع أموره ونواهيه، وأقمت له الصلاة والصيام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)

ظاهر هذا الخطاب يكون لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث أمره أن يدعو بما ذكر، وقد عرف هو ما أمره من الدعاء بقوله: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)، فلا حاجة تقع لنا إلى أن نطلب المراد من ذلك، إلا أن يكون لغير في ذلك اشتراك، فعند ذلك يتكلف فيه ويطلب المراد منه. وق ل تكلم أهل التأويل في ذلك. قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ)، كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمكة ثم أمر بالهجرة منها إلى المدينة وأمر أن يدعو بهذا الدعاء: (رب أدخلني في المدينة مدخل صدق آمنا على زعم اليهود، وأخرجني من المدينة إلى مكة مخرج صدق على زعم كفار مكة ظاهرًا عليهم)؛ ألا ترى أنه قال: (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) عليهم ففعل اللَّه ذلك له وأجابه، وقد ذكرنا في غير موضع أن حرف (السلطان) يتوجه إلى وجوه ثلاثة: يكون مرة عبارة عن حجة قاهرة غالبة. ويكون عبارة عن ولاية نافذة غالبة. ويكون عبارة عن اليد الغالبة الظاهرة أيضًا، وقد كان - بحمد اللَّه ومنته - لرسول الله على الكفرة ذلك كله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) في مكة؛ ليعلم أهل مكة أني قد بلغت الرسالة (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)؛ ليعلم يهود المدينة أني نصرت وبلغت ما أمرت به. وقال الحسن: أخرجني من مكة مخرج صدق. وأدخلني في الجنة مدخل صدق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) فيما حملتني من الرسالة والنبوة، وما أمرتني به لأؤديها على ما أمرتني، وأبلغ الرسالة إلى الخلق على ما كلفتني، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)، أي: أخرجني مما كلفتني سالمًا لا تبعة علي، أو كلام نحوه. وأصله: كأنه أمره أن يسأل ربه الصدق في جميع أفعاله وأقواله؛ وفي جميع ما يعبده به من الدخول في أمر أو الخروج منه؛ إذ لا يخلو العبد من هذين: من الدخول في أمر والخروج منه، سأله الصدق في كل حال وكل دخول وكل خروج.

(81)

وقال مجاهد: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) في الرسالة والنبوة، وهو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: حجة منه، وقد أقامها على الكفرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (سُلْطَانًا نَصِيرًا)، أي: اجعل في قلوب الناس هيبة، ليهابوني، وقد كان من الهيبة بحيث هابوه من مسيرة شهرين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو السلطان الذي ينصرون به الدِّين، ويقيمون الحدود والأحكام ونحوه. وقيل: السلطان: هو إقامة الحدود والأحكام والشرائع، وهو تفسير الولاية؛ لأنه بالولاية ما يقيمها، وهو ما ذكرنا: أن الولاية إقامة الأحكام. ثم قيل في الصدق والإخلاص: قَالَ بَعْضُهُمْ: الإخلاص: هو ألا يجعل الشخص بقلبه نصيبًا لأحد سواه، والصدق وإن جعل لا يجد لذلك لذة، الصدق عندنا أن يجعل الفضل في جميع أفعاله لله لا يجعل لنفسه شيئا من الفضل، وعلى ذلك يلزمه الشكر لرته في جميع خيراته. وعن الحسن قال: لما مكر كفار مكة برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، فأراد اللَّه بقاء أهل مكة، فأمر نبيه أن يخرج منها مهاجرًا إلى المدينة، وعلمه ما يقول، فأنزل اللَّه: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)؛ وعده اللَّه لينزعن ملك فارس والروم ويجعله لأمته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) قَالَ بَعْضُهُمْ: (جَاءَ الْحَقُّ) وهو الإسلام. وقيل: (جَاءَ الْحَقُّ): القرآن. وقيل: (جَآءَ ألحَق) أي: مُحَمَّد. أو يقول: جاءت آثار الحق فذهب الباطل وآثاره.

(82)

أو جاءت حجج الحق وبراهينه وذهبت شبه الباطل وتمويهاته، والحق: يحتمل ما ذكرنا من الإسلام ورسول اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، أي: ذهب وبطل غيره من الأديان، وغيره من المذاهب، وعبادة الأصنام ونحو ذلك. قالوا: وأصله: أن الناس كانوا في حيرة وتيه قبل بعث الرسول؛ لما كانوا فقدوا دين اللَّه وسبيله منذ كان رفع عيسى من الأرض إلى السماء لا يجدون سبيل اللَّه، ولا يهتدون إلى شيء، حيارى، حزانى حتى بعث اللَّه محمدًا، ليدعوهم إلى دين اللَّه، ويبين لهم سبيله الذي كان يتمسك به الأنبياء من قبله، ويخرجهم من تلك الحيرة التي كانوا فيها، ففعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فذلك الذي قال اللَّه تعالى: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، أي: (جَاءَ الْحَقُّ) الذي كانوا فقدوه فَسُرُّوا بذلك، (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، أي: ذهب واضمحل، (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)، أي: ذاهبًا مضمحلًا، لا يجدي خيرًا، ولا يعقب لأهله نفعًا، والحق هو الذي يعقب ويجدي نفعًا لأهله. ثم قوله: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) لم يفهم أهل الخطاب بمجيء الحق: الانتقال من مكان إلى مكان، ولا بذهاب الباطل على ما يفهم من مجيء فلان وذهاب فلان، بل فهموا من مجيء الحق ظهوره وعلوه، وفهموا من زهوق الباطل وذهابه: فناه واضمحلاله وتلاشيه، وعلى ذلك لم يفهموا من مجيء الأعراض ما فهموا من مجيء الأجسام والأجساد؛ فعلى ذلك لا يجب أن يفهموا من قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ): الانتقال من مكان إلى مكان؛ وكذلك لا يفهم من قوله: (ثُمَ اسْتَوَى عَلَى العرشِ) استواء الخلق، ولا من نزوله: نزول الخلق؛ على ما لم يفهم مما أضيف إلى الأعراض من الأفعال ما فهموا من الأجساد والأجسام، بل فهموا من اللَّه غير الذي فهموا من الآخر؛ فعلى ذلك لا يفهم مما أضيف إلى اللَّه تعالى ما يفهم مما أضيف إلى الخلق، بل يتعالى عن أن يشبه الخلق أو يشبهه الخلق في معنى من المعاني، أو في وجه من الوجوه، بل هو كما وصف نفسه؛ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، وقوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ)، وتعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) كأن الآية نزلت في ابتداء الأمر، حيث قال: (وَنُنَزِّلُ) ولم يقل: (ونزلنا من القرآن ما هو شفاء). وجائز أن يكون قوله: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ): نفس القرآن، وهو ما ذكرنا.

(83)

ويحتمل المواعيد التي في القرآن من وقائع تكون عليهم، وكأن في ذلك شفاء للمؤمنين، كقوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ. . .) الآية. أو نقول بأنه يجوز (نفعل) بمعنى (فعلنا)، وذلك كثير في القرآن. ثم قوله: (مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، أي: شفاء للمستشفين في الدنيا، ورحمة لمن تمسك به في الآخرة، فيه شفاء لمن استشفاه في الدنيا، ورحمة في الآخرة لمن تمسك به، وعمى وخسار وظلمة لمن أعرض عنه، ونظر إليه بعين الاستخقاف والاستهزاء والاستثقال، وأما من نظر إليه بعين التعظيم والإجلال فهو له شفاء ورحمة وإن كان القرآن تفسه شفاء ونورًا، وهكذا في الشاهد أن من أبصر شيئًا إنما يبصر بنور البصر وبنور الهواء بارتفاع ما يستر النورين جميعًا؛ لأنه إذا كان عمى البصر لم يبصر شيئًا، وإن كان نور الهواء متجليًا وكذلك لا يبصر إذا كان نور البصر متجليًا، بعد أن سترت الظلمة نور الهواء. فإن كان ما ذكرنا أنه لا يبصر في الشاهد شيئًا إلا بنورين: نور البصر، ونور الهواء، فالكافر لم يبصر نور القرآن وشفاءه؛ لما سترت الظلمة نور قلبه، والمؤمن أبصر نوره وشفاءه بنور إيمانه، وهكذا الأدوية؛ فإنها لا تجدي نفعًا وإن كانت نافعة شافية في أنفسها إلا بقبول الطبيعة؛ لأن الطبع إذا لم يقبلها وإن كانت نافعة شافية - لم تنفع صاحبها، ولم تكن له شفاء، وصارت كأنها في الأصل كانت ضارة غير شافية؛ فعلى ذلك القرآن - وإن كان في نفسه شفاء ونورًا - ضار للكافر عمى وخسارًا، كأن لا شفاء فيه ولا رحمة لما سترت ظلمة الكفر نوره فصار كالزائد رجسًا وطغيانًا ونفورًا، وهو ما قال: (وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ):

(84)

فيشبه أن يكون النعمة التي ذكر هو مُحَمَّد؛ لما ذكرنا أنهم كانوا في حيرة وعمى لا يجدون السبيل إلى دين اللَّه، (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا)، فذلك الإعراض الذي ذكروا، واللَّه أعلم، فبعث اللَّه محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليدعوهم إلى دين اللَّه ويبين سبيله، فذلك منه نعمة عظيمة أعرضوا عنها وتباعدوا عنها. ويشبه أن يكون ما قاله أهل التأويل إنه إذا وسع عليه الرزق والعيش أعرض عن الدعاء له وتباعد بجانبه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا)، أي: يائسًا من الخير ألا يعود إليه أصلا، وهكذا كانت عادتهم أنهم كانوا يخلصون الدعاء له إذا مسّهم سوء وأصابتهم شدة، ويكفرون به إذا تجلى ذلك عنهم وانكشف، كقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ. . .) الآية. (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ. . .) الآية. وأمثاله، وكان الناس كلهم فرقًا أربعة: منهم من كان مذهبهم ما ذكرنا: أنهم كانوا يخلصون له الدعاء في حال الشدة ويكفرون في حال الرخاء. ومنهم من كان يؤمن به في حال الرخاء والنعمة ويكفر به في حال الشدة، كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) الآية. وهم أهل النفاق. ومنهم من يكفر به في الأحوال كلها كقوله: [ ... ]. والفرقة الرابعة هم أهل الإسلام يؤمنون به في حال الرخاء وحال الشدة في الأحوال كلها، على هذا كانوا في الأصل، وعلى هذا يجيء أن يكون قوله: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) من الأصنام، كقوله: (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، فيكون إياسهم من الأصنام التي عبدوها. لكن أهل التأويل صرفوا إلى ما ذكرنا من الإياس عن الخير من أن يعود إليهم. وقوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) لسنا نعلم إزاء أي سبب كان هنالك حتى قال: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)؛ إذ إنه يجوز أن يقال هذا بلا سبب كان منهم، لكن يشبه أن يكون، قال هذا على الإياس من إيمانهم لما لم يزدهم دعاؤه إياهم وكثرة تلاوة

آياته عليهم وإقامة حججه عليهم - إلا عنادًا وإنكارًا، فقال عند ذلك: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)، أي: على دينه وطريقته، كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وكقوله: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) فهو كله على الإياس عن أن يؤمنوا به ويقبلوا دينه، ثم قال: (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا)، أي: ربكم أعلم بمن منا على الهدى، ومن ليس. أو من منا أهدى سبيلًا نحن أو أنتم؟ وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الشاكلة: الحاضرة أي: على ناحيته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: شاكلته، أي: على خليقته وطبيعته. وقال قطرب: على طريقته، وكأن هذا أشبه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: على نيته. وقيل: على دينه ومذهبه. وقيل: على جديلته ومنهاجه، وكله يرجع إلى واحد. ويشبه أن يكون: أي: كل يعمل بما هو الشبيه به وما هو يشبهه؛ لأن الشكل هو ما يشبه الشيء، يقال: هذا شكل هذا، وقوله: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) على قول من يقول على خليقة خلق عليها؛ لأنه خلق على علم منه أنه يختارها ويؤثرها، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) قيل: ذاهبًا باطلًا، لا يجدي لأهله نفعًا؛ لأنه يتلاشى ولا يبقى، والحق يجدي لأهله نفعًا ويبقى، وعلى ذلك ضرب اللَّه مثل الحق بالشيء الذي يبقى، وضرب مثل الباطل بالشيء الذي لا يبقى ولا يثبت؛ فقال: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) وقد ذكرناه في موضعه: ضرب مثل الباطل بالزبد وهو يتلاشى، لا ينتفع به؛ فعلى ذلك الباطل، وضرب مثل الحق بالماء، وهو يبقى في الأرض، وينفع الناس، وضرب مثل الباطل -أيضًا- بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار بقوله: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ. . .) الآية، وضرب مثل الحق

(85)

بالشجرة الطيبة الثابتة في الأرض ذات قرار وثبات بقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ). فهو على ما وصفها: الحق ثابت باق وله قرار ينفع أهله، والباطل يرى ثم يتلاشى ولا بقاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) اختلف فيه: قال أبو بكر الأصم: الروح: القرآن هاهنا، كقوله: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) وكذلك قوله: (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ. . .) الآية، (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، أي: من تدبير ربي، ما لو اجتمع الخلائق ما قدروا على مثله. فَإِنْ قِيلَ: كيف سألوا عن القرآن، وهم لم يقروا بالقرآن؟ فقال: سموه: قرآنًا وروحًا على ما عنده - أعني: عند رسول اللَّه - كقوله: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ) وهم لم يكونوا أقروا أنه رسول، ولكن سموه: رسولًا؛ لما أنه عند نفسه وزعمه رسول، أي: ما لهذا الذي يزعم أنه رسول يأكل الطعام؟ فعلى ذلك قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) وهو الذي به حياة الأبدان من هلاك الضلال، أي: من تمسك به نجا من هلاك الضلال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، أي: بأمر ربي ينزل. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، أي: من خلق ربي، وهما واحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الروح: هو الملك وإنَّمَا سألوه عنه، كقوله: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا): يعني: الملك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما سألوا عن الروح المعروف الذي به حياة الأبدان، لكنه لم يجبهم، فوكل أمره إلى اللَّه لما لا يدركون ذلك لو بين لهم وأمثاله. ورُويَ عن أبي يوسف - رحمه اللَّه - أنه كان ينهى عن الخوض في الكلام، ويحتج بظاهر هذه الآية؛ حيث سألوه عن الروح، فلم يجبهم، ولكن فوض أمره إلى اللَّه، وما سئل من الأحكام إلا وقد بين لهم كقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. . .) الآية. و (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ. . .) الآية، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى)

(86)

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ)، (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ)، مثل هذا ما سئل عن شيء من الأحكام إلا وقد أجابهم وبين لهم بيانًا شافيا، وقال هاهنا: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي). وقال جعفر بن حرب: إن اللَّه قد أمر بالتكلم في الكلام بقوله: (وَجَادِلْهُمْ. . .) الآية، وقال: (فَلَا تُمَارِ فِيهِم. . .) الآية. ونحوه، فكيف نهى عن الخوض في الكلام؟ لكن أبا يوسف إنما نهى عن الخوض في الكلام الذي لا يدرك ولا يزيد الخوض فيه إلا حيرة وضلالًا نحو ما رُويَ عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " تفكروا في المخلوق ولا تتفكروا في الخالق " لأنه لا يدرك، فالتفكر فيما لا يدرك لا يزيد إلا عمى وحيرة وتيهًا، وأما الخوض في الذي يدرك ويعقل فإنه لم ينه عن مثله. وأصله: ما ذكرنا من إباحة التكلم في الدِّين والخوض في الكلام في كثير من الآيات مق ذلك قوله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. . .) الآية. ونحوه. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: أو لا نفسر الروح ما هو؟ لما لا يعلم ما أرادوا بالروح وهم قد علموا ما أرادوا. أو علم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما سألوا، وإنما سألوا ذلك عما في كتبهم؛ ليعلموا صدقه فيما يدعي من الرسالة؛ لما علموا أن غير الرسول لا يعلم ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ما أوتيتم من العلم الذي به مصالحكم وما جاءكم إلا قليلًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ما أوتيتم من العلم الذي أنشأه والعلم الذي عنده إلا قليلًا، وهو هكذا: أنا لم نؤت من العلم إلا علم ظواهر الأشياء وباديها، لم نؤت علم بواطن الأشياء وحقائقها، وذلك أما نعلم أن البصر يبصر، والسمع يسمع، واللسان ينطق، واليد تقبض وتأخذ، والرجل تمشي، والعقل يدرك، لكن لا نعلم المعنى الذي جعل فيه به يسمع وبه يبصر وبه ينطق وبه يأخذ وبه يمشي وبه يدرك، وكذلك نعرف هذه الحيوانات التي نشاهدها ونعايشها بأن هذا حمار، وهذا ثور، وهذا كذا، ولكن لا نعرف المعنى الذي به صار هذا حمارًا، أو هذا ثورًا، وكذلك كل جواهر وأجناس، فلا نعرف من العلوم التي أنشأها اللَّه إلا القليل منها - ظواهرها - وأما الحقائق فلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) من يقول بأن الروح الذي سألوه عنه هو الوحي والقرآن الذي أنزل عليه يحتج بهذه الآية، وبقوله: (لَئِنِ

اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) لما خرج ذكرها على أثر سؤال الروح، فدلّ أنه ما ذكرنا، وقد ضل بهذه الآية فريقان: الحشوية، والمعتزلة. أمّا الحشوية فإنهم يقولون: إن القرآن والكلام هو صفة اللَّه الذي هو لم يزل به موصوفًا، وإنه لا يزايله، ثم إنهم يقولون: القرآن في المصاحف بعينه وهو في الأرض وفي القلوب، فقولهم مناقض؛ لأنه إذا كان صفته لا هو ولا غيره، لا يجوز أن يكون في المصاحف بعينه أو في الأرض أو في القلوب. قال الشيخ أبو منصور - رحمه اللَّه -: أما الذي في المصاحف هذا ما يفهم به ذلك أو ما يوافق به ذاك - أعني: القرآن - ويقال: هذا حكاية عن ذلك. وأما المعتزلة: فإنهم ينكرون خلق أفعال العباد، ثم يقولون: إن القرآن مخلوق؛ فعلى زعمهم يكون القرآن والكلام ما يكتب ويثبت ويمحى، وذلك فعل العباد، ثم يقولون: أفعالهم غير مخلوقة؛ فذلك تناقض في القول بيِّن. وعلى قولنا: ما ذكر من الذهاب والمجيء كله على المجاز، أي: الموافقة لا على الحقيقة، كما يقال: سمعت كلام فلان وقول فلان، وكتبت حديث فلان ونحوه؛ فذلك كله على المجاز لا على التحقيق؛ لأنه لا يسمع قول فلان حقيقة ولا كلامه ولا حديثه، ولكن يسمع صوتًا يفهم به قوله وكلامه وحديثه، فعلى ذلك الأول يذهب بالذي يسمع ويكتب، فأما حقيقة ذلك فلا يوصف بشيء من ذلك. وبعد: فإنه قد أضيف المجيء إلى الذي لا يعرف منه ذلك، ثم يحتمل قوله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، أن يكون صلة قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) حتى لا يظفر به، وإلا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعلم أنه لو شاء لذهب بالذي أوحى إليه وقادر عليه وله رفعه، وكذلك يعرف هذا كل مؤمن. وإن كانت الآية على الابتداء فهو يخرج على ذكر المنة والرحمة، أي: له أن يرفع هذا الذي أوحى إليه؛ ليعلموا أن إبقاء النبوة والوحي فضل منه ورحمة، وكذلك الوحي إليه في الابتداء وبعثه رسولًا إليهم فضلًا واختصاصًا لا استحقاقًا منه واستيجابًا، كقوله: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)، وقوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) أخبر أن النبوة له وما أرسل إليه اختصاصًا منه وفضلًا، لا استحقاقًا منه؛ فعلى ذلك إبقاء النبوة والوحي رحمة وفضل منه.

(87)

وفيه دلالة نقض قول المعتزلة من وجوه: أحدها: ما قالوا: إنه لا يختار اللَّه أحدًا لرسالته ونبوته إلا من كان مستحقًّا لها ومستوجبًا لذلك، وقد أخبر أنه بفضله واختصاصه أرسله رسولًا، وبفضله ورحمته أبقاها وتركها بعدما أوحى إليه وأرسله رسوله. والثاني: فيه أن له أن يفعل ما ليس هو بأصلح لهم في الدِّين، حيث أوعد لهم برفع ما أوحى إليه وأرسله، وإذهابه إياه، ولا يوعد إلا بما له أن يفعل ما أوعد؛ إذ لا يوعد بما ليس له الفعل في الحكمة، ثم لا شك أن إبقاء النبوة وترك ما أوحى إليه أصلح لهم من رفعها وتركه إياهم خلوًّا عن ذلك، دل أنه قد يفعل ما ليس لهم بأصلح لهم في الدِّين. وفيه أنه قد يكلف خلقه التوحيد والإيمان وإن لم يرسل رسولًا ولا أوحى إليه وحيًا؛ لأنه معلوم أنه لو لم يرسل الرسول، ولا كانوا مكلفين في أنفسهم، لكان خلقه إياهم عبثًا ليتركهم سدى؛ فدل أنهم مكلفون بتوحيده ومعرفته وإن لم يرسل ولا أوحى؛ حيث أخبر أن بعث الرسالة وإبقاءها فضل منه ورحمة بقوله: (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) وقوله: (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ). أي: إبقاء النبوة والوحي رحمة من ربك، وفضله -أيضًا- في إبقاء ذلك كبيرًا. وفيه أن الحفظ والنسيان - وإن كانا من العبد - فلله فيهما صنع به يحفظ؛ حيث قال: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، أخبر أنه لو شاء، لذهب بالمحفوظ في القلب وينسيه؛ دل أن له قدرة في فعل العبد. وفي قوله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) وجه آخر من الحكمة؛ وهو أن يعلم المؤمنون: أن الفضل كله من اللَّه؛ لئلا يروا لأنفسهم في ذلك فضلًا ومعنى، وإليه يضيفون جميع ما يجري على أيديهم من أفعال الخير والطاعة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) يشبه أن يكون هذا صلة قوله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، ثم لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما قدروا عليه، وقوله: بمثله، أي: به، كقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، أي: ليس كهو شيء؛ إذ لا مثل له؛ فدل أن قوله: (لَا يَأتوُنَ بِمِثلِهِ)، أي: لا يقدرون أن يأتوا به بعد ما عرفوه وعاينوه؛ فلئلا يقدروا على

إتيانه ابتداء قبل أن نظروا فيه وعرفوا مثاله - أشد وأبعد؛ إذ نظم الشيء وتصوره بعدما عاينوا الأشياء والصور أهون وأيسر من تصويرها ونظمها قبل أن يعاينوها ويشاهدوها. وجائز أن يستدل بهذه الآية على أنه كان مبعوثًا إلى الإنس والجن جميعًا حيث قال: (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ)؛ لأنه لو لم يكن مبعوثًا إلى الفريقين جميعًا لم يكن لذكرهما معنى وفائدة. وفيه دلالة: أن في الجن من لسانه لسان العرب؛ إذ لو لم يكن كذلك لم يكن لذكر أُولَئِكَ معنى، ثم جائز أن يكون قوله: (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ)، أي: الإنس مع الجن، أو هَؤُلَاءِ مع هَؤُلَاءِ، (عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ). وقال بعض أهل التأويل: إنما ذكر هذا لقولهم: إنه سحر وإنما يعلمه بشر، وقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، وقولهم: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، ومثله، يقول: إن الإفك والسحر وما ذكرتم لا يكون إلا من هذين، من الجن والإنس، فأخبر أنهم لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله ما قدروا عليه. والدلالة على أنهم عجزوا عن ذلك، ولم يطمع أحد منهم ذلك إلا سفيه أظهر الله سفهه وكذبه في القرآن؛ حيث قال: (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ). (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، لم يسأل التوفيق إن كان هو حقا، ولكن سأل العذاب؛ دل أنه كان سفيهًا، فآية السفه: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، ثم ارتاب فيه وشك بقوله: (إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ)، وإلا لم يطمع ولم يخطر ببال أحد من الخلائق التكلف لذلك، دل أنه آية معجزة من اللَّه تعالى. ثم اختلف في قوله: (عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ) قيل: مثل نظمه ورصفه. وقيل: مثل حقه وصدقه. ويحتمل مثل حججه وبراهينه. ويحتمل مثل علمه وحكمته. ويحتمل مثل إحكامه وإتقانه. يحتمل قوله: (عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) هذه الوجوه الخمسة التي

(89)

ذكرنا. ثم قوله: (بِمِثْلِهِ) يحتمل ما ذكرنا؛ أي: بالذي رفع وذهب به؛ على التأويل الذي جعلناه صلة قوله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ) الذي ذهب به ورفع (لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)، أي: لا يقدرون على إتيانه. وإن كان على الابتداء، فهو على المثل؛ أي: لا يقدرون على أن يأتوا بمثله، على ما لم يقدروا عليه بعدما قرع سمعهم هذا فلو كان في وسعهم هذا لفعلوا؛ ليخرج قولهم صدقًا وقول الرسول كذبًا، فإذ لم يفعلوا ذلك، ولم يتكلفوا؛ دل أنهم عرفوا أن ذلك من اللَّه وأنه آية معجزة خارجة عن وسعهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) أي: بيّنا، وتحتمل ضربنا، وتحتمل فرقنا للناس: (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)، أي: ذكرنا للناس مثلًا على أثر مثل، ومثلًا بعد مثل ما لو تفكروا فيه، وتأمّلوا لعرفوا صدق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكذب أنفسهم وسفههم، ولعرفوا الحق من الباطل والمحق من المبطل، ولكن لم يتفكروا فيه ولم يتأملوا وعاندوا. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ). لا يريد كل الأمثال، ولكن ما ذكرنا من كل مثل لو تأملوا فيه، وتفكروا، لكان لهم معتبرًا. وفي قوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)، يكون ما ذكر من تصريف الأمثال وضربها للناس من وجوه ثلاثة: أحدها: ضرب المثل لهذه الأمة من شهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وغيره من مكذبهم ومصدّقهم بالأمم الماضية ماذا حلَّ بهم بالمكذبين منهم رسل اللَّه من نقمته وعذابه، وقد أخبر أن تلك سنته في المكذبين منهم، وذكر أن سنته تلك لا تحول، ولا تبدل، وهو قوله: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)، و (تَحْوِيلًا)، فهي لا تبدل، ولا تحول فكانت لأُولَئِكَ معجلة ولهذه الأمة مؤخرة، وهي غير محوَّلة ولا مبدَّلة لواحدة من الأمم. والثاني: يحتمل تصريف الأمثال هو ما بين لهم، وذكر ما به صلاح معاشهم ومعادهم، وصلاح دينهم ودنياهم ما لو تأملوا فيه وتفكروا، أدركوا ذلك.

(90)

والثالث: يكون تصريف الأمثال التي ذكر دعاءه إلى دين اللَّه وسبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، كقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ). إلى هذه الوجوه الثلاثة يصرف جميع ما ذكر من الأمثال في القرآن واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) يحتمل أَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا بالأمثال التي ضربها في القرآن، وصرفها لهم. أو يقول: فأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا بنعم اللَّه في صرف الشكر إلى غيره، أو كفورًا في وحدانية اللَّه وألوهيته. * * * قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ. . .). إلى آخر ما ذكر من الأسئلة، يشبه أن تكون هذه الأسئلة جميعًا من فريق واحد. ويجوز أن يكون من كل فريق سؤال، لم يكن ذلك من غيره من الفرق؛ كقوله: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، كان من كل فريق غير ما كان من الآخر؛ كان من اليهود: كونوا هودًا تهتدوا، ومن النصارى: كونوا نصارى تهتدوا؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون الأول كذلك. ثم إن الذي حملهم على هذه الأسئلة المحالة الفاسدة وجوه: أحدها: سؤاله بما كان يعدهم رسول اللَّه الجنان، والأنهار الجارية، والبساتين المثمرة إن هم تابوا وأجابوا، وكان يعدهم العقوبات إن تركوا إجابته من إسقاط السماء كسفًا كقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ. . .) الآية، سألوه ذلك استعجالًا منهم؛ على الاستهزاء، كقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا) أو أن يكون أهل الكتاب علموا مشركي العرب الذين لا كتاب لهم هذه الأسئلة الفاسدة المحالة التي عرفوا أنهم لا يجابون فيها ليسألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عنها، فإنه لا يجيبهم ليرى السفلة منهم والأتباع أن لو كان رسولًا لأجابهم؛ فيتمادون في طغيانهم وضلالتهم، ويبغون عليهم ثم عليه. أو أن يكون الرؤساء منهم والقادة سألوه عن ذلك، على علم منهم أنه لا يجيبهم؛

(92)

ليرى، أتباعهم وسفلتهم أنهم قد حاجوا رسول اللَّه، واعترضوا لحججه وبراهينه لئلا ينظروا إلى حججه وبراهينه؛ لتبقى لهم الرئاسة والمنافع التي كانت لهم، ولا يذهب ذلك عنهم. ثم بين أن أسئلتهم التي سألوها سؤال تعنت عن عناد لا سؤال استرشاد، وحاجة - ما ذكر في قولهم: (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) وقوله. عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ (93) دل هذا كله أن سؤالهم إياه كله سؤال معاندة، لا سؤال استرشاد واستهداء؛ لأنه لو كانوا يسألون ما يسألون سؤال استرشاد واستهداء، لكانوا لا يسألون إسقاط السماء عليهم؛ إذ لا منفعة لهم في ذلك وإن في سؤالهم الجنة منفعة، يذكر سفه القوم وتعنتهم وسوء معاملتهم رسول اللَّه. ثم الحكمة والفائدة في جعل سفههم قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة؛ ليعرف المتأخرون معاملة السفهاء إذا بلوا بهم أن كيف يعاملونهم بمثل معاملة رسول اللَّه؟! وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي) أمره أن ينزه ربه عن أن يكون لأحد الاحتكام عليه والحكم، والذي سألوه احتكام منهم على اللَّه. وفي قوله: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا). ينزه ربه عن أن يملك سواه ما سألوا من إتيان الجنة وغير ذلك مما ذكر في الآية، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا). أي: هل كنت إلا بشرًا كغيره من الرسل الذين كانوا من قبل من البشر، فلم يسألوهم بمثل الذي تسألونني أنتم من الأسئلة. أو إن سألوا ذلك فلم يجابوا، كقوله: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ)، أو أن يكون قوله: (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)، أي: ليس للرسول أن يعترض على المرسل بشيء، إنما على الرسول تبليغ ما أرسل وأمر بتبليغه. أو يقول: إني لا أملك مما تسألونني سوى تسبيح ربي وتنزيهه. وقوله: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي) أي: تعاظم ربي، وتعالى عن أن يكون لعباده عليه احتكام

(94)

أو اختيار. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: الينبوع: العين، والينابيع: جمع؛ والكسفة: القطعة، والكسف: جمع. وقال غيره: الكِسْف - بالجزم -: عذاب، وكسفًا مثل قطعًا، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (قَبِيلًا)، أي: معاينة، وقال: هو من المقابلة. (بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ)، أي: من زينة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المزخرف: المزين، يقال: زخرفت البيت، أي: زينته. (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ)، أي: تصعد. (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ)، أي: لارتقائك، وهو من الارتفاع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كِسْفًا) بالجزم، أي: جانبا، وكسفا: مثل: قطعا. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى) أي: إذ جاءهم الرسول بالهدى (إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، وقال في آية أخرى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)، لكن هذا على الإياس عن إيمانهم، إنهم لا يؤمنون إلا عند معاينتهم بأس اللَّه، والإيمان في ذلك الوقت لا يقبل ولا ينفعهم.

(95)

وأما قوله: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، فيخرج هذا القول منهم مخرج الاحتجاج: لو شاء اللَّه أن نؤمن لأنزل ملائكة كقوله: (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً). ففيه يوضح الشبهة لهم أن يقولوا: هو بشر ونحن بشر، فليس هذا أولى بالرسالة إلينا من أن نكون نحن رسلًا إليه، فذلك موضع الشبهة، فأجابهم لذلك لما استنكروا واستبعدوا بعث الرسول إليهم من جوهرهم وجنسهم، فقال: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ... (95) أي: مقيمين ساكنين فيها (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا)؛ ثم اختلف فيه. قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ)، أي: لو كان سكان الأرض ملائكة، فبعث إليهم رسولًا منهم أكان لهم أن يقولوا: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، أي: أبعث الله إلينا من جوهرنا؟! أي: ليس لهم أن يقولوا ذلك؛ فعلى ذلك إذا كان سكانها البشر ليس لهم أن يقولوا: أبعث اللَّه إلينا من جوهرنا رسولًا. والثاني: لو كانت الأرض مكان الملائكة، وهم سكانها، لكان لكم أن تقولوا: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا) من غير جوهرنا، فامّا إذا كانت الأرض مكان البشر، وهم سكانها، فليس لهم أن ينكروا بعث الرسول منهم ومن جوهرهم؛ لأنهم لا يعرفون الملائكة، ولا من كان من غير جوهرهم، ويعرفون من كان من جوهرهم، فبعث الرسول من جوهرهم أولى بهم من غير جوهرهم. أو يقول: لو كان في الأرض ملائكة وبشر، فعرفوا الملائكة، لكان لهم أن يسألوا رسولًا من الملائكة لما عرفوهم، فأمَّا إذا كان سكان الأرض ليسوا إلا بشرًا فليس لهم أن يقولوا ذلك؛ لأنهم لم يعرفوا قوى الملائكة، ولا قوى الجن، وقد عرفوا قوى البشر فيعرفون الآيات والحجج من التمويهات إذ عرفوا قواهم ولم يعرفوا قوى الملائكة والجنّ؛ فلا يعرفون ما أقاموا أنها آيات وحجج، أو كان ذلك بقواهم، ويعرفون ذلك من البشر إذا خرجت من احتمال وسعهم وقواهم. وبعد فإنهم قد أقروا برسالة البشر؛ لأنهم لا يعرفون الملائكة إلا بخبر من البشر أنه ملك؛ إذ لم يكن لهم خلطة معهم ليعرفوهم؛ وإنما يعرفونهم بخبر من البشر: أنه

(96)

ملك؛ فليس لهم أن ينكروا رسالة البشر. وأصله ما قال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا)؛ لما ذكرنا أنهم لا يعرفون الملائكة، ومَن كان من غير جوهرهم؛ فلا بدّ من أن يكون رجلًا، فكان في ذلك تلبيس عليهم على ما أخبر، واللَّه أعلم. وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) قَالَ بَعْضُهُمْ: كفى بما أقام اللَّه من الآيات والحجج على رسالتي وأني رسول إليكم؛ إذ كان ذلك في قول كان من أُولَئِكَ الكفرة من إنكار الرسالة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحتمل أن يكون على الإياس من إيمانهم كقوله: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا. . .)، الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ.: (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا). يذكر هذا. واللَّه أعلم. بأنه عن علمَ بإجابتهم وردّهم. بعثه إليهم رسولًا لا عن جهل بأحوالهم، وليس فيما يعلم أنهم يردون، ولا يجيبون رسله خروج عن الحكمة؛ لأنه ليس في إجابتهم منفعة للرسل، ولا في ردهم ضرر له، وإنما المنفعة في الإجابة لهم، وفي الرد الضرر عليهم؛ لذلك لم يكن في بعث الرسل على علم منه بالرد خروجًا عن الحكمة أوفي الشاهد كان خروجًا عن الحكمة؛ لأن في الشاهد إنما يبعث الرسول لمنفعة تتأمّل وتصل إليه أو دفع ضرر عنه، فإذا علم أنه يرد رسالته، ولا يجيب، كان في بعث الرسول إليه بعد علمه بالرد خروج من الحكمة. أو يخرج قوله: (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) على الوعيد، وكذلك أمثاله. وإن احتج علينا بعض المعتزلة بقوله: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى)، يقولون له: منعنا القضاء والقدر؛ إذ من قولهم: إن ما يفعل الإنسان من فعل أو معصية أو طاعة، فإنما يفعل بقضائه وتقديره؛ فيكون لهم الاحتجاج عليه بأن يقولوا: منعنا قضاؤك وتقديرك. لكن هذا فاسد؛ لأنهم لا يفعلون هم ما يفعلون عند وقت فعلهم لأن اللَّه. تعالى - قضى ذلك وقدر، ولو جاز لهم هذا الاحتجاج لأنه كذلك قضى وقدر، فإذا كانوا هم عند أنفسهم لا يفعلون ما يفعلون؛ لأنه كذلك قضى وقدر، لم يكن لهم الاحتجاج عليه

(97)

بذلك؛ لأن القضاء والقدر، لم يضطرهم إلى ذلك، ولا قهرهم عليه، بل كان غيره ممكنًا لهم؛ لذلك لم يكن لهم الاحتجاج عليه بذلك؛ لأن القضاء، بهذا أعني بالقضاء والقدر، لكان لهم الاحتجاج عليه. أيضا. بالعلم؛ إذ لا شك أنه علم ذلك منهم، فإذا لم يكن الاحتجاج عليه بما علم منهم ذلك؛ إذ لا يقدرون أن يفعلوا غير الذي علم منهم، فعلى ذلك لم يكن الاحتجاج عليه بالقضاء والقدر؛ لأن القضاء والقدر لما علم أنه يختار ذلك ويؤثره على ضده لجاز ذلك لهم بالعلم ونحوه، دل أن ذلك ليس بشيء لما قضى ذلك عليهم وقدر، وإذا كانوا هم عند أنفسهم لا يفعلون وقت فعلهم؛ لما كذلك قضى عليهم؛ فلم يكن الاحتجاج لهم عليه بذلك؛ إذ القضاء والقدر لم يمنعهم عن ذلك لما لا يضطرون على ذلك، وإنما قضى ذلك لما علم أنهم يفعلون ويختارون ذلك؛ لذلك كان ما ذكرنا، وكذلك كل من قضى في الشاهد على آخر إنما يقضي؛ لما سبق منه العلم به. وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) أي: من وفقه لقبول ما كان من الهدى وعصمه عما وسوس إليه الشيطان، فهو المهتدي عند اللَّه وعند من عقل الهدى، (وَمَنْ يُضْلِلْ)، أي: من خذله ولم يعصمه حتى يقبل من الشيطان ما جاء من وساوسه هو ضال. (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ). يحتمل: لن تجد لهم أولياء من دونه يهدونهم لدينهم ويوفقونهم. أو لن تجد لهم أولياء ينصرونهم من دونه، ويدفعون عنهم ما نزل بهم من العذاب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ.: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا). قال الحسن: يحاسبون حتى يعلموا سوء صنيعهم الذي صنعوا في الدنيا، ثم يحشرون إلى جهنم ما ذكر عميًا وبكفا وصما، أو كلام نحو هذا. ثم يحتمل قوله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ما ذكر في آية أخرى: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ)، وقوله: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ. . .) الآية، إنما يتقي بوجهه؛ لما تكون أيديهم مغلولة إلى أعناقهم، وقوله: (عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) هذا يحتمل وجهين:

(98)

أحدهما: أسماهم: عميًا وبكمًا وصفا لذهاب منافع هذه الحواس ولذاتها في الآخرة، ليس على حقيقة ذهابها، لكن حال بينهم وبين الانتفاع بها ما ذكر لهم: (مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ. . .) الآية، فتلك الظلل تحول بينهم وبين رؤية الأشياء. وسماهم في الدنيا: عميًا وبكمًا وصمًّا ليس على حقيقة ذهاب أعينها، ولكن لما لم ينتفعوا بهذه الحواس في الدنيا، ولم يستعملوها فيما أمروا باستعمالها - نفى ذلك عنهم، فعلى ذلك في الآخرة. ويحتمل على حقيقة ذهاب أعين هذه الحواس؛ عقوبة لما لم يستعملوها في الدنيا لما له خلقت، كقوله: (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا). وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) أي: مقامهم جهنم، وإليها يأوون. وقوله: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) اختلف فيه: قال الحسن: قوله: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ)، أي: كلما خبا لهبها، وسكن (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)، قال: يخمد لهبها من غير أن يذهب وجع ما أصابهم، ثم يزداد لهم سعيرًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كُلَّمَا خَبَتْ)، أي: نضجت جلودهم، وسكنت النار (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)، أي: نعود بنار على ما كانت، وجعلت تلتهب، وتستعر؛ كقوله: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: وذلك أن النار إذا أكلتهم فلم يبق منهم غير العظام وصاروا فحمًا، سكنت النار؛ فهو الخبت، ثم بدلوا جلودًا غيرها، فتكون وقودًا لها، واللَّه أعلم، وكله واحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كُلَّمَا خَبَتْ)، أي: كلما أحرقتهم النار، فصاروا رمادًا، خلقوا لها خلقًا جديدًا، فتعاودهم النار فتحرقهم، وذلك قوله: (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)، وهو قول اللَّه: (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ)، لا تبقي منهم شيئًا إذا أخذت حتى تحرقهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ.: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أي: ذلك الذي ذكر جزاؤهم (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا)، ثم قال: (أَوَلَمْ يَرَوْا ... (99) أي: أو لم يعتبروا، ولم ينظروا أن اللَّه الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم.

(100)

هذا الاعتبار يحتمل وجهين: أحدهما: أنكم تقرون: أن اللَّه هو خالق السماوات والأرض، وخالقكم، فخلق السماوات والأرض على الابتداء، وخلق سائر الخلائق على الابتداء بلا احتذاء، تقدم وسبق - أعظم وأكبر من خلق من دونه، فمن قدر على إنشاء ذلك، فهو على إنشاء أمثالكم وإعادتكم أقدر، وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من ابتدائه. والثاني: تعلمون أنه خلق السماوات والأرض، وخلقكم أيضًا، فلم يخلقهما للفناء خاصة؛ إذ خلق الشيء للفناء خاصة لا لعاقبة عبث ولعب؛ فدل أنه خلقكم، وخلق السماوات والأرض؛ لعاقبة، وهي البعث. وعلى ذلك يخرج قوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ) أنه كائن لا محالة. وجائز أن يكون قوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ) جوابًا لما استعجلوا من العذاب، فقال: وجعل لهم أجلًا لا يتقدم عنه ولا يتأخر. أو أن يكون قوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ). الموت الذي به تنقضي آجالهم، لكنه لم يخلقهم للموت خاصة ولكن للعاقبة، وهو ما ذكرنا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: " خبت " أي: سكنت: يقال: خبت، إذا سكن لهبها تخبو، فإذا سكن لهبها ولم يطفأ الجمر، قلت: خمدت تخمد خمودًا، فإذا طفئت، ولم يبق منها شيء، قيل: همدت تهمد همودًا. وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا). أي: نارًا تتسعر، أي: تتلهب وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: " السعير ": النار، يقال: سعرت النار: إذا أوقدتها، ويقال: نار مسعورة، أي: موقدة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا). أي: كفرًا بالبعث، و " الظالمون " هاهنا هم الكافرون، ولو قال: فأبى الكافرون إلا ظلموا، ما كان واحدًا. وقوله عَزَّ وَجَلَّ.: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) تحتمل الآية وجوهًا:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هي صلة ما تقدم من أسئلتهم، وهو قوله: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ). وقوله: (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا). كانوا يسألون هذه الأشياء على التعنت والعناد والاستهزاء، فأخبر أنه وإن أعطاهم ما سألوا لا ينفقون، بل يمسكون عن الإنفاق، ومن سنته: أنه إذا أعطاهم ما سألوا على السؤال، فتركوا الإيمان به والوفاء -: أنهم يهلكون، فأخبر أنهم يسألون سؤال تعنت، لا سؤال ما يتوسعون بها. وفي الآية إثبات الرسالة؛ وهو ما بين من بخلهم وإمساكهم عن الإنفاق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ) في قوم خاص يعلم اللَّه أنهم لو أعطوا ما سألوا لفعلوا ما ذكر، لا في كل منهم، وهو كقوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. . .) الآية، وكقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ) الآية، كان في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون فعلى ذلك الأول. ويحتمل أن تكون الآية في قوم ضمنوا آية الإنفاق والتوسيع، وعاهدوا اللَّه على ذلك إن وسع عليهم، فأخبر أنهم لا يوفون ما عاهدوه وضمنوا؛ كقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ). ويحتمل أن يكون هذا إخبارًا منه عن طبع الخلق وعادتهم: وذلك أنهم إذا استكثروا من الأموال وجمعوا يزداد لهم بذلك حرص على جمعها، وبخل على التوسيع والإنفاق ما لم يكن قبل الجمع والاستكثار، هذا هو المعروف في الناس، فأخبر أنهم يمسكون عن الإنفاق والتوسيع إذا ملكوا ما ذكر على ما طبع الإنسان بالبخل والتضييق عند الاستكثار ما لم يكن قبل ذلك. وقوله. عَزَّ وَجَلَّ: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا). يحتمل أن يكون هذا صفة كل كافر، وكذلك قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) و (مَنُوعًا)، يكون عادتهم البخل والجزع عند المصائب. وجائز أن يكون هذا صفة كل إنسان في الابتداء هكذا يكون، ثم بالامتحان والتجربة، يكونون أسخياء صابرين. أو يكون يخبر أنهم لو ملكوا وأعطوا جميع ما يرزقون في عمرهم على التفاريق بدفعة واحدة مجموعًا، لأمسكوا عن الإنفاق؛ خشية الفقر في آخر عمرهم؛ إذ لا يعلمون إلى ما

(101)

ينتهون من آجالهم؛ فيحملهم ذلك على البخل والإمساك. أو يذكر لما أنه جبلهم، وأنشأهم على الإمساك والمنع في الابتداء، وإن لم تكن حاجة لهم إلى ذلك: ترى الصبيان والصغار من الأولاد يمنعون ما في أيديهم عن غيرهم وإن لم يكن لهم حاجة إلى ذلك، هذا معروف فيهم، وإنَّمَا جبلهم وأنشأهم هكذا؛ ليمتحنهم بالجود والتوسيع، والبخل والتضييق، وإلا كانوا في أصل خلقتهم وابتداء إنشائها على ما ذكرنا أشحة بخلاء وهو أما أخبر، (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا)، و (جَزُوعًا)، (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) أنشأهم جزوعين عن الألم والمصائب غير صابرين عليها، وكذلك أنشأهم عجولين لا يصبرون على أمر واحد، ولا حال واحد. ثم امتحنهم على الصبر، وترك الجزع والعجلة؛ فعلى ذلك قوله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) أي: طمغا بخيلًا ممسكًا مضيقًا، واللَّه أعلم. ثم ترك ذلك بالامتحان واعتياد ذلك، وخلافه. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ). هذا - واللَّه أعلم. فيما آتاه من الآيات وأمره أن يحاج بها فرعون، وإلا كانت آيات موسى - عليه السلام - أكثر من تسع، كأنها تبلغ عشرين، وتزداد عليها؛ إذ كان في عصاه أربع من الآيات: إحداها: حيث ضرب بها البحر فانفلق. والثانية: حيث كان يضرب بها الحجر فينفجر منه عيونًا. وا الثالثة: حيث ألقاها فصارت ثعبانًا. وا الرابعة: حيث كانت تلقف حبالهم وعصيهم، وأمثاله، كأنها تبلغ إلى ما ذكرنا، لكنه ذكر تسع آيات بينات التي أمره أن يحاج بها فرعون، وقومه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَيِّنَاتٍ). أنها من عند اللَّه جاءت، وأنها ليست من البشر، وأنها سماوية. و (بَيِّنَاتٍ)، أي: مبينات ما يبين صدق موسى في جميع ما يخبر، ويقول، ويبين عدله في حكمه وفعله؛ لأن في آيات الرسل يحتاج إلى هذا: أن تبين للناس صدقهم في قولهم، وعدلهم في حكمهم، وأنهم يدعون إلى عبادة اللَّه، والطاعة له، وذلك يجب على كل ذي عقل وطبع سليم، فالحاجة إلى الآيات ليست إلا لصدقهم وعدلهم في حكمهم. ثم اختلف في الآيات: قَالَ بَعْضُهُمْ: العصا، واليد، والحجر، والطمس، والخمس التي ذكر في سورة " المص "، وهو قوله: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ. . .). وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخمس التي ذكر في سورة " المص "، والعصا، والموت الذي أرسل عليهم، واليد البيضاء، وانفلاق البحر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنها الخمس التي ذكر في سورة " المص "، واليد، وحل العُقْدة التي بلسانه، وفي العصا آيتان. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - العصا، واليد، والسنون، ونقص من الثمرات. ثم منهم من يجعل السنين ونقصًا من الثمرات آية واحدة، ومنهم من يجعلهما آيتين، وكذلك العصا، منهم من يجعلها آية واحدة، ومنهم من يجعلها آيتين، ومنهم من يعد الطمس، ومنهم من لا يعد. ونحن نجعل العصا آية واحدة، والسنين، ونقصًا من الثمرات آية واحدة والطمس آية، والخمس التي ذكرت في سورة " المص "، فتكون ثمانيًا فتكون التاسعة قوله: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ)؛ لأنه قال: لقد علمت أنها آيات، ولم يكذبه فرعون، ولم يستقبله بشيء يكذبه في قوله، وهو ما قال: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)، أخبر أنهم جحدوا بها بعدما استيقنوا أنها آيات، وحجج ظلمًا وعلوًّا، وما روى صفوان بن عسال المرادي: أنه قال: إن يهوديين أتيا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فسألاه عن التسع آيات التي ذكر أنه آتاها موسى فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا تشركوا باللَّه شيئًا، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة يا يهوديان أَلَّا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ "، قال: فقبَّلا يديه،

(102)

ورجليه، وقالا: نشهد أنك نبي اللَّه، فقال - عليه السلام -: " فما يمنعكما أن تسلما؟ " قالا: إنا إن أسلمنا يقتلنا اليهود. فإن ثبت هذا الخبر، فلا يجوز أن يتعدى إلى غيره من التأويل، واللَّه أعلم. وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ). يعني: موسى، صلوات اللَّه عليه. قَالَ بَعْضُهُمْ: أمر رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يسأل بني إسرائيل الآيات التسع التي كانت في كتبهم على التقرير عندهم أنه إنما عرف ذلك باللَّه، وأنه رسول؛ لما علموا أن تلك الآيات في كتبهم بغير لسانه، وكان لا يخط بيده، ولا كان اختلف إلى أحد منهم؛ ليعرف ذلك؛ فدل أنهم علموا أنه إنما عرف ذلك بوحي السماء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس هو على الأمر أن يسألهم ذلك، ولكن لو سألتهم لأخبروك عنها كقوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. . .) الآية. وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا). في عقلك، أي: سحرت، و " المسحور ": هو المغلوب في العقل. وقولهم متناقض؛ لأنهم قالوا مرة: ساحر، ومرة: مسحور، فالساحر: هو الذي يبلغ بالبصيرة غايته، والمسحور: المغلوب. وقوله. عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) قوله: (عَلِمْتَ) بالنصب والرفع جميعًا قد قرئا، وأمكن أن يكون قال في ابتداء الأمر: قد علمت ما أنزل هذه الآيات إلا رب السماوات والأرض، وقال في آية أخرى لما أقامها عليه (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ). ما يبصر بها الحق من الباطل من لم يعاند، ولم يكابر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ.: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا). قال موسى. عليه السلام. لفرعون: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)، مقابل ما قال له فرعون، حيث قال: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: امثبورًا ": هالكًا. وقيل: ملعونًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مبدلًا. ويحتمل قوله: (لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) أي: تدعو على نفسك بالثبور، وهو الهلاك كقوله: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) أي: هلاكًا.

(103)

والظن يكون في موضع الظن، ويكون في موضع العلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ (فَأَرَادَ ... (103) يعني: فرعون. أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ). قال أهل التأويل: أراد أن يخرجهم، ويستخفهم (مِنَ الْأَرْضِ) أي: من أرض مصر، لكنهم قد كانوا خرجوا طائعين قبل أن يخرجهم من حيث أمر موسى بإحْراجهم، بقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)؛ فيكون تأويل قوله: فأراد أن يخرجهم من الأرض بالقتل والهلاك من الدنيا؛ ألا ترى أنه قال: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا)، أراد: من مشارق الأرض، وإلا قد كانوا هم قد خرجوا من أرضه على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا). هو ما قال في آية أخرى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) أي: بعد هلاك فرعون لبني إسرائيل (اسْكُنُوا الْأَرْضَ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله (اسْكُنُوا الْأَرْضَ): أرض مصر التي كان يسكن فرعون، وهو كقوله: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: اسكنوا الأرض: أرض الشام، والأرض المقدسة؛ كقوله: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. . .). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (اسْكُنُوا الْأَرْضَ) ليس في أرض دون أرض، ولكن اسكنوا أي أرض شئتم، مشارقها ومغاربها، آمنين لا خوف عليكَم على ما أرادوا أن يخرجوكم من مشارق الأرض ومغاربها بالقتل كقوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا. . .) الآية، وهو قول ابن عباس، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وعلى هذا قال في قوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) بعث عيسى ابن مريم (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) أي: جَمِيعًا مجتمعين من مشارق الأرض ومغاربها على ما تفرقوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) يعني: حياة عيسى، ونزوله من السماء (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) أي: جميعًا بانتزاع من القرى هاهنا، وهاهنا لفوا جميعًا، وهو مثل الأوّل. وأمّا عامة أعل التأويل فإنهم قالوا: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ): يوم القيامة (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) أي: جميعًا أنتم وفرعون وجنوده حتى يروا كراماتكم التي أكرمتم بها ويروا هوانهم.

(105)

قوله تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ). قال الحسن: إن في القرآن حكمًا وأنباء وحكمه عدل وأنباؤه صدق وحق، وهو كقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا): (صِدْقًا): ما فيه من الأنباء، (وَعَدْلًا) ما فيه من الحكم، فبذلك الحق الذي فيه من الحكم العدل والأنباء الصدق أنزله. ويقال: الصدق في الأخبار والأنباء، والعدل في الأحكام والحق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ). أي: بذلك الحق الذي به دام وقرَّ فيكم، أو كلام نحو هذا. ويحتمل قوله: (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي: بالحق الذي لله على عباده أنزله، وبالحق، الذي لبعضهم على بعض. (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي: بذلك الحق الذي لله على خلقه دام واستقر وبالحق الذي لبعضهم على بعض ثبت واستقر. وأصله أن قوله: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) الحق: اسم كل محبوب ومحمود، والباطل: اسم كل مكروه ومذموم، فمن اتبعه صار محبوبًا محمودًا، ومن خالفه، وترك اتباعه صار مذمومًا، أو أن يكون قوله: (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي: لم يأته التغيير والتبديل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا). أخبر أنه لم يرسله إلا للبشارة والنذارة، لكن هذا في حق الرسالة لم يرسله إلا لهذين اللذين ذكروا؛ لأنه قد كان امتحنه في نفسه بمحن كثيرة فلم يكن في جميع الأوقات مشغولًا بهذين خاصة، لكنه في حق الرسالة لم يرسله إلا لبشارة ونذارة، أي: لم يرسلك حافظًا، ولا وكيلًا، ولا مسلطا عليهم، بل أرسلك لتبليغ الرسالة إليهم، ثم البشارة

(106)

والنذارة؛ وهما أمران يكونان في عواقب الأمور البشارة تكون عاقبة كل محبوب ومحمود، والنذارة عاقبة كل فعل مكروه ومذموم. ثم لقائل أن يقول في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) البشارة: لمن أجابه فيما أمره به ودعاه إليه، والنذارة: لمن ارتكب ما نهي عنه، فكيف لا دل هذا على أن النهي يوجب الحظر والتحريم، حيث ألحقه النذارة بارتكاب ما نهي عنه؟ قيل: إن النذارة: عاقبة كل مكروه ومذموم، والبشارة: عاقبة كل محبوب ومحمود، فيكون ذلك في الآداب وغيرها، ولأن الرسل لم يبعثوا إلا لتغيير مناكير وفواحش ظهرت في الخلق وغيره من الفواحش والمناكير، لم يبعثوا لصغائر ظهرت فيهم، ثم دخل الصغائر والآداب فيما أرسل تبعًا، وإلا كان سبب إرسالهم الكبائر والفواحش، فإذا كان ما ذكرنا، كان في النهي نهي أدب، ونهي حتم وحكم. وبعد فإن اللَّه - تعالى - قد أخبر أنه قد يعفو عن كثير من السيئات وما عفي عنه، لم يلحق فيه النذارة والوعيد، واللَّه أعلم. وقولهَ عَزَّ وَجَلَّ - (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) بالتخفيف والتثقيل (فَرَقْنَاهُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَرَقْنَاهُ) بالتخفيف، أي: أحكمناه، وثبتناه؛ حتى لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فرقناه، وقطعناه في الإنزال سورة فسورة، وآية فآية على ما أنزل. (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ). فهو. واللَّه أعلم. لوجوه: أحدها: ما ذكر في قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ. . .)، أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه إنما أنزله بالتفاريق؛ ليثبت به فؤادك؛ لأن ذلك أثبت في القلب وأيسر في الحفظ. والثاني: أنزله بالتفاريق على قدر النوازل؛ لتتجدد لهم البصيرة، وتزداد لهم الحجة بعد الحجة، ولو كان جملة لم يكن ليتجدد لهم ذلك، ولا تزداد لهم البصيرة. أو أن يكون أنزله بالتفاريق للتنبيه؛ لينبههم في كل وقت، ويعظهم في كل حال؛ إذ ذلك أنبه لهم، وأوعظ من أن يكون منزلًا جملة واحدة، ألا ترى أن الآية إذا دامت تكون في التنبيه أقل، وإذا كانت متقطعة في الأوقات، كانت أخوف وأنبه، نحو كسوف الشمس بالليل، صار بالدوام غير مخوف، ولا منبه لهم للدوام، وكسوفها بالنهار، صار تنبيهًا؛

(107)

للانقطاع؛ على ذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) ظاهر هذا خرج على التخيير، لكن المراد منه يخرج على حتم المواعظ، وتأكيد الوعيد، وتغليظه، وكذلك قوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)، ظاهره على التخيير لكن الحكماء لم يفهموا منه على ما خرج ظاهره، لكن فهموا منه تأكيد الوعيد وحتم الوعظ، وهكذا المعروف في الشاهد أن إنسانا لو أمر آخر بأمره ووعظه مرارًا فلم ينجع فيه، يقول له: إن شئت فافعل، وإن شئت لم تفعل على ما لو فعلت، أو لم تفعل فإنما ضرر ذلك عليك إن تركته، ونفعه يرجع إليك لو فعلت؛ فعلى ذلك قوله: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا) فلا ضرر علينا في ترككم الإيمان به، ولا يرجع نفعه إلينا لو آمنتم به، إنما نفعه لكم وضرره عليكم إن شئتبم فعلتم وإن شئتم لم تفعلوا، فهو كقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، وكقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ. . .) الآية، ونحو ذلك مما يخبر؛ إذ كل من عمل خيرًا فلنفسه عمل، ومن عمل شرّا فعلى نفسه ضرر ذلك؛ فهذا ينقض على أصحاب الظواهر، حيث قالوا: يفهم من الخطاب ظاهره لا يتعدى عن ظاهره، حيث لم يجب أن يفهم من قوله: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا) التخيير، لكن فهموا الوعيد الوكيد الغليظ، وحتم المواعظ. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في لزوم الأمر وافتراضه، إذا كان ما يأمرنا وينهانا لمنافع أنفسنا ولضرر على أنفسنا، ومن لم يعمل في الشاهد لنفسه، ولا سعى لنفع نفسه، فلا لائمة عليه، ولا مؤاخذة. قيل: في الحكمة أن يفرض علينا السعي في فكاك أنفسنا، ودفع الهلاك عن أنفسنا، وفي أمره إيانا أمر بالسعي في فكاك أنفسنا، ودفع الهلاك عنها، وحاصل أمره ونهيه يكون المنفعة لنا لا له، وكذلك الضرر، وعلى ذلك يخرج قوله: (وَمَا ظَلَمْنَاهُم. . .) والآية، وعلى ذلك يخرج دعاء آدم وغيره: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا. . .) الآية. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا). وهذا أيضًا ينقض على أصحاب الظواهر؛ لأنه لا كل من أوتي العلم منهم يخرّ للأذقان على ما خرج ظاهره، فدل أن الاعتقاد ليس بالظاهر على ما قرع السمع، ولكن على ما توجبه الحكمة. ثم قوله: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي: إن الذين أوتوا منفعة العلم يخرون للأذقان سجدًا.

(108)

ثم يحتمل قوله: (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) على التمثيل، ليس على حقيقة السجود، ولكن على الانقياد لما سمعوا، والخضوع له، والذلة؛ على ما ذكرنا من التمثيل في قوله: (انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، ليس على حقيقة الانقلاب على الأعقاب، ولكن على التمثيل للرجوع وترك العمل، فعلى ذلك الأول، وكقوله: (فَنَبَذُوُه وَرَآءَ ظُهُورِهِم)، على ترك العمل به. ويحتمل: أن يكون السجود كناية عن الصلاة، أي: يصلون لله. ويحتمل أن يكون على حقيقة السجود، خروا لله سجدًا إذا تتلى عليهم آيات الله وحججه، وهو كسجود سحرة فرعون حين عاينوا آيات اللَّه، وحججه، وهو كقوله: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)، فعلى ذلك يحتمل سجود هَؤُلَاءِ، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا ... (108) عما قالت الملاحدة فيه. (إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا) أي: قد كان موعود ربنا لمفعولًا وكذلك قوله: (أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)، (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) أي: كان ما يأمر اللَّه كائنًا ومفعولاً أي: قد كان ما يأمر ووعده مفعولاً وهو ما ذكرنا " كان وعد اللَّه مَفْعُولًا ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) فإن كان التأويل من السجود: الصلاة، ففيه دليل لقول أبي حنيفة - رحمه اللَّه -: إن المصلي إذا بكى في صلاته؛ خوفًا على نفسه، وإشفاقًا أو سرورًا على ما أنعم اللَّه عليه وأكرمه به، لم تفسد صلاته، وإذا كان البكاء للتسلي مما حل به من الشدائد والبلايا تفسد صلاته، وأصله: أن البكاء إذا كان لله فهو لا يفسد الصلاة، وإذا كان للدنيا أو لحاجة نفسه فهو يفسد. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا). أي: يزيد ما يتلى عليهم من القرآن خشوعًا وخضوعًا لهم أو للآيات. وقال الحسن: الخشوع: هو الخوف الدائم في القلب. * * * قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).

ذكر هذا - واللَّه أعلم - لأن العرب كانت لا تعرف الرسل والكتب المنزلة من السماء ولا يؤمنون بهما، وكانت لا تعرف ذكر الرحمن ولا التسمية به وكذلك غيره من الأسماء، لما لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بألسن الرسل والأنبياء، وإما بالكتب المنزلة من السماء، فإذا لم يؤمنوا بالرسل، ولا عرفوا الكتب، حملهم ذلك على الإنكار والجحود لأسمائه، ولذلك قالوا: (وَمَا الرَّحْمَنُ)، وقوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) أي: يكفرون بذكر الرحمن واسمه؛ لما ذكرنا. أو أن يكونوا أنكروا اسم الرحمن؛ لما لم يعرفوا أنه مأخوذ من الرحمة، ولو عرفوا: أنه من الرحمة ما أنكروا؛ على ما لم ينكروا " الرَّحِيم "؛ لأنهم عرفوا أن الرحيم مأخوذ من الرحمة، وأما اللَّه فهم يسمون كل معبود إلها، وعلى ذلك سموا الأصنام التي كانوا يعبدونها: آلهة، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، فيسمون اللَّه لما هو المعبود عندهم، ورجعت عبادتهم الأصنام إلى اللَّه؛ حيث زعموا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، كانوا يطلبون بعبادتهم الأصنام القربة إلى اللَّه؛ لذلك أنكروا غيره من الأسماء؛ على أن العرب لم ينكروا لشيء واحد اسمين وأكثر، وعرفوا أن اختلاف الأسماء، وكثرتها لا يوجب اختلاف المسمى بها، ولا يوجب عددا منه، وأن ما قالوا: إنه كان يدعو حتى الآن إلى عبادة واحد، فالساعة يدعو إلى عبادة اثنين وأكثر، إنما قالوا على التعنت والعناد، وإلا قد عرفوا لشيء واحد اسمين وأكثر، لكنهم أنكروا لله ذلك؛ لما ذكرنا؛ تعنتًا منهم، وعنادًا، على هذا يجوز أن - تتأول الآية - واللَّه أعلم. ثم اختلف في تخصيص ذكره بهذين الاسمين: قَالَ بَعْضُهُمْ: وجه تخصيصهما؛ لأنهما اسمان مخصوصان له، لا يجوز أن يسمى غيره بهذين الاسمين، وأما غيرهما من الأسماء فإنه يجوز أن يسمى غيره بها. وقال الحسن: خُصَّ بذكرهما؛ لأنهما اسمان معظمان عند الخلق ما لم يجعل لغيرهما من الأسماء من التعظيم ما جعل لهذين. وقال أبو بكر الأصم: خص بذكر هذين؛ لأن غيرهما من الأسماء أسماء أخذت عن صفاته، وأما هذان فهما ليسا أخذًا عن صفته.

وقال الزجاج: الرحمن: هو مأخوذ من الرحمة إلا أنه النهاية في الرحمة؛ لأنه " فعلان "، وهو ما يقال: غضبان، إذا انتهى غضبه غايته، وإلا قوله: " الرحيم " و " الرحمن " كلاهما من الرحمة إلا أن الرحمن " فعلان " والفعلان هو النهاية من وصف الرحمة؛ لما ذكرنا، وغيره من الخلائق لا يبلغون في الرحمة ذلك المبلغ؛ لذلك خص بذكر " الرحمن " دون " الرحيم ". وهذا كله واحد ليس فيه خلاف، وأصله ما ذكرنا لا يشرك غيره في هذين، ويجوز في غيره. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) أي: أسماؤه التي يسمى بها كلها الحسنى، ليس شيء منها قبيحًا. أو أن يكون قوله: (فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) أي: كل أعمال صالحة، وأمور حسنة له، أي: تنسب إليه، وتضاف، ولا يجوز أن يضاف وينسب ما قبح منها، وسمج، وأصله: ما ذكرنا أنه ينسب إليه كل حسن، وكل صالح على الإشارة، ولا يجوز أن ينسب إليه كل قبيح سمج على الإشارة، والتسمية به، وهو ما يذكر: " التحيات لله، والصلوات والطيبات. . . " إلى آخره، ينسب إليه كل طيب، وكل حسن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: له أسماء حسنة يسمى بها. والثاني: أن كل حسن يسمى به غيره فهو راجع إليه في الحقيقة، وهو مسمى به، وكل حسن منسوب إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)، اختلف أهل التأويل في ذلك: قال: قوله: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) أي: لا تجعل صلاتك في مكان غيظًا للمشركين (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا)، أي: ولا تسر عن أصحابك فتخفى عنهم، لكن ابتغ بين ذلك سبيلًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تجعل كل صلواتك في جماعة، ولا تخافت بها، ولا كلها في غير

(111)

جماعة. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)، ولكن اجعل بعضها بالجماعة، وبعضها لا بالجماعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا)، أي: لا تجاوز الحد في الأمور والأعمال التي أمرتك بها، ولا تقصرها عن الحد الذي حددت لك فيها، ولكن ابتغ بين ذلك سبيلًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) مراءاةً للناس، (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) أي: ولا تعجب بها للإخفاء. وجائز أن يكون قوله: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) أي: لا تجهر بجميع الأذكار التي في الصلاة أو بجميع القراءات التي فيها ولا تخافت بالكل، ولكن بعضها بالجهر وبعضها بالمخافتة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه كان يجهر في صلاته بحيث يسمعه المشركون فيؤذونه، فأمره ألا يجهر بها لئلا يؤذوه، ولا يخافت كل المخافتة، فيسمع أصحابك فيأخذوا قراءتك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في الدعاء إلى اللَّه وتوحيده في حق التبليغ، والمسألة وأمثاله، ولكن لا يجوز أن يقطع التأويل في هذا وأمثاله، فيقال: إنه كان كذا إلا بخبر منه ثابت؛ لأن الخطاب به خطاب له، فقطع التأويل فيه والقول على شيء واحد شهادة على الله وعلى رسوله، ولا تحل الشهادة على اللَّه، ولا على رسوله إلا بالإحاطة أنه أراد ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) ذكر في هذه الآية جميع ما يقع به الحاجة إلى التوحيد؛ لأن من نفى التوحيد وأنكره إنما نفى لأحد الوجوه التي ذكر: منهم من قال له بالولد، وهم اليهود والنصارى. ومنهم من قال بالشريك، وهم مشركو العرب. ومنهم من قال له بالولي والعون من الذل وهم الثنوية وغيرها حيث قالوا: أنشأ هذا النور؛ ليستعين به على التخلص من ويلات الظلمة فنزه نفسه، وبرَّأها عن جميع ما قالوا

فيه ونسبوا إليه؛ لأن الولد في الشاهد إنما يطلب، إمَّا للتسلي، وإمّا للاستئناس والله يتعالى عن أن يقع له الحاجة إلى ذلك، ويتعالى عن أن يكون له شريك لأن الشركاء في الشاهد؛ إنما تُتخذ للمعونة، والتقوي بهم على بعض ما لهم، وما هم فيه، والولي من الذل إنما يتخذ في الشاهد؛ للاستنصار والاستعانة على أعدائه، واللَّه يتعالى عن أن تقع له الحاجة إلى شيء من ذلك فنفى عنه جميع معاني الخلق وجميع ما ينسب إليهم ويضاف ويصفون به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا): أي: صفه بما وصف نفسه، وانفِ عنه جميع معاني الخلق فيكون في ذلك تعظيمه وتكبيره. أو يقول: اعرفه بما ذكر، فإذا عرف هكذا فقد عظمته وكبرته. والولد في الشاهد إنما يتخذ، ويطلب لوجوه: أحدها: للتسلي به والاستئناس عن وحشة. أو لحاجة تمسه فيستعين به على قضائها. أو لذل يخافه من عدو له فيستنصر به عليه، واللَّه يتعالى عن أن يصيبه شيء من ذلك. وقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) أي: لم يتخذ الأولياء؛ ليستعزز بهم من الذل، بل إنما اتخذ أولياء رحمة منه، وفضلًا؛ ليتعززوا هم بذلك ويكونوا عظماء، وذكر: (لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) وقد خلق الأولاد للخلق؛ ليعلم أن ليس في خلق الشيء ما يصلح أن يتخذ لنفسه. وقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) ولو كان على ما تقوله المعتزلة، لكان له شريك في الملك على قولهم؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه لم يرد لأحد من الكفرة الملك لهم وإنما أراد لأوليائه؛ فعلى قولهم صار الفراعنة شركاء له في الملك حيث لم يكن ما أراد هو وكان ما أرادوا هم، واللَّه أعلم وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * *

سورة الكهف

سُورَةُ الْكَهْفِ مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ): تأويل الحمد هاهنا وفي أمثاله - واللَّه أعلم - أي: حق الحمد للذي منه وصلت إلى كل أحد نعمة أي: أنها وصلت على أيدي من وصلت إلى كل من وصلت فإن حق الحمد والثناء له في تلك النعمة وإن حمد من دونه؛ إذ منه ذلك، لا من الذي وصلت على يده، وأن الذي وصلت على يديه كالمستعمل له؛ فحق الحمد والثناء له لا من دونه. أو أن يكون قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي: قولوا: له الحمد والثناء؛ لأنه في جميع ما ذكر الحمد له ألحق به شيئًا: إما قدرته وسلطانه، وإما نعمه التي أنعم على الخلق كقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .) الآية. (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا). وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) ونحوه. ما ذكر الحمد لنفسه والثناء إلا ذكر على أثره ما قدرته وسلطانه. وأما نعمه، فما كان المذكور على أثره النعمة فهو يستأدي به شكره وحمده. وإن كان الملحق به القدرة والسلطان فيخرج القول منه مخرج الأمر بالتعظيم له والهيبة والإجلال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا) أي: لم يجعله عوجًا، ويجوز زيادة اللام في مثله؛ كقوله: (رَدِفَ لَكُمْ)، وردفكم؛ هذا جائز في اللغة ثم قوله: (أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا) أي: لم يجعله عوجًا، وهو يخرج على وجهين:

(2)

أحدهما: على التقديم والتأخير على ما قاله أهل التأويل، أي: أنزل على عبده الكتاب قيمًا ولم يجعله عوجًا. والثاني: على زيادة (بل) كأنه قال: (أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا بل جعله قيمًا)؛ على أحد هذين الوجهين يخرج واللَّه أعلم. ثم قوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا) إذا لم يكن عوجًا كان قيمًا، وإذا كان قيمًا كان غير عوج، في كل واحد من الحرفين معنى الآخر، إلا أن من عادة العرب تكرار الكلام وإعادته على التأكيد، كقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ)، وإذا كن مسافحات لم يكن محصنات، حرفان مؤديان معنى واحدًا، إلا أنه كرر، لما ذكرنا أن من عادة العرب التكرار، وكذلك ما ذكر: (لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) البأس: هو الشديد، والشديد هو البأس، هما واحد، فعلى ذلك الأول. ثم اختلف في قوله (قَيِّمًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: القيم: هو الشاهد، أي: القيم على الكتب المتقدمة، والشاهد عليها في الزيادة والنقصان، وفي التغيير والتحريف يبين ما زادوا فيها، وما نقصوا وما حرفوه، وما غيروه، كقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ. . .) الآية. وقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ). وقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا. . .) الآية. كانوا يحرفون نظمه ورصفه، ومنهم من كان يحرف أحكامه وشرائعه؛ فهذا القرآن شاهد، وقيم في بيان ما فعلوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (قَيِّمًا (2) أي: ثابتًا قائمًا أبدًا لا يبدل، ولا يغير، ولا ينسخ ولا يزداد، ولا ينقص، وهو على ما وصفه (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ. . .) الآية. وهو على ما وصف الحق بالثبات والقيام والباطل بالذهاب والتلاشي (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ. . .) الآية، وما وصف الكلمة الطيبة بالثبات والقيام لها، والخبيثة بالزوال والتغيير والذهاب فعلى ذلك هذا القرآن، لأنه حق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (قَيِّمًا)، أي: مستقيمًا، وتأويل المستقيم: المستوي الموافق، أي: يصدق بعضه بعضًا، ويوافق أوله آخره، وآخره أوله، أي: لم يخرج مختلفًا، وهو على ما قال: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، ولو كان من عند غير اللَّه على ما قال أُولَئِكَ الكفرة، لكان خرج مختلفًا متناقضًا، ينقض أوله

(3)

آخره، وآخره أوله، فإذ لم يكن دل أنه من عند اللَّه نزل، ولو كان على ما يقولون أصحاب العموم والظاهر أيضًا لم يكن قيمًا ولا مستقيمًا، بل يخرج مختلفًا متناقضا؛ لأنهم يعتقدون على العموم والظاهر، ثم يخصّون بدليل، فهو مختلف، وأصله قيم بالحجج والبراهين على أي تأويل كان، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا): أي: أنزله على عبده، لينذركم بأسًا شديدًا، أي: لينذر ببأس شديد، والبأس: العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ لَدُنْهُ). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنزل على عبده الكتاب من لدنه، أي: من عنده. والثاني: لينذركم الكفار بأسًا شديدًا ينزل من عنده، واللَّه أعلم. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ). فيه دلالة: أنه قد يكون المؤمنون يستحقون اسم الإيمان، وإن لم يعملوا الصالحات، حيث ذكر المؤمنين، ثم ذكر الأعمال الصالحات، خص المؤمنين بعمل الصالحات، لكن البشارة المطلقة إنما تكون للمؤمنين الذين عملوا الصالحات؛ لأنه لم يذكر البشارة المطلقة في جميع القرآن إلا للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، ثم المؤمنون الذين عملوا غير الصالحات في مشيئة اللَّه: إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عذبهم بقدر عملهم الذي كانوا عملوا، وإن شاء قابل سيئاتهم بحسناتهم فإن فضلت حسناتهم على سيئاتهم، بدَّل سيئاتهم حسنات على ما أخبر: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ. . .)، هم في مشيئة اللَّه على ما ذكر، وليست لهم البشارة المطلقة التي للمؤمنين الذين عملوا الصالحات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا): لاسوء فيه ولا قبح. وقوله: (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) هو دون قوله: (. . . لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)، (كَبِيرًا)، في الذكر لكنه صار مثله بقوله: (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) لا يخرجون منه أبدًا، وهم مقيمون فيه. ثم يحتمل وجهين: أحدهما: (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا)، أي: لا تأخذهم سآمة ولا ملالة فيه؛ فيريدون التحول منه إلى غير؛ على ما يكون في الشاهد: أنه يسأم المرء ويمل من طعامٍ - وإن كان رفيعًا -

(4)

ويرغب فيما دونه، وهو ما قال: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا). والثاني: (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا)؛ لأن خوف الخروج والزوال عن النعمة [ينغص النعمة على صاحبها] (¬1)، وهو ما قال (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)؛ وقال: (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ... ) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أي: يعلمون أنه لم يتخذ ولدًا، ولكن يقولون ذلك على العلم منهم كذبًا وزورًا؛ كقوله: (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي: أشرك ما أعلم منه: ليس هو لشريك له، وكقوله: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ) أي: أتنبئون اللَّه بما لا يعلم أنه ليس على ما تقولون. والثاني: يحتمل قوله: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)، أي: عن جهلهم يقولون ما يقولون من الولد والشريك لا عن علم؛ تقليدًا لآبائهم؛ لأنهم ليسوا بأهل كتاب يعرفون به، ولا كانوا يؤمنون بالرسل، وأسباب العلم هذان: الكتاب والرسل، فما قالوا إنما قالوا عن جهل لا عن علم، وكذلك آباؤهم، فإن كان على هذا، ففيه دلالة أن من قال شيئًا عن جهل فإنه يؤاخذ به حيث قال: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ... (5) أي: كبرت وعظمت تلك الكلمة التي قالوها على من عرف اللَّه حق المعرفة حتى كادت السماوات والأرض أن تنشق؛ لعظم ما قالوا في اللَّه كقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ. . .) الآية. وقوله: (إِنْ يَقُولُونَ): أي: ما يقولون إلا كذبًا، ثم تكلم أهل الأدب في نصب (كَلِمَةً). قَالَ بَعْضُهُمْ: انتصب على المصدر، أي: كبرت كلمتهم التي قالوها كلمة؛ كقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا). وقال قطرب: هو على الوصف؛ كما يقال: بئس رجلًا، ونعم رجلًا؛ على الوصف به، وذلك جائز في اللغة فعلى ذلك هذا. وقال الخليل: إنما انتصب، لأنها نعت لاسم مضمر معرفة، وهو بمنزلة قوله: (سَاءَ مَثَلًا)، وإنَّمَا كان نعتا لاسم مضمر؛ لأنه قال: (وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوْا ¬

_ (¬1) في المطبوع [ينقص النعمة على صاحبها] والتصويب من (بحر العلوم للسمرقندي. 2/ 365). اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

(6)

اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)، فهذا القول هو فرية، فتأويله: كبرت الفرية كلمة. وقد قيل: كبرت المقالة كلمة، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ): أي: كَبُرَتْ كَلِمَةً: تكلموا بها. أو يقول: كَبُرَتْ كَلِمَةً تتكلمونها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) وقال في آية أخرى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، أخبر أنه فاعل ما ذكر، ولم يقل له، افعل أو لا تفعل في هذا، فيشبه أن يكون النهي ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)؛ ولهذا قال بعض الناس: إن في قوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ). نهيا عن الحزن عليهم. وعندنا: ليس يخرج على النهي، ولكن على التسلي والسلوة. ثم اختلف في قوله: (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا): في الأسف. قَالَ بَعْضُهُمْ: الأسف: هو النهاية في الغضب؛ كقوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)، قال أهل التأويل: (آسَفُونَا) أغضبونا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأسف: هو النهاية في الحزن، كقوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ)، أي: يا حزني. ويحتمل أن يكون منه الحزن؛ إشفاقًا عليهم أن تتلف أنفسهم في النار بتركهم الإيمان، أو كانت نفسه تغضب عليهم؛ بتركهم الإجابة، والقول في اللَّه سبحانه على ما قالوا فيه، وكلاهما يجوزان، إذا كان ذلك لله كادت نفسه أن تتلف حزنًا عليهم؛ إشفاقًا منهم، أو كادت تتلف غضبًا عليهم، وفيه دلالة أنه لم يكن يقاتل الكفرة، للقتل والتلف، ولكن كان يقاتلهم؛ ليسلموا حيث كادت نفسه تتلف؛ إشفاقًا عليهم منه؛ فلا يحتمل أن يكون يقاتلهم للقتل وفي القتل ترك الشفقة، ولكن كان يقاتلهم، ليضطرهم القتال إلى الإسلام، فيسلموا فلا يهلكوا، وفيه تذكير للمسلمين وتنبيه لهم من وجهين. أحدهما: ما أخبر عن عظيم محل الذنوب في قلبه، فلعل ذلك يؤذيه، فيلحقهم

(7)

اللعن؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. . .) الآية، وفي ذلك زجر عن ارتكاب ما يسوءه، ويؤذيه. والثاني: تعليم منه لأمته: أن كيف يعامل الكفرة وأهل المناكير منهم، يقاتلون في الظاهر، ويضمرون الشفقة لهم في القلب على ما فعل بهم رسول اللَّه، وعاملهم. وقوله: (بِهَذَا الْحَدِيثِ) سمى القرآن: حديثًا، وهو ما قال: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)، سماه بأسامٍ: قصصًا، وحديثًا، وذكرًا، وروحًا، وأمثاله. والنهاية في الحزن والغضب للأنبياء، أنفسهم تقوم لهذين، وأما غيرهم من الخلائق، فلا تحتمل أنفسهم إلا لأحدهما إذا كان الحزن؛ ذهب الغضب وإذا جاء الغضب ذهب الحزن؛ فالأنبياء هم المخصوصون بهذا. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) اختلف فيما أخبر أنه جعل للأرض زينة: قَالَ بَعْضُهُمْ: كل ما على وجه الأرض من النبات والشجر والإنسان وغيره هو زينة لها (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فإن كان التأويل على هذا فيكون قوله: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) القيامة، يعني: جميع ما على وجه الأرض فتبقى قاعًا صفصفًا، وذلك إخبار عن القيامة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (زِينَةً لَهَا): هو النبات الذي عليها، وما جعل لهم من الرزق؛ ليبلوهم بما جعل لهم من الأرزاق بالأمر والنهي والعبادات وغيره، لم يجعل ذلك النبات عليها وتلك الأرزاق مجانًا، ولكن ليختبرهم ويبتليهم بأنواع الامتحان، فإذا كان كذلك ففيه دلالة: أن ليس لأحد أن يتناول مما عليها إلا بإذن، ولا يقدم على شيء منها إلا بأمر من أربابها. وقال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان: زينة لها: أهلها، جعل ذلك، ليبلوهم، ذكر هاهنا: أنه جعل ما على الأرض؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملًا. وقال في آية أخرى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، ثم من الناس من يجمع بين الآيتين، فيقول: جعل الحياة للابتلاء والموت للجزاء؛ فيستدل على ذلك بقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا). أخبر: أنه يبلوهم بالزينة والحياة لا بالضيق والموات.

(8)

ومنهم من يقول: امتحنهم بهما جميعًا بالحياة؛ ليتزودوا فيها لما بعد الموت؛ كما يتزود في حال السعة والرخاء لحال الضيق والشدة فمن لم يتزود في حال السعة فلا زاد له في حال الضيق؛ فعلى ذلك من لم يتزود في الحياة فلا زاد له بعد الموت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أي: نبتليهم ونختبرهم أيضًا بذهاب النبات والأنزال وتأويله: أن يبتليهم بالرخاء والسعة وبالضيق والشدة، كقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. . .) الآية. وقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، ونحوه، فعلى ذلك قوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا). واللَّه أعلم. أي: نبتليهم بالسعة والرخاء والضيق والشدة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (بَاخِعٌ نَفْسَكَ)، أي: مهلك نفسك. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (بَاخِعٌ): بخع نفسه، أي: أخرجها. وقالا جميعًا: الأسف: الحزن. وقال غيرهما: الأسف: الغضب أيضًا، دليله قوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) أي: أغضبونا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصعيد: المستوي، ويقال: وجه الأرض، ومنه قيل للتراب: صعيد، لأنه وجه الأرض، والجرز: الأرض التي لا تنبت شيئًا، يقال: أرض جرز، وأرضون أجراز، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: والجرز: التي لا نبت فيها، والصعيد: التراب. * * * قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ حَسِبْتَ).

قيل: أحسبت. وقيل: قد حسبت. ويحتمل بمعنى: بل حسبت، كقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)، أي: بل يقولون، فعلى ذلك قوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ). وقد ذكرنا في غير موضع أن حرف الاستفهام من اللَّه يكون على الإيجاب والإلزام، ثم هو يخرج على وجهين: أحدهما: على الأمر: احسب واعلم: أن أبناء الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبًا. أو ما ذكرنا: بل حسبت، وهو كذلك. أو يقول: لا تحسبن أن أصحاب الكهف والرقيم من آياتنا عجبٌ ليس أعجب منها، بك أتاك آيات أعجب منها بكثير، واللَّه أعلم. ثم اختلف في (وَالرَّقِيمِ) وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالرَّقِيمِ): الكتاب؛ كقوله: (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) أي: مكتوب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالرَّقِيمِ): الوادي الذي فيه كهفهم. وقيل: (وَالرَّقِيمِ): اللوح الذي كتب فيه أسامي الفتية. وقيل: (وَالرَّقِيمِ): القرية التي خرجت الفتية منها وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما أدري ما الرقيم؟ لكني سألت كعبًا عنها فزعم أنها القرية التي خرجوا منها. وقيل: (وَالرَّقِيمِ): الكلب الذي كان معهم. قالوا أمثال ما ذكرنا، وليس بنا إلى معرفة الكهف والرقيم حاجة، إنما ذلك بلسانهم ولم يسألوا عن الكهف والرقيم، وإنما سألوا عن أصحاب الكهف والرقيم مما ينبغي لهم أن يشتغلوا به.

ثم قال أهل التأويل: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن قصة أصحاب الكهف والرقيم وأنبائهم، فقال: أخبركم غدًا ولم يستثن، فعاقبه اللَّه فيه أن حبس عنه الوحي كذا وكذا يومًا، فنزل: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). لكن ذلك فاسد، وما توهموا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - محال؛ لأنه كذب لا يجوز أن يكون رسول اللَّه يقول: (أخبركم غدًا) واللَّه لم يأمره بذلك، أو قال ولم يستثن؛ فيحبس الله الوحي عنه، ولا يخبرهم في الوقت الذي قال إنه يخبرهم؛ فيظهر كذبه عندهم بعدما اختاره لرسالته، واصطفاه لموضع وحيه، ثم يكذبه فيما أخبر؛ هذا فاسد محال غير محتمل ما توهموا به على اللَّه وعلى رسوله، قد كان من كفار مكة السعي في منع رسول اللَّه عن تبليغ الرسالة إلى الناس، والحيلولة عن الدعاء إلى ما أمر أن يدعوهم، واستقبال حججه وبراهينه بتمويهاتهم، وقد ذكر في غير قصة وخبر: أنهم سألوا اليهود عنه، وعن نعته: هل تجدون نعته في كتبكم؟ أن لم يكونوا أهل كتاب يعلمون ذلك؛ فاحتاجوا إلى من يعلمهم ويخبرهم عنه، فسألوا يهود المدينة عنه وعن خبره، فقالوا: نجد نعته في كتابنا كما يقولون، فهذا وقت خروجه وأوانه، فقالوا لهم: حدثونا بشيء نسأله لا يعلمه إلا نبي، فقالوا: سلوه عن ثلاث خصال، فإن أجابهن، فهو نبي، وإلا فهو كذاب، اسألوه عن أصحاب الكهف، واسألوه عن ذي القرنين فإنه كان ملكًا، وكان من أمره كذا وكذا، واسألوه عن الروح، فإن أخبركم فهو نبي، وإن لم يخبركم فهو كذاب، فسألوه، فأخبرهم عن ذلك. وفي بعض القصة: اسألوه عن الروح، فإن أخبركم عنه، فهو ليس بنبي وإن لم يخبركم، ولكنه وكل أمره إلى اللَّه فهو نبي. ثم قوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا): يحتمل أن يكون الخطاب وإن كان لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فالمراد به غيره، على ما خاطبه في غير آي من القرآن والمراد به غيره. ويحتمل أن الخطاب له والمراد هو، وإن كان هو المخاطب بهذا، فإنه يحتمل قوله: (أَمْ حَسِبْتَ. . .) إلى آخره وجهين: أحدهما: يقول: قد حسبت أن أنباءهم وأخبارهم كانت من آياتنا لرسالتك ونبوتك

(10)

عجبًا؛ فيكون الحساب على هذا التأويل في موضع العلم واليقين، كأنه قال: قد علمت أن أنباء أصحاب الكهف وأخبارهم آية عجيبة لرسالتك. والثاني: إخبار عن أحوالهم وتقلبهم من حال إلى حال، فإن كان على هذا، فيكون الحسبان في موضع الحسبان، كأنه قال: قد حسبت أن أحوالهم وتقلبهم كان من آياتنا عجبًا، هذا إذا كان الخطاب به لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأمَّا إذا كان الخطاب به لغيره، فإنه يجوز على الحسبان والظن وغيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) أي: انضم. قَالَ بَعْضُهُمْ: الكهف: الغار في الجبل. وقيل: الفضاء. وقيل: الملجأ. ولكن قد ذكرنا: أنا لا ندري ما الكهف وما الرقيم؟ ذلك بلسانهم، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، وهم الفتية اسم الأحداث منهم والشبان، لا اسم المشيخة، ثم يكون المماليك والخدم، ويكون الأحرار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً): قال الحسن: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي: جنة، (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) أي: يسيرًا، وهو ما ذكر في قوله: (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا). فهذا ليس بدعاء، إنما هو تلقين وإلهام منه إياهم، فيكون تفسيرًا للأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي: رزقًا؛ لأنهم كانوا يفارقون قومهم؛ لكفرهم؛ ليسلم لهم بينهم الذي هم عليه، وهو الإسلام، وقد عرفوا أنه يسع مفارقة الناس طلبًا لسلامة الدِّين، ولكن لم يعرفوا أنه يسع قوتهم، وما به قوام أنفسهم إلى مكان خال عن ذلك فسألوا ربهم الرزق؛ إشفاقًا على أنفسهم بقولهم: (آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي: رزقًا (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) أي: احمل جميع أمورنا على الصواب والرشد على ما ذكرنا: أنهم عرفوا سعة المفارقة للدِّين، ولكن لم يعرفوا سعة ذلك؛ إذا كان فيه خوف هلاك أنفسهم، فسألوا ربهم أن يحمل أمرهم ذلك على الرشد والصواب.

(11)

ويحتمل (آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً): نعمة وسعة، وهيئ لنا من أمر ديننا صوابًا، يقول (آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا). وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) الضرب على الآذان: هو المحو، محو الأسماع، ويقال: اضرب على حديث كذا: امحه. ثم يحتمل محو الأسماع وجهين: أحدهما: محو الأرواح التي بها تحيا الأنفس؛ فيكون كناية عن الموت. أو يكون محو أرواح الأسماع التي تسمع لا الموت، فلما قال في آية أخرى: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ)، دل أنه إنما أراد محو أرواح الأسماع، لا محو الأرواح التي بها حياة الأنفس، وهو كقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ... (12) من رقودهم؛ (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) أي: لنعلم ما قد علمناه غائبًا شاهدًا؛ إذ كان عالمًا بما يكون منهم، وتأويله: ما ذكرنا: ليعلم الخلق شاهدًا، كما علم هو غائبًا. أو ليعلم المخطئ منهم من المصيب؛ إذ محال وصفه بالعلم بالمخطئ ولا مخطئ ثم، وبالمصيب ولا مصيب ثمة، فإذا كان كذلك فيكون قوله: ليعلم المخطئ من المصيب، والمصيب من المخطئ إذا كان، وأصله: أنه يعلمه كائنا على ما علم أنه يكون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا). يضشمل: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: مشركيهم ومؤمنيهم. ومنهم من قال: الملك والفتية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم اختلفوا في مكثهم إذ بعثوا. قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ) ولكن لسنا ندري من أي الحزبين، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، سوى أنا ذكرنا قول أهل التأويل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) الحق في النبأ: الصدق، والحق في الأحكام: العدل، وفي الأفعال: الصواب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحق - هاهنا -: هو القرآن، فيكون قوله (بِالْحَقِّ) أي: في الحق،

(14)

وهو القرآن: نقص عليك نبأهم في القرآن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى). هذان الحرفان معناهما واحد: الزيادة والربط، كل واحد منهما يؤدي معنى صاحبه زيادة الهدى، أي: ثبتناهم على الهدى. ويجوز أن يقال: هو التثبيت والربط. وكذلك يجوز أن يقال على التجديد والابتداء، إذ للإيمان حكم التجدد في كل وقت؛ إذ هو يكون منكرًا جاحدًا للكفر في كل وقت؛ فهو مجدد للإيمان كذلك في كل وقت؛ فإن شئت حملته على الثبات والزيادة على ما كان، وإن شئت على الابتداء والتجدد، وكذلك قوله: (فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا). وقال الحسن في قوله: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) أي: من حكم اللَّه أن من اهتدى زاده هدى؛ كقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)، لكن هذا لو كان على ما ذكر، لكان لا يجوز أن يكفر إذا اهتدى مرة، لا يزال يزيد له هدى، فإذا لم يكن دل أنه لا يصح ذلك، والوجه فيه ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) يحتمل قوله: (إِذْ قَامُوا) بالحجج والبراهين. ويحتمل: (إِذْ قَامُوا) بالنهوض إلى الكهف، حين انضموا إليه. أو قاموا لله ولدينه. أو قاموا من عند أُولَئِكَ الكفرة، فقالوا ما ذكر: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: قالوا: ربنا هو رب السماوات والأرض ورب ما فيهن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا). يحتمل قوله: (لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا) أي: لن نسميهم آلهة؛ على ما سمى قومهم الأصنام التي عبدوها: آلهة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ قُلْنَا). من دونه إلهًا، فسموهم: آلهة، على زعمهم، وعلى ما عندهم؛ كقوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، وقوله: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا) لا يجوز أن يسمي الأنبياء الأصنام التي كانوا يعبدونها: آلهة، وهي ليست بآلهة، ولكن قالوا ذلك على زعمهم، وعلى ما عندهم؛ فعلى ذلك قوله: (لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا)، أي: لن نعبد، فإن كان على العبادة، ففيه إضمار، أي:

(15)

لن نعبد من دونه إلهًا غير اللَّه، كفعل قومنا، ولو فعلنا لقد قلنا شططًا، أي: جورًا وظلمًا. ثم قال: (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ... (15) يعبدونها (لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)، أي: هلا يأتون على تسميتهم آلهة أو استحقاق العبادة لها بحجة بينة. ثم حرف (هلا) يستعمل في الماضي، ويستعمل في المستقبل، فإن كان على الماضي فهو على الإنكار، أي: لم يكن؛ وإن كان على المستقبل فهو على السؤال، أي: ائتوا بحجة بينة على أنها آلهة، كما أتوا هم: أن اللَّه هو الإله الحق، وأنه خالق السماوات والأرض، ورب ما فيهما. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ) أي: أنمناهم، والأمد: هو الغاية، (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ)، أي: ألهمناهم الصبر، وثبتنا قلوبهم. وقوله: (شَطَطًا)، أي: غلوا، يقال: أشط عليَّ؛ إذا غلا في القول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا). أي: لا أحد أظلم ممن جعل مع اللَّه آلهة، وقد ذكرنا تأويله في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ... (16) وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله) فتأويل الآية على القراءة الظاهرة: وما يعبدون إلا اللَّه، أي: وإن اعتزلتموهم، والذين لا يعبدون إلا اللَّه، فلا تعتزلوا عبادته؛ لأنه كانوا يعبدون الأصنام، ويعبدون اللَّه أيضا ويرونه معبودًا؛ فكأنهم قالوا: وإذ اعتزلتموهم والذين يعبدون إلا اللَّه فلا تعتزلوه، وهو كقول إبراهيم - عليه السلام - لقومه حيث قال: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76). الآية، استثنى عبادة رب العالمين من بين عبادة من يعبدون من دونه؛ إذ كانوا يعبدون الأصنام، ويعبدون اللَّه ويرونه معبودًا، إلا أن بعضهم لا يرون أنفسهم بلغت مرتبة عبادة اللَّه، فيعبدون الأصنام؛ رجاء أن تشفع لهم عنده، أو تقرب عبادتهم إلى الله زلفى وأمثاله. وجائز أن يكون قوله: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ): على التقديم والتأخير، أي: وإذ اعتزلتموهم فأووا إلى الكهف؛ لأنهم كانوا لا يعبدون إلا اللَّه يعني: أصحاب الكهف.

والثاني: ما ذكرنا: وإذ اعتزلتموهم وما يعبدونهم في الحقيقة إلا اللَّه، وإن كانوا في الظاهر يعبدون غير اللَّه. وتأويل قراءة عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإذ اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون من دون اللَّه. ويحتمل أن يكون هذا منهم ليس على القول والنطق؛ ولكن ألقى في قلوبهم وقذف: أنهم إذ فارقوا قومهم وباينوا يأوون إلى الكهف وينشر لكم ربكم من رحمته. وقال الحسن: إن في قومهم من قد آمن سواهم؛ فقالوا: إنكم إذا باينتم وفارقتم فأووا إلى الكهف، فلا تقعدوا معهم فلعلهم يلحقونكم ويطلبون لقاءكم، فلا تقعدوا معهم. ويشبه أن يكون قوله: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)، لما عزموا أن يفارقوا قومهم اعترض لهم الشيطان، فقال: إنكم تفارقون قومكم إلى مكان، وليس معكم شراب ولا طعام؛ فتهلكون أنفسكم؛ فدفعوا وساوسه؛ بقوله: (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا). ثم قوله: (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: يخلق لكم ربكم، كقوله: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا) بالراء، أي: كيف نخلقها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَنْشُرْ لَكُمْ)، أي: يبسط، والنشر: هو البسط. قوله عَزَّ وَجَلَّ: (مِنْ رَحْمَتِهِ): يحتمل الرزق، ويحتمل كل شيء به يدفع الهلاك عن أنفسهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا). أي: ما ترفقون به وتنتفعون به، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ، وهو من الرفق، والمرفق - أيضًا - مثله؛ لأنه: ينتفع أبه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (مِرْفَقًا): ما يرتفق به. وقال أبو عبيدة: المِرْفق: ما ارتفقت به، فأما في اليدين فهو مَرْفِق، والله أعلم.

(17)

قوله تعالى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ). قيل: تميل عن كهفهم. (ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ). كانت لا تصيبهم لا عند طلوعها ولا عند غروبها؛ لأن الكهف كان مستقبل بنات النعش، وكل شيء يكون مستقبل بنات النعش لا تصيبه الشمس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن كان ثمة حجاب وستر يحجب الشمس عن أن تقع عليهم، لكن هذا لا يصلح؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعلهم ذلك آية من آياته، وكرامة من كراماته؛ فليس فيما لا يقع عليهم الشمس بحجاب أو ستر كبير آية ومنَّة؛ إنما الآية فيما تقع الشمس عليهم، ثم يدفع عنهم ضررها وأذاها؛ فإذا كانوا بحيث لا تصيبهم الشمس - فأذاها وضررها -أيضًا- لا يصيبهم؛ فليس في ذلك كبير آية وحكمة؛ إذ ليس فيما لا يصيب الشمس ضرر أو أذى، ولكن يذكر لطفه؛ حيث منع ضرر الشمس وأذاها عنهم مع إصابة الشمس إياهم ووقوعها عليهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ) يمينهم، أو يمين القبلة، وكذلك (ذَاتَ الشِّمَالِ): شمال أُولَئِكَ، أو شمال القبلة، فأما يمين الجبل والغار، على

ما قال أهل التأويل، فإنه ليس للجبل يمين ولا شمال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: الفجوة: الظل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفجوة: الفضاء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي سعة المكان: يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن لطفه ومننه: أنه قد حشرهم إلى غار كانوا يسعون فيه حتى يتقلبوا فيه، والغار الذي يكون في الجبال لا هكذا يكون؛ بل يكون ضيقًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ). هذا يرد قول من ينكر جري الآيات على يدي غير الأنبياء؛ لأنه جعل في أصحاب الكهف عددًا من الآيات: كلها خارجة عن احتمال وسع الخلق وعادتهم؛ لمفارقتهم قومهم لسلامة دينهم. أحدها: ما أخبر أنه ضرب على آذانهم، وأنامهم نومًا خارجًا عن طبع الخلق وعادتهم، وهو ثلاثمائة سنة، ثم بعثهم ليتساءلوا بينهم، على ما أخبر، عَزَّ وَجَلَّ. والثاني: لم تبل ثيابهم في مثل تلك المدة ومثل المكان، ولم تتغير؛ ألا ترى أنهم قالوا حين بعثوا: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ)، ولو كانت ثيابهم بالية أو متغيرة، لم يستقلوا ولا استقصروا كل هذا يومًا أو بعض يوم؛ ألا ترى أنهم فزعوا إلى الطعام، ولم يفزعوا إلى الثياب؛ حيث قالوا: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ)، ولو كانت ثيابهم بالية أو متغيرة - لكان فزعهم إلى الثياب كهو إلى الطعام، وهو أولى. والثالث: ما أخبر: من تزاور الشمس إذا طلعت ذات اليمين، وقرضها إياهم ذات الشمال. والرابع: دفع الحر والبرد عنهم؛ إذ من طبعهما الإهلاك والفساد إذا اشتدا وكثرا. والخامس: ما ذكر من تقليبه إياهم ذات اليمين وذات الشمال، وحفظه إياهم عن أن تفسدهم الأرض وتأكلهم؛ إذ من طبع الأرض ذلك عند امتداد الوقت. والسادس: ما ذكر في الآية من الهول والهيبة إذا دخل عليهم واطلع؛ حيث قال: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا): خوفًا مما ترى فيهم من الأهوال: هذا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكيف لمن دونه؟!.

والسابع: حفظه إياهم عن جميع الخلائق حتى لم يطلع، ولم يعثر عليهم أحد من الخلائق. والثامن: إبقاؤهم أحياء أكثر من ثلاثمائة سنة بلا غذاء، والأنفس لا تبقى بلا غذاء بدون ذلك؛ وذلك باللطف، وأمثال هذا كثير مما يكثر عدها وإحصاؤها. كله من آيات عظيمة خارجة عن وسع البشر وعادتهم؛ فذلك لهم باختيارهم دين الله من بين قومهم، وبمفارقتهم إياهم؛ ليسلم لهم دينهم؛ إذ الغلبة فيهم يومئذ الكفر، فأكرمهم اللَّه بذلك بالكرامات التي ذكرنا؛ فلا ننكر أن يعطي اللَّه أحدًا من أوليائه قطع مسيرة أيام بيوم أو بساعة، أو المشي على الماء، ونحو ذلك، ليس بمستبعد ولا مستنكر. وقول أهل التأويل: إنهم كانوا كذا، والكلب كذا، وأساميهم كذا، وعددهم كذا، ونحوه؛ فذلك مما لا يعلم إلا بخبر الصدق وقول الحق، وقد نهى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يستفتي فيهم منهم أحدًا حيث قال: (وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) وما ذكر هَؤُلَاءِ كله من الاستفتاء الذي نهى رسوله عن ذلك. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (تزَاوَرُ) أي: تميل، وتزور مثله. (تَقْرِضُهُمْ)، أي: تدعهم على شمالها، أي: أن الشمس لا تصيبهم طالعة ولا غاربة عند طلوعها وغروبها، ويقال: قرضته: تركته، أقرضه قرضًا، ويقال: قرضت موضع كذا، أي: جاوزته وتركته خلفي، ويقال: قرضه، أي: قطعه بمقراض، وتزاور يتزاور، أي: عدل ومال (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ): أي سعة، وفجوات جمع. ويحتمل قوله: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) أي: ذلك النبأ وما ذكر من قصة أصحاب الكهف من آيات قدرة اللَّه، أو من حجج اللَّه على إثبات رسالة رسوله ونبوته. أو من آيات كراماته للفتية ولمن اختار دين اللَّه وآثره على غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا). قد ذكرناه في غير موضع. وقَالَ بَعْضُهُمْ ت (تَزَاوَرُ) و (تَقْرِضُهُمْ) كلاهما واحد، وهو أن تميل عن كهفهم فتدعهم ذات اليمين، (وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) أي: تدعهم ذات الشمال. وقوله: (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي: زائفة من الكهف، قال أبو معاذ: الزائفة: قدر ما يصلح.

(18)

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ) أي: يبوئ لكم؛ كقوله: (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) أي: تهيئ، (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) الرشيد: الصالح. وقال مقاتل: (رَشَدًا)، أي: مخرجا. (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا): قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: غذاء تأكلونه، وهو ما ذكرنا كل ما يترفق به، ويقال: مخرجا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) قَالَ بَعْضُهُمْ: لأنهم كانوا مفتحي الأعين والأبصار كاليقظان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وتحسبهم أيقاظا؛ لأنهم كانوا يتقلبون في رقودهم اليمين والشمال كما يتقلب اليقظان يمينا وشمالا. وقال بعض أهل التأويل: إنما كان يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، ليدفع عنهم أذى الأرض وضررها؛ لئلا يفسدوا ولا يتلاشوا، وإن كان اللَّه قادرًا أن يدفع عنهم الأذى وضرر الأرض لا بتقليب من جانب إلى جانب وإن كان ذلك مما يفعله من لا يملك دفع الأذى إلا بما ذكرنا، فأما من كان قادرًا بذاته مستغنيا عن الأسباب التي بها يدفع فغير محتمل. وهو: على التعليم منه إياهم: أن كيف يتقى الأذى؟ وكيف يدفع الضرر؟ فإذا لم يكن بمشهد من الخلق فلا معنى له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ)؛ لأنهم كانوا في مكان الريبة واللصوص مما لا يأوي إليه إلا هارب من ريبة وشر أو قاصد ريبة وطالب عثرة ومكابرة لم يكونوا في مكان يسلم فيه ويرقد ولا يختار للنوم مثله، فقال: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ) ولما كانوا في مكان لا ينام فيه للخوف، كأنهم أيقاظ وهم رقود، واللَّه أعلم. ولكن لا ندري لأي معنى ذكر أنه يحسب الناظر إليهم كأنهم أيقاظ وهم رقود؟ وإذا لم يبين اللَّه ذلك فلا نفسر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) هو ما ذكرنا أنهم: قد يتقلبون في نومهم من جانب إلى جانب، وذكر التقليب جائز أن يكون؛ لما ذكر بعضهم من دفع أذى الأرض وضررها.

أو ذكر فعله؛ لما له في تقلبهم صنع وفعل، واللَّه أعلم. وقوله: (ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) وإذ لا يفهم من ذات الشيء غير ذلك الشيء أو شيء آخر سواه؛ لأنه ذكر ذات اليمين فهو اليمين والشمال نفسه لا غير؛ فعلى ذلك في قولنا: عالم بذاته، لا يفهم غير علمه، أي: عالم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الوصيد: هو فناء الباب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوصيد: هو عتبة الباب. قَالَ الْقُتَبِيُّ: الوصيد: الفناء، ويقال: عتبة الباب، وهذا أعجب إِلَيَّ؛ لأنهم يقولون: أوصد بابك، أي: أغلقه. ومنها (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة، وأصله: أن تلصق الباب إلى العتبة إذا أغلقته. فإن كان الوصيد هو عتبة الباب، ففيه أن الكلب كان داخل باب الغار، وإن كان الفناء ففيه أنه كان خارج باب الغار، وفيه أيضًا أنه أبقى الكلب ثلاثمائة سنة على ما أبقاهم، وإن لم يكن من جوهرهم بلطفه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا). قال بعض أهل التأويل: وذلك أن شعورهم قد طالت وأظفارهم قد امتدت وعظمت، فكانوا بحال يرغب عنهم ويهاب. لكن هذا لا يحتمل؛ لأنهم قالوا: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فلو كانوا على الحال التي ذكروا من تطاول الشعور وامتداد الأظفار وتغير أحوالهم، لم يكونوا ليقولوا: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)؛ إذ لو نظروا في أنفسهم من تغير الأحوال، لعرفوا أنهم لم يلبثوا ما ذكروا من الوقت؛ دل ذلك أن ذلك الخوف والهيبة لا لذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لأنهم كانوا في مكان الريبة فيما لا يؤوي إلى مثله إلا لخوف ريبة أو طلب ريبة لا يأويه إلا لهذين: هارب من شر، أو طالب شر على آخر؛ على ما ذكرنا: أن من أقام في مهاب ومكان مخوف يهاب منه ويخاف.

(19)

أو أن يكونوا بحيث يهابون ويخاف منهم لئلا يدنو منهم أحد، ولا يقرب، فلا يوقظهم أحد، ليبقوا إلى المدة التي أراد اللَّه أن يبقوا فيه؛ ولذلك يحتمل هذا المعنى في تقليب اليمين والشمال؛ فجائز أن يكرن قوله: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) وذلك الخوف وتلك الهيبة: هيبة الدِّين، على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين "، وذلك لدينه ولحقيقة أمره؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من هيبة أحوالهم لدينهم الذي اختاروا من بين قومهم وفارقوهم؛ ليسلم دينهم إلى مكان لا طعام فيه ولا شراب؛ وذلك لحقيقة ما اختاروا من الدِّين، كان ذلك لمعنى لم يطلع اللَّه رسوله على ذلك؛ فلا نفسر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) أي: كما أنبأكم من أنبائهم وقصصهم أو كما ضرب على آذانهم وأنامهم سنين كذلك يبعثهم. وقوله: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ) بعثهم؛ لما علم ما يكون منهم، وهو التساؤل، وهكذا جميع ما يخلق وينشئ، إنما يخلق وينشئ؛ لما يعلم أنه يكون منهم؛ كقوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا. . .) الآية، ذرأهم؛ لما علم أنه يكون منهم، وهو عمل أهل جهنم، وكذلك قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) من علم أنه يعبده ويعمل له عمل أهل الجنة خلقه لذلك، هكذا كل ما يخلق، لما يعلم أنه يكون منه؛ إذ يخرج الفعل لذلك مخرج العجز والجهل بالعواقب، فإذا كان اللَّه عالمًا بما كان ويكون، ويتعالى عن أن يكون فعله عبثا - لم يجز أن يخلق شيئًا لغير ما علم أنه يكون، وهكذا في الشاهد من عمل عملا أو فعل فعلا لغير ما علم أنه يكون - فهو عابث أو جاهل بعواقبه، وباللَّه العصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). وتأويله ما ذكر: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا). وقوله: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قالوا ذلك، لما لم يروا في أنفسهم آثارًا وأعلاما تدل على طول المكث والمقام فيه، ثم لما تذكروا أحوالهم، وما يرى النائم في نومه من العجائب وأشياء كثيرة، عرفوا أن ذلك القدر من الأشياء ومثل ذلك من العجائب التي رأوا لا يحتمل أن يكون في يوم أو بعض يوم، فعند ذلك وكلوا الأمر إلى اللَّه، فقالوا: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ). وأما الذي أماته مائة عام لما بعثه قطع القول في ذلك، ولم يكل الأمر إلى اللَّه حيث

قال: (قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)؛ لأنه كان ميتا، والميت لا يرى شيئا، ولم يكن في نفسه آثار تدل على ذلك، فقطع القول فيه، ولم يكل الأمر إلى اللَّه. وأما النائم فإنه يرى في نومه أشياء فيعرف أنه لا يكون في وقت قصير؛ لذلك وكلوا الأمر إلى اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ). فيه أنهم لما فارقوا ومعهم زاد وهو الورِق، أمر بعضهم بعضا: أن يبعث بالورق، ليأتيهم بالطعام، وفيه أنه أضاف الورق إليهم، ولا شك أنه كان له فيه نصيب حيث قال: (بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ)، وفيه دلالة جواز المناهدة في الأسفار وغيرها؛ إذ كان ذلك الورِق بينهم، وفيه دلالة جواز الوكالة، وأنها ليست بمبدعة، ولكن كانت في القرون الماضية وهي متوارثة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَزْكَى طَعَامًا) أي: أحل طعاما؛ لأن بعض أهل تلك المدينة يذبحون للأصنام وباسم الأوثان التي كانوا يعبدونها، فأمروا بأن يأتيهم بحلال يحل لهم أكله والتناول منه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَزْكَى): أرخص وأكثر؛ لأنهم في مكان لا يدرون متى يخرجون منه، فطلبوا الأكثر؛ لشدة حاجتهم إليه ويكفي لوقت مقامهم ونحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَزْكَى طَعَامًا) أي: أطيب وأجود؛ لأن الطيب أزيد للعقول وأصلح للأنفس وأنفع؛ ولذلك جعل اللَّه أرزاق البشر ما هو أطيب وألين؛ لما يزيد ذلك في العقول والفهم، وجعل لغيرهم من الدواب كل خشن خبيث، لما ليس لهم عقول يحتاج إلى ما يزيد لها فيها، وأصل الزكاء: النماء والزيادة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا). يحتمل قوله: (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي: ليرفق بهم؛ لئلا يشعروا أنه من أُولَئِكَ الذين فارقوهم لدينهم. أو أمره بالتلطف، أي: بالسماحة والسهولة في الشراء؛ لما جاء في الخبر: " رحم الله

(20)

سهل البيع سمح الشراء ". (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) أنه فلان بن فلان وأنه من قوم كذا فيعرفون أنه من أصحاب الكهف. أو لا يشعرن بمكانكم أحدا، من الناس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) يحتمل: يقتلوكم أو ما أرادوا بكم. (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ)، أي: في دينهم الكفر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا). أي: ما دمتم في ملتهم ودينهم، هذا كأنهم لم يعرفوا التَّقِيَّة، وإلا لو أعطوهم بلسانهم ولم يعطوهم بقلوبهم، لكانوا قد أفلحوا. أو عرفوا التَّقِيَّة إلا أنه لم يكن للقرون الماضية التقية، ولم يؤذن لهم فيها. أو هي رخصة رخص لهم، والأفضل ألا يعطي ذلك ولا يظهر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) اختلف في قوله: (وَكَذَلِكَ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: كما أخرج المبعوث بشراء الطعام من الكهف مع الورق المتقدم ضربها، فكان ذلك بسبب إعلام أهل المدينة عن الفتية (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ)، أي: أطلعنا عليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كما أعلم عن أنباء الفتية وأصحاب الكهف وقصصهم من أولها إلى آخرها، (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ) أي: أطلعنا عليهم، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ) أي: كما ضرب على آذانهم ليعلموا أن ما وعد لهم الرسل عن اللَّه حق. ثم اختلف في إطلاعهم عليهم: قَالَ بَعْضُهُمْ: أطلع اللَّه الملك الذي هربوا منه وأهل المدينة بعدما أنامهم، لكن حيل بينهم وبين أُولَئِكَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أطلعهم قبل أن ينيمهم، فحيل بينهم وبينهم، فسدوا باب الكهف، فبقوا هنالك، ثم أنامهم بعد ذلك ما ذكر، فهلك ذلك الملك، وانقرض تلك القرون، ثم ولي ملك آخر مسلم صالح، ثم أطلع ذلك الملك عليهم، وأمثال ذلك قد قالوا، فلا ندري

كيف كانت القصة؟ وفي ظاهر الآية أنه أطلع عليهم بعدما أنامهم وبعثهم، وليس فيه بيان أنه من أطلع عليهم الملك الأول أو الثاني أو القوم أو غيرهم؟ ولا يجوز أن يقطع القول فيه أنه فلان؛ لأن هذه الأنباء ذكرت في القرآن حجة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلو قطع القول على شيء أو زيد أو نقص عما كان في كتبهم، خرجت عن أن تكون حجة له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ). يشبه أن يكون الرسل من قبل كانوا يخبرون قومهم أن نفرًا يهربون من ملكهم؛ إشفاقًا على دينهم، ويلتجئون إلى الكهف فينامون كذا وكذا سنة، ثم يبعثون، فأكذبهم قومهم بما أخبروا قومهم من أنبائهم، فقال: (أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا) أن ما وعد الرسل وأخبروهم من نبأ أصحاب الكهف حق. والثاني: يحتمل أن يكونوا ينكرون البعث والساعة، والرسل يخبرون أنهم يبعثون، فأطلع على أُولَئِكَ؛ ليعلموا أن البعث والقيامة حق؛ لأن الأعجوبة في إبقاء أنفس أصحاب الكهف في نومهم ثلاثمائة سنة أو أكثر بلا غذاء يغتذون، ولا طعام يطعمون، ولا شيء تقوم به الأنفس - إن لم تكن أكثر وأعظم من إحياء الموتى وجمع العظام الناخرة البالية لا تكون دونه؛ لما لم يروا الأنفس لا تبقى أياما بلا غذاء فضلا أن تبقى سنين كثيرة ثلاثمائة أو أكثر، فبعث هَؤُلَاءِ؛ ليعلم من أنكر البعث أن من قدر على إبقاء الأنفس مدة مديدة طويلة بلا غذاء تغتذي به لقادر على إحياء الموتى وبعثهم بعد الموت. أو أن يكون ما ذكرنا بدءًا: أن الرسل السالفة كأنهم أخبروا قومهم عن قصة أصحاب الكهف فكذبوهم، فأطلع اللَّه نبأهم وخبرهم؛ ليعلم أُولَئِكَ أن الذي أخبرهم الرسل حق وصدق، واللَّه أعلم. ثم إن هذه الأنباء والقصص المتقدمة ذكرت في القرآن حجة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ودلالة في إثبات رسالته، فلا يجوز أن يقطع القول في شيء لم يبين فيه ولم يوضح ولم يفسر؛ لما يخاف فيه الكذب على اللَّه، ولا الزيادة فيها والنقصان على ما ذكر فيه؛ لما لعلها تخرج مخالفة لما ذكر في كتبهم؛ فلا يكون له فيها حجة ولا دلالة. فَإِنْ قِيلَ: كيف علموا أن ما أخبرهم الرسل حق إذا كانوا لا ينكرون أن وعد اللَّه حق، ولكن يظنون أن ما وعدهم الرسل ويخبرونهم إنما هو اختراع منهم لا وعد من اللَّه وخبر عن اللَّه؟ قيل: علموا أن ذلك حق بوجوه: أحدها: ما رأوا من الدراهم التي كانت في يدي المبعوث بشراء الطعام من الضرب المتقدم، وإن كان يجوز أن تكون تلك الدراهم من كنز أصاب ذلك الرجل لا من دراهم

(22)

أصحاب الكهف، فإذا صدقوا ذلك الرجل فيما أخبر أنها من دراهم أصحاب الكهف، فتصديق الرسل أولى وخبرهم أحق أن يصدق. والثاني: علموا لما رأوا أنه أنامهم مدة طويلة خارجة عن العادة، وحفظهم من كل ضرر وأذى وفساد، وأبقاهم من غير طعام ولا شراب، على علم منهم أن الأنفس لا تبقى ولا تقوم بغير طعام ولا شراب بدون تلك المدة بكثير، فضلا أن تبقى إلى مثل تلك المدة؛ فعلموا أن من قدر على حفظ ما ذكرنا وإبقائهم، لقادر على البعث والإحياء ولا يعجز عن شيء يريد كونه، وأنه فعال لما يريد. والثالث: علموا أن ذلك حق؛ لما رأوا أنه أنامهم وقتًا طويلا، وحفظهم عن جميع الآفات، ثم بعثهم وأحياهم - أنه لم ينمهم ولم يبعثهم إلا لعاقبة تتأمل وحكمة تقصد؛ فعلى ذلك إحياء الخلق وإماتتهم ليس إلا لعاقبة تتأمل وحكمة تقصد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ): لسنا تدري في ماذا تنازعوا في أمرهم فيما بإهم: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا)، أو تنازعوا في السبب الذي به التجئوا إلى الكهف؟ ويشبه أن يكون تنازعهم في البناء الذي ذكر في المسجد وغيره، ويحتمل في عددهم ونحوه، ولكن لا نقطع القول فيه؛ إذ وكل أمرهم إلى اللَّه جث قال. (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)، ثم قوله: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) يحتمل بناء المسجد عليهم إكرامًا لهم وإعظامًا؛ ليذكروهم في ذلك المكان على قرب منهم، على ما ظهر عندهم من إكرام اللَّه إياهم. أو يتخذون مسجدًا لعبادة أنفسهم، ليعبدوا اللَّه على قرب منهم؛ ليسألوا من بركتهم ونحوه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا

بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: عددهم كان سبعة والثامن الكلب؛ لأنه ذكر في الثالث والخامس (رَجْمًا بِالْغَيْبِ)، أي: قذفًا بالغيب وظنا، وقيل: ترجمة بالغيب، أي: بلا علم ولم يذكر في قوله: (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)، وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: " أنا من القليل الذين استثناهم اللَّه، وكانوا سبعة والثامن الكلب "، لعل ابن عَبَّاسٍ قال: " أنا من القليل " ظنا واستدلالا بالذي ذكر، أو كان سماعا سمع من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك. وقال الحسن وأبو بكر وغيرهما: إن اللَّه تعالى قال: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)، ثم استثنى قليلا من عباده، فلا نعلم بأن أُولَئِكَ القليل من الملائكة أو من البشر أو منهم؟ فلا ندري من هم؟ ولا كم عددهم؟ وبه نقول نحن، وهو ما قال: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) نهى رسوله أن يستفتي منهم أحدًا؛ لما يحتمل أن يكون ذلك غير مبين في كتبهم، فلا يطلع رسوله خوف التكذيب. ثم اختلف في وقتهم: قَالَ بَعْضُهُمْ: كان فيما بين عيسى ومُحَمَّد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك كان قبل بعث موسى، وهو قول الحسن وأبي بكر وهَؤُلَاءِ، وهذا أشبه؛ لأنهم إنما سألوا عنهم أهل التوراة وهم اليهود، فلا يحتمل أن يكون بعد عيسى وهم لا يؤمنون بالإنجيل. وقول أهل التأويل: كان أساميهم وعددهم كذا، ليس لنا إلى معوفة أساميهم وعددهم، حاجة، ولو كانت لتولى اللَّه بيان ذلك في الكتب. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (رَجْمًا بِالْغَيْبِ) أي: ظنا بالغيب، أي: يقولون بالظن. وقيل: قذفًا بالغيب على غير استيقان، وهما واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا) إلى قوله: (إِلَّا أَن يَشَآءَ اللَّهُ) يحتمل الخطاب بهذا لكل الناس، ليس أحد أولى به من غيره؛ فيخرج ذلك مخرج التعليم لهم في ترك المراء مع الكفرة إلا مراء ظاهرًا، وكذلك في ترك الاستفتاء، وكذلك علمهم

(23)

وأدبهم ألا يعدوا عدة إلا والثنيا بها ملحقة. ويحتمل أيضًا أن يكون الخطاب به لرسول اللَّه، لكن ليس لأنه قد كان منه ما ذكر من المراء والاستفتاء والوعد بغير ثنيا، ولكن خاطب به رسول اللَّه ليتأدب غيره من الناس بذلك الأدب، وهو كما خاطبه بقوله: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ونحوه من الخطاب الذي خاطبه به، فخاطبه به لا لأنه كان منه ذلك أو كان فيه ما ذكر، ولكن لما ذكرنا من الوجوه فيما تقدم. ثم اختلف في قوله: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في أمر أصحاب الكهف، أي: لا تمار فيهم ولا تستفت فيهم منهم إلا قدر ما كان في كتبهم، فإنك لو ماريتهم بما ليس في كتابهم كذبوك، ولكن قدر ما في كتبهم؛ هذا كان على المسألة، فإن كان على غير المسألة في غير أمر أصحاب الكهف على ابتداء المحاجة والحجاج فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أي: لا تمار فيهم إلا بما هو أظهر ويعرفون ذلك ظاهرًا، من نحو ما يعرفون أن الأصنام التي عبدوها لا تنفع ولا تضر ولا تبصر ولا تسمع، ونحو ذلك مما يعرفون أنها كذلك. والثاني: لا تحاجهم بلطائف الحكمة ودقائقها، ولكن بشيء محسوس ظاهر من الآية، لا بما يلطف ويدق، على ما يحاجهم الأنبياء بآيات حسيات. وفي قوله: (وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) دلالة ألا يسع النظر في كتاب الفلاسفة إلا على جهة العرض لما فيها على كتاب اللَّه فيؤخذ بما يوافقه ويترك الباقي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ... (24) لو كان فهم الخطاب على ظاهر ما خرج، لكان في قوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) نهى عن العدة بالثنيا، فإذ لم يفهم هذا، ولكن فهموا: لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن تقول إن شاء اللَّه، على إضمار القول؛ دل أن الخطاب ليس يحمل على ظاهر المخرج، ولكن على ما توجبه الحكمة والدليل. ثم نهى أن يعد عدة ولا يستثني فيها، وقاس بعض الناس الأيمان على العدات فيقول: إذا حلف، فإنه يلزمه أن يستثني فيها، وذلك فاسد؛ لأن الأيمان تخرج على تعظيم الرب وإجلاله، فلا يجوز أن يؤمر بالثنيا فيها؛ لأن الثنيا نقض ذلك التعظيم،

وكذلك ما روي: " إذا حلفتم فاحلفوا باللَّه ولا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت " نهى عن الحلف بغير اللَّه؛ لما في الحلف به تعظيم لذلك الشيء، وأما العدة، فإنما هي إضافة الفعل إلى نفسه، وهو لا يملك تحقيقه؛ لذلك أمر أن يلحق الثنيا فيه؛ لئلا يلحقه الخلف في الوعد إذا لم يفعل ما وعد، وعلى ذلك ذكر عن الأنبياء أنهم إذا وعدوا استثنوا فيه؛ كقول موسى: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا. . .) الآية، ثم إذا لم يصبر لم يعاتبه بترك الصبر، ولو كان خلفا لعاتبه، كما عاتب موسى حيث قال: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، وقد ظهر من الأنبياء والرسل الأيمان والقسم، ثم لم يذكر عن أحد منهم الثنيا في ذلك؛ دل أن الثنيا في العدات لازمة وفي الأيمان لا. وفي قوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) دلالة الا يكون شيء إلا بمشيئة اللَّه حيث ندبه إلى الثنيا، ثم إذا خرج على غير ما وعد لم يلحقه الخلف في الوعد؛ دل أنه قد شاء ذلك، وأنه إذا لم يشأ شيئًا لم يكن؛ لأنه لو كان شيئًا لم يشأ هو، أو شاء شيئًا فلم يكن - لم يكن لقوله: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) معنى إذا كان ما لم يشأ هو، ولم يكن ما هو شاء؛ دل أن ما شاء هو كان، وما لم يشأ لم يكن. وفيه أنه قد شاء كل طاعة وخير من العبد، فلو لم يشأ ما ليس بطاعة، لكان لايستثني، وقد علم أنه قد شاء ذلك، فدل ثنياه على أنه قد يشاء ما ليس بطاعة إذا علم أنه يختار ذلك، وذلك على المعتزلة. فَإِنْ قِيلَ: إنما أمر بالثنيا في العدة؛ لما لعله سيموت قبل أن يفعل ما وعد، أو تذهب عنه القدرة فيعجز عما وعد. قيل: إن الأوهام لا ترجع إلى ذلك، بل الإمكان مشررط فيه وإن لم يذكر؛ نحو ما لا يؤمر الإنسان بالطيران؛ لعدم الإمكان فيه موجودا فهو كالمشروط وإن لم يذكر، فعلى ذلك في العدات والأيمان وغيرها.

(25)

وجائز أن يكون المراد بهذا الخطاب غير النبي، وهو الأشبه؛ لما لا يحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعد عدة ولا يذكر الثنيا؛ لما يعرف ألا يكون شيء إلا بمشيئة اللَّه وإرادته، وأما غير النبي فجائز ألا يعرف ذلك؛ لذلك كان غيره أولى به يخرج منه على التعريف لهم والعلم. وقول - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ): هذا يحتمل وجهين: أحدهما: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) أي: إذا ذكرته بعدما نسيت فاذكره؛ كقوله: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، فعلى ذلك هذا. والثاني: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)، أي: الثنيا في آخر الكلام إذا نسيت أوله - أعني: الثنيا - إذ المستحب أن يستثني في أول كلامه على التبرك؛ كقوله: (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ)، استثنوا أولا ثم وعدوا، فهو المستحب، فكأنه قال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ): الثنيا في آخر كلامك (إِذَا نَسِيتَ) في أوله وهو الثنيا، وهذا يرد على أصحاب الظاهر؛ لأن ظاهر الكتاب أن يخاطبهم بذكره إذا نسوا، ولا يجوز أن يخاطب أحدًا في حال نسيانه، فإذ لم يفهم من هذا هذا، دل أنه لا يفهم على ما خرج ظاهره، ولكن على ما يصح ويوجب الحكمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: قل: عسى أن يهديني ربي لآية هي أوضح على دلالة رسالتي وآخذ مما تسألونني من أمر أصحاب الكهف؛ لأنهم كانوا: يسألونه عن خبرهم فيستدلون على رسالته وصدقه؛ فيقول: قد هداني ربي لآية على دلالة رسالتي أوضح مما تسألونني وآخذ للقلوب؛ إذ كانت له آيات حسيات على رسالته. وقال الحسن: قوله: (وَقُلْ عَسَى) وعسى من اللَّه واجب، أي: قد هداني ربي الرشد والصواب، وأما غيره من أهل التأويل يقولون: إنه وعد لأُولَئِكَ أن يخبرهم غدا عما يسألونه، وقال: عسى أن يرشدني ربي لأسرع من هذا الميعاد الذي وعدت، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قول أُولَئِكَ الذين قالوا: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ. . .) الآية، مع قوله: إنهم لبثوا في كهفهم ما ذكرنا، فأمره أن يقول لهم: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا. . .) الآية.

(26)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو قول اللَّه، أخبر أنهم لبثوا ما ذكر من المدة، وازدادوا تسعًا، قال بعضهم: تسع سنين، لكن ليس فيه بيان أنه أراد تسع سنين أو تسعة أشهر أو تسعة أيام، فلا ندري أراد بذلك ذا أو ذا؟ فالأمر فيه إلى اللَّه على ما أمر رسوله أن يقول لهم: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). فَإِنْ قِيلَ في قوله: (ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ): ألا قال: ثلاثمائة سنة، كما يقال: ثلاثمائة رجل وثلاثمائة درهم ونحوه؟ قال بعض أهل الأدب: إنه لم يضف ثلاثمائة إلى سنين، ولكنه أراد إتمام الكلام بقوله: (ثَلَاثَ مِائَةٍ)؛ لذلك نون فيها، ثم أخبر ما تلك الثلاثمائة؟ فقال: سنين على القطع من الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) هو ما ذكرنا: أنه جعل علم مدة لبثهم في كهفهم إلى اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). يحتمل هذا وجوهًا ثلاثة: أحدها: له علم ما غاب عن أهل السماوات وأهل الأرض؛ كقوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). والثاني: له علم ما غيب وأسر أهل السماوات والأرض بعضهم من بعض. والثالث: له علم غيب ما شاهد أهل السماوات وأهل الأرض؛ لأن فيما شاهدوا من الأشياء وعاينوها غيبًا وسرية لم يعلموه، من نحو الشمس شاهدوها وعرفوا أنها شمس، ولكن لم يعلموا ما فيها من المعنى الذي به صلاح الأشياء ومنافعها، وكذلك القمر، وإنما شاهدوا هذه الأشياء، ولكن لم يعرفوا المعنى الذي به صارت نافعة للأشياء ومصلحتها، وكذلك السمع والبصر والعقل ونحوه من الحواس، عرفوا هذه الحواس على ظواهرها ولكن لا يعرفون المعنى الذي به يسمعون ويبصرون ويفهمون، فيقول: له علم ما غاب عنكم من هذه الأشياء التي شاهدتموها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ). هذا كلام يتكلم على النهاية والغاية والإبلاع من الوصف، ويقال: أكرم به من فلان،

(27)

إذا كان بلغ الكرم به غايته، وكذلك يقال: أحسن به من فلان: إذا بلغ في الحسن غايته ونحوه؛ فعلى ذلك قوله: (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) هو وصف له على النهاية؛ كما يقال: ما أعلمه، وما أبصره، وما أكرمه، وما أحسنه: يعلمهم أنه يعلم ما غاب عن الخلق وما شاهدوا أبصر به من الأفعال التي يفعلون، وأسمع به من الأقوال التي يتفوهون، أي: يعلم ما غاب عنهم مما لم يفعلوا ولم يقولوا، فالذي قالوه وفعلوه أحق أن يعلم؛ يحذرهم عز وجل عن أفعالهم وأقوالهم، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا). يحتمل: لا يشرك في ألوهيته وربوبيته أحدًا. ويحتمل: ولا يشرك في حكمه، أي: الحكم له ليس لأحد دونه حكم، إنما عليهم طلب حكم اللَّه فيما يحكمون. أو لا يشرك في تقديره وتدبيره الذي يدبر في خلقه أحدًا. ويحتمل: ولا يشرك في قسمته التي يقسم بين الخلق أحدًا، (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ)، أي: فيما جاءت به الرسل ودعت الخلق إليه. * * * قوله تعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ). يحتمل: (مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ): اللوح المحفوظ، أي: بلغ ما أوحي إليك من اللوح الذي عند اللَّه من متلو وغير متلو؛ كقوله: (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، وهو جميع ما أنزل إليه من المتلو وغير المتلو. ويحتمل: (مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ): الكتاب الذي أنزل عليه، وهو القرآن، أي: اتل عليهم ذلك الكتاب، فإن كان هذا ففيه أن القرآن مما يتقرب بتلاوته.

ثم في قوله: (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، وقوله: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ) فريضة ضيعناها؛ وذلك أنه أمر رسوله بتبليغ رسالته وما أنزل إليه، ثم معلوم أن من كان في أقصى الدنيا وأبعد أطرافها لم يقدر رسوله أن يتولى التبليغ بنفسه وكذلك بعد وفاته لا يجوز أن يتولى بتبليغه، فكان ذلك القيام يلزم المسلمين وأئمتهم بتبليغه فضيعوا ذلك؛ ولهذا ما رخص - واللَّه أعلم - بدخول المسلمين دار الحرب للتجارة، ودخول أُولَئِكَ دار الإسلام للتجارة أيضًا؛ لينتهي إليهم خبر هذا الدِّين؛ حيث علم أنه يكون أئمة في آخر الزمان لا يهتمون لدينه ولا يتولون بتبليغ ما أمروا بتبليغه، ويضيعون أمره، فيلزمهم حجة اللَّه، وإلا ما الحاجة في تلك التجارة والأموال التي يتجرون فيها؟! ولكن ما ذكرنا، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لا مبدل لسنته؛ إذ سنته في المكذبين الإهلاك، والمصدقين النجاة، هذا سنته وإن أمكن تعجيلها وتأخيرها، فأما نفس سنته فهي لا تبدل ولا تحول؛ كقوله: (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا)، و (تَبْدِيلًا). وقال الحسن في قوله: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ): ما وعد وأوعد لهم في الدنيا، فذلك في الآخرة لا يبدل ولا يحول؛ إذ وعد للمؤمنين الجنة، وللكافرين العذاب، فذلك لا يبدل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) وهي القرآن لا يتبدل، ولا يغير، ولا يزداد، ولا ينقص؛ كقوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) لحججه وبراهينه التي جعل لدينه وأقام له ذلك، يلزم الإسلام ودينه، إلا من قصر عليه في العبادة، أو كان المقام عليه الحجة معاندًا مكابرًا. وأما من لم يكن هذين المعنيين يسلم لا محالة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا). هذا الخطاب وإن كان في الظاهر لرسول اللَّه، فهو يخرج مخرج التنبيه على ما ذكرنا في غير آي من القرآن. وقوله: (مُلْتَحَدًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: مدخلا؛ ولذلك سمي اللحد: لحدًا؛ لما يدخل

(28)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ملجأ، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) يحتمل: واصبر نفسك بالغداة والعشي مع الذين يدعون ربهم، فيكون فيه الأمر بالجلوس لهم بالغدوات والعشيات؛ للتذكير وتعليم العلم، على ما تعارف الناس الجلوس للناس لذلك في هذين الوقتين؛ إذ ذانك الوقتان خاليان عن الأشغال التي تشغلهم عن ذلك ذكر، الغداة والعشي لما لم يجعل عليهم بعد صلاة الغداة صلاة، وكذلك بعد العصر؛ للذكر الذي ذكرنا وتعليم ما يحتاجون في ليلهم ونهارهم. أو أن يكون ذلك كناية عن صلاة الفجر والعصر؛ لما جاء لهما من فضل وعيد لم يجئ في غيرهما من الصلوات؛ نحو ما ذكر: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) وما روي في العصر من الوعيد: " من فاته العصر فكأنما وتر أهله وماله "، ونحوه أمر بصبر نفسه على حفظ هذين؛ لما ذكرنا مع من ذكر. أو أن يكون لا على إرادة غداة أو عشي، ولكن بالكون مع أتباعه في كل وقت والصبر معهم. وقال أهل التأويل: ذكر هذا؛ لأن رؤساء كفار مكة سألوه أن يطرد أتباعه من عنده ويتخذ لهم مجلسًا، فنزل قوله: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. . .) الآية وقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ. . .) الآية. وقالوا في قوله: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) في أصحاب الكهف، يقول: وأخبرهم ما سألوك مما أوحينا إليك من أخبار أصحاب الكهف ولا تزيد ولا تنقص عليه.

فإن كان في أمرهم نزل هذا فرسول اللَّه كان لا يخبرهم إلا ما أوحي إليه وأنزل عليه من أمرهم، والوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ). قيل: لا تتعد عنهم إلى غيرهم. وقيل: لا تصرف ولا ترفع عينيك عنهم تجاوؤهم إلى غيرهم. (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: إن كان على تأويل أهل التأويل أنهم سألوه أن يتخذ لهم مجلسًا دون أُولَئِكَ، فيكون تأويل قوله: (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: تريد أُولَئِكَ الذين يطلبون منك مجلسًا على حدة يريدون بذلك وينة الحياة الدنيا لا يريدون بذلك وجه اللَّه. والثاني: لو فعلت ما سألوك كان فعل ذلك كفعل من يريد زينة الحياة الدنيا؛ لأن المجلس الذي يحضره الأشراف والرؤساء إنما يراد به زينة الحياة الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا). تأويل الآية على قولنا ظاهر، نحن نقول على ما نطق ظاهر الآية: من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، أي: من خلقنا ظلمة الكفر بكفرهم في قلوبهم، أو خذلناهم بكفرهم الذي فعلوا. وأما المعتزلة فإنهم قد تحيروا فيه وتاهوا وأكثروا التأويلات فيها، حتى أن منهم من صرف القراءة عن وجهها فقال: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلَنَا) بنصب اللام، و (قَلْبُهُ) برفع الباء، معناء: أن من أغفل قلبه عن ذكرنا على قول المعتزلة، على صرف الفعل إلى القلب، وكذلك قالوا في قوله: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)؛ ليصح على مذهبهم ويستقيم. ومنهم من قال: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا)، أي: لا تطع من وجدنا قلبه غافلا، وقال: ذلك مستقيم في اللغة؛ يقال: قاتلناهم فما أجبَنَاهم، أي: ما وجدناهم جبناء، ويقال: فسألناهم فما أبخلناهم، أي: ما وجدناهم بخلاء، ونحوه من الكلام، وهو تأويل الجبائي فيما أظن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ)، أي: من خلينا بينه وبين ما يفعل وهو كما يقال لمن خلى عبده حتى أفسد كثيرًا من الناس يقال: سلطت عبدك على الناس، وهو لم يسلطه عليهم، لكنه يقال له؛ لما قدر على منعه عن ذلك والحيلولة بينه وبين ما فعل

أضيف ذلك إليه؛ فعلى ذلك قوله: (أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) أي: خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم، وهو تأويل جعفر بن حرب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أضاف ذلك إلى نفسه للأسباب التي أعطاهم من السعة والغناء والشرف في الدنيا، فتلك الأسباب التي أعطاهم هي التي حملتهم على ذلك؛ فأضيف إليه ذلك لذلك، وهو ما قال: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) وهو تأويل أبي بكر الأصم. وقال الحسن: (أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ) أي: خذلناهم وطبعنا على قلوبهم، وهو يقول: إن للكفر حدا إذا بلغ ذلك الحد يخذله ويطبع على قلبه؛ فلا يؤمن أبدًا. فيقال: خذله في أول حال الكفر أو بعد ذلك بأوقات وزمان. فإن قال: في أول حال كفره فهو قولنا. وإن قال: لا في أول حاله، ولكن بعد زمان، فهو كافر موفق ومؤمن مخذول على قوله، فنعوذ باللَّه مما قال. ثم الجواب للأول ما ذكرنا من صرف التنزيل عن وجهه وظاهره، فلو جاز لهم ذلك لجاز، لغيرهم صرف جميع الآيات عن ظاهر التنزيل، وذلك بعيد محال. وأما تأويل الجبائي، أي: ما وجدناهم كذا، فإنما يسوغ له هذا إذا كان جميع حروف (أفعل) يخرج على ما يقوله في اللغة، فأما أن يقال في بعض، فإن ذلك غير مستقيم. وبعد فإنه لو كان كما ذكر لكان يقول: (ولا تطع من أغفلته عن ذكرنا)، أي: وجدته غافلا عن ذكرنا؛ لأنه نهى عن أن يطيع من وجده غافلا، فهو لا يعلم من وجده الله غافلا، إنما يعلم من وجده بنفسه غافلا. فأما إذا كان ما ذكرنا لم يكن للنهي عما ذكر معنى؛ فدل أن تأويله فاسد وخيال، وأن إضافته إليه لمعنى يكون من اللَّه. وأما جواب جعفر بن حرب أنه على التخلية والتسليط، فهو إنما يقال: سلطت عبدك على كذا على الذم لا على المدح؛ فلا يجوز أن يقال ذلك في اللَّه على الذم ويضاف إليه أيضًا ذلك. وكذلك يقال لأبي بكر حيث قال: إنما أضاف ذلك إليه للأسباب التي ذكر أنه أعطاهم، يقال له: ذلك يضاف على الذم: إنك أعطيت كذا حتى فعل كذا، فأما أن يقال على المدح فلا؛ فيبطل قوله وتأويله؛ فدل إضافة ذلك إلى نفسه أنه كان منه في ذلك معنى يستقيم إضافته إليه، وهو ما ذكرنا من خلق الظلمة في قلوبهم بكفرهم الذي اختاروا

(29)

وخذلانه إياهم لما اختاروا وآثروا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (فُرُطًا) أي: ضياعًا وهلاكًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فُرُطًا) أي: خسرانا وخسارًا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من التفريط. وقال غيره: أفرط في القول كما قال: (إنا رءوس من مضر إن نسلم يسلم الناس بعدنا) على ما ذكر في بعض القصة. وقال أبو عبيدة: فرطًا، أي: ندمًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) كأنه على الإضمار، أي: قل: قد جئتكم بالحق من ربكم. أو يقول: قل لهم: قد تعلمون أني قد جئتكم من الآيات والحجج على ما أدعوكم إليه ما لا يحتمل بليتي ويخرج عن وسعي وطاقتي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ). ثم يحتمل هذا وجوهًا: أحدها: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر؛ فإنه إنما يعمل لنفسه ليس يعمل لأحد سواه؛ كقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)، وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ. . .) الآية؛ فعلى ذلك يقول، واللَّه أعلم. والثاني: يقول: إني بلغت الرسالة إليكم فلا أكرهكم أنا على الإسلام ولا أحد سواي، فمن شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر، فإنه إنما يؤمن باختياره ومشيئته، ومن كفر فإنما يكفر باختاره ومشيئته لا يكره على ذلك. والثالث: أن الإيمان والكفر قد يين اللَّه لهما العواقب ما عاقبة من اختار الإيمان وما عاقبة من اختار الكفر، وهو ما قال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا. . .) إلى آخر ما ذكر، وقال للمؤمنين: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ. . .) الآية. يقول: قد بين لكل واحد منهما عاقبة، فمن شاء اكتسب لنفسه في العاقبة الجنان وما فيها من النعيم، ومن شاء اكتسب ما ذكر في العاقبة من النار وأنواع العذاب، فذلك كله يخرج على الوعيد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ) وقت دخولهم النار أو هو في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: على إرادة حقيقة السرادق. والثاني؛ على التمثيل، أي: يحيط بهم النار فلا يقدرون على الخروج منها على ما يمنع السرادق من الخروج في الدنيا ودفع الحر والبرد، فإن كان على حقيقة السرادق فهو - واللَّه أعلم - على ما جعل اللَّه لهم من أنواع ما كانوا يتفاخرون في الدنيا من اللباس والطعام والشراب وغير ذلك يجعل لهم في الآخرة من ذلك النوع من النار، وهو ما ذكر: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ)، وما قال: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) والشراب ما ذكر من الصديد والغسلين، وغير ذلك من النوع الذي كانوا يتفاخرون به في الدنيا ويمنعهم عن الإيمان جعل لهم في الآخرة من ذلك النوع من النار وبه يعاقبهم، فعلى ذلك جائز أن يكونوا يتفاخرون به في الدنيا بالسرادق إذا خرجوا في السفر، فيعاقبهم اللَّه في النار بذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ). يحتمل استغاثتهم هو ما ذكر في الآية (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ)، فيغاثون (بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ)، ويحتمل: أن يطلبوا في النار الماء بعدما طعموا فيها منها فيغاثون بالمهل. ثم المهل: قال عامتهم: المهل: هو دردي الزيت أو العصير، لكنهم اختلفوا في معنى التشبيه به: قَالَ بَعْضُهُمْ: يشبهه به لغلظه؛ لأن الشيء الغليظ يكون ألصق وآخذ من غيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: شبهه به لسواده. وقال الحسن وأبو بكر: تشبيهه به؛ لكثرة تلونه من الحمرة والصفرة والسواد ونحوه لشدته، وهو ما ذكر: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)، شبهه كالمهل لتلونه؛ لشدة ذلك اليوم وهوله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَشْوِي الْوُجُوهَ) ذلك الشراب، (بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) أي: ساءت النار مرتفقا، اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: المرتفق: المتكأ.

(30)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: المجتمع، أي: بئس الاجتماع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مجلسًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بئس المنزل النار قرناؤهم فيها الكفار والشياطين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير كأنه قال: إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم، ثم قال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ. . .) إلى آخر ما ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس على التقديم والتأخير، ولكن على ما ذكر أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم، ثم بين ما لهم فقال: (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ... ) إلى آخر ما ذكر. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: السرادق: البناء الذي يبنى من الكرابيس يشبه الدار والحجرة، (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)، أي: متكأ ومنزلا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: السرادق: الحجرة التي تكون حول الفسطاط، قال: وهو الدخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الظل ذو الثلاث الشعب، و (كَالْمُهْلِ) دردي الزيت، ويقال: ما أذيب من النحاس والرصاص، (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)، أي: مجلسا وأصل الارتفاق: الاتكاء على المرفق. وقوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ (31) يذكر ثواب المؤمنين الذين تركوا شهواتهم في الدنيا لها. (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ). قالوا: الإستبرق: الديباج الغليظ، والسندس: وهو الرقيق والغليظ منه لا يلبس، لكنه كأنه جمع بين ما يلبس وبين ما يبسط، فذكر اللبس لما يلبس، كما يقال: أطعمت فلانًا طعامًا وشرابًا والشراب لا يطعم.

(32)

وقيل: إن الإستبرق هو الرقيق من الديباج بلغة قوم، فإن كان ما ذكر فكأنه إنما ذكر ذلك لأُولَئِكَ، واللَّه أعلم، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (الْأَرَائِكِ): السرر في الحجال، والأريكة: السرير في الحجلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْأَرَائِكِ: السرر عليها حجال. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (الْأَرَائِكِ: الوسادة. (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) قيل: منزلا. وأصل هذا: أنه وعد لهم في الآخرة ما كانت أنفسهم ترغب فيه في الدنيا ليتركوا ذلك في الدنيا للموعود في الآخرة، وكذلك حذرهم في الآخرة بأشياء تنفر أمنها، أنفسهم وطباعهم في الدنيا؛ ليحذروا ما يستوجبون الموعود في الآخرة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ. . .) إلى آخر ما ذكر. جائز أن يكون هذا المثل كان في الأمم المتقدمة وكتبهم، سئل رسول اللَّه عن ذلك ليعلم وليتبين لهم صدقه بأنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ما يدعي على ما سئل هو عن قصة ذي

(33)

القرنين وبنائه ونبأ أصحاب الكهف وأخبارهم؛ ليتبين لهم صدقه؛ إذ علموا أن تلك الأنباء والقصص لا يعلم ولا يعرفها إلا من علم كتاب اللَّه؛ إذ كان ذلك في كتب اللَّه، وهو لم يعرف تلك الكتب؛ لأنها كانت بغير لسانه، ولم يروه اختلف إلى من يعرفها ليتعلم منه، ثم أنبأهم على ما كان في كتبهم، فدل أن ذلك إنما عرف باللَّه وأنه صادق فيما يدعي من الرسالة، على هذا يجوز أن يقال - واللَّه أعلم - فيكون في ذلك آية لرسالته ونبوته. أو أن يكون قوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ. . .) إلى آخره، أي: اضرب لهم مثلك ومثلهم مثل رجلين، فيكون مثلك ومثلهم مثل ما ذكر من رجلين. . . إلى آخره. أو أن يكون قوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ. . .) أي: اضرب للمعتبرين والمتوسمين مثل رجلين، كل رجلين هذا سبيلهما، يرغب أحدهما في الدنيا وزينتها ويطلبها لا يرى غيرها، والآخر يرغب في الزهد فيها وترك الطلب لها والرغبة في الآخرة، فإن كان على هذا أو ما ذكرنا من ضرب مثله ومثل أُولَئِكَ، فهو على الابتداء، فيخرج على الاعتبار والتفكر فيما ذكر تنبيها وإيقاظًا، وإن كان على السؤال عما كان فهو ليس على الاعتبار، ولكن على الإنباء أنه رسول، ففيه آية لرسالته ونبوته. ثم قوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا)، أي: بين الجنتين، (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ... (33) أي: حملها، ولم يقل: (آتَتْ أُكُلَهَا)، خرج على اسم واحد وإن كان في المعنى على التثنية، وذلك جائز في اللغة؛ كقولك: كلتا المرأتين صالحة، وكلانا صالح، وفيه قول الشاعر: كلانا شاعر من حي صدق ... ولكن الرحى نقلوا الثفالي وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) أي: لم تنقص من ثمرها شيئًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا) أي: أجرينا بينهما مياها جارية. وقوله: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ... (34) قَالَ بَعْضُهُمْ: من قرأ: (ثُمُرٌ) بالرفع فهو كل ما كان يملك من الجنان وغيرها، ومن قرأ بالنصب فهو على الثمر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الثمر بالنصب فهو الثمر، والثمر بالرفع فهو جميع الثمار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) يكلمه أو يجيبه أو ينازعه ويناظره: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) لا يحتمل أن يكون هذا الخطاب منه على الابتداء؛ لأنه لا يصلح على الابتداء؛ فيشبه أن يكون كان من صاحبه له وعيد وتخويف، فعند ذلك قال له

(35)

ما ذكر. أو أن يكون قال: يعطيني ربي في الآخرة مثل ذلك أو خيرًا منها، فقال له عند ذلك: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، أي: قد تفضل علي في الدنيا وفضلني عليك فيفضلني أيضًا في الآخرة عليك، حيث قال: (لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) إن كان ما تزعم صدقا أنا نبعث ونرد إلى اللَّه وإلا على الابتداء لا يصلح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) يحتمل: أي: ظالم نفسه، ويحتمل: أن يكون قوله: (لنَفْسِهِ): بدنه، وهو ظالم المعنى الذي يكون في النفمص به يستعملها فيما تستعمل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا أَظُنُّ)، أي: ما أثق وما أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الظن؛ لأن صاحبه كان يناظره فيه، فاضطرب في فنائها وقيام الساعة فشك فيه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) ما دامت نفسه، أو كأنه لم يشاهد الهلاك، ولم ينظر إليه؛ فقال ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) أي: لو رددت إلى ربي - على ما تزعم - الأجدن، خيرا منها منقلبا إن كنت صادقًا. وقوله: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) أي: خلق أصلك من تراب، وخلقك من نطفة، ثم سواك رجلا، أي: صححك وقومك رجلا. جائز أن يكون محاجته إياه في هذه، لإنكاره البعث، أي: كفرت وأنكرت قدرة الله على البعث والإعادة، وهو خلق أصلك من تراب، وخلق نفسك من نطفة، فأنت إذا مت وهلكت تصير ترابًا أو ماء، فإذا قدر على خلق أصلك من تراب، وخلق نفسك من ماء فإنه لقادر على إعادتك وبعثك بعد ما صرت ترابًا أو ماء. أو يكون محاجته في إنكاره حكمة اللَّه؛ فيقول: خلق أصلك من تراب، وخلق نفسك من نطفة، ثم سواك رجلا وصححك؛ فإن لم يبعثك ويعدك كان خلقك وخلق أصلك بما ذكر عبثًا غير حكمة؛ إذ من بني بناء ثم نقضه على غير قصد الانتفاع به كان في بنائه عابثًا في الابتداء تائها سفيها غير حكيم؛ فعلى ذلك: خلقك وخلق أصلك من غير إعادة من بعد يكون سفهًا على غير حكمة، وهو ما قال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا. . .) الآية

(38)

صير خلقهم على غير رجوع إليه عبثًا. أو يكون محاجته في تسفيهه إياه في عبادته غير اللَّه، يقول: أكفرت نعمة الذي خلق أصلك من تراب، وخلق نفسك من نطفة، ثم سواك صحيحًا، فصرفت شكر نعمه إلى غيره، وعبدت غيره على هذه الوجوه الثلاثة. ويحتمل محاجته إياه إما في إنكار قدرته في بعثه وإعادته، أو إنكاره الحكمة في البعث، أو في إنكاره نعمه وصرفه الشكر إلى غيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) كأنه قال: لكن الذي خلق أصلك من تراب، وخلق أصلك من نطفة هو ربي، ولا أشرك بربي أحدًا. وقال الخليل: (لَكِنَّا) إنما هو على تأويل: لكني أنا أقول هو اللَّه ربي؛ كقوله: (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) إنهم حين ألقوا الألف من (أنا) أثبتوها بعد النون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ... (39) نظرت إلى ما أنعم اللَّه عليك وقمت بشكره دون أن اشتغلت بازدرائي، ونظرت إلى قلة ذات حالي ويدي، واشتغلت بالافتخار على، وكذلدُ قال: (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا). ثم ذكر طمعه ورجاءه على ربه وخوفه؛ حيث قال: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) ويرسل على جنتك حسبانا من السماء. قال أهل التأويل: الحسبان: العذاب، إلا أن أبا بكر الأصم قال: عذابا على حساب ما عملوا، وذلك جزاؤه في الكفرة، وهو ما ذكر في الجنتين اللتين أهلكهما؛ حيث قال: (ذَوَاتَيْ أُكُلٍ. . .)، إلى قوله: (ذَلِكَ جَرينَاهُم. . .) الآية. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (حُسْبَانًا) أي: عذابًا زاده على حساب ما عملوا، وذلك جزاؤه في الكفرة، وهو ما ذكر في الجنتين اللتين له، والحسبان: الصغار من النبل، والحسبانة واحدة، والحسبان جمع، والأول عذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا). قال أَبُو عَوْسَجَةَ (صَعِيدًا زَلَقًا): الذي ليس عليه نبت، و (زَلَقًا)، أي: تسوية. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصعيد: الأملس المستوي، والزلق: الذي يزول عنه الأقدام.

(41)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يقول: (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا) من السماء، أي عذابًا، فتصير (صَعِيدًا زَلَقًا) أملس لا نبات عليها، أو يذهب بمائها؛ فتهلك بذهاب الماء؛ إذ هلاك البساتين يكون بذهاب الماء مرة، وبالعذاب النازل عليها ثانيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: لن تستطيع له طلبا، أي: تصير بحال لا تستطيع له طلبا، أو لن تستطيع له وجودًا. وقال في قوله: (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ)، بالنصب؛ لأن الكلام مبني على قوله: (إِنْ تَرَنِ)، وجعل (أَنَا) صلة، وأمَّا قوله: (أَنَا أَكْثَرُ) فوصف (أنَا) بـ (أَنَا أَكْثَرُ)؛ فارتفع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) أي: أهلك بثمره. (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا). هكذا عادة الناس: أنهم إذا أصابهم خسران أو مصيبة، يقلبون كفهم بعضهم على بعض؛ على الندم والحسرة على ما فات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا). قيل: ساقطة على عروشها. ويحتمل (خَاوِيَةٌ): ذاهبة البركة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا). إن كان هذا القول في الدنيا؛ فذلك منه توبة؛ لأن التوبة هي الندامة على ما كان منه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا القول منه في الآخرة، فإن كان في الآخرة فإنه لا ينفعه ذلك، والله أعلم، وهكذا كل كافر يؤمن في الآخرة، لكن لا ينفعه. وقوله: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هذا - واللَّه أعلم - مقابل ما قال: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، أي: لم يغنه عن عذاب اللَّه ما ذكر من النصر، ولا قدر أن يقوم بنفسه منتصرًا بالمال الذي ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُنَالِكَ ... (44) قَالَ بَعْضُهُمْ: عند ذلك.

(45)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هنالك، أي: هكذا ولاية اللَّه، ثم اختلف في تلاوته وتأويله: قرأ بعضهم (الْوَلَايَةُ لِلَّهِ) بالفتح، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود: (هنالك الوَلاية لله الغفور وهو الحق): بالرفع، وفي حرف حفصة: (هنالك الملك والولاية لله الغفور ذي الرحمة). وقرأ بعضهم: (لِلََّهِ الْحَقُّ)، أي: الولاية الحق لله، و (الْوَلَايَةُ) بالنصب من الموالاة. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يبقى أحد إلا تولى اللَّه وآمن به وعلم أنه حق، والولاية بالكسر من الإمارة والملك على ما ذكر في حرف حفصة. وفي حرف أبيّ (هنالك الولايةُ لله الحق لله) يقرأ: الولايةُ لله وهو الحقُّ، ويقرأ: هُنَالِكَ الولايةُ لِلَّهِ الْحَق، بالخفض، ويقرأ: هنالك الولايةُ الحقُّ لله. وذكر هذا المثل لرسول اللَّه - واللَّه أعلم - لأن فيه دلالة رسالته، وحجة توحيد الله وقدرته وسلطانه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا)، أي: ثواب هذا المؤمن منها أفضل ثوابًا في الآخرة وأفضل عاقبة من عقبى ذلك الكافر. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ): يعني: لأهل مكة (مَثَلًا رَجُلَيْنِ): أخوين من بني مخزوم: أحدهما مسلم والآخر كافر، وهما الرجلان اللذان ذكرهما اللَّه في سورة الصافات: (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. . .)، إلى قوله: (فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ): تصدق المسلم منهما بماله وطلب الآخرة، وطلب الآخر به الدنيا. وعن ابن مسعود قال: كانا أخوين ورثا من أبيهما مالا فاقتسماه، فأما أحدهما التمس بماله الدنيا وزينتها، وأمَّا الآخر تصدق به وطلب الآخرة حتى لم يبق له شيء إلى هذا يذهب هَؤُلَاءِ، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ).

اختلف أهل التأويل في ضرب هذا المثل: قَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب هذا لمشركي العرب؛ لأنهم ينكرون فناء الدنيا وهلاكها؛ لأنها لا تبيد أبدًا، فيقول: إن الذي يعاينون من فناء ما ذكر من النبات وغيره وهلاكه - هو جزء منها؛ فإذا احتمل جزء منها الفناء والهلاك؛ فعلى ذلك الكل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وجه ضرب هذا المثل، وهو أن أهل الدنيا وطلابها إذا ظفروا بالدنيا وطمعوا الانتفاع بها والاستمتاع بها، كما طمع الزراع الظفر بذلك الزرع، والوصول إلى الانتفاع به، ثم حيل بينهم وبين الانتفاع بالزرع والوصول إلى مقصودهم فعلى ذلك الدنيا يحال بين أهلها وطالبيها وبنيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وجه ضرب مثل الدنيا بما ذكر من النبات - للتزيين والتحسين لأهلها والتعجيب لهم؛ لأنها تتزين وتحسن لأهلها كالنبات الذي ذكر أنه يعجب أهلها ويتزين لهم ثم يفسد ويصير مواتا؛ فعلى ذلك الدنيا، وهو ما ذكر في آية أخرى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ. . .) الآية: هكذا وما فيها كله مشوب بالآفات والفساد. في هذا المثل وجوه من الحكمة والدلالة. أحدها: العظة والاعتبار للمتفكرين والمعتبرين، والحجة على المعاندين والمكابرين: في إنكارهم حدث العالم ومحدثه، وإنكارهم فناء العالم، وإنكارهم البعث. أما حدث العالم؛ لما عاينوا حدوث أشياء منه واحدا بعد واحد؛ فعلى ذلك الكل، وأراهم أيضًا فناء أشياء منها حتى لم يبق لها أثر، ثم حدث مثلها، فإذا ظهر هذا في بعض منها؛ فكذلك الكل؛ فإذا ظهر حدوثه وفناؤه لابد من قاصد يحدثها. وفيه دلالة البعث بما أراهم أنه يجدد ويحدث هذه الأنزال والأشجار والنبات وغيره والعود على ما كان بعد فنائه؛ فعلى ذلك إعادة العالم الذي هو المقصود في إنشاء تلك الأشياء، وذلك أولى بالإعادة من غيرهم من الأشياء؛ إذ هم المقصودون في خلق غيرهم من أن شياء. وبعد، فإنهم قد اتفقوا على أن خلق الشيء وفناءه للهلاك خاصّة من غير مقصود وعاقبة - عبث ليس بحكمة، فلو لم يكن بعث ولا إعادة لم يكن في خلقه إياهم حكمة؛ لأنه يحصل خلقه للفناء والهلاك خاصة. وفي قوله: (كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ. . .) الآية دلالة علمه وتدبيره وقدرته؛ لأنه أخبر أنه ينزل من السماء ماء يختلط به نبات الأرض، والماء من طبعه إفساد النبات إذا اختلط به

(46)

فإذا لم يفسده ولكن أحياه بالاختلاط - دل أن في الماء معنى به يحيا النبات لا يعلم ذلك غيره، دل أنه عالم بذاته. والتدبير هو ما جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بعد ما بينهما؛ دل أن ذلك كان بواحد عليم مدبر قادر بذاته. وأن من قدر على ما ذكر من الإحداث والإفناء - قادر على الإعادة والبعث، والله الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا). قيل: كسيرًا مكسورًا. (تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا). هو مفتعل من (قدرت). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) كأن هذا ذكر على مقصود الناس: أن من كان قصده في الدنيا: كثرة المال والبنين، فهو زينة الحياة الدنيا، وهو الفاني والذاهب على ما ذكر، ومن كان مقصوده في هذه الدنيا الخيرات والآخرة - فهي الباقيات أبدًا. ثم اختلف في (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هو قوله: سُبْحَانَ اللَّهِ، والحمد لله، ولَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ واللَّهُ أَكْبَرُ، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه؛ وعلى ذلك روى في بعض الأخبار عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلا وإنَّ سُبحَانَ اللَّه والحَمدُ لله، ولا إِلَهَ إِلا اللَّه، واللَّه أَكْبَرُ هُن البَاقِيَاتُ الصالِحَاتُ ". وفي بعض الأخبار أنه قال لأصحابه: " خُذُوا جُنَّتَكُمْ "، قَالُوا مِنْ عَدُوٍّ حَصَرَنَا؟ قَالَ: " خُذُوا جُنَّتَكُم مِنَ النَّارِ؛ فَقُولُوا: سُبحَانَ اللَّه، والحمدُ لله وَلا إِلَهَ إِلا اللَّه، واللَّه أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوةَ إِلا باللَّه؛ فَإِنَهُن الْمُقَدماتُ الْمُؤَخراتُ البَاقِياتُ الصالِحَاتُ ". وفي بعض الأخبار لأبي الدرداء: " خُذْهُنَّ قَبل أَنْ يُحَال بَينكَ وبينهنَّ؛ فإنهن الباقياتُ

الصالحاتُ، وَهُنَّ كنز من كنوز الجنة "؛ قال: وما هي يا رسول اللَّه؟ فذكر: " سبحان اللَّه. . . . " إلى آخره. فإن ثبتت هذه الأخبار فهي الأصل لا يجوز غيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الباقيات الصالحات: الصلوات الخمس، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وغيره، فأيهما كان، ففيه معنى الآخر، وإن كل واحد منهما يجمع جميع أنواع الخيرات والعبادات في الحقيقة؛ لأن " سُبْحَانَ اللَّهِ " هو تنزيه الرب عن كل آفة وعيب، و " الحمد لله " هو الثناء له بكل نعمة وصلت منه إلى الخلق، وجعله مستحقا للحمد والثناء له دون من سواه، وإن " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ": هو لا معبود سواه، وألا يستحق العبادة غيره، و " الله أكبر ": هو الإجلال عن كل ما قيل فيه ونفي كل معاني الخلق عنه، و " لا حول ولا قوة إلا باللَّه ": هو التبرى، وقطع الطمع عمن دونه وتفويض الأمور بكليتها إليه والتسليم له؛ فكل حرف من هذه الحروف يجمع في الحقيقة كل أنواع العبادات والخيرات لما ذكرنا، وكذلك الصلوات -أيضًا- تجمع كل أنواع العبادات؛ لأنه يستعمل كل جارحة من جوارحه فيها في كل حال منها؛ فهي تجمع جميع العبادات. والأصل في قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) أنها كل الخيرات والطاعات؛ لأن اللَّه - تعالى - ذكر ووصف الحق بالبقاء والثبات في غير آي من القرآن، ووصف الباطل بالبطلان والتلاشي والذهاب؛ من ذلك قوله: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، وقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً. . .) الآية، وأمثاله؛ فعلى ذلك قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) هي باقية. (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا). أي: خير ما يأملون. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا) أي: يابسًا باليًا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ ومنه سمي الرجل: هاشما.

(47)

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ)، أي: تطير به. وقَالَ الْقُتَبِيُّ، أي: تنسفه؛ كقوله: (فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا). وعن ابن عَبَّاسٍ قال (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا)، أي: خير ما يثاب الناس عليه (وَخَيْرٌ أَمَلًا)، أي: خير ما يأمل الناس عن أعمالهم يوم القيامة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً). يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - عن شدة أهوال ذلك اليوم وأفزاعه حيث سار أثبت شيء رأوا في الدنيا، وتكسر أصلب شيء رأوا في الدنيا، وهو الجبال؛ لشدة أهوال ذلك اليوم وأفزاعه. وقال في آية أخرى: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)، وقال في آية أخرى: (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا)، وقال في آية أخرى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) وقال في آية أخرى: (هَبَاءً مَنْثُورًا)، وأمثاله يذكرهم عن شدة أهوال ذلك اليوم وأفزاعه؛ حيث صار أثبت شيء في الدنيا وأشده - على الوصف الذي ذكره، وبدون هذه الأهوال والأفزاع التي ذكر - لا تقوم أنفس البشر في الدنيا؛ فقيامها لمثل هذه الأهوال التي ذكر أحرى ألا تقوم؛ ألا ترى أن موسى - عليه السلام - كان أشد الناس وأقوى البشر، ثم لم تقم نفسه؛ لاندكاك الجبل حتى صعق إلا أن اللَّه حكم أن لا هلاك يومئذ بعدما أحياهم، وإلا كانت أنفسهم لا تقوم بدون ما ذكر من الأهوال. ثم ما ذكر من أحوال الجبال يكون ذلك في اختلاف الأحوال والأوقات: يكون في ابتداء ذلك اليوم ما ذكر أنها تسير وأنهم يرونها جامدة، وهي ليست بجامدة، ثم تصير كثيبًا مهيلا، ثم تصير كالعهن المنقوش في وقت، ثم تصير هباء منثورًا ثكون على الأحوال التي ذكر، على اختلاف الأحوال والأوقات، على قدر الشدة والهول، واللَّه أعلم. ثم يحتمل قوله: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)؛ لشدة ذلك اليوم تتراءى كأنها جامدة، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، وقد يتراءى في الشاهد مثله؛

(48)

للهول والفزع. والثاني: تتراءى، أي: لازدحام الجبل واجتماعها، وقد يتراءى في الشاهد: السائر كالجامد والساكن؛ للكثرة والازدحام؛ نحو عسكر عظيم يسير يراه الناظر إليه كأنه ساكن لا يسير؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. ثم يحتمل أن يكون هذه الأهوال التي ذكر لأهل الكفر والعصاة منهم، وأما أهل الإيمان والإحسان يكونون في أمن وعاقبة من تلك الأهوال؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً). أي: ظاهرة ليس عليها بناء ولا شجر ولا جبال ولا حجر ولا شيء تصير مستوية - على ما ذكرنا - (قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107). ويحتمل قوله: (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً)، أي: يكون أهلها بارزين له؛ كقوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا). أي: نجمعهم جميعًا؛ كقوله: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) قَالَ بَعْضُهُمْ: عرضوا على ربك جميعًا. ثم يحتمل قوله: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ) للحساب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعرضون على مقامهم، أي: يعرض كل فريق على مقامه، أي: يبعث؛ كقوله: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91). ويحتمل معنى العرض عليه في ذلك اليوم، وإن كانوا في جميع الأحوال والأوقات في الدنيا والآخرة معروضين عليه عالم بأحوالهم؛ لما يقرون له جميعًا يومئذ منكرهم ومقوهم - بالعرض والقيامة، كقوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا)، (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، والأمر في جميع الأوقات لله، وكذلك هم بارزون له في جميع الأحوال، لكنّه خص ذلك اليوم بالإضافة إليه بما يقرون له جميعًا في ذلك اليوم بالألوهية له والملك، ويعرفون حقيقته؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). يحتمل هذا وجوهًا: الأول يحتمل لقد جئتمونا بالإجابة والإقرار لنا كما أجاب خلقتكم في أول خلقنا

(49)

إياها في الدنيا. والثاني: لقد جئتمونا كما قلنا في الدنيا: إنكم تبعثون، وتحشرون، وتقوم لكم الساعة. والثالث: ما قاله أهل التأويل: لقد جئتمونا فرادى بلا أنصار ينصرونكم، ولا أعوان يعينونكم على ما كنتم في الابتداء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كما خرجتم من بطون أمهاتكم عراة وحفاة ليس معكم مال يمانعكم ولا أنصار تناصركم، وهو ما قال: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ. . .). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا). هذا يدل أن تلك الأهوال التي ذكر إنما تكون للعصاة، ومن أنكر البعث؛ حيث قال: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا) يعني: القيامة. وهذا يدل أن الأهوال والأفزاع التي ذكر في الآية الأولى تكون للعصاة والفسقة من خلقه دون المؤمنين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) قيل: الحساب، ويحتمل: الكتاب الذي كتبته الملائكة، وضع ذلك الكتاب في أيديهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ). أي: خائفين وجلين وقَالَ بَعْضُهُمْ: لما نظروا في الكتاب فرأوا من أعمالهم الخبيثة فيه عند ذلك خافوا مما فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً). من الأعمال السيئة. (إِلَّا أَحْصَاهَا)، أي: حفظها، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الحسنات والسيثات إلا أحصاها. ويحتمل قوله: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً)، أي: لا يترك شيئًا مما يجزى به الإنسان وما لا يجزى به (إِلَّا أَحْصَاهَا)، أي: حفظها. (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا)، في الدنيا، (حَاضِرًا)، في الآخرة، محفوطا غير فائت عنه شيء ولا غائب منه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما هو قول الملك يقول لهم ذلك، كقوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، أي: حفيظ، واللَّه أعلم.

(50)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا). أي: يجزى كلا على قدر عمله، لا يزيد على قدر عمله ولا ينقص عنه، أي: لا ينقص المؤمن من حسناته، والكافر لا يترك له سيئة، الظلم: هو في الشاهد وضع الشيء غير موضعه. يقول: لا يظلم رتك أحدًا، أي: لا يكون بما يجزى كلا على علمه ظالمًا واضعًا شيئًا غير موضعه. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وقوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ). ذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: قصة آدم وإبليس في غير موضع من القرآن على الزيادة والنقصان؛ وإنَّمَا ذكر كذلك وكرر لما كذلك كان في الكتب المتقدمة مكررًا معادًا؛ فذكر في القرآن على ما كان في تلك الكتب؛ ليكون ذلك آية لرسالة مُحَمَّد حيث علموا أنه كان لا يعرف الكتب المتقدمة. أو أن ما كرره لحاجات كانت لهم ولفوائد تكون في التكرار؛ ليكون لهم عظة وتنبيهًا في كل وقت وكل حال، وقد يكزر الشيء ويعاد على التذكير والتنبيه، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: سمي من الجن؛ لأنه كان من الجان الذين يعملون في الجنان؛ فنسب إليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن من الملائكة قبيلة يقال لها: الجن، فكان إبليس منها؛ فنسب إليها.

(51)

وقال الحسن: ما كان إبليس من الملائكة قط طرفة عين؛ ولكنه من الجن؛ كما قال اللَّه فهو أصل الجن، وهو أول من عصى ربه من الجن، وإن آدم هو أصل الإنس، وهو أبوهم؛ فعلى ذلك إبليس أبو الجن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ)، أي: صار من الجن، وكذلك قالوا: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، أي: صار من الكافرين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ)، أي: كان في علم اللَّه في الأزل أنه يكون من الجن، وكان في علم اللَّه في الأزل أنه يكون من الكافرين وقت عصيانه ربه وإبائه السجود لآدم. وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ). قيل: عتا وعصى، وأصل الفسق: الخروج، أي: خرج عن أمر ربه، وكذلك قال الْقُتَبِيّ: ففسق، أي: خرج عن طاعته، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أراد بقوله: (مِنْ دُونِي) نفسه؛ فكأنه قال: أفتتخذونه وذريته أربابا وآلهة من دوني وهم لكم عدو، وليسوا بآلهة ولا أرباب؛ فكيف يجوز أن يتخذ العدو ربا وإلها؟! والثاني: أنه أراد بقوله: (أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي)، أي: من دون أوليائي؛ فكأنه قال: أفتتخذونه وذريته أولياء من دون أوليائي، وهم لكم عدو، أي: كيف تتخذون الأعداء أولياء، وتتركون من هم لكم أولياء ولا تخخذونهم أولياء؟! واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)، أي: بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم أن عبدوا إبليس وأطاعوه؛ فبئس ذلك لهم بدلا. أو أن يكون قوله: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا): ما اتخذوا أعداءهم أولياء بدلا عن أوليائه أو بدلا عن ألوهيته وربوبيته. وقوله: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)

قَالَ بَعْضُهُمْ: قال هذا لمشركي العرب: حيث قالوا: الملائكة بنات اللَّه، والأصنام التي عبدوها: إنها آلهة وإنها شركاؤه، فيقول: ما أشهدتهم خلق الملائكة وخلق الأرض ولا خلق أنفسهم، ولا كان لهم كتاب، ولا آمنوا برسول؛ فكيف عرفوا ما قالوا: الملائكة بنات اللَّه، والأصنام آلهة وشركاؤه؟! وأسباب العلم والمعارف هذا: إما المشاهدة وإما الرسل، فإذا لم يكن لهم واحد مما ذكرنا؛ فكيف عرفوا ربهم؟! وبم علموا ما قالوا في اللَّه من الولد والشركاء؟! وإلى هذا يذهب الحسن. ومنهم من قال: لاتخاذهم إبليس وذريته أولياء وأربابا، وهو صلة ما قال: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ. . .) الآية، وفيه وجوه من التأويل: يقول: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ)، أي: ما استحضرتهم خلق أنفسهم؛ لأنهم لم يكونوا في ذلك الوقت، ولا خلق السماوات والأرض؛ لأنه خلقهما ولم يكونوا - أيضًا - شيئًا. أو (مَا أَشْهَدْتُهُمْ) ما أعلمتهم تدبير خلق السماوات والأرض، ولا تدبير خلق أنفسهم؛ فكيف قالوا ما قالوا في اللَّه من الدعاوى؟! والثالث: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ) أي: ما استعنت بهم في خلق السماوات والأرض، ولا في خلق أنفسهم؛ فكيف أشركوا في ألوهيتي وربوبيتي، وما استعنت بهم في ذلك. واللَّه أعلم. وقد استدل كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن خلق الشيء هو غير ذلك المثميء لأنه قال: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ)، وقد شهدوا السماوات والأرض، وشهدوا أنفسهم حتى قال لهم: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، ثم أخبر أنه لم يشهدهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم؛ دل أن خلق السماوات والأرض وخلق أنفسهم - غير السماوات والأرض وغير أنفسهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا): عن الإيمان والهدى أعوانا لديني. والثاني: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) عبادي بنصر ديني، أو بعون أوليائي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) الذين أضلوا بني آدم عونا فيما خلقت من خلق السماوات والأرض وخلق أنفسهم، وهو إبليس وذريته.

(52)

أو (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ): أولياء، إنما اتخذتهم أعداء، وما كنت لأولي المضلين عضدا على أوليالْي؛ كقوله: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، ونحوه، وكله قريب بعضه من بعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) قال (شُرَكَائِيَ)؛ على زعمهم، وإلا: لم يكن لله شركاء. (فَدَعَوْهُمْ). يعني: دعوا الأصنام التي عبدوها. (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ). قال أبو بكر الأصم: لم يجيبوهم في وقت، وقد أجابوهم في وقت آخر، وهو ما قالوا: (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ)، ولكن قوله: (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ)؛ لما كانوا يعبدونها في الدنيا، وإنَّمَا كانوا يعبدونها طمعا أن يكونوا لهم شفعاء وأنصارا؛ كقولهم (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)، فيكون قوله: (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ): ما طمعوا هم بعبادتهم الأصنام: من الشفاعة، والنصرة، ودفع ما حل بهم عنهم، والمنع عن عذاب اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا). أي: بين أُولَئِكَ وبين الأصنام، (مَوْبِقًا)، قَالَ بَعْضُهُمْ: مهلكا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الموبق: الذي يفرق بينهم وبين آلهتهم في جهنم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نهر فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جعلنا وصلهم في الدنيا الذي كان بين المشركين وبين الأصنام مَوْبِقًا، أي: مهلكا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ... (53) أي: علموا وأيقنوا أنهم داخلوها.

(54)

(وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا). أي: لم تقدر الأصنام التي عبدوها أن تصرف النار عنهم: قال أبو عبيدة: (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا)، أي: معدلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا) قد ذكرناه وبيناه في غير موضع، وقوله: (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يحتمل وجهين: أحدهما: مِن ص مَثَلى، أي: من كل صفة؛ كقوله: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) أي: الصفات العليا. والثاني؛ المثل: هو الشبيه؛ كقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). فإن كان التأويل: الشبيه؛ فكأنه يقول - واللَّه أعلم - (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا)، أي: بينا (فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من كل ما بهم حاجة إلى معرفة ما غاب عنهم؛ جعل لهم شبيها مما شاهدوا أو عرفوا ليعرفوا به ما غاب عنهم. وإن كان تأويل المثل: الصفة، فكأنه يقول - واللَّه أعلم -: ولقد بيّنا في هذا القرآن من كل ما يؤتى وما يتقى صفة: يعرفون بها ما لهم وما عليهم، وما يأتون وما يتقون، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا). قال أهل الشأويل: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ) يعني: الكافر (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)، أي: جدالا؛ كقوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ). ويشبه أن يكون قوله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)، أي: وكان جوهر الإنسان أكثر جدلا من غيرهم من الجواهر؛ لأن الجن لما عرض عليهم القرآن والآيات قبلوها على غير مجادلة ذكرت؛ حيث قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. . .) الآية، وكذلك الملائكة لم يذكر منهم الجدال ولا المحاجة في ذلك. وقد ظهر في جوهر الإنسان المجادلات والمحاجات في الآيات والحجج، من ذلك قوله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ. . .) الآية، وقوله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقوله: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ)، وأمثال هذا؛ لذا احتيج إلى إنزال كثرة الآيات والحجج؛ لكثرة ما ظهرت منهم المجادلة. وفيه الإذن بالمجادلة والمحاجة في الدِّين على الوصف الذي ذكر، واللَّه أعلم.

(55)

قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى). أي: لم يمنع الناس أن يؤمنوا إلا التعنت والعناد؛ لأنه قد أكثر عليهم من الحجج والآيات ما لم يعاندوا ولا كابروا؛ لالتزامهم الإيمان بها والتصديق، لكن الذي منعهم عن الإيمان ما ذكرنا من عنادهم وتعنتهم. (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ). وسنة الأولين: الاستئصال والإهلاك؛ فيقول: لا يؤمنون إلا في ذلك، والإيمان لا ينفعهم في ذلك الوقت؛ كقوله: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا). وقوله: (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا) أي: عيانا وجهرًا. قال أبو عبيدة: (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا)، أي: مقابلة، وقبلا: استئنافا. وقال مجاهد: (قُبُلًا): فجاة، وقال: قبيلا. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (قُبُلًا)، أي: مواجهة، وكذلك قبيلا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (قُبُلًا)، أي: مقابلة وعيانا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) أي: لم نرسلهم إلا بما يوجب لهم البشارة والنذارة إنما أرسلوا للأمر والنهي ليأمروا الناس بالطاعة - طاعة اللَّه - وينهوهم عن معاصيه؛ لهذا أرسلوا، فالبشارة لمن اتبع أمرهم وانتهى ما نهوا عنه، والنذارة لمن ارتكب ما نهوا عنه؛ فيكون البشارة للمتبعين لهم في أمرهم والنذارة للمرتكبين المنهي، واللَّه أعلم.

(57)

وقوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ). ويحتمل قوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ): ما نسبوه إلى السحر والكهانة والإفك وغيره، به يجادلونه؛ وهو باطل. أو أن يكونوا عرفوا أن ما يجادلونهم به ويحاجونهم باطل، وأن ما يدعوهم إليه الرسول حق وصدق ونور، لكن يعاندونه ويجادلونه، وعندهم أنهم على باطل، كقوله: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ. . .) الآية: عرفوا أنه نور لكنهم عاندوه في المجادلة والمحاجة بالباطل، واللَّه أعلم. وقوله: (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ). أي: ليبطلوا به الحق. وقوله: (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: آياته: الشمس والقمر وغيره، (وَمَا أُنْذِرُوا): ما أنذر به الرسل، هو القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا): القرآن والحجج التي أقامها وما أمروا به غير القرآن، هي المواعيد - هزوا. وقال أصحاب هذا التأويل: تأويل الأول باطل لا يصح، لأنه قال على أثره: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا)، يقول: هذا يدل أنه أراد بالآيات ما ذكرنا من الحجج والبراهين، لا ما ذكر. وجائز أنهم إذا لم يعملوا بآياته ولم يستعملوها نسبهم إلى الهزء بها والسخرية، وإن لم يهزءوا بها، وهو ما سماهم: عميا وبكما وصما؛ لما لم ينتفعوا بهذه الحواس، ولم يستعملوها فيما جعلت له، وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك؛ فإذا كان فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. ثم يحتمل مجادلتهم إياهم: ما قالوا: هذا سحر، وكهانة، وإنه إفك، وشعر، ونحوه. أو أن يكون مجادلتهم قولهم: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، وقولهم: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، وأشباه ذلك من المجادلات التي كانت بينهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) يحتمل قوله: (ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ)، أي: وعظ بالآيات التي نزلت بمكة بمكذبي الرسل من الأمم الماضية؛ فيكون تأويله، أي: لا أحد أظلم على نفسه ممن وعظ بِآيَاتِ رَبِّهِ فأعرض عنها ما لو اتعظ بما وعظ كان به نجاته. أو أن يكون تذكيره بآيات ربه، وهو ما أقام من حججه وبراهينه على توحيده ورسالة الرسول، فلم يقبلها ولم يصدقها، أي: لا أحد أظلم على نفسه ممن لم يتعظ بما ذكر من

الآيات والحجج ولم يقبلها، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَعْرَضَ عَنْهَا): يحتمل الإعراض في الآية، أي: لم يقبلها، ولم يكترث إليها، ولم ينظر فيها، أو أعرض عنها بعد ما عرفها أنها آيات وحجج؛ تعنتًا وعنادًا. وقوله: (وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ). يحتمل؛ أي: نسي من الخيانة والشرك. أو أن يكون قوله: (وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) موصولا بالأول، أي: لا أحد أظلم على نفسه ممن وعظ، وجعل له سبيل للتخلص والنجاة مما قدمت يداه، فلم يتعظ به؛ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا). إن الكفر مظلم إذا أتى به إنسان يستر على نور القلب وعلى نور كل جارحة منه، والإيمان منير ينير القلب، وينير كل جارحة منه وعضو، وهو ما ذكرنا في غير موضع: أن الإنسان إنما يبصر بنورين ظاهرين: بنور نفسه، وبنور ذلك الشيء، فإذا ذهب أحدهما، ذهب الانتفاع بالآخر، والإيمان ما ذكرنا: أنه منير، وفي القلب نور، فإذا اجتمع النوران معًا - فعند ذلك انتفع به، فجعل يفقه ويعقل الشيء بنور القلب وبنور الإيمان، وكذلك كل جارحة منه، الأذن والبصر واللسان، جعل يبصر الحق به، ويعتبر به، ويستمع الحق والصواب. والكفر مظلم يمنع ويستر على نور الجوارح؛ فجعل لا يبصر، ولا يعتبر، ولا يستمع، ولا يتكلم بالحق، وهو ما ذكرنا: أن الإنسان إنما يبصر الشيء بنور العين وبنور الهواء؛ فإذا ذهب أحدهما صار لا يبصر شيئا؛ فعلى ذلك ما ذكرنا. وفي الآية دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه لا يخلو الكفر من أن يكون مظلمًا قبيحًا ذميمًا بنفسه أو باللَّه تعالى. فَإِنْ قِيلَ: صار كذلك. قيل: لئن جاز ذا جاز حدوث الأشياء بنفسها؛ إذ لا فرق بين أن يكون الشيء مظلمًا قبيحًا ذميمًا بنفسه وبين أن تكون الأشياء بأنفسها على ما كانت، فإن بطل كونه بنفسه مظلمًا قبيحًا ثبت أن اللَّه هو الذي جعله مظلمًا قبيحًا، وهو ما نقول نحن: إن اللَّه خلق فعل الكفر من الكافر مظلمًا قبيحًا، وخلق فعل الإيمان من المؤمن منيرًا حسنًا، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا). هذا في قوم مخصوصين علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا، وإلا لا يحتمل في جميع الكفار؛ إذ من الكفار من قد آمن. وقال الحسن: هو في القوم الذين جعل على قلوبهم الغطاء والطبع، إذ من قوله: إن للكفر حدا إذا بلغ الكافر ذلك الحد طبع على قلبه؛ فلا يؤمن أبدًا.

(58)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو في قوم عادتهم العناد والمكابرة وتكذيب الآيات والحجج؛ فأخبر أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ لعنادهم، وأصله ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) يحتمل على وجهين: أحدهما: (الْغَفُورُ) حيث ستر عليهم ولم يعاقبهم وقت عصيانهم، و (ذُو الرَّحْمَةِ) يقبل توبتهم إذا تابوا. والثاني: (الْغَفُورُ) إذا استغفروا أو تابوا، و (ذُو الرَّحْمَةِ) يرحمهم ويتجاوز عنهم ما سبق لهم من الذنوب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) في الدنيا. (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ): قال الحسن: جعل اللَّه لكل أمة يهلكون - لهلاكهم - موعدًا وأجلا كقوله: (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ)، وقال في آية أخرى: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)، وجعل موعد هذه الأمة الساعة؛ وهو قوله: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ). قال بعض أهل العلم: أهلك اللَّه كل أمة كذبت رسولها؛ لتتعظ الأمة التي تأتي بعدها، وجعل هلاك أمة مُحَمَّد بالساعة؛ لأنه ليس بعدها أمة تتعظ به. وقول: (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا). قيل: ملجأ. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: لا وئلت نفسك، أي: لا نجت، ويقال: وأل فلان إلى كذا، أي: لجأ. وقوله: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) فيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يجعلون المهلَك هالكًا قبل أجله، وقد أخبر لمهلكهم موعدًا لا يتقدم ولا يتأخر طرفة عين. وفي قوله: (قَدَّمَتْ يَدَاهُ): ذكر تقديم اليد، وإن لم يكن لليد صنع في ذلك؛ لما في العرف الظاهر: أنه إنما يقدم ويؤخر باليد، وكذلك ما ذكر من الكسب: (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)؛ لأنه في الشاهد إنما يكتسب باليد ونحوه، فهو يرد على

(60)

أصحاب الظواهر: أن الخطاب على مخرج الظاهر؛ حيث لم يفهم من ذكر اليد هاهنا اليد نفسها؛ ولكن فهم غير اليد. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) وقوله - وجل -: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ. . .) الآية. قال أهل التأويل: (لَا أَبْرَحُ)، أي: لا أزال حتى أبلغ كذا، فإن كان على هذا فهو ظاهر، وإلا: حرف البراح، يعرف البراح عن المكان، أي: لا أبرح المكان حتى أبلغ مجمع البحرين، وهو كأنه على الإضمار، أي: لا أبرح أسير معك حتى أبلغ كذا، كأنه سبق من فمَاه: أنه يسير إلى ذلك المكان دونه؛ على ما يقول الخادم لمولاه إذا أراد أن يسير لحاجة: أنا أسير، وأنا أذهب - فعند ذلك قال له موسى: (لَا أَبْرَحُ)، أي: لا أفارقك، وأسير معك. (حَتَّى أَبْلُغَ). ما ذكر، أي: أمرت بذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سماه: فتى؛ لأنه كان خادمه يخدمه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سماه: فتى؛ لأنه كان يتبعه ولصحبه؛ ليتعلم منه العلم. وقوله: (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ). أي: ملتقى البحرين. وقوله: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا). قيل: زمانا ودهرًا، وقيل: الحقب: ثمانون سنة.

(61)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو بلغة قوم: سنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التمثيل: على ما يبعد. وقيل: سبعون سنة، ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) أضاف النسيان إليهما، وإن كان الذي نسيه هو فتاه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أضاف النسيان إليهما على الترك؛ لأنهما فارقا ذلك المكان وتركا الحوت فيه، وإنما أضاف النسيان إليهما؛ لما تركاه جميعًا فيه وفارقاه، وإن كان الفتى هو الذي نسيه دون موسى فقد نسى موسى أن يستخبره عنه؛ فقد كان منهما جميعًا النسيان: من الفتى الإخبار والتذكير، ومن موسى: الاستخبار عن حاله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أضاف ذلك إليهما؛ لما نسيا مكان الرجل الذي أمر موسى أن يأتيه ويقتبس منه العلم، فهو على الجهل يخرج على هذا التأويل، أي: جهلا مكانه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: سَرَبًا، أي: دخل في البحر كما يدخل في السرب، والسرب: هو داخل الأرض يقال بالفارسية: سمج. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: سَرَبًا، أي: مذهبا ومسلكا. وقول أهل التأويل: إن الحوت كان مشويًّا فأحياه اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان طريًّا. ولكن ليس لنا إلى معرفة الحوت أنه كان مشويَّا أو طريًّا حاجة، وهو قادر على أن يحييه مشويًّا أو طريًّا في أي حال كان، واللَّه أعلم. وقوله - عزت جل -: (فَلَمَّا جَاوَزَا ... (62) يعني: مكانه. (قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا). فيه دلالة: أن لا بأس للرجل إذا أصابته مشقة وجهد أن يذكر أصابني كذا، وللمريض يقول: بي من المرض كذا، ولا يخرج ذلك مخرج الشكوى والجزع عن اللَّه؛ حيث قال موسى: (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا): تعبًا وجهدًا. وقوله: (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)

(64)

وفي حرف ابن مسعود: (أَنْ أَذْكُرَهُ). قال الحسن: لم يكن نسيه؛ ولكن تركه متعمدًا مضيعًا، وإنما أضاف إلى الشيطان؛ يقول: إن الشيطان حملني حتى تركت ذكره لك، وكذلك يقول في قوله في قصة آدم: (فَنسَيَ)، أي: ضيع أمره وتركه، ونحوه من المحال، ولكن لا يحتمل أن يترك أن يذكر له عمدًا، والشيطان مما يسعى بالحيلولة في مثل هذا: في أمر الذين، وفي النعم إذا كثرت واتسعت على إنسان؛ فيسعى بالإنساء في مثله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: عجب موسى من الفتى أن كيف نسي أن يذكره، وقد احتاج إلى أن يتحمل مؤنة عظيمة في حمله؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: عجب موسى منه حين يبس له الماء وأثره فيه، واللَّه أعلم. ثم ذكر موسى بخبر الحوت، وما صنع فقال. (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) أي: نطلب من حاجتنا من الظفر بذلك الرجل، يقول ذلك لفتاه. ثم في الآية وجوه من الفوائد: أحدها: أن يلزم الإنسان طلب العلم واقتباسه؛ إذ كان به وبالناس حاجة إليه، وإن بعدت الشقة ونأى الموضع؛ حيث قال موسى: (لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا). وفيه: أن لا بأس لاثنين أن يسافرا ولا كل واحد واثنين يكونان شيطانين، على ما ذكر في بعض الأخبار: " إِنَّ الوَاحِدَ شَيطَان، والاثْنَينِ شَيْطَانَانِ "، ولكن واحدًا دون واحد، واثنين دون اثنين. وفيه: أنه لا يسافر إلا بالزاد؛ حيث تزود موسى والفتى الحوت الذي ذكر حين خرجا إلى حيث أمر موسى أن يخرج في مجمع البحرين: فأما أهل التأويل فإنهم قالوا جميعًا: إنه أمر موسى أن يأتي الخضر؛ ليتعلم منه العلم، ولكن ليس في القرآن ذكر الخضر؛ إنما فيه ذكر عبد من عباده؛ حيث قال: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا).

وفيه: أن الثنيا إنما تلزم في كل فعل مستقبل مما يشك فيه ويرتاب، فأما ما كان سبيل معرفته الوحي واليقين - فإنه لا يستثنى فيه حيث قال موسى لفتاه (لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا): قال ذلك من غير ثنيا؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أمره أن يأتيه، ولا يحتمل أن يؤمر بالإتيان في مكان، ثم هو يشك أنه لعله لا يأتيه؛ لذلك قطع القول فيه، وكذلك قول ذلك العبد الصالح لموسى: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا): قطع القول فيه من غير ثنيا؛ لأنه علم بالوحي أنه لا يصبر على ما يرى منه، وأمَّا موسى فإنه قد استثنى فيما وعد أنه يصبر؛ لأنه أضاف إلى حادث من الأوقات على الشك منه أنه يصبر أو لا يصبر، وعلى الارتياب ليس على اليقين، فقال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) مما ذكرنا. وفيه: أن الرجل إذا اختلف إلى عالم يقتبس منه العلم ويتعلم منه، فرأى منه مناكير ومظالم - يلزمه أن يفارقه، ولا يتعلم منه العلم؛ كصنيع موسى بصاحبه؛ لما رأى؛ من خرق السفينة، وقتل الغلام، وغيره مما كان منكرا وظلما في الظاهر، وإن كان ما فعل هو فعل الأمر كره موسى صحبته، وندم على ذلك أشد الندامة حتى جعله على علم من ذلك كله، فهكذا الواجب على الرجل إذا رأى مناكير من الذي يأخذ منه العلم ومظالم أن يفارقه ولا يأخذ من علمه، واللَّه أعلم. وفي قوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا) دلالة أن الاختيار والمستحب في الثنيا أن يكون في ابتداء الكلام؛ لأن موسى ابتدأ به، وكذلك قوله: (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) فإذا تركه في أول كلامه أو نسي يستثنى في آخره؛ فيعمل عمله في دفع الخلف في الوعد والكذب، وعلى هذا تأول بعض الناس قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) أي: استثن في آخره إذا نسيت في أول كلامك، واللَّه أعلم. ثم هذه القصص والأنباء التي ذكرت لرسول اللَّه على أثر سؤال كان منهم، على ما ذكرنا في قصة أصحاب الكهف وغيرها من القصص، أو على غير سؤال، ولكن كانت في كتبهم؛ فذكرها له ليعلم أنه إنما عرف باللَّه تعالى. ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي أمر موسى على طلب العلم من عند ذلك الرجل وبعثه عليه. قَالَ بَعْضُهُمْ: وذلك أن موسى قام خطيبًا في قومه، فخطب خطبة لم يخطب قط

مثلها؛ فأعجبه ذلك، فوقع عنده أن ليس أحد أعلم منه؛ فأخبر أن في مجمع البحرين رجلا أعلم منك؛ فأمر بالمصير إليه والتعلم منه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن موسى قد أعطي التوراة، وفيها علوم كثيرة؛ فظن أنه ليس أحد أعلم منه؛ فأخبر: أن في مجمع البحرين عبدًا من عبادنا أعلم منك؛ فأمر بالمصير إليه. والتعلم منه؛ فإن كان على ما ذكر أهل التأويل من السبب فيخرج الأمر له بالمصير إليه والتعلم منه مخرج العقوبة له والعتاب لما خطر بباله ووقع في وهمه ما وقع. وجائز أن يكون الأمر له بالمصير إليه والتعلم منه ابتداء؛ محنة من اللَّه - تعالى - إياه بتعلم العلم من غير سبب كان من موسى على ما يؤمر المرء بتعلم العلم ابتداء من غير سبب؛ محنة من اللَّه يمتحنه بها؛ نحو ما أمر موسى بالمصير إلى طور سيناء، وأعطي هنالك التوراة في الألواح على غير سبب كان منه، ولكن ابتداء محنة يمتحنه بها؛ فعلى ذلك يحتمل أمره له بالمصير إلى ما أمر والتعلم منه ابتداء محنة يمتحنه بها. وقول أهل التأويل: إن صاحب موسى الذي أمر موسى بالمصير إليه والتعلم منه - الخضر، وفتاه الذي كان يصحبه ويتبعه يوشع بن نون، فذلك لا يعلم إلا بالسمع والخبر عمن يوحى إليه؛ فيعلمه بالوحي، وأمَّا من أخبر بذلك وقاله لا عن وحي - فلا يعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة؛ إنما الحاجة إلى معرفة ما أودع فيه من أنواع الحكمة والعلوم، وأما ما ذكروا أنه فلان، وأنه كان في موضع كذا في البحر، وأن موسى قال له كذا، وهو قال لموسى كذا - فإن سبيل معرفة ذلك السمع، فإن ثبت السمع فيه، وإلا: لم يجب أن يذكر فيه أكثر مما ذكر في الكتاب؛ لأن هذه الأنباء والقصص التي ذكرت في القرآن إنما ذكرت؛ لتكون آية لرسالة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلو قيل فيها ما لم يذكر في كتبهم من الزيادة والنقصان - لكان ذلك سببًا لإكذابه لا تصديقه على ما يدعي من الرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ). أي: فقد الحوت هو ما كنا نبغي أنه كان ذلك علما لوجود مكان ذلك الرَّجل. وقوله: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا). قَالَ بَعْضُهُمْ، أي: رجعا عودهما على بدئهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: رجعا يقصان طريقهما وآثارهما الذي مشيا فيه يطلبان المكان

(65)

الذي فقد الحوت فيه، إذ ذلك المكان هو مكان علم وجود ذلك الرجل الذي أمر موسى بالمصير إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اقتفيا أثر الحوت في الماء، لكن الأول أشبه؛ لأن في الآية ذكر آثارهما لا ذكر أثر الحوت. وقوله: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) يحتمل قوله: (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) النبوة؛ حيث قال لموسى: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا): لا يحتمل أن يقول له هذا إلا على علم وحي، وحيث قال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي): أخبر أنه لم يفعل ما فعل عن أمر نفسه، ولكن أمر اللَّه، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) كل خير وبركة أعطاها اللَّه إياه. أو أن يكون رحمة القلب والشفقة التي كانت منه على أهل السفينة؛ بخرقها، وقتل ذلك الغلام الذي قتله؛ إشفاقًا منه على والديه أو على الناس، وإقامة الجدار الذي كاد أن ينقض فأقامه، وأمثاله. وقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا): هو ظاهر. وقوله: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) في قوله: (هَلْ أَتَّبِعُكَ) دلالة أنه كان على سفر، ولم يكن مقيمًا في ذلك المكان، ومن يتعلم من آخر علمًا فإنه يتبعه حيث يذهب هو في حوائجه لا يؤمر بالمقام حيث يقيم المتعلم؛ لأنه قال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ). وقوله: (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا). يحتمل: أي: أرشدني إلى ما علمت، أو تعلمني مما علمت من الرشد والصواب. وقوله - تعالى -: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) بما ترى مني من الأمور ما يخرج في الظاهر مخرج المناكير. أو يقول: إنك نبي ورسول، والرسول إذا رأى منكرا في الظاهر لا يسع له ترك الإنكار عليه والتغيير، وأنت لا تصبر على ما ترى مني؛ لما لم تعرف سببه؛ ألا ترى أنه وسع له الإنكار عليه والتغيير؛ حيث قال له: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68). أي: ما لم تعلم علمًا، واللَّه أعلم. وقوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) يحتمل أن الثنيا منه على الأمرين جميعًا على الصبر الذي وعد، وعلى قوله: (وَلَا

(70)

أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)، ويشبه أن يكون على وعد الصبر خاصة دون قوله: (وَلَآ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)؛ لأن قوله: (وَلَآ أَعْصِي لَكَ) عهد منه، والثنيا لا يستعمل في العهود، وأما قوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا) إنما هو فعل أضافه إلى نفسه، فلابد من أن يستثني فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ... (70) ما تنكره نفسك وتكرهه، (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) أني لماذا فعلت ما فعلت؟. * * * قوله تعالى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) وقوله: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا). هذا الكلام يخرج على وجهين: يخرج على الإنكار عليه، أي: خرقتها؛ لتغرق أهلها، أو لتعيبها، أو لماذا هذا الخرق؟ استفهام لولا قوله: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا). فإنى ن على الأول على الإنكار عليه والرد - فقوله: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا): ظاهر، أي: جئت شيئا عظيمًا شديدًا. وإن كان على الاستفهام، فهو على الإضمار؛ كأنه قال: أخرقتها لتغرق أهلها؟! فلئن خرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئًا إِمْرًا عظيمًا شديدًا؛ وإن كان التأويل على الإنكار - فهو كما يقال لمن يبني بناء ثم يترك الإنفاق عليه في عمارته: بنيت لتخرب أو لتهدم، وكما يقال لمن زرع زرعًا، ثم ترك سقيه: زرعت لتفسده، ونحوه، وإن كان لم يبن لذلك، ولم يزرع لما ذكر، ولكن لما كذلك يصير في العاقبة إذا ترك سقيه أو عمارة ما

(72)

بنى. فَإِنْ قِيلَ: كيف قال له موسى: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا)، وبعد لم يعلم أن ذلك الخرق مغرق أهلها، وقد يجوز أن يكون غير مغرق؟! قيل: إنما أخبر عما يئول الأمر في العاقبة، والظاهر من الخرق أن يغرق في الآخرة، وهو كما ذكرنا من أمر البناء والزرع: بنيت لتخرب، وزرعت لتفسد، وإن لم يكن بناؤه وزراعته لذلك، فعلى ذلك قول موسى لصاحبه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) هذه الآية أترد، على المعتزلة؛ لأنه قال له: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا): دل أنه كان يحتاج إلى استطاعة تقارن الفعل لا تتقدم الفعل فيكون بها الفعل، وإلا قد كانت له أسباب لو لم يؤثر غيرها لاستطاع الصبر معه؛ دل أن استطاعة الفعل لا تتقدم على الفعل، ولكن تقارنه. وقال الحسن: إنما يقال هذا؛ للاستثقال كما يقول الرجل لآخر: لا أستطيع أن أنظر إليك بغضا، وهو ناظر إليه، لكن يقال ذلك على الاستثقال والبغض ليس على حقيقة نفي الاستطاعة؛ فعلى ذلك الأول، فيقال له هو كما يقال: لا أستطيع أن أنظر إليك نظر الرحمة، فهو وإن كان ناظرًا إليه لما ذكر - فهو غير ناظر إليه نظر رحمة وشفقة؛ فهما سواء وهو ما يقوله، واللَّه أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ... (73) يحتمل هذا الكلام وجوهًا: أحدها: على التعريض من الكلام، أي: لا تؤاخذني بما لو نسيت؛ كقول إبراهيم حيث قال: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي. .)، ونحوه، أي: سأسقم. والثاني: على حقيقة النسيان؛ نسي قوله: (فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) بعدها؛ لما رأى من المناكير في الظاهر، وهكذا كانت عادة الأنبياء أنهم إذا رأوا منكرا لا يملكون أنفسهم حزنًا وغضبا على ما رأوا فلا ينكر أن يكون نسي ما قال له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: على التضييع والترك، فهو يخرج على الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تكلفني من أمري ما يعسر عليَّ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإرهاق: هو الشدة والتعب.

(74)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تُرْهِقْنِي)، أي: لا تغشني عسرًا. وقوله: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) يحتمل هذا الكلام -أيضًا- وجهين: على الإنكار، والرد عليه. والثاني: على الاستفهام والسؤال على ما ذكرنا في الأول: أقتلت نفسًا زاكية بغير نفس؟ أو بحق؟ أو لماذا؟ أو على الإنكار والرد على ما رأى في الظاهر قتل نفس ولم يعرف الوجه الذي به يجب القتل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا). هو على ما ذكرنا على الإنكار ظاهر، وعلى الاستفهام والسؤال على الإضمار: أقتلت نفسًا زاكية بغير نفس فلئن فعلت لقد جئث شيئًا نكرًا، أي: منكرا: ثم اختلف في قوله: (نُكْرًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (نُكْرًا): أكبر من قوله: (إمْرًا) لأن فيه مباشرة القتل وإهلاك النفس بغير نفس؛ فهو أكبر وليس في نفس الخرق إهلاك، وإنما هو سبب الإهلاك، وقد يجوز ألا يهلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إمْرًا) أكبر من قوله: (نُكْرًا)؛ لأن فيه إهلاك جماعة، وهاهنا إهلاك واحد، فهو دون الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) ما ذكرنا في الأول. وقوله: (قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) في ترك المصاحبة عذر؛ لما قلت لي: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ولم أصبر. وقوله: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) سمى: قرية، وهي كانت مدينة؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ)؛ دل أنها كانت مدينة، والعرب قد تسمي المدينة: قرية. وقوله: (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ). قال الحسن: كان ذلك ألجدار بهيئة عند الناظر أنه يسقط. وقال أبو بكر الأصم: (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) الإرادة: صفة كل فاعل له حقيقة الفعل، أو

(78)

ليس له حقيقة الفعل، بعد أن يضاف إليه الفعل، ألا ترى أنه يقال للجدار: سقط، وإن كان في الحقيقة يسقط. وعندنا أنه: إنما يقال ذلك لقرب الحال، وعند الإشراف على الهلاك والسقوط؛ ألا ترى أن الرجل يقول: إن أردت أن أموت، وأردت أن أهلك، وأردت أن أسقط، وهو لا يريد الموت ولا السقوط؛ ولكنه يذكر ذلك لإشرافه على الهلاك وقرب الحال إليه، ليس على حقيقة الإرادة؛ فعلى ذلك قوله: (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ)، أي: شرف وقرب على حال السقوط، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا). هذا القول من موسى يحتمل وجهين: أحدهما: قال (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)؛ لشدة حاجته إلى الطعام؛ لئلا يقع لهما حاجة إلى أهل تلك البلدة؛ إذ قد وقع لهما إليهم حاجة؛ حيث قال: استطعما من أهلها مرة فلم يطعموهما؛ فأراد أن يأخذ على ذلك أجرًا؛ لئلا يقع لهما حاجة إليهم ثانيًا. والثاني: قال له ذلك، لما لم ير أهل تلك البلدة أهلا ليصنع إليهم المعروف؛ لما رأى فيهم من البخل والضنة في الطعام؛ حيث استطعماهم فلم يطعموهما؛ بخلا منهم وضنة، واللَّه أعلم. وذكر في بعض القصة أن الجدار الذي أقامه صاحب موسى كان طوله خمسمائة ذراع، وقامته مائتي ذراع، وعرضه أربعين ذراعًا، أو نحوه تحته طريق القوم، لكن لا حاجة لنا إلى معرفة ذلك؛ إنما الحاجة إلى ما فيه من أنواع الحكمة والفوائد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أي: سأنبئك بيان ما قلت لك: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ثم بين وفسره له؛ فقال: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) أي: أجعله، معيبة. وقوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ): ذكر في بعض الحروف: (وكان أمامهم ملك). (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا). فعلى ذلك التأويل فيه (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)، أي: أجعلها معيبة، لئلا يأخذها ذلك الملك غصبا؛ إذ كان لا يأخذ إلا سفينة صالحة صحيحة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)

اختلف في سن ذلك الغلام: قَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك الغلام كبيرًا بالغًا، والعرب قد تسمي الرجل البالغ الذي لم يلتح بعد - أولم تستو لحيته - غلامًا؛ لقربه بوقت البلوغ، ولذلك قال له موسى: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ)، والصغير مما لا يقتل إذا قتل نفسا بغير حق؛ فلو كان صغيرًا لم يكن لقول موسى: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) معنى، وهو كما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " إنَّ أَيْمَانَكُم تحقنُ دِماءكم " إذا ظهر منهم الدَّم وكقوله: " لولا الأَيْمَانُ لَكَان لي وَلَهَا شَأنٌ " إذا ظهر منها الزنا، فعلى ذلك قوله: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ): لو كانت محتملة القتل بالنفس، واللَّه أعلم. ثم اختلف في سبب قتل ذلك الغلام: قَالَ بَعْضُهُمْ: قتله؛ لكفره، كان كافرا، وكذلك في حرف أبي بن كعب: (وأمَّا الغلام فكان كافرًا)؛ ألا ترى أنه قال: (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا): دل هذا أته كان بالغًا كافرًا؛ إذ لو لم يكن كافرًا لم يلحق والديه منه الطغيان والكفر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما قتله؛ لأنه كان لصًّا قاطع طريق؛ يقطع الطريق على الناس ويأخذ أموالهم. وعلى قول من يقول: إنه كان صغيرًا، قتله؛ لأنه علم أنه لو بلغ كان كافرًا، واللَّه أعلم بذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك السبب الذي قتله - حاجة، ولا أنه كان صغيرا أو كبيرا؛ لأنه أخبر أنه إنما قتله بأمر اللَّه لا من تلقاء نفسه؛ حيث قال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، ولكن إنما فعلته بأمر اللَّه، ولله أن يأمر عبدًا من عباده بقتل الصغير على ما له أن يميته وعلى ما يأمر ملك الموت بقبض أرواح الخلق؛ فعلى ذلك له أن يميته على يدي آخر، وأن يقبض روحه؛ إذ له الخلق والأمر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا). ليس هو الخوف، ولكن العلم، أي: علمنا أنه يرهقهما طغيانًا وكفرا، وكذلك ذكر في

(81)

حرف أُبي. فَإِنْ قِيلَ: كيف احتج على قتله وإهلاكه بما علم أنه يلحق أبويه منه الطغيان والكفر، وقد ترك، إبليس وجنوده يعيشون إلى آخر الدهر، على علم منه أنهم يحملون الناس على الطغيان والكفر، ويرهقونهم أنواع المعاصي والفواحش؟! وكذلك هَؤُلَاءِ الظلمة الذين لا يكون منهم إلا كل شر وجور على الناس ثم تركهم على علم منه بما يكون منهم؟! فما معنى الاحتجاج في قتله وإهلاكه بما ذكر من إرهاق الطغيان والكفر بالوالدين؟! قيل: لهذا جوابان: أحدهما: أن اللَّه - تعالى - قد يمتحن البشر بمعان وعلل وأشياء، تحملهم تلك المعاني والأشياء على الرغبة والحث فيما امتحنهم، وإن كان له الامتحان لا على تلك المعاني والعلل، نحو ما امتحنهم بأنواع العبادات والطاعات بثواب وجزاء ذكر لهم فيها لو فعلوا، وإن كان له الامتحان بذلك على غير ثواب ولا جزاء، وكذلك العقوبات وغير ذلك من المحن؛ فعلى ذلك الأول. والثاني: ذكر هذا لتطيب به أنفسهم؛ إحسانا منه إليهم، وإنعامًا عليهم؛ إذ له أن يميتهم صغارًا وكبارًا، وعلى ذلك يخرج قوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ. . .) الآية. وقد وسع على كثير من الخلق، وكذلك قوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً. . .) الآية، وقد جعل لكثير من الخلق ذلك، لكن هذا لما له أن يفعل ذلك للكل، فمن لم يفعل ذلك له إنما لم يفعل إحسانًا منه وإفضالا؛ فعلى ذلك الأول إنما ذكر ما ذكر إحسانًا منه وإفضالا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) قَالَ بَعْضُهُمْ (خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً)، أي: صلاحًا، (وَأَقْرَبَ رُحْمًا): أي: أوصل رحما وأبر لوالديه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً)، أي: عملا، (وَأَقْرَبَ رُحْمًا)، أي: أحسن منه برًّا لوالديه. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (رُحْمًا)، من الرحم والقرابة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (رُحْمًا)، أي: رحمة وعطفا. وذكر أنهما قد أعطيا خيرًا منه، أي: خيرًا من القتيل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ

(82)

لَهُمَا ... (82) اختلف في ذلك الكنز: قَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك الكنز مالا كنزه أبوهما. قال ابن عَبَّاسٍ: حفظ؛ لصلاح أبيهما، ما ذكر منهما صلاح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك الكنز مصحفا فيها علم. قال أبو بكر الأصم: لا يحتمل على أن يكون علمًا؛ لأن العلم مما يعلمه العلماء ويشترك الناس فيه؛ فلا يحتمل أن يحفظ ذلك لهما دون الناس؛ فإن ثبت وحفظ ما روي في الخبر فهو مال وعلم. وروي عن ابن مالك قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كَانَ تَحْتَ الجِدَارِ الذِي قال اللَّه فِي كِتَابِهِ (وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا) ولَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مَكْتُوبٌ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَجِبتُ لِمَنْ أيْقَنَ بِالمَوتِ كيفَ يفرح وَعَجِبتُ لمن أَيْقَنَ بالقدر كيفَ يحزَنُ؟! وعَجِبت لمن أَيْقَنَ بِزَوَالِ الدُّنْيَا وَتَقَلُّبِهَا بِأَهْلِهَا كَيفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيهَا؟! لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّد رسول اللَّه " فإن حفظ هذا عن رسول اللَّه ففيه مال وعلم؛ لأن اللوح من الذهب مما يكثر ويعظم قدره، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ). أي: نعمة من ربك وإحسانًا عليهما؛ إذ كان له ألا يحفظ ذلك لهما، ولا يوصله إليهما على ما لم يعط لكثير من اليتامى والمساكين شيئًا من ذلك، لكن ذلك منه إليهما فضل وإنعام ورحمة عليهما، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي). هو ما ذكرنا أنه أخبر عن أمر اللَّه فعل ما فعل، لا عن أمر نفسه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا). أي: تأويل ما قلت لك في بدء الأمر: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، ثم لا يحتمل أن

(83)

يكون موسى حيث أمر بالذهاب إلى ذلك الرجل والاتباع له والصحبة معه؛ ليتعلم منه العلم، فلم يستفد منه إلا علم ما أنكر عليه، وسبب حل ذلك له؛ إذ كان ذلك بإنكار ما أنكر عليه من الأفعال التي هي في الظاهر منكرة، لكن جائز أن يكون استفاد منه علومًا كثيرة سوى ذلك، لكنه لم يذكر لنا ذلك، واللَّه أعلم. وقول أهل التأويل: اسم الغلام الذي قتله صاحب موسى " خشنوذ " أو لا أدري ماذا؟ ووالداه: اسمهما كذا، لا نعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة أساميهم حاجة، وكذا اسم الغلامين اليتيمين صاحبي الجدار: أصرم وصريم، ولا أدري ماذا؟ ولا حاجة بنا إلى ذلك. وقولهم: كان صاحب موسى خضرا، وأنه إنما سمي: خضرًا؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فاخضرت؛ فذلك -أيضًا- مما لا يعلم إلا بالخبر عن الوحي - وحي السماء - فلا نقول فيه إلا قدر ما ذكره الكتاب؛ فإنه يخرج ذكره مخرج الشهادة على اللَّه من غير حصول النفع لنا في ذلك عمل أو غيره، وليس في الكتاب إلا ذكر عبد من عبادنا، وذكر الغلام، وذكر الفتى، وذكر غلامين يتيمين في المدينة، وأمثاله يقال ما فيه ولا يزاد على ذلك؛ مخافة الشهادة على اللَّه بالكذب، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا). في الآية دلالة أن الآية نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يسأل هو عن خبر ذي القرنين؛ لأنه قال (وَيَسْأَلُونَكَ)، ولم يقل: " سألوك "، والخبر الذي روى عقبة بن عامر الجهني يدل على ذلك، أيضًا؛ لأنه روى أن نفرًا من أهل الكتاب جاءوا بالصحف والكتب، فقالوا لي: استأذن

(84)

لنا على رسول اللَّه: لندخلن عليه؛ فانصرفت إليه فأخبرته بمكانهم؛ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَا لي وَلَهُم يَسألُونَ عما لا أعلمُ، إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي "، ثم قال: " أَبغني وضوءًا أتوضأ به "، فتوضأ، ثم قام إلى مسجد في بيته، فركع فيه ركعتين، فما انصرف حتى بدا لي الشرور في وجهه، ثم قال لي: " اذهب فأدخلهم ومن وجدت بالباب من أصحابي "، فأدخلهم فلما رآهم النبي قال لهم: " إن شئتم أخبرتكم كما تجدونه في كتابكم "؛ فهذا إن ثبت يدل أنه نزل عليه نبأ ذي القرنين وخبره قبل أن يسأل. وأما أهل التأويل قالوا جميعًا: إنه سئل قبل أن ينزل عليه خبره، ثم نزل من بعد السؤال، واللَّه أعلم. ثم اختلف فيه: قال الحسن: كان نبيَّا، دليله: ما قال: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)؛ قال: هذا تحكيم من اللَّه إياه فيما ذكر، ولا يولي الحكم إلا من كان نبيًّا. وأما علي بن أبي طالب فإنه سُئل عن ذلك: كان نبيا أو ملكًا؟ فقال: لا واحد منهما. وقال غير هَؤُلَاءِ: إنه كان ملكا؛ يدل على ذلك الخبر الذي روى عقبة بن عامر الجهني: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن خبره وبنائه، قال: فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كان غلامًا من الروم أعطي ملكا فسار حتى بلغ كذا. . . "، على ما ذكر في الخبر، والأشبه أن يكون أنه كان ملكا؛ ألا ترى أنه قال: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) أي: ملكنا له الأرض له جملة، ذكر تمكين الأرض له جملة يصنع فيها ما يشاء، لم يخص له ناحية منها دون ناحية، وليس كقوله: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا. . .) الآية. وكقوله: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ): هاهنا خص مكانا لهم دون مكان، وأما في ذي القرنين ذكر التمكين له في الأرض، لم يخص ناحية منها دون ناحية؛ فهو أن ملكه ومكنه الأرض كلها. وقول الحسن: إنه حكمه وولى له الحكم - فهذا لا يدل أنه كان نبيًّا؛ لأن الملوك هم الذين كانوا يتولون الجهاد والغزو في ذلك الزمان؛ ألا ترى إلى قوله: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ): أن الملوك هم الذين كانوا يتولون الجهاد والغزو والقتال في ذلك مع العدو فعلى ذلك هنا.

(86)

وقوله: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ)، وأما من آمن كذا: يحتمل هذا منه إلهام من اللَّه - تعالى - أو تعليم الملك الذي كان فيه، أو كان معه نبي فأخبر له بذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا). اختلف في ذلك: قَالَ بَعْضُهُمْ: علم المنازل: أي: منازل الأرض ومعالمها وآثارها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العلم والقوة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أعطاه السبب الذي به صلاح ما مكن له، وملك له مما يقع له الحاجة إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك السبب كان أنعامًا: كان عليها يحمل الخشب، فيتخذ منه سفينة إن استقبله بحر، فيعبر بها، ثم ينقضها ويحمل الخشب على الأنعام ويعبر البر على الدواب، فذلك السبب الذي ذكر. وأصله: أنه ذكر أنه أتاه السبب الذي به صلاح ما مكن له وملك عليه، ولم يبين ما ذلك السبب؛ فلا ندري ما أراد بذلك؟ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) كانه أراد وطلب أن يعرف أنها أين تغرب؟ حيث قال: (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)، وفيه لغتان: (حامية) و (حَمِئَةٍ)، قالوا من قرأها: (حامية) أراد: في عين حارة، ومن قرأ (حَمِئَةٍ) - مهموزة بغير ألف - أراد الحمأة: وهي الطينة السوداء، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا كفارا ومؤمنين الفريقان جميعًا، فقال في الكفار: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ)، وهو القتل، وقال في المؤمنين: (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا): ليس على التخيير؛ ولكن على الحكم في كل فريق على حدة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا كلهم كفارا؛ فيكون تأويل قوله: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ): إذا لم يجيبوك، (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا): إذا أجابوك وآمنوا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى (88) هذا أنه حكم بذلك بتعليم نبي أو ملك كان معه، أو حكم بذلك؛ لما كان عرف أن سنة اللَّه في الكفار القتل والإهلاك، وفي المؤمنين الترك والإحسان، أو ألهم إلهامًا

(89)

بذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا). قال الحسن: (يُسْرًا)، أي: عارفًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُسْرًا): معروفًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (اليسر): هو اسم كل خير وبركة، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) أي: بلاغا لحاجته. وقال غيره ما ذكرنا من السبب الذي به ملك طريق المغرب والمشرق وبه بلغ ما بلغ، واللَّه أعلم. ثم اختلفوا فيم سمي ذا القرنين: قَالَ بَعْضُهُمْ: سمي ذا القرنين؛ لأنه دعا قومه إلى توحيد اللَّه والإيمان به؛ فضربوه على قرنه الأيمن، ثم غاب ما شاء اللَّه، وفي بعض الأخبار مات، ثم حضر فدعاهم ثانيًا فضربوه على قرنه الأيسر؛ فبقي عليه لذلك أثر؛ فسمي لذلك ذا القرنين، لا أن كان له قرن كقرن الثور. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمي ذا القرنين؛ لأنه كان له ذؤابتان، أعني: ضفيرتان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ قرني الشمس: مغربها ومطلعها. وقَالَ بَعْضُهُمْ سمي: ذا القرنين؛ لأنه عاش حياة قرنين، واللَّه أعلم بذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ... (90) بالسبب الذي ذكر أنه أعطاه كما بلغ مغرب الشمس، (وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا). قال الحسن: إن تلك الأرض تميد وتميع، لا تقر ولا تسكن، لا تحتمل البناء والحجر؛ فإذا طلعت الشمس طلعت عليهم، لما لم يكن لهم بناء ولا ستر تهوروا في البحار فإذا ارتفعت عنهم خرجوا. وقال ابن عَبَّاسٍ: إن الشمس إذا طلعت كانت حرارتها أشد عند طلوعها من غروبها؛

(91)

قتحرق كل شيء حتى لا تبقي لهم ثوبًا ولا بناء ولا خشبًا ولا غيره إلا أحرقته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) اختلف في قوله: (كَذَلِكَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (كَذَلِكَ)، أي: كذلك أخبرنا رسول اللَّه من نبأ ذي القرنين، وخبره على ما كان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كذلك أعطينا له من السبب حتى بلغ مطلع الشمس كما بلغ مغربها بالسبب الذي ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كذلك قيل له في المطلع من قوله: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، كما قيل له في المغرب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا)، (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا)، أي: عن علم سأتلو عليكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الابتداء، ليس على الربط والصلة على الأول، أي: قد أحطنا علمنا بما لديه. (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) ما ذكرنا في بلوغه مغربها ومطلعها، أي: أعطينا له من السبب حتى بلغ بين السدَّين في بعض القراءات (السَّدَّيْنِ (93) بالنصب، فإن كان بين اللغتين فرق؛ فيشبه أن يكون (السُّدَّيْنِ) بالرفع: الجبلين اللذين كانا هنالك، و (السَّدَّيْنِ) بالنصب: هو بناء ذي القرنين، وإن لم يحتمل الفرق - فهو ما بني هو أو مكان في الخليقة. ثم اختلف في ذلك السذ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هو المنفذ الذي كان بين طرفي الجبل الذي كان محيطا بالأرض، يدخل فيه يأجوج ومأجوج إلى هذه الأرض؛ فسد ذو القرنين ذلك المنفذ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا؛ ولكن كانا جبلين: أحدهما: ستر بين يأجوج، والثاني: بين مأجوج؛ فسد ذلك، واللَّه أعلم كيف كان؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا). قال الحسن: كانوا يفقهون ما به صلاح معاشهم، وما به بقاؤهم، ولكن كانوا لا يفقهون الهدى من الضلال، والخير من الشر، ونحوه.

(94)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا): من غير كلامهم ولسانهم؛ ولكن يفقهون بلسانهم وكلامهم، وذو القرنين كان يعرف الألسن كلها؛ ففقهوا هم منه وفقه هو منهم؛ حيث (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ... (94) أي: جعلا أجرا، (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا). وقال هو: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) فهم ذو القرنين منهم، وفهموا منه أيضًا ما ذكرنا؛ فدل ذلك أنهم كانوا يفقهون بلسان غيرهم، وفي الآية دلالة أنهم لا يفقهون شيئًا قليلا من القول، وإن كانوا لا يفقهون كثيرا؛ لأنه يقول: (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ)؛ فهو يتكلم على العرف لا على النفي رأشا، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا): جعلا وأجرا؛ (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ... (95) على تأويل الحسن يكون قوله: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي) من النبوة (خَيْرٌ)؛ لأنه يقول: إنه كان نبيا؛ حيث قال له: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ). وعلى قول غيره يكون (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي): من الملك والسبب الذي أعطاني، وأبلغ به مغرب الشمس ومطلعها (خَيْرٌ) مما تذكرون. وقوله: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ، أي بما أتقوى به، (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)، أي: سدَّا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) أي: قطع الحديد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سألهم الحديد؛ لأن المكان مكان الحديد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الحديد كان ألين لهم وأطوع من اللَّبِنِ أو القطر، ولكن لا يعلم ذلك إلا بالسمع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ). أي: بلغ ذلك السد رأس الصدفين، وهما جبلان، وسوى بهما، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا). أي: أصب عليه قطرا، قيل: نحاسًا، وقيل: رصاصا، ذكر أنه كان يبسط الحديد صدرا، ثم يبسط الحطب فوقه صدرًا، ثم حديدا فوق الحطب، حتى بلغ رأس الجبلين، وسوى بهما على هذا السبيل، ثم أذيب القطر، فصب فيه، فجعل القطر يحرق الحطب، ويذيب الحديد؛ حتى دخل القطر مكان الحطب، وصار مكانه؛ فالتزق القطر بالحديد، على هذا ذكر أنه بنى ذلك السد. وقال الحسن: كأنه القطر له كالملاط لنا، واللَّه أعلم.

(97)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) أي: يعلوه، يعني: على ذلك السد وما استطاعوا له نقبا في أسفله، ولا يزاد على المذكور في الكتاب في هذه الأنباء، والقصص، خوفا للشهادة على اللَّه، والكذب عليه، ولكن نذكر مقدار ما ذكر في الكتاب، لا نزيد على ذلك، وفي الكتاب القدر الَّذِي ذكرنا، واللَّه أعلم. قَالَ الْقُتَبِيُّ: يقال للجبل: السد و (زُبَرَ): قطع، والقطر: النحاس، وقوله: (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي: يعلوه. يقال: ظهر فلان السطح إذا علاه، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ، وقال: (السَّدَّيْنِ): ناحيتي الجبل، والردم: السد، و (الصَّدَفَيْنِ): هو مثل السذين، (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)، أي: أصب عليه نحاسًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) يحتمل أنه السذ الذي بني وحال بينهم وبين لاجوج ومأجوج، فذلك منه رحمة، أي: برحمته كانت تلك الحيلولة، أو كان ذلك نعمة من اللَّه، والرحمة هي النعمة، أي: هذا السد بينكم وبينهم نعمة من ربي عليكم. ثم فيه وجهان: أحدهما: ذكر أن ذلك كان برحمة من اللَّه إذا فرغ منه، وقد كان في الابتداء حين سالوه أن يجعل لهم السذ أضاف الفعل إلى نفسه حيث قال: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) دل ذلك أن ما فعل برحمة منه وفضل، وأن له في ذلك صنعًا. والثاني: فيه أن له أن يفعل بالخلق ما ليس هو بأصلح لهم في الدِّين؛ لأنه لا يخلو إما أن كان الأول لهم أصلح في الدِّين، ثم فعل الثاني، فلا يكون الثاني أصلح لهم في الدِّين، وإذا كان الأصلح لهم في الدِّين الثاني فالأول لم يكن، ثم ذكر أن ذلك رحمة منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي)، أي: فإذا جاء الذي به كان وعد ربي وهو الموعود؛ ولأن الوعد لا يجيء فكأنه قال: موعود رتي، وهو خروج يأجوج ومأجوج، أو فتح ذلك السد (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أي: كسرا أو هدفا على ما ذكرنا، و (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أي: هدمه وسواه بالأرض. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (جَعَلَهُ دَكَّاءَ)، أي: ألصقه بالأرض. (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي: يجول بعضهم في بعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) هذا وعد والأول موعود.

(99)

قوله تعالى: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي: يجول بعضهم في بعض. ثم يحتمل قوله: (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)، عند السد الذي بناه ذو القرنين، يموجون عنده في فتح ذلك السد، أو يذكر هذا لكثرثهم وازدحامهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) ظاهره على الماضي، والمراد منه: المستقبل، أي: ينفخ في الصور فيجمعهم جمعًا، ومثل هذا كثير في القرآن يذكر الماضي بحرف المستقبل، والمستقبل بحرف الماضي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) يحتمل: أن يكون عرضها عليهم قبل أن يدخلوا فيها، كقوله: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ). ويشبه أن يكون العرض كناية عن التعذيب بها بعد ما أدخلوا فيها كقوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ... (101) قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع أن ظلمة الكفر تستر وتحجب نور القلب، ونور كل حاسّة من حواسه من السمع والبصر والفؤاد وغيره؛ إذ لكل حاسة من هذه الحواس نور وضياء في سريتها ألا تبصر ولا تسمع الحق والحجة إلا بنورين جميعًا: نور الظاهر، ونور السرية والباطن. فالكفر يستر ويغطي ذلك النور، فجعل لا يبصر الحق ولا ينظر العبر، ولا يتفكر ولا يتجلى له الحق بنور الظاهر. وللإيمان نور وضياء، يبصر به، ويسمع، ويرفع له غطاء كل شيء حتى يتجلى له الحق، ويعرف به حسن كل حسن وقبح كل قبيح، فهو كما يرى الإنسان الشيء بنور بصره وبنور الهدى، فإذا ذهب أحدهما صار بحيث لا يبصر ولا يرى شيئًا؛ فعلى ذلك إنما يعرف الشيء، ويظهر له حقيقته بنورين: بنور القلب وبنور الحواس، فإذا غطى ظلمة الكفر نور القلب، صار لا يبصر شيئًا، ولا يعتبر، ولا يسمع، ولا ينطق بالحق، والإيمان

(102)

ينور ذلك ويضيء، فجعل يبصر كل شيء، ويتجلى له الحق من الباطل، وعرفوا الآيات من التمويهات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا)، فيه وجهان من الدلالة: أحدهما: أنه نفى عنهم استطاعة السمع، وقد كان لهم السمع؛ فدل أن الاستطاعة التي هي استطاعة الفعل تقترن بالفعل، لا تتقدم ولا تتأخر. والثاني: فيه دلالة أن هنالك استطاعة، هم يستفيدون بها وعد اللَّه ويستوجبونه؛ فضتعوها باشتغالهم بغيرها حيث عوتبوا واستوجبوا ذلك العتاب والتوبيخ بالتضييع الذي كان منهم. فلو لم يكن كذلك لم يكن للعتاب والتوبيخ الذي عوتبوا ووبخوا معنى. قال قوم: إنما نفى عنهم ذلك للاستثقال الذي كان منهم. وقد يقال مثله على المجاز؛ للاستثقال دون الحقيقة، يقول الرجل لآخر: ما أستطيع أن أنظر إليك لكذا، وهو ناظر إليه، لكن قد ذكرنا: أنه على الوجه الذي قال: لا أستطيع أن أنظر إليك وهو ناظر إليه، غير مستطيع النظر إليه وهو نظر رحمة وشفقة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الطبع، وهو قول الحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما نفى ذلك عنهم؛ لما لم ينتفعوا به، كما نفى عنهم السمع والبصر والنطق؛ لما لم ينتفعوا به، ليس على أنهم لم يكن لهم تلك الحواس، فعلى ذلك ما نفى عنهم من الاستطاعة لما لم ينتفعوا بها، ليس على أنها ليست قبل، هكذا نفى عنهم ذلك لما عموا وصموا عن ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قيل فيه بوجوه: الأول: قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: أفحسب الذين عبدوا في الدنيا الملائكة والرسل واتخذوهم من دوني أولياء أن يكونوا لهم أولياء في الآخرة، ويتولون شفاعتهم يشفعون لهم وينصرون، كلا لن يصيروا لهم أولياء، كقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ) و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). والثاني: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي) المخلصين (مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ) ويتولونهم، أي: لا يقدرون على أن يتخذوا أولياء من دوني، وقد كانوا يدعون المؤمنين إلى دينهم، والتولي لهم، وهو ما قال: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ). والثالث: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أن ما عبدوا واتخذوا (مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ) أني أمرتهم

(103)

بذلك أو أذنت لهم حيث قالوا: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، ونحوه، كلا إنه ما أمرهم بذلك أو أذن لهم في ذلك. ومن قرأ: (أَفَحَسْبُ) على الجزم فهو على إسقاط ألف الاستفهام، يعني: فحسب الذين كفروا، فهو يخرج على وجوه ثلاثة: أحدها: فحسب الذين كفروا واتخذوا عبادي من دوني أولياء ما أعتدنا لهم من جهنم، كقوله: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا. . .) الآية. والثاني: أحسب الذين كفروا ما اتخذوا من دوني أولياء، أي: أما كفاهم ذلك وما حان لأن يرجعوا إلى عبادتي وألوهيتي، وقد أقمت لهم الآيات والحجج على ذلك. والثالث: حسب لهم من الذل ما اتخذوا من دوني أولياء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلًا هو النزول وهو من النزول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو المنزل والإنزال، أي: يأكلون فيها النار؛ يكون مأكلهم ومشربهم من النار. قَالَ الْقُتَبِيُّ: النزل ما يقدم للضيف ولأهل العسكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). يشبه أن يكون هذا خرج على مقابلة قول كان من رؤساء الكفرة وجواب لهم، وهو أن الرؤساء منهم كانوا يوسعون الدنيا على بعض أتباعهم ويحسنون إليهم، ثم صار أُولَئِكَ الأتباع أتباعًا لرسول اللَّه ودخلوا في دينه فضاقت عليهم الدنيا، وذهبت المنافع التي كانت لهم منهم، فعيرهم بذلك أُولَئِكَ الكفرة، ووبخوهم على ما اختاروا من الدِّين أنه لو كان حقا لاتسع عليهم في الدنيا كما اتسع علينا وعليهم ما داموا على ديننا، أو كلامًا نحو هذا، فأجابهم اللَّه بذلك، فقال: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. . .) الآية. ويحتمل: أن يكون على الابتداء في أهل الصوامع منهم والرهبان الذين اعتزلوا النساء، وحبسوا أنفسهم لعبادة الأصنام والأوثان، وجهدوها فيها، وحملوا على أنفسهم الشدائد والمشقة، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن هَؤُلَاءِ أخسرهم أعمالًا وأضلهم سعيًا من الذين طلبوا الدنيا والرياسة فيها، ولم يفعلوا ما فعل هَؤُلَاءِ وإن كانوا في الكفر سواء. والأخسر: هو الوصف بالخسران والنهاية والغاية، وجائز أن يستعمل (أفعل) في

(105)

موضع (فعل)، هذا في اللغة غير ممثنع، فيكون تأويله: قل هل ننبئكم بالخاسرين أعمالا، كقوله: اللَّهُ أَكْبَرُ، أي: كبير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (104) يحتمل وجهين: أحدهما: (ضَلَّ): أي: ذلوا لعبادتهم التي عبدوا تلك الأوثان والأصنام، وخذلوا أنفسهم بذلك، وعلى ذلك يخرج قوله: (أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). أذلوا أنفسهم في الدنيا بعبادتهم الأصنام. والثاني: (ضَلَّ سَعْيُهُمْ) الذي سعوا في الدنيا بعبادتهم الأصنام في الآخرة؛ لأنهم قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، ونحوه، فَضلَّ ما أمَّلوا في الآخرة بسعيهم في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) وهم يحسبون بعبادتهم الأصنام التي عبدوها أنهم يحسنون بما أنفقوا على أُولَئِكَ ووسعوا أنهم يحسنون صنعًا، أي: خيرًا أو معروفا، أي: ليس لهم ذلك بصنع للخير، وفيه دلالة أنهم يؤاخذون بفعلهم الذي فعلوا، وإن جهلوا الحق، وهكذا قولنا: إن من فعل فعلًا وهو جاهل، فإنه يؤاخذ به بعد أن يكون له سبيل الوصول إلى الحق بالطلب أو بالتعلم، حيث هم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. ثم أخبر من هم؟ فقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ... (105) حججه وبراهينه. وقال الحسن: دينه، وقد ذكرنا ذلك في غير موضع. وقوله: (وَلِقَائِهِ) البعث أو المصير إليه، وهو مذكور أيضًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا). أي: لا نقيم لهم وزنًا، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)، فإذا لم تربح لهم كانت حسرات عليهم. وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) هذا يدل أن قوله: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)، قد يقام عليهم الوزن. ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن جزائهم؛ فقال: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)

(107)

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) ثم ذكر للمؤمنين من الثواب والجزاء بأعمالهم التي عملوها في الدنيا، واختاروا فيها مقابل ما ذكر للكفرة؛ فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا). كأن الجنان التي وعد للمؤمين أربعة: جنات النعيم، وجنات المأوى، وجنات عدن، وجنات الفردوس، ثم كان في كل واحدة منها - أعني الجنان - فيها معنى الأخرى؛ لأنه قال: (جَنَّاتُ الْمَأْوَى)، وهو ما يؤوى إليه، و (جَنَّاتُ النَّعِيمِ) ظاهر، و (جَنَّاتُ عَدْنٍ)، من المقام أو غيره، و (الْفِرْدَوْسِ) سميت فردوسًا؛ لأنها تكون ملتفة محفوفة بالأشجار، ففي كل واحدة منها ذلك كله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُزُلًا) وقيل: منزلًا من النزول. وقيل: من النزل وهو من الأنزال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) أي: تحولًا، أخبر أنهم لا يملون ولا يسأمون عن نعيمها، كما يمل أهل الدنيا عن نعيمها ويسأمون؛ لأن المسرور بها يمل عن نعمة، ويرغب في أخرى، فأخبر أن أهل الجنة لا يملون فيها، ولا يسأمون، ولهم فيها ما يشتهون، ولهم فيها ما يتخيرون. وروي أن ابن عَبَّاسٍ سأل كعبًا عن الفردوس؛ فقال: هي جنات الأعناب بالسريانية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما ذكرنا أنها سميت: فردوسًا، لكثرة أشجارها والتفافها. وروي عن عبادة بن الصامت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة من فوقها يكون الفردوس، منها يتفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم اللَّه الجنة فاسألوه الفردوس ". وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) أي: تحولًا، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من

(109)

التحول، وقال: (نُزُلًا)، قال: هذا من الطعام والشراب، وجمع النزل: أنزال، وجمع الفردوس: فراديس. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: النزل: ما يقدم للضيف، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) يشبه أن يكون هذا خرج مقابل قوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وقوله: (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ)، وجوابًا لما ذكر فيه تبيانًا لكل شيء، وتفصيل كل شيء، فقالوا: كيف يحتمل هذا المقدار أن يكون فيه تبيان كل شيء وتفصيل كل شيء؟ فقال - عَزَّ وَجَلَّ - عند ذلك جوابًا لقولهم: إنه لو بسط ما أودع فيه من نحو المعاني والحكمة، وشرح ذلك فكتب بما ذكر لبلغ القدر الذي ذكر وازداد. وقال الحسن: قوله: (لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي) أي: لخلق ربي، أي: لو قال ما خلق وأملى: أني خلقت كذا، وخلقت كذا، فيكتب جميع ما خلق، لبلغ القدر الذي ذكر. ويرجع تأويله إلى ما خلق من أصناف الخلق وأجناس الأشخاص. وقال أبو بكر الأصم: قوله: (لِكَلِمَاتِ رَبِّي) لبيان ما خلق ربي، فهو يرجع إلى الأول، وقال: فائدة ما ذكر هو أن يعرفوا أن خلائقه وما أنشأ، لَمِمَّا يخرج عن الوقوع في الأوهام، فالذي أنشأ ذلك وخلقه أحرى أن يكون خارجًا عن الوقوع في الأوهام والتصور فيها. والثاني: يعرفوا قدرته وسلطانه، وإحاطة علمه بالخلائق، وما أنشأ فيعلموا: أن من قدر على هذا فهو على البعث الذي أنكروا أقدر، ومن أحاط علمه بما ذكر فهو على الإحاطة بأفعالهم وأقوالهم أعلم وأعرف؛ ليكونوا على الحذر أبدًا في كل وقت. ثم يحتمل قوله: (لِكَلِمَاتِ رَبِّي) حججه وآياته التي أقامها على وحدانيته وربوبيته، أي: لو كتب ذلك لبلغ ذلك الذي ذكر. وإن كان المراد من الكلمات: القرآن، فالتأويل ما ذكرنا بدءا: أنه كان خرج على الجواب والمقابلة لقول كان منهم، وهو ما قاله الحسن وأبو بكر إن كان كلماته خلقه أو البيان عن خلقه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا):

(110)

هذا ليس على التحديد، ولكن على التعظيم والإبلاغ، وهو ما قال: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) دل هذا على أن قوله: (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)، أن ليس لذلك المدد حد ولا نهاية؛ ولكن ذكر على التعظيم له والإبلاع. وفيه دلالة أن ليس لما خلق اللَّه من العلوم نهاية ولا غاية يدركها الخلائق، ولكن يؤخذ من كل جنس شيء، فيعمل به. وفيه أن ليس الأمر بتعلم العلم، والمقصود منه العلم نفسه، ولكن المقصود منه العمل بما يعلم؛ إذ ليس للعلوم نهاية ولا يبلغِ ذلك البشر، فدل أنه كما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) أمره أن يخبرهم أنه بشر مثلهم، ثم يكون لذلك الأمر وإخباره إياهم أنه بشر مثلهم، وجوه من المعنى: أحدها: أنهم كانوا يسألونه آيات خارجة عن وسع البشر وطوقهم، فأمره أن يخبرهم أنه بشر مثلهم، لا يقدر على ما يسألونه من الآيات التي تخرج عن وسع البشر وطوقهم، وليس لأحد التحكم على اللَّه، والتخير عليه في شيء، إنما ذلك إلى اللَّه إن شاء أنزل وإن شاء لم ينزل، وأنا لا أملك شيئًا من ذلك. والثاني: ذكر هذا ليعرفوا أنه إذا جاء من الآيات التي لا يحتمل وسع البشر أن يأتوا بمثلها، أنه إنما أتى بذلك من عند اللَّه لا من ذات نفسه؛ إذ علموا أن وسع البشر لا يحتمل ذلك، فلما أتاهم بذلك إنما أتى بها من عند اللَّه وأنه رسول على ما يقول. والثالث: أمره أن يقول لهم هذا: إنه بشر مثلهم؛ لئلا يحملهم فرط حبِّهم على أن يتخذوه إلهًا ربًّا على ما اتخذ قوم عيسى عيسى إلهًا ربًّا؛ لفرط حبِّهم إياه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ) فإن كانت الآية في مشركي العرب - فهم ينكرون البعث ولا يرجونه لكنه يكون ذكر لقاء ربه لهم؛ لأنهم عرفوا في أنفسهم قديم إحسان اللَّه إليهم ونعمه عليهم، فأمروا أن يعملوا العمل الصالح ليستديموا بذلك الإحسان الذي كان من اللَّه إليهم، فيحملهم العمل على التوحيد باللَّه والإقرار بالبعث. وإن كانت الآية في المؤمنين، فيكون تأويله؛ (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ)، أي: ثواب ربه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) ليثاب عليه؛ إذ الثواب إنما يكون للعمل الصالح دون غيره، وفيه ما ذكرنا أن المقصود من العلم العمل الصالح، والعلم مما ليس له نهاية فالأمر بطلب ما لا نهاية له ليس لنفسه ولكن للعمل به، واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)، يحتمل: حقيقة الإشراك في العبادة والألوهية، على ما أشرك أُولَئِكَ: أشركوا الأصنام والأوثان التي عبدوها في عبادته وألوهيته، ويحتمل: المراءاة في العمل الصالح، على ما يرائي بعض أهل التوحيد في بعض ما يعملون من الطاعة والخيرات، واللَّه أعلم بالصواب. وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. * * *

سورة مريم

سُورَةُ مَرْيَمَ وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) قوله: (كهيعص). قيل: اسم من أسماء القرآن. وقيل: اسم من أسماء اللَّه تعالى، وعلى ذلك رُويَ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا كهيعص، اغفر لي. قال أبو بكر الأصم: لا يصح هذا من علي؛ لأن هذا لم يذكر في أسمائه المعروفة التي يدعى بها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حروف من أسماء اللَّه افتتح بها السورة فهو ما ذكرنا، وهو الأول، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكاف مفتاح اسمه كافٍ، والهاء مفتاح اسمه هادٍ، والعين مفتاح اسمه عالم، والصاد مفتاح اسمه صادق. وقال ابن عَبَّاسٍ: الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق. وقال الربيع بن أنس: الياء من قوله: (وَهُوَ يجُيرُ وَلَا يُجَارُ عَليهِ) . وقال الكلبي: هو ثناء أئنى اللَّه على نفسه؛ فقال: كافٍ هادٍ عالمٍ صادقٍ، يقول: كافٍ لخلقه، هادٍ لعباده، عالم ببريتَّه وبأمره، صادق في قوله.

(2)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم ينزل اللَّه كتابًا إلا وله فيه سر لا يعلمه إلا اللَّه، وسر القرآن فواتحه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تفسيره ما ذكر على أثره، وهو قول الحسن، وأمثال هذا قد أكثروا فيه، وقد ذكرنا الوجه في الحروف المقطعة فيما تقدم في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: على الأمر، أي: اذكر لهم رحمة ربك عبده زكريا بالإجابة له عند سؤاله الولد في الوقت الذي أيس عن الولد في ذلك الوقت؛ فيكون فيه دلالة رسالته، حيث ذكر لهم رحمة ربه على زكريا، وأخبرهم على ما في كتبهم. والثاني: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ): هذا ذكر رحمة ربك لعبده زكريا في دعائه، وعلى هذا التأويل يكون الذكر هو القرآن، وقد سمى اللَّه القرآن: ذكرًا في غير آي من القرآن، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ بَعْضُهُمْ: نداءً خفيًّا في قلبه على الإخلاص من غير أن ينطق به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نداءً خفيًّا عن قومه ومن حضره. ثم يحتمل وجهين: أحدهما: أخفاه وأسره منهم إخلاصًا لله وإصفاء له. والثاني: أخفاه وأسره منهم حياء أن يعيبوه أن سأل ربه الولد في وقت كبره وإياسه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ... (4) أي: ضعف ورق (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا): اعتذر إليه، وقدم زكريا ما حل به من الكبر وبلوغه الوقت الذي لا يطمع في ذلك الوقت الولد، أي: بلغت المبلغ الذي ضعف بدني، ورق عظمي، ثم سأل ربه الولد ليس على أنه كان لا يعرف قدرة اللَّه أنه قادر على هبة الولد، وإنشائه في كل وقت في وقت الكبر والضعف، وبالسبب وبغير السبب؛ لكنه لأنه يعرف أنه لا يسع ويصلح سؤال الولد وهبته - في الوقت الذي كان بلغ هو، وهو الوقت الذي لا يطمع فيه الولد في الأغلب، وهو ما ذكر في سورة آل عمران: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، فعند ذلك عرف زكريا أنه يسعه دعاء هبته الولد وسؤاله في وقت الإياس، حيث رأى عند مريم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء غير متغيرة عن حالها، فسأل عند ذلك ربه الولد، وهو قوله: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً. . .) الآية، واللَّه أعلم.

(5)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: كنت تعودني الإجابة في دعائي إياك فيما مضى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لم يكن دعائي مما يخيب عندك، وهما واحد، ذكر مننه وفضله الذي كان منه إليه. وقود - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ... (5) قال الحسن: خاف مواليه أن يرثوا ماله، فأما علمه ونبوته فمما لا يورث. قال أبو بكر الأصم: هذا لا يصح، لا يحتمل أن يخاف زكريا وراثة ماله مواليه؛ فيسأل ربه لذلك الولد ليرثه ماله، ولكن خاف أن يُضَيعَ مواليه دينه وسننه من بعده؛ فسأل ربه أن يهب له الولد ليقوم مقامه في حفظ دينه وسننه. وقال: لا يحتمل وراثة المال؛ لما روي في الخبر: " إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة "، فلا يخلو هذا من أحد وجهين: إما أن كان هذا في المال له خاصة دون سائر الأنبياء، وإما إذَنْ لم يكن زكريا نبيا فدل هذا أنه لا يحتمل وراثة المال فدل أنه على العلم: أن يضيع الموالي علمي من ورائي. ويحتمل قوله: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي)، وسؤاله الولد وجهًا آخر، وهو أنه سأل ربه الولد الرضي الطيب؛ ليذكر هو به بعد وفاته بالأعمال والصنيع الذي كان منه في حياته، وُيدْعَى له، لئلا ينقطع ذكره، ودعاء الخلق له، وهذا هو المعروف في الخلق أنهم يذكرون ويدعون لهم بالخيرات التي كانت في حال حياتهم، إذا كان له ولد صالح فعلى ذلك سؤال زكريا الولد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) أي: لا تلد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي) أي: يلي أمري. وقوله: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) قال بعض أهل التأويل: ما ذكرنا: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، وقيل: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) وارثًا يرثني مكاني، ونبوتي، ويرث من آل يعقوب الملك؛ لأنهم كانوا ملوكًا، وكانوا أخواله، وهو كان حَثرًا، واللَّه أعلم بذلك. ولكن قوله: (يَرِثُنِي) ما كان له من العلم والحكمة والذين وغيره، ويرث من آل يعقوب ما كان لهم من العلوم وغيرها، فإن ثبت أن آل يعقوب كانوا أخواله، ففيه دلالة أن ذوي الأرحام يرثون بعضهم من بعض، واللَّه أعلم.

(7)

قوله تعالى: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)، أي: لم نجعل له مثل يَحْيَى من قبل في الفضل والمنزلة؛ لأنه روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لم يكن من ولد آدم إلا وقد عمل بخطيئة أو همَّ بها غير يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا؛ فإنه لم يهم بخطيئة ولا عمل بها ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي: لم يسم أحد قبله يَحْيَى. وجائز أن يكون قوله: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)، أي: يتولى اللَّه تسميته يَحْيَى، لم يول تسميته غيره، وسائر الخلق تولى أهلوهم تسميتهم. وقوله: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قال الحسن: إن زكريا استوهب ربه الولد، فأجابه وبَشره، فقال: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ)، وطلب منه الآية لذلك، فقال: (اجْعَلْ لِي آيَةً)، فماى به على ذلك، ولا وبَّخه، ولكن رحمه، أو كلام نحو هذا. وقال غيره: إنما أمسك لسانه واعتقله عقوبة لما سأل من الآية، هَؤُلَاءِ كلهم يجعلون ذلك منه زلة منه، إلا أن الحسن قال: لم يعبه على ذلك، ولا عاقبه عليه، ولكن ذكر ذلك رحمة منه إليه، وغيره يجعل ذلك عقوبة لما كان منه. وجائز أن يخرج ذلك على غير ما قالوا، وهو أن قوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) أي: على أي حال يكون مني الولد، على الحال التي أنا عليها، أو أُردّ إلى شبابي، ففي تلك الحال

(9)

يكون مني الولد، فذلك منه استخبار واستعلام عن الحال الذي يكون منه الولد، ليس على أنه لم يعرف أنه قادر على إنشاء الولد في حال الكبر، وبسبب وبلا سبب، وعلى ذلك يخرج قوله حيث قال كذلك: (قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)، أي: قبل أن نخلقك لم تك شيئًا. وطلب الآية والعلامة بعدما بشر يخرج على وجهين: أحدهما: أنه لما بشر بالولد لعله أشكل عليه بأن تلك بشارة ملك أو غيره، فطلب منه العلامة ليعرف أن تلك بشارة ملك، وأنها من اللَّه أو غيره لأنه ذكر في الآية: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى)، فطلب الآية يخرج منه على استعلام بشارة الملك، وأن ذلك من اللَّه لا أنه لم يعرف قدرة اللَّه أنه قادر على خلقه في كل حال، هذا لا يظن بأضعف مؤمن في الدنيا فكيف يظن بنبيّ من الأنبياء؟! أو أن يكون طلب الآية منه ليعرف وقت حملها الولد، ووقت وقوعه في الرحم؛ ليسبق له السرور بحمله عن وقت الولادة، وعن وقت وقوع بصره عليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَيَّ هَيِّنٌ (9)، لأني أخلق بسبب، وبغير سبب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) قَالَ بَعْضُهُمْ: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال، وأنت سَوِئ صحيح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)، أي: ثلاثًا تامات بأيامها على ما قاله في آية أخرى: (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا)، ذكر هاهنا ثلاث ليال وفي تلك الآية ثلاثة أيام والقصة واحدة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) قوله: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ)، قيل: أومأ إليهم. وقيل: كتب لهم على الأرض. وجائز أن يكون أوحى إليهم بالشفتين على ما ذكر في آية أخرى: (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) والرمز: هو تحريك الشفة والإيماء بها.

(12)

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: عاقر وعقيم: المرأة التي لا تلد، وقوله: (عِتِيًّا) قال: هو أشد الكبر شيبًا، أي: كبر الشيب. والمحراب، قال: إن شئت قصرًا ودارًا، وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (عِتِيًّا)، أي: يبسًا، ويقال: عِتِيًّا و [عُتِيًّا]، بمعنى واحد، ويقال: ملك عاتٍ، إذا كان قاسي القلب غير لين. وسويًّا أي: سليمًا. وقوله: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ)، قد ذكرنا أنه أومأ إليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كتب لهم على الأرض. وقوله: (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا). يحتمل قوله: (أَنْ سَبِّحُوا)، أي: صلوا لله بكرة وعشيًّا، فإن كان التسبيح هو الصلاة، ففيه أن الصلاة كانت في الأمم الماضية في ختام الليل. ويحتمل التسبيح نفسه والثناء على اللَّه، والدعاء له بالغدوات والعشيات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) قَالَ بَعْضُهُمْ: خذ الكتاب بما قواك اللَّه وأعانك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خذ الكتاب واصبر على العمل بما فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خذ الكتاب بقوة، أي: بجدٍّ. قال أبو بكر الأصم: الجد: هو الانكماش في العمل، والقوة هي احتمال ما حمل عليه. وفيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون بأن القوة تتقدم الفعل، ثم لا تبقى وقتين، فيكون على قولهم آخذا بغير قوة، وقد أمره أن يأخذه بقوة، فقولهم على خلاف ما نطق به ظاهر الكتاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (الْحُكْمَ)، أي: النبوة حال صباه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: آتاه اللَّه الفهم واللبَّ.

(13)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة والعلم. فكيفما كان ففيه فساد مذهب المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه تعالى لا يخص أحدًا بنبوة، ولا شيء من الخيرات إلا بعد أن يسبق من المختص له ما يستوجب ذلك الاختصاص، ويستحقه، فما الذي كان من يَحْيَى في حال صباه وطفوليته ما يستوجب به النبوة، وما ذكر من الحكم أنه آتاه، فدل ذلك أن الاختصاص منه - يكون لمن كان - إفضالا منه وإنعامًا ورحمة، لا باستحقاق من المختص له واستيجابه. وفي قوله: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) دلالة أنه كان نبيَّا حيث كان أخبر أنه آتاه الكتاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ... (13) هو على قوله: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وآتيناه حنانا وزكاة أيضًا. ثم اختلف في قوله: (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا): قال ابن عَبَّاسٍ: تعطفًا من لدنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: رحمة من لدنا، وهو قول الحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحنان: المحبة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: حنانك وحنانيك كلاهما يعني: رحمتك، وقال: أصله من التحنن، وهو الترحم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أصله من حنين الناقة على ولدها. وقوله: (وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا). قَالَ بَعْضُهُمْ: زكاة، أي: صدقة تصدق بها على زكريا وزوجته في الوقت الذي لا يرجو فيه مثلهما الولد.

(14)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: زكاة، أي: صلاحًا وما ينمو به من الخيرات. وجائز أن يكون الزكاة اسم كل خير وبركة، وهو كالبر من التقوى، كأنه قال: أعطيناه كل بر وخير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ تَقِيًّا) عن جميع الشرور، كقوله: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)، أي: تعاونوا على البرّ وتعاونوا أيضا على دفع الشرور. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ ... (14) هو على قوله: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي: وآتيناه البرّ بوالديه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا). بل كان خاضعًا لله ذليلًا مطيعًا. وقال الحسن: (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)، أي: لم يكن فيمن يجبر الناس على معصية اللَّه. وقال أهل التأويل: (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا) أي: قَتَّالًا، أي: لم يكن ممن يقتل على الغضب ويضرب على الغضب. وأصله ما ذكرنا: أنه كان - على ضد ما ذكر - خاضعًا لله، مطيعًا له، على ما ذكر أنه لم يرتكب ذنبًا ولا همَّ به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) يحتمل: (السلام عليه) الوجوه الثلاثة: أحدها: هو اسم كل بر وخير، أي: عليه كل بر وخير في هذه الأحوال التي ذكر. والثاني: (السلام) هو الثناء، أثنى اللَّه عليه في أوّل أمره إلى آخره، وبعد الموت في الآخرة، أو أن يكون قوله: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ) أي: السلامة عليه في هذه الأحوال التي يكون للشيطان في تلك الأحوال الاعتراض والنزغ فيها؛ لأنه وقت الولادة يعترض ويفسد الولد إن وجد السبيل إليه، وكذلك عند الموت يعترض ويسعى في إفساد أمره فأخبر أن يحيى كان سليمًا سالمًا عن نزغات الشيطان، محفوظًا عنه حتى لم يرتكب خطيئة، ولا هم بها، واللَّه أعلم. وفي قوله: (وَيَوْمَ يَمُوتُ) دلالة أن الموت والقتل سواء، وإن كان في الحقيقة مختلفًا؛ لأنه ذكر في القصة أن يحيى قتل، ثم ذكر الموت، فدل أنهما واحد، فهذا يرد على

(16)

المعتزلة، حيث قالوا: إن المقتول ميت قبل أجله، وفيه أن قوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ)، إنما نهانا أن نسميهم أمواتًا في جهة ليس في الجهات كلها، حيث سمى يَحْيَى: ميتًا، وهو كان شهيدًا على ما ذكر أنه قتل. وفي قوله: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) استدلال لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - حيث وقف في أولاد المسلمين والمشركين، فقال: لا علم لي بهم، ولم يقطع فيهم القول؛ لما يجوز أن يجعل اللَّه لهم من المنزلة والتمييز والفهم في حال صغرهم حتى يعرفوا خالقهم ومنشئهم، على ما أعطى يَحْيَى وعيسى في حال صباهما وصغرهما الحكم والفهم والمعرفة. * * * قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ). قال الحسن: هو صلة قوله: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) أي: اذكر رحمة ربك مريم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: واذكر نبأ مريم وقصتها في الكتاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا)، أي: نحو المشرق. ثم يحتمل قوله: (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا) إذا بلغت مبلغ النساء فارقت أهلها، وانتبذت منهم؛ لئلا يقع بصر غير ذي الرحم المحرم عليها، وألا يراها أحد، ولا يصلح النظر إليها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَكَانًا شَرْقِيًّا) أي: جلست في المشرقة؛ لأنه كان في الشتاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَ بَعْضُهُمْ: احتجبت من دونهم بالغيبة عنهم.

(18)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أخذت من دونهم حجابًا، أي: سترًا. وقال مقاتل: اتخذت من دونهم الجبل حجابًا وسترًا، أي: جعلت الجبل بينها وبين أهلها، فلم يرها أحد منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا): قال أبي بن كعب: هو روح عيسى، أرسله اللَّه إلى مريم في صورة بشر، (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا). وقال غيره من أهل التأويل: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا): جبريل، وقد سمى الله جبريل: روحًا في غير آي من القرآن: (رُوحُ الْقُدُسِ)، وغيره. (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) أي: لم يكن به أثر غير البشر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بَشَرًا سَوِيًّا) لا عيب فيه ولا نقصان، بل كان سو، لا صحيحًا كاملًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) فَإِنْ قِيلَ: كيف تعوذت بالرحمن إن كان تقيًّا، وإنَّمَا يتعوذ بالرحمن من الفاجر والفاسق؟ قال الحسن؛ قوله: (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) مفصول من قوله: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ)، فيكون على الابتداء، كأنها قالت: (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) لا ينالني منك سوء ولا يمسني شر. ويحتمل قوله: (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي: ما كنت تقيا، أي: حيث دخلت عليَّ من غير استئذان منك ولا استئمار ما كنت تَقِيًّا، ويحتمل قوله: (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي: وقد كنت تقيًّا، فعلى هذا التأويل كأنه دخل عليها على صورة بشر عرفته بالتقى والصلاح، فكأنها قالت: قد كنت عرفتك بالتقى والصلاح فكيف دخلت عليَّ بلا إذن ولا أمر؟! وقد يجوز أن يستعمل (إن) مكان (ما) ومكان (قد)، وهو في القرآن كثير، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) هو على

(20)

الإضمار، كأنه قال: (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) بالقول بأن أهب لك غلامًا زَكِيًّا، أي: أرسلني إليك بهذا القول وهو قوله: (لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا). وفي حرف ابن مسعود: (إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلامًا زَكِيًّا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (زَكِيًّا) أي: صالحًا، طاهرًا عن جميع الشرور. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) أي: قالت: لم يمسسنى بشر، يعلم أنه لم يمسها بشر لا تقي ولا غيره، لكن كأنها قالت: لم يمسسني بشر نكاحا ولم أك بغيًّا، فمن أين يكون لي ولد؟ كأنها لم تعرف الولد إلا بسبب؛ لذلك قالت: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ... (21) أي: أخلق بسبب وبلا سبب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي: خلق الشيء بسبب وبغير سبب هَيِّنٌ عَلَيَّ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ) للأنبياء الذين كانوا من قبل: إنه يخلق ولدًا بلا أب ولا أم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ)، أي: نجعل ولادته بلا أب على ما أخبر الأنبياء من قبل - آية للناس لرسالتهم؛ لأنهم أخبروا أنه يولد ولد بلا أب ولا أم، فكان ما أخبروا، فدل ذلك أنهم إنما عرفوا ذلك باللَّه؛ فيكون ذلك آية لصدقهم، ويكون قوله: (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) أي: ذلك الخبر الذي أخبر الأنبياء من قبل، والوعد الذي وعد لهم أمرًا مقضيا كائنا. وقال أهل التأويل في قوله: (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ)، أي: نجعل عيسى آية للناس حيث ولد بلا أب، وكلم الناس في المهد، وغير ذلك من الآيات التي كانت فيه. وجائز أن يكون آية للناس للبعث؛ لأنه أنشأه بلا أب ولا سبب، وهم إنما أنكروا البعث لما لم يعاينوا الولد بغير أب أيضًا ثم كان، فعلى ذلك البعث؛ إذ لا فرق بينهما؛ لأن من قدر على إنشاء الولد بلا أب ولا أم قدر على الإحياء بعد الموت، بل هو أولى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَحْمَةً مِنَّا) أي: رحمة منا للخلق؛ لأن من اهتدى واتبعه كان له به نجاة، وهو ما قال اللَّه تعالى لرسوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وعلى ذلك جميع الأنبياء والرسل الذين بعثهم اللَّه إلى خلقه كان ذلك رحمة منه إلى خلقه.

(22)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) أي: كان أمره كائنا، وعلى التأويل الذي ذكره أبو بكر الأصم في قوله: (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) يكون قوله: (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) أي: كان وعدًا وخبرًا معلومًا على ما أخبر الأنبياء عن نبأ عيسى وأمه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) دلَّ هذا على أن الولاد لم يكن على إثر الحمل، ولكن كان بين الولاد وبين الحمل وقت، لكن لا يُعلم كم ذلك الوقت إلا بخبر عن اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا). قَالَ بَعْضُهُمْ: تباعدت به؛ حياء من أهلها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: انفردت به مكانا قصيًّا متباعدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) قَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ) أي: جاء بها، من المجيء، وألجأها إليها، يقول: جاءت بي الحاجة إليك، وأجاءتني الحاجة. والمخاض: هو الحمل. ودل قوله: (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) أن النخلة التي ألجأها المخاض إليها كانت يابسة، على ما قاله أهل التأويل؛ لأنه إنما انتبذت مكانًا قصيًّا وتباعدت حياء من أهلها، فلو كانت تلك النخلة رطبة ذات ثمار، لكان الناس يأوون إليها ويقيمون عندها، فلا يحتمل أن تأوي إليها مريم وعندها يأوي الناس، ثم التجاؤها إلى النخلة لتتساند إليها وتستعين بها على ما تقع الحاجة للنساء وقت الولادة إلى شيء يستعن به عما ينزل بهن من الشدة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا). يحتمل أن يكون (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)، أي: وكنت غير معروفة. ويحتمل أن يكون - على ما ذكر - (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا): لا أذكر بعد الموت بذلك، لأنه ذكر أنها كانت من أهل شرف وكرم، ومن أهل بيت النبوة، فتمنت أن تكون غير معروفة؛ لئلا تذكر بسوء بعدها ولا بقذف.

(24)

وقال أهل التأويل: (وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) أي: حيضة ملقاة، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: النسي: الحيض. قال أبو بكر الأصم: لا يحتمل هذا؛ لأنها قد عرفت قدرها عند اللَّه، فلا يحتمل أن تتمنى ما ذكر، لكن الإنسان ربما يتمنى الأمر العظيم إذا اشتد به الأمر، نحو ما يتمنى الموت في بعض الوقت لعظم ما يحل به، فعلى ذلك غير منكر هذا من مريم أن تتمنى ما ذكر أهل التأويل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ... (24) و [(مَنْ تَحْتَهَا)] اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ناداها ملك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ناداها ابنها عيسى. قال أبو بكر الأصم: لا يحتمل أن يكون الذي ناداها ملكًا؛ لأنه قال: (مِنْ تَحْتِهَا)، ولو كان ملكًا لناداها من فوقها، لكن هذا ليس بشيء؛ لأن الملك إنما ينادي من حيث يؤمر، من تحت ومن فوق. وقال بعض أهل التأويل: ناداها جبريل من تحت الوادي: (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا). والأشبه أن يكون ابنها عيسى؛ لأنها كانت تحزن أن تشتم وتقذف به، فعيسى إذا تكلم وصار بذلك المحل تسر هي بذلك، لما تعلم أنه ينفي عنها بعض ما طعنت به وقذفت. ويحتمل حزنها من وجه آخر: وهو أنها كانت حزنت خوفًا على نفسها وعلى ولدها؛ لأنها أقامت في مكان لا ماء فيه ولا طعام، فخافت على نفسها وولدها الهلاك، فحزنت لذلك فبشرت حيث قال لها: (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا): أمَّنها عن الخوف الذي كان. ثم السري: قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: هو الجدول، وهو النهر الصغير.

(25)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فيه دلالة لزوم الكسب؛ لأنه أمر مريم أن تهز النخلة ليتساقط عليها الرطب، ولو شاء لسقط من غير فعل يكون منها؛ لتجتني هي، وذلك عليها أهون وأيسر؛ على ما كان رزقها عندما كانت مؤنتها على زكريا. وفيه دلالة ألا يسع للمرء المسألة ما دام به أدنى قوة يقدر على قُوتِه. وفيه دليل أن زكريا كان أفضل منها وأكبر منزلة عند اللَّه حيث رزقها عندما كانت في عيال زكريا من غير تكلف كان من زكريا ولا مؤنة، فلما فارقت زكريا أمرها بالكسب. وفيه دلالة: أن الآيات التي تكون للأنبياء يجوز أن يجريها على غير أيدي الأنبياء، حيث جعل لمريم نخلة يابسة رطبة تثمر رطبًا، وحيث جعل من تحتها سَرِيًّا، أي: نهرًا جاريًا، وحيث رزقها عندما كانت في عيال زكريا من غير تكلف أحد، فذلك يشبه آيات الأنبياء والرسل ويقاربها. وهذه المحن التي امتحن بها مريم في الظاهر عظيمة عند الناس، وفي الباطن من أعظم كراماته إليها: أنه أخبر أنه - تعالى - اصطفاها على نساء العالمين بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، وسماها: صديقة بقوله: (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ)، وذلك لا يسمى إلا من بلغ من البشر في الصدق والصبر له غاية، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) أي: من تحت النخلة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) أي: كلي الرطب الذي يتساقط عليك، واشربي من السرى الذي جعل تحتك. (وَقَرِّي عَيْنًا) أي: وارضي مكان ما حزنت عليه وخفت على نفسك وعلى ولدك، أو طيبي نفسًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) أي: صمتًا وسكونًا، وكذلك روى في بعض الحروف، وهو في حرف أبي، وقال: ثم قوله: (فَقُولي) ليس على القول نفسه، ولكنه إشارة، أشارت إليهم: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) فإن كان على هذا، ففيه دلالة أن الإشارة إذا كانت بحالة مُفْهِمَةٍ المراد تعمل عمل القول نفسه والكلام؛ ولذلك وقع الطلاق بالإشارة والنكاح، وكل عقد من الأخرس وغيره إذا كانت الإشارة مفهومة معقولة.

(27)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَقُولِي) هو على حقيقة القول، أي: أمرت أن تقولي: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا)، فكان نذرها الصوم للرحمن بعد هذا القول، وإلى هذا يذهب الحسن. * * * قوله تعالى: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ) أي: بعيسى قومها تحمله: (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا). قال أبو بكر الأصم: لقد فريت عظيمًا من الأمر، لكنه يخرج تأويل فريت من التقدير، يقال: فري، أي: قدر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لقد افتريت عظيمًا، وهو قذف صريح بالزنى، كقوله: (يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (شَيْئًا فَرِيًّا) كل قائم عجب، أو من عمل فهو فري، وهو هاهنا عجب فري، وهذا أقرب؛ إذ لا يجوز أن يحمل كلامهم على تصريح القذف وثم لتعريض القذف مساغ ووجه، واللَّه أعلم. وقوله: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) قَالَ بَعْضُهُمْ: كانت أخت هارون بن عمران أخي موسى، وعلى ذلك روى خبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإن ثبت فهو هو.

(30)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن كان لها أخ من أبيها يقال له: [هارون بن ماثان]؛ لذلك نسبوها إليه فقالوا: (يَا أُخْتَ هَارُونَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن هارون كان رجلًا صالحًا ناسكًا فيهم، فشبهوها به ونسبوها إليه؛ لصلاحها ونسكها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن بني إسرائيل تسمي كل صالح: هارون؛ حبًّا لهارون؛ لذلك سموها ونسبوها إلى هارون، لنسكها وصلاحها. وقوله - عَزَّ وَجَلََّ: (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي: ما كان أبوك ما ذكر ولا أمك ولا أنت، فمن أين كان لك هذا؟! هذا تعريض من الكلام: ليس بتصريح، فهو ما ذكرنا: أنهم قالوا ذلك على التعجب وليس على تصريح الفرية والقذف لها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ ... (30) أي: آتاني علم الكتاب، ولا نفسر أي كتاب هو: الإنجيل أو التوراة أو غيره؟ لأنه قال في آية أخرى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ)، فذكر الكتاب وذكر معه التوراة والإنجيل فهذا يدل أن الكتاب غير التوراة والإنجيل. وقوله: (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ (31) هذا يدل أنه قد تكلم بعد هذه الكلمات، وليس كما قال أهل التأويل: إنه تكلم بهَؤُلَاءِ، ثم لم يتكلم بعد ذلك إلى أن بلغ المبلغ الذي يتكلم الصبيان؛ لأنه أخبر أنه جعله نبيا وجعله مباركا، فلا يحتمل أن يكون نبيا ولا يتكلم ولا يدعو الناس إلى دين اللَّه، وأي بركة تكون فيه إذا لم يتكلم بكلام خير؛ فدل ذلك منه أن ليس على ما قالوا هم، والبركة هي اسم كل خير وصلاح، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا). يحتمل: الصلاة المعروفة والزكاة المعهودة. ويحتمل: الصلاة: الثناء له والدعاء في كل وقت وفي كل مكان، والزكاة: كل ما تزكو به النفس وتصلح وتنمو من كل خير. فإن كان الأول الصّلاة المفروضة والزكاة المعروفة، فهو على تعليم الناس، كأنه قال:

(32)

أوصاني أن أعلم الناس وأعلمهم من الزكاة؛ إذ لم يكن يملك عيسى ما تجب فيه الزكاة، فهو يخرج على إعلام الناس عن حكم الزكاة، أو أن يكون على المواساة، فذلك مما قلَّ وكثر سواء. وإن كان الثاني فهو وغيره من الناس في تلك الزكاة سواء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) أي: جعلني برًّا بوالدتي، صلة بقوله: (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) و (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا)، وجعلني برًّا بوالدتي. (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)، قد ذكرناه في قصة يحيى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) هذا -أيضًا- قد ذكرناه في قصة يَحْيَى، غير أن اللَّه تعالى هو مُسَلِّمٌ على يحيى في تلك الأحوال، وهاهنا ذكر أن عيسى سلَّم على نفسه. وذكر في بعض القصة: أن عيسى ويحيى - عليهما السلام - الْتقَيا، فقال يحيى لعيسى: " أنت خير مني ". فقال عيسى: " بل أنت خير مني، سلَّم اللَّه عليك، وسلمت أنا على نفسي "، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) أي: ذلك عيسى ابن مريم، ليس على ما قالت النصارى وغيرهم أنه ابن اللَّه، وأنه ثالث ثلاثة على ما قالوا، ولكن عيسى ابن مريم عبد اللَّه كما أقر هو بالعبودية حيث قال: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ). ويحتمل قوله: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي: ذلك الذي أنباتهم من نبأ عيسى: (قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي: هَؤُلَاءِ الكفرة حيث أنكروا أنه ليس على ما أنبأتهم من نبيه، أي: الذي يشكون فيه هو قول الحق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) نزه نفسه عن أن يتخذ ولدًا؛ لأنه لا تقع له الأسباب التي لها يتخذ الولد ويطلب منه. أو يقول: إن اتخاذ الولد يسقط الألوهية؛ لأن الولد في الشاهد يكون شكل الأب وشبيهًا له، فلا يحتمل أن تكون الألوهية لمن يشبه الخلق؛ لأن الولد في الشاهد إنما يتخذ ويطلب لأحد وجوه ثلاثة: إما لوحشة تأخذه فيستأنس به. وإما لحاجة تمسه فيستغني به في دفعها. أو لخوف يخاف من أعدائه فيستنصر به، فإذا كان اللَّه سبحانه يتعالى عن ذلك وله من سرعة نفاذ أمره ما ذكر في قوله: (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

(36)

فمن له من سرعة نفاذ الأمر ما ذكر، لا تقع له الحاجة إلى الولد في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرًا. ثم قول أهل التأويل: إنه نفخ في جيب مريم، أو في أنفها، أو في غيره، وغير ذلك من القصص التي ذكروها مما ليس في الكتاب ذكرها - فلا يجوز أن يقال ذلك إلا بخبر عن اللَّه تعالى، أو عمن أوحى إليه، فإنه لم يعلم صدقه ولا نبوته، فنذكر مقدار ما في الكتاب لا يزاد على ذلك ولا ينقص؛ لأن هذه الأنباء لما ذكرت لرسول اللَّه لتكون آية لرسالته ونبوته؛ لأنها كانت مذكورة في الكتب المتقدمة، وكان هنالك من يعرفها، فذكرت له هذه الأنباء على ما كانت في كتبهم؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك باللَّه، فلو زيد فيه أو نقص لكانت غير دالة لهم على ذلك. قَالَ الْقُتَبِيُّ: الصوم: الإمساك؛ صومًا: أي: صمتًا، فريا: أي: عظيمًا عجبًا، والبغي: يقال: امرأة بغي ونسوة بغايا، أي: فاجرات، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) إنهم كانوا يعرفون أن اللَّه هو ربهم حيث قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) ونحوه، فكأن عيسى قال لهم: ارجعوا إلى عبادة الذي تعرفون أنه ربّي وربكم، واتركوا العبادة لمن تعرفون أنه ليس بربّكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: اختلف الذين تحزبوا في عيسى في حياته، منهم من قال: هو ساحر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو كاهن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كذا من هذا النحو. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اختلف الذين تحزبوا في عيسى بعد ما رفع من بينهم: فمنهم من قال: هو اللَّه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ابن اللَّه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: ثالث ثلاثة، وأمثال ما قالوا على علم منهم أنه لم يكن على ما وصفوه وقالوا فيه، لكنهم عاندوا وكابروا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ): الذين تحزبوا واختلفوا في رسول اللَّه لما بعث، فمنهم من قال: إنه ساحر، وإنه كاهن ومجنون، وإنه مفترٍ، وإنه كذاب، ونحو ما قالوا فيه على علم منهم أن ما يقول هو يوافق كتبهم، وأن كتابه مصدق لكتبهم، وأنه يؤمن

(38)

بالرسل الذين يؤمنون هم بهم، لكنهم قالوا ذلك على المعاندة والمكابرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا). قال أصحاب التأويل: الويل: الوعيد، واختلفوا فيه، وهو - واللَّه أعلم - الويل لكل كافر، ما من كافر إلا وله ذلك الوعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ): وصف ذلك اليوم بالعظم؛ لما فيه مجمع الأولين والآخرين، ويشهده الجن والإنس والملائكة، فهو مشهد يوم عظيم. ويحتمل أنه وصفه بالعظم؛ لأنه هو المقصود في خلق العالم في الدنيا، فهو إنما خلقهم لأمر عظيم وهو ذلك اليوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) قال الحسن: يكونون سمعاء وبصراء في الآخرة، ليس على ما كانوا في الدنيا عميًا بكمًا صمًّا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يصح هذا؛ لأن هذا ليس على [وجه النهر والتعجب] (¬1)، ولكن تأويله أي: يسمعون ما قالوا ويبصرون ما عملوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) أي: (أَسْمِعْ) بحديثهم إليهم وأعلمهم (وَأَبْصِرْ) كيف نصنع بهم يوم يأتوننا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). أي: في حسرة بينة، أو في هلاك بين، وقد ذكرنا ذلك في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) قال عامة أهل التأويل: الحسرة: هي أن يصور الموت بصورة كبش أملح، فيذبح ¬

_ (¬1) [وجه النهر والتعجب] لعل الصواب القهر والتعجب. واللَّه أعلم. (مصحح النسخة الألكترونية).

(40)

بين الجنة والنار، فينظر إليه أهل النار وأهل الجنة، فيندم أهل النار ويكون لهم الحسرة؛ لما كانوا يطمعون الموت يتأملون منه، فذلك الحسرة التي ذكر، ولكن هذا لا يعلم إلا بخبر عن رسول اللَّه، فإن ثبت شيء عنه فهو ذاك، وإلا فالحسرة لهم هي أعمالهم التي عملوا في الدنيا، وهو ما قال: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ)، وقوله: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)، وقوله: (يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا)، ونحوه كل عمل عملوا في الدنيا يكون لهم ذلك حسرة في الآخرة وندامة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ)، أي: أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ)، أي: هم كانوا في غفلة من هذا (وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) هذا - واللَّه أعلم - كناية عن فناء الخلق جميعًا وبقاء الخالق، فذلك معنى الوراثة، واللَّه أعلم. وعلى ذلك سمي الوارث في الشاهد: وارثًا؛ لأنه باقٍ بعد فناء مورثه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ). قال الحسن: هو صلة (كهيعص. ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا). يقول: اذكر رحمة ربك إبراهيم، وكذلك يجعل جميع ما ذكر في هذه السورة من نحو هذا صلة ذلك، كأنه ذكر (كهيعص) في كل ذلك؛ لأنه يجعل تفسير (كهيعص)

(42)

في كل ذلك على ما ذكر على إثره، وكذلك يقول في جميع الحروف المقطعة: إن تفسيرها ما ذكر على إثرها. وأمَّا غيره من أهل التأويل فإنه يقول: واذكر لهم نبأ إبراهيم وقصته في الكتاب لهم، واذكر في الكتاب نبأ موسى وخبره وذكره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا): الصديق: إنما يقال لمن كثر منه ما يستحق ذلك الاسم، وكذلك التشديد إنما يشدد إذا كثر الفعل منه وصار كالعادة له والطبع، فكأنه سمي بهذا لما لم يكن يجعل بين ما ظهر له من الحقوق والفعل وبين وفائها وأدائها إليها نظرة ولا مهلة، بل كان يفي بها ويؤديها كما ظهر له، ولذلك سماه - واللَّه أعلم -: وفيًّا بقوله: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)، وقال في آية أخرى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)، سماه: وفيًّا، كانت عادته القيام بوفاء ما ظهر له وإتمام ما ابتلاه به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ ... (42) إذا دعوته (وَلَا يُبْصِرُ) ولو عبدته (وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا) إذا احتجت إليه وسألته. ويحتمل أن يكون قوله: (مَا لَا يَسْمَعُ) أي: لا يجيب لو دعوته واحتجت إليه، (وَلَا يُبْصِرُ) حاجتك إذا احتجت إليه، (وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، أي: لا ينصرك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا) من عذاب اللَّه في الآخرة. يقول: كيف لا تعبد من إذا دعوته سمع، وإذا عبدته أبصر، ونصرك إذا احتجت إليه وسألته، واللَّه الموفق. وقرله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ... (43) أي: من بيان ما يحل بك بعد الموت، إذا مت على ما أنت عليه، (مَا لَمْ يَأْتِكَ) ذلك (فَاتَّبِعْنِي) إلى ما أدعوك إليه من دين اللَّه، (أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا)، أي: دينًا عدلًا سَوِيًّا قيمًا لا عوج فيه، فهذا يدل منه أنه قد أوحى إليه في ذلك الوقت، ويشبه أن يكون عرف ذلك استدلالًا منه واجتهادًا على غير وحي، كقوله: (هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ)، حتى انتهى إلى قوله: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)، وكل ذلك كان له من اللَّه؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ).

(44)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) هم لم يكونوا يعبدون الشيطان عند أنفسهم، ولكن يحتمل إضافة عبادتهم إلى الشيطان وجوهًا: أحدها: أن الأصنام التي عبدوها كانت لا تأمرهم بالعبادة ولا تدعوهم إليها ثم عبدوها، فإنما عبدوها بأمر الشيطان وبدعائه إياهم، فأضاف ذلك إليه للأمر الذي كان منه بذلك. والثاني: ذكر أن الشيطان كان ينطق من جوف الصنم، فعبدوها لكلامه، فكأنهم عبدوا الشيطان، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنِّي أَخَافُ): أي: أعلم أنه يمشك عذاب من الرحمن لو دمت على الكفر وختمت به، فإن كان تأويله العلم فهو على هذا الشرط يخرج. ويحتمل أن يكون الخوف في موضع الخوف، أي: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ) إن لم تنجز وعدك (فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) أي: قرينًا في العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) ولا شك أنه كان راغبًا عن عبادة آلهتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) يحتمل وجوها: أحدها: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن دينك الذي أنت عليه (لَأَرْجُمَنَّكَ)، أي: لأقثلنك. والثاني: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن قذف آلهتنا وسبِّها وذكرها بسوء (لَأَرْجُمَنَّكَ)، أي: لأشتمنك مكان شتمك وقذفك آلهتنا، فالرجم يشتمل على هذه الوجوه الثلاثة: القتل، والطرد، والشتم، فإن كان على القتل فهو مقابل الدِّين، أي: لئن لم تنته عن دينك لأقتلنك، وإن كان على الطرد فهو مقابل الدعاء، أي: لئن لم تنته عن دعائك إياي إلى ما تدعو لأطردنك، وإن كان علي الشتم فهو مقابل الشتم، أي: لئن لم تنته عن شتمك آلهتنا لأشتمنك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا). قَالَ بَعْضُهُمْ: طويلًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: دهرًا.

(47)

فإن كان (مَلِيًّا)، أي: بعيدًا فهو على بعده منه، أي: ابعد مني، وتباعد مني داره ومقامه. وإن كان على الدهر والطول فهو يخرج، أي: لا تكلمني أبدًا، واللَّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) يحتمل أنه ليس على أن سفم عليه، ولكن كلمه بكلام السداد، كقوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، هو أن يقولوا لهم كلام السداد ليس على أن يسلموا عليهم. ويحتمل (سَلَامٌ عَلَيْكَ) على حقيقة السلام المعروف، لكنه يخرج على الإضمار، أي: (سَلَامٌ عَلَيْكَ) إذا أسلمت. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) إذا أسلمت على نحو ما قلنا. ويحتمل قوله: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) أي: أسأل ربي ليوفقك على السبب الذي تستوجب به الاستغفار، وتكون أهلًا للاستغفار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: برًّا لطيفًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حَفِيًّا): عالمًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه كان عودني الإجابة. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحفي: العالم بالأمر، ويقال: حفى الرجل يحفي: إذا سار بلا نعل ولا خف، وجمعه: حفاة، واحتفى يحتفي: إذا اجتنى حشيشًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) الاعتزال - هاهنا - اعتزال هجرة إلى أرض الشام، ومفارقته إياهم مفارقة المكان والدار، كقوله: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)، فقوله: (وَنَجَّيْنَاهُ) النجاة بالفراق منهم. وقوله: (وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: وأعتزلكم وما تعبدون من دون اللَّه أيضًا، ففيه إخبار عن اعتزاله عنهم بالدار والمكان، وعن فعلهم أيضا، اعتزلهم عن الأمرين جميعًا.

(49)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أي أدعو ربي عسى ألا أكون بعبادة غير اللَّه شقيًّا، كما كان قومه بعبادة غير اللَّه أشقياء. والثاني: (أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)، أي: خائبًا مردود الدعاء، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) اعتزال الدار والمكان بالهجرة إلى الأرض المباركة التي ذكر أنه نجاه إليها، واعتزل -أيضًا- صنيعهم الذي كانوا يصنعون من عبادتهم غير اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)، وقال في آية أخرى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) ذكر الهبة؛ لأن الولد هبة من اللَّه تعالى، خلقه على الإفضال منه والإنعام عليه؛ لأنه يعطي لا عن حق كان لهم عليه، فذلك فائدة ذكر الولد هبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا) هو ظاهر، وهب له ما ذكر، ثم أخبر - عز وجل - أنه جعلهم أنبياء. وقوله: (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) اختلفوا فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الرحمة - هاهنا -: هي النبوة، أي: وهبنا لهم النبوة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرحمة: النعمة، أي: من نعمته وهب لهم ما وهب من النبوة وغيرها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لِسَانَ صِدْقٍ): هي الكتب التي أنزلها اللَّه فيها أنباء صدقهم وفضلهم، ومنزلتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) هم أولادهم الذين جعلهم أنبياء ورسلًا يذكرون ويعظون من بعدهم؛ لأن جميع الأنبياء والرسل كانوا من نسل إبراهيم من لدنه إلى لدن مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فهم كانوا لسان صدق عليًّا، حيث يذكرون بكل خير وبكل بركة ويمن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) هو ما آمن جميع أهل الأديان به - أعني: بإبراهيم - ودانوا به جميعًا، وعلى ذلك يخرج تخصيص إبراهيم وآله بالصلاة وبالبركة

(51)

عليهم والثناء على قول قوم حيث قالوا: " اللهم صل على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ". * * * قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى): هو ما ذكرنا في قوله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ)، و (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) - على قول الحسن - صلة قوله: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) أي: اذكر رحمة ربك موسى. وعلى قول غيره من أهل التأويل، أي: اذكر لهم نبأ موسى وقصته في الكتاب، وهو ما ذكرنا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا)، و (مُخْلِصًا)، وقد قرئ بالنصب والخفض جميعًا: قَالَ بَعْضُهُمْ: (مُخْلَصًا): أخلصه اللَّه واصطفاه واختاره لرسالته ونبوته. وقوله: (مُخْلِصًا) بالخفض، أي: أخلص عبادته وتوحيده له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا). قَالَ بَعْضُهُمْ: الرسول هو الذي ينبئ ويخبر عن التأويل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرسول هو الذي ينزل عليه الوحي والكتاب، والنبي هو الذي ينبئ لا عن لسان، وأصل النبي هو الذي ينبئ عن كل خير وبركة، وسمي: نبيا، لاجتماع خصال فيه، كالصديق لا يسمى إلا بعد اجتماع كل خصال الخير والبركة ما لو انفرد بكل خصلة من تلك الخصال سمّي: صادقًا، فإذا اجتمع ذلك سمي: صديقًا، فعلى ذلك النبي سمي نبيًّا لاجتماع خصال فيه، وهو ما روي في الخبر: " الرُّؤْيَا الصالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسةٍ وأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبوةِ " والسَّمْتُ الحَسَنُ جُزْءٌ مِن خَمْسَةٍ وعِشرِينَ جُزْءًا مِنَ النُبوَّةِ "

(52)

فهذا يدل أن النبي إنما سمي: نبيًّا؛ لاجتماع خصال الخير والبركة فيه، كما ذكرنا في الصديق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) فإن كان الأيمن من اليمن والبركة، فيكون تأويله: وناديناه من جانب الطور المبارك واليمن، وكذلك روي في الخبر أن موسى - عليه السلام - قال: " أتاني من جبل طور سيناء، واطلع من جبل ساعورا، وظهر من جبل فاران "، ومعناه: أتانى وحي ربي من جبل طور سيناء، " واطلع من جبل ساعورا "، أي: أتى وحي عيسى من جبل ساعورا، وأتى وحي محمّد في جبل فاران؛ فهو على اليمن: يمن الجبل وبركته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو يمين الجبل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يمين موسى. قال أبو بكر الأصم: هذا لا يعلم إلا بالخبر، ولا نفسره أنه ماذا أراد به؟ مخافة التغيير؛ لأنه ذكر في موضع الاحتجاج عليهم، فإن زادوا أو نقصوا عما في كتبهم يبطل الاحتجاج به عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا). قال أهل التأويل: هو تقريب بالمكان، ولكن عندنا هو تقريب المنزلة والقدر والفضل، هذا معروف، وهو أسلم، (نَجِيًّا) من المناجاة، أي: ناجاه من حيث لم يطلع على ذلك غيرهما، وسمّي موسى بهذا؛ لأنه أخلص نفسه لله وسلَّمها له، ولذلك سمي المصلي -أيضًا-: مناجيا ربه على ما روي في الخبر " انْظُر مَنْ تُنَاجِي " حيث فرغ نفسه

(53)

عن جميع الأشغال وسلمها إليه فسمي لذلك مناجيًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) هو ما ذكرنا فيما تقدم. * * * قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ). على قول الحسن هو صلة قوله: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) أي: اذكر لهم رحمة ربك إسماعيل. وعلى قول غيره من أهل التأويل على الابتداء، أي: اذكر لهم نبأ إسماعيل وقصته في الكتاب على الاحتجاج له عليهم؛ لأن هذه الأنباء والقصص كانت في كتبهم، فأخبر رسوله عن تلك الأنباء والقصص على ما كانت؛ ليخبرهم؛ فيعلموا أنه إنما عرفها باللَّه؛ ليدلهم ذلك على النبوة ورسالته. ثم اختلف في إسماعيل: قال عامة أهل التأويل: هو إسماعيل بن إبراهيم، صلوات اللَّه عليهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الذي قالوا: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، ولكن لا نعلم ذلك إلا بالخبر عن اللَّه، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ): قال عامة أهل التأويل: سماه: (صَادِقَ الْوَعْدِ)؛ لأنه وعد رجلًا أن يقيم عليه وأن ينتظره حتى يرجع إليه، فأقام مكانه أيامًا ينتظره للميعاد حتى رجع إليه. لكن لا يحتمل أن يكون مثل إسماعيل يَعِدُ عِدَةً ولا يستثني، وقد نهى اللَّه رسوله أن يقول: إني فاعل كذا غدًا حتى يستثني، وهو قوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، ويكون قوله: (صَادِقَ الْوَعْدِ)، أي: صِدِّيقًا، والصِّدِّيق هو القائم بوفاء كل حق ظهر له؛ لأن كل مؤمن يعتقد في أصل إيمانه طاعة ربه في كل أمر يأمر به والانتهاء عن كل نهى ينهاه، ووفاء كل حق عليه، فسماه: صادق الوعد؛ لقيامه

(55)

بوفاء كل حق ظهر له وتجلى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) قد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) أي: يأمر قومه بالصلاة والزكاة، وإن كانت الصلاة هي الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة، ففيه أنهما كانتا في الأمم الماضية، وإن كان الدعاء والثناء وما به تزكو الأنفس وتصلح، فهو على جميع الخلائق، ذلك واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) ظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ... (56) هو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلََّ: (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) قد ذكرناه أيضًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) قال الحسن: " رفعناه "، أي: نرفعه في الجنة. وقال أهل التأويل: رفعه إلى السماء الرابعة، فهو ميت فيها، وكلام نحو هذا. ولكن عندنا: يشبه أن يكون رفعه إياه في المنزلة والقدر والرفعة عند اللَّه وعند الناس جميعًا، على ما ذكرنا في قوله: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ... (58) أي: بالنبوة أو الرحمة التي ذكر فيما تقدم، والرحمة: هي النعمة؛ فهذا يرد قول أهل الاعتزال؛ لأنهم يقولون: لا يخص اللَّه أحدًا بالنبوة أو بشيء من الإفضال إلا من يستحق ذلك ويستوجبه، فأخبر اللَّه - عز وجل - أن ذلك منه إنعام وإفضال عليهم. (مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا): الأنبياء كانوا من ذرية آدم، ومن ذرية من حمل مع نوح، ومن ذرية إبراهيم أيضًا، ومن ذرية إسرائيل - أي: يعقوب - ومن ذرية من هداه للتوحيد واجتباه للرسالة والنبوة، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا): قال بعض أهل التأويل: هذا في مؤمني أهل الكتاب: عبد اللَّه بن سلام وأصحابه إذا

(59)

تتلى عليهم آيات القرآن بعدما آمنوا (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا). ويشبه أن يكون هذا في أُولَئِكَ الذين ذكر أنه أنعم عليهم كانت لهم آيات في كتبهم فيها سجود إذا تليت عليهم خروا لله سجدًا وبكيًّا. أو أن يكون لا على حقيقة السجود، ولكن على الخضوع له والقبول لحججه وبراهينه التي تليت عليهم، أو أن يكونوا لا يملكون أنفسهم إذا رأوا آيات اللَّه وسلطانه، ولكن وقعوا سجدًا على ما أخبر عن سحرة فرعون عند معاينتهم الآيات، حيث قال: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا)، (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)، ليس أن سجدوا له، ولكن يلقون سجدًا لما لا يملكون أنفسهم عند معاينتهم الآيات. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَبُكِيًّا)، فيه ثلاث لغات: بُكِيًّا، وبَكِيًّا، وبِكِيًّا، وهو جماعة الباكي. وقوله: (نَجِيًّا) يقال: فلان نجئ فلان، أي: موضع أسره. ويحتمل قوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا): أن يكون كناية عن الصلاة، وصفهم - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم كانوا يكونون في الصلاة خاشعين باكين. قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) ثم قال: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)، أي: خلف من بعد أُولَئِكَ الذين وصفهم - عَزَّ وَجَلَّ - بالصلاة لله، والخشوع لله فيها، والبكاء، (خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ)، أي: جعلوها لغير اللَّه، وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها، فإذا جعلوها وصرفوها إلى غير الذي يصلي إليه أُولَئِكَ فقد أضاعوها؛ لأنهم كانوا يصلون للأصنام الصلاة التي كان يصلي أُولَئِكَ لله. ويحتمل أن يكون قوله: (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ)؛ لأن الصلاة هي آخر ما يترك ويضيع؛ لأنه روى في الخبر أنه قال: " سَيُنقَضُ عُرَى الإسْلامِ عُروةً فَعُروَة، أوَّلُها الأمانة، وآخِرُها الصَّلَاة ".

(60)

وقال بعض أهل التأويل: (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ)، إضاعتها: تأخيرها عن مواقيتها، لا أن تركوها أصلًا، فهذا في أهل الإسلام إن ثبت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)، أي: آثروا الشهوات على العبادات، وجعلوا الشهوات هي المعتمدة دون العبادات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا): قَالَ بَعْضُهُمْ: الغي: وادٍ في جهنم، لكن هذا لا يجوز أن يقال إلا بالخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: واد في جهنم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغي: العذاب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغي: الشر. وجائز أن يكون سمى جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا بالغواية باسم أعمالهم: غيًا، ويجوز تسمية الجزاء باسم سببه، كقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)، ونحوه. ثم استثنى فقال: (إِلَّا مَنْ تَابَ ... (60) عن الشرك (وَآمَنَ) باللَّه (وَعَمِلَ صَالِحًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)، يشبه أن يكون قوله: (وَلَا يُظلَمُونَ شَيْئًا)، أي: لا ينقصون من حسناتهم التي عملوها في حال إيمانهم لمكان ما عملوا من الأعمال في حال كفرهم، بل يبدل سيئاتهم حسنات على ما أخبر تعالى: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)، وقال في آية أخرى: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، أخبر أنهم إذا آمنوا وانتهوا عن الشرك لا يؤاخذهم بما كان منهم في حال كفرهم، واللَّه أعلم. ثم بيِّن أية جنة، فقال: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) ثم يحتمل إيمانهم بالغيب، أي: باللَّه آمنوا به بالخبر وإن لم يروه، ويحتمل الغيب: الجنة، أي: صدقوا بها وإن لم يروها والنار والبعث بالغيب.

(62)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي: كان موعوده آتيًا، ولكن ذكر (مَأْتِيًّا)؛ لأن كل من أتاك فقد أتيته، فسمي لذلك (مَأْتِيًّا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا ... (62) وقال في موضع آخر: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)، أي: لا يسمعون باطلًا، ولا ما يكره بعضهم من بعض، ولا ما يأثم بعضهم بعضًا إلا سلامًا، والسلام كأنه اسم كل خير وبركة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا). قال الحسن: إن أطيب العيش وأحبه إلى العرب الغداء والعشاء، فأخبرهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن لهم في الجنة الغداء والعشاء، وأطيب العيش إلى العجم لباس الحرير واللؤلؤ، فأعلمهم أن لهم في الجنة ذلك بقوله: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ). ويقول أهل التأويل: ليس في الجنة بكرة ولا عشي، ولا ليل ولا نهار، ولكن يؤتون على ما يحبون من البكرة والعشي. عن ابن عَبَّاسٍ قال: على مقادير الليل والنهار. ويشبه أن يكون قوله: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ليس على تخصيص وقت دون وقت، ولكن الأوقات كلها في كل وقت يحبون ويشتهون، كقوله: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ)، (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ). ويخرج ذكر البكرة والعشي: أن زمان الجنة يكون مشبهًا البكرة من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ومثل الوقت الذي يكون بعد غروب الشمس إلى أن يظلم؛ لأنه أخبر أن ظله ممدود بقوله: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ). ثم أخبر أن تلك الجنة التي ذكر أن فيها كذا هي (الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) يحتمل أن يكون وعد الجنة للبشر كلهم بشرائط شرط عليهم، إن وفوا بها فلهم الجنة جميعًا، وإن لم يفوا بها فلا، فمن وفَّى بشرائطه التي شرط يجعل الذي كان وعد للذي لم يف - إذا وفَّى - للذي وفي بذلك، فهو الميراث الذي ذكر، وعلى ذلك يخرج قوله:

(64)

(أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ. . .) الآية، والوارث هو الباقي من المورث والخلف عن الميت. وقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ): قَالَ بَعْضُهُمْ: الْخَلْف - بالجزم - يستعمل في موضع الذم، والْخَلَف بالتحريك والنصب في موضع الحمد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هما سواء، ويستعملان جميعًا في موضع واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) هذا الكلام منه لا يكون إلا عن سؤال كان منه، كأنه قد كان استبطأ نزول جبريل عليه، فعند ذلك قال له: إنا لا نتنزل إلا بأمر ربك. ثم فيه أنه لم يقل ذلك له إلا بأمر اللَّه؛ لأن اللَّه أخبر أنهم: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ): فلا يحتمل أن يقول له ذلك من تلقاء نفسه؛ فيجعل ذلك آية في كتاب اللَّه تتلى. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ). كان هذا الكلام موصول بقوله: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)؛ لأنهما جميعًا كانا يعلمان أن له ما بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك؛ فدل ذلك أنه موصول بالأول، وجهة الصلة بالأول هو أن يقال: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)، لا نتقدم إلا بأمره، ولا نتأخر ولا نعمل شيئًا إلا بأمره، وهو كقوله: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ). وأمَّا غيره من أهل التأويل اختلفوا فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا): هو الآخرة، (وَمَا خَلْفَنَا): ما مضى من الدنيا، (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ): الحال التي نحن فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا): الدنيا، (وَمَا خَلْفَنَا): الآخرة، (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ): ما بين النفختين، وأمثال هذا، لكن الذي ذكرنا بدءًا أولى وأشبه؛ إذ هو على الصلة بالأول؛ إذ لا يتقدم ولا يتأخر ولا يعمل شيئًا إلا بأمره، واللَّه أعلم.

(65)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا). هذا يخرج على وجوه ثلاثة: أحدها: ما قال بعض أهل التأويل: إن جبريل قد كان احتبس عنه زمانًا، فقال أهل مكة: قد ودعه ربه وقلاه؛ فنزل: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3). على ما قال المشركون، فيخرج على هذا قوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) على الترك، أي: ما كان ربك تركك لما قال أُولَئِكَ من التوديع والقلى. ويحتمل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) كملوك الأرض يطلب خدمهم وخولهم وقت سهوهم وحالة غفلتهم، فيقضون حوائجهم وحوائج من يطلب منهم القيام بها، أي: ما كان ربك بالذي يسهو ويغفل كملوك الأرض. والثالث: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) بتأخير نزوله عن وقت النزول، بل أنزل عليك في الوقت الذي هو وقت النزول. فهذان الوجهان يخرجان على السهو والغفلة، والأول على الترك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) أي: اصبر نفسك عليها وعلى طاعته. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)، أي: ما تعلم له شريكًا تشتغل بعبادته عن عبادة اللَّه، إنما هو إله واحد، لا راحة لك عن عبادته ولا ما يشغلك عنه. وقال بعض أهل التأويل: هل تعلم أحدًا اسمه: (الله) سواه؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: هل تعلم له مثلًا وشبيهًا؟! * * * قوله تعالى: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا).

(67)

هذا الكلام يخرج على وجهين: أحدهما: على إنكار البعث: (لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) أي: ما أخرج حيًّا. والثاني: على التهزؤ والهزء، جواب ما قال لهم أهل الإسلام: إنكم تبعثون وتحيون، فقالوا عند ذلك: ذلك على التهزؤ بهم والسّخرية. ثم ذكرهم بدء حالهم حيث لم يكونوا شيئًا فخلقهم فقال: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فإن قدر على خلقه في الابتداء ولم يك شيئًا كان على إحيائه وبعثه بعدما كان شيئًا أقدر. ثم أقسم أنهم يبعثون فقال: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) أي: لَنجعلهم والشياطين الذين أضلّوهم، كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا): قَالَ بَعْضُهُمْ: (جِثِيًّا): جماعات، كقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (جِثِيًّا) وعلى الركب؛ لأن أقدامهم لا تحمل؛ لشدة هول ذلك اليوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) قَالَ بَعْضُهُمْ: الشيعة: الصنف، أي: من كل صنف، والشيعة: الأتباع، كقوله: (هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ)، أي: من أتباعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا)، أي: تمردًا وعنادًا، والعاتي: هو القاسي المتمرد في عُتُوّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ)، أي: لنخرجنَّ، أي: نبدأ بهم من كان منهم أشد على الرحمن تمردًا وعنادًا وهم القادة والرؤساء منهم، فيقذفون في النَّار أولًا، ثم الأمثل فالأمثل على المراتب التي كانوا في الدّنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) أي: أعلم بمن أولى بها

(71)

صِلِيًّا، أي: يصلي بالنار، وهم القادة والكفرة. وقوله: (يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الغي: الشر، (جِثِيًّا)، قال: جماعات، والجاثي: هو الراكب على ركبتيه، والشيعة: الصنف من الناس. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (جِثِيًّا): جمع جاثٍ، وفي التفسير: جماعات. وقال قتادة في قوله: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) قال: لا سمي لله ولا عدل ولا مثل، كل خلقه يقر له ويعرفه ويعلم أنه خالقه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسمى أحد باسمه، يعني: باللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بالرحمن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ... (71) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في الكفرة خاصة، واستدلّ بأوّل الآية بقوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ) إلى آخر ما ذكر، والمؤمنون لا يحشرون مع الشياطين، ولكن إنما يحشر الكفار مع الشياطين، كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ)، ويكون قوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) على ابتداء منع الورود عليها والنجاة منها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في المؤمنين والكافرين جميعًا، لكن اختلف في الورود: فقَالَ بَعْضُهُمْ: الورود: الحضور دون الدخول؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أن من أدخل النار فقد أخزاه بقوله: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: الورود: الدخول فيها، واستدل بقوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)، وبقوله: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ. . .) الآية، يقول: يدخل الفريقان جميعًا فيها، لكنها تصير جامدة وبردًا على المؤمنين على ما صارت بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، ثم تصير

(72)

حارة محرقة للكفار والظلمة. قال الحسن: لا يحتمل أن يدخل أهل الإيمان النار؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - آمن المؤمنين أن يكون عليهم خوف أو حزن بقوله: (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) فلو كانوا يدخلون النار، لكان لهم خوف وحزن، وقد أخبر أن (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) دل أنهم لا يدخلونها. وجائز أن يكونوا واردين جميعًا، داخلين فيها، لا دخول تعذيب فيها وعقاب؛ لأنه ذكر أن ممرهم جميعًا على الصراط لجهنم كالسطح للدار؛ كمن حلف ألا يدخل دارًا فتسور بسورها أو صعد سطحًا من سطوحها حنث ويصير داخلًا فيها؛ فعلى ذلك جائز أنهم إذا مروا على الصراط نجا أهل الإيمان فمروا به، وتزل أقدام الكفار فيها؛ فبقوا فيها، فكان الفريقان يوصفان بالدخول على الوجه الذي وصفنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ورود المسلمين: المرور بهم على الجسر بين أظهرها، وورود المشركين: أن يدخلوها. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الزالُّونَ والزالات " وما ذكر الحسن أنه من المرسلين ألا يكون عليهم خوف ولا حزن، فجائز أن يكون اللَّه يدخلهم فيها على غير جهة العقوبة فلا يكون لهم خوف ولا حزن، ألا ترى أنه أخبر أنه جعل الملائكة أصحاب النار بقوله: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً)، ثم لا يكون لهم خوف ولا حزن وهم ممن أوعدوا بها إذا خالفوا أمر اللَّه وعصوه بقوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ. . .) الآية؛ ألا ترى أنه أخبر أن أهل الجنة يطلعون على أهل النار ثم لا يخافون ولا يحزنون بقوله: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) وهم في الدنيا إذا اطلعوا عليها لا شك أنهم يخافون ويحزنون ويسوءهم ذلك أشد الخوف ثم في الآخرة لا، فعلى ذلك جائز أن يكونوا يرِدُونها ويدخلونها ولا يخيفهم ذلك ولا يحزنهم ولا يسوءهم، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) أي: قضاء واجبًا، (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ... (72) الشرك والفواحش (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) على ركبهم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ

(73)

الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ... (73) قد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا): كأن هذا القول من الكفرة خرج جواب ما احتج عليهم أهل الإيمان بالآيات التي ذكروا حجاجًا عليهم، فيقولون: إنكم تقولون: إن الدنيا والآخرة لله، فقد وسع علينا الدنيا وضيق عليكم، فعلى ذلك يوسع الآخرة علينا ويضيق عليكم كما فعل في الدنيا؛ إذ لا يجوز أن يوالينا في الدنيا ويعادينا في الآخرة، وعلى هذا قولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، فظنوا أنه لما وسع عليهم وأحسن بهم الندى والمجلس كذلك يكونون في الآخرة، فأكذبهم اللَّه، ورد عليهم ذلك فقال: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) أخبرهم بما عرفوا هم أنهم كانوا أهل السعة والزينة، ثم أهلكوا بتكذيبهم الرسل وعصيانهم ربهم، فلو كان ما ذكر هَؤُلَاءِ الكفرة لكانوا لا يهلكون؛ فيلزمهم بما ذكر أن من وسع عليه الدنيا وضيق عليه الآخرة إنما يكون بحق المحنة، لا بحق المنزلة والقدر، وأمَّا الثواب والجزاء فهو بحق القدر والمنزلة والخذلان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَثَاثًا) قيل: المتاع والمال، (وَرِئْيًا) أي: منظرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ... (75) أي: خيرا وسعة في الدنيا، (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ) هو العذاب والهلاك الذي وعدهم رسول اللَّه في الدنيا، (وَإِمَّا السَّاعَةَ) القيامة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا): هذا يدل أن قولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أرادوا: الخدم والحواشي، حيث قال: (وَأَضْعَفُ جُنْدًا). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (حَتْمًا مَقْضِيًّا) أي: واجبًا، (نَدِيًّا) أي: مجلسًا، وأندية: جمع، والأثاث: المتاع، (وَرِئْيًا) ومنظرًا، (وَنَمُدُّ لَهُ) أي: نطيل عذابه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (نَدِيًّا) مجلسًا، يقال للمجلس: ندي ونادٍ، ومنه قيل: دار الندوة التي كان المشركون يجلسون ويتشاورون بها في رسول اللَّه، والأثاث: المتاع، والرئي: المنظر، والبشارة، والهيئة.

(76)

وقوله: (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا)، أي: يمد له في ضلالته، (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ)، أي: نرثه المال والولد الذي قال: (لَأُوتَيَنَّ). وقوله: (وَيَأْتِينَا فَرْدًا) لا شيء معه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ... (76) جميع ما ذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من زيادة الهداية وابتداء الهداية فهو إنما يزيد له الهداية ويهديه ابتداء إذا كان من العبد رغبة في ذلك وبغية وطلب، وإذا كان مهتديًا يزيد له الثبات على ما كان عليه في وقت رغبته وطلبه منه. أو إن لم يكن مهتديًا يهده ابتداء هداية في وقت رغبته وقبوله، على هذا يخرج عندنا ما ذكر بحق الزيادة أو بحق الابتداء. ويحتمل قوله: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)، أي: يوفقهم - إذا اهتدوا وعرفوا وحدانية اللَّه - لأنواع الخيرات والطاعات. وقالت المعتزلة: البيان، وهي هداية عامة، والهداية الثانية شرح الصدر لها والتوفيق، وهي هداية خاصة تكون في وقت ثانٍ بحق الثواب، فعلى زعمهم يجيء ألا يكفر أحد بعد ما هداه اللَّه مرة أبدًا؛ لأنهم يقولون: إذا اهتدوا وقبلوا هدايته مرة، يوفقه ويشرح صدره في الوقت الثاني، فهو أبدًا يكون على الهداية والإيمان، فإذا وجد عن كثير ممن اهتدوا مرة الكفر من بعد، دل أن تأويلهم فاسد، وأن التأويل ما ذكرنا نحن: أنه يزيد لهم الهداية وقت رغبتهها وطلبهم الهداية إن كان بحق الزيادة: أو بحق الابتداء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا). يحتمل (وَالْبَاقِيَاتُ): الأمور الباقيات التي لها البقاء، أي: ما يبقى لكم عند اللَّه خير مما يبطل؛ لأن اللَّه تعالى وصف الحق والخير بالبقاء والمكث، ووصف الباطل بالذهاب والتلاشى بقوله: (فَأَمَّا الزَّبَدُ. . .) الآية، وقال في آية: (مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً. . .) الآية، وقال: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ. . .) الآية: وقال في آية: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) أي: ذاهبًا. فيشبه أن يكون قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ)، أي: الأعمال التي لها البقاء خير لكم عند اللَّه ثوابًا من التي ليس لها البقاء. ويحتمل (وَالْبَاقِيَاتُ)، أي: ما أبقى اللَّه لكم في الآخرة من الثواب خير لكم مما أعطى لكم في الدنيا؛ لأن هذا فانٍ وذاك باق، واللَّه أعلم. * * *

(77)

قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا القول قاله العاص بن وائل السهمي لما حاجه أهل الإيمان في أمر الآخرة أنها لهم دون الكفرة، فقال لهم عند ذلك: (لَأُوتَيَنَّ مَالًا) في الآخرة إن كان ما تقولون أنتم حقا، إنما نبعث ونحيا كما أوتيت في هذه الدنيا. وقال الحسن: قائل هذا القول هو الوليد بن المغيرة وهو ما قال تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15). وكان يطمع أن أزيد له في الدنيا أبدًا، فقال: (كَلَّا) ردًّا على ذلك، وقال هاهنا: (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ... (78) أنه يكون له في الآخرة ذلك على التأويل الأول، أو في الدنيا في وقت آخر؛ ذلك على تأويل الحسن، (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) ردًّا على ما ادعوا (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ... (79) أي: سنحفظ. (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا): قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَنَمُدُّ لَهُ) أي: نزيد له من العذاب في كل يوم، كقوله: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا)، أي: نعذب بلا انقطاع له، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ... (80) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: نرثه المال والولد الذي

(81)

قال: (لَأُوتَيَنَّ) أي: لله ما يقول بأنه له من المال وغيره لا له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَنَرِثُهُ): أنه يعطى في الجنة ما يعطى المؤمنون فنرثه عنه ونعطيه غيره، وجائز إضافة الوراثة إليه على إرادة أوليائه، أي: يرثه ذلك أولياؤه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَأْتِينَا فَرْدًا) في الآخرة لا شيء معه ولا أهل، كقوله: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى). ويحتمل قوله: (وَيَأْتِينَا فَرْدًا) في الدنيا في وقت لا شيء معه ولا أهل ولا ولد، على تأويل من يقول في قوله: (لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا): في الدنيا، واللَّه أعلم. ثم اختلف أهل التأويل في العهد الذي ذكر: أن له عند اللَّه: قَالَ بَعْضُهُمْ: شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ في الدنيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قدم عملًا صالحًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصلاة، وهو قول مقاتل. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " اتخذوا عند الرحمن عهدًا؛ فإن اللَّه يقول يوم القيامة: من كان له عندي عهد فليقم "، فقيل: كيف هو؟ قال: " اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك لا تكلف إليَّ بعمل يقربني من الشر ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعله لي عندك عهدًا تؤديه إلى يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد ". ويرفع ابن مسعود هذا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والأول أشبه إن ثبت الخبر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا). فإن كان على حقيقة العز، فهو في القادة منهم والمتبوعين الذين عبدوا تلك الأصنام والأوثان؛ ليتعززوا بذلك، ولا يذلون، وتدوم لهم الرياسة التي كانت لهم في الدنيا، فظنوا أنهم إن آمنوا تذهب تلك الرياسة والمأكلة عنهم. ويحتمل قوله: (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) أي: نصرًا ومنعة، فإن كان هذا فهو في الرؤساء منهم والأتباع في الدنيا والآخرة: أما ما طمعوا بعبادتهم الأصنام النصر في الآخرة، وهو كقولهم: (مَا نعبُدُهُمْ إلَّا

(82)

لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)؛ طمعوا بعبادتهم النصر والشفاعة في الآحزة. وأمَّا في الدنيا ظنوا أن آلهتهم التي عبدوها ينصرونهم في الدنيا، حيث قالوا: (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ)، فكيفما كان فقد رد اللَّه عليهم ما طمعوا منها - عزُّا كان أو نصرًا - بقوله: (كَلَّا)؛ لأنهم أذلّوا أنفسهم لخشب، وحنوا ظهورهم لها، فكفى بذلك ذلًّا وصغارًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ... (82) قال الحسن: سجكفر عبّاد الأصنام في الدنيا بمن عبدوه في الآخرة أنهم ما كفروا وما عبدوها، كقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، ينكرون في الآخرة أن يكونوا أشركوا معه غيره أو عبدوا دونه. وقال غيره من أهل التأويل: سيكفر المعبودون بالعابدين لهم، ويتبرءون منهم، وهو كقوله: (وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)، وقوله: (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ) ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا): قَالَ بَعْضُهُمْ: (ضِدًّا)، أي: عونًا، وتأويل العون: هو أن يلقى تلك الأصنام معهم في النار، فيحرقون فيها معهم، فيزداد لهم عذابًا؛ فكانت على إحراقهم، وعلى هذا يخرج. وقول من يقول: الضد: البلاء، أي. يكونون بلاء عليهم على ما ذكرنا وهو ما قال: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ. . .) الآية، فإذا صاروا حصبًا كانوا بلاء وعونًا على إحراقهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا): أي: قرناء في النار بعضهم بعضًا، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويخاصم بعضهم بعضًا، ويكذب بعضهم بعضًا؛ فذلك كله ضد عليهم، ضدّ ما طمعوا منها؛ لأنهم عبدوها في الدُّنيَا رجاء أن يكونوا لهم شفعاء في الآخرة ونصراء، فكانوا لهم على ضد ذلك أعداء. وقال ابن عبَّاسٍ: يكونون ضدًّا: أي: حسرة، وكله واحد.

(83)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَرْسَلْنَا): أي: سلَّطنا عليهم، كقوله: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ): أي: قيضناهم بهم، كقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا)، فهما في الحقيقة واحد؛ لأنه إذا أرسلهم اتصلوا بهم، فإذا اتصلوا بهم قيضوا وقرنوا بعضهم ببعض. وقال الحسن، وأبو بكر الأصم، وغيرهما: (أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ): أي: خلينا بينهم وبينهم، ولم نمنعهم منهم على ما ذكر. لكن لو كان تأويل الإرسال التخلية وتأويل القيض كذلك، لم يكن لتخصيص الكفار بذلك معنى؛ إذ قد كان ذلك القدر من التخلية بينهم وبين المسلمين. وإن كان تأويل التخلية: أنه لم يمنعهم عنهم، وخلى بينهم - فدل تخصيص الكفار بهذا وأمثاله على أن ليس هو التخلية لا غير، وأن تخصيص هَؤُلَاءِ بهذا وأمثاله من قوله: (طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)، (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)، ونحوه، وإن كان هنالك من اللَّه معنى في الكفار ليس ذلك في المؤمنين، وفي المؤمنين معنى ليس ذلك في الكافرين، وهو - واللَّه أعلم - إذا علم في المؤمنين الرغبة والإجابة، وفقهم على ذلك وهداهم، وإذا علم من الكفار خلاف ذلك وضده خذلهم وأضلهم، فذلك تخصيصه إياهم بما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا): قَالَ بَعْضُهُمْ: تزعجهم إزعاجًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تُشْلِيهِمْ إِشْلَاءً، وتغريهم إغراء. وقال الحسن: تحركهم تحريكًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تقدمهم إقدامًا إلى الشر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: توقعهم إيقاعًا، ونحوه، وكله واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ... (84) أي: لا تكافئهم على أذاهم إياك، ولا

(85)

تعاقبهم، (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي: أنفاسهم يتنفسون في الدنيا، فهي معدودة تنقضي آجالهم عن قريب، فلا تكافئهم على ذاك وما يستقبلونك بالمكروه والسوء. ثم وجه ما ذكر من إرسال الشياطين عليهم والتمكين لهم من الوسوسة في الصدور، أعني: صدور المؤمنين، والنزغ في روعهم من غير أن يملكوا القهر والقسر على ذلك، وما جعلهم بمحل لا نراهم نحن، وهم يروننا، على ما أخبر (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)، فهو - واللَّه أعلم - أن من علم بحضرته وقربه عدوا له يراقبه ويطلب الفرصة عليه يكون أحذر وأهيب له ممن لا يعلم ذلك ولا كان بقربه وحضرته عدو، وعلى ذلك ما جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من الحفظة والكرام الكاتبين - صلوات الله عليهم - على بني آدم، رقباء عليهم في قليل ما يفعلون ويتفوهون وكثيره، وإن كان قادرًا على حفظ ذلك عليهم والتذكير لهم واحدًا بعد واحد، شيئًا على إثر شيء، وذلك لما ذكرنا أن من علم أن عليه رقيبًا يراقبه ويكتب عليه كل قليل وكثير كان أحذر وأهيب ممن لم يعلم ذلك على نفسه رقيبًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) أي: الذين اتقوا مخالفة أمر اللَّه في كل ما لا يغلب عليهم؛ لأن المؤمن لا يرتكب المعصية إلا لغلبة شهوة، أو لغلبة رجاء إلى مغفرة ربه ونحوه، أو توبة يضمرها بعد ارتكابها، وعلى هذا يكون ارتكاب المؤمن مخالفة ربه. وقوله: (إلَى الرَّحْمَنِ) أي: إلى ما وعد لهم الرحمن من الثواب. وقوله: (وَفْدًا) الوفد في الشاهد: هم أهل الكرامة والمنزلة يبعثون لأمور، فكأنه قال: إن المتقين يحشرون وهم مكرمون معظمون، ولهم منزلة عند اللَّه وقدر، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) الوارد: هو طالب الماء، والورد الجمع، فكأنه قال: ونسوق المجرمين إلى جهنم عطاشًا طلاب الماء، على ما قاله أهل التأويل. والمجرم، قال أبو بكر الأصم: هو الوثاب في المعصية، وأصل الإجرام: الاكتساب؛ ولهذا قال بعض الئاس في قوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ)، أي: يكسبنكم، وأصله هو كسب الإثم. وقوله: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) فيه أنهم إنما يساقون على كره منهم؛ إذ ذكر في الكافرين السوق وذكر في المؤمنين الجمع والحشر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ ... (87) الشفاعة، إنما تكون فيمن استوجب

(88)

العذاب والعقوبة، فأما من لا عقوبة عليه مغفور الذنب فإنه لا معنى لها ولا فائدة، فهو يرد على المعتزلة مذهبهم: أن صاحب الكبيرة لا يغفر له، وصاحب الصغيرة مغفور له، فالشفاعة التي ذكر لا تخلو إما أن تكون لأهل الكبائر فيغفر لهم بالشفاعة، فيبطل قولهم، أو لأهل الصغائر وتعذيبهم، فكيفما كان فهو يرد قولهم؛ إذ لا معنى لذكر الشفاعة في المغفورين. وقالوا: إن الشفاعة في الشاهد أن يذكر نجابة الإنسان عند آخر ليعرف محاسنه ومناقبه ليكون له منزلة وقدر عنده، لكن مثل هذا يجوز ممن يجهل ذلك ولا يعرف بنفسه، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - هو عالم بذاته، يعلم حال كل أحد، فلا يحتمل ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: شهادة أن لا إله إلا اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العمل الصالح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصلاة على ما ذكرنا، وأصل العهد هو أن يشترط شروط الوفاء حتى يفي بما شرط عليه وهو الوفاء بما أمر به ونهى عنه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في مشركي العرب؛ لأنهم هم الذين قالوا: الملائكة بنات اللَّه، لكن أهل التأويل قالوا أيضًا: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ)، فهو في كل من قال ذلك. ثم قوله: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) يخرج على الإضمار حين أخبر عنهم أنهم (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) أن قل لهم يا مُحَمَّد: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا) أي: عظيمًا منكرًا. أو أن يكونوا لما قالوا ذلك أقبل عليهم فقال لهم: لقد جئتم شيئًا عظيمًا منكرًا، واللَّه أعلم.

(90)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) قَالَ بَعْضُهُمْ: مثل هذا إنما يقال على المبالغة في العظيم من الأمور والنهاية من الضيق والشدة على التمثيل. يقول الرجل لآخر: أظلمت الدنيا عليه وضاقت عليه الأرض بما رحبت ونحوه، على الإبلاغ في الضيق والشدة؛ فعلى ذلك هذا ذكر على الإبلاغ والنهاية في العظيم من القول لما قالوا عنه سبحانه، ثم جعل مثل ما قالوا في العظيم لله بما يعظم من المحسوسات في العقول، وهو ما ذكر من انفطار السماوات وانشقاق الأرض وهذ الجبال، وهن أصلب الأشياء وأشدها؛ ليعرفوا عظم ما قالوا فيه، وهكذا تعرف الأمور الغائبة التي سبيل معرفتها الاستدلال بالمحسوسات من الأشياء المشاهدات منها. وجائز أن يكون ما ذكر من انشقاق الأرض وهذ الجبال وانفطار السماء على حقيقة ما ذكر يكون فيها وإن لم يشاهد ذلك منها ولم يحس، كقوله: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا). وقال قائلون: ذكر هذا في أهل السماوات فثبت أنهم يكونون كما ذكر بما قالوا تعظيمًا لذلك وإنكارًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) أي: ما ينبغي له ولد. (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) وفي الشاهد لا أحد يتخذ الولد من عبيده، فكيف ينبغي لمن له ملك السماوات والأرض وكلهم عبيده - أن يتخذ ولدًا من عبيده. (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)، وأسباب الأولاد التي بها يتخذ الولد ليست فيه؛ لأن في الشاهد إنما يتخذ الولد لثلاث، وقد ذكرناها في غير موضع، فإن كان اللَّه - سبحانه - يتعالى عن ذلك كله، لم ينبغ له أن يتخذ الولد. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) في الآخرة، أي: كلهم يقرون بالعبودية له يومئذ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) يحتمل قوله: (أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) من عد أنفسهم وإحصائه، أي: لا يخفى عليه شيء. أو أن يكون على الوعيد أن يحصي أقوالهم وأفعالهم بما سلط عليهم من الملائكة ما يراقبون ذلك منهم، كقوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وقوله:

(96)

(كِرَامًا كَاتِبِينَ)، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الضد: الخصم، والإدّ السوق الشديد، وقوله: (شَيْئًا إِدًّا)، أي: شديدًا، والورد، أي: يوردهم إياها، أي: يدخلهم، وقال: الورد: النصيب من الماء، وقوله: (هَدًّا) أي: صوتًا يهدّ، أي: يهدم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا). يحتمل وجوهًا ثلاثة: أحدها: خاطب أهل مكة: إذا آمنتم وعملتم الأعمال الصالحات يرفع اللَّه ما بينكم من التباغض والتعادي، فيبدل سكانه المحبة والمودة، كقواله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، أخبر أنهم صاروا بالإيمان إخوانا مؤلفة قلوبهم بنعمة من اللَّه وفضله. والثاني: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) في الجنة، أي: ينزع عنهم ما في قلوبهم من غل وغش، كقوله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ). والثالث: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) في قلوب الأنبياء والأخيار وأصحاب الدّين؛ لأنهم إنما ينظرون إلى الإنسان لدينه ولخلوصه عمله لله وصفائه له لا إلى الدنيا وما تحويه يده. وجائز أن يكون على ما رويت الأخبار إن ثبتت: رُويَ عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أحَبَّ اللَّه عبدا نادى قد أحببتُ فلانًا فأحِبُّوه " وكذلك هذا في البغض. وقال كعب: وجدت في التوراة: أنه لم تكن محبة لأحد من أهل الأرض حتى يكون بدؤها من اللَّه تعالى ينزلها على أهل السماء، ثم على أهل الأرض، وكذلك قال في البغض، ثم قال: وكذلك وجدت في القرآن، فقرأ هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

(97)

الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا): يحتهم ويحببهم إلى المؤمنين في صدورهم، فعلى هذا إن ثبت يجب أن يخاف المرء على نفسه إذا رأى الناس يكرهونه أن يكون ذلك من سوء عمله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) قَالَ بَعْضُهُمْ: يسرنا تبليغ الرسالة على لسانه حتى بَلَّغَهَا إلى الفراعنة منهم والأكابر الذين كانوا يقتلون من يخالفهم ويستقبلهم بغير الذي هم عليه قولًا وفعلًا، ويعاقبون على ذلك، يسر ذلك عليه حتى بلغها إلى أمثال هَؤُلَاءِ، وقدر على ذلك من غير أن يقدروا على إهلاكه، حيث أخبر أنه عصمه منهم بقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: يسره على لسانه حتى قدر على التكلم به والنطق؛ لأنه كلام ربِّ العالمين. قال أبو بكر الأصم: هذا لا يحتمل؛ لأنه أنزله بلسانه ولسان العرب، فلا يحتمل ألا يقدروا على التكلم بلسانهم. وقال قائلون: يسره على لسانه حيث جعله بحيث يحفظونه ويقرءونه عن ظهر قلوبهم، ليس كسائر الكتب المتقدمة: أنهم كانوا لا يقدرون على حفظها والقراءة عن ظهر القلب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا)؛ وقال في آية أخرى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)، وقال في آية أخرى: (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ). مرة ذكر النذارة للناس جميعًا، ومرة للذين ظلموا خاصة، ومرة للذين اتبعوا الذكر، والأصل في النذارة والبشارة: أن البشارة إذا كانت خاصة لأحد، فهي له على شرط الذوام على ذلك أبدًا، وفيها النذارة له إن لم يدم، وكذلك النذارة الخاصة لأحد لدوام ذلك ملتزمًا، فإن تاب ورجع عن ذلك فله فيها البشارة، على هذا يكون البشارة الخاصة والنذارة الخاصة يكون في كل واحدة منهما أخرى، وأمَّا البشارة المطلقة فهي بشارة لا يكون فيها النذارة، وكذلك النذارة المطلقة لا يكون فيها البشارة، على هذه الأقسام يخرج البشارة والنذارة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) يخؤف به أهل مكة بإهلاكه القرون الماضية في الدنيا بتكذيبهم الرسل؛ لئلا يكذبوا

محمدًا كما كذب أُولَئِكَ الذين من قبلهم فينزل بهم العذاب والهلاك كما أنزل بأُولَئِكَ، بقوله لنبيه: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ)، أي: هل ترى وتبصر منهم أحدًا، أي: لا ترى ولا تبصر منهم أحدًا (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا)، قيل: صوتًا، وقيل: ذكرًا، أي: لا يذكرون بعد هلاكهم إلا بسوء، يحذر أهل مكة؛ لئلا يكذبوا رسولهم كما كذب الذين من قبلهم الرسل فيكونون كما كان أُولَئِكَ وصاروا مثلهم. قَالَ الْقُتَبِيُّ: اللد: جمع ألد، وهو الخصم الجدل، والركز: الصوت الذي لا يفهم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الألد: هو شديد الخصومة (هَلْ تُحِسُّ): هل تراه (رِكْزًا) أي: ذكرًا، والركز -أيضًا- الصوت وقال: (هَدًّا): صوتًا إذا انهدمت. وقال أبو معاذ: وللعرب في البشرى ثلاث لغات: بَشَرته بالتخفيف فأنا أبشره، وَبَشَّرْتُهُ بالتشديد فأنا مُبَشِّره وأبْشَرْتُهُ فأنا مُبشِّرُهُ والرجل مَبشُور ومُبَشَّرٌ. وقوله: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)، أي: وحده ليس معه من دنياه شيء. وقال الحسن: (قَوْمًا لُدًّا)، صُمًّا: صم آذان القلوب، وقَالَ بَعْضُهُمْ: فُجَّارًا، وقيل: عوجًا عن الحق، وأصله ما تقدم ذكره، واللَّه الموفق وبه نستعين. * * *

سورة طه

سُورَةُ طه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (طه): قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: قوله: (طه): يا رجل بالنبطية، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بالسريانية، وقيل: يا فلان، وقيل: هو اسم من أسماء اللَّه، وقيل: حروف من أسمائه ونحو ذلك، وقد ذكرنا القول في الحروف المقطعة فيما تقدم في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) لا يحتمل أن يكون هذا نزل على الابتداء من غير سبب ولا أمر، لكنه لم يبيّن السبب الذي به نزل هذا، فيحتمل أن يكون سببه وجوهًا: أحدها: ما حمل نفسه من الشدائد والمؤن العظام، وأجهد نفسه في ذلك؛ فنزل: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)، أي: لتتعب به نفسك، كقوله: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) أي: تتعب؛ ألا ترى أنه قال: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى). والثاني: أنه لما كف نفسه عن الشهوات ومنعها عن جميع ما تهواه من اللذات، فقال أُولَئِكَ الكفرة: إنه شقي؛ حيث رأوه لم يعط نفسه شيئًا من شهواتها ولذاتها. والثالث: أنهم قالوا ذلك لما رأوه أنه دعا الفراعنة والجبابرة إلى دينه واتباعه، وأظهر لهم الخلاف، واستقبلهم بما يكرهون، وكانت عادتهم القتل وإهلاك من يظهر لهم الخلاف، فخاطر بذلك، فعند ذلك قالوا: إنه شقي؛ حيث يخاطر بنفسه، فقال: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) على ما يقول أُولَئِكَ، بل أنزله عليك؛ لتسعد حيث أخبر أنه عصمه بقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). أو ألا يفسر ولا يذكر ذلك الأمر

(3)

والسبب الذي به نزل؛ لأنه لم يبيِّن، ولا حاجة بنا إلا إلى معرفة ما ذكر، وهو قوله: (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)، أي: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)، بل أنزلناه لتسعد، وأنزلناه ليتذكر به من يخشى، كقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) أي: عظة لمن يتقى ما به يخشى. ويحتمل قوله: (لِمَنْ يَخْشَى): كل مؤمن؛ لأن كل مؤمن يعتقد في أصل إيمانه الخشية منه والاتقاء من نقمته وعذابه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) كأن هذا نزل على إثر قول قاله أُولَئِكَ الكفرة، وهو ما قالوا: إنه ساحر، وإنه مفتر، وإنه شاعر وإنما يعلمه بشر ونحوه، فقال جوابًا لقولهم: (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى) وليس كما يقول أُولَئِكَ: إنه ساحر وإنه مفتر وإنما يعلمه بشر، بل تنزيلًا ممن خلق الأرض والسماوات العلا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) قال الشيخ - رحمه اللَّه -: القول بالكون على العرش - وهو موضع - بمعنى كونه بذاته أو في كل الأمكنة لا يعدو عن إحاطة ذلك به أو الاستواء أو مجاوزته عنه أو إحاطته: فإن كان الأول فهو إذن محدود محاط به منقوص عن الخلق؛ إذ هو دونه، ولو جاز الوصف له بذاته بما يحيط به الأمكنة لجاز أن يحيط به الأوقات؛ فيصير متناهيًا بذاته مقصرًا عن خلقه. وإن كان على الوجه الثاني، فلو زيد في الخلق، لانتقص أيضًا، وفيه ما في الأول. ولو كان على الوجه الثالث فهو الأمر المكروه الدال على الحاجة وعلى التقصير من أن ينشئ ما لا يفضل عنه مما يذم ذا من فعل الملوك أن يفضل عنهم من المقاعد شيئًا. وبعد: فإن في ذلك تجزئة بما كان بعضه في ذي أبعاض، وبعضه يفضل عن ذلك، وذلك كله وصف الخلائق، واللَّه يتعالى عن ذلك. وبعد: فإنه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من المكان للجلوس شرف ولا علو ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح أو الجبال أنه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر؛ فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه؛ حيث فيها ذكر العظمة والجلال؛ إذ ذكر في قوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) وصفه بالعظمة والسلطان، والقدرة، فكذلك على تعظيم العرش، أي شيء كان من نور أو جوهر؛ لا يبلغه علم الخلق، وإضافة الاستواء إليه لوجهين:

أحدهما: على تعظيمه، بما ذكر على إثره، ذكر سلطانه في ربوبيته، وقدرته وخلقه ما ذكر. والثاني: على تخصيصه بالذكر بما هو أعظم الخلق وأجله؛ على المعروف من إضافة الأمور العظيمة إلى أعظم الأشياء، كما يقال: تم لفلان ملك بلد كذا، واستوى على موضع كذا لا على خصوص ذلك في الحق، ولكن معلوم أن من له ملك ذلك فما دونه أحق به؛ وعلى ذلك قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. . .) الآية. بما صارت له أم القرى وأيس الذين كفروا من دينهم، وكذا ما ذكر من إرسال الرسل إلى الفراعنة، وإلى أم القرى لا بتخصيص ذلك، ولكن يذكر عظم الأمر، فمثله أمر العرش، وهو كقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا). وقوله: (أَمَرْنَا مُنزَفِيهَا) على لحوق غيرٍ بهم، ويحتمل أن يكون على المنع بوصف المكان؛ إذ هو أعلى الأمكنة عند الخلق ولا تقدر العقول شيئًا، فأشار إليه ليعلم علوه عن الأمكنة وتعاليه عن الحاجة، وعلى ذلك قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ. . .) الآية، والنجوى ليس من نوع ما يضاف إلى المكان، ولكن يضاف إلى الإسرار فأخبر بعلوه عن الأمكنة، وتعاليه عن أن يخفى عليه شيء، ثم بقدرته وقوته بقوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي: بالسلطان والقوة، وبالألوهية في البقاع كلها؛ لأنها أمكنة العادة بقوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ويملك كل شيء بقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) وبقوله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ثم بعلوه وجلاله بقوله: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)، (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فجمع في هذه الأحرف ما فرق في تلك، ليعلم أنه بكل ما سمى به ووصف كان ذلك له بذاته لا بشيء من خلقه، وكذلك عزه وشرفه ومجده، جل ثناؤه عن الأشباه ولا إله غيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يريد بالعرش: الملك؛ إذ هو اسم ما ارتفع من الأشياء وعلا حتى سمي به السطوح ورءوس الأشجار، والاستواء قيل فيه بأوجه ثلاثة: أحدها: الاستيلاء، كما يقال: استوى فلان على كورة كذا، بمعنى: استولى. والثاني: العلو والارتفاع، كقوله: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) وقوله: (إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي: علوتم. والثالث: التمام، كقوله: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى)، أي: تم واستقر. وقد قيل بالقصد، وإلى ذلك وَجَّهَ أهل الأدب قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)

(6)

بمعنى: خلق على التمثيل بفعل الخلق فيما يتلو فعلهم فعلًا أن يكون بالقصد، وإن كان لا يقال له القصد، ولا قوة إلا باللَّه. ثم الوجه في ذلك لو كان على الاستيلاء، والعزيز الملك أنه مستولي على جميع خلقه، وعلى هذا التأويل المحمول غير هذا، يدل على الأمرين قوله: (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) بمعنى: الملك العظيم، وفيه إثبات عروش غيره، فذلك يحتمل ما يحمل ويحف به الملائكة، واللَّه الموفق. وأمَّا على تأويل التمام والعلو، فهو أن اللَّه تعالى قال: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ. . .) الآية، فأخبر بخلق ما ذكر في ستة أيام على التفاريق، ثم أجملها في موضع، فقال: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .) إلى قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى) بمعنى خلق الممتحن من خلق الأرض والسماوات فبهم ظهر تمام الملك، وعلا، وارتفع؛ إذ هم المقصودون من خلق ما بينا، فبذلك تم معنى الملك وعلا؛ إذ وصل إلى الذين لهم خلقوا وقد قيل ذا في خلق البشر خاصة بقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. . .) الآية، وقوله: (لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ)، ونحوه. وذكر عن ابن عَبَّاسٍ: أن البشر خلق اليوم السابع فبه التمام والعلو؛ إذ خلق لهم كل شيء وخلقهم لعبادة اللَّه، وألحق بهم الجن بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. . .) الآية لكن المقصود البشر؛ إذ تسخير ما ذكرت كله إنما يرجع إلى منافعهم، واللَّه الموفق. والأصل عندنا في ذلك: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فنفى عن نفسه شبه خلقه، وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشباه؛ فيجب القول بـ (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) على ما جاء به التنزيل، وينفي عنه شبه الخلق لما أضاف إليه، وإذ لزم القول في اللَّه بالتعالي عن الأشباه ذاتًا وفعلًا، لم يجز أن يفهم من الإضافة إليه المفهوم من غيره في الوجود، واللَّه الموفق، وقد ذكرنا هذا في غير موضع من القرآن. وفي قوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) الوصف له بالسلطان والقدرة والملك على ما ذكرنا. وفي قوله: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) الوصف له بالعلم في الغيب والسر والعلانية جميعًا؛ ليكونوا أبدًا على حذر وخوف ويقظة في جميع أفعالهم وأقوالهم، وفي

(7)

الأوّل؛ ليصرفوا طمعهم ورجاءهم من الخلق إلى خالقهم، وألا يطمع ولا يرجى غيره. ثم اختلف في قوله: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) قَالَ بَعْضُهُمْ: (السِّرَّ): ما أسررت به إلى غيرك، (وَأَخَفَى): ما أضمرته وأكننته في نفسك، لم تسره إلى أحد. قال قائلون: (السِّرَّ): ما أسررت به وحدثت به نفسك، (وَأَخفَى): ما علم الله أنه كائن يكون، ولم يكن بعد، ولم تعلم به. وقال قائلون: (السِّرَّ): ما أسره في نفسه، (وَأخفَى): ما خطر في قلبه، وهو لا يضبطه، ونحو ذلك، وأصله في قوله: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) كأنه يقول: وإن تجهر بالقول أو تسرّ (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) قال أبو بكر الأصم: أي: من وحَّد اللَّه بأسمائه فله الحسنى، وهي الجنة، وقد ذكرناه فيما تقدم. * * * قوله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا)، ظاهر، هذا سؤال واستفهام، لكن المراد منه الإيجاب، ثم اختلف في معنى الإيجاب: قال الحسن وأبو بكر: قوله (وَهَلْ أَتَاكَ)، أي: لم يأتك حديث موسى وسيأتيك، ثم أخبره وأعلمه بحديثه ونبيه.

(10)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَهَلْ أَتَاكَ)، أي: قد أتاك حديث موسى؛ لتخبرهم عما كان في كتبهم؛ ليكون ذلك آية لنبوتك ورسالتك. وقواله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) قيل: رأيت نارًا، وقيل: علمت نارًا؛ (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ) ليس في هذه الآية بيان أن موسى في أي حال كان؟ وفي أيّ وقت؟ لكن في موضع آخر بيان ذلك، وهو ما قال: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا)، هذا يدل أنه كان في حال السير والسفر رأى ذلك، وقال في آية أخرى: (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)، فهذا يدل أنه كان في أيام الشتاء والبرد، حيث قال: (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ) القبس: النار، والأقباس: النيران، ويقال: قبس يقبس قبسًا، أي: جاء بالنار، ويقال: اقتبست نارًا، واقتبست -أيضًا-: تعلمت، وهذا من ذاك؛ لأن العلم ضوء، ويقال: اقتبستك، أي: علمتك، واقتبستك أي النار والعلم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (آنَسْتُ نَارًا): أبصرت، ويكون في موضع آخر: علمت، كقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا)، أي: علمتم منهم رشدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى): هذا يشبه أن يكون قد استقبلته الطرق؛ فلم يعلم الطريق الذي له من غيره، فقال: (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)، أي: من يدلني ويرشدني على الطريق. أو أن كان قد ضل الطريق وعدل عنه، فقال عند ذلك ما قال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ ... ) نداء وحي (يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ (12) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أمره بخلع نعليه؛ لأنهما كانا من جلد ميتة. وقال قائلون: أمره ينزع نعليه؛ ليس قدماه بركة ذلك الوادي، أو يصيبه من يمنه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمره بذلك؛ للتواضع والخضوع له؛ لأن لبس النعل يخرج مخرج

(13)

المباهاة، فأمر بذلك؛ ليكون أخضع له وأكثر تواضعًا، واللَّه أعلم بذلك، وليس لنا أن نفسر ذلك أنه لماذا أمره بذلك؟ إذ له أن يأمر بخلع نعليه لا لمعنى، وليس لنا أن نقول: أمره لهذا، أو لعله أمره بذلك لمعنى آخر، أو لا لمعنى؛ فيخرج ذلك مخرج الشهادة على اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى): المقدس: المطهر، ولعله سماه مطهرًا؛ لما لم يعبد عليه سواه ودونه، أو سماه: مطهرًا؛ لمعنى خصَّ به؛ لفضل عبادة أو غيرها على ما خصَّ بقاعًا بفضل عبادة تقام فيها من نحو المساجد والحرم وغيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (طُوًى): قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من وطء الأرض، أي: طأ الوادى المبارك حافيًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (طُوًى): قد قدس مرتين، وهو قول الحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (طُوًى) يقول: يطوى مسيره. نحو هذا قد قالوا، لكن الأصوب ألا يفسر إلا بعد حقيقة به؛ لأنه أنباء كانت في كتبهم ذكرت لرسول؛ لتكون له حجة ودلالة على رسالته عليهم، ففي التفسير خوف دخول الغلط فيه وتغييره، فإذا تغير لم يصر له عليهم حجة ودلالة على رسالته؛ لذلك كان السكوت عنه أولى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إما بالرسالة والنبوة، أو بأشياء أخر كقوله: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي. . .) الآية، وقال في آية أخرى: (إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا) أخلصه اللَّه لنفسه بأشياء. وقوله: (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى): هذا يدل أن النداء الَّذِي نودي كان نداء وحي، وهو قوله: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي (14) وهو ظاهر، كذلك أمر رسله أول ما أمروا بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي): قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) لتكون ذاكرًا لي؛ لأن أكثر ما يذكر المرء به

(15)

إنما يذكر في الصَّلاة؛ لأن الصلاة من أولها إلى آخرها ذكر لله؛ ولذلك سمى الصلاة: مناجاة الرب، أو أن يكون قوله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)، أي: لتذكرني بها يا موسى. وقال قائلون: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) إذا أنت نسيت إذا ذكرتها، وعلى هذا رويت الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال ذلك، وقرأ هذه الآية إن ثبتت. وجائز أن يكون قوله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) أي: أقم الصَّلاة لتستوجب بها ذكرى. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) أي: لتذكرني فيها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) قال الحسن: (أَكَادُ) صلة، كأنه قال: إن الساعة آتية أخفيها، وفي حرف أُبي بن كعب: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها من نفسي)، ثم يحتمل قوله: من نفسي وجهين: أحدهما: أخفيها من خلقي، ولا يجب أن يفهم من نفسه: ذاته بالإضافة إليه، كما لم يفهم من قوله: (رُوحِي) و (روحنا)، وهو أخفى من الناس: ذاته، ولكن فهم منه: خلقه؛ فعلى ذلك لا يفهم من قوله: من نفسي ذاته، هذا يحتمل، واللَّه أعلم. والثاني: أن يكون قوله: (أكاد أخفيها من نفسي)، أي: من أخيار عبادي، أي: أخفيها من أخيار عبادي مع عظيم قدرهم ومنزلتهم عندي من نحو الملائكة والأنبياء والرسل؛ فإن عادة ملوك الأرض: أنهم لا يكتمون سرائرهم من خواصهم، بل يطلعونهم على ذلك، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - واللَّه أعلم - أنه أخفاها من خواص عباده وأخيارهم،

(16)

فكيف من دونهم؛ فيكون إضافته إياهم إلى نفسه؛ لعظم قدر أُولَئِكَ وفضل منزلتهم كقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، واللَّه لا يُنصر، ولكن إن تنصروا دين الله ينصركم، أو إن تنصروا أولياء اللَّه ينصركم، وكذلك قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ) واللَّه لا يخادَع، ولكن يخادعون أولياءه ونحوه؛ فعلى ذلك قوله: (أخفيها من نفسي): أي: من خواصي وأخيار عبادي، واللَّه أعلم. هذا على إسقاط قوله: (أَكَادُ) وجعله صلة، وأما على إثبات (أَكَادُ) فهو على وجهين. أحدهما: يقال: كاد: أراد، أي: أريد أخفيها، وهو معروف باللّغة. والثاني: كاد، يقال: قارب، وهو سائغ في اللغة، جارٍ (كاد) على إرادة مقاربة: كادت الشمس أن تطلع، أو تغرب، أي: قاربت وكدت أن أسقط، أي: قاربت، وإلا لا يريد السقوط، إذا كان على هذا فهو قال ذلك - واللَّه أعلم - على التعظيم لها، أي: قارب أن يخفيها من نفسه فكيف من غيره؟!. وقال ابن عَبَّاسٍ قريبًا من هذا، أي: (أكاد أخفيها من نفسي) فكيف أعلنها لكم؟! أي: لا أظهر عليها أبدًا غيري، فكأنه استجاز الإخفاء في موضع الإظهار باللغة، نحو ما قالوا في قوله: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أي: أظهروا، فعلى ما كان الإسرار في موضع الإظهار والكتمان، فعلى ذلك رأوا الإخفاء مستعملًا في الأمرين جميعًا، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أُخفِيهَا)، أي: أظهرها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)، أي: لهذا ما أخفيها (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)؛ لأنها لو كانت ظاهرة يعاينها كل أحد، ويعلمها، لما كان ذلك جزاء، ولكن كان دفعًا؛ لأنه يعاين كل إنسان ما نزل بهذه النفس بما سعت من العذاب فيمتنع هو عنه، وإذا رأى كل أحد ثواب هذا بسعيه يرغب في مثله؛ فيكون ذلك كله بحق الدفع، لا بحق الجزاء، فأخبر أنه أخفاها؛ للجزاء والمحنة، لا للدفع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) أي: عن الإيمان بها (مَن لا يُؤمِنُ بِهَا) يعني: الساعة، واللَّه أعلم. لا يصدنك عنها بأسباب ألقاها إليك، وقد يمتنع الإنسان عن الشيء بأسباب تعترض وشبه تستقبل، وإن لم يقدر على منعه بالتصريح والإفصاح، واللَّه أعلم، أي: لا يصدنك

(17)

عن الإيمان بها - يعني: الساعة - من لا يؤمن بها واتبع هواه في التكذيب بها بالشبه والأسباب التي ذكرنا (فَتَردَى) أي: فتهلك لو صدّك عنها، فالخطاب وإن كان لرسول اللَّه فهو لكل أحد من المؤمنين، على ما ذكرنا في غير آي من القرآن فيما خاطب رسوله به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) كأن موسى - صلوات اللَّه عليه - لم يفهم مراده بسؤاله إياه أنه ما أراد بقوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى): أنه يسأله عن اسمها وعما له فيها؛ فأجاب الأمرين جميعًا عن اسمها وعما له فيها، حيث قال: (هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى). ثم قال الحسن: إنه واللَّه كان يعلم أنّ في يده عصًا، لكنه أراد أن يقرر عنده: أنها عصا لا حيّة؛ ليرى له منها آية فيعلم ذلك. أو أن يريد بذلك تنبيهه وإيقاظه؛ ليعلم أنه وقت ما أخذها عصًا، فيعلم أنها إنما صارت كذا بالآية التي جعلها له لا أنها كانت يومئذ كذلك حية، واللَّه أعلم. (قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) ثم يحتمل: جعلها حيّة تسعى، ثم جعلها حيّة، وأراد الآية له منها؛ لما أن قوم فرعون كانوا أهل بصر وحذق في ذلك النوع من السحر، فأحب أن يريهم الآية والعلامة من النوع الذي كان لهم فيه بصر وحذاقة؛ ليعلموا بخروجها عن وسعهم وطوقهم أنها آية وعلامة سماوية وربوبية لا بشرية؛ إذ الأعلام التي جعلها آيات وأعلامًا لرسله على رسالتهم إنما جعلها ما كانت خارجة عن وسع البشر وطوقهم؛ ليعلموا بذلك أنها سماوية ربوبية، لا بشرية سحرًا ولا كهانة، واللَّه أعلم. ثم قوله: (خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) على ما كانت في الحالة الأولى عصًا، كأن موسى خاف حين صارت حيّة، وهو ما قال في آية أخرى: (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا)، فعند ذلك قال له: (خُذْهَا وَلَا تَخَفْ)، وأخبره أنه يعيدها عصًا على ما كانت، واللَّه أعلم. وفي قوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) دلالة أن العصا إنما تمسك باليد اليمنى. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَتَرْدَى)، أي: تهلك أرداه: أهلكه، ويقال: تردى الرجل إذا

(22)

وقع في البئر أو من فوق حائط، ويقال: رديته، أي: ألبسته الرداء، وارتديت: أي: لبست الرداء، وترديت: مثله. وقوله: (أَتَوَكَّأُ)، أي: أستعين بها على المشي. وقوله: (وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي)، أي: أضرب الشجرة حتى تنثر ورقها فتأكله غنمه، والهش: الكريم، والبش: من البشاشة، قال: والمآرب: الحوائج، والأرب -أيضًا-: الحاجة، والآراب جمع، ويقال: أربت الشيء: قسمته، وجعلته إربًا أقسامًا: أي: جزأته أجزاء. وفي قوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ) دلالة أن الإنسان إذا استخبر عن شيء، فإن عليه أن يخبر المستخبر عما يستخبر على الإجابة له، ولو كان يعلم أن المستخبر له عن ذلك عالم بذلك؛ لأن موسى كان يعلم أن ربه كان أعلم بما في يده منه، ولم يقل له حين استخبر عما في يده: إنك أنت أعلم به مني، ولكنه قال: هي عصاي إجابة له وتعظيمًا لأمره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) وقال في آية أخرى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ)، وكأن في هذا تفسير الأول. وقوله: (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ): قال عامة أهل التأويل: (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ)، أي: من غير برص، كأنهم ذهبوا إلى أن البياض في الإنسان إذا اشتد به حتى يغلف سائر بدنه لا يكون إلا بالبرص؛ لذلك قال: (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي: من غير برص بك (آيَةً أُخْرَى) سوى آية العصا. وجائز أن يكون (بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي: من غير آفة وعيب بك وأذى؛ لأن التغيّر إذا وقع في بعض بدن الإنسان لا يكون إلا بعيب وآفة تحل به، فبين أن ذلك البياض ليس لآفة بك، ولا عيب في بدنك، ولا فيه أذى، ولكن آية ليريها منها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) قال قائلون: الآية في اليد أكبر من الآية في العصا؛ لأن سحر أُولَئِكَ كان في العصا. وقال قائلون: آية العصا أكبر من آية اليد؛ لأن أُولَئِكَ كانوا أهل بصر وعلم في السحر في العصا، فخروج عصا موسى عما احتمل وسعهم وما لهم فيه بصر وعلم، يدل على أن ما أتى موسى ليس هو بسحر، ولكن آية من اللَّه؛ لأن فضل بصر الرجل وعلمه في شيء إنما يظهر بمجاوزته في ذلك عن أهل بصر في ذلك النوع وعلم، لا يظهر ذلك على أهل الجهل في ذلك، فعلى ذلك أمر عصا موسى.

(24)

وجائز أن يكون قوله: (لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى) التي ذكر في آية أخرى، هو قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ. . .) الآية، الآيات الكبرى هي التسع التي ذكر في هذه الآية؛ لا أن كان لموسى آيات سوى التسع هي أكبر. أو أن يكون ذلك لا على تخصيص آية دون آية بالكبر والعظم، ولكن وصف الكل بذلك، كقوله: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا)، هو على وصف آياته كلها بالكبر والعظم، وهو كقوله: (لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) هو على إثبات النفع في كل واحد عليها في الآخر فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) الطغيان: هو المجاوزة عن الحدود التي جعلت، كان فرعون قد تعدى، وجاوز الحد في كل شيء، حتى أدعى لنفسه الربوبتة، حيث قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) إن موسى سأل ربه أن يشرح له صدره، وذكر مُحَمَّد أنه شرح له صدره بقوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ)، ثم جائز أن يكون شرح صدرهم لتسع ما حمل عليهم من ثقل النبوة والرسالة؛ ليتسع صدرهم لذلك، ويقدروا على القيام بذلك والوفاء به. أو أن يكون سأله شرح صدره؛ لما كان الرسل يغضبون لله عند تكذيبهم قومهم حين دعوهم إلى دينه، ويحزنون على ذلك، فيمنعهم غضبهم وحزنهم عن القيام بتبليغ الرسالة، كقوله: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ)، أخبر أنه يخاف عند تكذيب قومه ضيق صدره وثقل لسانه؛ فسأله لذلك أن يشرح له صدره، ويطلق له لسانه. ويحتمل ما قاله بعض أهل التأويل: (اشْرَحْ لِي صَدْرِي)، أي: ليِّن لي قلبي؛ لأن الرسل قد امتحنوا في حال واحدة بشيئين متضادين: بالغضب لله عند تكذيب قومهم إياهم، والرأفة لهم، والرحمة بما حل بهم بالتكذيب من العذاب، فذلك أمران يتضادان خص الرسل بهما، فجائز أن يكون سأل ربه أن يشرح له صدره؛ ليتسع للأمرين جميعًا: الغضب له، والرحمة عليهم.

(26)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26). يحتمل: تبليغ الرسالة إليهم، والقيام بها، أو سأله التيسير بجميع ما أمره به ونهاه عنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) يحتمل ما ذكرنا أنه إذا اشتد به الغضب يحبس لسانه ويثقل حتى يمنعه عن النطق به؛ فيظن ذلك اللعين أنه لخوف صار كذلك. أو أن يكون سأل ذلك لآفة كانت بلسانه ما كان يمنعه عن التكلم به، فسأله أن يحل تلك الآفة والرتوتة التي كانت به. وأمَّا قول أهل التأويل: إنه أخذ بلحية فرعون، فلطمه، فأراد أن يعاقبه، فقالت له امرأته: إن فعل ذلك، فإنه لا يعقل. فأتى بطشت من جمر وطشت من حلو، فهَمَّ أن يتناول من الحلو، فأهوى، جبريل بيده إلى الجمر، فأخذه وجعله في فيه، فتلك الرتوتة التي سأله أن يحلها لذلك، لكن ذلك لا يعلم إلا بالوحي عن اللَّه أنه كذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) سأل ربه أن يجعل أخاه معه وزيرًا له ويشاوره؛ ليتحمل عنه بعض ما حمل عليه من الأثقال؛ إذ قيل: الوزير: هو الذي يتحمل عن الملك بعض ثقل ما حمل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَزْرِي) وظهرى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) أي: عوني، وكذلك ذكر في حرف حفصة. وقرأ بعضهم: [(أَشْدُد بِهِ أَزْرِي)] على الخبر من موسى، وكذلك في قوله: (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)، وأمَّا قراءة عامة القراء فهي على الدعاء والسؤال. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي)، أي: ظهري، ويقال: آزرته: أعنته، ويقال: توازروا: أي: تعاونوا، واستوزرته: أي: استعنت به، ومن هذا أخذ الوزير. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَزرِي): ظهري، ويقال: آزرت فلانًا على الأمر، أي: قويته عليه، فأما وازرته: فصرت له وزيرًا، وأصل الوزارة من الوزر: وهو الحمل، كأن الوزير يتحمل عن السلطان بعض الثقل ويرفع عنه.

(33)

موسى سأل ربه أن يعينه بأخيه، ويقويه به فيما حمله، وأن يشركه فيما قلَّده من الرسالة والقيام بها، فأجابه اللَّه لذلك، حيث قال: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) يحتمل: كي نسبّحك كثيرًا بالجماعة؛ لأن الصلاة بالجماعة تتضاعف على الصلاة وحده، وأن يعين بعضنا على التسبيح لك والذكر، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) أي: إنك بضعفنا وعجزنا فيما حملتنا وقلدتنا بصيرًا، عالمًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) أي: أعطيت ما سألته، وكان سأله أشياء فأوفي، فقوله: (سُؤْلَكَ)، وسؤالك، ومسألتك لغات ثلاثة، كلها واحد. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى. . .) الآية. يشبه أن يكون المنة حين أنجاه فيما ابتلى بالرد واشتباه الطريق، حتى قال: (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)، فتلك المنة الأخرى. أو أن يكون المنة التي ذكر هي ما أنجاه اللَّه حيث قتل ذلك القبطي فاشتد له ذلك الخوف حتى بلغ الإياس، فتلك المنة التي ذكر، أو ما ذكر من الوحي إلى أمه (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى) مع النبوة مرة أخرى، ثم بيِّن النعمة، ثم قال: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) إلى آخر ما ذكر، وإلى هذا ذهب أهل التأويل، وإلا قد كان منه إليه من المنن ما لا يحصى، واللَّه أعلم. ثم الكلام فيما ألهم أمَّه في روعها أن تقذفه في البحر أنه يسع لهذا أن يفعل ذلك، ويحل أو لا؟ إذ قد يجوز أن يكون من الشيطان مثل هذا، نحو ما قال: (لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ. . .) الآية، فلم يعرفوا وقت ما كلمهم بهذا: هو وشيطان أو غيره؟ فعلى ذلك يجوز أن يلقي الشيطان إليها؛ فكيف وسع لها أن تعمل ما علمت من الأخطار؟ لكن يجوز أن يكون في ذلك الإلهام وما ألقي إليها - آية ومعنى،

(39)

عرفت بذلك أن ذلك من اللَّه، لا من أحد سواه. أو أن يكون رفع الحجاب والموأنع من قلبها، وصار لها ذلك كالعيان. أو كانت كالمضطرة إلى ذلك؛ فوسع لها ذلك لما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ... (39) قال عامة أهل التأويل: ألقى عليه محبة في قلب امرأة فرعون، حيث قالت: (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ. . .) الآية، لكن ألقى عليه محبَّة في قلب امرأته وقلب فرعون أيضًا، حتى كان أشفق الناس عليه وأحبهم، بعد ما كان يقتل الولدان بسببه؛ ليجده ويظفر به، يذكره - عَزَّ وَجَلَّ - رحمته عليه ومننه له، وهي المنة التي ذكر، حيث قال: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، الصنع: هو فعل الخير والمعروف، أي: لنصنع إليك المعروف والإحسان. وقوله: (عَلَى عَيْنِي): قَالَ بَعْضُهُمْ: لتُغَذَّى على حفظي، يقال: عين اللَّه عليك: أي كن في حفظ اللَّه، وهو قول الحسن وقتادة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لتربي على عيني، أي: على علمي، والأول أشبه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) أي: من يضمه، يسمى كافل اليتيم الذي يضمه ويضمنه ويحفظه، وهو كقوله: (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي: يضمها ويحفظها، فهذا يدل أنه كان عندهم من أحب الناس إليهم، وأشفقهم عليه، حيث قال: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا) حيث قال لها: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) وعدٌ لها أن يرده إليها فردَّه. وقوله: (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ)، أي: يذهب حزنها الذي كان؛ لأنها قد كانت حزينة بطرحها إياه في اليم؛ ألا ترى أنه قال: (إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ .. .) الآية وهذا يدل أن قوله: (وَلَا تَحْزَنَ)، أي: يذهب حزنها الذي كان بها. وقود - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ): يحتمل أن يكون الغم الذي أخبر أنه نجاه منه هو الخوف الذي كان به بعد مقتل ذلك القبطي، حيث قال: (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)، وقوله: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ)، ونحوه، أو نجاه من أنواع الغموم؛ إذ كان له غموم.

(41)

وفي الآية دلالة أن لا قصاص يجب في شبه العمد وإن كان الضرب بشيء لا نجاة فيه؛ لأن موسى - صلوات اللَّه عليه - كانت له قوة أربعين نفرًا على ما ذكر، فإنما لطمه لطمة، فقضى عليه، ثم قال: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، هذا يدل أنه كان لا يحل له قتله، ثم قال: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) سماهم: ظلمة، فلو كان يحل القتل ويجب القصاص، لكان لا يسميهم ظلمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: (فُتُونًا): هو جمع فتنة، أي: فتناك فتونا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فُتُونًا):، هو مصدر الفتنة، أي: ابتليناك ابتلاء، أي: بلاء، والفتنة في البلايا والشدائد: الغموم التي ذكر أنه نجاه منها. ويحتمل: النعم والخيرات؛ إذ لم يكن الأنبياء في جميع الأوقات في البلاء، ولكن كانوا في وقت في بلاء وشدة، وفي وقت آخر في نعمة وخير. أو فتنه بهما جميعًا، على ما أخبر: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ). هذا - واللَّه أعلم - من المنة التي ذكر، حيث قال: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى). قَالَ بَعْضُهُمْ: بالنبوة والرسالة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: على موعود، أو على قدر وقت المجيء، فكيفما كان ففيه أن مجيء العبد وذهابه وجميع سعيه يكون بقدر من اللَّه، وتقدير منه، وفيه أنه يجعل الأمور بأسباب، وإن كان يجعل أبعضها، بغير أسباب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) أي: اخترتك، واصطفيتك لرسالتي ونبوتي، فذكر نفسه؛ لأنه بأمره يقوم بأداء ذلك. * * * قوله تعالى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا

(42)

لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وقوله: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي (42) هو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي): أي: لا تضعفا في الدعاء إلى ديني وتوحيدي. وحرف عبد اللَّه بن مسعود: (ولا تهينا في ذكري) وفي البلاغ (إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) أمرهما ألا يقصرا ولا يعجزا في تبليغ الرسالة إليه، والدعاء إلى دينه، حيث قال: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا). قال أَبُو عَوْسَجَةَ؛ (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)؛ أي: تربى بعيني، وسئل عن العين، فقال: العين: العلم هاهنا، والعين في غير هذا: المال، والعين: الأديم المتخرق، والعين: المصدر من عان يعين، فهو عائن، والمفعول به معيون: إذا أصابه بعين، والعين: الحقيقة، كقولك: هذا بعينه، أي: بحقيقته، قال: والعينة: السلف، ومثله قوله: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا). (عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ) أي: يضمه لا يضمنه. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى)، أي: وقت المجيء (وَاصْطَنَعْتُكَ)، أي: أخلصتك (لِنَفْسِي)، (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) أي: لا تقصرا ولا تعجزا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ... (44) لأن القول اللين يكون أقر وأثبت في القلوب، وأنجع، وأقرب إلى الإجابة والقبول من القول الخشن البارد، وخاصة في الملوك والرؤساء؛ إذ طباعهم لا تحتمل ذلك، ولا تنجع فيهم، بل أكثر صولتهم على من دونهم إنما يكون عند استقبالهم بالخلاف وبما يكرهون، فأمر - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله موسى وهارون أن يقولا له قولًا لينًا، ويلطفا معاملته؛ ليكون أقرب وأثبث في قلبه وأنجع؛ ولذلك قال: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).

(45)

قال الحسن: كل (لعل) من اللَّه فهو على الإيجاب؛ لأنه قد تذكر وخشى، حيث قال: (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ. . .) الآية، وحيث قال: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ)، لكن لم ينفعه إيمانه في ذلك الوقت؛ لأنه إيمان دفع واضطرار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) في علومكم، فإن كان على هذا فهو يحتمل الشك، وإن كان على الأوّل فهو على الإيجاب لا يحصل الشك. ثم اختلف في القول اللين: قال ابن عَبَّاسٍ: هو قول اللَّه: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)، أي: فتوحّد، قال: هذا القول اللّين. وعن الحسن: (قَوْلًا لَيِّنًا): قولا له: إن لك معادًا، إن لك مرجعًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (قَوْلًا لَيِّنًا): قول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لينًا، ونحوه، وأصله ما ذكرنا بدءًا. وقوله - عر وبئ -: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قال أهل التأويل: قوله: (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا)، أي: يعجل بالعقوبة من قبل أن يسمع حجتنا. أو أن يطغى بقتلنا بعدما سمع الحجة منا. وجائز أن يكون أحد هذين في الفعل، والآخر في القول: أن يفرط علينا أو أن يطغى أيهما كان؟ لأنه قال في الجواب لهما: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، أي: أسمع ما يقول لكما، وأرى ما يفعل بكما، فهذا يدل - واللَّه أعلم - أن قوله: (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) يرجع أحدهما إلى القول، والآخر إلى الفعل؛ لأنه قال في وقت: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)، ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَخَافَا ... (46) يحتمل على نفي الخوف، والأمن منه، كقوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)، ليس على النهي عن الحزن، فعلى ذلك الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّنِي مَعَكُمَا): في النصر والمعونة لكم والذب عنكم والدفع، (أَسْمَعُ) ما يقول (وَأَرَى) ما يفعل، وقد كان منه إليهما: النصر والمعونة لهما، والدفع عنهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ ... (47)

(48)

يشبه أن يكون (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) هذا، أي: لا تضعفا في تبليغ الرسالة، ولكن قولا: (إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) لا يحتمل أن يكون أول ما أتياه قالا: (أَن أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) ولكن قد سبق منهما الدعاء إلى توحيد اللَّه والإفراد له بالألوهية والربوبية؛ فإذا ترك الإجابة، فعند ذلك قالا له: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ). وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: كأنه كان يمنع بني إسرائيل عن الإسلام، وهم أرادوا الإسلام، فقالا: أرسل معنا بني إسرائيل ولا تمنعهم عن الإسلام. أو: كان يستعبدهم، فأمره أن يستنقذهم من يديه، كقوله: (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) ألا ترى ائه قال: (وَلَا تُعَذِّبْهُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) وهو ما قال؛ (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى). هذا يدل أنه لا يبدأ بالسلام على أهل الكفر، ولكن يبدأ بأهل الإسلام، وفيه أن تحية أهل الإسلام هو السلام، لا قول الناس: (أطال اللَّه بقاءك)، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) كأنه قال: والسلام على من اتبع الهدى، والعذاب على من كذب وتولى. والسلام هو اسم كل خير وبر. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا) أي: يعجل ويقدم، قالوا: الفرط: التقدم والسبق، وفي الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنَا فَرَطكم على الحَوض "، وهو من السبق، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا) أي: يعجل، يقال: فرط يفرط فرطًا: أي: عجل، وقال: (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) أي: لا تقصرا ولا تعجزا في البلاغ، (وَاصْطَنَعْتُكَ) أي: استخلصتك لنفسي، فإذا لم يفهم من قوله: (لِنَفْسِي): ذاته فكيف يفهم (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) ما لم يفهم من الخلق، ولا يتصور هذا وأمثاله إلا في وهم من اعتقد التشبيه ولم يعرف ربه، وإلا لو عرف ربَّه حق معرفته، لكان لا يتصور في وهمه تشبيه الخلق به، ولا

(49)

تشبيهه بخلقه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) وقال في آية أخرى: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) الآية، (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا)، سأله عن ماهيته، فأجابه موسى عن آثار صنعه في خلقه، وأنه ربُّ كل شيء، وربُّ ما ذكر، لم يجبه عما سأله من ماهيته وكيفيته، حيث قال: (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى)، فجوابه عن الماهية: ربنا فلان، وأنه كذا، ففيه دلالة أن اللَّه لا يعرف من جهة الماهية والكيفية؛ إذ لا ماهية ولا كيفية؛ إذ هما أوصاف الخلق، فاللَّه سبحانه يتعالى عن أن يوصف بشيء من صفات الخلق. ثم يحتمل قوله: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) وجوهًا: أحدها: أعطى كل شيء يكون، صورة ما قد كان معاشه وقوامه؛ ليعلم أنه قادر على بعثهم على الصورة التي كانت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ هَدَى) فهو على قوله: أعطى كل شيء ثم هدى، فإن كان التأويل: أعطى كل شيء صورته وهيئته، فقوله: (ثُمَّ هَدَى للنجاة، وإن كان أعطى جنسه وشكله ثم هداه للنسل، وإن كان قوله: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ) ما به معاشهم وقوامهم، ثم هداه لما يتعيشون به، ويقومون به، وهداه لما يصلح لهم وما لا يصلح لهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما سأل فرعون موسى عن القرون الأولى؛ لأنه سمع من ذلك الرجل المؤمن حين قال: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ)، ولم يكن لموسى بهم علم، فوكل علمهم إلى اللَّه، ثم أنزل اللَّه عليه التوراة، فبين له فيها أمرهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سأل فرعون موسى ذلك؛ لأن موسى أخبر أنه يبعث، وخوفه على ذلك، فعند ذلك قال: (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) لم يبعثوا منذ أهلكوا؟ فقال له ما قال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) إنما سأله عن حال القرون الأولى أهم في الجنة أو في النار، فقال: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ... (52) وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما سأله عن أعمالهم: فما أعمال القرون الأولى؟ فقال: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) أي: أعمالهم عند ربي في كتاب مرقوم، وقوله: (سَائِقٌ وَشَهِيدٌ)، وقوله: (فِي كِتَابٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الكتاب الذي أثبتت فيه أعمالهم، وقَالَ بَعْضُهُمْ: في اللوح

(53)

المحفوظ، (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) قال: هما واحد: لا يضل ولا ينسى ذلك الكتاب، وقرئ: (يَضِلُّ) ولا يُضِلُّ من ختم بالهدى، و (لَا يَضِلُّ) أي: لا يَضِلُّ ذلك الكتاب الذي ذكر، ليس أنه يرجع إلى قوله: (لَا يَضِلُّ رَبِّي). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ... (53) هو على قوله: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) أي: فراشًا، والذي (سَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) يذكر نعمه التي أنعمها عليهم؛ يقول: جعل لكم الأرض بحيث تفترشون، وتعيشون فيها، وتقرون عليها بعدما كانت تميد بكم، (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا) أي: طرقًا تسلكون فيها، وتختلفون إلى البلدان النائية في حوائجكم وما به معاشكم وقوامكم ما لولا ذلك ما قام معاشكم، ولا قضيت حوائجكم (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ) أي: الماء (أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى): ما به معاشكم وقوامكم وقوام أنعامكم، على اختلاف ما جعل لكل دابة من ذلك قوتًا وغذاء، ولم يجعل ذلك لغيرها؛ لأن من الدواب ما يأكل النبات، ومنها ما يأكل الحب، ومنها ما يأكل اللحم، ونحوه. قوله تعالى: (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ... (54) أي: كلوا أنتم وارعوا أنعامكم فيما به قوامها. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى): قَالَ بَعْضُهُمْ: (لِأُولِي النُّهَى) أي: لأولي العقول. وقال الحسن: إن في ذلك لآيات للذين يتناهون عما نهوا عنه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لآيات لأولي الورع، وأولي النهي: هم أهل العقول؛ لأنه بالعقل ينهى، وبه ينتهي، وبه يؤمر ويؤتمر، فذلك آيات لهم، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: لأولى النهي: أولي العقول، وقال: النهية: العقل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى)، أي: ما حالها؟ يقال: أصلح اللَّه بالك، أي: حالك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) يحتمل قوله: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) وجوهًا: أحدها: منها خلقنا أصلكم، وهو خلق آدم، لكنه أضاف خلقنا إليها وإن لم نخلق منها كما أضاف الإنسان إلى النطفة وإن لم يكن الإنسان منها، لكنه أضاف إليها؛ لأنها أصل

(56)

الإنسان؛ فعلى ذلك إضافة خلق أنفسنا إلى الأرض. والثاني: نسب إليها؛ لأنا من أول ما ننشأ إلى آخر ما ننتهي إليه يكون قوامنا ومعاشنا من الخارج من الأرض؛ فنسب خلقنا إليه، وهو ما قال: (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) واللّباس على هيئته ما هو لم ينزل من السماء، لكنه أضافه إليها؛ لأنه كان بأسباب من السماء وأصله منها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر أن الملك ينطلق فيأخذ من تراب ذلك المكان الذي يدفن فيه الإنسان فيذره على النطفة التي قضى اللَّه منها الولد؛ فيخلق من التراب والنطفة، قذلك معنى الإضافة إليهما، لكن هذا سمعي لا يعرف إلا بالخبر، فإن ثبث فهو هو، وإلا لا يجوز أن يقال ذلك رأيًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ). قوله: (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) إذا متم، أي: تقبرون فيها، فيخرج مخرج الامتنان علينا، وذلك لنا خاصة دون غيرنا من الحيوان، لئلا نتأذى بهم، كقوله: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ)، أو أن يكون قوله: (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ)، أي: تصيرون ترابًا إذا متم، فيخبر عن قدرته وسلطانه، أي: من قدر على أن صيَّر الإنسان ترابًا، بعد أن لم يكن ترابًا لقادر على أن يصيره إنسانًا على ما كان بعدما صار ترابًا، وهو ما قال: (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) أي: منها نبعثكم وننشئكم مرة أخرى، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا) ولم يره جميع آياته، إنما أراه بعض آياته، لكن إن كان المراد منها الإعلام له، فقد أعلم الآيات كلها؛ لأنه إنما أراه آية واحدة أو بعض الآيات، فرؤية آية واحدة وبعضها يدل على إعلام غيرها من الآيات، فهو على

(57)

الإعلام قد أعلمه كلها، وهو ما قال له موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، علم اللعين أنها الآيات وليست بسحر. أو أن يكون يريد بالآيات كلها الآيات التي أرسلها إلى موسى، فقد أراه آياته كلها، فكذب بتلك الآيات وأبى أن يصدقها ويقبلها فيسلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) قد علم التعين أنه لم يجئهم ليخرجهم من أرضهم، ولكنه يريد منهم الإسلام، لكنه أراد أن يغري قومه عليه، كقوله: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ)، فهذا إغراء منه قومه عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ بَعْضُهُمْ: (سُوًى) المكان الذي نحن فيه الآن، وغير هذا المجلس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مكانًا عدلًا لا نخلف نحن ولا أنت ذلك المكان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَكَانًا سُوًى) أي: منصفا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (مَكَانًا سُوًى)، أي: وسطا بين فريقين. وقال الكسائى: سُوًى وسِوًى يريد به سواء، وهما لغتان، إلا أنه يقرأ: " سوى " وقال أبو عبيدة: هو مثل (طُوًى) وهو المنصف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) قَالَ بَعْضُهُمْ: يوم عاشوراء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يوم العيد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يوم سوقهم، لكا لا نعلم ذلك، وليس بنا إلى ص معرفة ذلك حاجة،

(60)

وهم قوم قد عرفوا ذلك، حيث رضوا بذلك ولم يتنازعوا فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) بينوا اليوم، وبينوا الوقت، وهو وقت الضحى. (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: نهارًا جهارًا، كقوله: (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى)، نهارًا، يعني: جهارًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ ... (60) أي: أقبل على أمره، وجمع كيده، ليس على الإعراض عما دعوا إليه، ثم أتى بهم، وهو كقوله: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ) أي: أقبل على السعي في الأرض بالفساد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: لا تفتروا على اللَّه كذبًا فيما بأن لكم الحق، وظهر لكم الحجة باتخاذكم فرعون إلهًا؛ لأنكم إذا اتخذتم دونه سواه إلهًا - ولا إله غيره - فقد افتريتم عليه. والثاني: لا تفتروا على اللَّه كذبًا فيما بأن لكم الحق وظهر لكم الحجة، فلا تفتروا على اللَّه كذبًا بقوله: إنه سحر، وإنه كذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ) برفع الياء ونصبها جميعًا. (فَيُسْحِتَكُمْ): قال أبو معاذ: يقال: أسحته وسحته، قهره وأقهره. وقال أهل التأويل: أي: يهلككم ويستأصلكم بعذاب. ثم يحتمل ذلك العذاب في الدُّنيَا، أوعدهم بعذاب يأتيهم إذا افتروا على اللَّه كذبًا بعدما بأن الحق، وظهر لهيم البرهان والحجة. وقوله: (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) في الدنيا والآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) أي: تناجى السحرة فيما بينهم سرا من فرعون، فذلك قوله: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) من فرعون، فقال لهم: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) يعنون: موسى وهارون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) من موسى وهارون، فنجواهم أن قالوا: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) والأشبه هنا أنهم اعتزلوا

قومهم وأسروا النجوى عنهم فيما بينهم أنهما كذا. ثم قوله: (إِنْ هَذَانِ) بالألف، قال أبو عبيدة: هذه لغة قوم من العرب، يقال: مررت ورأيت رجلان، فهو على تلك اللغة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن هذه الألف لا تسقط في الوحدان بحال، يقال: مررت بهذا ورأيت هذا، ونحوه، فهو الأصل لا يحتمل السقوط في الأحوال كلها في الوحدان والتثنية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ)، أي: نعم هذان، وذلك لغة قوم أيضًا، يقولون: (إن) مكان (نعم)، كقول القائل في آخر بيته: . . . . . . . . . . . . فقُلْتُ إِنَّهْ أي: نعم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن هذا خطأ من الكاتب، وكذلك عن عثمان: أنه لما نظر في الكتاب فقال: إني أَرَى فِيهِ [لَحْنًا وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَ] (¬1)، أو نحو هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا) هذا القول إنما أخذوا من فرعون، حيث قال: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ. . .) الآية، وقوله أيضًا حيث قال: (أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى)، علم فرعون أن ذلك ليس بسحر لكنه أراد أن يغري قومه عليه؛ لئلا يتبعوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) اختلف فيه: قال الحسن: قوله: (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)، أي: بعيشكم أمثل العيش؛ لأنهم كانوا جبابرة وفراعنة، وكانوا بنو إسرائيل لهم خدمًا وخولًا يستخدمونهم ويستعملونهم في حوائجهم، فكان تعيشهم بهم، فقال (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)، أي: يذهبا بأمثل عيشكم، حيث قال له موسى: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)، أي: يذهبا بدينكم ومذهبكم الأمثل؛ لأنه يقول: إن الذي يدعوهم إليه هو الرشاد، وأن الذي يدعوهم موسى إليه هو باطل، وإنه سحر ¬

_ (¬1) في النسخة المطبوعة هكذا [خطابًا فيقومها العرب بألسنتها] والتصويب السمرقندي والقرطبي. وهذا القول من أخبث ما وضع الوضاعون على عثمان رضى اللَّه عنه، وقد أنكر العلماء صحة نسبته إليه. على أن عثمان لم يستقل بجمع المصحف بل شاركه؟؟ الصحابة في جمعه وكتابته ولم ينشروه بين المسلمين حتى قابلوه على الصحف التي جمع القرآن فيها عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلم يتداوله المسلمون إلا وهو بإجماع الصحابة موافق تمام الموافقة للعرضة الأخيرة التي عرض فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن على جبريل عليه السلام. وهل يظن ظان أن عثمان رضى اللَّه عنه وهو ثالث الخلفاء الراشدين يرى في المصحف لحنا يخالف ما أنزل اللَّه ويتركه ويقول: ستقيمه العرب بألسنتها! وكيف يفعل أن يقول ذلك في حضرة الصحابة ولا يقفون في وجهه ويردون عليه قوله وهم أنصار الدين وحماته. وممن أنكر نسبة هذا القول إلى عثمان المصنف والزمخشري وأبو حيان والآلوسي في سورة " النساء " عند قوله تعالى: " وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ " آية 162، راجع ج 6 ص 13.

(64)

وفساد، كقوله: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)، وحيث قال: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، وحيث قالوا: (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)، ونحوه، يدعى أن ما يدعوهم إليه هو الرشاد، وأن الذي يدعو موسى إليه هو السحر والفساد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)، أي: خياركم وأشرافكم والأمثل منكم. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَيُسْحِتَكُمْ)، أي: يهلككم ويستأصلكم، يقال: سحته اللَّه، وأسحته، وقال: (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)، أي: الأشراف، ويقال: هَؤُلَاءِ طريقة قومهم: أي: أشرافهم، اشتقاق الطريقة من الشريف، ويقال: أراد: بسنتكم ودينكم، و (الْمُثْلَى): مؤنت أمثل، مثل كبرى وأكبر. (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ... (64) أي: حيلتكم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (طَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)، أي: بدينكم الأفضل، وهو من الأمثل. وقال أبو عبيدة: (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي: مصلى، والصف: المصلى، وقال: حكى عن بعضهم أنه قال: ما استطعت أن آتى الصف اليوم أي: المصلى. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (صَفًّا): أي: جميعًا، وكذلك قال غيره من أهل التأويل. وقوله: (مَنِ اسْتَعْلَى) أي: غلب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) حرف الإجماع يستعمل في العزم مرة والاجتماع ثانيًا: أما في العزم فما ذكر في الخبر: " لَا صَوْمَ لِمَنْ لَم يَجْمَع رَأيَهُ مِنَ اللَّيل " أي: لمن لم يعزم، على ما روى في الخبر: " لا صَوْمَ لمن لم يَعْزِمْ مِنَ الليل ". وأما الاجتماع فظاهر، فإن كان على الاجتماع، فكأنه قال: فاجتمعوا على عمل واحد لا تختلفوا فيه. وعلى العزم، أي: اعرفوا شيئا واحدًا؛ واقصدوا أمرًا واحدًا لكي تغلبوا.

(65)

(ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) قَالَ بَعْضُهُمْ: جميعًا غير متفرقين، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي: المصلى الذي كان موعود الاجتماع، وهو يوم الزينة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) قيل: من غلب، كقوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ)، أي: غلب. وجائز أن يكون قوله: (اسْتَعْلَى)، أي: من طلب العلو، وأراد أن يسعد بما وعد فرعون للسحرة من الأجر إذا كانوا هم الغالبين، كقوله: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)، فذلك هو ما طلبوا منه، فأخبر أنهم يظفرون بذلك، هذا إذا كان القول من فرعون، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى. قَالَ بَلْ أَلْقُوا)، إنما ألقوا بأمر من اللَّه وإذن منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ (66) إلى موسى (مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) أي: وقع في قلبه الخوف، وخاف إذ صنع القوم ما صنعوا من الشحر، ثم يحتمل ذلك الخوف منه وجهين: أحدهما: خاف على ما طبع البشر عليه من خوف الطبع، لا خوف غلبة؛ لأنه قال لهم: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ)، كان يعلم - صلوات اللَّه عليه - أن تمويهات السحر لا تبطل حجج اللَّه وآياته، فدل ذلك أنه خاف خوف الطبع والجِبِلَّة، لا خوف القهر والغلبة. أو أن يكون خوفه لما أخذ سحر أُولَئِكَ أعين الناس؛ خاف موسى أن يمنعهم ذلك عن أن يبصروا ما جاء هو من الآية والبرهان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خاف أن يشكوا فيه فلا يتابعوه، ويشك فيه من تابعه، وهو ما ذكرنا

(68)

قريبًا منه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) أي: الغالب، فإن كان الخوف الذي ذكر خوف طبع وما جبل عليه المرء، فيكون قوله: (لَا تَخَفْ) على تسكين القلب وتثبيته، وإن كان الثاني فهو على البشارة له، والإخبار على ألا يمنع سحر أُولَئِكَ عن أن يبصروا ما تأتي به أنت من الآية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا (69) هذا يدل أن سحر أُولَئِكَ إنما صار بعدما ألقوا ما في أيديهم، لم يكن سحرًا وقت كونه في أيديهم، وكذلك عصا موسى إنما صارت آية وحجة بعدما ألقاها من يده لم تكن وقت كونها في يده، وكذلك حيث قال: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا)، أي: تلقم وتأكل ما صنعوا (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) أي: لا يفلح الساحر حيث أتى بسحره، وإلا قد أفلح سحرة فرعون، وفي حرف ابن مسعود: (أين أتى). وقَالَ بَعْضُهُمْ: حيث كان. وحيث وحوث لغتان، وهو قول الكسائي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) لأنهم عرفوا حقيقة ما أتى به موسى، فعلموا أنه سماوي وأنه آية ليس بسحر، فآمنوا إيمانا لم يرتابوا فيه قط، وهذا يدل أن كل ذي بصر وعلم في شيء يكون أبصر وأعلم في ذلك الشيء من غيره؛ حيث لم ينظروا لما رأوا ما أتى به موسى وعاينوا وقتًا ينظروا فيه، بل لسرعة معرفتهم، لم يملكوا أنفسهم، بل ألقوا على وجوههم على ما أخبر؛ حيث قال: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا)، و (سُجَّدًا). وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى): أي: أضمر خوفًا. وقال غيره: وقع في قلبه حيث أنَى كان. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ)، أي: يظن، يقول: يخيل إلى، أي: يريني فهمي وعلمي أن هذا الشيء كذا وكذا، (فَأَوْجَسَ) أي: أحس. (تَلْقَفْ) وتلقم: واحد. وقوله تعالى: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ... (71) قَالَ بَعْضُهُمْ: يعني: موسى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كبير السحرة الذي علم غيره السحر. وقال في آية أخرى: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا. . .) الآية. قد علم اللعين أن ذلك ليس بسحر ولا مكر مكروا به، لكنه أراد أن

(72)

يموه على قومه ويلبس عليهم أمر موسى وما جاء به من الآيات والحجج؛ لأنه هو الذي رباه ونشأ بين ظهرانيه وأهله، فعلم أنه لم يتعلم السحر من أحد، ولما فارقه وخرج من عندهم إلى مدين لم يكن هناك من يتعلم منه السحر، لكنه أراد التمويه والتلبيس على قومه، وكذلك أهل مكة حيث نسبوا رسول اللَّه إلى السحر والكهانة والافتراء والجنون وغيره، علموا أنه ليس بساحر ولا كاهن ولا مجنون ولا مفتر؛ لأنه نشأ بين أظهرهم صغيرًا لم يؤخذ عليه كذب قط على أحد من الخلائق، فكيف على اللَّه تعالى؟ ولا رأوه اختلف إلى أحد من السحرة والكهنة في تعلم ذلك، لكنهم أرادوا بذلك التمويه والتلبيس على الناس؛ لئلا يتبعوه ولا يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من دين اللَّه وتوحيده. ثم الرسل - صلوات اللَّه عليهم - لو لم يكن معهم الآيات المعجزة ولا الحجج النيرة، كانت أنفسهم وما طبعوا عليه من السيرة الحسنة والأخلاق الكريمة الجميلة وما اختاروا من الأمور العظيمة الرفيعة - دالة على رسالتهم ونبوتهم، فكيف وقد جاءوا بالآيات المعجزة والبراهين المنيرة؟ وما بطبع السحرة من السيرة المذمومة والأخلاق الدنيئة والأمور الخسيسة، يدل على كذبهم وافتعالهم، فكيف أشكل عليهم صرفة السحر من الرسالة والتمويه من الحجة، لكنهم أرادوا بذلك ما ذكرنا من التمويه على قومهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ). يشبه أن يكون هذا الوعيد منه في وقتين: أوعدهم أولا بقطع اليد والرجل من خلاف على الإبقاء؛ رجاء أن ينتهوا عما اختاروا، فإذا لم ينتهوا عنه، فعند ذلك أوعدهم بالقتل والصلب؛ إذ في القتل والصلب إتلاف ما دونه من الجوارح، فإن كان على هذا ففيه أن كل حد يراد به الإبقاء، فإنه لا يؤتى على الجوارح كلها، والقطع في السرقة قد يراد به الإبقاء؛ لذلك لا يؤتى على الجوارح كلها، وكذلك حد قطاع الطريق؛ إذ يراد به الإبقاء لم يزد على قطع اليد والرجل من خلاف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى). لو ذاق اللعين شيئًا من عذاب ربه لم يقل مثل هذه المقالة، ولولا ما عرف من حلم ربه، وإلا لم يتجاسر أن يتكلم بمثل هذا ويوعدهم أن عذابه أشد من عذاب اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) أي: لن نؤثرك بالربوبية والعبادة لك والطاعة على ما جاءنا من البينات على ربوبية الله وألوهيته وعبادته.

(73)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي فَطَرَنَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: لو نؤثرك على الذي خلقنا، لكن غيره كأنه أشبه، وهو أن قوله: (وَالَّذِي فَطَرَنَا) على القسم، أي: بالذي فطرنا، كأنهم أيأسوه عن العود إلى عبادته وخدمته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) ليس على الأمر لكن على عناد لك، أي: إنك وإن فعلت بنا ما أوعدت فإنا لا نؤثرك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) أي: إنما تقضي في هذه الحياة الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) يحتمل قوله: (وَاللَّهُ خَيْرٌ) معبود وثوابه أبقى من ثواب غيره. أو أن يكون هذا جواب قوله: (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) فيقول: عذاب اللَّه أبقى، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: جذوع النخل: ساق النخل وأصله. * * * قوله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75). أصل هذا - واللَّه أعلم -: أن من قبل من اللَّه حياته بالشكر وطيبها بالأعمال الصالحات، طيب اللَّه حياته وعيشه في الآخرة، ومن لم يقبل حياته من اللَّه بالشكر في الدنيا، بل كفر بها وخبثها وقبحها بالأعمال القبيحة الخبيثة الدنية خبث حياته في الآخرة وعيشه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) هى ما يرتفع ويعلو، والدركات: ما يتسفل وينحدر في الأرض، والدرجات للمؤمنين في الآخرة؛ لاختيارهم في الدنيا الأعمال الصالحة الرفيعة العالية، فعلى ما اختاروا في الدنيا من الأعمال الرفيعة العلية، فلهم في الآخرة مقابل ذلك الدرجات العلا، وأما الدركات فهي لأهل الكفر مقابل ما اختاروا في الدنيا من الأعمال الدنية الخبيثة أخزاهم،

(76)

كمثل من زرع بذر الشوك لم يحيصد بُرًّا قط. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) أي: ذلك الذي ذكر جزاء من صلح عمله وأنماه، والزكاة: هي النماء في اللغة. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي): وهو السير بالليل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا) أي: اضرب بعصاك البحر، اجعل لهم طريقا في البحر يابسًا؛ كقوله: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى). أي: لا تخاف لحوق فرعون وجنوده، ولا تخشى غرق البحر، ليس على النهي، ولكن على رفع الخوف عنه والأمن عن أن يدركهم ويلحقهم؛ ألا ترى أنه قال: (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) دل قوله: (بِجُنُودِهِ) على أن كان معه جنود لا جند واحد، وأما العدد فإنهم كذا وكذا ألفا وقوم موسى كذا وكذا ألفا، فذلك لا يعلم إلا بالخبر وليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)؛ أي: من الغرق والهلاك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) قَالَ بَعْضُهُمْ: وأضل فرعون قومه وما هداه اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وأضل فرعون قومه وما هداهم حيث قال: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ). وقيل: أضل قومه وما هدى نفسه. وقال - بعضهم: (وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) أي: آمن؛ وذلك أنه بالإيمان تزكو الأعمال وتنمو، وبه يثاب عليها ويؤجر.

(80)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَا تَخَافُ دَرَكًا) أي: لحاقًا. وقوله: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) أي: لحقهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) هذا خبر يخبر عما أنعم عليهم ومن على أوائلهم وآبائهم من حضر رسول اللَّه، يذكر هَؤُلَاءِ بما أنعم ومَنَّ على أُولَئِكَ، وإلا لم يكن هَؤُلَاءِ يومئذ، وفيه تذكير النعم والمنن على الصحابة في أواخر أمورهم؛ لأنه أمنهم في آخر أمرهم من عدوهم وأيأسهم عن عود هَؤُلَاءِ إلى دينهم. وفيه تذكير لنا فيما أنعم علينا ومَنَّ في أوائل أمورنا وآخرها، ليس التذكير لبني إسرائيل خاصة، ولكن لكل من أنعم عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ). لسنا ندري أن الأيمن هو اسم ذلك الجبل، أو سماه الأيمن؛ ليمنه وبركته، وقال - عز وجل - في آية أخرى: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ). أو سماه الأيمن من يمين موسى عليه السلام. فإن كان هو من اليمن والبركة فهو كذلك؛ لأنه به كان بدء وحي موسى عليه السلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى). يذكر هَؤُلَاءِ ما وسع على أوائلهم من الرزق وأخصهم؛ ليستأدي بذلك الشكر على ما أنعم عليهم، وذلك تذكير لنا ولمن وسع عليه ذلك؛ إذ لم يزل علينا يوسع الرزق من أول عمرنا إلى آخره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) أي: قلنا لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. ثم يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قوله: (طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) أي: من حلالات ما رزقناكم، فإن كان على هذا ففيه دلالة أنه يرزق ما ليس بحلال. والثاني: (مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) أي: ما تطيب به أنفسكم، ففيه دلالة أنه يجوز لنا أن نختار من الأطعمة ما هو أطيب إن كان على ما تستطيب به الأنفس. وقوله تعالى: (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ). الطغيان: هو المجاوزة عن الحدود التي جعلت، أي: لا تطغوا فيما رزقكم من

(82)

الطيبات وتجعلونه في غير ما جعل وتتجاوزوا عن القدر الذي جعل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) برفع الحاء والخفض جميعًا، يحل أن ينزل عليكم غضبي، ويحل بالرفع: يجب. وقوله: (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى). قيل: (هَوَى): هلك، أي: من يجب عليه عذابي فقد هلك، وكذلك قال الْقُتَبِيّ: (هَوَى)، أي هلك، يقال: هوت أمه: هلكت. وقيل: (فَقَدْ هَوَى)، أي: سقط في النار، يقال: هوى في موضع كذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) يحتمل قوله: (لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ) عن الشرك، ورجع عنه، وآمن بتوحيده، وعمل صالحًا فيما بين ذلك، (ثُمَّ اهْتَدَى): في حفظ أمره والنهي عما نهى. والثاني: (لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ): عن جميع المناهي وآمن بجميع ما أمر. وقوله: (ثُمَّ اهْتَدَى) أي: دام على ذلك وثبت؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا). * * * قوله تعالى: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى). قَالَ بَعْضُهُمْ: إن موسى - صلوات اللَّه عليه - خرج بنفر من قومه إلى الجبل؛ ليأخذ التوراة، فعجل حتى خلفهم وتركهم وراءه، فعند ذلك قال له ربه: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى). وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم يخرج بنفر، ولكن خرج وحده وترك قومه، فأصابهم ما أصاب من

(84)

الافتتان بالعجل الذي اتخذه السامري. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي ... (84) هذا على التأويل الأول، أي: هم يجيئون على أثري. وعلى التأويل الثاني، أي: تركتهم على ديني وسبيلي، وهو قول الحسن وقتادة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى). أي: عجلت إليك رب فيما دعوتني إجابة وطاعة فيما أمرتني؛ لترضى، هذا على التأويل الذي قال: إنه خرج وحده. وعلى التأويل الذي يقول: إنه خرج بنفر يقول - واللَّه أعلم -: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)؛ إذ لم يكن لي سبب ولا معنى يمنعني عن الإسراع إلى ما دعوتني وأمرتني. وهكذا عندنا أن من لزمه أمر اللَّه وفرضه، لزمه الإسراع والعجلة إلى القيام بأدائه، إذا لم يكن هناك سبب يمنعه عن التعجيل له والقيام به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) الفتنة: هي المحنة التي فيها شدائد وبلايا، ومعنى الافتتان هاهنا: هو ما فتنهم بالعجل الذي اتخذه السامري، جعله جسدًا بدم ولحم على ما ذكر، ونفخ فيه الروح، وجعل له خوار، فذلك معنى الافتتان منه إياهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ). أضاف الإضلال إلى السامري؛ لأنه كان سبب إضلالهم حيث اتخذ لهم العجل، ودعاهم إلى عبادته، وقال: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى)، فأضاف الإضلال إليه؛ لما ذكرنا من دعائه إليه والسبب الذي كان منه، وإلا لم يكن لأحد إضلال أحد، وأضاف الافتتان إلى نفسه؛ لما ذكرنا من جعل العجل جسداني من لحم ودم وروحاني. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى إجراء ما أجرى على يدي السامري مع ضلالة من الآية؟ قيل: هو - واللَّه أعلم - أنه لو ادعى لنفسه الرسالة، لكان لا يتهيأ له ذلك، لكنه إنما ادعى أنه إله وآثار العبودية فيه ظاهرة قائمة يعرف كل أحد أنه ليس بإله، وأما الرسالة فإنه يجوز أن تشتبه على الناس وتلتبس عليهم، فيمنع اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من ليس برسول إذا ادعى الرسالة إقامة دلالة الرسالة لاشتباهها على الناس، وأما الألوهية فلا يمنع عن إجراء ذلك؛ لأن آثار العبودة وأعلام العجز فيها ظاهرة يعرفها كل أحد. وهكذا من أتى أهل قرية لم يبلغهم هذا القرآن فقرأ هذا القرآن وقال: إني رسول الله إليكم لم يقدره اللَّه على قراءته، ولو ادعى الربوبية لم يمنع؛ لأن آثار العجز عن إتيان

(86)

مثله ظاهرة وفي الرسالة لا؛ لذلك افترقا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) والأسف: هو النهاية في الغضب، والنهاية في الحزن، وهكذا جبل اللَّه رسله وأنشأهم على نهاية الغضب لله والأسف له عند معاينتهم الخلاف لله والتكذيب له؛ كقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ. . .) الآية، وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا). على تأويل الحسن: وعدًا حسنا، هو الثواب الذي وعد لهم بالدِّين والسبيل. (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي)، أي: على ديني وسبيلي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَعْدًا حَسَنًا) أي: عدلا وصدقا؛ حيث وعد لهم أنه يرجع إليهم عند رأس أربعين أو ثلاثين ليلة، على ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) على تأويل الحسن: أفطال عليكم عهد ما وعد لكم من دون الثواب والجزاء على دينه وسبيله حتى نسيتم ذلك. وعلى تأويل من قال: إن الوعد هو ما وعد أنه يرجع إليهم على رأس كذا يقول: أفطال عليكم ومضى وعدي حتى فعلتم ما فعلتم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ). أي: أم تعمدتم الخلاف فيحل عليكم غضب من ربكم. (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) يحتمل الموعد الوجهين اللذين ذكرناهما فيما مضى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ... (87) برفع الميم وكسره: فمن قرأه بمُلْكِنَا برفع الميم، أي: بسلطاننا وطاقتنا، أي: لم نفعل بسلطاننا وطاقتنا. ومن قرأه: (بِمِلْكِنَا) بكسر الميم أي: بما ملكت أيدينا. وقال الكسائي: من قرأ (بِمُلْكِنَا)، معناه: بسلطاننا، ومن قرأه: (بِمَلْكِنَا) بكسر الميم ونصبه معناهما: وهو ما ملكت أيدينا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ). قيل: أثقالا من زينة القوِمِ، أي: من حلى القبط. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَذَفْنَاهَا)، أي: قذفنا ما حملنا من حليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ). أي: كذلك قذف ما حمل السامري من حليهم.

(88)

وجائز أن يكون قوله: (فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) ما أخذ من قبضته من أثر الرسول؛ كقوله: (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أي: عجلا جسده جسد عجل، وليس هو بعجل في الحقيقة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عجلا جسدًا لا يتعيش كما يتعيش العجل المولود من البقر، والأول أشبه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ). هذا القول إنما قاله السامري. وقوله: (فَنَسِيَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: نسي السامري حيث قال لهم: هذا إلهكم فنسي هذا القول، فيكون النسيان على هذا التأويل التضييع والترك؛ كأنه قال: ضيع السامري بعد ما علم وعرف رب العالمين ونسب الألوهية إلى العجل. وقَالَ بَعْضُهُمْ؛ إن السامري لما قال: هذا إلهكم وإله موسى، لكن موسى نسي هذا حيث خرج في طلب غيره، ولا يحتمل أن يقبلوا هذا القول منه، ويجعلوا العجل الذي اتخذه السامري إلها، وقد علموا أنه إنما اتخذه من حلي حملوه من القبط، لكنه كان في عقدهم أنه يجوز اتخاذ إله دون إله رب العالمين والعبادة له؛ رجاء أن تقرب عبادتهم تلك الآلهة إلى اللَّه، وعلى هذا كانوا يعبدون الأصنام دون اللَّه؛ كقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، وكذلك قالوا: (يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)، وكذلك ما اتخذ لهم فرعون من آلهة عبدوها دونه، وإلا لم يحتمل أن يقع عندهم أن رب العالمين هو ذلك العجل، لكنه ما ذكرنا أنهم كانوا يستجيزون في اعتقادهم عبادة من دونه، فقال عند ذلك ورد عليهم اعتقادهم فقال: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) أي: ألا يرون أن لا إذن في عبادة من يرجع إليه القول ويملك النفع والضر وهو البشر، فكيف أذن في عبادة من لا يملك شيئًا من ذلك، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ

(90)

فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) يذكر - واللَّه أعلم - بهذا رسوله: أن الذين كذبوك وجحدوا رسالتك لم يكذبوك لجهلهم بالرسالة، ولكن لتعنتهم وعنادهم على ما ذكروا نبأه من قول هارون لقومه لما عبدوا العجل حيث قال: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ) فكأنه يؤيسه عن إيمان أُولَئِكَ لعنادهم، وهو ما قال: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ). وقوله: (إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ) يحتمل وجهين: أحدهما: (فُتِنْتُمْ)، أي: صرتم مفتونين بالعجل بصوته وخواره أو بغيره. والثاني: (فُتِنْتُمْ) أي: ضللتم به، أي: بالعجل وإن ربكم الرحمن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّبِعُونِي)، أي: أجيبوا لي إلى ما أدعوكم به (وَأَطِيعُوا أَمْرِي)، أي: ما آمركم به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَنْ نَبْرَحَ)، أي: لن نزال على عبادة العجل مقيمين حتى يرجع إلينا موسى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَنْ نَبْرَحَ)، أي: لن نفارق عبادته، ثم قال موسى: (يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) هذا يدل أن قول هارون لهم: (إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ) أراد به: الضلال؛ حيث قال له موسى: (إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) يحتمل (أَلَّا تَتَّبِعَنِ)، أي: ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا صرت إلى ما كنت صرت أنا؟ وقد علمت إلى أين صرت أنا، أو أن يكون قوله: (أَلَّا تَتَّبِعَنِ)، أي: ألا تتبع ديني وسنتي وكانت سنته ومذهبه القتال والحرب معهم إذا ضلوا وتركوا دين اللَّه. فاعتذر إليه هارون فقال: (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) هذا أيضًا يخرج على وجهين: أحدهما: أني خشيت إن اتبعتك وصرت إلى ما صرت أنت تقول لي: (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)؛ لأنك لو نهيتهم عما اختاروا من عبادة العجل وبينت لهم السبيل لعلهم

(95)

يتبعونك، فحيث لم تفعل فأنت الذي فرقت بينهم. والثاني: على تأويل القتال والحرب في قوله: (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) إني خشيت لو فاتلتهم ونصبت الحرب بينهم صاروا فريقين، فإذا تفرقوا اقتتلوا وسفكوا الدماء وتفانوا، فترك القتال لما أطمعوه الإيمان إذا رجع إليهم موسى ونهاهم عن ذلك، فلعل سنته في القتال مع من لم يطمع منه الإيمان، هذا على تأويل من يقول بأن هارون اعتزلهم لما عبدوا العجل مع عشرة آلاف نفر وأكثر أو أقل على ما ذكر. وأما الحسن فإنه يقول: كلهم قد عبدوا العجل إلا هارون، فعلى قوله لا يحتمل الحرب والقتال معهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي). قيل: هو ما قال: (وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)، ودل قوله: (لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي) بأن كان له الشعر، فكنى بالرأس عن الشعر. * * * قوله تعالى: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ). قال الحسن: ما حجتك يا سامري على ما فعلت؟ ولا حجة كانت له قط. وقال غيره: (فَمَا خَطْبُكَ) ما شأنك وما أمرك، والخطب هو الشأن والأمر في اللغة. وتأويله - واللَّه أعلم -: فما شأنك؟ أي: ما الذي حملك على صنيعك الذي صنعت؟ ثم قوله: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ... (96) بالياء والتاء جميعًا، ثم بين ما الذي بصر هو ما لم يبصروا هم؟ فقال: (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا)، أما عامة أهل التأويل: فإنهم يقولون: إنه قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل فنبذتها، وليس في الآية ذكر التراب ولا ذكر الفرس، ولا أن ذلك الرسول جبريل أو غيره.

(97)

ويشبه أن يكون الذي قبضه هو تراب من أثر الفرس، على ما قاله أهل التأويل، وقد ذكر في حرف أبي: (فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول)، فإن ثبت ما قالوا، وإلا لم نزد على ما ذكر في الكتاب من هذه الأنباء والقصص التي كانت في كتبهم، فذكرت في القرآن؛ ليحتج بها رسول اللَّه على أُولَئِكَ؛ ليعرفوا أنه إنما عرف باللَّه تعالى، فلو زيد أو نقص عما في كتبهم، لذهب موضع الاحتجاج عليهم، بل يوجب ذلك شبه الكذب عليهم؛ لذلك وجب حفظ ما حكى في الكتاب من الأنباء والأخبار من غير زيادة ولا نقصان مخافة الكذب، إلا إن ثبت شيء يذكر عن رسول اللَّه أنه كان، فعند ذلك يقال، وإلا الكف أولى لما ذكرناه. وفي قراءة الحسن وقتادة: (فقبصت قبصة) بالصاد، والقبصة: هو الأخذ بأطراف الأصابع، والقبضة: هو بالكف؛ فلا يحتمل أن يصح الحرفان جميعًا؛ لأن الأخذ بأطراف الأصابع دون الكف فهو خبر يخبر عما في كتبهم، فإما أن يكون ذا أو ذا؟ فأما أن يكونا جميعًا فلا يحتمل، إلا أن يقال: إنه أخذه بأطراف الأصابع، ثم رده إلى الكف؛ فحينئذ يكون، أو أن يكون ثَمَّ مرتان، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أي: كذلك سولت لي نفسي أنك متى تأخذ قبضة من أثر الرسول فنبذتها في الحلي يحيا. أو أن يكون سولت له نفسه على ما كان عادتهم وطبيعتهم أنهم لا يعبدون ما لا يرونه ولا يقع بصرهم عليه؛ حيث قالوا: (يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) وكقولهم: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)، فقال: سولت لي نفسي أن أتخذ لهم عجلا يرونه فيعبدونه. أو سولت لي نفسي أن في قبضة أثر الرسول بناءً عظيمًا. أو قال ذلك اعتذارًا لجميع ما كان منه من أول الأمر إلى آخر أمره، واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ... (97) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لا تزال تقول: لا مساس، لا تقول غيره؛ عقوبة له وجزاء لصنيعه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أن تقول: لا مساس لم تمسني، ولا أمسك، أي: لا تمسني أبدًا،

أخرجه من بين أظهرهم؛ لما علم موسى منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ). يحتمل: أن لك موعدا لعذابك لن تخلفه، يحتمل ذلك في الدنيا والآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا). قوله: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ) الذي تزعم أنه إله، لا أن موسى سمى ذلك، وهو كما قال: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، التي في زعمهم آلهة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا) فقوله: (ظَلْتَ) يقال بالنهار، وفي الليل يقال: بات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا). وفي هذا إثبات آية لموسى؛ حيث قال: (لَنُحَرِّقَنَّهُ)، والعجل الذي هو من لحم ودم ليس من طبع النار إحراقه، وكذلك الحلي والذهب والفضة ليس من طبع النار إحراقهما حتى تصير رمادًا، ولكن من طبعهما الإذابة، ثم أخبر أنه محرقه، فدل أنه آية. وفي قوله: (لَنُحَرِّقَنَّهُ) لغتان: (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بالتشديد وبرفع النون وهو التحريق بالنار، و (لَنَحْرُقَنَّه) بنصب النون وهو القطع بالمبرد. وقال أبو معاذ: فمن قرأه (لَنَحْرُقَنَّه) بنصب النون، فقد كان العجل من الحلي فلم يقدر على تحريقه بالنار فحرق بالمبرد. ومن قرأه: (لَنُحَرِّقَنَّهُ) برفع النون والتشديد يقول: كان لحمًا ودمًا فأحرق بالنار صار رمادًا ثم نسف في اليم. قال أبو معاذ: يا سُبْحَانَ اللَّهِ، إن كنت أحرقته بالنار فما حاجتك إلى المبرد، لكن أراد مقاتل أن يجمع القراءتين والتأويلين في قراءة واحدة. لكنه عندنا لا يجوز أن يكون العجل من لحم ودم في إحدى القراءتين وفي الأخرى من الحلي لا لحم فيه ولا دم، وتكون القراءتان جميعًا منزلتين. وما قاله مقاتل: إنه حرق بالنار ثم حرق بالمبرد حسن؛ لأن النار لا تحرق العجل إذا كان لحمًا ودما، ولكنها تذيبه، فأبرد بالمبرد، فعند ذلك نسف في اليم. قال أبو معاذ: تقول العرب: نسفت البرد أنسفته نسفًا: إذا أخرجت المنسفة فطيرت غباره، ويقال في المشي: ما زلنا ننسف يومنا كله نسفا، أي: نمشي.

(98)

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (لَنَنْسِفَنَّهُ)، أي: لنرمين به نسفًا، أي: رميا، والنسف: القلع من الأصل، وصرفه: نسف ينسفه نسفًا. وقال: (لَن نَبْرَحَ)، أي: لن نزال. قوله تعالى: (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) يقال: بصرت وأبصرت، بصر يبصر بصرًا. وقبصت قبصة، والقبص بأطراف الأصابع. وقال: (لَا مِسَاسَ) أي: لا يمسك أحد ولا يؤذيك. وقال: " ظلت عليه " لغة سوء، وإنما هو: ظلت، وظَلِلْتَ. وروى في حرف ابن مسعود: (بصرت بما لم يبصروا به إذ جاء الرسول فقبضت قبضة فألقيتها)، وفي حرف حفصة: (إذ مَرَّ الرسول)، وفي حرف أبي بن كعب: (إن لك في الحياة أن لا مساس)، ليس فيه (أَن تقُولَ)، وفي حرف حفصة: (إن لك في الحياة الدنيا أن تقول لا مساس). وقَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: لا تخالط الناس ولا يخالطونك. قال أبو معاذ: المساس: مصدر ماسه مماسا ومماسة، كما يقال: ضاره ضرارًا ومضارة، وساره سرارا ومسارة، ومن قرأه: (لَا مِسَاسَ) كان كقولك: نزال ودراك. وفي حرف ابن مسعود وأُبي: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا وانظر كيف يفعل بإلهك الذي ظلت). وقوله: (سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) قَالَ بَعْضُهُمْ: شجعت، وظاهره: زينت لي نفسي. وقيل: سُمي السامري: سامريًّا؛ لأنه كان من قبيلة يقال لها: السامرة. وقول هارون لموسى: (يَبْنَؤُمَّ) وكان أخاه لأبيه وأمه، قيل: أراد بذلك أن يرفقه عليه فتركه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) جائز أن يكون موسى لما أحرق العجل ونسفه في البحر قال عند ذلك: إنما إلهكم الله الذي تعرفونه لا إله إلا هو وسع كل شيء علما، لا يعزب عنه شيء ولا يخفى عليه شيء، فيشبه أن يكون موسى ذكر هذا لهم لما أضمروا هم وأسروا حب العجل في قلوبهم، على ما أخبر اللَّه عنهم بقوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)، فقال لهم: (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) يعلم ما تسرون وما تظهرون.

(99)

أو أن يكون لا يعلمون أنه يعلم ما يسرون وما يضمرون وما يغيب عن الخلق ويكون عندهم كملوك الأرض يعلمون الظاهر من الأمور الحاضرة منها ولا يعلمون الغائب، فأخبر أنه عَزَّ وَجَلَّ يعلم الظاهر والباطن والسر والعلانية والحاضرة والغائبة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ). أي: هكذا نقص عليك من أنباء ما قد سبق؛ ليكون آية لرسالتك ونبوتك. أو أن يقول: كما قصصنا عليك هذا النبأ كذلك نقص عليك سائر النبأ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا). قال أهل التأويل: الذكر هاهنا: القرآن، وهو الظاهر؛ ألا ترى أنه قال على أثره: من أعرض عنه فإنه كذا، وجائز أن يكون قوله: (آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا) أي: شرفا وذكرا، يذكر هو بعده أبدًا، ومن اتبعه وأجابه إلى ما دعاه يصير مذكورًا به. وقوله: (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) والوزر: الحمل، وسميت، الآثام: حملا؛ لأن الآثام تنقض ظهور أصحابها في النار وتكسرها؛ كالحمل في الدنيا ينقض ظهر صاحبه ويكسره، وهو ما ذكر: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَالِدِينَ فِيهِ ... (101) أي: في ذلك الوزر، أي: لن تقارقهم أوزارهم أبد الآبدين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا). حمل السوء، حمل يورد صاحبه النار، بئس الحمل حمل يورد صاحبه النار، ويقال: بئسما حملوا على أنفسهم من الأعمال. وقوله: (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا) يحتمل الإعراض عنه وجهين: أحدهما: (أَعْرَضَ عَنْهُ)، أي: كفر به وكذبه ولم يلتفت إليه. والثاني: (أَعْرَضَ عَنْهُ)، أي: لم يعمل بما فيه، ومن لم يعمل من المسلمين بما فيه

(102)

يخاف أن يكون في وعيد هذه الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) قيل: يتسارون بينهم ويتكلمون فيما بينهم كلاما خفيا (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا) مثل هذا الكلام، إنما يقولون تلهفا وتحزنا على ما كان منهم في وقت قليل؛ لاستقلالهم واستصغارهم الدنيا، يقولون: كيف كان منا كل هذا العمل في ذلك الوقت القليل؟! ثم اختلفوا في ذلك اللبث الذي قالوا ذلك؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: في الدنيا، استقلوا مقام الدنيا؛ لما عاينوا الآخرة، وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في القبور، ويستدل من ينكر عذاب القبر بهذه الآية، يقول: لأنهم استقلوا مقامهم في القبور، ولو كان لهم عذاب في ذلك لاستعظموا ذلك واستكثروا؛ لأن قليل اللبث في العذاب يستعظم ويستكثر لا يستقل ولا يستحقر، فلما استقلوا ذلك، دل أنهم لا يعذبون في القبور. واستدلوا أيضًا لنفي العذاب فيه بقوله: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا). ومن يقول بعذاب القبر يزعم أن ذلك إنما قالوا في القبر يقول: ذلك بين النفختين، يقول: هم يعذبون ويكونون في العذاب إلى النفخة الأولى، ثم يرفع عنهم العذاب إلى النفخة الثانية، عند ذلك يرقدون فيستصغرون مقامهم للنوم، وقد يستصغر الوقت الطويل ويستقل في حال النوم على ما ذكر في قصة أصحاب الكهف حين قالوا: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، وهم قد ناموا ثلاثمائة سنة وزيادة. وجائز أن يكون عذاب القبر عذاب عرض وعذاب الآخرة عذاب عين؛ كقوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، فاستصغروا عذاب العرض واستقلوه عند معاينة عذاب العين. ومن يقول ذلك في الدنيا، يقول: تحاقرت الدنيا في أعينهم ومقامهم فيها حين عاينوا الآخرة وأهوالها. وقوله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) قوله: (أَمْثَلُهُمْ) قيل: أعقلهم، وقيل: أفضلهم (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) من كان أبصر وأعلم بأمور الآخرة وأهوالها، كان أكثر استخفافا بالدنيا واستحقارًا لها.

(105)

وفي حرف ابن مسعود: (نحن أعلم بما يقولون إذ عيل عليهم إذ يقول أمثلهم طريقة) قال أبو معاذ: قوله: (عيل عليهم) أي: اشتبه وخفي وفاتهم علمه، وقال: ومنه يقول: عالت الفريضة تعول عولا: إذا جاوزت السهام فأشكل على الفارض واشتبه، ومنه قيل: عيل صبري. * * * قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا). يشبه أن يكون سؤالهم عن أحوال الجبال في ذلك اليوم لما بين أحوال الناس في الساعة بقوله: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ. . .) الآية، وكقوله: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى. . .) الآية، وصف لهم أحوال الخلق في ذلك اليوم، ولم يصف أحوال الجبال والأرض، فعند ذلك سألوه عن أحوال الجبال، فأمر رسوله أن يخبرهم بما ذكر أنه (يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)، وما ذكر أيضًا في آية أخرى: (هَبَاءً مَنْثُورًا)، قوله تعالى: (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)، (كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ)، ونحوه، فجائز أن يكون ذلك على اختلاف الأحوال، وقد ذكرناه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) قَالَ بَعْضُهُمْ: (قَاعًا صَفْصَفًا) أي: مستوية، والقاع والصفصف واحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا زرع. وقوله: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) قيل: لا واديا ولا أمتا ولا رابية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العوج: الارتفاع، والأمت: الهبوط.

(108)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: العوج: أَحْناء الأودية، والأمت: التلال. وقيل: لا انخفاضا ولا ارتفاعًا، والقاع الصفصف: هو تفسير (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا)، و (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) تفسير قوله: (قَاعًا صَفْصَفًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) لا خلاف له، ليس كالداعي في الدنيا منهم من يطيعه ويجيبه ومنهم من لا يطيعه ولا يجيبه، فأخبر أنهم في الآخرة يجيبون الداعي في أي حال كانوا لا يخالفونه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ): لا تخشع، لكن تنخفض وتلين عند خوف أهلها، وترتفع عند الأمن. أو أن يكون خشوع الأصوات كناية عنهم، أي يخشعون ويذلون لشدة فزعهم لأهوال ذلك اليوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا). قيل: الهمس: الكلام الخفي الذي لا يكاد يسمعه. وقيل: رفع الأقدام ونقلها وهو تحريكها. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي: أخفى صوته. وقوله: (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي: أفضلهم. فأما (قَاعًا صَفْصَفًا)، قال: القاع: الأرض الصلبة التي لا شيء فيها، والصفصف: المستوية، والصفاصف جمع، والقيعان: جمع القاع، و (عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) والأمت: هو العوج وهو التل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ)، أي: سكنت (فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)، والهمس: الخفى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: لا تنفع الشفاعة، ليس أن يكون لهم الشفاعة فلا تنفع، ولكن لا شافع لهم إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة أنه لا أحد يتكلم يومئذ إلا بإذنه، فضلا أن يؤذن لأحد

(110)

بالشفاعة؛ كقوله: (لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ)، يقول: الشفاعة أنه لا أحد يتكلم يومئذ إلا بإذنه فضلا، وقال: صوابا. والثاني: لا تنفع الشفاعة إلا من وفق له بما يستوجب الشفاعة له ورضي له قولا وسأله ذلك، وهو قول الشهادة والتوحيد. فيرجع أحد التأويلين إلى الشفعاء: أنه لا أحد يشفع لأحد إلا بإذنه ورضاه بالقول: قول الشفاعة، والثاني: يرجع إلى المشفوع له: أنه لا أحد يستوجب شفاعة إلا من وفق له الرحمن في الدنيا بالتوحيد وشهادة الإخلاص، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) يحتمل قوله: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قبل أن يخلقوا، (وَمَا خَلْفَهُمْ) بعد ما خلقوا وكانوا. أو أن يكون قوله: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ): ما قدموا من الأعمال، (وَمَا خَلْفَهُمْ): من بعدهم. أو أن يكون قوله: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) كناية عن الخيرات، أي: لا يعلم ما يعملون من الخيرات، (وَمَا خَلْفَهُمْ) من الشرور، وما نبذوا وراء ظهورهم. وجائز أن يكون المراد من البين والخلف: الأحوال كلها، أي: عالم بجميع أحوالهم وبكل شيء يكون منهم، وهو كقوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، أي: لا يأتيه الباطل ألبتَّة؛ لأنه ليس للقرآن بين ولا خلف، ولكن المراد ما ذكرنا، فعلى ذلك الأول. وجائز أن يكون المراد منه: ليس البين ولا الخلف، ولكن إخبار عن إحاطة علمه بهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا). هذا يحتمل وجهين: لا يحيطون باللَّه علما، ولكن إنما يعرفونه على ما تشهد لهم الشواهد من خلقه؛ لأن الخلق إنما يعرفون ربهم من جهة ما يشهد ويدل لهم من الدلالات من خلقه، والإحاطة بالشيء إنما تكون فيما كان سبيل معرفته الحس والمشاهدات، فأما ما كان سبيل معرفته الاستدلال فإنه لا يحاط به العلم. والثاني: لا يحيطون به علما، أي: بعلمه؛ كقوله: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)؛ وكقوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى

(111)

مِنْ رَسُولٍ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) قيل: (عَنَتِ): ذلت وخضعت الوجوه. وجائز أن يكون ذكر الوجوه، كناية عن أنفسهم؛ لما بالوجوه يظهر الذلة والخضوع، فكنى بها عنهم. فإن كان ما أخبر من خضوعهم وذلهم في الآخرة، فهو على ما أخبر من خضوع الخلائق له في الآخرة. وإن كان بعضهم يتكبر في الدنيا، وإن كان في الدنيا فهو على خضوع الخلقة له خضعت خلقة الخلائق كلهم له. وقوله: (لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) قد ذكرنا تأويل الحي القيوم فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا). أي: قد خاب من حمل الشرك، والظلم هاهنا الشرك، وقد خاب من حمل ما ذكر من الحمل والوزر، وهو ما ذكر في قوله: (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا)، أي: خاب من حمل ذلك الحمل، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الآخرة، (وَمَا خَلْفَهُمْ) من أمر الدنيا، (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ) يعني: ألا يحيط، الملائكة به (عِلْمًا)، يقول: هم لا يعلمون من كلامه إلا ما علمهم إياه، فإن كان هذا في الملائكة خاصة، فإنه لا يحتمل ما ذكرنا من التأويل في قوله: (وَمَا خَلْفَهُمْ) من الشرور وما نبذوه وراء ظهورهم؛ لأنهم مطيعون لله لا يعصونه طرفة عين، ويحتمل غيره من التأويلات التي ذكرنا، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ): في الشفاعة، (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا): قول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مسلمًا في الدنيا مؤمنا حقا، فذلك الذي رضي، والشفاعة تحل لهم، فأما غيرهم فلا يشفع لهم، وهو ما ذكرنا فيما تقدم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي: عملت الوجوه للحي القيوم، قالوا: وتأويل (عَنَتِ) العمل، أي: خضعت له بالعمل الصالح في الدنيا، على ما ذكر

(112)

بعضهم من الركوع والسجود وغيره، وهو في المؤمنين خاصة ليس أن يكون تأويل قوله: (وَعَنَتِ) أي: عملت حقيقة، ولكن من الوجه الذي ذكرنا. وإن كان التأويل في الآخرة فهو في الفريقين جميعًا يذلون له جميعًا ويخضعون في الآخرة، وإن كان من بعضهم التكبر في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) فيه دلالة أنه قد يستحق اسم الإيمان بدون الأعمال الصالحات؛ حيث قال: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ). وفيه أن الإيمان شرط في قبول الطاعات وجعلها طاعة لله؛ حيث شرط الإيمان فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا). الظلم هاهنا على مذهبنا: النقصان، لا ظلم الجور؛ لأن الثواب على الأعمال بحق الإفضال لا بحق العدل، فإذا كان على هذا فيخرج قوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ) أن ينقص من حسناته شيئًا أو يزيد في سيئاته شيئًا، ويجوز في اللغة ذكر الظلم على إرادة النقصان؛ كقوله في ذكر الجنتين: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا)، والجنة لا توصف بالظلم الذي هو ظلم جور؛ فدل أنه أراد بالظلم هاهنا النقصان، أي: لم تنقص، بل أتت بثمارها وافية وافرة. وإن كان على الظلم الذي هو ظلم الجور فهو على النهي، أي: لا تخف منه الظلم والجور. * * * قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا). أي: كما ذكرنا: أن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما، كذلك أنزلناه في القرآن العربى. (وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). حرف (لعل) في جميع ما ذكر في القرآن يحتمل وجهين: أحدهما: على الوعد أنهم يتقون فهو على الإيجاب.

(114)

والثاني: لعلهم يتقون، أي: ألزمهم أن يتقوا بما صرف من الوعيد. وإن كان على الوعد والإيجاب منه فهو لمن علم أنهم يتقون. وإن كان على الإلزام - أي: ألزمهم - فهو في الكل. ثم إن كان على الوعد فيخرج قوله: (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا)، فيكون كقوله: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، إذا تذكر خشي، وإذا خشي تذكر؛ فعلى ذلك إذا اتقى فقد أحدث له الذكر، وإذا أحدث له الذكر اتقى، وإن كان ألزمهم أن يتقوا فهو على أو ثم. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: (ذِكْرًا)، أي: عذابًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) مثل هذا إنما يذكر على نوازل كانت إما قولا أو فعلا، يقال: فتعالى اللَّه عن ذلك، لكن لم يذكر النوازل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ). يحتمل ما قاله أهل التأويل أن جبريل كان إذا أتاه بالسورة وبالآي فيتلوها عليه، فلا يفرغ جبريل من التلاوة حتى يتكلم رسول اللَّه بأولها؛ مخافة أن ينساها؛ فأنزل اللَّه: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) فتمْرأه من قبل أن يفرغ من تلاوته عليك، وقد أمنه عن النسيان بقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. . .) الآية، وكذلك: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) الآية. ثم أمره عَزَّ وَجَلَّ أن يسأله أن يزيد له علما. ويحتمل أن يكون قوله: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ). أي: لا تعجل بما ذكر من الوعيد لهم في القرآن من قبل أن يأتي وقته؛ كقوله: (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا). وقوله: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) جائز ما قال أهل التأويل: إنه كان يتلو مع تلاوة جبريل، فقال له: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)، إن ثبت عنه أنه كان يتلو مع تلاوة جبريل. وجائز النهي من غير أن كان منه ما ذكر - واللَّه أعلم - على ما نهى عن أشياء من غير أن كان منه ذلك. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ

(115)

اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) قال الحسن وعامة أهل التأويل: إن قوله " (فَنَسِيَ)، أي: ضيع وترك، ليس نسيان السهو؛ لأنه عوتب عليه وعوقب به، ولا يعاتب المرء على ما هو حقيقة السهو والنسيان؛ فدل أنه على التضييع والترك، ليس على النسيان والسهو، إلى هذا يذهب هَؤُلَاءِ، لكن يقبح هذا أن يقال في آدم، أو في نبي من أنبيائه، أو في رسول من رسله - صلوات الله عليهم -: إنه ضيع، والنسيان عندنا على قسمين: نسيان يكون عن غفلة منه وشغل، ما لولا ذلك الشغل منه والغفلة، لحفظه وذكره ولا ينساه، وجائز المعاتبة على هذا النسيان؛ إذ لو كان تكلف لكان لا ينساه ولا يقع فيه. ونسيان آخر يقع فيه من غير سبب كان منه لا يملك دفعه، وذلك نسيان ما لا يعاتب عليه ولا يعاقب به، وهكذا الكلفة من اللَّه تعالى والمحنة: أنه جائز أن يكلف ويمتحن من لا يعلم ولا يعقل الكلفة وقت تكليفه إياه بعد أن يحتمل عقله إدراك ذلك لو استعمله، فأما من كان عقله لا يحتمل إدراك ما كلفه وإن استعمله وأجهد نفسه فيه، فإنه لا يكلف ألبتَّة؛ فعلى ذلك النسيان الذي ذكر من آدم جائز أنه لو تكلف، حفظه وذكره؛ فإنما عوتب لذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا). قال الحسن: أي: منعًا من الشيطان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حفظا لم يحفظ أمره.

(116)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: صبرًا، ونحوه. والعزم: حقيقة القصد والقطع على الشيء، وهو ضد النسيان الذي ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العزم: هو المحافظة على أمر اللَّه والتمسك به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) أي: قَالَ بَعْضُهُمْ: لولا قول أهل التأويل في سجود الملائكة لآدم إلى حقيقة السجود، وإلا جائز أن يصرف الأمر بالسجود إلى الخضوع له، والسجود: هو الخضوع؛ حيث قال: (يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ)، وقد يؤمر الإنسان بالخضوع لمن يتعلم منه العلم. وقوله تعالى: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) قال أهل التأويل: ليس شقاء الدِّين، ولكن تعب النفس والنصب في العمل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) أي: لا تصيبك الشمس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) أي: لا يفنى. قوله تعالى: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ... (121) قد ذكرنا هذا فيما تقدم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ)، أي: ذلت، يقال: عنا يعنو عنوا، وقال: (وَلَا هَضْمًا)، أي: ظلما، يقال: هضمته، أي: ظلمته، وأهضمته مثله. وقال أبو عبيدة: الهضم: النقصان، وقال: (قَاعًا صَفْصَفًا): القاع: الأرض التي يعلوها الماء، وهو قريب مما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى). كل من عصى ربه فقد غوى، العصيان والغواية واحد. وقوله: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)

(123)

قوله: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ) يحتمل وجوها: أحدها: اجتباه للتوبة وهداه لها. أو اجتباه ربه للرسالة وهداه لها. أو اجتباه ربه للدِّين وهداه للتوحيد، وهذا جائز عندنا، للتوحيد والإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت وكل ساعة؛ لأنه مأمور بترك الكفر ونفيه في كل وقت، فإذا كان مأمورًا بترك الكفر في كل وقت منهيا عنه كان مأمورًا بالإيمان والتوحيد، فإذا كان ما ذكرنا دل أن للإيمان والتوحيد حكم التجدد والحدوث في كل وقت، وإلا ظاهر قوله: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ): أنه لم يكن يجتبيه قبل ذلك فاجتباه من بعد، لكن الوجه ما ذكرنا من اجتبائه إياه للرسالة، واجتبائه للتوحيد والطاعات والخيرات ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) قال الحسن: قوله: (اهْبِطَا) أي: آدم والشيطان، (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)، يعني: ذرية آدم وذرية إبليس بعضهم لبعض عدو. وقال فيما قال: (اهْبِطُوا)، عنى: آدم وحواء وإبليس، والهبوط: ليس هو الانحدار والتسفل من المكان العالي المرتفع، إنما هو النزول في المكان، فجائز أن يكون قوله: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)، أراد ذريتهما: ذرية آدم وذرية إبليس، وعلى ذلك يخرج قوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) يعني: الذرية، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) وقت اتباعه الهدى، أو لا يضل ولا يشقى إذا ختم بالهدى، أو لا يضل طريق الجنة ولا يشقى في النار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ... (124) هو الشدة والضيق، ثم اختلفوا فيه. قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) في الدنيا، وإن كانت في الظاهر واسعة عليه؛ لأنهم ينفقون ولا يرون لنفقتهم خلفا ولا عاقبة، ويريدون الدنيا أنها تدوم، فذلك يمنعهم عن التوسيع في الإنفاق؛ خوفًا لنفاد ذلك المال وبقاء أنفسهم؛ لما ذكرنا أنهم لا يرون لنفقتهم خلفا ولا عوضًا ولا عاقبة لها، فذلك الضنك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)؛ لأنهم يعصون بما أعطوا من المال وأنعموا فيه؛ لأن توسعهم يكون في معصية، فنفى عنهم الانتفاع به كما نفى عنهم السمع والبصر

(125)

واللسان باستعمالهم هذه الجوارح في المعصية على قيامها؛ لما ذهبت منافعها في الطاعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) في عذاب القبر، لكن لا يقال لمن في القبر: إن له معيشة ضنكا حتى يوصف بالضيق، وعذاب القبر سبيل معرفته السمع، فإن ثبت السمع وإلا فالترك أولى. وقال قائلون: ذلك في الآخرة - واللَّه أعلم - كقوله: (مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). قَالَ بَعْضُهُمْ: نحشره أعمى عن حججه في دينه، لكن متى كانت له الحجج في الدنيا حتى يعمى عنها في الآخرة؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: نحشره يوم القيامة أعمى: عمى الحقيقة؛ كقوله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا)، فهو على حقيقة عمى البصر، وهو أشبه، واللَّه أعلم. وقال مجاهد: قوله: (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى (125) قال: بلا حجة لي، (وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا) في الدنيا لكن الأشبه هو ما ذكرنا من حقيقة ذهاب البصر؛ إذ لم يكن للكافر حجة في الدنيا حتى يقول: (وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا). ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك بعد ما حوسبوا وسيقوا إلى النار - نعوذ باللَّه من النار - فعند ذلك يعمى عليه البصر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا ولكن يبعثون من قبورهم ويحشرون عميانًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) أي: كما أتتك آياتنا فصيرتها كالشيء المنسي، لم تكترث إليها ولم تنظر فيها ولم ترغب فيها، كذلك تصير في النار كالشيء المنسي عن رحمته، لا يكترث إليك ولا ينظر إليك. أو أن يقول: كما ضيعت آياتنا التي أتتك لنجاتك كذلك تضيع أنت وتترك في النار لا

(127)

نجاة لك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أي: كذلك نجزي كل من أسرف في الدنيا ولم يؤمن بآيات ربه، ليس أحد المخصوص بذلك دون غيره، ولكن كل من كان هذا صنيعه في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى). كأنه قد سبق منه الوعيد لهم بعذاب، ثم قال: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) من العذاب الذي أوعدتم، وإلا فعلى الابتداء لا يقال هذا. * * * قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُم) جميع ما ذكر في القرآن مثل هذا (أَفَلَمْ يَهدِ لَهُم)، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) (أَوَلَمْ يَرَوا)، وأمثاله كله أنه قد بين لهم وراء ذلك، أي: قد بين لهَؤُلَاءِ أنهم قد وافقوا أُولَئِكَ الذين أهلكهم من القرون الماضية وما نزل بهم بتكذيبهم الرسل والآيات التي أتوا بها، وهم آمنون يمشون في مساكنهم، فكيف أمن هَؤُلَاءِ من عذاب الله مع موافقتهم أُولَئِكَ في جميع صنيعهم. أو يقول: أفلم نبين لهم سنتي فيمن كان قبلهم من القرون الماضية بتكذيبهم الرسل وردهم الآيات، وهم كانوا آمنين في مساكنهم فكيف أمن هَؤُلَاءِ من عذابه وقد ساووا أُولَئِكَ في جميع عمنيعهم وفعلهم، وهما واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى). قال بعضهم: (لِأُولِي النُّهَى): هم الذين انتهوا عما نهاهم اللَّه عنه، وهم ذوو العقول، وقد ذكرنا هذا في غير موضع. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) أي: لا تظهر للشمس، والظمأ: العطش، والضحى: الحر. قال أبو عبيدة: وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: وطفقا وعلقا واحد، يقال علق يعلق علقا فهو

(129)

عالق وطافق. وقال: يقال من الخصف: خصفت الخف، إذا أنعلته، ونعلت الخف، ويسمى ذلك: النعيلة، والنعائل جمع. وقال: قوله: (مَعِيشَةً ضَنْكًا)، أي: ضيقة. قال أبو عبيدة: وكل ضيق - منزل أو غيره - فهو ضنك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) هو على التقديم والتأخير، أي: لولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى، لكان العذاب لازمًا لهم، يقول - واللَّه أعلم -: يلزم كل إنسان بما عمل. قال: والأجل المسمى: الساعة التي قال: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ). وجائز أن يكون قوله على غير التقديم والتأخير، لكنه على الإضمار، أي: لولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما ولكن سيلزمهم إلى أجل مسمى، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى). وقوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بما يكون بحق الإفضال أو توجبه الحكمة، لكان العذاب لازمًا لهم، وحق الإفضال ما سبق منه من الوعيد أنه يؤخر، ولا يقال فيما كان طريقه الإفضال: لم تفضلت؟ وأصل هذا: لولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما، لولا ما سبق من وعده: أنه لا يعذب هذه الأمة تعذيب إهلاك وقت ثكذيبهم الرسل وردهم الآيات، ولكن يؤخوهم إلى أجل مسمى، وهو ما ذكرنا، وهو قوله: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) يصبر رسوله على أذاهم يلسانهم من السب والنسبة إلى السحر والجنون والافتراء على اللَّه ونحوه، وإن كان وعد أنه يعصمه منهم حتى لا يقدروا على إتلافه وإهلاكه؛ لأن في حفظ نفسه من الإتلاف والإهلاك آية من آيات رسالته؛ إذ بعثه إلى الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم وعادتهم قتل من يخالفهم في شيء وإهلاك من يستقبلهم بما يكرهون؛ فدل عجزهم عن إتلافه وإهلاكه وحفظ نفسه منهم: أنه كان ذلك لآية في نفسه، وأما أذاهم إياه باللسان ليس في حفظه عنه آية؛ لأن ذلك لو كان آية، لمنعهم وذلك مما لم يؤثر نقصًا في نفسه أو شيئًا؛ ألا ترى أنهم قالوا في اللَّه ما لا يليق به من الولد وغيره، فدل أنه ليس في حفظ نفسه عن أذاهم بلسانهم آية، إنما الآية فيما ذكرنا من حفظ نفسه من الإتلاف، واللَّه أعلم.

(131)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ): قال أهل التأويل: صل بأمر ربك، وتأويل قولهم هذا صل بأمر ربك؛ لأنه أمره أن يصلي لله بقوله: (أَقِمِ الصَّلَاةَ)، وقوله: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، فيكون قوله: (وَسَبِّحْ) أي: صلِّ بأمر ربك الذي أمرك بقوله: (أَقِمِ الصَّلَاةَ)، ولولا صرف أهل التأويل التسبيح في هذه الآية إلى الصلاة وإلا يجوز أن يصرف إلى غيرها من الأذكار في كل وقت، لكن صرفوا إلى الصلاة؛ لأن الصلاة تشتمل على معان: قولا وفعلا، وسائر الأذكار لا تشتمل إلا معنى الذكر قولا، فهي أجمع وأشمل لذكره، واللَّه أعلم. ثم قوله: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ): قبل صلاة الفجر، (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) وصلاة العصر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) الظهر والعصر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) قيل: صلاة المغرب والعشاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ)؛ قيل: صلاة الفجر والعصر؛ فهو على التكرار والإعادة تأكيدًا؛ كقوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى)، ذكر الصلوات بجملتها، ثم خص الصلاة الوسطى، بالذكر لمعنى؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) تكرارا منه لصلاة الفجر والعصر لمعنى. وجائز أن يكون قوله: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) أنه ليس على إرادة وقت دون وقت، ولكن يريد به الأوقات كلها، وعلى ذلك يخرج قول من قال في قوله: (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا): صلاة الظهر والعصر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّكَ تَرْضَى) بالنصب والرفع جميعًا، أي: يرضيك ربك بما عملت أو يرضى بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) هذه الآية تحتمل وجهين: أحدهما: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي: لا ترغبن في هذه الدنيا، ولا تركنن إلى ما متع به هَؤُلَاءِ من ألوانها وزهرتها، وهو كقوله تعالى: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ. . .) الآية. والثاني: قوله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) على حقيقة مد البصر، أي: لا تمدن بصرك إلى أعين الدنيا وإلى ظاهر ما هم عليه من الغرور والتزيين، ولكن انظر إلى الدنيا إلى ما

جعلت الدنيا؛ وإلى ما فيها من سمومها وتنغيصها على أهلها، فإن من نظر إليها لما فيها من سمومها وتنغيصها، لزهد فيها ورغب عنها، ومن نظر إليها وإلى عينها وظاهرها وما هي عليها من الغرور والتزيين، لاغتر بها ورغب فيها وركن إليها، ومن نظر إلى حقيقة ما هي عليه وجعلت على ما ذكرنا لزهد فيها ورغب عنها. ثم معلوم أن رسول اللَّه لم يكن يمد بصره إلى الدنيا أو يركن إليها ويرغب فيها لها، وإنما هو ابتداء نهي رسوله. ومعلوم أيضًا أنه لو رغب في شيء منها لم يكن يرغب ليتمتع هو به، إنما يرغب ويتناوله ليوسع به على أهل الحاجة والفقر، ثم نهاه عن ذلك؛ فدل أن الزهد فيها والرغبة عنها خير من الأخذ منها والوضع في حق؛ حيث نهاه عن ذلك على علم منه أنه لا يتناولها ليتمتع هو بها وليوسع بها على نفسه، ولكن يأخذها؛ ليضعها في المستحقين لها. ثم اختلف أهل التأويل في التقديم والتأخير: قال الحسن: هو على تقديم قوله: (مِنْهُمْ) على قوله: (أَزْوَاجًا) يقول: تأويله: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به منهم أزواجًا (زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). فعلى تأويله: أزواجًا: زهرة الحياة الدنيا، أي: ألوانا وأصنافًا من النبات؛ فذلك زهرة الدنيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: على غير تقديم، ولكن على سياق ما ذكر في الآية؛ فعلى هذا يكون تأويل الأزواج، أي: رجالا منهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ). قال أهل التأويل: أي: لنبتليهم ونختبرهم، وكأن الفتنة هي المحنة التي فيها شدة وبلاء، كأنه أخبر أنه إنما متعهم بما متع من زهرة الحياة الدنيا ليمتحنهم فيها بالشدائد؛ كقوله: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ. . .) الآية، وقال في آية أخرى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وقال: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) ففي هذه الآيات دلالة أن السعة والضيق فيها ليس لفضل أهلها ولا لهواهم، ولكن إنما هو محنة يمتحنهم، فيمتحن بعضهم بالسعة والغناء وبعضهم بالشدة والضيق، فالتكلم بأن هذا خير من هذا كلام لا معنى له مع ما ذكرنا من البينات في قوله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ) أن الزهد في الدنيا وترك التناول منها حلالًا خير من التناول منها حلالا ووضعها موضعها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

(132)

أي: ما رزق ربك من النبوة والرسالة والتوحيد له والإيمان به خير وأبقى مما متع به هَؤُلَاءِ من ألوان زهرة الحياة الدنيا وأصنافها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أي: حظك من ربك خير في البقاء مما متع به هَؤُلَاءِ من زهرة الدنيا، وهو قول أهل التأويل: إن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نزل به ضيف فاستسلف من يهودي طعامًا، فأبى أن يعطيه إلا برَهْن، فرهن درعه عنده، فنزل قوله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ. . .) الآية؛ تعزية له عن الدنيا، لكن لسنا نعرف نزول الآية على ما ذكر إلا أن يثبت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بأهله: قومه، وقد يسمى قوم الرسل: أهلهم، وجائز أن يكون المراد بالأهل: الذين تأهلهم وكانوا في عياله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)، أي: داوم عليها والزمها، وفيه أن الصلاة فرضت على الدوام عليها واللزوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: لا نسألك جعلا وأجرًا على نبوتك ورسالتك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: لا نسألك للخلق رزقًا بل نحن نرزقهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)؛ كقوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَقِينَ). * * * قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ). سألوه أن يأتيهم بآية من عند ربه على رسالته ونبوته، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى)، أي: قد أتاهم بينة على رسالته ونبوته ما في الصحف الأولى؛ لأن الكتب المتقدمة كانت بغير لسان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن يعرف الكتابة بلسانه فضلا

(134)

عن أن يعرف غيرها من الكتب التي كانت على غير لسانه، ثم أخبر عن الأنباء التي كانت في الكتب المتقدمة على ما كانت فيها؛ دل أنه إنما عرف تلك الأنباء والقصص التي كانت في كتبهم باللَّه تعالى، فهذا - واللَّه أعلم - تأويل قوله: (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى) أي: قد أتاهم على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) أي: من قبل رسوله، (لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ)، من الناس من يقول: ليس لله أن يعذبهم تعذيب إهلاك قبل أن يبعث رسولا، ويحتج بظاهر هذه الآية: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا). وعندنا: له أن يهلكهم بعذاب قبل بعث الرسول إليهم؛ لأنه تعالى قد أقام عليهم حجة العقل ما لو تأملوا أو نظروا فيه، لعرفوا وأدركوا حق اللَّه عليهم، فإذا كان كذلك فكان إهلاكه إياهم إهلاكًا عن بينة وحجة، لكنه بفضله ورحمته لا يهلكهم بأول آية يرسل عليهم حتى يرسل الآيات؛ إفضالا منه ومنة، وإلا كان له إهلاكهم بآية واحدة؛ فيكون قوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا. . .) كذا، إنما ذلك لقطع ذلك القول منهم، لا أن كان لهم ذلك القول والاحتجاج بذلك؛ ولأن قوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا. . .) كذا يخرج مخرج الامتنان به أنه لم يهلكهم قبل بعث الرسول؛ فدل أن له إهلاكهم قبل بعث الرسول؛ لما ذكرنا من إقامة حجة العقل عليهم، واللَّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) كانوا يتربصون هلاك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وانقلاب أمره، ورسول اللَّه يتربص بهم عذاب اللَّه ومواعيده فيهم. قال الحسن: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا)، أي: تربصوا أنتم مواعيد الشيطان، ونحن نتربص مواعيد اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى). قوله: (فَسَتَعْلَمُونَ) في الآخرة علم عيان (مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) نحن أو أنتم، وفي الدنيا لو تأملوا ونظروا، لعلموا علم استدلال وإدراك من أصحاب الصراط السوي؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: (الصِّرَاطِ السَّوِيِّ): العدل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السوي: القيم. وفي حرف ابن مسعود وأُبي (وَمَنِ اهْتَدَى ومن على الهدى)

سورة الأنبياء

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ وهي كلها مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ). قال الحسن: أي: محاسبتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ). ظاهر هذا أنه نزل في المشركين؛ لأنها نزلت بمكة وكان أكثر أهلها أهل شرك، لكن لأهل الإسلام في ذلك حظ وشرك فيما وصفهم بالغفلة عن ذلك والإعراض عنه، وأهل الإسلام قد يغفلون عن الحساب إلا أن غفلة الكفرة غفلة تكذيب وإعراضهم إعراض تكذيب بالحساب والآيات التي أنزلها عليهم، وغفلة أهل الإسلام ليست كذا، قد آمنوا بالحساب وصدقوا بآياته وعرفوها، لكنهم غفلوا عن الحساب؛ لشهوات مكنت فيهم وغلبت شهواتهم وأغفلتهم عنه، فمن هذه الجهة كانوا كأُولَئِكَ، فأما من جهة الإيمان به والتصديق بالآيات فليسوا كأُولَئِكَ. ثم وصف الحساب والساعة بالقرب والدنو والإتيان؛ كقوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)، وقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، و (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) وأمثاله: هي قريبة كالماهية عند اللَّه؛ لأن اللَّه تعالى عرف جملة الأوقات فهي في جملة ما عرف قريبة كالماهية، وأما الخلق فإنهم قد استبعدوها؛ لأنهم إنما يقدرون ذلك بآجالهم وأعمارهم وما جاوز أعمارهم، فهو عندهم بعيد ليس بقريب، وهذا إنما يكون بعد ذهاب أعمارهم. وقال قتادة: ذكر أنه لما نزلت هذه الآية (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ)، و (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)، قال ناس من أهل الضلال: يزعم هذا الرجل أن الساعة قد اقتربت

(2)

فتناهوا قليلا، ثم عادوا إلى أعمالهم، وكذلك قالوا في قوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، تناهوا عنها، ثم لما تأخر ذلك عنهم عادوا إلى ما كانوا من قبل؛ هذا لأنهم فهموا من قرب الساعة وإتيان أمره وقتًا يقرب ومدة تدنو، فلما مضى ذلك وقع عندهم أن الخبر كذب فكذبوه؛ لأنهم إنما قدروه بآجالهم وما عرفوا هم من القرب والدنو. وقوله: (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ما ذكرنا من غفلة تكذيب وإعراض، تكذيب بعد ما عرفوا أنها آيات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) قوله: (مِنْ ذِكْرٍ) ما يذكرهم ما يأتون وما يتقون. أو ما يذكر ما أوعدوا وخوفوا. أو (مِنْ ذِكْرٍ) يذكرهم ما لهم وما عليهم. وقوله: (مُحْدَثٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: محدث: محكم أحكمه من أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأحكمه لما أعجز الخلق عن أن يأتوا بمثله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: محدث؛ لأن اللَّه أنزل هذا القرآن بالتفاريق وأحدث إنزاله في كل وقت على قدر الحاجة، فعلى ما نزل بالتفاريق أحدثوا هم - أعني الكفرة - تكذيبه ورده على ما ذكر، فزادهم رجسًا إلى رجسهم ونحوه، فهو محدث من الوجوه التي ذكرنا؛ لأن كل موصوف بالإتيان فهو محدث. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ). دل قوله: (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أن استماعهم إياه استماع استهزاء به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) هذا الذي أسووا فيما بينهم (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ)، هذا كان نجواهم. وقوله: (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)، قيل: غافلة قلوبهم عن الذكر، (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) الذي أسروه هو ما ذكرنا قولهم: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) السحر. وفي حرف ابن مسعود وأبي: (وأسروا النجوى الذين كفروا منهم)، وقال الكسائى: وفي بعض الحروف: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، قال: وفي حرفنا: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى).

(4)

ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عنهم خبرًا مستأنفًا فقال: (الَّذِينَ ظَلَمُوا)؛ كقول اللَّه تعالى: (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) ثم قال: (كَثِيرٌ مِنْهُمْ)، وهذا على كلامين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) يشبه أن يكون قوله: (يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) القول الذي أسروا فيما بينهم: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)، وقوله: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)، وقوله: (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ)، وأمثال ما قالوا فيه ونسبوه إليه، أي: قل لهم: ربي يعلم ذلك القول منكم في السماء والأرض لينتهوا عن ذلك؛ لأن من يعلم في الشاهد أن أحدًا يطلع على جميع ما يختاره من القول والفعل، ترك ذلك وامتنع عن التفوه به والإقدام على ما يختاره. أو أن يكون قال ذلك على الابتداء والاستئناف أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ): السميع لقولهم، العليم بأفعالهم. ثم أخبر عن سفههم وقلة نظرهم في قولهم وكلامهم وحفظهم عن التناقض فقال: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ... (5) فيما نسبوه إلى الشعر والسحر والافتراء وأنه أضغاث أحلام تناقض في قولهم؛ لأن السحر هو غير الافتراء، والسحر غير أضغاث الأحلام، كل حرف من هذه الحروف التي نسبوه إليها يناقض الآخر ويبطله؛ فدل أنهم إنما قالوا ذلك ونسبوه إلى ما نسبوا متعنتين مكابرين لا عن معرفة وعلم قالوا ذلك؛ إذ تناقض قواطم وكلامهم؛ إلأ السحر لا يدوم ولا يبقى في وقت آخر، فإذا عرفوا وعلموا أنه دام وبقي إلى آخر الدهر، وكذلك ما قالوا من أضغاث أحلام والافتراء، أعني: ما أتى رسول اللَّه به، وبعد فإنه لو كان ما أتاهم به سحرا كان ذلك آية وعلامة على صدقه ونبوته؛ لأن السحر لا يعرفه أحد إلا بالتعليم، فإذا رأوه نشأ بين أظهرهم ولم يكن في قومه ساحر حتى يتعلم منه، ولا اختلف إلى أحد من السحرة يتعلم منهم السحر، ثم أتى به - لكان ذلك يدل على أنه إنما عرف ذلك باللَّه تعالى، فكيف وقد أتاهم بالحجج المنيرة الواضحة والآيات المعجزة الخارجة عن وسع البشر وطوقهم؟ لكنهم كابروا وعاندوا في ردها وتكذيبها، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ). قد علموا علم حقيقة أنه قد أتاهم بآيات وحجج ما لو تأملوا فيها ولم يكابروا، لدلهم على صدقه ورسالته، وقد عرفوا أنه صادق، لكنهم سألوا في قولهم: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ) الآية التي تنزل عند المكابرة والعناد، وهي الآية التي نزلت في الأمم الخالية عند مكابرتهم

(6)

الآيات والحجج، وهو إهلاكهم واستئصالهم؛ إذ من سنته وحكمه في الأولين الإهلاك والاستئصال عند مكابرتهم الآيات والحجج، وسنته وحكمه في هذه الآية ختم النبوة بهم وإبقاء شريعة مُحَمَّد - صلوات اللَّه عليه - إلى الساعة، وسنته في الأمم الماضية نسخ شرائعهم واستبدال أحكامهم، فإذا كان ما ذكرنا جعل وقت إهلاكهم الساعة، وهو ما قال: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) أي: ما آمنت قبلهم من قرية سألوا الآية سؤال مكابرة وعناد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ). أي: لا يؤمن هَؤُلَاءِ وإن أتاهم بآية فإنهم لا يؤمنون، كما لم يؤمن أُولَئِكَ المتقدمون؛ لأنهم يسألون سؤال عناد ومكابرة لا سؤال استرشاد واستهداء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) كان هذا خرج جوابًا لقولهم: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ. . .) كذا، وجواب قولهم: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، وجواب قولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ)، فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا)، أي: بشرًا، (نُوحِي إِلَيْهِمْ) إلى عامة الخلق، أي: الرسالة في الأمم الذين من قبله إلى عامة الخلق كانت في البشر لم تكن في الملائكة، وإلا كانت الرسالة إلى الخواص في الملاثكة وهم الرسل، فعلى ذلك لا تجعل الرسالة في هذه الأمة إلى عامة الخلق في الملائكة، ولكن تجعل في البشر على ما جعلت في الأمم الأولى في البشر. وجائز أن يكون قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ)، أي: جعلها في الذكور منهم لم يجعلها في النساء والإناث؛ لما لم يستكملن شرائط الرسالة والنبوة، فكأن الأول في بيان الجنس، أي: لم يجعل الرسالة إلى عامة الخلق في الملائكة، ولكن جعلها في البشر، والثاني في بيان استكمال شرائط الرسالة واستحقاقها. وفي حرف ابن مسعود وأبي: (وما أرسلنا قبله إلا رجالا نوحي إليهم)، فعلى حرفهما كأنه خاطب به أُولَئِكَ الكفرة، أي: ما أرسلنا قبل مُحَمَّد إلا رجالا نوحى إليهم، وفي القراءة الظاهرة المشهورة يكون الخطاب لرسول اللَّه، أي: قل لهم: إنه ما أرسل الله من قبلك إلا رجالا يوحي إليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

(8)

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما خاطب به مشرير العرب وأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون بالرسل المتقدمة؛ ليخبروكم: أنه لم تجعل الرسالة فيهم إلى عامة الخلق إلا في البشر، وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما خاطب من كفر من أهل الكتاب - من لا يعرف الكتاب وغيره - بمُحَمَّد أن اسألوا أهل الذكر، أي: من آمن منهم؛ ليخبروكم أن محمدا رسول اللَّه إليكم إن كنتم لا تعلمون أنتم أنه رسول اللَّه، فهذا التأويل في مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة والتأويل الأول في جميع الرسل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) قَالَ بَعْضُهُمْ: ما جعلنا أجسادًا لا أرواح فيها لا يأكلون ولا يشربون، ولكن جعلناهم أجسادا فيها أرواح يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق. وجائز أن يكون قوله: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ) من نحو الملائكة والجن، ولكن جعلناهم بشرًا. وحاصله: أنهم كانوا يطعنون الرسل بأشياء، مرة قالوا: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، وقالوا: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ونحوه، كانوا لا يرون الرسالة في البشر، ولا يرون الرسول يكون من نوع المبعوث إليه، فألزمهم أن الرسل الذين كانوا من قبل الذين صدقهم آباؤهم وآمنوا بهم كانوا من البشر بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ)، ومرة طعنوا الرسل أنهم يأكلون الطعام ويشربون وينكحون ويمشون في الأسواق كغيرهم من الناس؛ كقولهم: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ)، ونحوه، فألزمهم - عَزَّ وَجَلَّ - وأخبرهم أن الرسل الذين كانوا من قيل كانوا يأكلون ويشربون ويقضون حوائجهم؛ حيث قال: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) في الدنيا، وما قال في آية أخرى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)؛ فعلى ذلك الرسول المبعوث إليكم هو كسائر الرسل الذين كانوا من قبل، هو ممن يأكل ويشرب وينكح وهو رسول، وأنه بشر كسائر الرسل، وهو رسول اللَّه؛ على هذا يخرج تأويل الآية. وهذه الآية ترد على الباطنية قولهم ومذهبهم؛ لأنهم يقولون: إن الرسالة لا تكون في الجوهر الكثيف الجسداني الذي يأكل ويشرب ويفنى ويبيد، إنما تكون في الجوهر البسيط الذي لا يأكل ولا يشرب ولا يبيد ولا يفنى، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه لم يجعلهم جسدًا لا

(9)

يأكلون الطعام ولا يبيدون، بل جعلهم أجسادًا يأكلون ويموتون بقوله: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) أخبر أنه وعد الرسل وعدًا، لكنه لم يبين ما كان ذلك الوعد الذي وعد رسله؛ لكن في آخره بيان أن الوعد الذي وعدهم كان وعد أهلاك وتعذيب؛ لأنه قال: (فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)، دل قوله: (فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ): أن الوعد كان وعد إهلاك، فنقول: كان وعد - عَزَّ وَجَلَّ - الرسل الذين من قبل إهلاك من كذبهم، فكان كما وعدوا، وإن تأخر ذلك الموعود عن وقت الوعد؛ فعلى ذلك ما وعدكم مُحَمَّد من العذاب فإنه نازل بكم وإن تأخر نزوله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) يحتمل قوله: (ذِكْرُكُمْ) ما يذكركم ما تأتون وتتقون، أو يذكركم ما لكم وما عليكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، أي: شرفكم ونبلكم لو اتبعتم. وقال الحسن في قوله: (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي: فيه دينكم الذي أمسك عليكم به. وقال غيره: فيه شرفكم ونبلكم لو اتبعتموه؛ كقوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي: شرف لك. * * * قوله تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً). قصمنا: أهلكنا، وأصل القصم: الكسر، يخوف أهل مكة بتكذيبهم محمدًا ما نزل بأُولَئِكَ بتكذيبهم الرسل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) قوله: (أَحَسُّوا) قَالَ بَعْضُهُمْ: علموا بالعذاب، إذا هم يركضون، أي: يفرون ويهربون.

(13)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعدون، وهو واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) أي: أنعمتم فيه: مساكنكم، مثل هذا يخرج مخرج الاستهزاء بهم. ْوقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: تعذبون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تحاسبون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لعلكم تسألون الإيمان كما سئلتموه قبل نزول العذاب. وقيل: لعلكم تسألون عن قتل نبيكم؛ لأنهم قتلوا نبيهم، تسألون فيم قتلتموه؟ وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان هذا في نازلة - واللَّه أعلم - تلقتهم الملائكة وهم هاربون فارون، فقالوا لهم: (لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) استهزاء بهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ): تفقهون. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ): قال: الضغث: ما لا تأويل له، ويقال: حلم وأحلام، ويقال: حلم يحلم حلما فهو حالم: إذا رأى شيئًا في النوم، واحتلم يحتلم، لا يكون مثل حلم يحلم، ويقال من الحلم: حلم حلما فهو حليم، ويقال: حلمته، أي: جعلته حليما، والافتراء: الكذب، والشاعر: إنما سمى: شاعرًا؛ لأنه يشعر من الكلام ما لا يشعر به غيره، والقصم: الكسر، والمراد منه الهلاك، قصمه غيره وانقصم بنفسه، أي: انكسر، وقال: (أَحَسُّوا)، أي: استيقنوا بعذابنا، ويقال: أحسست، أي: وجدت، وأحسست: علمت واستيقنت، يقال: أحسست: قطعت، وتحسست، أي: تخبرت، والمحسسة الفِرْجَون. وقال: يركضون: يهربون (إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ)، أي: أنعمتم ومتعتم، والإتراف: الإكرام.

(14)

وقال أبو عبيدة: (يَرْكُضُونَ) يعدون، وقوله: (لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ)، ليس على الأمر، ولكن أي: لو رجعتم إلى ما أترفتم فيه، وكذلك (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا. .)، كذا، ليس على الأمر، ولكن لو سرتم فانظروا كذا؛ فعلى ذلك قوله: (وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ)، أي: لو رجعتم لعلكم تسألون كما كنتم تسألون من قبل، فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء جزاء لصنيعهم، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) يقرون يومئذ بالظلم، لكن لا ينفعهم ذلك ويندمون على سوء صنيعهم، فيطلبون العودة إلى دنياهم؛ كقوله: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ ... (15) أي: ما زالت تلك، أي قولهم: (يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) دعواهم، (حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ)، فإن كان هذا القول منهم في الدنيا فيكون قوله: (حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ) بالقتل بالسيف والإهلاك. وإن كان ذلك في الآخرة فيكون قوله: (حَصِيدًا خَامِدِينَ) في النار في الآخرة، والله أعلم. و (حَصِيدًا)، أي: هالكًا وهو محصود، و (خَامِدِينَ): كما يقال: خمدت النار: إذا طفيت. * * * قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ). أخبر أنه لم يخلق السماء والأرض وما بينهما لتكونا سماء وأرضًا على ما هما عليه ثم تفنيان، ولكن خلقهما لعاقبة قصدها، وهو أن يمتحن أهلها؛ لأن من عمل في الشاهد عملا لا يقصد به عاقبة يأمل ويرجو أمرًا فهو في عمله عابث لاهٍ؛ ولو كان على ما عند أُولَئِكَ الكفرة بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء ولا ثواب لكان إنشاؤهما وما بينهما باطلا

(17)

لعبًا؛ كقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، صير عدم الرجوع إليه بعد خلقهم عبثًا باطلا. وقال الحسن: لم يخلقهما عبثا، ولكن خلقهما لحكمة من نظر إليهما دلَّاهُ على وحدانية منشئهما وسلطانه وقدرته وحكمته وعلى علمه وتدبيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَهْوًا) أي: زوجة، لكن هذا بعيد؛ لأنه احتج عليهم على نفي الولد بنفي الصاحبة بقوله: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَ)، فلولا أنهم أقروا وعرفوا أن لا صاحبة له، وإلا لم يكن للاحتجاج عليهم على نفي الولد بنفي الصاحبة معنى، ويكون قوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا) أي: ولدًا؛ لأن الناس يتلهون بالولد فسماه: لهوًا لذلك، قال: (لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: (لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) بحيث لا تبلغه أفهامكم ولا يدركه علمكم؛ لأن الولد يكون من جنس الوالدين ومن شكلهما، وسبيل معرفته وعلمه الاستدلال الحسي، فإذا لم يعرفوه هو بالحسي فكيف يعرفون من هو يكون منه لو كان؟! والثاني: أن الغائب إنما يعرف بالاستدلال بالشاهد، فلو كان له الولد على ما تزعمون لكان لا يعرف؛ لأنه لا صنع للولد في الشاهد، إذ هو الواحد المتفرد بإنشاء العالم، فيذهب معرفة الولد إدراكه لو كان على ما تزعمون. وقوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا)، ليس على أنه يحتمل أن يكون له الولد، أو أن يحتمل أن يتخذ ولدًا، ولكن لو احتمل أن يكون لم يحتمل أن يدرك ويعلم، وكذلك يخرج قوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)، ليس أنه يحتمل أن يكون فيهما آلهة، ولكن لو احتمل أن يكون فيهما آلهة لفسدتا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) يشبه أن يكون الحق الذي أخبر أنه يقذف على الباطل القرآن الذي أنزله على رسوله أو الرسول نفسه، أو الآيات التي جعلها لوحدانيته أو ألوهيته. (فَيَدْمَغُهُ)، أي: يبطل ذلك الذي قالوا في اللَّه ما قالوا من الولد والصاحبة وغيره مما لا يليق به. (فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)، أي: هو ذاهب متلاشٍ.

(19)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ): من الولد والصاحبة وجميع ما وصفوه مما لايليق به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) كأنه ذكر هذا جوابا لقولهم، وردًّا على وصفهم إياه بالذي وصفوه، فقال: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: له من في السماوات والأرض كلهم عبيده وإماؤه، ولا أحد في الشاهد يتخذ لنفسه ولدًا من عبيده وإمائه، فإذا لم تروا هذا في الخلق أنفًا من ذلك واستنكافًا، فكيف قلتم ذلك في الله سبحانه وتعالى، وأضفتم إليه. أو أن يخبر غناه عن الخلق بأن له من في السماوات والأرض والولد في الشاهد إنما يطلب لحاجة تسبق، فإذا كان اللَّه - سبحانه وتعالى - غنيًّا بذاته بما ذكر أن له كذا لا حاجة تقع له إلى الولد، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ). يشبه أن يكون ذكر هذا لقولهم: " الملائكة بنات اللَّه "، فأخبر أنهم ليسوا كما وصفوهم ولكنهم عبيد لي، هم لا يستريحون عن عبادتي ولا يفترون. أو أن يكون ذكر هذا لمكان من عبد الملائكة واتخذهم آلهة دونه، فأخبر أنهم لا يستكبرون عن عبادتي ولا يفترون، ولم يدعوا هم الألوهية لأنفسهم، فكيف نسبتم الألوهية إليهم وعبدتموهم دوني؟ أو أن يكون قال ذلك: إنكم إن استكبرتم عن عبادتي، فلم يستكبر عنها من هو أرفع منزلة وأعظم قدرًا منكم، (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) ينزهون اللَّه ويبرئونه عما وصفه الملحدة من الولد وجميع ما قالوا فيه مما لا يليق به. وهذه الآية تنقض قول المعتزلة ومذهبهم حيث قالوا: إن الأعمال لأنفسها متعبة منصبة، ولو كانت الأفعال لأنفسها متعبة على ما ذكروا، لكان البشر والملائكة فيها شرعًا سواء، فلما أخبر عنهم أنهم لا يعيون ولا يفترون ولا تتعبهم العبادة؛ دل أنها صارت متعبة لصنع غير فيها لا لأنفسها، وهذه المسألة في خلق أفعال العباد: هم ينكرون خلقها، ونحن نقول: هي خلق اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كسب للعباد، وقد ذكرنا هذا في غير موضع كلامًا كافيًا. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَيَدْمَغُهُ) أي: يبطله. وقال غيره: يهلكه، وهو من قولك: ضربت الرجل فدمغته: إذا وصلت الضربة إلى

(21)

الدماغ، وإذا كان كذلك مات؛ فكذلك يدمغ الحق الباطل، أي: يهلكه. وقوله: (فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)، أي: ذاهب وميت، زهق إذا مات وهلك، والزاهق في غير هذا السمين. (وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ) أي: لا يعيون، ومنه حسير ومحسور أيضًا، (لَا يَفْتُرُونَ) والفتور: الإعياء أيضًا. * * * قوله تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ). قوله: (أَمِ اتَّخَذُوا) استفهام في الظاهر من الخلق، لكن ذلك من اللَّه على الإيجاب كأنه قال: قد اتخذوا آلهة، وهكذا كل ما خرج في الظاهر من اللَّه على الاستفهام فإنه على الإيجاب؛ لأنه عالم بما كان ويكون لا يخفى عليه شيء، وأما الخلق فإنه يجوز أن يستفهم بعض من بعض لما يخفى على بعض أمور بعض، فيطلب بعضهم من بعض العلم والفهم بذلك، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُم يُنْشِرُونَ) يحتمل وجهين: أحدهما: (هُم يُنْشِرُونَ) أي يخلقون، أي: اتخذوا آلهة لا يخلقون؛ كقوله: (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ)، وكيف اتخذوا آلهة لا يخلقون؟ وإنما يعرف الإله بالخلق وبآثار تكون في الخلق، فإذا لم يكن من هَؤُلَاءِ خلق كيف اتخذوها آلهة؟! والثاني: (هُم يُنْشِرُونَ)، أي: يبعثون ويحيون. فإن كان على البعث والإحياء فكأنه يقول: كيف اتخذوا من لا يملك البعث والإحياء آلهة؟! وخلق الخلق لا للبعث والإحياء بعد الموت يخرج على غير الحكمة في الظاهر؛ لأن من بنى في الشاهد بناء للنقض خاصة لا لعاقبة تقصد به كان غير حكيم في فعله عابثًا في بنائه، وكذلك قوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) جعل خلق الخلائق لا للرجوع إليه عبثًا، فيخرج هذا على وجهين: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً)، أي: قد اتخذوا آلهة من الأرض (هُم يُنْشِرُونَ). أو لم يتخذوا آلهة من الأرض هم يملكون النشر أو النشور، واللَّه أعلم. وقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)

(23)

وفي حرف ابن مسعود وأبي وحفصة: (لو كان فيهن آلهة لفسدن). ثم يحتمل قوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) وجوهًا: أحدها: (لَفَسَدَتَا)، أي: لم يكونا من الأصل؛ لأن العرف في الملوك أن ما بنى هذا وأثبته يريد الآخر نقضه وإفناءه، فلم يثبتا ولم يكونا من الأصل لو كانا لعدد. والثاني: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا): لم تكن منافع إحداهما متصلة بمنافع الأخرى للخلق؛ إذ يمنع كل واحد منهما منافع ما خلق هو من أن تصل إلى الأخرى، فإذا اتصلت منافع إحداهما بالأخرى، دل أنه صنع واحد وتدبير واحد لا عدد. والثالث: لو كان عددًا، لكان لا يخرج تدبيرهما على حد واحد في كل عام، فإذا اتسق التدبير وجرى الأمر في كل عام على سنن واحد؛ دل أنه تدبير واحد لا عدد؛ إذ لو كان لعدد لكان يختلف الأمر في كل عام ولم يتسق على سنن واحد، ولا جرى على أمر واحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو قول اللَّه: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، على ما هو من عادة ملوك الأرض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) من الولد والشريك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) هذا يحتمل وجوهًا: أحدهاة أنه لا يُسأل؛ لأن ما يفعل يفعل في ملكه وسلطانه، وإنما يسأل من فعل في سلطان غيره وملك غيره، ففي ذلك دلالة أنه لا يجوز التناول في شيء إلا بالأمر والإباحة من مالكه، فيبطل قول من يقول: هو على الإطلاق والإباحة في الأصل. والثاني: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ)؛ لأنه حكيم بذاته لا يخرج فعله عن الحكمة، فإنما يسأل من يحتمل فعله السفه، فأما من لا يحتمل فعله إلا الحكمة، فإنه لا يحتمل السؤال: لم فعلت؟ ولماذا فعلت؟ والثالث: لو احتمل السؤال عما يفعل لاحتمل الأمر والنهي: أن افعل كذا، ولا تفعل كذا، وذلك محال، ولو ثبت الأمر فيه لكان يخرج سؤاله سؤال حاجة؛ لأن من يأمر من فوقه بأمر فإنما يكون أمره سؤال حاجة، ومن يأمر من دونه فيكون أمره أمرًا. وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) فيه دلالة لزوم الدليل على النافي؛ لأنه لما قال: (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) كان لهم أن يقولوا: هات أنت البرهان على ما ادعيت من الألوهية، ونحن ننكر ذلك، فإذا لم يكونوا

(25)

يقولون ذلك، دل أن الدلالة تلزم النافي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي). أي: هذا القرآن (ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا القرآن فيه ذكر من معي من الحلال والحرام، (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي)، أي: فيه ذكر أعمال الأمم السالفة وأخبارهم وما صنع اللَّه بهم إلى ما صاروا إليه. أو أن يكون قوله: (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) أي: خبر من معي وخبر من قبلي؛ فيكون فيه دليل رسالته؛ لأنه أخبر عن أنباء الأمم السالفة وأخبارهم على ما ذكرت في كتبهم من غير أن علم ما في كتبهم بتعلم منهم أو بنظر كان منه فيها؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك باللَّه. ويشبه أن يكون تأويل قوله: (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) ما ذكر: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)، أي: هذا ذكر من معي وذكر الرسل من قبلي ومن معهم، أي: هذا الذكر أرسلني إلى من معي وأرسل الذين من قبلي إلى قومهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ): كذلك كانوا لا يعلمون الحق بإعراضهم عنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) أخبر: أنه لم يرسل رسولًا من قبل إلا بما ذكر من قوله: (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). ثم يحتمل قوله: (فَاعْبُدُونِ) أي: وحدوني في الألوهية لا تصرفوا الألوهية إلى غيري، ولا تشركوا من دوني في ألوهيتي. أو أن يكون: (فَاعْبُدُونِ) أي: إليَّ؛ فاصرفوا العبادة إليَّ، ولا تصرفوا العبادة إلى مَن دوني، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ).

(27)

دل قوله: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ): أنهم لم ينسبوا الولد إليه، ولا قالوا ذلك: إنه اتخذ ولدًا على حقيقة الولادة، ولكن قالوا ذلك على الصفوة واصطفائه من أضافوا ونسبوا إليه؛ لأن الذين قالوا: إنهم ولده من نحو عيسى وعزير والملائكة ليسوا كما وصفوا، ولكنهم عباد مكرمون، ثم أخبر بما أكرمهم فقال: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) أخبر أنهم لا يتقدمون في قول ولا فعل إلا بإذن منه وأمر. أو أن يكون قوله: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي: لا يأمرون بشيء ولا ينهون عن شيء إلا بإذن من اللَّه وأمر منه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) هذا قد ذكرناه في سورة " طه ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)، وقال في آية أخرى: (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)، فيكون تأويل قوله: (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) أي: إلا لمن أذن له. ثم يتوجه قوله: (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) إلى الشفيع، أي: لا يؤذن لأحد بالشفاعة إلا من كان مرضيا مرتضى دينا وعملا، ويتوجه قوله: (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) إلى المشفوع له: إلا لمن ارتضى عنه الرب مذهبًا وعملا؛ حتى لم يدخل في عمله تقصير. ثم الشفاعة إنما جعلت في الأصل للتجاوز فيما دخل في العمل من التقصير. ثم لا يخلو الذي يشفع له إما أن يكون صاحب الصغيرة فيجوز أن يعذب عليها، أو أن يكون صاحب كبيرة، ففيه دلالة التجاوز والعفو عن صاحب الكبيرة؛ لأنا قد قلنا: إن الشفاعة إنما جعلت لمن منه التقصير في العمل، ففيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن صاحب الصغيرة معفو عنه الصغيرة حتى لا يجوز أن يعذب عليها، وصاحب الكبيرة لا يجوز العفو عنه والتجاوز، بل هو معذب أبدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) هذا - واللَّه أعلم - كأنه صلة قوله: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ. . .) الآية، أي: من خشية عذابه وهيبته لا يتقدمون بقول ولا فعل ولا أمر ولا نهي؛ خوفًا منه وهيبة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)

هذا كأنه مقطوع عما سبق وتقدم ذكره غير موصول به؛ لأن ما سبق هو القول منهم: إنه اتخذ الرحمن ولذا، فلو كان على اتصاله بالأول، لكان يقول: ومن يقل منهم: إني ولد إله؛ لأنهم قالوا: (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا)، ولم يقولوا: إنه اتخذ الرحمن إلها، فلو كان على الصلة بالأول والجواب له، فهو يخرج على الجواب لهم، ومن يقل منهم: إني ولد إله، لكن كأنهم كانوا فرقًا: منهم من قال: اتخذ ولدا، ومنهم من عبد دونه الملائكة واتخذهم آلهة، فخرج هذا جوابًا لذلك فقال: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ. . .) الآية، فَإِنْ قِيلَ لنا في قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)، وقد عبد عيسى من دونه، وعبد الملائكة دونه؛ فيكون حصب جهنم على ظاهر ما ذكر، قلنا: تأويل قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) بأمر الذين عبدوا وقالوا لهم: اعبدوني (حَصَبُ جَهَنَّمَ)، دليله ما ذكر في الآية: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي: المشركين (الظَّالِمِينَ) وهاهنا: المشركين الكافرين. ثم قال الحسن في قوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ): لا يحتمل أن يكونوا يقولون ذلك؛ لما وصفهم بالطاعة له وترك الخلاف لأمره، لكنه ذكر هذا؛ ليعلم الخلق أن من قال ذلك وإن عظم قدره عنده، وجلت منزلته أنه يجزيه بما ذكر أنه يستوجب لذلك. ولكن عندنا المعصية من الملائكة ممكن محتمل؛ دليله قوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ)، ولأنه قد مدحهم بقوله: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ. . .) الآية. وقوله: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ. . .) الآية، فدل ذلك كله على أنهم مختارون في ذلك غير مجبولين عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) وهو إبليس هو كان منهم، وهو الذي قال ذلك (إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ) فاعبدونى، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا

(30)

لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) قوله: (أَوَلَمْ يَرَ) يخرج على وجوه: أحدها: أنِ اعْلَمُوا ورُوا: أن السماوات والأرض كانت كذا. والثاني: لو تفكروا وتأملوا لعلموا أنهما كذا. والثالث: على التنبيه: أن قد رأوا وعلموا أنهما كانتا كذا، كذلك هذا في كل ما ذكر من قوله: (أَوَلَمْ يَرَوا إِلَى. . .) كذا، و (أَلَمْ تَرَ إِلَى. . .)، كذا، فهو كله يخرج على هذه الوجوه. ثم يكون قوله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا)، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) كل هذا كان في قوله: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) كأنه يقول: أولم يروا كذا ما جعلناهم من أنواع ما ذكر، ثم ذكر هذا لهم يكون لوجوه: أحدها: أن يذكر نعمه عليهم حيث أخبر أن السماء والأرض كانتا رتقا ففتق منهما أرزاقهم، وذكرهم أنه جعل بالماء حياتهم، وجعل لهم الأرض بحيث تقر بأهلها وتسكن بهم، وجعلها مهادًا لهم وفراشا بالجبال حتى قدروا على المقام بها والقرار، ثم قال: إنه جعل فيها فجاجًا وسبلا، ليصلوا إلى حوائجهم وشهواتهم ومنافعهم التي جعلت لهم في البلاد النائية، وذكرهم نعمه أيضًا في حفظ السماء عن أن تسقط عليهم على ما أخبر أنه يمسكها هو بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا)، وذكرهم أيضًا نعمه فيما جعل لهم من الليل والنهار وفي الشمس والقمر من المنافع؛ يستأدي بذلك كله الشكر على ما أنعم عليهم. أو أن يذكرهم بهذا قدرته وسلطانه: أن من قدر على فتق السماء من الأرض، وجعل حياة كل شيء من الماء، وإمساك السماء وحفظها عن أن تسقط بلا عمد، وما ذكر من خلق الليل والنهار، وقطع الشمس والقمر بيوم واحد مسيرة خمسمائة عام - أن من قدر على كل ما ذكر لقادر على بعثهم وإحيائهم بعد الموت وبعد ما صاروا ترابًا. أو أن يذكرهم غناه بذاته وملكه: أن من كان هذا سبيله فأنى تقع له الحاجة إلى اتخاذ الولد أو الشريك أو الصاحبة ردًّا على ما قالوا: (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)، و (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً)، ونحوه، فبين فساد ذلك كله وبطلانه حيث قال:

(31)

(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا). وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) ونحوه، يبين بهذا كله فساد ما ادعوا على اللَّه أنه اتخذ كذا. ثم اختلف في قوله: (كَانَتَا رَتْقًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: فتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات: فتق السماء، وهي أشد الأشياء وأصلبها بألين شيء وهو الماء، وكذلك الأرض فتقها بالين شيء وهو النبات مع شدتها وصلابتها، وهو ما ذكرنا من لطفه وقدرته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَانَتَا رَتْقًا) ملتزقتين، ففتقهما أي: جعل بينهما هواء مكانا لتخلق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانت السماء واحدة والأرض كذلك، فجعل من السماء سبعًا ومن الأرض كذلك سبعًا، فكذلك فتقه إياهما، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الماء نطفة الرجال منه يخلق الخلائق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ) الذي خلق في الأرض، أو أنزل من السماء حياة كل شيء، يعلم حياة خلائق الأرض بهذا الماء، ولكن لا يعلم حياة أهل السماء بماذا؟ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) هذا يدل أن الأرض لم يكن من طبعها في الأصل التسفل والتسرب في الماء على ما قاله بعض الناس؛ لأنه لو كان طبعها التسفل والتسرب لكان الجبال تزيد التسفل في الماء والتسرب، فإذا لم يكن دل أن طبعها كان الاضطراب والزوال والتحرك والميد فأصلها: ليس التسفل والتسرب ولكن على ما ذكرنا فأثبتها بالجبال، وإن كنا نشاهد بعض أجزائها أنها تسفل وتسرب، وهذا كما نقول: إن بعض العالم متعلق ببعض وأنه لا يخلو عن مكان، وكل العالم لا تعلق له به ولا الأمكنة آخذة لها، فعلى ذلك الأرض.

(32)

أو أن كان طبعها التسفل والتسرب جعلها بحيث تقر وتسكن بشيء طبعه الئسفل أيضا باللطف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: الفجاج والسبل واحد، وهي الطرق التي جعلها في الجبال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفجاج: السعة والفسحة، والسبل: الطرق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفجاج: هي الطرق التي في الجبال، والسبل: هي التي في المفاوز. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَحْفُوظًا)، أي: محبوسًا عن أن يسقط عليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: محفوظًا من الشياطين، أي: صار محفوظًا منهم؛ حتى لا يستمعوا كلام الملائكة بعد ما كانوا يستمعون من قبل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) قَالَ بَعْضُهُمْ: الفلك: السماء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: استدارة السماء. وقيل: الفلك: المجرى والسرعة. وقيل: الفلك: فلكة كفلكة المغزل وهو دورانه، وكذلك فلكة الطاحونة: هو ما يدور به الطاحونة، وهي الحديدة التي تدور بها الطاحونة، وقالوا: إن الفلك استدارة وكل شيء دار فهو فلك وهو ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْبَحُونَ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: يجرون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يسبحون: يعلمون، وكذلك روي في حرف عبد اللَّه: (كل في فلك يعلمون).

(34)

وظاهر الآية: أن يكون هنالك بحر ونهر فيه يجري الشمس والقمر وفيه يغربان ومنه يطلعان؛ لأنه قال: (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)، والسباحة هي المعروفة عند الناس، وهو ما يسبح المرء في بحر أو نهر، هذا ظاهر الآية، وعلى ذلك جاءت الأخبار؛ روي عن ابن عَبَّاسٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " خلق اللَّه بحرا دون سماء الدنيا مقدار ثلاث فراسخ، فهو موج مكفوف قائم في الهواء بأمر اللَّه تعالى، لا يقطر منه قطرة والبحور كلها ساكنة، وذلك البحر جار في سرعة السهم، ثم انطباقه في الهواء مستو كأنه حبل ممدود ما بين المشرق والمغرب، فتجري الشمس والقمر والخنس في ذلك البحر "؛ فذلك قوله: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) والخنس: هي التي تخنس بالنهار وتجري بالليل، والفلك: دوران العجلة، في لجة: غمرة ذلك البحر، وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " والذي نفسي بيده لو بدت الشمس من ذلك البحر، لحرقت كل شيء في الأرض حتى الصخور، ولو بدا القمر من ذلك البحر لافتتن به أهل الأرض كلها يعبدونه من دون اللَّه إلا من عصمه اللَّه ". وفي بعض الأخبار: (الفلك: ماء مكفوف يجري فيه الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار)، ويقال: الشمس والقمر والليل والنهار كله دون السماء يدور به الفلك، ومثل هذا قد قيل فيه، واللَّه أعلم. وظاهر الآية في الخبر ما ذكرنا: أن الشمس والقمر هما اللذان يجريان ويسبحان في ذلك الماء. وعلى تأويل بعضهم أنهما على حالهما لا يجريان، لكن الفلك هو يجري فيظهران ويبدوان في وقت ويختفيان في وقت آخر، ولو كانا هما اللذان يجريان لكانا على حالة واحدة ويظهران في الأحوال كلها، لكنا لا نعلم ذلك إلا بالخبر عن اللَّه أنه كذلك، والله أعلم. قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (41) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ).

(35)

كأنه خرج جوابًا لقول أُولَئِكَ الكفرة في رسول اللَّه صلوات اللَّه عليه، والأشبه أن يكون ما أصابهم من الشدائد والفتن والهلاك كانوا يتشاءمون برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويتطيرون به أن ذلك إنما يصيبهم به، وقالوا: لولا هو ما يصيبنا من ذلك شيء، فقال جوابًا لهم: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) بل حكمه أن يموت الكل على ما أخبر: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) فإذا لم يكن لأحد من قبلك الخلد بل كلهم قد ماتوا كيف يتشاءمون بك أن ذلك إنما يصيبهم بسببك وشؤمك؟! (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)، أي: وإن مت أنت وتخرج من بينهم لا يخلدون هم فيها؛ لأن من حكمه أن كل نفس ذائقة الموت. (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) قد ذكرنا تأويله فيما تقدم في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يذكر آلهتهم بسوء ويعيبها، يهزءون به مكان ما يعيب هو آلهتهم ويقولون: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ). ثم يحتمل أن يكون من القادة منهم والرؤساء؛ إغراء لأتباعهم عليه أنه يذكر آلهتكم بسوء. أو أن يقول بعضهم لبعض إذا خلوا عنه؛ كقوله: (وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا يقولون: لا نعرف ما الرحمن؟ فيكفرون باسم الرحمن. ويحتمل أن يكون قوله: (بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ) بنعمة الرحمن وهو مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أي: يكفرون بنعمته. أو أن يذكر هذا، ليصبر رسوله ويعزيه على تكذيبهم، ليس أياديك بأكثر من أيادي الرحمن، فهم يكفرون به ويكذبونه ويقولون فيه ما يقولون، فاصبر أنت على أذاهم وما قالوا فيك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ... (37) وقال في آية أخرى: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)، قال الحسن: عجولا، أي: ضعيفا، وضعفه هو أن يضيق صدره ويحرج عند إصابة أدنى شيء، حتى يحمله ضيق صدره على أن يدعو على نفسه وعلى مجيئه بالهلاك لضيق صدره وذلك لضعف فيه.

(38)

وعندنا: أنه خلقه عجولا حتى لا يصبر على حالة واحدة وإن كانت الحالة حالة نعمة ورخاء حتى يمل عنها ويسأم ويريد التحول إلى حالة هي دون تلك الحالة ويرضى بشيء دون، لكنه وإن خلقه على ما أخبر جعل في وسعه رياضة نفسه حتى يصير صبورًا حليمًا، وهو ما أخبر (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23). أخبر أنه خلقه هلوعًا، ثم استثنى المصلين؛ دل أنه بالرياضة يتحول عن الحالة التي خلقه إلى حالة أخرى، وهي حالة الحلم والصبر، وكذلك ما أخبر: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)، كان كذلك في الابتداء، لكنه بالرياضة والعادة يصير سخيَّا جوادا، وكذلك ما قال: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) ثم قال: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)، أخبر أن الأنفس أحضرت الشح، ثم أخبر أن من يوق شح نفسه فله كذا؛ دل بهذا كله أنه بالرياضة والعادة يحتمل التحول إلى حالة السخاء والجود بعد ما كان شحيحًا قتورًا بخيلا؛ فعلى ذلك ما ذكر من العجلة والهلع والجزع فيه يحتمل بالرياضة والعادة إلى أن يصير حليمًا صبورًا في الأمور غير ملول فيها، وليست المحنة إلا الرياضة والعادة، فأمره أن يروض نفسه ويعودها القيام بجميع ما أمره اللَّه، ويكفها عن جميع ما نهى عنه، فيعتاد اتباع أمره والانتهاء عن نهيه، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ). يشبه أن يكونوا سألوا رسول اللَّه الآيات على رسالته أنه رسول، أو سألوه آيات على وحدانية اللَّه وربوبيته، فقال: (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي)، من الوجه الذي يريد ربي ويبين لكم ذلك، لا من الوجه الذي تريدون أنتم وتسألونه. وقال بعض أهل التأويل: سأريكم آياتي فيما نزل من العذاب فيهم وفي منازلهم، فلا تستعجلون أنتم العذاب على من كان قبلكم من الأمم بتكذيبهم الرسل، فإن سافرتم وضربتم في الأرض رأيتم آثار العذاب فيهم وفي منازلهم؛ فلا تستعجلون أنتم العذاب الذي يعد لكم الرسول، كأنه يخوفهم العذاب ويعد لهم إياه، فكذبوه في ذلك فقال عند ذلك ما قال، ويقولون أيضًا: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بأنا نعذب. وجائز أن تكون الآية فيهم بتكذيبهم الساعة والقيامة وإنكارهم إياها، فقال: (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي) التي تكون قبل وقوعها (فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) وقوعها ووجوبها؛ دليله ما ذكر: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) وقوله: (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً. . .) الآية.

(40)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ما نزل بهم بوقوع القيامة حتى لا يملكون كفها عن وجوههم ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون، إنما تحيط بهم حتى لا يملكون هم دفعها عن أنفسهم، ولا يملك ما اتخذوا أنصارًا وأعوانا في الدنيا دفع ذلك أيضًا، وهو كقوله: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ. . .) الآية، وقوله: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً (40) أخبر أنها تأتيهم بغتة - أي: فجأة - لا يعلم أهلها عن وقت وقوعها (فَتَبْهَتُهُمْ)، قال أهل التأويل: (فَتَبْهَتُهُمْ): صتفجأهم، والبهتة كأنها حيرة، يقول: تأتيهم بغتة فجأة فتحيرهم، وهو ما أخبر: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى)؛ وذلك لحيرتهم في أنفسهم، وهو ما ذكر: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ. . .) الآية؛ يصيرون حيارى؛ لشدة أهوالها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ). أخبر أنهم لا يملكون دفعها إذا وقعت بهم، (وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) في وقوعها أن من ابتلى بالبلايا في الشاهد فإنما يملك دفعه عن نفسه إما بقوة نفسه، وإما بأعوان وأنصار ينصرونه ويعينونه في دفعه عنه، وإما بالتضرع والابتهال والاستسلام، كقوله: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا. .) الآية، فأخبر عَزَّ وَجَلَّ: لا يملكون دفعها بقوى أنفسهم ولا بأنصارهم الذين استنصروا؛ حيث قال: (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، (وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) بالتضرع والاستسلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (41) فيه تصبير رسول اللَّه على ما يستهزئون به؛ لأنه قال: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ)، أي: لست بأول رسول لله استهزأ به قومه، فيه تخويف أُولَئِكَ باستهزائهم به بما نزل بأوائلهم باستهزائهم برسلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَاقَ) قال أهل التأويل: حاق: نزل ووجب ووقع وأمثاله. وقال بعض أهل المعاني: الحيق: هو ما اشتمل على الإنسان من مكروه، أي: بفعله؛ كقوله: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: حاق، أي: رجع عليهم وأحاط بهم.

(42)

قوله تعالى: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ). أي: من يحفظكم ويحرسكم من عذاب الرحمن. وقيل: من يدفع عنكم عذاب الرحمن. ثم هذا يخرج على وجهين: أحدهما: قوله: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ) أي: لو سألتم من يكلؤكم من عذاب الرحمن لأقروا لك أن الرحمن هو الذي يكلؤهم ويحفظهم من عذابه، لا الآلهة التي يعبدونها، وهو كقوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقل (مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)، ونحوه، فسيقولون: اللَّه، لا الآلهة التي يعبدونها، فقل: أن كيف صرفتم عن عبادته وعبدتم دونه من لا يكلؤكم ولا يدفع عنكم العذاب، وقد عرفتم أن الرحمن هو الذي يكلؤكم بالليل والنهار، وهو إله السماوات والأرض، فكيف عبدتم من ليس هو بإله؟! فيخرج عن الاحتجاج عليهم ولزوم الحجة لهم؛ لئلا يقولوا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). والثاني: يخرج على التذكير والتنبيه لهم؛ لأنهم كانوا ينكرون الرحمن ويقولون: ما الرحمن؛ وقوله: (وَهُمْ يَكفُرُونَ بِالرَّحْمَن)، فيخرج قوله: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي: كيف تنكرون الرحمن وتكفرون به وهو يكلؤكم بالليل والنهار عن عذابه، وعلى هذا يخرج (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ)، أي: بل هم عن ذكر ربهم الرحمن معرضون، أي: منكرون له، واللَّه أعلم. وقوله: (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) أي: ليس لهم آلهة من دوننا تمنعهم من عذابنا، هو على النفي، أي: ليس لهم الآلهة من دونه وإن كان ظاهره استفهامًا، ثم بين

(44)

موضع الاحتجاج عليهم، وهو ما أخبر عن عجزهم حيث قال: (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي: لا يستطيع الآلهة نصر أنفسها إذا أرادوا بها سوءًا، (وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي: ينصرون، تأويله: أن كيف عبدتم من دونه واتخذتموهم آلهة رجاء شفاعتهم ووسيلتهم حيث قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ونحوه، وفي قولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، فإذا كانوا لا يملكون نصر أنفسهم إن أصابها سوء ولا يصحبها من يدفع عنها السوء، فكيف اتخذتم آلهة دونه، فمن كان عن دفع السوء عن نفسه ونصرها عاجزا، فهو عن دفعه عن الآخر ونصره أعجز. ثم بين الذي حملهم على ذلك وهو ما قال: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ (44) ولم يأخذهم بالعقوبة بأعمالهم التي عملوها فظنوا أن اللَّه راضٍ عنهم وأنهم على الحق؛ ولهذا قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا)، ادعوا رضاء اللَّه بما هم عليه وآباؤهم. ثم بين أنه وإن تركهم وقتًا طويلا ومتعهم عليه أنه قد نقص عما كانوا يملكون هم؛ حيث غلب عليهم رسول اللَّه على بعض أملاكهم وجعله ملكا للمسلمين وهو قوله: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)، وجعلناها ملكا للمسلمين. ثم اختلف في تأويل هذا؛ قال الحسن: قوله: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) أي: اعكموا أنا ناتي الأرض ننقصها من أطرافها، أي: نحشرهم يوم القيامة من أطراف الأرض إلى المحشر، فذلك نقصها. وقال غيره: أفلا يرون أن رسول اللَّه كلما بعث إلى أرض ظهر عليها، قال: ننقصها بالظهور عليها أرضًا فأرضًا، (أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ)، أي: ليسوا هم الغالبين، ولكن رسول اللَّه هو الغالب عليهم. وقال ابن عَبَّاسٍ: ننقصها: ذهاب فقهائها وخيار أهلها. وقال قتادة: ننقصها بالحرث، وكذلك قال عكرمة: ننقصها من أطرافها بالموت، وقال: لو كانت الأرض تنقص لم يوجد للرجل مجلس يجلس فيه، ونحو هذا قد قالوا فيه.

(45)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ... (45) هذا - واللَّه أعلم - يخرج على وجهين: أحدهما: خرج جوابًا لقولهم: (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، أنهم كانوا ينكرون رسالته ويقولون: إنه بشر كيف خص هو به؟ فيقول: إني لست أنذركم لأني بشر، ولكن إنما أنذركم بالوحي من اللَّه، وأنتم ممن لا تقبلون بشارة ربي ونذارته. والثاني: قال ذلك لما تقدم منه في الآيات النذارةُ المرسلة غير مضافة إلى اللَّه، فأمره أن يقول لهم: إني فيما أنذركم من النذارات، لم أنذركم من ذات نفسي، ولكن إنما أنذركم بالوحي من ربي، فمعناه - واللَّه أعلم - أي: فيما أنذرتكم مما نزل بالأمم المتقدمة والأنباء التي أخبرتكم عنها مما لم أشهدها ولا أنتم، بل إنما أنذركم بالوحي، فذلك موضع الاحتجاج عليهم في إثبات رسالته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ). هذا - واللَّه أعلم - يقول: إن الأصم إذا أريد أن يدفع عن المهالك لا سبيل أن يدفع عنها ويكف بالدعاء والنداء، ولكن إنما يكف ويدفع عن المهالك بالأيدي والراحات، كأنه قال ذلك لما أكثر دعاءهم إلى ما به نجاتهم فأبوا ذلك ولم يجيبوه، فقال عند ذلك: إنكم لا تسمعون الدعاء والنداء إلى ما به نجاتكم، ولكن تعرفون ذلك بالقتل والسيف. أو أن يقول ذلك: إنكم صم عن الحق حتى لا تسمعونه كالأصم بالسمع، والأصم يالسمع لا يدعى ولا ينادى؛ لأنه لا يسمع، ولكن يدعى باليد والإشارة، فعلى ذلك أنتم صم عن الحق لا تدعون بالنداء، ولكن بالذي يعرف الدعاء وهو اليد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) قال الحسن: (نَفْحَةٌ) أي: طائفة من عذاب ربك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نقمة من ربك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عقوبة ربك، وأصل النفحة: الرمية؛ ولذلك سمي نفحة الدابة: أي رميها، وهو ما ذكر من رمي الشرر؛ كقوله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) في ظاهر الآية أن الموازين هي القسط، والقسط هو العدل؛ لأنه قال: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ)؛ فكأنه قال: ونضع الموازين التي توضع في الدنيا ويعرف بها حقوق الناس في

(48)

الآخرة العدل الذي يعرف به حدود الأشياء وأقدارها، فيكون الموازين العدل ما ذكر بقوله: (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)، أي: لا ينقص من حسناته أو يزاد على جزاء سيئاته، ولكن يوفى كل جزاء عمله. ويحتمل أن يكون قوله: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ) على الإضمار، أي: نضع الموازين التي تكون في الدنيا يوم القيامة بالعدل لا تطفف ولا تنقص ولا تحسر، كما تفعلون في الدنيا، ولكن العدل لا تطفف ولا تنقص ذلك تسوى وتستوفى مستويا من غير زيادة ولا نقصان؛ لأن الزيادة والنقصان إنما تكون في الشاهد لوجوه: الجهالة، أو للحاجة، أو للجور، فيحمله كله على الزيادة والنقصان، واللَّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك كله؛ لأنه عالم بذاته غنى بذاته عادل، فلا وجه للخسران منه والزيادة فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا). أي: أتينا بجزائها، أو أتينا بها، أي: بعينها لا يفوت شيء ولا يغيب عنه. وليس المراد من ذكر (مِثْقَالَ حَبَّةٍ) و (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، الذرة، والحبة، ولكن ذكر على التمثيل، أي: لا يفوت عنه شيء ولا يغيب ذلك المقدار من الخير والشر غير فائت عنه ولا منسى، ولكن محفوظ محاسب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ). لا يشغله كثرة الحساب وازدحامه، ليس كمن يحاسب آخر في الشاهد أنه إذا كثر الحساب عليه وازدحم شغله ذلك عن حفظ الحساب، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ). فهو ما يفرق بين الحق والباطل، وبين المشتبه والواضح، وبين ما يؤتى ويتقى، وبين ما عليهم ولهم، والنور: ما يتجلى به حقائق الأشياء، والضياء هو ما يظهر به حسن ما يتجلى واستنار، وروح: هو ما به حياة كل شيء، القرآن سماه: روحًا؛ لأنه به حياة الدِّين، وسمى الماء: حياة؛ لأن به حياة الأبدان، والمبارك هو ما ينال به ويصل إليه من كل خير، والذكر: هو ما يذكر ما لهم وعليهم. (وَذِكْرًا). قيل: هو الموعظة، والموعظة: قيل: هي التي تلين القلوب وتوسع الصدور وتفسح ويخشع بها الفؤاد، وعلى هذا الوصف جميع كتب اللَّه الذي وصف هذا

(49)

القرآن بها، ثم بين أنها على الوصف الذي ذكر لِمَنْ، فقال: (لِلْمُتَّقِينَ) وإن كانت هي في أنفسها على الوصف الذي ذكر، فإنها تتجلى بها الشبه من الحقائق والحق من الباطل لمن قبلها وأقبل نحوها ونظر إليها بعين التعظيم والإجلال، فأما من أعرض عنها فليست لهم على ما ذكر، لكن على ما أخبر بقوله: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ). ثم بين من المتقون؟ فقال: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) يحتمل قوله: (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)، أي: يخشون العذاب الموعود في الغيب وهو عذاب الآخرة ونقمتها، إن المؤمنين خافوا العذاب الموعود في الآخرة، فيحذرون ما به يحل ذلك، وأما الكفار فإنهم لم يخافوا العذاب الموعود في الآخرة ولم يصدقوه إنما يخافون العذاب المعاين المشاهد، فأما العذاب الموعود في الغيب فلا يخافونه. ويحتمل أيضًا قوله: (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)، أي: يهابون ربهم ويخافونه وإن لم يروه؛ لما رأوا من آثار سلطانه وملكه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) يحتمل: هم من أهوال الساعة وأفزاعها خائفون. أو أن يكون قوله: وهم من محاسبة أعمالهم مشفقون خائفون، فحاسبوا أنفسهم في الدنيا؛ إشفاقًا على محاسبة أنفسهم في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) الذكر المبارك ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) ظاهره وإن كان استفهامًا فهو في الحقيقة إيجاب؛ كأنه قال: وهذا ذكر مبارك أنزلناه وتعرفونه أنه كذلك، فأنتم مع هذا له منكرون، يذكر سفههم وتخبر عن عنادهم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ).

(52)

قال الحسن: رشده: دينه وهداه. وقال غيره: رشده: النبوة. ويثبه أن يكون قوله: (آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ) حججه وبراهينه التي حاج بها قومه على غير تعليم من أحد، وفيه دلالة أن ليس كل رشد وهدى بيانًا؛ لأنه لو كان كله بيانًا لم يكن لتخصيص إبراهيم بالرشد كثير معنى؛ إذ هو في ذلك البيان وغيره من الكفرة والفراعنة سواء، فدل قوله: (آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ) أنه يكون من اللَّه للمهتدين فضل صنع ليس ذلك في الكافرين، وهو التوفيق والعصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ قَبْلُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: من قبل الأوقات التي يعطى البشر الرشد وهو حال الصغر. ويحتمل قوله: (مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل مُحَمَّد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من قبل موسى وهارون. ويحتمل: (آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ) من قبل إيمان أهل الأديان كلها؛ لأن جميع أهل الأديان يدعون أنهم على دين إبراهيم، فلا يحتمل أن يكون دينه ورشده الذي آتاه اللَّه هو كل ذلك، بل إنما كان ذلك واحدًا، فوجب النظر فيه والتأمل في ذلك؛ ليظهر الدِّين الذي كان عليه إبراهيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ). يحتمل قوله: (وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ)، أي: بالرشد والدِّين الذي عليه إبراهيم عالمين من قبل. أو أن يكون قوله: (وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ)، أي: كنا بجميع ما يكون من إبراهيم عالمين. وقوله تعالى: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) كأنه قال: ما هذه التماثيل التي اتخذتموها (أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)، أي: إنما يعبد من يعبد لفعل يكون من المعبود إلى من يعبده، فأما أن يعبد ما يفعله من المعبود فلا يحتمل، وهو ما قال إبراهيم: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)، يسفههم

(53)

ويعيب عليهم لعبادتهم ما ينحتون هم بأيديهم ويتركون عبادة من خلقهم وخلق أعمالهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قد انقطع حجاجهم لما قال لهم إبراهيم ما قال وأظهر سفههم، ففزعوا إلى تقليد آبائهم فقالوا: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) لم ينكر عليهم فعل آبائهم وعبادتهم الأصنام، ولكن أقر لهم بصنيع آبائهم، ثم جمعهم وآباءهم وأخبر: (أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) بعبادة الأصنام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) لما علموا أن مثل هذا القول لا يقوله إلا من كان عنده حجة وبرهان، فقالوا: أجئتنا بما تقول بحجة، (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) تلعب بنا وتهزأ؟ وأخبر أنه جاءهم بالحق وبين لهم ذلك الحق فقال: (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ (56) لا الأصنام التي تعبدونها، أي: (رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الذي يعرف بالدلالات والبراهين وآثار الصنعة في غيره، لا الذي أحدثتم أنتم واتخذتموه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ). يحتمل: وإنا على جميع ما قال وكان منه من الحجاج وإقامة الحجج على ألوهية الله تعالى وتسفيه أُولَئِكَ في عبادة الأصنام - من الشاهدين، أو من الشاهدين على خلقها. ويجوز أن يقال: الشاهد: المبين، وأنا على ذلكم من المبينين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) إن الأصنام لا يقصد إليها بالكيد، لكن تأويله - واللَّه أعلم - لأكيدن لكم في أصناكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) قال عامة أهل التأويل: إن إبراهيم إنما قال ذلك: (لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) من الأصنام إلى عيدهم؛ لأنهم كانوا يخرجون إلى عيدهم من الغد، فقال: (لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ)، أي: لأكيدن لكم في أصنامكم (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) منها إلى عيدكم. وجائز أن يكون قوله: (لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) عني، وكانوا في ذلك الوقت بحضرة الأصنام؛ ألا ترى أنه قال لهم: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)، ومثل هذا الكلام لا يقال إلا بحضرة الأصنام؛ لأنه أشار إلى الأصنام فقال: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)، فقال عند ذلك: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ)، أي: لأكيدن لكم في أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين عني؛ على التأويل الأول، يكون توليهم الأدبار عن الأصنام إلى عيدهم، وعلى التأويل الثاني يكون توليهم الأدبار عن إبراهيم، واللَّه أعلم.

(58)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا ... (58) و (جِذَاذًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: قطعًا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: جذاذا: فتاتا، وكل شيء كسرته فقد جذذته؛ ومنه قيل للسويق: جذيذ، والجد: هو القطع، والمجذوذ: المقطوع، وذلك قوله: (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي: غير مقطوع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ) لم يكسره (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ). يقول: إلى الصنم الأكبر الذي لم يكسره إبراهيم يرجعون من عيدهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لعلهم إلى الحجة يرجعون، وقيل: هو أحج القولين، أي: من الحجة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)، أي: يتذكرون. وجائز أن يكون قوله: (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)، أي: يرجعون إلى ما يريد أن يكيد لهم في أصنامهم؛ لأنه إنما يريد أن يكيد لهم إذا رجعوا إلى الأصنام فرأوها مجذوذة، والكيد: هو الأخذ على الأمن وكذلك المكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) لو تأملوا كانوا هم الظلمة في الحقيقة؛ لأنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام رجاء منفعة تكون لهم حيث قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، فإذا رأوهم لا يقدرون على دفع الكسر والقطع عن أنفسهم ودفع من فعل بهم ذلك، كيف طمعوا منها نفعًا أو دفع الضر عن أنفسهم؛ لأن من عجز عن دفع الضر عن نفسه فهو عن دفعه عن غيره أعجز، فهم الظلمة في الحقيقة؛ حيث طمعوا النفع ودفع الضر ممن لا يملك ذلك لنفسه، لكن قالوا ذلك سفها منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ... (60) بالكيد لهم حين قال: (لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ)، سمع ذلك القول منه ناس، فأخبروا قومهم لما قالوا: (مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا) فعند ذلك قالوا: (سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) بالكيد لهم (يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ). وجائز أن يكون قوله: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ): بالعداوة، وهو حين قال: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ)، أخبر أن أُولَئِكَ الذين عبدوا الأصنام أعداء له، فالمعبود الذي عبدوه يكون عدوا له أيضًا، فاستدلوا بذلك القول منه أنه هو فعل بهم ما

(61)

فعل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالَ بَعْضُهُمْ: على رءوس الناس. وقيل: بحيث ينظر الناس إليه، أو بحيث يراه الناس، وهو واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: يشهدون عقوبته بما فعل بأصنامهم؛ فيكون نكالا له وزجرًا لغيره عن أن يفعل بها مثل ما فعل هو؛ ولذلك قالوا: (حَرِّقُوهُ) نكالا وزجرًا لغيره؛ كقوله: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا)، أي: زجرًا، وكقوله: (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) بفعله الذي فعله بالأصنام، لم يريدوا أن يعاقبوه بلا بينة ولا حجة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لعلهم يشهدون أنه قال لآلهتهم ما قال، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ

(63)

هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ). اختلف في هذا: قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا القول من إبراهيم كذب في الظاهر فيما أراد أن يكيد لهم، وإن لم يكن في الحقيقة عنده كذبًا، وكذلك ما قال: (إِنِّي سَقِيمٌ)، وكان صحيحًا، وقوله: (هَذَا رَبِّي)، ومثل هذا قالوا: هذا في الظاهر كذب، وإن لم يرد هو به في الحقيقة كذبا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه إنما قال ذلك على أن يريهم من نفسه الموافقة لهم في الظاهر؛ ليكونوا للحجج أسمع وللبراهين أقبل، فيكون تأويله - واللَّه أعلم -: لعل كبيرهم فعل بهم هذا. أو أن يقول: أكبر فعل هذا بهم وكذلك قالوا في قوله: (هَذَا رَبِّي). قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس هذا ولا فيه كذب في الظاهر، ولكن قال ذلك على الشرط حيث قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) أي: بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون، علق فعله بشرط النطق، فإذا كانوا لا ينطقون لم يجئ منه. وقوله: (إِنِّي سَقِيمٌ)، أي: سأسقم وكل حي يسقم يومًا، وقوله: (هَذَا رَبِّي)، أي: ليس هذا ربي ومثل هذا قد قالوا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ ... (64) أي: رجعوا إلى أنفسهم باللائمة، فقالوا فيما بينهم: (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) هذا يحتمل وجوهًا: إنكم أنتم الظالمون حيث نسبتم الفعل بهذه الأصنام والكسر إلى إبراهيم وقلتم: إنه فعل ذلك بهم، وإنما فعل بهم هذا كبيرهم؛ لما وقع عندهم أن كبيرهم هو الذي فعل بهم. والثاني: إنكم أنتم الظالمون حيث اتخذتم مع كبيرهم آخرين شركاء في العبادة حتى غضب عليهم فكسرهم. أو أن يكون قوله: (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) يعنون الأصنام المكسورة: يا هَؤُلَاءِ (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)؛ حيث حملتم الكبير على تكسيركم، واللَّه أعلم بما أرادوا بذلك، ولا يجوز لنا أن نزيد أو ننقص في هذه الأنباء المذكورة في الكتاب، أو نقطع على جهة دون جهة؛ لأنها ذكرت ليحتج عليهم بما في كتبهم، فلو زيد أو نقص أو قطع على جهة دون

(65)

جهة يذهب الاحتجاج بها عليهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قوله: (نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) للتفكر والنظر في قول إبراهيم حيث قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، إنما علق فعل الكبير بهم إن نطقوا، فقالوا: لقد علمت يا إبراهيم ما هَؤُلَاءِ ينطقون، فكيف قلت: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ)، فإذا كانوا لا ينطقون لم يفعل كبيرهم، ثم قال: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) فَإِنْ قِيلَ: إن إبراهيم لم يحتج عليهم أن كيف تعبدون من دون اللَّه ما لا ينطق؟ ولكن قال: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ). قيل: قد كان احتج عليهم من ذلك النوع حيث قال: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)، وبعد فإنه قد احتج عليهم بعجزهم عن النطق حيث قال: (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، ثم قال هاهنا: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا) إن عبدتموهم (وَلَا يَضُرُّكُمْ) إن تركتم عبادته. (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) أُفٍّ: هو كلام كل مستخف بآخر ومستحقر له في فعله؛ يقول: (أُفٍّ لَكُمْ)، فإبراهيم حيث قال ذلك لهم إنما قال استخفافًا بهم وبما عبدوه، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ): أن عبادة من لا ينفع ولا يضر لا تصلح ولا تحل. وفي أنباء إبراهيم خصال ليست تلك في غيرها من الأنباء: إحداها: أنه لم يترك صنما كان يعبد دون اللَّه إلا وقد نقض ذلك. والثانية: أنه حاج قومه أولا في فساد مذاهبهم وفساد ما اعتقدوه، ثم بعد ذلك أقام عليهم حججه وبراهينه؛ لأنه قال: (هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)، وقال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، وقال: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)، فلما أراهم فساد مذهبهم، فعند ذلك ذكر حججه وبراهينه حيث قال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)، وقال: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. . .)، وهكذا الواجب على كل متناظر أن يبدأ أولا بإظهار فساد مذهب خصمه، فإذا أراه فساد مذهبه، فحينئذ يذكر حجج مذهبه وبراهين ما يعتقد؛ ليكون لها أسمع وعند إقامتها أقبل. والثالثة: أنه لم يبتل نبي قط بفرعون مثل فرعونه ولا قوم مثل قومه في السفه والبغض والهم بقتله بالنار. وجائز أن يكون خصوصية الخلة لهذه الخصال التي ذكرناها، واللَّه أعلم.

(68)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) هذا ظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) جائز أن يكون قوله: (كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا) أي: جعلها في الخلقة بردًا وسلامًا على إبراهيم خاصة، وأما على غيره فهي على ما هي في طبعها من الإحراق والحر؛ فيكون ذلك من أعظم آيات رسالة إبراهيم ونبوته. أو أن يكون على الوحي والإلهام على ما قاله أهل التأويل: إنه أوحى إليها أن (كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، لكنه إن كان على هذا فجائز أن يجعل في سريتها ما تفهم أمره ويمكن فيها ما تفطن ذلك فلم تحرقه. وقول أهل التأويل: إنها بردت حتى لم ينتفع به أهل المشرق والمغرب ثلاثة أيام، فذلك لا يعلم إلا بالسمع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) الكيد: هو الأخذ من حيث الأمن، فجائز أن يكونوا كادوه أن حبسوه في موضع، ثم جمعوا عليه الحطب من غير أن علم هو ذلك، ثم أوقدوا عليه النار. أو أن يكون أخذوه مغافصةً، فجعلوه في المنجنيق ثم رموه في النار؛ على ما قاله بعض أهل التأويل. أو أن يكونوا كادوه كيدًا آخر سوى ذلك فنحن لا نعلم ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ). لا شك أنهم في الآخرة من الأخسرين، وأما خسرانهم في الدنيا فلا نعلم ذلك الخسران، واللَّه أعلم به. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا): وذلك أنه لما جعل في النار أنجاه الله منها، وجعلها عليه بردًا وسلامًا على إبراهيم، وأمره اللَّه تعالى بالخروج إلى الأرض المقدسة، فخرج إليها فطلبوه وبعث ملكهم إلى أصحاب المناظر فقال: لا يمر بكم إنسان يتكلم بالسريانية إلا حبستموه، قال: فحول اللَّه لسانه بالعبرانية، فمر بهم فعبر عليهم، فانطلق إبراهيم متوجهًا نحو أهله، فذلك قوله: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ)،

(71)

أي: الأسفلين وأعلاهم إبراهيم صلوات اللَّه عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) دل هذا على أن إبراهيم كان كالمشرف على الهلاك؛ لأن لفظة (النجاة) لا تقال إلا فيما كان هنالك إشراف على الهلاك. وفيه أن لوطًا كان معه وإن كان إبراهيم هو الممتحن في ذلك وهم كانوا يقصدون قصد إهلاك الرسل والأتباع جميعًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) قال الحسن: بركته ما ذكر في آية أخرى وهو قوله: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، كثيرة المياه والنبت ونحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بركته: سعته على أهلها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بركته؛ لأنها كانت مكان الأنبياء والرسل صارت مباركة بهم. وجائز أن يكون صارت مباركة بإبراهيم ولوط؛ لما بهم ظهر الإسلام هنالك، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) قَالَ بَعْضُهُمْ: النافلة: العطية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: النافلة: الفضل. وأصل النافلة: الغنيمة؛ كقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) أي: الغنائم. والولد وولد الولد فضل منه وعطية وغنيمة؛ لأنه سمى الولد: هبة بقوله: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)، وسمى الولد: مواهب، وخاصة إبراهيم لم يكن يطمع أن يولد له الولد في ذلك الوقت، فكيف يطمع ولد الولد؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ). يحتمل قوله: (صَالِحِينَ): رسلا، أو صالحين في كل أمر وكل شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ... (73) قادة في أمر الدِّين، (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) يحتمل قوله: (يَهْدُونَ)، أي: يدعون الناس بأمرنا؛ كقوله: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ أي: داع. وجائز أن يكون قوله: (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)، أي: يهدون الناس إلى ما به أمر اللَّه وإلى

(74)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)، دل قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ) أنهم كانوا رسلًا ثم يحتمل قوله: (فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)، وقوله: (وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ) فيه أن الصلاة والزكاة كانتا في شرائع المتقدمين. وقوله: (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) موحدين، أو عابدين له في كل وقت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا (74) قَالَ بَعْضُهُمْ: (حُكْمًا) يعني: النبوة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حُكْمًا) أي: الفهم والعقل، وعلما. وجائز أن يكون قوله: (حُكْمًا) أي: الحكم الذي يحكم بين الناس، (وَعِلْمًا)، أي: العلم الذي كان به يحكم بين الناس. ومن قال: (حُكْمًا) هو النبوة، قال: لأن الأنبياء إنما يحكمون بين الناس بالنبوة فكتوا بالحكم عن النبوة. ومن قال بالفهم فهو لأنه إنما يحكم بين الناس بعد ما فهم من الخصوم، وإلا حاصل الحكم هو الحكم بين الناس، (وَعِلْمًا)، أي: العلم الذي به يحكم، أو علمًا فيما بينه وبين ربه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ). أضاف عمل الخبائث إلى القرية، ومعلوم أن القرية لا تعمل شيئًا، لكن معناه: نجيناه من القرية التي كان أهلها يعملون الخبائث، وكذلك ذكر في حرف حفصة. وقوله: (الْخَبَائِثَ): كل أنواع الخبث من الكفر والتكذيب بالآيات واللواطة وغيرها. وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ). أي: (كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) في أفعالهم وأعمالهم التي كانوا يعملونها (فَاسِقِينَ)، أي: خارجين عن أمر اللَّه تاركين له، والفسق: هو الخروج عن الأمر؛ لأنه برحمته يدخل فيها ويدرك. وقال غيره: (فِي رَحْمَتِنَا ... (75) أي: نعمتنا، ونعمته: النبوة؛ كقوله لعيسى: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)، النبوة. وجائز أن يكون قوله: (فِي رَحْمَتِنَا) أي: أعطيناه كل أنواع الخير برحمتنا؛ إذ كل من أصاب خيرًا في الدنيا والآخرة إنما يدركه برحمته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) من النبيين.

(76)

أو (مِنَ الصَّالِحِينَ)، أي: كان يعمل بكل أنواع الصلاح. * * * قوله تعالى: (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وقوله: (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأنه ذكر هَؤُلَاءِ على أثره، ثم اختلف في ندائه: قَالَ بَعْضُهُمْ: نداؤه هو قوله: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: نداؤه هو قوله: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا). أو أن يكون ذلك قوله: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)، وقوله: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا. . .) الآية، وأمثاله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ). أهله: أتباعه من أهله ومن غيرهم. وقوله: (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) قال عامة أهل التأويل: (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) هو الغرق والهول الشديد الذي كان به. وجائز أن يكون (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ): هو ما قاسى من قومه ولقي منهم بدعائه إياهم إلى دين اللَّه في تسعمائة وخمسين عامًا، وما كانوا يسخرون به ويؤذونه من أنواع الأذى؛ كقوله: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ)، ونحو ذلك من الأذى الذي قاساه منهم، فأنجاه من ذلك الكرب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وفي حرف أبي بن كعب: ونصرناه على القوم الذين كذبوا بآياتنا، والنصر: هو اسم لأمرين: اسم للمنع، واسم للظفر، فمن قرأه: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، أي: منعناه من أن يقتله قومه ويهلكوه، والنصر: المنع؛ كقوله: (فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ)، أي: لا مانع لهم. ومن قرأه: (على القوم الذين كذبوا بآياتنا) أي: أظفرناه على قومه؛ كقوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وقد كان له الأمران جميعًا: المنع، والظفر.

(78)

وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) ما ذكرنا من أفعالهم وأعمالهم. وقوله: (فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) حتى لم ينج منهم أحد. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الكرب: واحد، وجمعه كروب، وهو الهموم والشدائد، والكربة واحدة، والكُرَب جمع، وهو مثل الكروب، قال: والأكراب تكون للدلاء، وهي جماعة الكرب، وهو حبل يشد في عراقي الدلو، وعراقي الدلو: خشبات الدلو، الواحدة: عرقوة، قال: والكراب: الحراث. * * * قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ. . .) الآية. قال بعض الناس: دل تخصيص سليمان بالتفهيم على أنه لم يفهم داود ذلك، ويدل على ذلك وجوه: أحدها: إشراكه - عَزَّ وَجَلَّ - إياهما جميعًا في الحكم والعلم وغيره؛ حيث قال: (إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ)، وقال: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)، ذكر ما كانا مشتركين فيه، وخص سليمان بالتفهيم؛ فدل التخصيص بالشيء أحدهما والإشراك في الآخر على أنه كان مخصوصًا به دون الآخر. والثاني: أن هذه الأنباء إنما ذكرت لنا لنستفيد بها علمًا لم يكن، فلو لم يكن سليمان مخصوصًا بالفهم دون داود، لكان لا يفيدنا سوى الحكم والعلم، وكنا نعلم أنهما قد أوتيا حكما وعلما، وكانا يحكمان بالعلم، فإذا كان كذلك، فدل التخصيص بالتفهيم لأحدهما على أن الآخر لم يكن مفهما ذلك، واللَّه أعلم. والثالث: فيه دلالة: أن المجتهد إذا حكم وأصاب الحكم أنه إنما أصاب بتفهيم الله إياه وبتوفيقه؛ حيث أخبر أنه قد آتاهما جميعًا العلم، ثم خص سليمان بالتفهيم، والتفهيم هو فعل اللَّه؛ حيث أضاف ذلك إلى نفسه. ثم إن كان ما ذكرنا كان في ذلك دلالة لأصحابنا، فيمن قتل مسلما في دار الحرب أسلم هنالك: أن عليه الكفارة، وليست عليه الدية؛ حيث قال: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً

(79)

فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)، ذكر في الأولين الدية والكفارة جميعًا، ثم خص الثالثة بذكر الكفارة دون الدية؛ فدل التخصيص له بأحدهما على أن ليس عليه الآخر؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لكان يذكر في الأول الدية والكفارة، ولا يذكر في الآخرين، فيكون ما ذكر في الأول غير مذكور في الآخرين، أو لا يذكر ذلك كله في الكل، فإذا لم يفعل هكذا، ولكنه ذكر كل الواجب في الاثنين على الإبلاغ، وترك في الواحد أحدهما وذكر الآخر؛ فدل تخصيص الثالث بأحد الحكمين على أن ليس عليه الآخر. ثم استدلوا بهذه الآية على جواز العمل والقضاء باجتهاد الرأي، فمنهم من استدل بإصابة المجتهد فيما يجتهد، وإن لم يصب هو الحكم الذي هو حكم عند اللَّه فيه حقيقة، وهو قول من يقول: كل مجتهد مصيب فيما عليه من الاجتهاد في تلك الحادثة، وهو قول أبي يوسف ومُحَمَّد رحمهما اللَّه. ومنهم من يستدل به بخطأ أحد المجتهدين وعذره في خطئه، فيذهب إلى أن المقصود مما كلف من الحكم في ذلك واحد لا حكمين مختلفين، فإذا كان المقصود مما كلف من الحكم فيه واحد؛ فلا يجوز أن يحكم اثنان في شيء واحد بحكمين مختلفين والمقصود فيه واحد، فيكونان جميعًا مصيبين، خص أحدهما بالتفهيم بقوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ (79) فلو كانا جميعًا مصيبين كانا جميعًا مفهمين، فإذا أخبر أنه فهم سليمان ولم يفهم الآخر، دل أن المصيب هو المفهم منهما، وهو قول أبي حنيفة وبشر وغيرهما. ومن استدل بإصابته يستدل بقوله: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) أخبر أنه آتاهما حكما وعلما؛ فدل ذلك على أنه لم يكق عليهما غير ما فعلا وحكما فيه، وإن لم يصيبا الحكم الذي هو حكم حقيقة عند اللَّه. ثم ذكر في الآية: أنهما يحكمان في الحرث، ولم يذكر أنهما حكما بالضمان والبراءة عن الضمان وأى شيء كان حكمهما؛ فدل ترك بيان ما حكما فيه على أن ليس علينا ذلك الحكم؛ إذ بين لنا ما علينا العمل فيه وهو العمل بالاجتهاد؛ حيث قال: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)، ولم يبين لنا الحكم الذي حكما فيه، فدل بيان أحدهما وترك بيان الآخر على أن ليس علينا الذي ترك ذكره وبيانه، إلا أن أهل التأويل حملوا حكمهما على الضمان والبراءة، وعلى ذلك روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: روي: أن ناقة لرجل هاربة دخلت حائط رجل فأفسدت ما فيه، فكلم رسول اللَّه فيها، فقضى أن حفظ الحوائط

بالنهار على أهلها، وأن حفظ المواشي بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ما شيتهم بالليل. وروي أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَا أَصَابَتِ الماشيةُ بالليلِ فعَلَى أهلِهَا، ومَا أصَابَتْ بالنهارِ فليسَ على أهلِهَا منه شَيء "، لكن الخبر إنما جاء في المدينة، وفي المدينة إنما

ترعى الماشية في السكك؛ إذ ليس لها مراعٍ، ونحن نقول: إن من أرسل ماشية في مكان لا مرعى لها إلا كرم إنسان أو حائط فأفسدته، فالواجب عليه الضمان: ضمان ما أفسدت، وهو كمن يرسل الماء في ملكه في مكان لا يقر فيه، فتعدى إلى ملك جاره فأفسده - فعليه ضمان ما أفسده منه. ومن الناس من يجعل الخبر منسوخًا بما جاء: (جرح العجماء جبار)، لكن الوجه فيه ما ذكرنا، وإنَّمَا يكون جرحها جبارا إذا تعدت هي من غير إرسال صاحبها، فأما إذا كان بصنع صاحبها فعليه الضمان، واللَّه أعلم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (نَفَشَتْ) أي: رعت ليلا، يقال: نفشت الغنم بالليل، وهي إبل نفش وأنفاش واحدها: نافش، وسرحت وسربت بالنهار. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ)، يقال: أنفشنا الغنم: إذا أثرناها في الليل فرعت، وهو النفش ونفشت، أي: انتشرت بغير علم أهلها، ونفشت تنفش نفشًا فهي نافشة. قال أبو عبيدة: النفش بالليل: أن تدخل في زرع فتأكله، أو رعت فتأكل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ). ذكر التسبيح هنا في الجبال ولم يذكر في الطير، ولكن ذكر في آية أخرى حيث قال: (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ): أي: يسبح له. ثم يحتمل أن يكون تسبيح الجبال هاهنا والطير تسبيح خلقة، لكنه لو كان تسبيح خلقة لكان تسبيحها مع داود وغيره سواء، وقد ذكر يسبحن مع داود؛ ليعلم أن اللَّه جعل لهذه الأشياء تسبيحًا يسبحن اللَّه ويذكرونه، كذلك ما روي في الأخبار أن الطعام يسبح في كف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وروي أنه أخذ حجرًا فسبح في يده، وأنه أخذ كذا فسلم عليه، وأمثال هذا كثير، وذلك كله آية لرسل اللَّه على رسالتهم.

(80)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُنَّا فَاعِلِينَ). أي: كنا فاعلين ما نريد: إن أردنا أن يسبحن، يسبحن، وإن أردنا ألا يسبحن، لا يسبحن، أي: كنا فاعلين جميع ما نريد، ليس كالخلائق؛ لأنهم يريدون أشياء لا تلتئم لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ... (80) وقال في آية أخرى: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ. . .) الآية. ثم يحتمل قوله: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) أي: علمناه السبب الذي به يلين الحديد فيصنع به ما شاء، كما علم غيره من الخلق السبب الذي يلين به الحديد. ويحتمل أن جعل له الحديد لينًا بلا سبب؛ تسخيرًا له كما سخر له غيره من الأشياء الشديدة الصلبة، كما أعطى ولده عين القطر حيث قال: (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) وذلك لم يكن لأحد سواه. وكذلك الحديدَ ألان لوالده حتى يعمل به ما شاء ما لم يكن ذلك في حديد سواه، (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) قيل: دروع الحديد (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي: تقيكم من بأسكم، أي: من عدوكم ومن أمر حربكم، وفيه قرأت: (لِتُحْصِنَكُمْ) بالتاء: و (ليحصنكم) بالياء: و (لنحصنكم) بالنون. قال الكسائي: من قرأ بالتاء: (لِتُحْصِنَكُمْ) أي: الصنعة تحصنكم من بأسكم، ومن قرأ بالياء: (ليحصنكم) أي: اللبوس يحصنكم من بأسكم، ومن قرأ بالنون: (لنحصنكم) فإنه يقول: نحصنكم بهن من بأسكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) ما أعطاكم من النعمة التي ذكر من تسخير الجبال له والطير والحديد والرياح وغيره، فهل أنتم شاكرون ذلك، أي: اشكروا له في نعمه؛ لأن الاستفهام من اللَّه على الإيجاب والإلزام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ... (81) ذكر هاهنا " عاصفة "، وقال في آية أخرى: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ) أي: لينة، فهو يحتمل وجوهًا: قَالَ بَعْضُهُمْ: كأنها تشتد إذا أراد سليمان وتلين إذا أراد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانت تشتد وقت حمل السرير وتلين وقت سيره. ويحتمل أن تكون عاصفة شديدة في الخلقة، لكنها كانت تلين له وترخو؛ فكأنه يقول: سخرنا لسليمان الريح العاصفة الشديدة حتى كانت تلين له. وقوله: (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) لا تقصد غيرها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ. وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ

(82)

وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ ... (82) ذكر نعمه التي كانت عليهم حيث أخبر أنه سخر لهما أشد الأشياء وأصلبها من نحو الجبال والرياح والبحار والحديد والشياطين أيضًا - وهم أعداء لبني آدم سخر لهم الأعداء: الشياطين، والرياح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) يحتمل وجوهًا: أحدها: وكنا لهم حافظين، حتى لا يضلوا الناس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وكنا لهم حافظين على سليمان؛ لئلا يتفرقوا عنه؛ لأن سليمان كان لا يملك إمساكهم واستعمالهم، لكن اللَّه سخرهم له حتى عملوا له وذَلُّوا له وخضعوا. والثالث: وكنا لهم حافظين عن الخلاف له. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ)، وقال في آية أخرى: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ)، ذكر في سليمان أنه سلطه على الشيطان، وجعلهم مسخرين له يستعملهم في كل أمر وعمل شاء، وذكر في أيوب على أثر قصة سليمان أنه سلط الشياطين عليه وصار كالمسخر لهم؛ حيث قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) حتى يعلم أن تسخير الشياطين لسليمان كان له إفضالاً وإنعامًا، لم يكن سبق منه ما يستوجب به ذلك ويستحقه، ولا كان من أيوب إليه من العصيان ما يستحق ذلك، وما أصابه من البلاء منه عدل، وكان ما يعطي من السلامة والصحة رحمة منه ونعمة، وله أن يعطي من شاء ما شاء، ويحرم من شاء ما شاء، ألا ترى أنه قال في آخره لما رد عليه ما أخذ وكشف عنه البلاء: (ورَحْمَةً مِنَّا)، ولو كان ذلك حقا له على اللَّه لم يكن لذكر الرحمة معنى، فهذا يرد على المعتزلة مذهبهم: أن على اللَّه الأصلح لهم في دينهم؛ لأن ما أصاب أيوب من البلايا أضاف ذلك إلى الشياطين حيث قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ)، ولو كان ذلك أصلح له في دينه لكان لا يضيف فعل الأصلح له في الدِّين إلى الشياطين؛ فدل على أنه ليس على ما يذهبون إليه. ثم قوله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) شبيه أن يكون فيه إضمار دعاء؛ كأنه قال: أني مسني الضر فارحمني وعافني وأنت أرحم الراحمين؛ ألا ترى أنه قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) دل أنه على الدعاء خرج. والثاني في قوله: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) وصرت بحال يرحمني من رآني من الخلق وأنت

(84)

أرحم بي من كل الراحمين. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ... (84) هو ظاهر أنه كشف عنه ما أصابه من البلاء في بدنه وأهله حتى عاد إلى الحال التي كان قبل ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أوتي أهله في الدنيا ومثل أجورهم في الآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ) فأحياهم اللَّه (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ)، وكانت امرأة أيوب ولدت قبل البلاء أولادًا بنين وبنات، فأحياهم اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ) أي: ما يتأهل به من الأهل والأنصار على ما كان له من قبل. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) يحتمل وجوهًا: أحدها: أن من ابتلي ببلاء، فصبر على ما صبر أيوب على بلائه، ففرجه اللَّه عن ذلك البلاء - فيفرجه عنه كما فرج لأيوب. والثاني: يعلم أن ما أصابه ليس لأمر يسبق منه، ولكن ابتلاء محنة من اللَّه امتحنه بها، وله أن يمتحن من شاء بما شاء من المحن. * * * قوله تعالى: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) يشبه أن يكون " ذا الكفل " اسمًا من أسمائه، وجائز أنه سمي ذا الكفل؛ لأمر كان منه: ذكر أنه كان رجلًا صالحًا، فكفل لنبي بأمر قومه، فوفى ما تكفل به؛ فسمي لذلك ذا الكفل. ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو رجل صالح على ما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان نبيا، لسنا نعلم ذلك سوى أنه ذكر أنه من الصابرين، سماهم صابرين على الإطلاق، وكذلك سماهم صالحين على الإطلاق، وذلك - واللَّه أعلم - لأنهم جمعوا جميع أنواع الصبر وجميع أنواع الصلاح. واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) قال الحسن: أدخلناهم في رحمتنا وهي الجنة، وجائز أن يكون جميع ما نالوا من الصبر والصلاح كان ذلك كله رحمةَ اللهِ وفضله، وهكذا أن من نال شيئًا من الخيرات والطاعات فإنما ينال ذلك كله برحمته. واللَّه أعلم. * * * (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ

(87)

أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَا النُّونِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: " ذا النون " هو اسم من أسمائه سُمِّيَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سماه ذا النون؛ لكونه في بطن النون وهو الحوت، أي: صاحب النون، سمي باسمين مختلفين: أحدهما: اسم موضوع، والآخر: مشتق من فعله وما كان، وهو ما سمى عيسى مرة، وسماه مسيحًا أخرى، أحدهما: اسم موضوع، والآخر: مشتق من فعله، وهو مما كان يمسح به المرضى والموتى فيبرءون. وكذلك " ذا الكفل " يخرج على هذين الاسمين: أحدهما موضوع له، والآخر: مشتق من فعله على ما ذكرنا. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (مُغَاضِبًا) لربه، أي: حزينًا له؛ لأنه كان أراد أن يهلك اللَّه قومه لما أيس من إيمان قومه، وقد كثر عنادهم ومكابرتهم، فخرج حزينًا لذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مغاضبًا للملك، وذلك أو قومه قد أسرهم عدوهم، وقد كان اللَّه أوحى إليهم فقال: إذا أسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني، فإذا دعوتموني أستجب لكم، فلما أسروا نسوا أن يدعوه زمانًا حتى إذا ذهبت أيام عقوبتهم ونزلت أيام عافيتهم أوحى اللَّه تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن ابعثوا رجلا قويا أمينا فإني ملقٍ في قلوب الذين أسروا قومهم أن يرسلوهم، وفي القصة طول، غير أنَّا نختصر، فبعث ملكهم يونس إلى أُولَئِكَ الأسارى ليستنقذهم من أيديهم، فخرج وائتمر بأمره، لكنه غضب عليه لما اشتد عليه، فذلك قوله: (ذهَبَ مُغاضبًا) للملك، حيث أمره بالخروج إلى أُولَئِكَ الأسرى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَهَبَ مُغَاضِبًا) لقومه، وذلك يخرج على وجوه: أحدها: خرج من عندهم لما أيس من إيمان قومه خرج مكيدة لقومه؛ لأن السنة فيهم أنه إذا خرج رسوله من بين أظهرهم نزل بهم العذاب، فخرج من عندهم ليخافوا العذاب فيؤمنوا. والثاني: خرج إشفاقًا على نفسه؛ لئلا يقتل؛ لما أن قومه هموا بقتله، فخرج لئلا يقتل

(88)

إشفاقا على نفسه، كما خرج رسول اللَّه من بين أظهر قومه لما هموا بقتله، لكن رسول اللَّه خرج بإذن، ويونس بغير إذن. والثالث: خرج من عندهم لما أكثروا العناد والمكابرة وأيس من إيمانهم خرج ليفرغ لعبادته؛ إذ كان مأمورًا بعبادة ربه ودعاء قومه إلى ذلك، فلما أيس من إيمانهم خرج كما ذكرنا بغير إذن من ربه، وإن كان في خروجه منفعة له ولقومه، فعوتب لذلك، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي: لن نضيق عليه، ولا نبتليه بالضيق الشديد لما خرج من عندهم، فيقال: فلان مقدر عليه، ومقتر، ومضيق عليه الأمر، وهو كقوله: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) أي: يضيق، وقوله: (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أي: ضيق عليه رزقه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) قالوا: في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: التقم الحوت حوت آخر، فكان في بطن حوت، وحوت آخر، وظلمة البحر، فقال: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وحد ربه ونزهه عن جميع ما قيل فيه، ثم اعترف بذلته وذنبه فقال: (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فسمع اللَّه دعاءه، وقبل توبته، وأخبر أنه كشف عنه الغم الذي كان له حيث قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ (88) وأخبر أنه كذلك ينجي المؤمنين، فيرجى أن من ابتلاه اللَّه بالبلاء والشدة فدعا بما دعا به يونوإن يفرجه اللَّه عنه، حيث قال: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)؛ وعلى ذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَنْ دَعَا بدَعْوةِ ذِي النونِ اسْتُجِيبَ له ". ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: الْتَقَنَ ذلك من الأرض لما بلغ إلى قرار الأرض فقال ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان رجلا صالحا عابدا وكان عود نفسه ذلك قبل أن يدخل بطن الحوت، فلما دخل فيه فكان يقول فيه على ما كان يقول من قبل، وهو كقوله: (فَلَوْلَا أَنَّهُ

(89)

كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ. . .) الآية. قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا أنه كان من المسبحين قبل هذا وإلا للبث فيه إلى ما ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لولا أنه كان قال هذا القول: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، للبث فيه، فيكون على هذا التأويل: (كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)، أي: صار من المسبحين، والأول أشبه، ثم اختلف في قوله: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ): قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك الغم هو ما ابتلاه اللَّه بالضيق في بطن الحوت والبحر، فنجاه من ذلك الغم، ولكن جائز أن يكون نجاه من الغم الذي كان به سبب خروجه من بين أظهرهم. وقول أهل التأويل: إن يونس مكث في بطن الحوت أربعين يومًا، أو ثلاثة أيام، ونحو هذا فذلك لا يعلم إلا بالوحي، فإن ثبت الوحي فهو هو، وإلا ليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَذَا النُّونِ) يعني: ذا الحوت، والنون: الحوت. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: إنما سمي: ذا النون؛ لأن الحوت التقمه، والنون: الحوت، والنينان: الجمع. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ): لن نضيق عليه، قال: فلان مقدر عليه ومقتر، ومنه: (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ)، أي: ضيق عليه، ومنه قوله أيضًا: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)، أي: ضيق، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا) قوله: (لَا تَذَرْنِي فَرْدًا) في الظاهر نهي، وكذلك قوله: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا): وأمثاله، يخرج في الظاهر مخرج النهي، وقوله: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ) ونحوه يخرج مخرج الأمر أوالأمر، والنهي إذا كان من العبد للسيد فهو تعوذ ودعاء، وإذا كان من السيد للعبد فهو أمر ونهي، ليس بتعوذ ولا دعاء، ولكن حقيقة الأمر والنهي، وكذلك سؤال الأمير لرعيته أمر ونهي، وسؤال الرعيّة للأمير تضرّع وتعوذ ودعاء.

(90)

ثم قوله: (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا) في الطاعة والعبادة والذكر والتسبيح والتحميد ما دمت حيًّا، ولكن أشرك لي في العبادة والذكر من يعينني على ذلك، وهو كقول موسى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)، وقوله: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)، إذا مت. أو أن يكون قوله: (لَا تَذَرْنِي فَرْدًا) بعد مماتي في قبري، ولكن هب لي من يذكرني ويدعو لي بعد وفاتي ويحيي أمري. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) أي: وأنت خير من يرث العبادة، على هذا التأويل، وعلى التأويل الأول: وأنت خير من يعين على العبادة والطاعة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ... (90) أي: دعاءه (وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى) قال الحسن: إن كان يَحْيَى على ما سماه اللَّه في الطاعة والعبادة، وفي الآخرة يحيى في الكرامات والثواب الجزيل، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) يخرج على وجهين: أحدهما: أن جعلناها بحيث يرغب فيها زوجها ذات هيئة ومنظر؛ لأنه ذكر في القصة أنها بلغت في السن مائة غير شيء، والعرف في النساء أنهن إذا بلغن المبلغ الذي ذكر أنها بلغت زوجة زكريا يكن من القواعد اللاتي لا يرغب فيهن أحد، فأخبر أنه أصلحها وصيرها بحيث يرغب فيها، ذات هيئة ومنظر. والثاني: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) أي: ولودًا بحيث تلد؛ لأنه لما بشر بيحيى قال: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا)، والعاقر: التي لا تلد، فيكون قوله: (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) ولودًا بحيث نلد، واللَّه أعلم. هذان الوجهان محتملان. وأمَّا قول من يقول بأن في لسانها بذاء وطولًا، وفي خلقها سوءا فذلك لا يحل أن يقال إلا بثبت، وهو على خلاف ما ذكرهم ووصفهم، حيث قال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) ثم المسارعة في الخيرات أنه كان لا يمنعهم شيء عن الخيرات، وهكذا المؤمن هو يرغب في الخيرات كلها، إلا أن يمنعه شيء من شّهوة أو سهو. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) أي: يدعوننا رغبا فيما عندنا من جزيل الثواب، ورهبا من أليم عقابنا.

(91)

والثاني: رغبًا فيما عندنا من اللطائف من التوفيق على الخيرات والعصمة عن المعاصي، ورهبًا مما عندنا من النقمات والخذلان والزيغ. وقوله: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الخشوع: هو الخوف الدائم الملازم للقلب لا يفارقه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: متواضعين ذليلين لأمر اللَّه، تفسير الخشوع ما ذكر بقوله: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا). * * * قوله تعالى: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) وقوله: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) أي: عفت فرجها. وقوله: (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) قال أهل التأويل: إن جبريل أتاها فنفخ في جيبها أو في فرجها، وهذا ليس في الآية؛ فلا يجوز القول به إلا بثبت، ولكن قوله: (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) كقوله في آدم: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)، أي: أنشأت فيه من روحي؛ إذ لم يقل أحد فيه بالنفخ، أي: جبريل نفخ فيه، فعلى ذلك قوله: (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) أي: أنشأنا فيها من روحنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) ذكر فيها آية واحدة؛ لأنها ولدت بغير زوج، وولد بلا أب، فهو واحد إذا كانت هي ولدته بغير زوج، فيكون بغير أب فهو آية واحدة، والآية فيها ما ذكر: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) وآية عيسى حين تكلم في المهد فقال: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ. . .) الآية. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَحْصَنَتْ): أي: عفَّت، ويقال: امرأة حصان، أي: عفيفة، ومحصنة، أي: قد أحصنها زوجها، ومحصنة: أي عفيفة، وامرأة حصان، ونسوة حاصنات وحواصن، قال: والحصان ذكر الخيل، وحصن: جمع. * * * قوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ

(92)

يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) وقوله: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن هذه ملتكم وشريعتكم ومذاهبكم ملة واحدة وشريعة واحدة، يعني: شريعة الإسلام، وملة واحدة ليست بمفترقة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن هذا دينكم دين واحد، ليس كدين الأمم الخالية أديانًا مختلفة. أو أن يكون الأمة ما يؤم إليها ويقصد؛ لأن الأمة هي الجماعة، وهي المقصودة. وجائز أن يكون إخبارًا عن هذه الأمة على دين واحد وملة واحدة، ليسوا بمختلفين ولا بمفترقين، كسائر الأمم الخالية، كقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا. . .) الآية. وقوله (وَلَا تَفَرَّقُوا) الآية، أخبر عنهم أنهم غير متفرقين، ونهاهم عن أن يتفرقوا كما تفرق الأولون؛ ألا ترى أنه قال على إثره: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) هذا يدل على أنه إخبار عن أهل الإسلام في صدر الأمر أنهم على شيء واحد. وقال الزجاج: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) وما لزموا الحق واتبعوه، وأما إذا تركوا لزومه وتركوا اتباعه فهي ليست بأمة واحدة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) وقال في آية أخرى: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ليعلم أن العبادة والتقوى واحد في الحقيقة؛ لأن الاتقاء هو ما يجتنب من الأفعال والعبادة ما يؤتى من الأفعال والعبادة، فإذا اجتنب ما يجب اجتنابه فقد أتى بما يجب إتيانه، وإذا أتى بما يجب إتيانه فقد اجتنب ما يجب اجتنابه، وهو كقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، لأنه بفعله إياها مجتنب عن الفحشاء والمنكر. وجائز أن يكون قوله: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي: توحدون، على ما قال أهل التأويل؛ لأنه إنما خاطب به أهل مكة. وقوله: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ... (93) أخبر عن الأولين أنهم اختلفوا في دينهم وتفرقوا

(94)

(كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) من تفرق ومن لم يتفرق، كقوله: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ). وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) فيه دلالة ألا يقبل من الأعمال الصالحات إلا بالإيمان؛ لأنه شرط في قبولها الإيمان، كقوله: (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) أي: لشكر سعيه، ويقبل ولا يجحد ولا يكفر، كقوله: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ)، بالياء والتاء (فلن تكفروه)، وأصل الكفران: الستر، والشكر: هو الإظهار؛ يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه لا يستر ما عملوا من الحسنات والخيرات، بل يشكر ويظهر. وقوله: (وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) أي: يكتب لهم تلك الحسنات والخيرات، كقوله: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ). وقوله: (وَحِرْمٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) (وَحَرَامٌ) بالألف أيضًا، ثم قوله: (وَحِرْمٌ)، (وَحَرَامٌ) - على قول أهل اللسان واللغة - واحد، يقال: حِرْمٌ عليك كذا، وحرام، كما يقال: حِل وحَلَالٌ. وأما على قول أهل التأويل فإنهم يفرقون بينهما، فيقولون: حرم: حتم وواجب (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) أي: حتم وواجب على قرية إهلاكهم بعد ما علم (أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) أي: لا يتوبون؛ لأنه إنما يهلكهم لما علم منهم أنهم لا يتوبون. أو أن يكون قوله: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ) أراد اللَّه إهلاكها (أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ). وظاهر قوله: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) أن يكون لهم الرجوع؛ لأنه يقول: (وَحِرْمٌ. . . أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)، ألا ترى إلى قوله: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) وظاهره أنهم لا يرجعون، حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق، فعند ذلك يرجعون لقوله: (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا). أو أن يكون ذكر هذا: (أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) ولقول قوم؛ لأن قوما يقولون: إن الخلق كالنبات ينبت، ثم ييبس، ثم ينبت، فعلى ذلك الخلق يموتون، ثم يعودون ويرجعون. وبعض من الروافض يقولون: يرجع علي وفلان، فأخبر أنهم لا يرجعون ردَّا عليهم وتكذيبًا لخبرهم؛ لأن القرآن قد صار حجة عليهم وإن أنكروه لما عجزوا عن أن يأتوا بمثله، واللَّه أعلم بذلك كله. وقوله: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ (96) كأنه - واللَّه أعلم - أضاف فتح ذلك السد

(97)

إلى أنفسهم وهم جماعة، وإلا لست أعرف لتأنيث فتح السد وجها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) قيل: الحدب: الشيء المشرف. وقيل: الحدب: كل ما ارتفع من الأرض. وقيل: الحدب: الأكمة. وقيل: (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ): من كل جهة ومن كل مكان. (يَنْسِلُونَ) قيل: يسر عون. وقيل: يخرجون. أخبر أنهم من كل، حدب، أي: من كل ناحية، ومن كل جهة يسرعون، كأنهم لما سد عليهم ذلك السد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، أي: بين ما يتعيشون ويرتزقون من هذا العالم - تفرقوا في تلك الأمكنة لطلب ما يتعيشون به، فإذا بلغهم خبر فتح السد أتوا من كل جهة وناحية التي كانوا متفرقين فيها (يَنْسِلُونَ) يسرعون؛ لأنهم مذ سد عليهم السد في جهد من فتح ذلك السد، فلما فتح خرجوا مسرعين، وهو ما ذكر: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ (97) قوله: (اقْتَرَبَ) أي: وقع ووجب الوعد الحق؛ لأنه قد أخبر من قبل هذا الوقت أنه قد اقترب بقوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)، و (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ)، وهو كقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ليس على القرب، ولكن على الوجوب، فعلى ذلك الأول يحتمل أن يكون إخبارًا عن الوقوع والوجوب. وجائز أن يكون على القرب أيضًا، ويكون وجوبها ووقوعها في قوله: (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) كقوله: (إِنمَا يُؤَخرُهُمْ لِيَوم تشخَصُ فِيهِ الأبصار. . .) الآية، وكقوله: (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ. . .) الآية. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا وَيْلَنَا) أي: يقولون: يَا وَيْلَنَا (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) كأنهم تذاكروا فيما بينهم: إنما كنا في غفلة من هذا، ثم تداركوا أنهم لم يكونوا في غفلة، ولكن قالوا: (بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) في ذلك، ضالين؛ اعترفوا بالظلم والضلال. وقوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) يقال: إن حرف (مَن) يتكلم عن البشر وحرف (مَا) يتكلم عما سواهم من العالم، فإذا كان على هذا الذي

(99)

ذكروا، فما ينبغي لأُولَئِكَ أن يفهموا من قوله: (وَمَا تَعْبُدُونَ): عيسى وعزير والملائكة وهَؤُلَاءِ، ويقولون: هَؤُلَاءِ عبدوا دون اللَّه فهم حصب جهنم على زعمكم، إلى هذا يذهب أهل التأويل، ويقولون: ثم نزل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) قالوا: استثنى من علمه ممن عبد دون اللَّه من سبقت له منه الحسنى، وهو عزير وعيسى وهَؤُلَاءِ، لكن قد ذكرنا أنه لا يجوز أن يفهم من هذا هَؤُلَاءِ، ولكن الأصنام والأحجار التي عبدوها، كقوله: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، التي عبدوها. أو أن يكون قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الشياطين الذين أمروهم ودعوهم إلى عبادة غير اللَّه، فتكون العبادة لمن دون اللَّه للشيطان حقيقة؛ لأنه هو الآمر لهم بذلك، والداعي إلى ذلك دون من ذكروا؛ لأن هَؤُلَاءِ - أعني: عيسى وعزيرًا والملائكة - لم يأمروهم بذلك؛ فيكون على هذا كأنه قال: إنكم والشياطين الذين تعبدون من دون اللَّه حصب جهنم، وهو ما ذكر في آية أخرى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ. . .) إلى قوله: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) دل هذا أن القرين هو الشيطان، كقوله: (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) وقوله: (حَصَبُ جَهَنَّمَ) بالصاد، وقرئ بالطاء: (حطب جهنم) قال ابن عَبَّاسٍ: الحصب بلسان الزنجية: هو الحطب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو حطب بلسان الحبشة، ويقال -أيضًا- بالضاد: (حضب جهنم) قَالَ بَعْضُهُمْ: الحصب: هو الرمي، يحصب جهنم بهم، أي: يرمي بهم، والحطب: هو معروف، والحضب: هو التهيج، أي: يهيج النار عليهم. وقال الكسائي: حصبت النار، أي: ألقيت فيها الحطب، وعن عائشة: (حضب جهنم) بالضاد. وقوله: (أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) أي: واقعون فيها. وقوله: (لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) أي: لو كان الذين عبدوا دون اللَّه آلهة على ما زعموا ما وردوا النار. فَإِنْ قِيلَ: إنهم لم يقروا أنها ترد النار. قيل: لما عجزوا عن إتيان مثله فقد لزمتهم الحجة، فكأنهم أقروا أنهم واردوها،

(100)

وهو كقوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ. . .) الآية؛ هم لم يقروا أنهم يحيون بعدما ماتوا، ولكن لما عرفوا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم، فقد لزمهم الإقرار والحجة بالإحياء بعد الموت؛ فعلى ذلك الأول كأنهم أقروا بأنهم واردون بما لزمتهم الحجة. وقوله: (وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) ظاهر. وقوله: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) قيل: الزفير: هو الصوت الخفيض الذي فيه أنين، والشهيق: هو الصوت الرفيع الذي فيه أنين. وقيل: الشهيق: أول نهيق الحمار، والزفير: هو آخر نهيقه. وقوله: (وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ) قيل: لا يسمعون الخير، ويسمعون غيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسمعون؛ لأنهم يكونون صمًّا بكمًا عميًا، وهو كقوله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا). وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ): حرام عليهم أن يرجعوا، ويقال: واجب، وقال: هو حِرْمٌ وحَرَامٌ: واحدٌ، كما يقال: حِل وحلال. وقال: (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ): ومن كل نشز من الأرض وأكمة (يَنْسِلُونَ) من النسلان، وهو مقاربة الخطو مع الإسراع كمشي الذئب إذا بادر. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحدب: ما ارتفع من الأرض، الواحد: حدبة (يَنْسِلُونَ) أي: يجيئون. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى). قال عامة أهل التأويل: إنه لما نزل قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

(102)

حَصَبُ جَهَنَّمَ) قالت الكفرة: إن عيسى وعزيرًا والملائكة قد عبدوا من دون اللَّه فهم حصب جهنم، فنزل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) استثنى من سبق له الحسنى منه، وهو عيسى وهَؤُلَاءِ، وكذلك في حرف ابن مسعود: (إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى) على الاستثناء. عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى. . .) الآية: ذاك عثمان وطلحة والزبير، وأنا من شيعة عثمان وطلحة والزبير، ثم قال: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ. . .) الآية. ولكن قد ذكرنا الوجه فيه، فإن ثبت أنه نزل بشأن هَؤُلَاءِ وإلا فهو لكل من سبق له من اللَّه الحسنى. ثم (الْحُسْنَى) يحتمل الجنة، كقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى). أي: بالجنة، فعلى ذلك قوله: (سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى)، ويحتمل (الْحُسْنَى): السعادة والبشارة بالجنة وثوابها. وقوله: (أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) أي: لا يعودون إليها أبدًا، ليس على بعد المكان كقوله: (أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) أي: لا يعودون إلى الهدى أبدًا. أو أن يكون قوله: (مُبْعَدُونَ) وعنها مكانًا، لكن قد ذكر في آية: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34). عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ)، وقال في آية: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)، ولا نعلم هذا أنه يجعل في قوى أهل الجنة أنهم متى ما أرادوا أن ينظروا إلى أُولَئِكَ ويروهم يقدرون على ذلك؛ أو تقرب النّار إليهم فينظرون إليهم، واللَّه أعلم، والأول أشبه أنهم لا يعودون إليها أبدًا. وقوله: (لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ... (102) أي: صوتها، وهو ما ذكر من الإبعاد، وإذا بعدوا منها لم يسمعوا حسيسها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ) وهو ما قال في آية أخرى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) أي: لا يحزنهم أهوال يوم القيامة وأفزاعها (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ) أي: تتلقاهم الملائكة بالبشارة، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا. . .) الآية.

(104)

أو (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ)، أي: لا يحزنهم ما يحل بالكفرة من الفزع والعذاب، كمن رأى في الدنيا إنسانًا في بلاء وشدة، أو يعذب بعذاب، فإنه يحزن ويهتم بما حل به، فأخبر أنهم لا يحزنون بما حل بالكفرة من العذاب والشدائد. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (حَصَبُ جَهَنَّمَ)، قال: الحصب والحطب واحد، قال: وما أكثر من العرب من يتكلم بهذه اللفظة، قال: ولا أعرف (حضب جهنم) بالضاد. وقال غيره ما ذكرنا من إلقاء الحطب فيه والتهييج. وقوله: (أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) أي: داخلون. وقوله: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ) الزفير: هو شدة النفس في الصدر، يقال: زفر يزفر زفيرًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الزفير: هو أنين كل محزون ومكروب، وهو قريب مما ذكرنا. وقوله: (لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا)، أي: صوتها، وهو من الحس: وهو الصوت. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: حصب جهنم: ما ألقي فيها، وأصله: من الحصباء، وهي الحصاة، ويقال: حصبت فلانا - أي: رميته - حصبا بتسكين الصاد، وما رميت به حصب، بفتح الصاد، وكما تقول: نفضت الشجرة نفضا، وما وقع نفض، واسم حصى الجمار: حصب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) كأن هذا خرج على إثر سؤال سألوه على غير ابتداء؛ لأن الابتداء بمثله على غير تقدم أمر لا يحتمل، فكأنه - واللَّه أعلم - لما ذكر أهل النار في قوله: (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) إلى قوله: (أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) وذكر أهل الجنة ووصفهم بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى. . .) إلى آخر ما ذكر من قوله: (هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فكأنهم قالوا: متى يكون ذلك؟ فقال عند ذلك: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) أخبر أن السماء تطوى كما يطوي السجل الكتب. ثم ذكر في السماء الطي مرة والتبديل في آية بقوله: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ. . .) الآية، وذكر الانفطار والانشقاق في آية، كقوله: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)، و (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، ونحوه، كما ذكر في الجبال أحوالا، مرة قال: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)، وقال في آية أخرى: (يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)، وقال في آية أخرى: (هَبَاءً مَنْثُورًا) وقال في آية أخرى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)، ونحوه، فجائز أن يكون كذلك على اختلاف الأحوال، على ما ذكرنا فيما

تقدم، ثم تتلاشى وتفنى حتى لا يبقى منها شيء، كما ذكر (هَبَاءً مَنْثُورًا)؛ فعلى ذلك السماوات والأرضون يختلف عليها الأحوال على ما ذكر، ثم آخرها التبديل كما ذكر (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)، فيما ذكر في هَؤُلَاءِ الآيات من تغيير الجبال والسماوات والأرضين دليل فناء هذا العالم بجملته وأسره؛ لأن فناء السماوات والأرض والجبال يبعد عن أوهام الخلق، وأمَّا غيرها من الخلائق فإنهم يشاهدون فناءه، فذكر فناء ما يبعد في أوهامهم، ليعلموا أن هذا العالم يفنى بأسره، ويستبدل عالمًا آخر، يحتمل البقاء للجزاء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ). هذا أيضًا لا يحتمل إلا على تقدم ذكر، فهو محتمل ما ذكرنا مما سبق من ذكر أهل الجنة وأهل النار، فقالوا: كيف يحيون؛ فقال عند ذلك: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ثم اختلف فيه: فقَالَ بَعْضُهُمْ: نطفا، ثم علقًا، ثم مضغا، ثم عظامًا، ثم لحمًا، ثم ينفخ فيهم الروح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) حفاة عراة على ما خلقوا في الابتداء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) يعني: السماوات السبع يطويها الله فيجعلها سماء واحدة كما كانت أولا قبل أن يخلق فيها ست سماوات، والأرضين كذلك. وجائز أن يكون ذكر هذا إخبارًا أنه قادر على أن يعيدهم كما قدر على ابتداء خلقهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) أي: بعثهم (وَعْدًا عَلَيْنَا) لا يختلف ذلك على ما قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)، ثم اختلف في السجل، وفي قراءته: قَالَ بَعْضُهُمْ: السجل: اسم رجل، وهو كاتب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو اسم الملك الذي يكتب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السجل: الصحيفة.

(105)

ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: من قرأ (السِّجِلِّ) بالتشديد فهو الصحيفة، ومن قرأ (السِّجْل) بالتخفيف: هو ملك موكل بالصحف، اسمه: السجل، ويقرأ الكتاب. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال: يقال: أسجلت وسجلت، أي: كتبت، إسجالا وتسجيلا، وسجلت أيضًا: عملت، وسجل: خلق، يقال منه: سجل يسجل سجلا، والمساجلة: المفاخرة، ويقال: ساجلته: فاخرته، ويقال: أسجلت الكلام فهو مسجل، أي: أطلقته وأرسلته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن كل كتب اللَّه التي أنزلها هي زبور. (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي: الكتاب الذي عند اللَّه وهو اللوح المحفوظ، معناه - والله أعلم - على هذا التأويل: كتبنا في الكتب التي أنزلناها بعد ما كان مكتوبًا في اللوح المحفوظ (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا. . .) كذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كتب اللَّه في الزبور المعروف، وهو زبور داود بعد ما كتب (مِن بَعْدِ الذِّكرِ) أي: التوراة (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا) يعني: الجنة (يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) وكتب ذلك في هذا القرآن فقال: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ)، أي: زبور داود بعد ما كتب في الذي الذي عنده. وجائز أن يكون قوله: (كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ): في بعض كتاب، أي: في بعض السور: (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ)، أي: من بعد السورة (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا) كذا. وجائز أيضًا: (كَتَبْنَا) في كتاب (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ)، أي: من بعد ما ذكرهم ووعظهم (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا) كذا. ثم اختلفوا في قوله: (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ): قال عامة أهل التأويل: هي الجنة؛ أخبر أن الجنة إنما يرثها عبادي الصالحون، وهو ما ذكر في آية أخرى: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)

(106)

فيكون هذا تفسيرًا لذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَنَّ الْأَرْضَ) يعني: أرض بيت المقدس (يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) وهو كذلك كان، لم يزل بها عباد اللَّه الصالحون إلى يوم القيامة. وجائز أن يكون قوله: (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا) [أمَّة محمد]، كقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " زُويت لي الأرضُ فأريتُ مشارقَهَا ومغاربَها وسَيبلُغ ملك أمتي ما زُوي لي منها "، فذلك وراثتها، وهم عباده الصالحون، كقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. . .) الآية؛ أخبر أنها خير الأمم، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) يحتمل قوله: (فِي هَذَا) أي: فيما ذكر من قوله: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) في ذلك (لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) أي: لقوم همتهم العبادة، أو لقوم مطيعين موحدين. وجائز أن يكون قوله: (إِنَّ فِي هَذَا) فيما تقدم من الآيات، وهو قوله: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .)، إلى قوله: (أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)، وما ذكر من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى. . .) إلى آخر ما ذكر - أن فيما ذكر كله (لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ). وجائز أن يكون بلاغا للناس جميعًا، كقوله: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ)، فيكون قوله: (لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) أي: لقوم يلزمهم العبادة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّ فِي هَذَا) أي: في هذا القرآن (لَبَلَاغًا) أبلغهم عن اللَّه (لِقَوْمٍ عَابِدِينَ). وفي حرف ابن مسعود: (إن في هذا) أي: في هذا (لِقَوْمٍ عَابِدِينَ). * * * قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) جائز أن يكون كل رسل الله رحمة من اللَّه للعالمين، وكذلك كل كتب اللَّه رحمة للعالمين على ما ذكر في عيسى: (وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا).

(108)

وجائز أن يكون لرسول اللَّه - صلوات اللَّه وسلامه عليه - خاصة؛ فيكون في وجهين: أحدهما: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وما أرسلناك: إلا جعلناك رحمة للعالمين. أو أن يقال: وما أرسلناك إلا رحمة منا للعالمين، والعالمين: هو الجن والإنس؛ لأنه بعث إليهم، ثم الرحمة فيه يحتمل وجوها: أحدها: تأخير العذاب عنهم. والثاني: أنه رحمة، حتى إذا اتبعوه يكون به نجاتهم، وبه عزهم في الدنيا والآخرة. والثالث: شفاعته لأهل الكبائر في الآخرة، ونحو ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) كأنه على الدعاء خرج الأمر، كأنه قال: أمرني ربي أن أخبركم: أن إلهكم إله واحد؛ فاصرفوا العبادة إليه، ولا تشركوا فيها غيره. أو أن يقول: أوحى إفي أن أدعوكم إلى إلهكم الذي هو إله واحد، وإلا كان رسول الله يعلم أنه إله واحد، لكنه خرج على الدعاء والإخبار أنه إله واحد. أو أن يخبرهم أني أدعوكم إلى ما أدعوكم إليه وآمركم، إنما أدعوكم وآمركم بالوحي بما أوحى إليَّ، لا من تلقاء نفسي: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ)، واللَّه أعلم. وقوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ظاهره وإن كان استفهامًا فهو على الأمر والإيجاب كأنه قال: قد أوحى إلى أن إلهكم إله واحد، فأسلموا له وأخلصوا العبادة له، لا تشركوا فيها غيره، والإسلام هو أن يجعل كلية الأشياء والأعمال كلها لله عَزَّ وَجَلَّ، ثم هو يكون على وجهين: أحدهما: على الاعتقاد أن يعتقد كلية الأشياء لله، لا على تحقيق ذلك الفعل. والثاني: على تحقيق جعل الأشياء كلها لله اعتقادا وفعلا وقولا، منه يخاف، ومنه يرجو، لا يخاف غيره، ولا يرجو من دونه، فهو حقيقة الإسلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) هذا يدل على أن الأول خرج على الأمر والدعاء، حيث قال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإجابة إلى ما دعوتهم إليه (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ) أي: أعلمتكم على عدل وحق، كقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) أي: عدل بيننا وبينكم، فعلى ذلك هذا محتمل أن يكون قوله: (عَلَى سَوَاءٍ) أي: على عدل وحق.

(110)

ويحتمل أيضًا: (آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ) أي: أعلمتكم، أي: حتى أنا وأنتم في العلم على سواء، أي: على الاستواء في العداوة والمخالفة، وفي كل أمر على الاستواء، وهو كقوله: (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ)، على الاستواء في العداوة، أي: انبذ إليهم حتى تكون أنت وهم على الاستواء في العلم بالمنابذة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ) أي: ما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون؟ ثم يحتمل قوله: (مَا تُوعَدُونَ) دُونَ الساعة والقيامة التي كانوا يوعدون بها وهم كانوا يستعجلون بها، كقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا)، فيقول: ما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون؟ ويحتمل قوله: (مَا تُوعَدُونَ) من العذاب الذي كان يعد لهم أنه نازل بهم في الدنيا، وهم كانوا يستعجلون كقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، فيقول: ما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون من العذاب؟ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) يخرج ذلك على الوعد والتنبيه والزجر عن المكر برسول اللَّه والقول فيه بما لا يليق به؛ يخبر أنه يعلم ما تظهرون من القول (وَمَا تَكتُمُونَ) أي: ما تسرون من المكر به. وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد، حيث أخبرهم عما أسروا فيما بينهم من المكر به. وقوله: (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) ذكر أنه ما أدري (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ)، ولم يبين ما الذي يكون فتنة لهم. لكن بعض أهل التأويل قال: ما أدري ما قلت لكم من العذاب والسّاعة: هل يؤخر عنكم لمدّتكم ومتاع لكم إلى حين فيصير ما قربت لكم من العذاب والساعة فتنة لكم فتقولون: لو كان ما خوفنا به مُحَمَّد حقًّا، لكان نزل بعد؛ فيصير قولي ذلك فتنة لكم؛ هذا محتمل. ويحتمل وجهًا آخر، وهو: لما قال: (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ): أنه كان خوفهم نزول العذاب بهم، ولكن لم يبين لهم الوقت أنه متى ينزل بهم، فيقول: ما أدري لعل تخويفي إياكم العذاب على بيان وقته فتنة لكم؛ لأنه إذا تأخر عنهم العذاب متاعًا لهم يأمنون عنه؛ فيحملهم ذلك على تكذيبه فيما خوفهم من العذاب، ويكون ما يأمنون من العذاب متاعًا لهم؛ لأنه لو كان وقت نزول العذاب مبينًا لكانوا أبدًا على خوف فينقض ذلك الخوف ويمنعهم عن المتاع وإن لم يبين لهم الوقت، فإذا تأخر عنهم يأمنون

(112)

ويتمتعون، فيقول: ما أدري، لعل تخويفي إياكم لكم فتنة وعندنا: ألا يجب أن يفسر قوله: (فِتْنَةٌ لَكُمْ) أنه أي شيء أراد؟ وهم قد عرفوا أنه ما أراد به؟ وليس لنا أن نفسر ذلك: أنه أراد كذا إلا ببيان عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ (112) تعلق أكثر المعتزلة بظاهر هذه الآية في مسائل لهم؛ يقولون: يجوز أن يدعى بدعوات يعلم الداعي أنه قد أعطى ذلك له، من نحو سؤال المغفرة: ربِّ اغفر لي، وهو مغفور له، ورب أعطني كذا، وهو معطى له، ويقول: رب اغفر لي، وهو يعلم أنه لا يغفر له، ونحو هذا من المسائل لهم، فيحتجون بظاهر قوله: [(قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)] أمر رسول اللَّه أن يدعو به على علم منه أنه لا يحكم إلا بالحق. ونحن نقول: إنه لا يجوز أن يدعى بمثل هذا الدعاء على الإطلاق إلا على اعتقاد معنى آخر في ذلك كان اللَّه فعل ذلك؛ فيكون ذلك منه عدلا وحقا، نحو أن يكون قوله: (قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) أي: بالنصر له، والظفر على أعدائه، وله ألا ينصره، ويكون ذلك عدلا منه وحقا. أو أن يكون المراد به: (احْكُمْ بِالْحَقِّ) أي: بالعذاب الذي هو حكمك على مكذبي الرسل، فأما أن يعتقد من قوله: (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) ما اعتقد المعتزلة فيحصل الدعاء به: اللهم لا تَجُز ورب اعدل، ومن عرف ربه هكذا فهو ليس يعرف حقيقته. وقال أبو عبيدة في قوله: (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)، أي: رب احكم بحكمك وهو الحق، وهو محتمل مستقيم، وقد ذكرنا هذه المسألة وأمثالها فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) أمر رسوله أن يستعين باللَّه - تعالى - على ما يقولون من تكذيبهم إتاه فيما يدعو ويعد. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ) أي: أعلمتكم؛ فصرت أنا وأنتم على سواء، وإِنَّمَا يريد؛ بـ (آذَنْتُكُمْ): أخبرتكم وأعلمتكم ذلك؛ فاستوينا في العلم، وهو ما ذكرنا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ)، أي: كلكم. واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وعليه التكلان. * * *

سورة الحج

سُورَةُ الْحَجِّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) فد ذكرنا تأويله في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) قال الحسن: إن بين يدي الساعة آيات تحجبن التوبة وقبول الإيمان، منها: الزلزلة التي ذكر، ومنها طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وأمثاله، وهو كقوله: (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا). وجائز - عندنا - أن تكون هذه الآيات غاية لقبول التوبة والإيمان، يقبل إلى ذلك الوقت، ولا يقبل بعد ذلك وإن تابوا وآمنوا. أو أن يكون قوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا)؛ لأنهم لا يؤمنون لما تشغلهم تلك الآيات عن ذلك فلا يؤمنون؛ لأن تلك الآيات تعم الخلائق كلهم: المؤمن والكافر جميعًا؛ فلا يعرف المبطل والضال أنه على الضلال والباطل، فيرجع إلى الهدى، والحق، ليس كعذاب ينزل على قوم خاصة؛ لأن ذلك يعرف أُولَئِكَ أنه إنما ينزل بهم خاصة؛ لما فيهم من التكذيب والعناد، وإذا كانت الآيات عامة، لم يعرف أهل الضلال أنهم على باطل، وأنه إنما ينزل بسببهم؛ لما يرونه أنه قد تعم الخلائق كلها، فقوله: (لَا يَنفَعُ) لأنهم لا يؤمنون، كقوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، أي: لا يكون لهم من يشفع، ليس أن يكون لهم شفعاء فيشفعون فلا تقبل شفاعتهم؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (لَا يَنفَعُ) لأنهم يشغلون عن الإيمان فلا يؤمنون، فلا ينفع لهم، على ما ذكرنا. ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ): قبل الساعة، وقيل: القيامة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) هي الساعة، وصفها بالشدة والفزع فقال: (يَوْمَ

(2)

تَرونَهَا تَذْهَلُ (2) أي: تشغل كل مرضعة؛ لشدة أهوالها وأفزاعها (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا) هذا على قول من يقول: إن زلزلة الساعة قبل الساعة يكون على التحقيق، أي: تذهل عما أرضعت، وتضع حملها؛ لأنها تكون في ذلك الوقت مرضعًا وحاملا؛ فتذهل - لأهوال ذلك وأفزاعه - عن ولدها، وتضع ما في بطنها، كقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. . .) الآية، فذكر هَؤُلَاءِ؛ لأن من أصاب شيئًا من البلاء في هذه الدنيا يفزع إلى هَؤُلَاءِ، فيخبر أن في ذلك اليوم يفر بعض من بعض لشدة ذلك اليوم وهوله؛ لشغله بنفسه. وعلى قول من يقول: إن زلزلة الساعة هي الساعة؛ فيخرج قوله: (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ. . .) الآية على التمثيل، أي: تذهل عما أرضعت أن لو كانت مرضعة، وتضع حملها أن لو كانت حاملا؛ لشدته وهوله. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) أي: من مكن له وقوي يرى الناس كأنهم سكارى وما هم بسكارى، وإلا لم يجز أن يراهم سكارى وليسوا هم بسكارى في الحقيقة. وإنما قلنا: إنه يرى من مكن له وقوي، وإلا لو كانوا كلهم سكارى، لكان لا يراهم سكارى؛ لأن السكران لا يرى من كان في مثل حاله سكران. أو أن يكون خاطب به رسوله، ولا يكون فيه ذلك الهول الذي يكون في غيره. أو أن يكون ذلك على التمثيل، ليس على التحقيق. وقول أهل التأويل: يقول لآدم في ذلك: " قم فابعث بعث النار "، فيقول: يا رب كم؟ فيقول: " من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين في النار، وواحد في الجنة "، ويروون الأخبار في ذلك عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإنْ ثبت ما روي عنه في ذلك وإلا الكف عن مثله أولى؛ لأنه يحزن حيث يؤمر أن يتولى بعث ولده إلى النار من غير أن كان ما يستوجب هذه العقوبة. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (تَذْهَلُ): أي تسلو عن ولدها وتتركه. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (تَذْهَلُ): أي: تنسى، يقال: ذهل يذهل ذهولا، وأذهلته؛ أي: أنسيته. وقال غيره: أي: تشغل، والحمل بالنصب: ما في البطن، والحمل بالخفض: ما على

(3)

الظهر، والزلزلة: الرجفة، يقال: زلزلت، أي: حركت، وتزلزلت، أي: تحركت. * * * قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ذكر المجادلة في اللَّه، ولم يبين فيم جادلوا؟ وقد كانت مجادلتهم من وجوه: منهم من جادل في مشيثة اللَّه تبارك وتعالى. ومنهم من جادل: أن هذا العالم منشأ أم لا؟ ومنهم من جادل في وحدانية اللَّه تعالى: واحد أو عدد؟ ومنهم من جادل في بعث الأنبياء وإرسال الرسل. ومنهم من جادل في إنزال الكتب. ومنهم من جادل في دين اللَّه - تعالى - المدعو إليه. وبمثل هذا قد كثرت مجادلاتهم فيما ذكرنا، وكل ذلك كان مجادلة بغير علم؛ لأنهم لو تفكروا في هذا العالم، ونظروا فيه حق النظر لعرفوا أن لهذا العالم منشئا، وأنه واحد لا عدد، وأنه عالم قادر بذاته، وأنه بعث الرسل والكتب، وعرفوا أيضًا أنه يبعث هذا العالم ويحييهم، وأنه قادر على ذلك، لكنهم لم يتفكروا فيه، ولم ينظروا حق النظر، فجادلوا فيه بغير علم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) يحتمل أن يكون قوله: (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ): الشيطان المعروف نفسه، يتابعه في كل ما يدعوه. وجائز أن يكون أراد أنه يتبع كل من يعمل عمل الشيطان، وهم القادة الذين كانوا يدعون إلى اتباع ما يدعو الشيطان ويوحي إليهم (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)، أخبر أن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوكم، فذلك معنى قوله: (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) قيل: فعيل بمعنى فاعل،

(4)

على ما ذكر في آية أخرى: (مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: كل متمرد في العناد والمكابرة، فهو مارد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المارد: هو المجاوز عن جنسه في عتوه وتمرده؛ ولذلك سمي الذي لا لحية له: أمرد؛ لخروجه ومجاوزة أجناسه ورجاله، والمارد بالفارسية: ستنبه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) قَالَ بَعْضُهُمْ: كتب على الشيطان أن من تولاه واتبعه أن يضله (وَيَهْدِيهِ) أي: يدعوه (إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)، وهو ما قال في آية أخرى: (أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: كتب على من تولى الشيطان واتبعه أنه يضله، أي: يدعوه إلى ما به ضلاله وهلاكه. وقوله: قيل: حكم. وقيل: قضى. و (كُتِبَ) يحتمل الإثبات، أي: أثبت في أم الكتاب: أن من تولى الشيطان واتبعه أنه يضله، وقد ذكر إضلال الشيطان في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ (5) أي: خلقنا أصلكم من تراب، وخلقنا أولاده من نطفة (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ. . .) الآية. تأويله - واللَّه أعلم -: أن كيف تشكون في البعث وتنكرونه وليس سبب إنكاركم البعث إلا أن تصيروا ترابًا أو ماء في العاقبة، وقد كنتم في مبادئ أحوالكم ترابًا وماء، فكيف أنكرتم بعثكم إذا صرتم ترابًا؟ أو أن يكون معناه: أن كيف أنكرتم البعث وقد رأيتم أنه يقلبكم من حال النطفة إلى حال العلقة، ومن العلقة إلى المضغة، ولا يقلب من حال إلى حال بلا عاقبة تقصد، فلو لم يكن بعث - كما تزعمون - لكان خلقكم وتقليبكم من حال إلى حال عبثًا؛ على ما أخبر: أن خلق الخلق لا للرجوع إليه عبث، كقوله؛ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، صيّر خلق الخلق لا للرجوع إليه عبثًا، فعلى ذلك الأوّل. أو أن يكون تأويله - واللَّه أعلم -: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ. . .) إلى آخر الآية، ولو اجتمع حكماء البشر وعلماؤهم ليعرفوا السبب الذي خلق البشر من ذلك التراب أو من النطفة - ما قدروا عليه، وما وجدوا للبشر فيه أثرا، ولا معنى البشرية فيه،

فمن قدر على ابتداء إنشاء هذا العالم من التراب أو من النطفة من غير سبب يوجد فيه، ولا وأثر - لقادر على إعادتهم، وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من الابتداء، فمن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر. وقوله: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ). قال: (مُخَلَّقَةٍ): أي مخلوقة خلقا، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ): أي غير مخلوقة خلقا، نطفة على حالها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مُخَلَّقَةٍ) أي: تامة، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي: غير تامة خلقًا، وهو والأشبه؛ لأن التشديد إنما يذكر لتكثير الفعل، والتخفيف لتقليله، فكأنه قال: (مُخَلَّقَةٍ)، أي: قد أتم خلقها من الجوارح والأعضاء، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)، أي: غير تامة خلقا. بل ناقصة. وقوله: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. . .) كأن قوله: (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ) موصولا بقوله: (مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): من سثة أشهر إلى سنتين، أو ما شاء اللَّه (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) من الأرحام بعد الإقرار فيها (طِفْلًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: ثم نخرج كلًّا منكم طفلا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: واسم الطفل يجمع ويفرد. (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الأشد هو ثلاث وثلاثون سنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من ثماني عثرة سنة إلى ثلاثين سنة، وأصل الأشد: هو من اشتداد كل شيء، وتقوي كل شيء فيه من الجوارح والأعضاء، وكل ما ركب فيه من العقل وغيره، ثم عند ذلك يبين لهم، ويكون قوله: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) بعد هذا كله إذا بلغوا المبلغ الذي يعرفون تقليبه إياهم من حال إلى حال، على ما ذكر، ثم يحتمل قوله: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) وجوهًا: أحدها: يبين قدرته وسلطانه: أن من قدر على تحويلهم من حال التراب إلى حال الإنسانية والبشرية، ومن حال النطفة إلى حال العلقة. . . ثم إلى آخر ما ذكر لقادر على البعث والإحياء بعد ما صاروا ترابًا. أو يبين علمه في الظلمات الثلاث التي كان الولد فيها أن كيف قلبه من حال إلى حال

في تلك الظلمات؛ ليعلموا أنه لا يخفى عليه شيء. أو يبين حكمته وتدبيره في خلق الإنسان من التراب ومن النطفة ما لو اجتمع جميع الحكماء من البشر والعلماء؛ ليعرفوا المعنى الذي به خلق الإنسان منه وصار به بشرًا ما قدروا عليه، ولا عرفوا السبب الذي به صار كذلك؛ ليعلموا أنه حكيم بذاته وعالم قادر بذاته، لا بتعليم غيره، ولا بإقدار غيره، فمن كان هذا سبيله لا يعجزه شيء؛ ينشئ الأشياء من الأشياء ولا من الأشياء على ما شاء وكيف شاء. وقوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) أي: من يتوفى قبل أن يبلغ أشده، دليله قوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) أي: من قبل أن يبلغ ذلك المبلغ وهو الأشد، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي: إلى وقت ما يستقذر ويستخبث، ليس كالصغير؛ لأن الصغير والطفل مِمَّا يؤمل منه في العاقبة المنافع والزيادات، وهذا لا يرجى منه ولا يؤمل منه العاقبة، كلما مر عليه وقت كان أضعف في عقله ونفسه، ولا كذلك الصغير، وهو كما قال: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً). قَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَرْذَلِ الْعُمُرِ): أي: الخرف والهرم. وقوله: (لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) أي: لكيلا يعلم من بعد ما كان يعلمه شيئًا. ثم ذكر قدرته وسلطانه فقال: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً) قَالَ بَعْضُهُمْ: ميتة، وقيل: مشققة، وقيل: يابسة، وقيل: بالية. وقوله: (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) قال الزجاج: (وَرَبَتْ): من الزيادة والنماء، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: ربا يربو، أي: زاد، وهو من الربا، وربا من الارتفاع، ربا يربو ربوة، كقوله: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ). ثم أضاف الاهتزاز والزيادة إلى الأرض، وهي لا تهتز ولا تربو، إنما يربو ويهتز ما يخرج منها من النبات، لكن أضاف ذلك إليها لما بها كان اهتزاز ذلك النبات، وبها كان النماء؛ فاضيف إليها. ْأو إن كان من الارتفاع والربوة، فهي ترتفع وتنتفخ وتهتز بالمطر. وقوله: (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) قيل: البهيج: الحسن؛ يخبر في كل هذا قدرته وسلطانه: أن من قدر على إحياء الأرض بعد ما كانت يابسة ميتة، لقادر على إحياء

(6)

الموتى بعد الموت، وبعد ما صاروا ترابًا، وقوله: (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي: من كل جنس حسن (بَهِيجٍ) أي: يسر، وهو وفعيل بمعنى فاعل، يقال: امرأة ذات خلق باهج. ومال أَبُو عَوْسَجَةَ: الهامد: البالي، يقال: همد الثوب: إذا بلي، والهامد أيضًا: الخامد، خمدت النار تخمد خمودًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَرَبَتْ) أي: أضعفت النبات. وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) أي: ذلك الذي تقدم ذكره من الساعة وزلزالها وأهوالها وما ذكر من خلق الإنسان وتقليبه من حال إلى حال، وما ذكر من البعث والإحياء، وإحياء الأرض بعد ما كانت هامدة - هو الحق. (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أي: كائن لا محالة؛ ألا ترى أنه قال: (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) هذا كله يدل أن قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) في تحقيق البعث والإحياء بعد الموت، وأنه لا يعجزه شيء، وأنه قادر بذاته، عالم بذاته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَلِكَ) يقول: هذا الذي فعل وظهر من صنعه يدل على أن الله هو الحق وغيره من الآلهة التي يعبدونها باطل، وأنه يحيي الموتى في الآخرة، لا الآلهة التي يعبدونها، (وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي: قدير، على ما يشاء، وهو ما أخبرنا. وقال الحسن: هو اسم من أسماء اللَّه تعالى سمي به؛ لأنه يحكم بالحق. * * * قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يحتمل قوله: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حسي (وَلَا هُدًى) أي: لا بيان دليلي من جهة العقل (وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) أي: ولا وحي ينير ما يجال فيه ويخاصم. ويحتمل أن يكون قوله: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي: بغير إذعان ممن عنده العلم (وَلَا هُدًى) لا استسلام لمن عنده الدليل، ولا خضوع لمن عنده كتاب منير.

(9)

وقوله: (ثَانِيَ عِطْفِهِ ... (9) قَالَ بَعْضُهُمْ: لاوي عنقه إلى معصية اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ناظر في عطفه، أي: في جانبه، ومثل هذا. لكن حقيقته تخرج على وجهين: أحدهما: على التمثيل والكناية عن إعراضه عن دين اللَّه الحق والصدود عنه، كقوله: (انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ)، وقوله: (انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، ونحوه، كله على التمثيل والكناية عن الإعراض عن الحق والصدود، لا على حقيقة الانقلاب على الأعقاب؛ فعلى ذلك جائز قوله: (ثَانِيَ عِطْفِهِ) يخرج على التمثيل والكناية عن الإعراض عن الحق. وجائز أن يكون على حقيقة عطف العنق والميل عنهم تكبرًا وتجبرًا منه عليهم. ثئم بين أنه لِمَ يفعل؟ فقال: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). ثم أخبر ما له في الدنيا بصنعه؟ فقال: (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الخزي: هو العذاب الذي يفضحه، وأصل الخزي: الهوان والذل، وهم لما أعرضوا عن عبادة اللَّه ودينه بلوا بعبادة الأصنام واتباع الشيطان، فذلك الخزي لهم في الدنيا. ثم أخبر ما له في الآخرة من الجزاء؟ فقال: (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) وعامة أهل التأويل يصرفون الآية إلى واحد منهم وهو النضر بن الحارث، ويقولون: (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ)؛ لأنه أسر يوم بدر، فضرب عنقه، وقتل صبرا، فذلك الخزي له. والحسن يقول: هذا الخزي لجميع الكفرة؛ لأنه لم يزل هذا صنيعهم منذ كانوا، فلهم الخزي في الدنيا: الخسف والحصب، على ما كان في الأمم الخالية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ... (10) ليس على تحقيق تقديم الأيدي، ولكن على التمثيل؛ لما بالأيدي يقدم، فذكر اليد لذلك على ما ذكرنا من انقلاب الأعقاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)؛ لأنه لا يأخذ أحدًا بغير ذنب ولا يأخذه بذنب غيره.

(11)

قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) اختلف في قوله: (عَلَى حَرْفٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: (يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)، أي: على شك يمتحن ربه؛ على أنه إن أعطاه طمعَه وأملَه في هذه الدنيا حقق له الألوهية والعبادة، وإن لم يجد طمعه وأمله لا يحقق له ذلك، ويقول: ليس هو بإله؛ إذ لو كان إلهًا لأعطاه ما يطلب منه على هذا الشك، يعبد بالامتحان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَلَى حَرْفٍ) أي: على شرط، أي: يعبده على شرط الإعطاء؛ يقول إن أعطاني أَملي عبدته، وإن لم يعطني ذلك لم أعبده؛ تكون عبادته على هذا الشرط. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) أي: على حال واحدة، وعلى جهة واحدة، ليس يعبده على حالين كالمؤمن يعبده في حالين جميعًا: حالة الظاهر، وحالة الباطن، وحالة الضراء والسراء، وحالة السعة والشدة على ما تعَبَّدَه اللَّه، كقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، ونحوه، عبده المؤمن على الحالين جميعًا على ما تعبده اللَّه، والمنافق إنما يعبده على حالة السعة والخصب؛ لأنه ليس يعرف ربه حق المعرفة، فإنما يعبد السعة والرخاء، وأمَّا المؤمن فإذا عرف ربه عبده في الأحوال كلها لما عرف نفسه عبدًا لسيده، ولم ير للعبد سعة ترك العبادة لمولاه في كل حال، ورأى للمعبود حق استعباده واستخدامه في كل حال: في حال الضيق وحال السعة. أو أن يكون رأى ما يصيبه من الشدائد والبلايا بتقصير كان منه وتفريط؛ فعبده في الأحوال كلها. أو لما رأى وعرف أن نعم ربه عليه كثيرة، ورأى شكر تلك النعم عليه لازمًا؛ فعبده في الأحوال كلها؛ شكرًا لتلك النعم، وأمَّا أُولَئِكَ لم يروا لله على أنفسهم نعمًا فإنما عبدوه على الجهة التي ذكرنا، كانوا فرقا من الكفرة: منهم من يعبد اللَّه في حال الشدة والضيق ولا يعبده في حال السعة والرخاء، كقوله: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا)، ونحوه.

(12)

ومنهم من كان يعبده في حال السعة والرخاء، وهو ما ذكرنا من أمر المنافق. وأمَّا المؤمن فهو يعبده في الأحوال كلها لما رآه معبودًا حقيقة، على ما ذكرنا. وقوله: (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ): قد ذكرنا أن الفتنة هي المحنة التي فيها بلاء وشدة. وقوله: (انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التمثيل؛ على ما ذكرنا في قوله: (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ)، وقوله: (انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: على تحقيق انقلاب وجهه؛ لأنه كان عبادته ظاهرة، لم يكن يعبده في الباطن في حال السعة، فلما أصابته الشدة ترك عبادته ظاهرًا على ما كان باطنه، فهو انقلاب وجهه، واللَّه أعلم. وقوله: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ): أما خسران الدنيا؛ لأنه فات عنه ما كان يأمله بزوالها، وخسران الآخرة ظاهر: العذاب والشدائد. وجائز أن يكون خسران الدنيا هو خضوعه لمن لا يضر ولا ينفع للعبادة للأصنام (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)؛ لأنه خسر في الدارين جميعًا أمله وطمعه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) قيل: إن الآية في المنافقين، وهم كانوا لا يعبدون على حرف ليست بعبادة اللَّه، إنما هي عبادة للشيطان، فأخبر أنه يعبد ما لا يضره إن ترك العبادة له، ولا ينفعه إن عبده؛ يدل على ذلك: قوله: (ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ)؛ لأنه عبد من لا يضره إن لم يعبده، ولا ينفعه إن عبده، فذلك هو الضلال البعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: يدعو من ضرره أقرب من نفعه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ)، هذا إن عبده، ضرّه عبادته إتاه في الآخرة والأولى؛ حيث قال: (مَا لَا يَضُرُّهُ) إن ترك عبادته في الدنيا (وَمَا لَا يَنْفَعُهُ) إن عبده، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَبِئْسَ الْمَوْلَى) أي: الولي، وهو الشيطان (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) يعني: الصاحب، كقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، أي: صاحبوهن بالمعروف.

(14)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَبِئْسَ الْمَوْلَى) أي: الولي، وهو الشيطان، (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي: القرين الذي لا يفارق. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: الصاحب والخليل، وهو ما ذكرنا، كله واحد. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: العشير: الرفيق الذي تعاشره وتصاحبه وتخالطه، والعشير: الزوج أيضًا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (ثَانِيَ عِطْفِهِ): يتكبر معرضا، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ثَانِيَ عِطْفِهِ)، أي: متكبرا متجبرا، والعطف في الأصل: الجانب، والأعطاف جمع. وقوله: (مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) قال: لا يدري أحق هو أم باطل؟ وهو الشك، يقال: إني من هذا الأمر على حرف، أي: على شك، لست بمستيقن. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: على حرف واحد، وعلى وجه واحد، وعلى مذهب واحد. وقال قتادة: على شك، على ما ذكرنا. وقال أبو عبيدة: على حرف، أي: لا يدوم، ويقول: إنما أنا حرف، أي: لا أثق بك، ونحو هذا، وأصله ما ذكرنا فيما تقدم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ) في الآخرة (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ)، (انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) أي: يرجع إلى دينه. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ). المعتزلة كذبت هذه الآية والآية التي تلي هذه الآية، وهو قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ)؛ لأنهم يقولون: أراد إيمان جميع الخلائق ثتم لم يفعل ذلك، وأراد جميع الخيرات

(15)

والكف عن الشرور ثم لم يقدر على وفاء ما أراد، ويقولون: لا صنع له في أفعال العباد، ولا تدبير؛ فعلى قولهم: لم يفعل اللَّه مما أراد واحدًا من ألوف، ويقولون: إن اللَّه أراد هدى جميع الخلائق، لكنهم لم يهتدوا، وهو أخبر أنه يهدي من يريد، وهم يقولون: يريد هدى الخلق كلهم فلم يهتدوا. ونحن نقول: من أراد اللَّه هداه اهتدى، وما أراد أن يفعل فعل، وهو ما أخبر (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، أخبر أنه يفعل ما يريد، فيخرج على قولهم على أحد الوجهين: إما على الخلاف في الوعد، وإما على الكذب في القول والخبر، فنعوذ باللَّه من السرف في القول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) تأويل الآية - عندنا - يخرج على وجهين: أحدهما: من كان يظن أن لن ينصر اللَّه محمدًا - عليه أفضل الصلوات - ثم نصره، فغاظه نصره إياه فيدوم غيظه - (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) أي: بحبل من السماء فيخنق ويقتل نفسه؛ ليذهب غيظه الذي غاظه نصره؛ يستريح مما غاظه. والثاني: يخرج على الوعد بالنصر والخبر: أنه ينصره، يقول: من كان يظن أن ما وعد له من النصرة، لا يفعل ذلك له، ولا ينصره، ولا ينجز ما وعد؛ (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ)، أي: ليحبس ما وعد له من النصر؛ إن غاظه ما وعد؛ ليذهب غيظه الذي غاظه؛ فعلى هذا التأويل يكون السماء سماء الأصل، أي: يحبس السبب الَّذِي ينزل من السماء. قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ) أن لن يرزقه اللَّه، ويجعله صلة قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)، لأنه يجعل الآية في أهل النفاق، يقول: من كان يظن من أهل النفاق: أن اللَّه لا يرزقه إذا كان في ذلك الدِّين الذي كان فيه ودام - فليمدد بما ذكر. وقال مجاهد: (كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)، قال ذلك خيفة ألا يرزق. وأهل التأويل صرفوا السماء إلى سقف البيت، ويقولون: القطع: الخنق. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ) أي: لن يرزقه اللَّه وهو قول أبي عبيدة

(16)

يقال: مطر ناصر، وأرض منصورة، أي: ممطورة. وقال المفسرون: من كان يظن أن لن ينصر اللَّه محمدا (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ)، أي: بحبل إلى سقف البيت، (ثُمَّ لْيَقْطَعْ)، أي: ليختنق: (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) - أي: [حيلته]- غيظه، أي: ليجهد جهده. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) قال: هذا شيء لا يكون ولا يقدر عليه، وهذا ذم للمقول فيه؛ لأنه جعل السماء سماء الأصل، وقوله: (فَلْيَمْدُدْ) أي: يمد يده. وقوله: (بِسَبَبٍ)، السبب في الأصل: الحبل، أي: يعلق سببا فيرتقي في السماء، والسبب: الحمار، وسبوب جمع، أي: حمر. قال: والسبب: الحبل بلغة هذيل. وقوله: (مَا يَغِيظُ): هو شدة الغضب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) أي: مثل هذا، وهكذا أنزلناه آيات بينات، يبين ما لهم وما عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أما الصابئون: فإن الناس اختلفوا فيهم: قال أهل التأويل: هم عبّاد الملائكة، وقد ذكرنا أقاويلهم فيه في سورة المائدة، فتركنا ذكره هاهنا لذلك. (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا): قيل: هم المشركون من العرب، وهم عبدة الأوثان والأصنام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). يحتمل قوله: (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ)، أي: يحكم بين هَؤُلَاءِ يوم القيامة؛ لاختلافهم في الدنيا، كقوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) ثم قال: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)، أي: يحكم بين هَؤُلَاءِ يوم القيامة، فالفصل بينهم يوم القيامة هو الحكم الذي ذكر في هذه الآية. ويحتمل قوله: (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) في المقام: يبعث هَؤُلَاءِ إلى الجنة وهَؤُلَاءِ إلى النار؛ فذلك الفصل بينهم. وجائز أن يكون قوله: (يَفْصِلُ) أي: يبين لهم الحق من الباطل؛ حتى يقروا جميعا بالحق ويؤمنوا به، لكن لا ينفعهم ذلك يومئذ.

(18)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) من أعمالهم، وأفعالهم، وإقرارهم، وأقوالهم، وجميع ما كان منهم. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) حرف (مَن) في ظاهر اللغة واللسان إنما يعبر به عن الممتحن من البشر والجن والملائكة، وأما الموات فإنه لا يعبر به عنه، وإنَّمَا يعبر عنه بحرف (مَا)، لكن ذكر في آخره - وهو قوله: (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ. . .) الآية - ما يدل أنه أراد الكل: الممتحن، والموات جميعًا، حيث قال: (وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) وإلا ظاهره ما ذكرنا: أنه إنما يعبرب (مَن) عن الممتحن، وبحرف (ما) عن الكل. وجائز أن يكون عند الاجتماع يذكر باسم الممتحن؛ على ما يذكر عند اجتماع الذكر والأنثى باسم الذكور. ثم ما ذكر من سجود هذه الأشياء يخرج على وجوه: أحدها: سجود خلقة، يسجد كل شيء ذكر بخلقته لله، على ما ذكرنا في التسبيح. والثاني: سجود عبادة، وهو سجود كل ممكن من إتيانه، وتركه، وهو سجود الممتحن. والثالث: سجوده: بذل ما بذل في هذه الأشياء من المنافع لا يتأتى بذلها لأحد من الماء، والشمس، والشجر، والدواب، وكل شيء. والرابع: ما ألهم هذه الأشياء من الطاعة لله والخضوع له؛ ألا ترى أنه قال: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، ألا ترى أنه ألهم الدواب معرفة إتيان الصالح لهم واتقاء المهالك؛ فجائز أن يعرفن طاعته والخضوع له، واللَّه أعلم.

(19)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) في الجنة (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: من خذله اللَّه وطرده عن عبادته وبابه (فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)، كقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ). أو أن يقول: ومن أهانه اللَّه في النار بالعذاب، فما له من منج ينجيه عن ذلك. (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) هذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: شاء أشياء فلم يفعل، فهو يقول: (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ). وقوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) اختلفوا في تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ: نزل هذا في ستة نفر تبارزوا: ثلاثة من المسلمين: حمزة بن المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث، وثلاثة من المشركين: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فذلك اختصامهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أهل الإسلام وأهل الكتاب في الدِّين: قالت اليهود والنصارى: نحن أولى باللَّه منكم يا معشر المسلمين؛ لأن نبينا قبل نبيكم، وديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم. فقال المسلمون: بل نحن أولى باللَّه، آمنا بكتابنا وكتابكم، ونبيّنا ونبيكم، وبكل كتاب أنزله اللَّه، ثم كفرتم أنتم بنبينا، وكتابنا، وبكل نبي كان قبل نبيكم؛ فأنزل اللَّه تعالى ما فصل بين المؤمنين وأهل الكتاب فقال: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا) بمُحَمَّد وبالقرآن، وهم اليهود والنصارى، (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ. . .) إلى آخر ما ذكر، وقال في المؤمنين: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ): النار والجنة: قالت النار: جعلني اللَّه للعقوبة للعصاة والفسقة، وقالت الجنة: جعلني اللَّه للرحمة للأنبياء والأولياء، ونحوه. لكن متى يكون للنار مخاصمة، وكذلك الجنة، وهو بعيد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اختصم المسلم والكافر في البعث.

(20)

وجائز أن يكون اختصامهم ما ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع، من ذلك قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، يكون اختصامهم بين هَؤُلَاءِ الذين ذكرهم في هذه السورة، وهم أهل الإسلام وأهل الكفر؛ في الآية بيان ذلك، حيث قال: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ)، وقال في المؤمنين: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). ثم جائز أن يكون هذا الذي ذكر في الآية الأولى، حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): ينزل أهل الإسلام في الجنة وأهل الكفر في النار، واللَّه أعلم. وقوله: (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) كقوله: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ. . .) الآية. وقوله: (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) قيل: الحميم: الماء الحار الذي انتهى حره غايته. وقوله: (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) قَالَ الْقُتَبِيُّ: يصهر: يذاب، يقال: صهرت النار الشحمة، والصهارة: ما أذيب من الألية، وكذلك قال: الصّهارة: ما يبقى من الشحم والألية إذا أذيبا، يقال: صهرت الشحم: أي أذبت، أصهره صهرًا. (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) قَالَ بَعْضُهُمْ: المقامع: الأعمدة من الحديد، وهو قول أبي معاذ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المقامع: شبه العصي، الواحدة: مقمعة. قال أبو معاذ: يعني قوله: (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ) أي: يذاب ما في بطونهم خاصة، وأمَّا الجلود فإتها تحرق؛ لأن الجلد لا يصهر ولا ينصهر، وقال: هذا مثل قول العرب: (أتيته فأطعمني واللَّه ثريدًا، واللَّه ولبنا قارصا - أي: حامضا - واللَّه فإزارًا ورداءً، واللَّه وحملانا فارها) تصير لكل شيء فعلا يشاكله، وفي القرآن مثله كثير، وكذلك في اللسان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن جهنم إذا جاشت، ألقت من فيها إلى أعلاها، فيريدون الخروج منها، فيعيدهم الخزان فيها بالمقامع، ويقول لهم الخزنة: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ).

(23)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن في جهنم دركات، فإذا اشتد العذاب بهم ينقلبون من دركة السفلى إلى دركة العليا، ويصعدون، ثم يريدون الخروج منها، فيعادون فيها، كقوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن النار تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع من حديد، فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفر لهبها، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) أي: من تحت أهلها، وهو كما ذكر في آية أخرى: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ). وقوله: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا) ذكر هذا - واللَّه أعلم - لقوم رغبوا في هذه الدنيا بالتحلي بما ذكر، وتفاخروا به فيها، وهو ما ذكر: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ)، وإلا قلما يرغب الناس في الدنيا في التحلي بما ذكر إلا النساء خاصة. فإما أن ذكر للنساء أو لقوم تفاخروا به في الدنيا فوعد لهم في الآخرة ذلك (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ). وقوله: (وَلُؤْلُؤًا) قال الكسائي: من قرأ: (وَلُؤْلُؤًا) بالخفض فهو يخرج على أنهم: يحلون فيها من أساور من ذهب، ويحلون فيها من لؤلؤ حلية سوى الأساور. ومن قرأ بالنصب: (وَلُؤْلُؤًا)، أي: يحلون فيها لؤلؤًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)، وكذلك ذكر في الخبر: " هُوَ لَهُم في الدنيا، ولنا في الآخرة ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) جائز أن يكون هذا في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا: هو قول التوحيد، وشهادة الإخلاص، وأمّا في الآخرة كقوله: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فهو القول الطيب الذي هدوا إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ): هو القرآن (وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ): الإسلام وشرائعه. وقال قتادة: ألهموا التسبيح والتحميد كما ألهموا النفس.

(25)

وقال: (الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ): هو كل قول حسن. وقوله: (الْحَمِيدِ) يحتمل (صِرَاطِ الْحَمِيدِ)، أي: صراط اللَّه، كقوله: (صِرَاطِ اللَّهِ). ويحتمل أن يكون نعت ذلك الصراط، أي: صراط حميد، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) قوله: (كَفَرُوا) هو خبر ماض، وقوله: (وَيَصُدُّونَ) خبر مستقبل، فنسق المستقبل على الماضي. قال الزجاج: إن الكافرين والصادين عن سبيل اللَّه (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). وعندنا تأويله: أن الذين كفروا قبل أن يبعث مُحَمَّد ويصدون الناس عن سبيل اللَّه إذا بعث مُحَمَّد. ثم يحتمل قوله: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي: كانوا يمنعون المسلمين عن دخول المسجد الحرام للإسلام والسؤال عنه، والثاني: إخراجهم منه، كقوله: (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ). وقوله: (الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) ظاهر هذا أن يكون الذي جعل فيه العاكف والبادي سواء هو المسجد الحرام؛ لأنه قال: (جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً)، لكن أهل التأويل صرفوا ذلك إلى مكة، وقالوا: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) في النزول في المنازل، وظاهره ما ذكرنا. ثم يحتمل أن يكون المسجد الحرام مخصوصًا بهذا ليس كسائر المساجد التي لها أهل: أن أهلها أحق بها من غيرهم، وأمَّا المسجد الحرام فإن الناس شَرَعٌ، سواء العاكف

فيه والبادي. ويحتمل أنه خص المسجد الحرام بأن الناس سواء فيه؛ ليعلموا أن الحكم في سائر المساجد كذلك: أن الناس فيها سواء أهلها وغير أهلها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الإلحاد فيه: هو الشرك والكفر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإلحاد: هو كل المعاصي، وأصل الإلحاد: هو العدول والميل عن الطريق. وتأويله: ومن يلحد فيه إلحاد ظلم نذقه كذا. قَالَ بَعْضُهُمْ: من هَمَّ فيه بإلحاد بظلم نذقه كذا. ثم يحتمل تخصيص ذلك المكان بما ذكر وجوهًا: أحدها: ليعلموا أن كثرة الخيرات وتضاعفها مما لا يعمل في إسقاط المساوئ فيه وهدمها؛ لما روي: " أن صلاة واحدة بمكة تعدل كذا وكذا صلاة في غيرها من الأماكن "، وكذلك حسنة فيها. والثاني: خصت بالذكر فيه على التغليظ والتشديد، على ما خصت تلك البقعة بتضاعف الحسنات. والثالث: أن أُولَئِكَ اذعوا أنهم أولى باللَّه من غيرهم؛ لنزولهم ذلك المكان، فأخبر أن من يرد فيه بكذا نذقه، ليس تخصيص ذلك المكان بما ذكر، والعفو في غيره، ولكن بما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: معناه: من يرد فيه إلحادًا بظلم، والباء زائدة، ومثله قوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)، معناه: تنبت الدهن. روي بالخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " احْتكارُ الطعام بمكةَ إلْحَاد "، وكذلك روي عن عمر وابن عمر.

(26)

وجائز أن يكون ما ذكرنا من التغليظ والتشديد وتضاعف العقوبة؛ ولذلك كره قوم الجوار بمكة لما يتضاعف عليهم العقوبة إذا ارتكب فيه مأثمًا وألحد فيه، وجائز ما ذكرنا. وقد كره قوم بيع رباع مكة وإجارتها بقوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)، وعلى ذلك رويت الأخبار بالنهي عن ذلك، روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مكة مناخ، لا يباع رباعها، ولا يؤاجر بيوتها ". وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " يا أهل مكة، لا تتخذوا لدوركم أبوابًا؛ ليرد البادي حيث شاء " ونهاهم أن يغلقوا أبواب دورهم. وليس في ظاهر الآية ذكر مكة؛ إن في الآية ذكر المسجد، حيث قال: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)، وإنما ذكر ذلك في المسجد الحرام خاصة. وقال أبو حنيفة - رحمه اللَّه -: أكره إجارة بيوت مكة في الموسم من الحاج والمعتمر، فأما المقيم والمجاور فلا نرى بأخذ ذلك منهم بأسًا. وهو قول مُحَمَّد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) قَالَ بَعْضُهُمْ: (بَوَّأْنَا)، أي: هيأنا (مَكَانَ الْبَيْتِ)؛ لينزل فيه، والبيتوتة: الإنزال، كأنه قال: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ)، أي: أنزلناه مكان البيت؛ ليتخذ فيه بيتًا، وقلنا له: لا تشرك بي شيئًا، وهكذا بعث الأنبياء جميعًا، بعثوا ألا يشركوا باللَّه، وأمروا أن يدعو الناس إلى ترك الإشراك باللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) وادع الناس أيضًا إلى ألا يشركوا بالله شيئًا. ثم يحتمل قوله: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) ومن ذكر، أي: طهره من الأصنام والأوثان التي فيه لئلا يعبد غيره. وجائز أن يكون قوله: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) عن جميع الخبائث، وعن كل أنوع الأذى من الخصومات، والبياعات، وغيرها، وذلك للمسجد الحرام ولغيره من المساجد يطهر ويجنب جميع أنواع الأذى والخبث والفحش.

(27)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) قال أهل التأويل: (لِلطَّائِفِينَ) هم القادمون من البلدان (وَالْقَائِمِينَ): المقيمين هنالك (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ): المصلين. ويحتمل قوله: (لِلطَّائِفِينَ): لكل طائف به، (وَالْقَائِمِينَ)، (وَالْعَاكِفِينَ) 125: لكل عاكف نحوه، والعكوف هو المقام للعبادة، (وَالْقَائِمِينَ): لكل قائم عاكف نحوه، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وساجد نحوه، أي: لكل مصل، وهذا أشبه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) يحتمل وجهين: أحدهما: على الإعلام: أن أعلم الناس: أن لله عليهم الحج بالبيت، كقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. . .) الآية. والثاني: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) أي: ادع الناس ونادهم أن يحجوا البيت. قال أهل التأويل: لما أمر اللَّه إبراهيم ينادي في الناس بالحج، فنادى، فأسمع الله صوته ما بين المشرق والمغرب، حتى أسمع صوته ونداءه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فقالوا: (لبيك)، ومن حج بيته فهو الذي أجاب إبراهيم لما ناداهم بالحج. لكن لا يعلم ذلك إلا بالخبر عن رسول اللَّه أنه كان ما ذكروا، وإلا السكوت عنه وعن مثله أولى. وقالوا: إن قوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) موصول بمَوله: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ. . .) الآية. وجائز أن يكون قوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) لرسول اللَّه، أو لكل رسول بعث الأمر بذلك في كل زمان، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (يَأْتُوكَ رِجَالًا) أي: على الأرجل مشاة (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ)، أي: يضمر ويذهب سمنه؛ لبعد المضرب، وهو ما ذكر: (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي: من كل بعيد. ثم قوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) على الدعاء والأمر، فيكون في قوله: (يَأْتُوكَ رِجَالًا) دلالة لزوم الحج على المشاة، كأنه قال: مرهم يحجّون مشاة على الأرجل وركبانا، وإن كان على الإعلام فهو على الوعد والجزاء: أنهم يأتونك على الأرجل مشاة وعلى الدواب.

(28)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أضاف الإتيان إلى الدواب؛ لأنه بالدواب يأتون، فأضاف إليها لذلك، واللَّه أعلم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا)، من الحلي من الذهب والفضة، تقول: حليت المرأة، أي: اتخذت حليا، ويقال: حلى الشيء يحلى حلًى؛ إذا حسن، ويقال: بعينه إذا حسن في عينه، ويقال: حلى الشيء يحلو حلاوة فهو حلو، ويقال: تحليت، إن شئت جعلته أكلت حلاوته، وإن شئت جعلته من الحلي، ويقال: حلأت الإبل عن الماء، أي: منعت، ويقال: حليت الشيء وأحليته، أي: جعلته حلوًا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) أي: المقيم، والبادي - وهو الطارئ من البدو - سواء فيه ليس المقيم فيه بأولى من النازح إليه. (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ) أي: من يرد فيه إلحادا، وهو الظلم والميل عن الحق، فزيدت الباء، كما يقال: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)، وهو ما ذكرنا. وقوله: (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ)، أي: ركبانا على ضمر من طول السفر (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي: بعيد غامض. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (الْعَاكِفُ): المقيم، (وَالْبَادِ): من كان في البادية، والإلحاد: الميل عن الحق، ومنه اشتق اللحد، لحد القبر. (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ)، أي: على كل بعير ضامر، أي: خميص البطن. (يَأْتُوكَ رِجَالًا) تقول: رجل الرجل يرجل رجلة، فهو راجل، والفج: الطريق، والعميق: البعيد، يقال: عمق، أي: بعد، يعمق عمقا، فهو عميق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) قال الحسن: يشهدون مشاهد فيه، فيذكرون اللَّه فيها ويكتسبون أشياء تنفع لهم في الآخرة، فذلك منافع لهم التي يشهدونها. وقال غيره من أهل التأويل: (مَنَافِعَ لَهُمْ): التجارات والمنافع التي كانوا يكتسبونها إذا خرجوا للحج. وقَالَ بَعْضُهُمْ: التجارة في الدُّنيَا، والأجر في الآخرة، وهو مثل الأول. وجائز أن يكون قوله: (لِيَشَهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ): الأرزاق التي جعلت لهم في البلدان النائية البعيدة ما لو لم يشهدوها لم يسق اللَّه ذلك إليهم؛ لأن من الأرزاق التي جعلت لهم

في البلدان ما يساق إلى أهلها وهم في مقامهم وأمكنتهم، ومن الأرزاق ما يساق أهلها إليها ما لو لم يأتوها لم يسق ذلك إليهم، فجائز ما ذكر من المنافع: هو ما غاب عنهم من المنافع والأرزاق التي جعلت لهم في البلدان النائية البعيدة إذا خرجوا للحج نالوها، وإذا لم يخرجوا له لم ينالوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) أي: متاجرهم وقضاء مناسكهم. وقوله: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) اختلف فيه: قال الحسن: هو يوم النحر خاصة. وجائز إضافة الواحد إلى الجماعة، كقوله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا)، وإنما جعل في السماء الدنيا، وكما يقال: (توارى فلان في دور بني تميم)، وإنما توارى في دار من دورهم، ومثل هذا كثير، وذلك جائز في اللسان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأيام المعلومات: هو يوم النحر ويومان بعده. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعلومات والمعدودات هي أيام التشريق جميعًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأيام المعلومات: هي أيام العشر؛ لأنها هي أيام الذكر فيها. وجائز أن يكون قوله: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) كناية عن الذبح، وأيام الذبح ثلاثة: يوم النحر ويومان بعده؛ ألا ترى أنه قال: (عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا) ذكر الأكل ولم يذكر الذبح، فذلك يدل على أن قوله: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) كناية عن الذبح، وإنما كان كناية عنه؛ لأنه بالذكر يقدم الذبائح ولا يخلو منه دونه، والله أعلم. وقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: من الأضاحي؛ لأن التناول من الأضاحي كان لا يحل فخرج ذلك مخرج رخصة التناول منها والحل، لكن الأضاحي لا يحتمل؛ لأن الوقت ليس هو وقت الأضاحي ولا أماكنها، إنما هو وقت دم المتعة والقران ودم التطوع. وفيه إباحة التناول من دم المتعة والقِران. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: البائس: من البؤس وهو ما اشتد به من الحاجة والشدة.

(29)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: البائس: الذي سألك، والفقير: المتعفف الذي لا شيء له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البائس: هو الذي به زمانة، والفقير: الصحيح الذي لا شيء له، وهو مثل الأول. وقوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) قال بعض أهل الأدب: التفث: لا يعرف في لسان العرب ما يراد به. وقال الحسن: التفث: هو التقشف، وهو ترك الزينة، يدل على ذلك ما روي أنه سئل عن الحاج، فقال: " كُل أشْعَث تفِل ". وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: التفث في الأصل: الوسخ، يقال: امرأة تفثة: إذا كانت خبيثة الريح، وهو قريب مما قال الحسن: إنه ترك الزينة. وأهل التأويل يقولون: التفث: هو حلق الرأس، وقص الأظفار والشارب، والرمي، والذبح، ونحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ): المناسك كلها. وروى في الخبر: " من وقف من عرفة بليل، وصلى معنا الجمع، فقد تم حجه وقضى تفثه "، ظاهر " قضى تفثه "، أي: نسكه. وجائز أن يكون قوله: " قضى تفثه " أي: جاء وقت الزينة، وهو وقت الحلق واللباس، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ)، أي: ليوفوا ذبح ما أوجبوا ذبحه، ذكر فيما ساق من الهدْي لمتعته ولحجته الأكل منه؛ لقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا)، ولم يذكر الأكل مِمَّا أوجب بالنذر؛ فلذلك يقول أصحابنا: إنه يجوز له التناول من هدْي المتعة والقِران، ولا يجوز التناول مما كان وجوبه بالنذر والكفارة، بل عليه أن يتصدق بالكل، وهو ما قال: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)، واللَّه أعلم.

(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) هو طواف الزيارة، وهو طواف يوم النحر، وهو الفرض عندنا، ولا يحتمل ما قال بعض الناس: إنه طواف الصدر؛ لأن اللَّه تعالى قال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)، وحج الببت هو الطواف بالبيت لا غير، وطواف الدخول وطواف الصدر ليس على أهل مكة ذلك الطوافان، وعليهم الحج كما كان على غيرهم من النّاس؛ فدل ما ذكرنا على أن قوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) هو طواف الزيارة، وهو حج البيت الذي قال اللَّه: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ). وقوله: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: سماه: عتيقًا؛ لأنه أعتقه عن الجبابرة عن أن يتجبروا عليه، وكم من جبار قد صار إليه ليهدمه فمنعه اللَّه عن ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سماه: عتيقًا؛ لأنه يرفع إلى السماء الرابعة، فذلك المرفوع هو البيت العتيق. والبيت العتيق - عندنا - هو الذي بناه إبراهيم - صلوات اللَّه عليه - وأسسه، ويكون قوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الذي أسسه إبراهيم، لا بالبيت الحادث الذي أحدثه الناس؛ ألا ترى أنه روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لعائشة: " لولا أنَّ قومك حَديثُو عَهْد بالإسْلام لرددت البيت على أساس إبراهيم، وجَعَلتُ لَهُ بابين: بابًا يدخل فيه، وبابًا يخرج منه "، وروي في بعض الأخبار يرويه عبد اللَّه بن الزبير قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

(30)

" إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبَّار " فإن ثبت هذا فهو هو. * * * قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) وقوله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) قوله: (ذَلِكَ) جائز أن يكون الذي تقدم ذكره

(31)

من قوله: (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ. . .) إلى آخر ما ذكر ذلك الذي ذكر: (وَمَن يعُطمْ حُرُمَتِ اللَّهِ). وجائز أن يكون لا على ذلك، ولكن حرف يذكر عند ختم قصة والفراغ منها مبتدأ، لا على ربط شيء، نحو قوله: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ. . .)، كذا (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ. . .)، كذا، قوله: (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) يصح دون ذكر هذا، لكنه ذكر على ختم كلام الأول وابتداء آخر، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) كذلك. وقوله: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) كأنه قال: وَمَنْ يُعَظِّمْ حرمات اللَّه، وخرج للحج، وأنفق المال، وأتعب النفس فما له عند ربه من الثواب، فذلك خير له من حفظ ماله وحفظ نفسه، وإلا لا شك أن من عظم حرمات اللَّه خير له ممن لم يعظمها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ)، وفي حرف ابن مسعود: (وَأُحِلَّتْ لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم) من المحرمات من الميتة والدم، وما ذكر في سورة المائدة، وقد ذكرنا هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) جائز أن يكون قوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) وهم الأوثان. وجائز أن يكون قوله: (فَاجتَنِبُوا عبادة الأوثان فإنه رجس، وليس فيه أن غير الأوثان ليس برجس، كقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ)، ليس فيه أن يحل قتل الأولاد في غير خشية الإملاق، فعلى ذلك هذا. وقوله: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) يحتمل كل قول زور. ويحتمل الزور الذي قالوا في اللَّه من الولد والشريك وما لا يليق به. (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفَاءَ لِلَّهِ) تأويله - واللَّه أعلم -: واجتنبوا قول الزور، وكونوا حنفاء لله غير مشركين به. وقوله: (حُنَفَآءَ (31) قد ذكرناه. وجائز أن يكون قوله: (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) تفسير قوله: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ) أي: كونوا مخلصين لله في جميع أموركم، غير مشركين به في ذلك، واللَّه أعلم.

(32)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) يحتمل ضرب مثل من أشرك باللَّه بالساقط من السماء واختطاف الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق - وجوهًا: أحدها: ما وصف وضرب مثله بشيء لا قرار له ولا ثبات، نحو ما قال: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)، ونحو ما قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً. . .) الآية، ضرب مثل الكفر بشيء لا قرار له ولا ثبات، فعلى ذلك مثله بالساقط من السماء تخطفه الطير أو تهوي به الريح، لا يدري أين هو؟ ولا أين يطلب إن أرادوا طلبه؟ ولا يظفر به، فعلى ذلك الكافر. والثاني: ضرب مثله بالساقط من السماء، وهي أبعد البقاع في الأوهام، لا ينتفع بمن سقط منها ولا بشيء من نفسه، ولا تبقى نفسه؛ فعلى ذلك الكافر لا ينتفع بشيء من محاسنه، ولا تبقى نفسه ينتفع بها لبعده عن دين اللَّه. والثالث: الساقط من السماء أثر سقوطه منها في نفسه وفي جميع جوارحه، وظهر ذلك كله فيه حتى لا يرجى برؤه وصحته، فعلى ذلك الكافر يظهر آثار الكفر في نفسه وجوارحه؛ لبعده عن دين اللَّه، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا مثل ضربه اللَّه لمن أشرك به في هلاكه وبعده من الهدى، والسحيق: البعيد، وهو قريب مما ذكرنا. وقوله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) هو ما ذكرنا في قوله: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ)، (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) تأويله - والله أعلم - أي: ومن يعظم شعائر اللَّه بالجوارح، فذلك التعظيم من تقوى القلوب، وهكذا الأمر الظاهر في الناس: أنه إذا كان في القلب شيء من تقوى أو خير، ظهر ذلك في الجوارح، وكذلك الشر أيضًا إذا كان في القلب ظهر في الجوارح. وقوله: (حُرُمَاتِ اللَّهِ) و (شَعَائِرَ اللَّهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هما واحد، وهي المناسك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحرمات هي جميع محارم اللَّه ومعاصيه يتقيها؛ تعظيما لها، وقد ذكرنا تأويل (شَعَائِرَ اللَّهِ) في سورة المائدة، والسحيق: هو المكان البعيد، يقال:

(33)

سحق المكان يسحق سحقا فهو سحيق: إذا بعد، والسحق أيضًا: الشيء الخلق، يقال: أسحق الثوب، وسحق يسحق سحقًا، وأسحق يسحق، والسحوق: النخلة الطويلة. وقوله: (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) أي: تذهب به، يقال: هوى يهوي هواء، أي: ذهب بنفسه. وقوله: (لَكُمْ فِيهَا ... (33) أي: فيما ذكر من الشعائر (مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: لكم فيها منافع من ظهورها وألبانها وأصوافها (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)، أي: إلى أن تقلد وتهدى، (ثُمَّ مَحِلُّهَا) إذا قلدت وأهديت (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ). وكذلك يقول أصحابنا: إن من أوجب بدنة أو أهدى بدنة، لا يحل له الانتفاع بها ولا بشيء منها إلا في حال الاضطرار، فإذا بلغت محلها، وذبحت، حل الانتفاع بلحمها. ومنهم من قال في قوله: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): إلى وقت محلها من الركوب بظهرها، وحلب اللبن، وجز الصوف، وغير ذلك مما كانوا ينتفعون بها من قبل، ويروي في ذلك خبرًا: رُوي أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا ساق بدنة، فقال: " اركبها " فقال: إنها بدنة فقال: " اركبها " فقال: إنها بدنة يا رسول اللَّه، قال: " اركبها ويلك "، وبه يقول

(34)

بعض الناس، يبيحون الانتفاع بالهدايا والقلائد قبل أن تنحر وتذبح، لكن عندنا ذلك في وقت الحاجة الشديدة المضطر إليها، ففي مثل ذلك يجوز الانتفاع بملك غير ببدل، فعلى ذلك بالهدايا ينتفع بها بما ذكرنا ويضمن ما نقصها ركوبه لها. وجائز أن يكون قوله: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى أن تهلك أو تهلكون أنتم، كقوله: (وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)، أي: إلى وقت هلاكها، فعلى ذلك الأول. ثم يكون قوله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) - واللَّه أعلم - ابتداء سؤال سئل عن محل الهدايا والقلائد، فقال عند ذلك: (مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، واللَّه أعلم. والأول أشبه وأقرب لما ذكرنا. وقوله: (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ذكر البيت العتيق، ومعلوم: أنه لم يرد به نفس البيت، ولكن إنما أراد به البقعة التي فيها البيت؛ لأن الدماء لا تراق في البيت إنما تراق في تلك البقعة التي هو فيها، الحرم كله منحر ومذبح، وأراد بقوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، نفس البيت؛ ألا ترى أنه قال هاهنا: (بِالْبَيْتِ)، فإنما يطاف به، وقال هنالك: (إِلَى الْبَيْتِ)، أضاف إليه؛ دل أنه لم يرد به نفس البيت، ولكن البقعة التي فيها البيت، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) قَالَ بَعْضُهُمْ: المنسك: الموضع الذي يعبدون وينسكون فيه ويصيرون إليه لعبادتهم، ومن ثمة يقال للرجل العابد: ناسك؛ ولذلك قال من قال: (مَنْسَكًا)، أي: يصيرون ويخرجون إليه للعبادة، وقال: المنسك: الدِّين، وقال: الشريعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المنسك: المنحر والمذبح.

وجائز أن يسمى في اللغة الذبح: نسكًا، كقوله: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وهو الذبح، وقوله: (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي)، ولو كان النسك عبادة كذكر الصلاة وهي عبادة لكان لا يذكر النسك، فدل أنه أراد بالنسك الذبح. وقوله: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)، دل قوله: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) أن ذكر اسم اللَّه من شرط الذبيحة، حيث ذكر اسم اللَّه ولم يذكر الذبح، ففهموا من ذكر اسم اللَّه الذبح؛ دل أنه من شرط جوازه وحله، سوى الشافعي فإنه لم يفهم ما فهم الناس والأمم جميعًا، حيث لم يجعل ذكر اسم اللَّه من شرط الذبيحة. وقوله: (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) كأنه ذكر قوله: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا) لقوم أنكروا الذبائح، فقال: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا)، أي: ذبحا ذبحوه، وذكروا اسم معبودهم عليه، ثم أخبر أن معبودهم واحد (فَلَهُ أَسْلِمُوا)، أي: أخلصوا ذلك كله، (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) قال: المتواضعين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المطمئنين. وقَالَ بَعْضُهُمْ الخاشعين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل مجتهد في العبادة هو المخبت. ويقال: المخلصين. وتفسير المخبت: ما ذكر على إثره، حيث قال: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. . .) الآية. ومن قال: المخبت: المطمئن، قال: والخبتة: الطمانينة. قوله: (مَنْسَكًا) و (مَنْسِكًا)، فيه لغتان: قال الكسائي: من قرأ: (مَنْسِكًا) بكسر السين فهو من نَسَك يَنْسِك، ومن قرأ: (مَنْسَكًا) بالنصب فهو من نَسَكَ يَنْسَكُ، ثم لا خلاف بين أهل العلم في أن البدن التي تساق والهدايا التي تقلد في الحج والعمرة لا يجوز أن تنحر في غير الحرم، إنما اختلفوا في المحصر إذا أراد أن يحل أين ينحر ويذبح هديه الذي يحل به؟ وقد ذكرنا أقاويلهم واختلافهم في سورة البقرة. ولم يختلف في أن معنى قول اللَّه: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يدخل فيه الحرم كله على ما ذكرنا، وعلى ذلك رويت الأخبار: روي عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال

(35)

رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عرفة كلها موقف، ومنى كلها منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر "، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كل عرفة موقف، وكل منى منحر "، وفي بعض الأخبار: " في كل أيام التشريق ذبح "، وعن علي - رضي اللَّه عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أتى الجمرة، فرمى بها، ثم أتى المنحر فقال: " هذا المنحر، ومنى كلها منحر "، وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " إنما المنحر بمكة، ولكنها نزهت عن الدماء، ومنى مكة ". وقوله: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) أي: خافت وفرقت؛ خوفا منه (وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ) من المصائب والرزايا (وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) هذه الآية قد ذكرنا تأويلها في سورة الأنفال. وقوله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) قَالَ بَعْضُهُمْ: من فرائض اللَّه. وقال الحسن: من دين اللَّه. والأشبه أن يكون قوله: (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)، أي: من معالم دين اللَّه وعبادته ونسكه؛ لأن الشعائر هي المعالم في اللغة، خصت بها المناسك دون غيرها من العبادات فجعلها معالم لها، والبدنة سميت: بدنة؛ لما تعظم في أنفسها وتبدن، ويقال للرجل إذا عظم في نفسه: بدن فلان. وظاهر ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " البدنة تجزئ عن سبعة، والبقرة تجزئ عن سبعةٍ " أن البدنة هي الجزور والإبل؛ حيث قال: " البدنة تجزئ عن سبعة،

والبقرة تجزئ عن سبعة " فرق بين البدنة والبقرة بالذكر، واللَّه أعلم. وقوله (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: المنافع الحاضرة من الركوب، والحلب، والحمل عليها بعد ما قلدت وأوجبت هديًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) إلى أن تقلد، فإذا قلدت فلهم الأجر في الآخرة، وكأن هذا أشبه، أي: يكون قوله: (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) أي: الأجر في الآخرة؛ لأن الانتفاع بها لا يحل إذا أوجبت بدنة إلا في حال الاضطرار؛ لأنّه قال في آية أخرى: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ)، وفي الانتفاع بها إحلال شعائره؛ لذلك قال أصحابنا: لا ينتفع بالبدن،

وما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه رأى رجلًا يسوق بدنة، فقال له: " اركبها " فقال: إنها بدنة يا رسول اللَّه، فقال النبي: " اركبها "، فقال: إنها بدنة. فقال: " اركبها ويحك "، وفي بعض الأخبار: " ويلك؛ فهذا عندنا لما رأى بالرجل الحاجة الشديدة إلى ركوبها، وهو ما ذكرنا: أن الانتفاع بها يجوز في حال الاضطرار، ولا يجوز في حال الاختيار؛ إذ الانتفاع بالمحرمات يجوز في حال الاضطرار، فعلى ذلك بالبدن التي جعلت معالم للمناسك، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) دل هذا أن ذكر اسم اللَّه من شرط الذبيحة؛ لأنه لم يذكر الذبح بنفسه، ولكن إنما ذكر: ذكر اسمه، فلولا أنهم فهموا من ذكر اسم الله عليها ذبحها ونحرها، وإلا لم يكتف بذكر اسمه دون ذكر الذبح؛ فدل أنهم إنما عرفوا ذلك به، وأنه من لئرط جوازها، واللَّه أعلم. وقوله: (صَوَافَّ)، فيه لغات ثلاث: إحداها: (صوافي): أي بالياء، وهو من الإخلاص لله، والصفو له. والثانية: (صوافن) بالنون، وهو من عقل ثلاث قوائم منها، وترك أخرى مطلقة. والثالثة: (صوافٍ) بالتنوين، أي: قياما مصطفة. وكأن جميع ما ذكر يراد أن يجمع فيها من الإخلاص له وعقل القوائم، والقيام، وكذلك جاءت السنة والآثار. وفي حرف ابن مسعود: (صوافن)، بالنون، وتأويله ما ذكرنا. وظاهر الآية يدل على القيام؛ لأنه قال: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)، وقوله: (وَجَبَتْ)، أي: سقطت، والسقوط إنما يكون من القيام، فدل أنها تنحر قيامًا لا مضطجعة، واللَّه أعلم. وقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا) قد ذكرنا هذا فيما تقدم في قوله: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) و (الْبَائِسَ الْفَقِيرَ): من سألك؛ هذا قول بعض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْبَائِسَ): المعروف بالبؤس، و (الْفَقِيرَ): المتعفف الذي لا يسأل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْبَائِسَ): المسكين، و (الْفَقِيرَ): فقير. قَالَ بَعْضُهُمْ: (الْبَائِسَ): الضرير. و (الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ): قَالَ بَعْضُهُمْ: (الْقَانِعَ): هو الراضي، وهو من القناعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو السائل، وهو من القنوع، (وَالْمُعْتَرَّ): الذي يعتريك ولا يسأل،

(37)

و (الْقَانِعَ): هو الجالس في بيته، ونحوه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (الْقَانِعَ): السائل، يقال: قنع يقنع قنوعًا، ومن الرضا: قنع يقنع قناعة، (وَالْمُعْتَرَّ): الذي يعتريك ولا يسأل، يقال: اعتراني: وعدني، واعتراني. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (الْقَانِعَ): السائل، والقنوع: السؤال، والقناعة من الرضا، يقال منه: قنع يقنع قناعة، ويقول: قنعته، أي: أرضيته، وقنعته، أي: غطيت رأسه بالقناع ونحوه، ويقال من المعتر: اعتر اعترارا واعترى وعرا يعر، وكلها واحد. وقال: (صَوافَّ)، أي: قياما مصطفة، وقال: ويكون (صوافن)، أي: قائمًا ثلاث قوائم. يقال: صفن الفرس يصفن صفونا: إذا قام على ثلاث قوائم. وقوله: (وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)، أي: سقطت إلى الأرض، يقال: وجب يجب وجوبا، فهو واجب: إذا سقط، ووجبت الشمس: إذا غابت، قال: وهذا كله من الصوت، يقال: سمعت وجبة، أي: صوتًا، وقال: (مَنسَكًا)، أي: موضعا ينسكون إليه للعبادة. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: (الْقَانِعَ): الذي يقنع بما أعطيته، (وَالْمُعْتَرَّ): الذي يريك نفسه ولا يسأل. وقوله: (كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ) أي: البدن التي ذكرناها. ثم يحتمل ما ذكر من تسخيره إياها لنا وجهين: أحدهما: (كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا) أي: كما سخرناها لكم لركوبها والحمل عليها وأنواع الانتفاع بهأ في حال الحياة، كذلك سخرناها لكم، أي: مثل الذي وصفته لكم، كل ذلك من تسخيرها إياها لكم، واللَّه أعلم. وقوله: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: لن يقبل اللَّه ذلك إلا ممن كان من أهل التقوى، لا يقبلها من أهل الكفر؛ لأنهم قد كانوا ينحرون البدن في الجاهلية، على ما ذكرنا، فأخبر أنه لا يقبل ذلك إلا ممن كان من أهل التقوى، وهو كقوله: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). والثاني: أن يكون قوله: (لَن يَنَالَ اللَّهَ) أي: لن يرفع إلى اللَّه إلا الأعمال الصالحة الزاكية وما كان بالتقوى، وأما ما كان غيرها فإنه لا يرفع ولا يصعد بها، وهو ما قال: (وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ). وقال بعض أهل التأويل: ذكر هذا؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن [نضحوا]

(38)

بدمائها حول البيت، ويقولون: هذا قربة إلى اللَّه، فأراد المسلمون أن يفعلوا مثل صنيعهم، فنزل: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ) قد ذكرنا ما ذكرنا. وقوله: (لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) أي: لتصفوا اللَّه بالعظمة والكبرياء على ما هداكم من أسباب تسخير البدن التي بها يوصل إلى الانتفاع بها من أنواع الانتفاع؛ إذ لولا ما هدانا اللَّه وعلمنا من الأسباب التي بها تسخر وتذلل وإلا ما قدرنا على الانتفاع بها؛ لقوتها ولشذتها وصلابتها. والثاني: بأن يكون قوله: (عَلَى مَا هَدَاكُمْ) من أمر الذين والهدي. وقوله: (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) يخرج قوله: (الْمُحْسِنِينَ) على وجوه: أحدها: محسنين إلى أنفسهم، أو المحسنين إلى إخوانهم، أو الذين حسنت أفعالهم، وصلح عملهم، فأما المحسنين إلى اللَّه فلا يحتمل، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) وفي بعض القراءات: (إن اللَّه يدفع عن الذين آمنوا) بغير ألف، وتأويل (يَدْفَعُ)، أي:، يدفع عن الذين آمنوا جميع شرور الكفرة وأذاهم، وتأويل (يُدَافِعُ)، أي: يدافع الكفار عنهم بنصر المؤمنين عليهم، وكأن قوله: (يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) إنما نزل بمكة، وعد للذين آمنوا هنالك النصر والدفع عنهم في حال قلتهم وضعفهم وكثرة أُولَئِكَ الكفرة وقوتهم، وهنالك كانوا كذلك - أعني: بمكة - قليلا ضعفاء، ويكون نزول قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) بالمدينة؛ لأنه هنالك كان أهل الخيانة؛ لأنهم كانوا أهل كتاب اؤتمنوا على رسالة مُحَمَّد وأشياء فخانوها وكتموها، ولم يكن يومئذ أحد بمكة منهم، إنما كانوا جميعًا أهل شرك، فيشبه أن يكون ما ذكرنا. أو يكون قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) بإزاء ما قالت اليهود: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، فأخبر أنه لا يحب كل خوان كفور على ما يقولون، بل يبغضهم،

(39)

وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أنه ينصرهم ويدفع عنهم أذاهم وشر وأنهم خونة، فكان على ما أخبر؛ فدل أنه عرف باللَّه ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) قال بعض أهل التأويل: إن المشركين كانوا لا يزالون يؤذون أصحاب رسول اللَّه ويقاتلونهم وهم لم يؤمروا بقتال بعد، فلما هاجروا إلى المدينة أمروا بقتالهم بقوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه لم يكن لهم الأمر بقتالهم، ولا الإذن حتى أمروا بذلك، وأُذنوا، فقال أُولَئِكَ: لم تؤمروا بقتالنا، فيكف تقاتلوننا؟ فأخبر: أنهم أذنوا وأمروا بالقتال معهم، والله أعلم بذلك. وظاهره: أنه كان هنالك منع عن القتال حتى أذنوا وأمروا، ولكن لا ندري لأية جهة كان ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ظاهر على ما أخبر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ... (40) قال بعض أهل التأويل: أخرج الكفار أصحاب رسول اللَّه من مكة بغير حق بأن قالوا: ربنا اللَّه، وآمنوا به ووحدوه؛ لهذا أخرجوهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: على التقديم والتأخير، يقول: كأنه قال: أذن للذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق أن يقاتلوهم إلا أن يقولوا: ربنا اللَّه، فإذا قالوا ذلك يرفع عنهم القتال؛ لأن أهل مكة كانوا لا يقرون باللَّه ولا يؤمنون به، فإذا قالوا ذلك وأقروا أنه ربهم رفع عنهم القتال، وأما من يقر به ويصدقه لكنه ينكر رسالة مُحَمَّد ونبوته، فما لم يقر بها ولا يصدق بها فإن القتال لا يرفع عنهم، ومن يقر به ويصدقه بأنه رسوله إلا أنه ينكر الشرائع فإنه يقاتل حتى يقر بها ويصدق بها، فإذا أقر بها رفع عنهم القتال، وذلك كله روي في الخبر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أُمِرتُ أنْ أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا: لا إلهَ إلا اللَّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالَهم إلا بحقهَا "، وفي خبر آخر: " حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأني رسول اللَّه، فإذا قالوا ذلك عصموا مني. . . " كذا، وفي خبر آخر: " حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأني رسول اللَّه، وأقاموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ. . . " إلى آخر ما ذكر، فالأول للذين

يقرون بوحدانية اللَّه تعالى، فإذا أقروا به رفع عنهم القتال، والثاني في الذين يقرون به ولا يؤمنون بالرسالة، فإذا آمنوا بها رفع عنهم القتال، والثالث في الذين يقرون باللَّه ويؤمنون برسوله لكنهم ينكرون الشرائع، فإذا أقروا بها رفع عنهم القتال. كانوا أنواعًا ثلاثة على ما ذكرنا؛ فجاء في كل فريق ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ. . .) إلى آخر ما ذكر، وقال في آية أخرى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) وفي موضع آخر: (لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)، ونحوه. قَالَ بَعْضُهُمْ: دفع بالنبيين عن المؤمنين، ودفع بالمجاهدين عن القاعدين ما لو لم يدفع لهدمت كذا وما ذكر، أي: دفع بالأخيار عن الأشرار، وبالأخير عن الأدون، وإلا لهدمت وفسد ما ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لولا أن اللَّه يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن يصوم عمن لا يصوم، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يزكي عمن لا يزكي، وبمن يفعل الخيرات عمن لا يفعل - لفسدت الأرض، ولهدمت الصوامع، وما ذكر، وعلى ذلك روي عن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى بأهل دمشق صلاة الصبح، فقال: لو يعلم الناس ما في هذه الصلاة من الخير لحضروها. ثم قال: لولا أن اللَّه يدفع بمن يحضر المساجد عمن لا يحضرها، وبالغزاة عمن لا يغزو - لجاءهم العذاب قبلا. أو كلام نحو هذا. وقال الحسن: إن في الصوامع والبيع والكنائس من الرهبان والأحبار من يتمسك بالإسلام وشرائعه فيدفع بهم عمن لا يتمسك منهم. وقال بعضههم: لولا دفع اللَّه بأهل هذا الذين كلهم، لكان كذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: دفع بالمسلمين عن مسجدهم، وبالنصارى عن بيعتهم، وباليهود عن كنيستهم. إلى هذا ذهب أهل التأويل والمتقدمون، ولو قيل غير هذا كان أشبه وأقرب، وهو أن اللَّه خلق هذا الخلق، وجعل بعضهم عونًا لبعض وردءًا في أمر المعاش والدِّين جميعًا، وجعل لبعضهم منافع متصلة ببعض ما لو كلف كله القيام بنفسه فيه، لهلكوا ولم يكن في وسعهم القيام بذلك، نحو أن يكلف أحدًا بالقيام بجميع ما يحتاج إليه من الحراثة، والزراعة، والحصاد، والدياس، والتذرية، والطحن، والخبز، وغيره، ما لو كلف بنفسه بذلك كله لهلك، ولكن جعل بعضهم عونا لبعض وردءًا لهم، وانتفاع بعضهم ببعض، وكذلك الغزل، والنسج، والخياطة، والقطع، والغسل كله على هذا القياس ما لو كلف بنفسه القيام بذلك كله لهلكوا، ولو هلكوا هلك ما لهم خلق من السماوات والأرض

وما فيها، وما سخر لهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: دفع بما يذكر أهل المساجد في المساجد من اسم اللَّه عن أهل الصوامع والبيع والكنائس، وهو قريب مما ذكرنا من قبل. ثم اختلف فيما ذكر من الصوامع والبيع والصلوات: قَالَ بَعْضُهُمْ: الصوامع للراهبين، والبيع للنصارى، والصلوات: الكنائس التي تكون لليهود، والمساجد للمسلمين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصلوات للصابئين. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصوامع للصابئين، والبيع للنصارى، وصلوات: بيوت صلوات اليهود، والمساجد للمسلمين. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الصوامع للرهبان، والبيع للنصارى: مصلاهم، والصلوات لليهود، وهي شبه البيعة، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي: من كان من أولياء اللَّه نصره. وقال الحسن: من حكمه أن من نصر اللَّه نصره. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) يحتمل: قوي لنصر أوليائه، عزيز الانتقام من أعدائه. أو أن يكون قوله: (لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي: قوي، فيضعف كل قوي من دونه عند قواه، ويذل كل عزيز عند عزه. أو قوي لا قوي سواه، عزيز لا عزيز سواه. وفي: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ) وما ذكر - دلالة ترك هدم الكنائس والبيع وما ذكر، والنهي عن هدمها؛ لأنه ذكر الصوامع والبيع، وعلى ذلك تركت الكنائس والبيع في أمصار المسلمين لم تهدم، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، وإنَّمَا يمنعون عن إحداث البيع والكنائس في أمصار المسلمين وقراهم، وأمَّا العتيقة منها فإنهم يتركون وذلك، واللَّه أعلم.

(41)

وقوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ... (41)، إلى آخره. قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا نعت من اللَّه لأصحاب رسول اللَّه ومن تبعه، ومدح لهم بالدوام على دين اللَّه الذين قبلوه وأخذوه في حال الخوف بعد ما مكن لهم في الأرض، وآمنهم من ذلك الخوف الذي كان في الابتداء، وأخبر أنهم داموا على ذلك ولم يتركوا ما داموا عليه، بل زاد لهم حرصًا على ذلك وجهدًا، وكذلك الآية التي ذكرت في سورة النور، وهو قوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ. . .) إلى آخر الآية. فإن كان التأويل هذا فهو يرد على الروافض قولهم ومذهبهم؛ لأنهم يقولون: إنه لما ولي أبو بكو ارتدوا جميعًا، وتركوا الدِّين الذي اختاروه، فالآيتان تدلان على نقض قولهم، أنهم ارتدوا؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنه مكن لهم في الأرض، واستخلفهم، ووعد لهم الجنة، وإنما ارتد من كان إسلامه بالقهر والغلبة فإذا مكن لهم تركوا ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الآية وإن كان ظاهرها خبرا ووعدا فهي في الحقيقة أمر: أن افعلوا كذا. . . إلى آخر ما ذكر. وقوله: (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) يحتمل قوله: (عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي: ترجع إليه الأمور في الآخرة، كقوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). وجائز أن يكون قوله: (عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) أن يكون عاقبة الأمور لأوليائه من النصر والقهر على أعدائه، فالمراد بالإضافة إليه: أولياؤه، كقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) أي: إن، تنصروا أولياءه، أو تنصروا دينه، ينصركم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وقوله: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ. . .) الآية.

(44)

هذا يخرج على وجهين: أحدهما: وإن يكذبوك فيما أخبرت لهم وذكرت من التمكين، والثبوت على الدِّين، ووعدت لهم الجنة، فقد كذبت الأمم الذين من قبلك رسلهم إذا أخبروا لهم بشيء، أو وعدوا لهم بنصر، أو نحوه. وجائز أن يكون قوله: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) في الرسالة وفيما تخبر عن اللَّه من الأخبار، يصبر رسوله: لست أنت بأول رسول مكذب في الخلق، ولكن قد كذب الأقوام الذين كانوا قبلك رسلهم في الرسالة، وهو ما قال: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ. . .) الآية. وقوله: (فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) أي: لم يعاقب اللَّه قومًا كذبوا رسلهم وقت تكذيبهم الرسل، بل أمهلهم حتى اغتروا بتأخير العذاب عنهم، وزاد لهم تكذيبًا وعنادًا، فعند ذلك أخذوا، وعوقبوا بالتكذيب، وهو ما أخبر عنهم، وهو كقوله: (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ). قال الحسن: إن اللَّه لم يهلك قومًا بأول التكذيب، ولكن أمهلهم قرنًا فقرنا، وقوما بعد قوم، ورسولا بعد رسول، فعند ذلك إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون أهلكهم، وإن كان يعلم في الأزل من يؤمن منهم ومن لا يؤمن حتى يعلم علم ظهور وعلم ابتلاء أنهم لا يؤمنون، وهو كقوله: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ) علم ظهور في الخلق، وإن كان يعلم علم باطن وخفي. وقوله: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) لم يهلك اللَّه تعالى أهل قرية إهلاك استئصال وتعذيب إلا بعد عناد أهلها وظلم شرك، كقوله: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)، وكقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ)، وأمثاله كثير، على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) فإذا ذهبت السقف وبقيت الحيطان فهي خاوية على عروشها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خاوية: خربة، ساقطة حيطانها على سقوفها. وقال الحسن: العريش: كل ما ارتفع من الأرض وعلا، يقال: عرش، وعروش جمع، وهكذا كان ما أهلك اللَّه من القرى:

(46)

منها: ما أهلك أهلها وترك القرى والبنيان على حالها لأوليائها، من ذلك فرعون وقومه، وغيره من الأقوام. ومنها: ما أهلك القرى بأهلها، لم يترك منها شيئًا، من نحو قريات لوط وثمود وهَؤُلَاءِ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العرش: هي أجذام الشجر، وكأنها أسطوانة، وأصل الخاوية: خلاؤها عن الأهل، وكذلك قوله: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطلها أهلها، ليس بها أحد، لا أنها خربت على أماأ ذكرنا من إهلاك أهلها. وقوله: (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَشِيدٍ): مجصص، والشيد: الجصّ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَشِيدٍ): أي: مرتفع، والمُشَيَّد - بالتشديد -: المطول المرتفع. قَالَ الْقُتَبِيُّ: المشِيد: المبني بالشيد، وهو الجص، والمشَيَّد: المطول، ويقال: هما سواء، وهو مطول. وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ أو قريبًا، وكأنه ذكر هذا لأهل مكة لوجهين: أحدهما: أن كانت لهم قرية فيها قصور مشيدة محصنة يتحصنون بها، يخبر أن من كان قبلكم أشد قوة وأكثر حصنا وقصورا، فلما كذبوا رسلهم لم ينفعهم ذلك، ولكن نزل بهم العذاب، فعلى ذلك أنتم يا أهل مكة إذا كذبتم رسولكم ينزل بكم مثل ما نزل بأُولَئِكَ. أو أن يكونوا آمنين فيها مطمئنين، فقال: إن أُولَئِكَ قد كانوا آمنين مطمئنين في قراهم كأمنكم، ثم نزل بهم ما نزل، فأنتم دوإن كنتم آمنين فينزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً. . .) الآية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) هلا ساروا في أن ارض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها فينظروا؛ ليعرفوا ما حل بأُولَئِكَ بالتكذيب؛ فيمتنعون عنه، (أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) أي: يسيروا فيستمعوا إلى الأخبار التي فيها ذكر هلاكهم، وما نزل بهم بالتكذيب والعناد؛ لأن ما حل بالأولين إنما يعرف ذلك بأحد أمرين: إما بالمعاينة بالنظر

(47)

إليهم، وإمَّا بالسماع من الأخبار. أو أن يكون قوله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي: قد ساروا في الأرض، لكن لم تكن لهم قلوب - عقول أو أفهام - يعقلون بها ما نزل بأُولَئِكَ بالتكذيب فيعتبروا بذلك، ولا كانت لهم آذان يستمعون ما حل بهم، أي: كانت لهم عقول يعقلون بها لو نظروا حق النظر، وآذان يسمعون بها لو سمعوا حق السماع، لكنهم لما لم ينتفعوا بعقولهم وأسماعهم نفى ذلك عنهم، وهو ما قال: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ) الظاهرة، (وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وهو ما نفى عنهم السمع والبصر؛ لتركهم الانتفاع بها (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذه الآية في شأن عبد اللَّه بن زائدة ابن أم مكتوم الأعمى، معناه: أن العمى عمى القلب، ليس عمى البصر، وهو كان أعمى البصر، لا أعمى القلب، هذا معناه إن ثبت، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ (47) أي: لن يخلف اللَّه وعده الذي وعد في نزول العذاب، أي: ينزل بهم، لا يتقدم ولا يتأخر عن ميعاده. وقوله: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). قال عامة أهل التأويل - نحو ابن عَبَّاسٍ والضحاك ومجاهد وهَؤُلَاءِ -: إنها هي الأيام التي خلق اللَّه فيها الدنيا وجعلها أجلا لها، يعد كل يوم من تلك الأيام كألف سنة، وإلى هذا صرف عامة أهل التأويل، فلا نعلم لذلك وجهًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وإن يومًا عند ربك من عذابهم في الآخرة كألف سنة مما تعدون في الدنيا، اليوم الواحد ألف سنة. ووجه هذا: أن الوقت القصير القليل يجوز أن يصير مديدًا طويلا؛ لشدة العذاب والبلاء، نحو ما قيل لهم: (كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، قصر مقامهم في الدنيا؛ لشدة ما عاينوا من العذاب، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون هذا لا للتوقيت والمدة؛ إذ الآخرة مما لا غاية لانتهائها، وكل شيء

(48)

لا غاية لانتهائه، فذكر الوقت له يخرج مخرج التمثيل لا التوقيت، كقوله: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، وقال: (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)، ليس على التحديد لها والتوقيت، ولكن على ما خرج عن الأوهام ذكر ذلك ومثلها به، فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ (48) أي (أَمْلَيْتُ لَهَا) لم آخذها وقت ظلمهم (ثُمَّ أَخَذْتُهَا) من بعد (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ). وقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) هو ظاهر، قد ذكرناه في غير موضع. وقوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ (50) لذنوبهم ومعاصيهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وقَالَ بَعْضُهُمْ: سماه رزقا كريمًا؛ لأن من رزق ذلك وأعطي يكرم ويعظم قدره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سماه: كريمًا؛ لأن الكريم هو الذي يقضي عنده الحوائج والحاجات؛ فعلى ذلك هو الرزق من ناله وأصابه قضى عنده الحوائج؛ لذلك سمي: كريمًا، والله أعلم. وقوله: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) في بعض القرآن: [(مُعَاجِزِينَ)] قَالَ بَعْضُهُمْ: (مُعَجِزِينَ): مثبِّطين مبطئين، يبطئون الناس عن اتباع الشيء. والأشبه - عندنا - أن يكون قوله: (مُعَاجِزِينَ): سابقين فائتين، لكنه على الإضمار، كأنه قال: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ) على ظن منهم أنهم سابقون فائتون عن عذابه (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ). * * * قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ

(52)

مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى ... (52) أي: تلا (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) قيل: في تلاوته، وقراءته الآية. قال عامة أهل التأويل: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا تمنى - أي: تلا في صلاته - أو حدث نفسه، ألقى الشيطان على لسانه عند تلاوته بـ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) حتى إذا انتهى إلى قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى). قال: " تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى ". ويذكرون أنه أتاه على صور جبريل، فألقى عليه ما ذكروا، ثم أتاه جبريل فأخبره النبي بذلك، فقال له: إنه لم ينزل عليه قط شيئًا مثله. وأمثال ما قالوا. لكنه لو كان ما ذكر هَؤُلَاءِ كيف عرفه في المرة الثانية أنه جبريل، وأنه ليس بشيطان، ولا يؤمن أنه يلبس عليه في وقت آخر في أمثاله. وقال قتادة: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يتمنى أن يذكر اللَّه آلهتهم بعيب، فلما قرأ تلك الآية (وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)، قال: " إنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى عندهم "، يعني به: عند أُولَئِكَ الكفرة، وهم على ذلك كانوا يعبدونها. وقال الحسن: إنه أراد بقوله: " تلك الغرانيق العلا وإن، شفاعتهن لترتجى " الملائكة؛ لأنهم كانوا يعبدون الملائكة؛ رجاء أن يشفعوا لهم يوم القيامة، فأخبر أن شفاعة الملائكة ترتجى. وهذان التأويلان أشبه من الأول. والأشبه - عندنا -: أن يكون على غير هذا الذي قالوا، وهو أن قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي: عند تلاوته القرآن في قلوب الكفرة ما يجادلون به رسول اللَّه ويحاجونه؛ فيشبهون بذلك على الأتباع ليتبعوهم، وهو نحو قولهم: إنه يحرم ما ذبحه اللَّه، ويحل ما ذبح هو بنفسه. ونحو قولهم عند نزول

قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) فقالوا: إن عيسى وعزيرًا والملائكة عُبِدوا دون اللَّه فهم حصب جهنم إذن، ونحو صرفهم قوله: (الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)، إلى حساب الجُمَّل، وأمثال هذا مما حاجوا رسول اللَّه وجادلوه به، فأخبر أنه ينسخ مجادلتهم ومحاجتهم رسوله، وأنه يُحكم آياته، حيث قال عند قولهم: إنه يحل ذبح نفسه ويحرم ذبح اللَّه، فبين أنه بم حرم هذا؟ وبم حل الآخر؟ وهو قوله: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)، ولكن كلوا مِمَّا ذكر اسم اللَّه عليه. فبيّن أنه إنما حلَّ هذا بذكر اسم اللَّه عليه، وحرم الآخر بترك ذكر اسم اللَّه عليه. وبين في قولهم: إن عيسى عبد دون اللَّه والملائكة عبدوا دونه، فهم ليسوا بحصب جهنم، حيث استثنى أُولَئِكَ فقال: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى. . . الآية. وأبطل مجادلتهم ومحاجتهم، بصرفهم الآية إلى حساب الجُمَّل بقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ. . .) الآية، فهذا - واللَّه أعلم - تأويل قوله -: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ) نسخ ما ألقى الشيطان في قلوب أُولَئِكَ الكفرة ما به جادلوه، وأحكم آياته بما ذكرنا. ثم إن ثبت ما ذكر ابن عَبَّاسٍ وعامة من ذكرنا، حيث قالوا: جرى على لسانه ذلك، فجائز عندنا جرى الخطأ على لسان من عصم إذا عرف السامع منه مذهبه ودينه الذي يدين به، عرف أن ما جري غلطا وخطأ، نحو من يعتقد مذهبًا وينتحل نحلة، فجرى على لسانه خلاف ما يعرف منه الاعتقاد، يعرف أنه جرى على لسانه غلطًا، فعلى ذلك الذي ذكره أهل التأويل؛ إن ثبت ما ذكروا عنه أنه قال ذلك. والأشبه فيه ما ذكرنا من إلقاء الشيطان في قلوب الكفرة ما يجادلون به رسول الله ويحاجونه، كقوله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ. . .) الآية. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (إِلَّا إِذَا تَمَنَّى) أي: تلا القرآن (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي: في تلاوته. وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ، وقال: أمانِيَّ مشددة جمع. وقال غيرهما: إذا تمنى: إذا حدث، وفي أمنيته: في حديثه.

(53)

قَالَ بَعْضُهُمْ: تمنى وأمنيته: هو من تمني النفس، كقوله: (وَلَا تَتَمَنَّوْا. . .) الآية، ونحوه وهو قول الحسن: تمنى كبعض ما تمنى الناس من الدنيا. وقال قتادة: تمنى ما ذكرنا من تمني النفس أن يذكر آلهتهم التي كانت تدعى وترجى شفاعتهن، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) هذا تأويل القوم: ليجعل ما يُلقي الشيطان في قلوب أُولَئِكَ الكفرة فتنة للذين ذكر؛ لما ظنوا لعله لا يقدر الإجابة لهم، أو لا يحضره ما يجيبهم؛ فيكون ذلك فتنة لهم، واللَّه أعلم. وقوله: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كأنهم هم المنافقون؛ لأنهم هم الموصوفون المسمون بهذا الاسم، كقوله: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا). وقوله: (وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) كأنهم هم الرؤساء المكابرون المعاندون لرسول الله والكفرة كلهم موصوفون بقساوة قلوبهم، كقوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). وقوله: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) يحتمل: أي: لفي عناد وفي مكابرة بعيد عن الإجابة له، أو بعيد لاستماع الحق وقبوله. وقيل: شقاق: أي: خلاف بعيد، أي: لا يرجعون إلى الوفاق أبدًا. وقوله: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ (54) وقوله: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) هذه الآية كالآيات التي ذكرناها فيما تقدم، من ذلك قوله (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. . .) الآية. ونحوها من الآيات التي وصفت أهل التوحيد بالقبول لها والخضوع والإقبال إليها ووصفت أهل الكفر بالرد والتكذيب، فعلى ذلك قوله: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) علم الذين أوتوا العلم أن القرآن ومحمدًا لحق من ربك؛ لأنهم نظروا إليه بالتعظيم والتبجيل والخضوع له، فأقروا به، فزاد لهم بذلك هدى ورحمة وشفاء، وأُولَئِكَ نظروا إليه بالاستخفاف والاستهزاء والتكذيب، فزاد لهم بذلك رجسًا وضلالا وفسادا. وقوله: (عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو يوم بدر.

(56)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو عذاب يوم القيامة وهو شديد. وجائز أنه سمَّاه عقيمًا؛ لأنه لا يرجى النجاة منه، وكذلك سميت المرأة التي لا تلد: عقيمًا؛ لما لا يرجى منها الوليد. وقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) قال الحسن: الملك في الأحوال كلها لله في الدُّنيَا والآخرة، لكن تأويل قوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) أي: الحكم يومئذ لله، هو يحكم بينهم دون الخلائق؛ لأن في الدُّنيَا من قد حكم غيره، فأما يومئذ فالحكم له. وعندنا: تخصيص الحكم يومئذ له بالذكر وإن كان الملك في الأيام كلها لله؛ لأنهم جميعًا يقرون له بالملك يومئذ، لا أحد ينازع، وفي الدنيا من قد ادعى الملك لنفسه، وهو ما ذكره في قوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا)، (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)، ونحوه، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) ظاهر تأويله. وقوله: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) أما أهل التأويل فإنهم صرفوا تأويل الآية إلى الغزاة والمجاهدين في سبيل اللَّه فقتلوا أو ماتوا حتف أنفهم، فإن لهم ما ذكر من الرزق الحسن والمدخل المرضي، وظاهره أن يكون في الذين هاجروا إلى رسول اللَّه، فإن كان فيهم ففيه دلالة نقض قول الروافض، حيث قالوا: ارتد عامتهم، حيث شهد اللَّه لهم بالجنة، والرزق الحسن، والمدخل المرضي، قتلوا أو ماتوا حتف أنفهم؛ فلا يحتمل أن يكون منهم ما قالوا. قَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)، أي: تخضع وتذل، وهو ما ذكرنا في قوله: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ). وقال: (عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) كأنه عقم عن أن يكون فيه خيرا وفرجًا للكافر. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ): شديد، وهو ما ذكرنا. وقوله: (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا) قيل: هو الجنة؛ لأنه إنما ذكر بعد الموت والقتل؛ فلا يكون رزق حسن إلا في الجنة يستحسنها كل طبع وعقل.

(59)

وقوله: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أخبر أنه خير الرازقين وإن لم يكن رازق سواه؛ لأنهم كانوا يطمعون ويطلبون الرزق والسعة من عند من سواه، حيث كانوا يعبدون من دونه طمعًا في السعة، فأخبر أنه هو الرزاق، ومنه يطمع الرزق والسّعة؛ لأنه هو المالك لذلك، وهو ما قال: (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، وإن لم يكن خالق سواه. وقوله: (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) وهو الجنة أيضًا، يرضى بها كل طبع وعقل، (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) عليم بما صنع بأوليائه أعداؤه، أو ما صنع هو بأوليائه، (حَلِيمٌ) حيث أخر الانتقام من أعدائه، لم ينتقم منهم وقت صنيعهم به، صنعوا بأوليائه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) وقوله: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ) قد ذكرنا فيما تقدم أنه جائز في اللغة ذكر حرف (ذلك) وحرف (هذا) على الابتداء وإن كان مما يخبر به عن غائب، نحو قوله: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ)، وقوله: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) يستقيم ذكره بدون ذكر (هَذَا) وهو أن يقول: وإن للمتقين كذا، وإنّ للطاغين كذا، فعلى ذلك هذا. أو أن يكون ذكر ذلك صلة ما سبق من ذكر الأنباء والأخبار، يقول: ذلك الذي ذكرت لك وأنبأتك: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ). ثم اختلف في سبب نزول هذه الآية: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي في القصاص: أن من قتل ولي آخر فاقتص منه، ثم أن المقتص منه بغى على ولي المقتول فقتله، لينصرنه على من بغى عليه، وهو ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)، ثم قال: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ. . .) كذا، لكن ذكر هاهنا الاعتداء بعد ما أخذ المال وعفا، وفي الأول ذكر البغي بعد القصاص، وهو واحد في معناه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزل في المؤمنين والمشركين، وذلك أن المشركين عاقبوا المؤمنين بعقوبات واعتدوا عليهم، ثم إن المسلمين ظفروا بهم، فعاقبوهم جزاء عقوبتهم، ثم إن

(61)

المشركين بغوا على المؤمنين، فوعد اللَّه لهم النصر عليهم بعد البغي. وقَالَ بَعْضُهُمْ قريبًا من هذا، وهو أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول اللَّه ومن آمن منهم، ويعاقبونهم في أشهر الحج، ولم يكن للمؤمنين إذن بقتالهم في ذلك الوقت، فقاتلوهم مكافأة لهم، فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ووعد لهم النصر إذا بغى أُولَئِكَ عليهم من بعد؛ فعلى هذا التأويل يكون وعد النصر لهم إذا بغى أُولَئِكَ عليهم من بعد، وعلى التأويل الأول يكون لهم الوعد بالنصر بعد ما بغى أُولَئِكَ على هَؤُلَاءِ، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) للمؤمنين بقتالهم أُولَئِكَ في أشهر الحج، حيث كان لم يأذن لهم بالقتال. أو (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إذا تابوا ورجعوا عما فعلوا، واللَّه أعلم. وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) قد ذكرنا أن حرف (ذَلِكَ) يستقيم ذكره على الابتداء والائتناف على غير صلة. وجائز أن يكون صلة قوله: (لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ)، أي: ذلك النصر لمن ذكر؛ لأن من قدر على إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل - قادر على ما وعد من النصر لهم. وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (سَمِيعٌ)، لأقوالهم، (بَصِيرٌ) بحوائجهم، والسميع، يقال: هو المجيب، أي: مجيب لدعائهم، (بَصِيرٌ) بما يكون من الأعداء. أو أن يكون على الابتداء في كل أمر، وكذلك: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ (62) ما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ) أي: هو الذي يفعل هذا. وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) قال الحسن: الحق: هو اسم من أسماء اللَّه، به يعطي وبه يحكم بين الخلق، وبه يقضي، ونحوه. وجائز أن يكون قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أي: عنده يتحقق ما يطمع في العبادة ويطلب؛ إذ هو المالك لذلك. وقوله: (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) أي: ما تطمعون بعبادة من دونه باطل، وهو الأصنام التي عبدوها رجاء الشفاعة، أو طمعا في السعة، فأخبر أنها لا تملك ذلك، وإنما ذلك لله. وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي: من عنده يطلب العلو، ومن عنده يطلب ويطمع الرزق، والسعة، والشفاعة، والنصر، والظفر، والإجابة، لا من عند هَؤُلَاءِ

(63)

الأصنام التي يعبدونها، يذكر سفههم بعبادتهم الأصنام من دون اللَّه. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) وقوله: (أَلَمْ تَرَ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَلَمْ تَرَ) إنما هو حرف تعجيب، يعجب رسول اللَّه جميع ما يفعل من أفعاله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَلَمْ تَرَ) هو حرف إيضاح الحجج وإنارة براهينه، كقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، ونحوه. وأصله: أن ظاهره وإن كان استفهامًا فهو في الحقيقة تحقيق وإيجاب (أَلَمْ تَرَ) أي: قد رأيت، وقد أخبرت، وهكذا جميع ما خرج الظاهر في الكتاب مخرج الاستفهام فهو في الحقيقة إيجاب وإلزام. ثم في قوله: (أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) وجهان من الاستدلال على منكري البعث: أحدهما: يخبر عن قدرته وسلطانه: أن من قدر على إنزال الماء من السماء، وشق الأرض، وإخراج النبات منها مع لينه وضعفه وصلابة الأرض وشدتها - قادر على إحياء الخلق بعد الموت، ولا يحتمل أن يعجزه شيء. والثاني: حيث قدر على إحياء الأرض بعد مواتها ويبسها، لقادر على البعث والإحياء، وقد عرفوا أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه، أو يقدر على الإعادة من لا يملك على الابتداء إذا عرف الابتداء. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) قال الحسن: اللطيف في الشاهد إنما يقال على وجوه ثلاثة: أحدها: أنه يقال للشيء: لطيف؛ لرقته، وذلك عن اللَّه منفي. والثاني: يقال: لطيف؛ لما يتأتى له الأشياء ولا يصعب عليه. والثالث: اللطيف: هو الرَّحيم الرءوف. وهذان الوجهان يضافان إلى اللَّه، والأول لا يجوز إضافته إليه. (خَبِيرٌ): عليم.

(64)

وقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) ويخبر أن له ما في السماوات وما في الأرض، وأنهم عبيده وإماؤه، وأنه لم يخلقهم لحاجة نفسه، ولكن إنما خلقهم لحاجة أنفسهم، حيث أخبر أنه الغني بذاته. والثاني: يخبر أنه لم يأمرهم، ولم ينههم، ولا امتحنهم لمنافع تكون له، ولكن لمنافع الممتحنين (الْحَمِيدُ) هو المحمود في فعاله، أو (الْحَمِيدُ): الحامد. وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) يذكرهم نعمه ليتأدى به شكره؛ لأنه أخبر أنه سخر لهم ما في الأرض من أنواع المنافع؛ ليعلموا أنه لم يخلقهم عبثًا ليتركهم سدى؛ لأن من كان خلقه لما ذكر لم يكن خلقه - ليكون خلقًا - متروكا سدى، ويخبر أنه أعطى لهم الأسباب التي بها يصلون إلى منافع الأرض مع شدتها وصلابتها، والأسباب التي بها يصلون إلى منافع البحر، وهي الفلك التي خلقها لهم؛ ليصلوا بها إلى منافع البحر، حيث خلق الخشب قارًّا على وجه الماء غير متسرب، وغيره من الأشياء من طبعها التسفل والتسرب في الماء من الحديد، والحجر، ونحوهما من الأشياء؛ ليعرفوا فضله ورحمته أن كيف ثبت وقر هذا على وجه الماء، ولم يثبت الحديد والحجر ونحوه، ثم ثبت الحديد على وجه الماء مع الخشب؛ إذ السفن لا تخلو عن الحديد، وبه تقوم السفن، ثم لم يتسرب، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي: يمسك السماء لا بالأسباب ولا بالأشياء التي تمسك الأشياء في الشاهد، وهو ما قال: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا. . .) الآية. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) أي: من رأفته ورحمته ما خلق لهم وسخر ما ذكر. وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ... (66) هذا قد ذكرناه. وقوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ) جائز أن يكون قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ)، أي: الكافر (لَكَفُورٌ) للبعث أي: جاحد له، والكفور لربّه في نعمه التي أنعمها عليهم، حيث ذكر أنه سخرها لهم في قوله: (سَخَرَ لَكُمْ. . .) كذا؛ لأنه ينظر في النعم إلى أسبابه والحيل التي يحتال لا إلى فضل ربه وإفضاله في تلك النعم؛ لذلك صار كفورًا لربه في نعمه. وأمَّا المؤمن فإنّه ليس ينظر إلى الأسباب والحيل فيها، ولكن ينظر إلى فضل الله وإفضاله وإنعامه عليه فيها؛ فيكون شكورًا له فيها غير كفور، والكافر ينظر إلى ما ذكرت؛ لذلك كان ما ذكر.

(67)

وهذا على المعتزلة في قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ)؛ لأنه يقول: هو الذي سخر الفلك، وهم يقولون: لم يسخر الفلك، ولكن إنما سخر الخشب الذي منه تتخذ الفلك؛ لأنهم لا يرون لله في فعل العباد تدبيرًا ولا صنعًا، وهم يكفرون نعمة ربهم فيما ذكر من تسخير الفلك لنا، وهم داخلون في ظاهر هذه الآية على الوجه الذي ذكرنا. * * * قوله تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وقوله: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا). اختلف في المنسك: قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَنْسَكًا)، أي: جعلنا لكل أمة دينا يدعون إليه، أي: كل أمة تُدْعى إلى دين واحد وهو دين الإسلام، وهو قول الحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا)، أي: شريعة، فهذا على الاختلاف، أي: جعلنا لكل أمة شريعة على حد). (هُمْ نَاسِكُوهُ) ذلك كقوله: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا). وقال عامة أهل التأويل: (مَنْسَكًا): أي ذبائح وعيدًا، قالوا: ذكر هذا - والله أعلم - لأن من الناس من ينكر أن يكون الذبح شريعة اللَّه، فأخبر أن الذبح سنة الله وشريعته في الأمم كلها، ليس على ما قالت الثنوية. وقوله: (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) على تأويل من يقول: إن المنسك هو الدِّين، أي: لا يخالجنك في نفسك أن الذي أنت عليه هو دين اللَّه وادعُ الناس إليه. وعلى تأويل من يقول: هو الذبح، يقول: (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ)، أي: لا يصدّنك عن الذبح من ينكر ذلك، كقوله: (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ). (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ) أي: ادع إلى توحيد ربك. أو أن يكون قوله: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ): إلى عبادة ربك، وانْهَهُم عن عبادة من دونه. وقوله: (إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ) هذا يدل أن التأويل الذي ذكرنا في المنسك - وهو

(68)

الدِّين - أشبه وأقرب؛ لأنه ذكر (إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ) فلا يتخالجن في نفسك شك في ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنْ جَادَلُوكَ ... (68) في أمر الذبيحة، أو في الدِّين، وقد جادلوه في الذين كثيرا، لكن قال ذلك - واللَّه أعلم - عند إياسه عن توحيدهم وإسلامهم، يقول - واللَّه أعلم -: (وَإِنْ جَادَلُوكَ) في الدِّين والتوحيد فقل: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وهو كقوله: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، فعلى ذلك قوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) من الذين. قال بعض أهل التأويل: هذه الآية منسوخة، نسختها آية القتال؛ لأن فيها حظرًا عن القتال، والترك على ما هم عليه، وتسليم الأمر إلى اللَّه يحكم بينهم يوم القيامة. لكن جائز ما ذكرنا أنه إنما قال ذلك عند الإياس منهم عن توحيدهم. وقوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (70) قد ذكرنا في غير موضع أن حرف (أَلَمْ) حرف يتوجه إلى وجوه: إلى التعجب مرة، وإلى التنبيه والإيقاظ ثانيًا، وإلى إيضاح الحجج والبراهين ثالثًا. وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). وقوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) حججا وبراهين، (وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) يخبر عن سفههم أنهم يعبدون غير اللَّه ولا سلطان ولا حجة لهم، ولا لهم بذلك علم؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون برسول يخبرهم، ولا كان لهم كتاب فيعلمون به، فيقول: إنهم يقولون: اللَّه أمرهم بذلك، ولا حجة لهم في ذلك ولا علم. وفيه أنه إنما بعث الرسل إليهم على علم منهم أنهم يكذبون الرسل؛ لأن من الناس من ينكر بعث الرسل إلى من يعلم أنه يكذبهم ويترك إجابتهم كمن لا يبعث في الشاهد رسولا إلى من يعلم أنه يكذبه ولا يجيبه، فعلى ذلك يقولون: لا يجوز أن يكون اللَّه يبعث الرسول إلى من يعلم أنه يكذبه ولا يجيبه، لكن اللَّه أخبر أنه على علم منهم بالتكذيب وترك الإجابة منهم، حيث قال: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). وأما قولهم: إن من علم في الشاهد تكذيب المرسل إليه رسوله فإنه لا يبعثه إليه؛ لأن المرسل إنما يبعثه لحاجة نفسه ومنافعه، فإذا علم منه تكذيبه وترك الإجابة لم يبعثه، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - إنما يرسل الرسول لحاجة المرسل إليه ومنافعه، لا لحاجة نفسه ومنفعته، فلا ضرر يلحقه في تكذيبه وجحوده، فجائز أرسله على علم منه بالتكذيب. وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن ذلك العلم في الكتاب الذي عنده.

(71)

(إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) يقول: حفظه يسير على اللَّه بغير كتاب، لا يصعب عليه حفظ شيء؛ لأنه عالم بذاته، لا بسبب ولا تعليم، وإنَّمَا يصعب حفظه على من كان علمه بالشيء بسبب وتعليم. وقوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) فيه دلالة رد قول القدرية، حيث قالوا: يكذب من كذب الرسل لا بإرادة اللَّه، فذكر أنه على علم منه ذلك منهم، وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " سيكُون في آخر الزمَانِ ناسٌ من أمتي يُكذبون بالقدَرِ سَيكفيكم من الرد عليهم أن تقولوا: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ". وتأويل هذا - واللَّه أعلم -: أن يُسألوا، فيقال لهم: أراد اللَّه أن يصدق خبره الذي أخبر أو يكذب؟ فإن قالوا: أراد أن يصدق في خبره، لزمهم أن يقولوا: أراد جميع ما كان منهم. وإ قالوا: أراد أن يكذب خبره، فيكون كفرًا محضًا. * * * قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) وقوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) هو ما ذكرنا أنه يسفههم بعبادتهم دون اللَّه بلا حجة، ولا برهان، ولا علم، وتركهم عبادة اللَّه مع الحجج، والبراهين، والعلم أنه إله، وأنه ربهم مستوجب للعبادة. وقوله: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ينصرهم ويمنعهم من عذاب اللَّه، ففيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنه إنما قال ذلك للرؤساء منهم والقادة فلم يتهيأ لهم نصرة شيء، ولا رد ما قال بشيء دل أنه باللَّه كان ذلك، واللَّه أعلم.

(72)

وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ... (72) يحتمل الآيات: الحجج والبراهين، ويحتمل: القرآن المنزل عليه. (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ): الإنكار، آثروا العناد، والرد لآياته، والكراهية والبغض له. قوله تعالى: (يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) يخبر عن سفههم وشدة تعنتهم وعتوهم عند تلاوة الآيات عليهم، وإقامة الحجج عليهم، حيث قال: (يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ) (يَسْطُونَ)، قيل: يأخذون أخذا، وقيل: يبطشون بطشًا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (يَسْطُونَ)، أي: يتناولونهم بالمكروه من الشتم والضرب. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يَكَادُونَ يَسْطُونَ) أي: يقعون بهم، يقال: سطا يسطو سطوة، ورجل ذو سطوة وبطشة، أي: ذو قوة وقدرة، قال: ويقال: سطوت بفلان، أي: أخذته أخذا شديدًا، أو بطشت به كذلك. ثم قال: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ) ظاهر الآية ليس بجواب لما تقدم، ولا صلته، وليس على الابتداء، ولكن على نازلة وأمر كان منهم، لم يذكر لنا ذلك. فأما ابن عَبَّاسٍ وغيره من أهل التأويل قالوا: إنما أنزلت جوابا لما قالوا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولأصحابه، حيث قالوا: ما نعلم قوما أشقى منكم حيث رأوهم قد حظر الدنيا عليهم، لم يعطوا من الدنيا شيئًا، فنزل جوابًا لهم: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو جواب قوله: (يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ) (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ)؛ كقوله: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. . .) الآية. وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ... (73) قد ذكر معنى ضرب الأمثال والحاجة إليها، وذلك أن العقول يجوز أن يعترض ما يستر عليها سبيل الحق وإلا لم يجز ألا تدرك العقول لما جعلت العقول له من درك الحق، لكن يمنع عن درك الحق وسبيله ما ذكرنا من اعتراض السواتر والحجب فيستكشف ذلك بما ذكرنا من الأمثال، ثم في هذا المثل وجهان: أحدهما: يخبر عن تسفيه أحلامهم في عبادتهم من لا يقدر على خلق أضعف خلق،

وهو ما ذكر: (لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) وتركهم عبادة من هو خالقهم وخالق جميع الخلائق. والثاني: يخبر عن قطع ما يأملون ويطمعون من عبادتهم الأصنام، حيث قال: (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) ويتركون عبادة من يؤمل منه ويطمع كل خير، والله أعلم. وقوله: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أجيبوا له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: استمعوا استماع من نظر وتأمل الحق ويقبله، إذا أظهر الاستماع من لا ينظر إلى الحق، ومعناه: إذا أظهر له الاستماع من لا ينظر إلى الحق ولا يقبله، والله أعلم. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (تَدْعُونَ)، أي: تعبدون من دون اللَّه، وقال: (تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) على الدعاء، أي: تسمونهم: آلهة من دون اللَّه، وقد كان منهم الأمران جميعًا: العبادة للأصنام من دون اللَّه، وتسميتهم إياها: آلهة من دون اللَّه. وقوله: (لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) فيه ما ذكرنا من الوجهين: من تسفيه أحلامهم في عبادتهم من لا يملك خلق أضعف خلق اللَّه، وعجزهم عما يأملون من النفع، وعن دفع من يروم بهم الضرر وسلب ما ذكر منهم. ثم اختلف في قوله: (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (الطَّالِبُ): الصنم، (وَالْمَطْلُوبُ): هو الذباب، لكن على التأويل يضمر فيه: (لو)، أي: ضعف الصنم لو كان طالبا. قَالَ بَعْضُهُمْ: (الطَّالِبُ) هو الذباب، (وَالْمَطْلُوبُ): هو الصنم. فَإِنْ قِيلَ: وصفهما جميعًا بالضعف: الذباب والصنم جميعا، على تأويلهم - أعني: هَؤُلَاءِ - فالصنم ضعيف، عاجز، على ما وصف، وأمّا الذباب فهو ليس بضعيف؛ لأنه غلب ذلك الصنم إن كان طالبا أو مطلوبا، فكيف وصفه بالضعف، وهو الغالب عليه في الحالين؛ لكنه كأنه رجع قوله: (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) إلى العابد والمعبود، كأنه قال: ضعف العابد عمّا يأمل ويطمع من عبادته إياه، وضعف المعبود عن إيفاء ما يؤمل ويطمع منه، فهذا كأنه أشبه وأقرب إلى التأويل من الأول، واللَّه أعلم.

(74)

وقوله: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (74) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي: ما عرفوا اللَّه حق معرفته، قالوا له بالشريك والولد والصاحبة، وما قالوا فيه مما لا يليق به؛ لأنهم لو عرفوه حق معرفته، لم ينسبوا إليه، ولا وصفوه، وعرفوا بذاته وتعاليه عن ذلك، لكن حيث لم يعرفوه حق معرفته شبهوه بواحد من خلقه، على ما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي: ما عظموا اللَّه حق عظمته، حيث صرفوا العبادة والشكر إلى غيره؛ إذ لو عظموه حق تعظيمه، ما صرفوا عبادتهم وشكرهم إلى غير الذي أنعم عليهم، وما أشركوا غيره في ذلك، على علم منهم أنه إنما وصلت إليهم تلك النعم من اللَّه، لا ممن عبدوه، وباللَّه العصمة والصواب. ثم يكون تعظيمه ومعرفته على الحقيقة بتعظيم أموره، وقبولها، والقيام بها، لا في قوله: يا عظيم، يا كبير، ونحوه، ولكن على ما ذكرت من تعظيم أموره، وقيامه بها، وكذلك المحبة لله إنما تكون في القيام بأموره وإقباله نحوها، والانتهاء عن مناهيه، لا في قوله: أنا حبيبك، أو تصوير شيء في قلبه، ولكن على ما ذكرت، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) يحتمل قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) لنصر أوليائه، وجعل العاقبة لهم (عَزِيزٌ) أي: منتقم من أعدائه. أو يقول: (لَقَوِيٌّ)؛ لأنه تضعف جميع القوى عند قوته (عَزِيزٌ): يذل جميع الأعزة عند عزته. أو يقول: (لَقَوِيٌّ)؛ لأنه به يقوى من قوي، ومنه يستفيد ذلك (عَزِيزٌ)؛ لأنه به يعز من عز به، ومنه كان ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يحتمل قوله: (يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا)، أي: اختار رسلا من الملائكة في بعض ما امتحنهم به من أنواع العبادات له والطاعات، بعث منهم إليهم رسلا بتبليغ ذلك على ما اختار من الناس رسلا إليهم فيما امتحنهم. ويحتمل: اصطفى رسلا من الملائكة إلى الرسل من الإنس، أي: اختار منهم - أعني: من الناس - رسلا من الإنس، واللَّه أعلم، كقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) جائز أن يكون قوله: (بَصِيرٌ) لمن يصلح للرسالة

(76)

ومن لا يصلح، وبصير لمن اختار لها ومن لم يختر، سميع لما يتلقى المرسل إليه الرسول من الإجابة والقبول، والرد والتكذيب، وأنه على علم منه بالرد والتكذيب أرسل أرسله. وفيه دلالة أنه إنما اصطفاهم للرسالة، لا بشيء يستوجبون منه ذلك ولكن إفضالا منه. قوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ... (76) أي: يعلم ما كان قبل أن يخلقهم (وَمَا خَلْفَهُمْ): بعدما خلقهم. وقال الحسن: يعلم بأوائل أمورهم وبأواخرها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ): من الدنيا، (وَمَا خَلْفَهُمْ): من الآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ): من الآخرة، (وَمَا خَلْفَهُمْ): من الدنيا. وجائز أن يكون قوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ): ما عملوا بأنفسهم في حياتهم (وَمَا خَلْفَهُم) ما سنوا لغيرهم من بعدهم، كقوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ما عملوا هم، وما أخرت: ما سنوا لغيرهم من بعدهم. وجائز أن يكون لا على حقيقة بين الأيدي ولا خلف، ولكن معناه: لا يخفى عليه شيء من أفعالهم وأقوالهم. (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) قد ذكرنا معناه فيما تقدم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ). في الآية دلالة أن الإيمان هو شيء خاص وشيء واحد، لا اسم جميع الخيرات، وهو التصديق؛ لأنه أثبت لهم اسم الإيمان، ثم أمرهم بالركوع والسجود وفعل الخيرات؛ لأن جميع المخاطبين بهذه الآية عرفوا من خوطب بها، فلو كان اسما لجميع الخيرات لكان لا يعرف المخاطب بها؛ لأنه لا يقدر أحد على جميع الخيرات؛ فدل أنه شيء معروف خاص مما يرجع صاحبه إلى حد المعرفة، حيث عرفه المخاطب به، واللَّه أعلم. ثم يحتمل قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) وجوهًا: أحدها: أن اجعلوا ركوعكم وسجودكم وعبادتكم عبادة اللَّه لا ثشركوا فيها غيره على

(78)

ما أشرك أهل مكة وغيرهم من الكفار في عبادتهم غيره، وهي الأصنام التي عبدوها. والثاني: اعبدوا ربكم بالأسباب والأشياء التي عرفكم أنها عبادة، وكذلك افعلوا الخيرات التي عرفكم أنها خيرات. والثالث: أن اجعلوا أحوالكم التي أنتم عليها من قيام وقعود، وحركة وسكون، عبادة لله تعالى، واجعلوا تقلبكم أيضا للمعاش الذي أبيح لكم وأذن فيه عبادة، فالأول هو عبادة بنفسه التي جعلها اللَّه نصًّا، والثاني هو الذي يصير عبادة بالنية والقصد؛ فيكون في جميع أحواله مؤدي عبادة، وهكذا الواجب على المرء أن يكون في جميع ما يؤذي من الصلاة والصيام وغيره مؤدي فرض، وهو أن يؤدي جميع ذلك بنية الشكر لنعمه، وتكفيرًا لمعاصيه، وكلاهما لازمان واجبان، فإن فعل ذلك كان مؤدي لازم، واللَّه أعلم. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ظاهره خرج على الترجي، وفي الحقيقة على الوجوب، على ما ذكرنا فيما تقدم. وقوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ... (78) ليس لحق اللَّه غاية يوصل إليها، وكذلك قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)؛ لأنه لو كان لحقه غاية لكان الرسل والملائكة يقومون بوفاء ذلك ويتوهم منهم المجاوزة عن ذلك؛ إذ كل ذي حد وغاية يتوهم المجاوزة فيه، فإن لم يحتمل المجاوزة دل أن حقه ليس بذي حد وغاية، ويكون تأويل قوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) و (حَقَّ تُقَاتِهِ)، حقه الذي احتمل وسعكم وبنيتكم وطاقتكم، كقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، فيكون هذا تفسيرًا لقوله: (حَقَّ تُقَاتِهِ) و (حَقَّ جِهَادِهِ). ثم يحتمل قوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ) أي: جاهدوا أنفسكم في شهوتها وأمانيها. أو جاهدوا أعداء اللَّه في دفع الوسواس والمحاربة معهم. وقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) يحتمل وجهين: أحدهما: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) للإيمان والهدى والتوحيد. أو (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) جنسًا من أفضل الأجناس وأكرمهم من بين سائر الأجناس، كقوله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ). وقال عامة أهل التأويل في قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) أي: وحدّوا ربكم، جعلوا كل عبادة مذكورة في الكتاب توحيدا؛ فيكون ذكر العبادة هاهنا كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ)، كأنه قال: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا وحدوا ربكم. ثم اختلف في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا): قَالَ بَعْضُهُمْ: فيه وجوب سجدة التلاوة على ذلك، وهي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

أنه قال: " فضلت سورة الحج بسجدتين على غيرها من السور، فمن لم يسجدهما فلا يقرأها ". وكذلك روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قرأها فسجد فيها مرتين، ثم قال ما ذكرناه. وتأويله - عندنا - أن قوله: " فضلت بسجدتين " التي هي من صلب الصلاة، وسجدة التلاوة في أول السورة، فمن لم يسجدهما فلا يقرأها، وأصله في وجوب سجدة التلاوة: أن كل سجود ذكر في القرآن للخضوع فهو واجب للتلاوة، لازم له، وكل سجود كان الأمر به لحق سجود الصلاة فإنه لا يلزمه السجدة للتلاوة، فالأمر بالسجود في قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أمر بسجود الصلاة لا غير لم يلزم تاليه السجود بالتلاوة، والله أعلم. وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) يحتمل تأويله وجوهًا: أحدها: أن عليهم معرفة وحدانية اللَّه، وألوهيته، وتعاليه عن الأشباه والشركاء، وعليهم معرفة نعمه، والقيام بشكرها له، والخضوع له في كل وقت، وإن لم يبعث الرسل، لكنه بفضله ورحمته بعث إليهم الرسل ليكون أيسر عليهم معرفة ذلك وأهون، والقيام بأداء ذلك أخف؛ لأن معرفة الأشياء بالسماع من لسان الصدوق والعدل أيسر، والإدراك أهون من معرفتها بالنظر والتفكر، وهو ما قال: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)، أخبر أنه لولا فضله ورحمته في بعث الرسل، لاتبعوا الشيطان إلا قليلا، والقليل الذين استثناهم: الذين يتفكرون وينظرون فيعرفون بالتفكر والنظر، وذلك لا يعرف إلا بجهد وتكلف، فعلى ذلك قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ولكن بعث إليكم الرسل ليكون أوضح لسبيل الحق ومعرفته، وإن كان له ألا يرسل، ويكلف، ذلك بالنظر والتفكر. والثاني: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) قطع ما يقع لهم الحوائج، وتحريم كل أنواع المطاعم والمشارب واللباس عليكم لكنه إذا حرم نوعًا منها أباح نوعًا آخر بإزائه مما يسد به حاجته ويزيح به علته، ولو حرم كل أنواعها كان حرجا في الدِّين وضيقًا. والثالث: لم يجعل عليهم من العبادات والفرائض التي كلفهم بها والقيام بأدائها ما لا

يحتمل وسعهم، ولا بنيتهم، ولا حمل عليهم أمورًا شاقة خلاف ما عليه طباعهم وأمر معاشهم، ولكن كلفهم بعبادات احتمل بها وسعهم وبنيتهم، وحمل عليهم أمورًا غير شاقة موافقة لما عليه أمر معاشهم وطباعهم، وإن بعد ونأى عليهم. والرابع: أنه لم يجعل توبتهم عما ارتكبوا من المعاصي والمآثم قتل بعضهم بعضًا، وإهلاك بعضهم بعضا، على ما جعل ذلك لقوم، حيث قالوا لهم: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، ولو كلف ذلك كان حرجًا في الدِّين، وأمثال ذلك. والخامس: جائز أن يكون قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي: من شك وشبه، أي: قد أزاح عنكم الشبه والشك بالحجج والبراهين التي أقامها لكم، واللَّه أعلم. وقوله: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: على الأمر: أن الزموا ملة إبراهيم. والثاني: أن هذا الذي ذكر هو ملة أبيكم إبراهيم. وقوله: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا) اختلف فيه: قال عامة أهل التأويل: قوله: (هُوَ سَمَّاكُمُ) أي: اللَّه سماكم المسلمين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إبراهيم (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)، حيث قال: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ورسول اللَّه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان من ولد إسماعيل، وقد دعا له ولذريته بذلك. وقوله: (مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ قَبْلُ): في الكتب المتقدمة (وَفِي هَذَا)، أي: في القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ قَبْلُ): في الأمم الذين كانوا من قبل؛ لأنه ما من قوم وأمة إلا وفيهم مسلمون متسمون بهذا الاسم، (وَفِي هَذَا): في قومه، أي: كنتم متسمون بهذا الاسم في الأمم الخالية، كقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، أي: كنتم خير أمة في الأمم التي كانت من قبل أنها تخرج في هذا الوقت، واللَّه أعلم. وقوله: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ) قال قائلون: (عَلَيْكُمْ) بمعنى: لكم، وذلك جائز في اللغة، كقوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) أي: للنصب؛ فعلى ذلك

جائز في هذا (عَلَيْكُمْ) أي: لكم، ويكون تأويله: يكون الرسول لكم شهيدًا بالتصديق له، وتكونوا أنتم شهداء للناس بالتصديق لرسول اللَّه إذا صدقتم إياه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ)، بمعنى: عليكم، وتأويله: يكون شهيدًا عليكم إذا خالفتموه ولم تصدقوه، وتكونوا أنتم إذا صدقتم رسولكم ووافقتموه - شهداء على سائر الناس إذا كذبوا رسولهم: أنهم كذبوه وخالفوه. وفي هذه الآية دلالة اتفاق قرن حجة على من بعدهم، حيث جعلهم شهداء على من بعدهم ومن قبلهم، وقد ذكرنا تأويل الآية في سورة البقرة. وقوله: (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) فإذا أراد الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة، ففي الأمر بإقامة الصلاة أمر لإصلاح ما بينهم وبين ربهم، وفي الزكاة إصلاح ما بينهم وبين الخلق، كقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، وفي حرف عبد اللَّه بن مسعود: (إن الصلاة تأمر بالعدل وتنهى عن الفحشاء والمنكر). وقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: بدين اللَّه وهو ما ذكر فيما تقدم ذكره من قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ). (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ. . .) إلى آخر ما ذكر؛ فكأنه يقول: اعتصموا بالذي ذكر، وأصل الاعتصام هو الالتجاء إليه؛ فكأنه قال: اعتصموا به من كل ما نهى عنه من الشرور، وبكل ما أمر به من الخير. وقوله: (هُوَ مَوْلَاكُمْ). قال الحسن: هو مولى كل من تولاه بالطاعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المولى: النصير، أي: هو ناصركم وحافظكم. (فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ). المانع والنصير: المنتصر ينتصر لهم من أعدائهم، ويمنع عنهم الأعداء. وجائز أن يكون قوله: (هُوَ مَوْلَاكُمْ)، أي: ربكم وسيدكم، كما يقال لمولى العبد: هذا مولاه وسيده، واللَّه أعلم. ويكون في قوله: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ) أنه قد بلغكم؛ (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) بأن الرسول قد بلغهم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)، أي: ما عرفوا اللَّه حق معرفته، يقال في الكلام: ما قدرتك حق قدرك، أي: ما عرفتك حق معرفتك.

وقالوا: الحرج: الضعيف في هذا، وفي غير هذا الموضع، قيل: هو شك في قوله: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ)، أي: شك، والضيق إنما يكون من الشك إذا شك في شيء ضاق صدره فيه. قال أبو معاذ: وأصل الحرج في الكلام: شجر من شوك ملتف، والواحدة: حرجة، منه: حرجة مسلم. وقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ). أي: اختاركم، وفي حرف ابن مسعود وأبي: (هو اجتباكم وسماكم المسلمين من قبل)، وهذا يؤيد تأويل من يقول: هو سماكم المسلمين، أي: اللَّه سماكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، قال: لم يفرض اللَّه على هذه الأمة شيئا إلا جعل فيه رخصة لهم عند الاضطرار؛ مثل التيمم إذا لم يجد ماء، ويصلي قاعدًا ومضطجعًا في المرض، وتفطر إذا كنت مريضًا، ونحو هذا، ليس فريضة إلا فيها رخصة، ولم يكن من قبل ذلك، وهو قول مقاتل بن حيان. وقال قتادة: قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، أي: ضيق، قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثًا لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي: اذهب فليس عليك حرج، وقال اللَّه لهذه الأمة: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وكان يقال للنبي: أنت شهيد على قومك، وقال اللَّه لهذه الأمة: (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، وكان يقول للنبي: سل تعطه، وقال الله لهذه الأمة: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)، أي: صلوا لله، كقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ)، يقول: صلوا، لا يصلون. وقال قتادة: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)، قال: لا صلاة إلا بركوع، وإن أقوامًا أحدثوا بدعًا: يسجد أحدهم مائة سجدة لا يركع فيهن، وكان يقال: ثلاث مما أحدث الناس: " رفع الأيدي في الدعاء، والأصوات عند المسألة، والاختصار في السجود ". وقال أبو هريرة: " لا يصلح سجود إلا بركوع "، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وبه نستعين. * * *

سورة المؤمنون

سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ). الفلاح، قال قائلون: الفلاح هو البقاء، أي: بقي المؤمنون. وقال قائلون: الفلاح: السعادة. وقال أقائلون: الفلاح: الفوز، وأمثاله. وفي قوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. . .) إلى آخر ما ذكر دلالة أن من المؤمنين من هم بهذا الوصف الذي وصف هَؤُلَاءِ، وأن اسم الإيمان يقع بدون الذي ذكر في هذه الآية؛ لأنه لو لم يكن لذكر ما ذكر من الخشوع في صلاتهم، والحفظ لفروجهم، والإعراض عن اللغو، يعني: دل أنه يكون مؤمنًا بغير الوصف الذي وصف هَؤُلَاءِ، وكذلك في قوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، وقوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ)؛ فدل أن فيهم من ليس بعدل، وفيهم من لا يرضى في الشهداء؛ حيث خصّ العدل والمرضي في الشهادة. وقوله: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) قال الحسن: الخشوع هو الخوف الدائم اللازم في القلب. وقال غيره: الخشوع في القلب، وأصل الخشوع كأنه آثار ذل - من الخوف - تظهر في الوجه والجوارح كلها، لا الخوف الذي ذكر هَؤُلَاءِ؛ ألا لَرى أنه قال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ)، وقال: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ) - دل هذا أن الخشوع هو آثار ذلّ من خوف يظهر في الوجه والجوارح كلها؛ ولذلك قَالَ بَعْضُهُمْ: الخشوع في الصلاة هو ألا يعرف من عن يمينه وشماله؛ لأن ذلك يشغله عن العلم بمن يليه، وأصله ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)

(4)

اللغو: كأنه اسم كل باطل، واسم كل ما يلغى ولا يعبأ به، أخبر أنهم يعرضون عن كل باطل وعن كل ما نهوا عنه، ويقبلون على كل طاعة وبكل ما أمروا به. (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) يحتمل الزكاة: الزكاة التي بها تزكو أنفسهم عند اللَّه. وجائز الزكاة المعروفة المعهودة، أخبر أنهم فاعلون ذلك مؤدون. وجائز أن يكون ذكر هذا من المؤمنين؛ من الطاعة لله والائتمار لأمره، والرضا به، مقابل ما كان من المنافقين من الكراهية في الإنفاق، والصلاة على الكسل، والمراءاة؛ كقوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ. . .) الآية، وقوله: (وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)، وقولهم: (لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ) نعتهم بالكسل، والخلاف، وترك الإنفاق والمراءاة في الطاعات، ونعت المؤمنين بضد ذلك، وبالرغبة في أوامره، والانتهاء عن معاصيه ونواهيه. وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) استثنى في هذا؛ لأن هذا مما يحل في حال ويحرم في حال، وأما اللغو وما ذكر من أول الآية إلى آخره لا يحل بحال، واللغو حرام في الأحوال كلها، وكذلك ترك أداء الأمانة والزكاة والصلاة مما لا يحل تركه بحال. وقوله: (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ). ذكر ألا يلحقهم لائمة في ذلك - واللَّه أعلم - لوجهين: أحدهما: لقول الثنوية؛ لأنهم لا يرون التناكح، فأخبر أن اللائمة ليست في هذين وإنما اللائمة في غير هذين. والثاني: ذكر لإبطال المتعة؛ لأنه استثنى الأزواج وما ملكت أيمانهم، والمتعة ليست في هذين اللذين استثناهما، ثم أخبر أن لا لائمة في هذين، وفيما عداهما لائمة، والمتعة مما عدا هذين، وهو ما قال: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ)، وإلى هذا يصرف حفظ الفروج، وإلا: كان عامة الناس يحفظون فروجهم عن الزنا، ويعرفون حرمته، لكنهم كانوا يستبيحون المتعة والإجارة فيه؛ فحرم ذلك. ثم قال: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) والعادي: هو المجاوز عن الحد الذي حدّ له. وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)

(9)

يحتمل الأمانات: العبادات والفرائض التي فرضت عليهم، راعوها، أي: أدوها في أوقاتها، والعهود التي فيما بينهم وبين ربهم. أو أن يكون الأمانات التي وضعت عندهم والعهود التي فيما بينهم وبين الخلق، راعوها، أي: حفظوها، وأدوها إلى أربابها ولم يضيعوها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) يكون محافظة الصلاة بوجوه: أحدها: يحافظونها بأركانها وفرائضها ولوازمها وآدابها. والثاني: يحافظونها بأسبابها التي جعلت لها من الأوقات والطهارات وستر العورة وغيرها من الأسباب التي لا تقوم الصلاة إلا بها. والثالث: يحافظونها بالخشوع والوقار وإظهار الذل له والإخلاص، وغير ذلك من الأشياء مما ندب المصلي إليه، وعلى ذلك جميع ما ذكر من الأمانات وغيرها، والله أعلم. وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) الوارث: هو الباقي عن المورث. وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ) أي: إنا باقون عن الخلق، أي: يفني الخلائق، وهو يبقى. أو أن يكون قوله: (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) هكذا هو ما وعد اللَّه عباده الجنة إن أجابوه، وإليها دعاهم بقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)؛ فمن ترك إجابته يصير الموعود الذي وعد له إن أجاب لمن أجابه؛ فذلك الوراثة التي ذكر اللَّه. وقوله: (الْفِرْدَوْسَ)، قيل: هو بلسان الروم: بستان، سمى اللَّه الجنة بأسماء مختلفة: منها عدن، ونعيم، ومأوى، وفردوس، وهي في الحقيقة واحد؛ لأن العدن هو المقام، والنعيم هو ما ينعم، ومأوى فهي كذلك، ثم فردوس وعدن، ومأوى نعيم. وروي في بعض الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الفِردَوْسُ رَبْوةُ الجَنَّةِ الْعُلْيَا، وَهِيَ أوْسطُهَا، وَأَحْسَنُهَا "، فإن ثبت هذا فهو ما ذكر. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)، قال: الإقبال عليها، والذلة فيها.

(12)

وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الخشوع في القلب، وأن تلين كنفك للمرء المسلم، وألا تلتفت في صلاتك. وقيل: التواضع، وأصله ما ذكرنا. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما ذكر سلالة؛ لأنه سُلَّ من كل تربة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: السلالة: الخالص من كل شيء، وقوله: (مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) حز، أي: من أجود الطين؛ ذكر مرة: (مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ)، ومرة: (مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)، ومرة قال: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، ومرة: (كَالْفَخَّارِ)، ونحوه، وهو آدم - عليه السلام - وذلك على تغيير الأحوال، واللَّه أعلم بالصواب. وقوله: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) أي: ثم خلقنا ولده وذريته من نطفة، أخبر عن أصل ما خلق آدم منه، وأصل ما خلق ولده منه، وهي النطفة. وقوله: (فِي قَرَارٍ مَكِينٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الرحم. وجائز أن يكون القرار هو صلب الرجل؛ لأن النطفة لا تخلق في الصلب أول ما خلق الإنسان، ولكن تجعل فيه من بعد؛ فيكون الصلب قرارها ومكانها إلى وقت خروجها منه إلى الرحم؛ وعلى ذلك قوله: (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ): الرحم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المستقر: الرحم، والمستودع: الصلب. وجائز أن يكونا جميعًا واحدًا، أيهما كان: الرحم أو الصلب؛ لأن كليهما قرار وما يستودع فيه.

(14)

وقال ابن عَبَّاسٍ وغيره: السلالة: صفوة الماء. وقوله: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ... (14) والنطفة هي المعروفة، والعلقة والدم والمضغة: القطعة من اللحم إلى آخر ما ذكر، يخبرهم عن تحويله إياهم وتقليبه من حال إلى حال لوجوه: أحدها: يخبر عن قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره؛ ليعلموا أن من قدر على إنشاء العلقة من النطفة ما لو اجتمع الخلائق جميعًا على أن يعرفوا سبب خلق هذا عن هذا، مع إحاطة علمهم أن ليس فيها من آثار العلقة شيء - ما قدروا على ذلك، وعلى ذلك جميع ما ذكر من النطفة والمضغة، ومن العلقة والعظم، ومن المضغة والإنسان، دل ذلك كله على أنه قادر؛ فمن قدر على هذا يقدر على إنشائهم من الأصل من لا شيء، ويقدر على إحيائهم بعد ما صاروا ترابًا، والأعجوبة في خلق الإنسان مما ذكر من النطفة والعلقة والمضغة ليس بدون خلقه إياهم من التراب من الوجوه التي ذكرنا. وفيه دلالة علمه الذاتي؛ لأن من قدر على تحويلهم من حال إلى حال التي ذكر في الظلمات الثلاث؛ دل أنه عالم بذاته لا بعلم مستفاد من أحد، ولا قوة مكتسبة؛ ولكنه بالعلم الذاتي والقوة الذاتية؛ لأن مَنْ علمُه مستفاد، ومَنْ قوتُهُ مستفادة ومكتسبة لا يبلغ ذلك وفيه دلالة تدبيره؛ لخروج الخلق جميعًا وتوالدهم من أول أمرهم إلى آخر ما ينتهون على جري واحد وسنن واحد، على غير تغيير في التوالد والتناسل الذي جعل فيهم، وكذلك جميع ما يخرج من الأرض من النبات والأشجار والأوراق في كل عام، وفي كل سنة يخرج على جرية واحدة وسنن واحد لا يتغير ولا يتفاوت وقت خروجه؛ بل على تقدير واحد وميزان واحد؛ دل أنه على تدبير ذاتٍ خرج، لا على الجزاف، وباللَّه الحول والقوة. وفيما ذكر من تحويله إياهم وتقليمه من حال إلى حال دلالة أنه لم ينشئهم لأنفسهم، وأن من أنشأ من العالم سواهم إنما أنشاه لهم، وأنشا أنفسهم لعاقبة؛ لأنه لو كان إنشاؤه إياهم لأنفسهم وللفناء الذي ذكر في قوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ) لكان يتركهم على حالة واحدة ولا يحولهم من حال إلى حال، فإذا حولهم وقلبهم من حال إلى حال دل أنه لا للموت الذي ذكر خلقهم خاصة بقوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ)؛ ولكن لعاقبة

تقصد، وهو البقاء الدائم لا فناء فيه، وهو ما ذكر: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ). وقوله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ). أما أهل التأويل فمنهم من قال: نفخ الروح فيه، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وغيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ إنبات الشعر ونحوه، وهو قول قتادة وغيره. وعن الحسن وغيره: ذكر أو أنثى. وجائز أن يكون قوله: (أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ): غير ما قال هَؤُلَاءِ، وهو إظهار الجوارح والأعضاء وتركيبها، ما فيه دلالة؛ لأنه أخبر أنه يقلبه شيئا واحدًا مصمتا ليس به هذه الجوارح والأعضاء، إنما يكون فيه آثارها لا أعينها فيركب فيه أعين الجوارح والأعضاء حتى يكون إنسانا، فذلك هو إنشاء خلق آخر، ويكون نفخ الروح ونبت الشعر في تركيب ما ذكرنا، واللَّه أعلم. ومن ينكر خلق الشيء لا من شيء، ويقول بقدم العالم إنما ينكر ذلك؛ لما لم ير في الشاهد صنع شيء لا من شيء، فيقال له: وهل رأيت إنشاء شيء من شيء على إتلاف الأصل حتى لا يبقى له أثر، فإذا لم تر هذا في الشاهد، وقد رأيت في الغائب إنشاء شيء من شيء على إتلاف الأول منه، نحو النطفة تصير علقة على تلف النطفة فيها، والعلقة مضغة على إتلاف العلقة فيها. . . إلى آخر ما ذكر، كل ذلك منشأ من آخر إنما كان بعد تلف الأصل، فهلا دل ذلك على أن عدم الإنشاء في الشاهد لا من شيء لا يدل على عدمه في الغائب، وأنه حيث قدر على هذا يقدر على كله. وقوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). من الناس من يستدل على أنه إذا لم يكن سواه خالقًا لم يكن لقوله: (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) معنى؛ كقوله: (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، و (أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)، ونحوه، إنما قال هذا لما يكون سواه رحيمًا حكيمًا كريمًا؛ فأخبر أنه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين؛ فعلى ذلك ما قال: (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). ولكن جائز القول بمثل هذا عند الناس على غير إثبات آخر سواه في ذلك حقيقة، وهو يخرج على وجوه:

أحدها: (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) مما تنسبون أنتم إليه، وتجعلونه خالقًا عندكم؛ كقوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ): إبراهيم لم يسم معبودهم الذي عبدوه إلها على جعل الألوهية له، ولكن على ما سموا هم ونسبوا الألوهية إليه، وكذلك قول موسى، حيث قال: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا)، على ما عندهم، ليس على تسمية الإله له حقيقة؛ دل ما ذكرنا على أن تسمية ما ذكر وذكره يجوز، وإن لم يكن هنالك سواه إلها خالقًا، وكذلك قوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ): ليس على أن لهم شفعاء يشفعون لهم؛ ولكن لا شفعاء لهم؛ فعلى ذلك ما ذكرنا. والثاني: تأويل (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، أي: لو جاز أن يكون خالق آخر سواه لكان هو أحسن الخالقين، ولكن لا يجوز، وهو كقوله: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أي: لو جاز أن يتخذ ولدًا لاصطفى مما ذكر، لكن لا يجوز، وكذلك قوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا)، أي: لو جاز أن يكون كذا لكان كذا، ليس على أنه يجوز أن يكون، وكذلك قوله: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ. . .) الآية، أي: لو جاز أن يكون معه إله لذهب بما ذكر، لكن لا يجوز؛ فعلى ذلك قوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، أي: لو جاز أن يكون هنالك خالق غيره لكان هو أحسن الخالقين، ولكن لا يجوز، واللَّه الموفق. والثالث: ذكر أحسن الخالقين؛ لما أن العرب تسمي كل صانع شيء خالقًا؛ فخرج الذكر لهم على ما يسمونهم، ليس على حقيقة الخلق لمن دونه؛ كقول عيسى حيث قال: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ)، أو أن يكون ذكر هذا القول من يقول: إن العالم أصله من أربع طبائع: من الحرارة، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة. أو أن يكون كقول بعض الفلاسفة: إن العالم أصله من أربع أو من خمس: من الماء، والأرض، والنار، وغيره. فأخبر أنه ليس كذا، ولكن هو خالقهم لا من الأشياء التي توهموا هم. وعلى قول من يقول: إنه يكون غيره خالقًا لكان الخلق غير دال على الخالق، وقد جعل اللَّه الخلق سببًا لمعرفة الخالق، فلو كان غيره خالقًا، لكان الخلق غير دال على معرفة الخالق؛ لأنه قال: (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ): أخبر أنه لو كان سواه في ذلك تشابه الخلق عليهم؛ فإذا تشابه لم يكن سببًا لمعرفة، على ما أخبر في إثبات عدد الآلهة؛ كقوله: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ) فإذا بطل هذا ولم يجز عدد الآلهة وإثبات الألوهية لغيره، فعلى ذلك

(15)

في الخلق على الوجوه التي ذكرنا. وقوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) قد ذكرنا فيما تقدم أن المقصود من خلق هذا العالم - لم يكن الإماتة والإفناء؛ ولكن عاقبة تتأمل وتقصد حيث قلبهم من حال إلى حال، ثم لم يتركهم على حالة واحدة، فلو كان المقصود من خلقهم الفناء والهلاك لا غير، لكان تركهم على حالة واحدة، ولم يقلبهم من حال إلى حال؛ فدل التحويل والتقليب من حال إلى حال على أن المقصود من الخلق العاقبة، على ما ذكرنا واللَّه أعلم؛ لأنه أخبر أن خلقهم لا لعاقبة يقصد بها عبث؛ حيث قال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا)، صير خلقهم لا للرجوع إليه عبثًا، وقال في آية أخرى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا. . .) الآية: صير نقض الغزل بعد إبرامه وقوته سفها منها؛ فلا جائز أن يسفه تلك المرأة تنقض غزلها بعد الإحكام والإبرام بلا نفع يكون لها، ثم هو يفعل ذلك؛ إذ خلق الخلق للفناء والهلاك خاصة - عبث ولعب، وعلى ذلك بناء البناء في الشاهد لا لعاقبة ومنفعة، ولكن للهدم والنقض سفه ولعب. قلنا: إن خلق الخلق لا للموت خاصة، ولكن لما ذكر من قوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) أي: تحيون. قَالَ الْقُتَبِيُّ: يقال للولد: سلالة أبيه، وللخمر: سلالة، ويقال: إنما جعل آدم من سلالة؛ لأنه سُلَّ من كل تربة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: السلالة: الخالص من كل شيء. قال أبو معاذ: النسل: الولد يسل من تحت كل شعرة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: المضغة: اللحمة الصغيرة؛ سميت بذلك لأنها بقدر ما يمضغ؛ كما قيل: غرفة، بقدر ما يغرف. وقوله: (فِي قَرَارٍ مَكِينٍ). أي: مكان حريز، أو هو الرحم أو الصلب، أيهما كان فهو ما وصف. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ

(17)

لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ ... (17) قَالَ بَعْضُهُمْ: سبع سماوات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سبعة أفلاك. يذكر هذا - واللَّه أعلم - أيهما كان السماوات أو الأفلاك التي جعل لأمر الخلق ولحوائجهم؛ لوجهين: أحدهما: يخبر عن قدرته وسلطانه وغناه: أن من قدر على خلق ما ذكر وإنشائه بلا سبب، لقادر على إنشاء الخلق لا من شيء. والثاني: أن من قدر على هذا يقدر على بعثهم وإحيائهم بعد الموت. قَالَ الْقُتَبِيُّ: سبع طرائق، أي سبع سماوات: كل سماء طريقة، ويقال عن الأفلاك: كل واحد طريق. وإنما سمي طرائق؛ لأن بعضها فوق بعض، يقال: طارقت الشيء؛ إذا جعلت بعضه على بعض. ويقال: وبشر طرائق. وغيره قال: طرائق أهواء مختلفة. وقوله: (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ). أي: لم نخلقهم على جهل منا بأحوالهم؛ ولكن على علم منا بذلك. ولا يحتمل أن يكون خلقه إياهم على علم منه، ثم يخلقهم للفناء لا لعاقبة تتأمل؛ لأن من يفعل هذا في الشاهد إنما يفعل إما للجهل به أو لحاجة، واللَّه يتعالى عن ذلك كله. أو أن يكون قوله: (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ): خلق ما ذكر، أي: إذا عرفتم أن خلق هذه الأشياء لا لأنفسها، ولكن لأنفسكم ولمنافعكم، فلا يحتمل أن يكون خلقها لكم بلا محنة ولا ابتلاء، فإن ثبت المحنة فيكم ثبت الثواب والعقاب؛ فإن ثبت هذا ثبت البعث والحياة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) قَالَ بَعْضُهُمْ: بقدر: بعلم منا.

(19)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما يقع لهم الحاجة والكفاية. وجائز أن يكون قوله: (بِقَدَرٍ)، أي: معلوم مقدر، لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزداد ولا ينتقص، ولكن على ما قدر، وكذلك جميع الأشياء. وقوله: (فأسكناه في الأرض). يذكر هذا ويخبر عن قدرته وسلطانه: أن من قدر على استنزال الماء من السماء يقدر على البعث وعلى خلق الشيء لا من شيء؛ إذ لا أحد من الخلائق يقدر على ذلك إلا بالحيل التي علمه اللَّه. أو أن يكون يقول: إنه حيث جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء، ومنافع السماء متصلة بمنافع الأرض؛ على بعد ما بينهما، دل اتصال منافع أحدهما بالآخر، أمع، بعد ما بينهما على أن منشئهما واحد، ومدبّرهما واحد عالم بذاته. وقوله: (وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ). كقوله: (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا. . .) الآية. وقوله: (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ .. (19) أي: بالماء. (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ). أي: الكروم؛ يذكر نعمة اللَّه التي أنعمها عليهم من الماء الذي به حياة الأبدان والأشياء جميعًا؛ ليتادى به شكره وعبادته. وقوله: (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ). إن كان قوله: (لَكُمْ فِيهَا)، أي: في الجنات؛ حيث ذكر أنه أنشأ لنا فواكه كثيرة؛ ففيه حجة لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - أن من حلف ألا يأكل فاكهة، فأكل عنبا - لم يحنث؛ حيث ذكر النخيل والأعناب، وذكر فيها الفواكه على حدة. وإن كان يعني به النخيل والأعناب، فليس فيه حجة له. وقوله: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) أي: أنشأنا لكم -أيضًا- شجرة في طور سيناء، ثم الشجرة التي تكون في الجبال لا صنع للخلق في إنباتها، وما يكون في الجنان والبساتين إنما يكون بإنبات الخلق، ثم أضاف كليهما: ما يكون للخلق فيه صنع وما لا يكون؛ دل إضافة ذلك إليه كله على أن لله في فعل العباد صنعا، وأن جميع ما يكون إنما يكون بصنع منه ولطف، ويذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم: من إنشاء الجنان لهم، والنخيل والأعناب والفواكه التي ذكر ليتأدى

بذلك شكره. وفيه دلالة قدرته وسلطانه؛ حيث أنشأ الشجرة، وأخرجها من الجبل، وهو أشد الأشياء وأصلبها، وجعل في تلك الشجرة الدهن، وهو ألين الأشياء وألطفها؛ فيخبر أن من قدر على إخراج ألين الأشياء من أشدها وأصلبها لا يعجزه شيء. وفيه أن لا بأس بقران شيء إلى شيء، فهو كان جميعًا وضم بعضهم بعضه إلى بعض، ويجمع في الأكل حيث قال: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) هو الإدام. ثم اختلف في قوله: (طُورِ سَيْنَاءَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: الطور: الجبل، بالسريانية، والسيناء: الحسن، بالحبشية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطور: الجبل وما ذكر، والسيناء: الشجرة الحسناء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطور: هو الجبل الذي كلم اللَّه موسى وأوحى إليه، والشجرة: هي شجرة الزيتونة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السيناء: الحجارة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطور: السيناء المبارك بما أوحى على موسى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطور: الجبل، والسيناء: شجر حوله. وفي حرف ابن مسعود وحفصة: (وشجرة تخرج من طور سيناء تخرج الدهنَ وصِبغَ الآكلين). قَالَ بَعْضُهُمْ: تخرج الثمر. قال أبو معاذ: أنبت النبات ونبت: لغتان؛ كقولك: أسرى وسرى. وقال زهير: حتى إذا أنبت البقل. قال الكسائي: تقول: خرجت بزيد وأخرجت زيدًا، ولا تقول: أخرجت بزيد، إلا أن تقول: أخرجت بزيد عمرا. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) مثل الصباغ كما يقال: دبغ دباغًا، ولبس لباسًا. أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي: الصباغ، وهو ما اصطبغت به من شيء،

(21)

أي: غمرته فيه. وقوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) في سورة النحل (مِمَّا فِي بُطُونِهِ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما ذكره على الفرد والوحدان، وفيما ذكره على التأنيث على الجمع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فيما ذكره بالتذكير أراد به جنسًا من الأنعام مما في بطونه، وهذا أشبه، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. ثم قوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً) وجه العبرة فيها من وجوه: أحدها: ما قال ابن عَبَّاسٍ، وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ. . .) الآية؛ ففي ذلك عبرة ودلالة على وحدانيته وربوبيته وعلمه وقدرته وتدبيره ولطفه؛ إذ ليس شيء منها إلا وفيها دلالة وحدانيته وربوبيته، ودلالة علمه وقدرته وتدبيره. وفيه أنه لم ينشئ هذه الأنعام لأنفسها، ولكن أنشأها للبشر؛ حيث أخبر أنه سخرها لهم؛ ليمتحنهم بها. ثم اختلف في الأنعام: قال مقاتل: الأنعام: كل شيء يؤكل لحمه ويشرب لبنه، وما لا يؤكل لحمه ولا يشرب لبنه - فليس من الأنعام. وقال أبو معاذ: إن من الأنعام ما لا يؤكل لحمه ولا يشرب لبنه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأنعام: كل بهيمة حتى الوحش. والأشبه أن تكون الأنعام هي الإبل، ولكنا لا نعلم حقيقته؛ إنما هو اللسان، فهو على ما يسميه أهل اللسان. وقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ). قيل: من الحمولة وغيرها، وقد ذكرنا هذا في سورة النحل. وقوله: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) يذكرهم نعمه فيما سخر لهم من الأنعام والسفن؛ ليتأدى به شكره. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ

(23)

لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (23) يردد - عَزَّ وَجَلَّ - أنباء أولي العزم من الرسل وأخبارهم، ويكررها على رسول اللَّه؛ ليكون أبدًا يقظانًا منتبهًا، ويعرف أن كيف عامل أولو العزم قومهم، وكيف صبر أولو العزم من الرسل على أذى قومهم وتكذيبهم إياهم؛ ليعامل هو قومه مثل معاملتهم، ويصبر هو على أذى قومه؛ على ما صبر أُولَئِكَ على أذى قومهم وتكذيبهم إياهم؛ لهذا ما يردد ويكرر أنباءهم عليه، ويعرف قومه -أيضًا- ألا يظفروا بما يأملون من تكذيبهم العاقبة؛ بل العاقبة تصير له على ما صارت لأولي العزم من الرسل لا لقومهم، واللَّه أعلم. وقوله: (أَفَلَا تَتَّقُونَ)، يحتمل وجوهًا: أحدها: (أَفَلَا تَتَّقُونَ) مخالفة اللَّه ومخالفة رسوله. أو (أَفَلَا تَتَّقُونَ) عذابه ونقمته ووعيده. أو (أَفَلَا تَتَّقُونَ) عبادة غير اللَّه. وقوله: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) هذا الذي قالوا: هو تناقض؛ لأنهم قالوا: إنه بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم بما ادعى من الرسالة والإجابة له إلى ما دعاهم، ثم هم - أعني: الرؤساء منهم والقادة - ادعوا لأنفسهم الفضل بما استتبعوا هم السفلة، وطلبوا منهم الموافقة لهم والإجابة، وهم بشر أمثالهم؛ فذلك تناقض في القول، ثم أقروا بتفضيل بعض الخلق على بعض، وعرفوا قدرة اللَّه على ذلك؛ حيث قالوا: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً). فإن قدر على تفضيل الملائكة على البشر، قدر على تفضيل بعض البشر على بعض، ثم أخبر عن نوح أنه لا يريد بما ادعى من الرسالة التفضل عليهم؛ ولكن يريد النصح لهم والإشفاق عليهم؛ حيث قال: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ)،

(25)

وقال: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، (عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ)، ونحو ما قال؛ أخبر أنه إنما أراد النصح والشفقة لا التفضل الذي قالوا هم. وقوله: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ). هذا قولهم، وقد كذبوا في قولهم. وقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قد عرفوا أن ليس به جنون؛ ولكن أرادوا التلبيس والتمويه على قومهم؛ حيث خالفهم في جميع أمورهم، وعادى الرؤساء منهم والقادة، ويقولون: ما يفعل هذا إلا لجنون فيه وآفة أصابته في عقله، وإلا: عرفوا هم في أنفسهم - أعني: القادة - أنه ليس بمجنون؛ ولكن أرادوا التمويه على قومهم، ثم قالوا: (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ). لسنا ندري ما أرادوا بالحين: أرادوا الموت؟ أو وقت ارتفاع ما قالوا فيه من الجنون؟ أو أرادوا وقتا آخر. قال مقاتل: يريد أن يتفضل عليهم بالرسالة، وليس له عليكم فضل في شيء فننبعونه. وقوله: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: بالعذاب في آبائنا الأولين. ويقال: ما سمعنا التوحيد في آبائنا الأولين، كما يدعو نوح. وقوله: (قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) لم يدع عليهم بأول ما كذبوه؛ ولكن إنما دعا عليهم بعد ما أيس من عودهم إلى تصديقه، وهو ما قال: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ). وقال أهل التأويل: (انْصُرْنِي): بتحقيق ما وعدت لهم من العذاب؛ فإنه نازل بهم في الدنيا وعذابهم (بِمَا كَذَّبُونِ): في قولي بأن العذاب نازل بهم في الدنيا. أو أن يكون قوله: (انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ)، أي: اجعل لي الظفر عليهم بالتكذيب، ونحوه. وقوله - تعالى -: (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) قَالَ بَعْضُهُمْ: بمنظر منا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: بمرأى منا. وجائز أن يكون - صلوات اللَّه عليه - ظن لما أمر باتخاذ الفلك: أنهم لا يتركونه أن يتخذ الفلك؛ فأخبره - عَزَّ وَجَلَّ -: أنك تتخذه بحيث تراه، وننصرك عليهم بحيث لا يملكون منعك عن اتخاذها. وقوله: (وَوَحْيِنَا)، أي: بأمرنا. وقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ)، أي: إذا جاء الموعود بأمرنا وفار التنور. أو أن يقول: إذا جاء وقت أمرنا بالعذاب وفار ما ذكر، أي: خرج الماء من التنور وظهر. وقوله: (فَاسْلُكْ فِيهَا). قيل: أدخل فيها، يقال: سلكت، وهو الإدخال؛ كقوله: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ)، أي: أدخل. وتفسير (اسْلُكْ): ما ذكر في آية أخرى: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا). وقوله: (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). يحتمل أن يكون قوله: (اثْنَيْنِ) نعتًا لقوله: (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ): من الذكر والأنثى. وجائز أن يكون قوله: (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ)، أي: من كل زوجين عددين لونين: أبيض، وأسود، وطيب وخبيث. وقوله: (وَأَهْلَكَ)، أي: احمل أهلك -أيضًا- في السفينة. وقوله: (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ). بالعذاب والهلاك، وقد ذكرنا هذا في سورة هود. وقوله: (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ). اختلف فيه: قال قائلون: إنما نهاه عن مخاطبته الذين ظلموا؛ حيث قال: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)، أنهاه، أن يسأله؛ فإن كان على هذا أفقوله: (وَلَا تُخَاطِبْنِي)، أي: لا تراجعني الكلام في الذين ظلموا. وقال قائلون: قوله: (وَلَا تُخَاطِبْنِي) في الذين ظلموا في جميع ظلمة قومه؛ (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)؛ وإن كان على هذا فهو نهي عن ابتداء السؤال في نجاتهم، واللَّه أعلم.

(28)

وقوله: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ ... (28) من المؤمنين (عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). هكذا الواجب على كل من أنجاه اللَّه من الظلمة أن يحمد ربه على ذلك ويسأله النجاة إذا ابتلي بهم؛ كما علم نوحًا أن يقول ما ذكر ويحمده على النجاة منهم، وكما قال موسى حين خرج من عندهم خائفا: (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وكما سألت امرأة فرعون النجاة من فرعون وقومه حين قالت: (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). ثم علمه ربه أن يسأله الإنزال في منزل مبارك؛ حيث قال: (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) ثم يحتمل سؤاله المنزل المبارك: جميع الخيرات والحسنات وعمل الصالحات. ويحتمل سؤاله المنزل المبارك: الموضع الذي فيه السعة والخصب؛ على ما قاله بعض أهل التأويل، المبارك بالماء والشجر وغيره؛ فإن كان هذا ففيه دلالة إباحة سؤال السعة والخصب، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) قال قائلون: قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)، أي: في هلاك قوم نوح وإغراقهم لآيات لمن بعدهم، (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) بآيات؛ تفضلا منا وإحسانَا سوى ذلك. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن قوله: (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ): بسور الآيات التي كانت؛ وجائز في اللغة (إن) بمعنى (ما). ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن قوله: (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)، أي: وقد كنا لمبتلين، أي: قد ابتلاهم قبل إهلاكه إياهم، ولسنا نعرف ما حقيقة هذا الكلام وما مراده، واللَّه أعلم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَاسْلُكْ فِيهَا)، أي: أدخل فيها، يقال: سلك الخيط في الإبرة وأسلكته، وقال أبو عبيدة كذلك. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ): هذا من الابتلاء، أي: اختبار، ومن البلاء: مبلون. * * * قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا

(31)

مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) وقوله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) قيل: من بعد قوم نوح قرنًا آخرين: عادا وغيرهم. (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ... (32) قالوا: هودًا. (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). جميع الأنبياء والرسل إنما بعثوا بالدعاء إلى توحيد اللَّه، وجعل العبادة له. وقوله: (أَفَلَا تَتَّقُونَ). مخالفته، أو عبادة من دونه، وجميع معاصيه، على ما ذكرنا من قبل. وقوله: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ ... (33) أي: بالبعث. (وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: أترفناهم، أي: بسطنا لهم في الدنيا حتى ركبوا المعاصي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المترف: الغني الطاغي. وقوله: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ. . .) الآية. قد ذكرنا فيما تقدم أنهم تناقضوا في قولهم: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. . .) إلى قوله: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ)؛ لما أنهم منعوا الأتباع عن أن يتبعوا الرسول ويطيعوه؛ لأنه بشر مثلهم، ثم طلبوا منهم الطاعة لهم والاتباع في أمورهم، وهم بشر أمثالهم؛ فذلك تناقض في القول وفساد. وقوله: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ): استبعاد الأمر وإنكاره، أي: بعيدًا بعيدًا، أي: أمر لا يكون.

(37)

وقوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إن كان هذا القول من الثنوية والدهرية فقوله: (نَمُوتُ وَنَحْيَا): هم بأنفسهم؛ لأنهم يقولون: يموت الإنسان فيحيا غيره من البقر والحمر وغيره من تراب إذا أكل. وإن كان هذا القول من غير الثنوية فنقول: قوله: (نَمُوتُ وَنَحْيَا)، أي: نموت نحن ويحيا الأبناء. وذكر في حرف ابن مسعود وأبي: (نحيا ونموت وما نحن بمبعوثين). وقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) هذا قولهم. وقوله: (قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قد ذكرناه. (قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) أي: عما قريب يندمون بالتكذيب عن هذا القول الذي قالوه والإنكار الذي أنكروه، لا شك في ذلك. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَأَترفنَاهُمْ)، أي: وسعنا عليهم حتى أترفوا، والترفة منه، ومثلها: تحفة، كان المترف هو الذي يتحف. وقال غيره: (وَأَتْرَفنَاهُمْ)، أي: أنعمنا عليهم وبسطنا لهم؛ فكله يرجع إلى واحد. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ) هذا تبعيد للأمر، أي: أنه أمر بعيد؛ على ما ذكرنا أنه لا يكوِن. وقوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ... (41) قد ذكرناه. وقوله: (فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً) قَالَ بَعْضُهُمْ: الغثاء: اليابس الهامد كنبات الأرض إذا يبس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغثاء: هو الذي يحمله السيل بالموج. وقال أبو معاذ: (غُثَاءً أَحْوَى)، أي: أسود. وقَالَ بَعْضُهُمْ: غثاء، أي: موتى.

(42)

وجائز أن يكون تأويل قوله: (غُثَاءً)، أي: كالشيء المنسي الذي لا يذكر ألبتَّة؛ لأن أُولَئِكَ الفراعنة والأكابر إذا هلكوا لم يذكروا ألبتَّة، ولا افتخر أحد من أولادهم بهم من بعد الهلاك، كما افتخر أولاد الأنبياء والرسل والصالحين بآبائهم وأجدادهم من بعدهم، وصاروا مذكورين إلى أبد الآبدين، فأما أُولَئِكَ: صاروا خاملي الذكر كالشيء الخسيس المنسي المتروك. وقوله: (فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً)، الغثاء: ما ذكرنا على قول بعضهم كالريم الهامد الذي يحمله السيل، وعلى قول بعضهم: هو كالشيء البالي المتغير. وعلى قول بعض: الغثاء: ما ارتفع على الماء مما لا يُنتفع به، وكله واحد. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: غثاء، أي: هلكى كالغثاء، وهو ما على السيل من الزبد والقش؛ لأنه يذهب ويتفرق. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الغثاء: ما يحمله السيل من العيدان والبعر والأغشية جميعا، والغثاء: حميل السيل. ثم ذكر أنفس قوم عاد وثمود، وشبهها بما ذكر من الغثاء، وكذلك يذكر أنفس جميع أهل الشرور والفساد، وذكر في أهل الخير أعمالهم لا أنفسهم؛ لأن لهم أعمال الخير والصلاح؛ فتجعل أنفسهم حئة بالأعمال؛ كقوله: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ)، جعل أعمالهم أحاديث فيما بينهم، وأما أهل الكفر والشر فإنه لا أعمال لهم تذكر؛ فتذكر أنفسهم بُعدا وسحقًا. * * * قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) وقوله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ)، قيل: من بعد قوم عاد وهَؤُلَاءِ. (قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) كأنه ذكر هذا لما كانوا يستعجلون العذاب الموعود والهلاك الذي أوعدوا؛ فأخبر أن لكل أمة أجلاً: لا تسبق أجلها باستعجال من يستعجل، ولا يستأخرون أجلها الذي جعل لهم. وقوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ... (44)

(45)

قَالَ بَعْضُهُمْ: (تَترَا) تباعًا، واحدًا بعد واحد، وبعضًا على أثر بعض. (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا). في الهلاك الأول فالأول. (وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ). لمن بعدهم ولمن بقي منهم، يعني: الذين أهلكوا. (فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ). * * * قوله تعالى: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) قوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى). قد ذكرناه. (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) كقوله: (إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: متكبرين ومتجبرين. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من العلو، ليس من التعالي، والتعالي لا يوصف به الخلق. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (تَتْرَا)، أي: تتابع بفترة بين كل رسولين، وهو من التواتر، والأصل: (وترى)، فقلبت الواو تاء؛ كما قلبوها في (التقوى) و (التخمة) و (التكلان). وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (تَتْرَا) بعضهم على أثر بعضهم، وهو من المتابعة. وفي قوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا) دلالة أن أهل الفترة، ومن كان فيما بين بعث الرسل - لا عذر لهم في شيء؛ لإبقاء الحجج والبراهين قبل أن يبعث آخر وحسن آثارهم وأعلامهم - أعني: آثار الرسل وأعلامهم - أخبر أنه أرسل الرسل تباعًا: بعضًا على إثر بعض، وإن كان بين بعثهم فترة؛ لما أبقى الحجج والبراهين وآثار الرسل وأعمالهم،

(47)

واللَّه أعلم. وقوله: (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) قَالَ بَعْضُهُمْ، تعجب: نرفعهم بعد ما كنا غالبين عليهم؟!! نجعلهم غالبين علينا وكانوا لنا عابدين؟! أي: نرفعهم فوقنا ونكون تحتهم، ونحن اليوم فوقهم وهم تحتنا، كيف نصنع ذلك؟! وذلك واللَّه أعلم - حين أتوهما بالرسالة. (فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) صاروا من المهلكين بالتكذيب. وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) يشبه أن يكون حرف (لعل) لموسى، أي: آتينا موسى الكتاب؛ لعلهم يهتدون عنده، و (لعل) حرف رجاء وترجٍ؛ لكن يستعمل مرة: على الإيجاب والإلزام، ومرة: على النهي؛ كقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ)، أي: لا تبخع نفسك، وقوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ)، أي: لا تترك بعض ما يوحى إليك، وذلك جار في اللغة؛ يقول الرجل لآخر: لعلك " كذا، أي: لا تفعل، ونحوه، و (لعل) من اللَّه يحتمل الإيجاب والإلزام والنهي، من الخلق: يحمل على النهي والترجي، واللَّه أعلم. وقوله: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) خص - عَزَّ وَجَلَّ - وأمه بأن جعلهما آية، وجميع البشر في معنى الآية واحد؛ إذ خلقوا جميعًا من نطفة، ثم حولت النطفة علقة، والعلقة مضغة، إلى آخر ما ينتهي إليه؛ فيصير إنسانًا؛ فالآية والأعجوبة في خلق الإنسان من النطفة ومما ذكرنا إن لم تكن أكثر وأعظم لم تكن دون خلقه بلا أب ولا زوج وما ذكر، لكنه خصهما بذكر الآية فيهما؛ لخروجهما عن الأمر المعتاد في الخلق، والعادة الظاهرة فيهم أن يخلقوا من النطفة والأب والتزاوج والأسباب التي للتوالد والتناسل الذي تجري فيما بينهم والأسباب التي جعل للتوالد في الخلق؛ وجهما عن الأمر المعتاد والعادة الظاهرة خصهما بذكر الآية والأعجوبة في خلق البشر. النطقة، وما ذكر إن لم يكن أكثر وأعظم لم يكن دونه، وهو كما خصَّ بني إسرائيل بالخطاب بالشكر؛ لما أنعم عليهم من المن والسلوى، ولما أنجاهم من آل فرعون بقوله: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ). ، وقال: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)

(51)

وقد كان عليهم من النعم ما هو أعظم وأكثر مما ذكر من المن والسلوى ونجاتهم من فرعون وآله، لكنه خصهم بذكر المن والسلوى واستأدى منهم الشكر بذلك من بين سائر النعم؛ لأنها خرجت عن المعتاد من النعم المعروفة، وهم كانوا مخصوصين بهذا من بين غيرهم؛ فعلى ذلك عيسى وأمه: كانا خارجين عن الأمر المعتاد ومخصوصين بذلك؛ لذلك خصهما بذكر الآية، والآية ما ذكر بعض أهل التأويل أنه خلق من غير أب، ولدته أمه من غير فعل أمثالها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في عيسى: بأن كلم الناس في المهد صبيا، ونحوه: من إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، ومثله. وقوله: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ). ذكر أنه آواهما إلى ربوة كما يؤوي الأب والأم الولد إلى مكان يتعيش به؛ إذ الربوة هي مكان التعيش فيه؛ ألا ترى أنه ذكر (ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) هو المكان الذي يستقر فيه ويتعيش. وقوله: (وَمَعِينٍ)، المعين: هو الماء الجاري الظاهر الذي تأخذه العيون، وتقع عليه الأبصار. وقوله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) قال عامة أهل التأويل: إنما خاطب بهذا محمدًا خاصة، على ما يخاطب هو، والمراد منه: جميع أمته في ذلك. ولكن جائز أن يقال: خاطب به جميع الرسل؛ لأنهم جميعًا مخاطبون بهذا كله: من أكل الطيبات، والعمل الصالح، هذا الخطاب فيه وفي غيرهم؛ إذ عمهم جميعًا بهذا. ثم الطيبات يحتمل أن يراد بها الحلالات؛ كأنه قال: كلوا حلالا غير حرام؛ ألا ترى أنه قال: (وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، أي: اعملوا صالحًا، ولا تعملوا سيئا؛ فعلى ذلك قوله: قوله تعالى: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ)، أي: كلوا حلالا ولا تأكلوا حرامًا: ما خبث. وفيه أنهم يمتحنون كما يمتحن غيرهم بالأمر والنهي. ويحتمل -أيضًا- قوله: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ): ما طابت به أنفسكم وتلذذت، فإن كان على هذا فهو يخرج على الإباحة والرخصة، ليس على الأمر، معناه: لكم أن تأكلوا ما تطيب به أنفسكم، ولكم أن تؤثروا غيركم به على أنفسكم. وإن كان على الأمر فهو على الأمر يخرج والنهي، واللَّه أعلم.

(52)

وقوله: (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). ظاهر، وهو وعيد. وقوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) جائز أن يكون قوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً): في الكتب المتقدمة، وعلى لسان الرسل السالفة؛ كقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، أي: كنتم خير أمة في الكتب المتقدمة وفي الأمم الماضية؛ فعلى ذلك هذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، أي: دينكم دين واحد، وملتكم ملة واحدة، وهي الإسلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لسانكم لسان واحد. وجائز أن يكون قوله: (أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً): لا تختلفون في رسولكم إلى يوم القيامة، كما اختلف الأمم الذين من قبلكم في رسلهم؛ بل تجعلوا رسولكم رسولا على ما هو عليه، وأما سائر الأمم فإنهم قد فرطوا فيهم؛ حتى كان فيهم من جعل الرسول ابنًا له؛ كقوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)، والنصارى، وأما هَؤُلَاءِ فإنهم لا يزالون على أمر واحد، اللَّه أعلم. وقوله: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، وقال في آية أخرى: (فَاعْبُدُونِ): جائز أن يكونا واحدًا، وجائز أن يكون قوله: (فَاتَّقُونِ) أي: مخالفتي، (فَاعْبُدُونِ)، أي اعبدوني وأطيعوني. وقوله: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) و (قطعوا) واحد، وهما لغتان؛ نحو: تفرقوا وفرقوا. (زُبُرًا): برفع الباء، و (زُبَرًا) بنصب الباء، قال أبو معاذ: من قرأ بالنصب: (زُبَرًا)؛ فمعناه: قطعا؛ كقوله: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ)، و (زُبُرًا) بالرفع، أي: كتبا؛ كقوله: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ)، وقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ)، ونحوه. وقال في حرف ابن مسعود وأبي: (وقطعوا الزبور بينهم). قال أبو معاذ: (قطعوا) (تقطعوا): لغتان؛ كَقيلِك: علقت الشيء وتعلقته، وحولت وتحولت، ووليت وتوليت ونحوه كثير.

(54)

وقوله: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). راضون أو مسرورون بما لديهم من الدِّين، أو ما ذكرنا. * * * قوله تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) وقوله: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ)، وقال في آية أخرى: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا)، وقال: (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، فذلك يحتمل وجوهًا: أحدها: قال ذلك عند الإياس عن إجابتهم لما علم أنهم لا يؤمنون، وذلك في قوم مخصوصين؛ كأنه قال: ذر هَؤُلَاءِ، وأقبل على هَؤُلَاءِ الذين يقبلون أمرك، ويجيبون دعاءك ويسمعونه. والثاني: فذرهم في غمرتهم، ولا تكافئهم حتى أنا أكافئهم؛ كقوله: (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ). والثالث: أمره أن يعرض عنهم؛ لئلا يخوضوا في سب اللَّه والطعن في الآية، كقوله: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا. . .) الآية. وقوله: (حَتَّى حِينٍ): يحتمل القيامة، ويحتمل وقتًا آخر لم يبين، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (إِلَى رَبْوَةٍ): المكان المرتفع، و (آويته)، أي: أويته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الربوة: الارتفاع، وكل شيء ارتفع أو زاد فقد ربا، ومنه الربا في البيع. قال أبو معاذ: للعرب في الربوة أربع لغات: رَبوة ورِبوة ورُبوة ورباوة. وقوله: (ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المعين: الماء الظاهر الجاري، والقرار: الثبات، وتقول منه: يقر قرارا فهو قار، وأقررته، أي: أثبته، وكذلك قال الْقُتَبِيّ، وقال: معين ماء ظاهر، وهو مفعول من العين: كان أصله (معيون)؛ كما يقال: ثوب مخيط، وبُرٌّ مكيل. وقوله: (فِي غَمْرَتِهِمْ)، قيل: في ضلالتهم وغفلتهم.

(55)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغمر: الماء الكثير، وغمرة الحرب وسطها، وغمرة الموت: شدته، ورجل غمر، أي: سخي، ليس به شح، وجمعه: غمار، ويقال: غمره الماء، أي: صار فوقه. قَالَ بَعْضُهُمْ: والغمر: عداوة، والغمر: الذي لم يجرب الأمور، وقوم أغمار، والغمر: الوسم، والغمرة: الشدة، والغمرات جمع، والغمر: القدح الصغير، والمغامرة: المخاطرة، تقول: غامر بنفسه، أي: خاطر بها. وقوله: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) حسب أُولَئِكَ الكفرة أن ما أمد لهم من الأموال والبنين - ما أعطى لهم - إنما أعطى خيرًا لهم وبرا لا شرا، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - وكذبهم في حسبانهم الذي حسبوا، فقال: (بَلْ لَا يَشْعُرُونَ) أنه إنما أعطى لهم ذلك شرا، وإنما مثل ما حسب أُولَئِكَ الكفرة فيما أعطوا من الأموال والبنين إنما أعطوا خيرًا - حسب المعتزلة في قولهم: إن اللَّه تعالى لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدِّين؛ فأخبر أن ذلك ليس بخير لهم في الدِّين ولا أصلح لهم، وهو ما ذكر في قوله: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، وهم يقولون: إنما يملي لهم ليزدادوا خيرًا وبرًّا. وكذلك قالوا في قوله: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا)، وهم يقولون: لا؛ بل إنما أراد: ليرحمهم بها. فيقال لهم: أنتم أعلم أم اللَّه؟! كما قال لأُولَئِكَ الكفرة؟! حيث قال: (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) إلا أن يكابروا في قوله: (بَلْ لَا يَشْعُرُونَ)؛ لما أنهم قالوا ذلك على الظن والحسبان، لا على العلم؛ حيث قال: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ)؛ فقال: (بَلْ لَا يَشْعُرُونَ)؛ حيث قالوا ذلك ظنًّا وحسبانًا، وإنما الواجب عليهم أن يعلموا ذلك علم إحاطة ويقين. فجواب هذا أن يقال: إن عندهم أن ذلك إنما أعطى لهم وأملى خيرًا وبرا لهم؛ فكانوا على يقين من ذلك وإحاطة عند أنفسهم، وإنما ذلك الظن والحسبان لهم ما عند اللَّه، وإلا: كانوا على حقيقة العلم عند أنفسهم: أنه إنما أعطاهم ذلك وأمد لهم خيرًا؛ فأكذبهم اللَّه في ذلك ورد عليهم قولهم: إنه إنما أعطاهم ذلك لما ذكروا؛ بل أخبر أنه إنما أعطاهم؛ لمضادة ذلك. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي

(57)

الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) جائز أن يكون هذا موصولا بقوله: (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ)؛ على التقديم والتأخير؛ فكأنه قال: إنما نسارع في الخيرات للذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى آخر ما ذكر لأُولَئِكَ الكفرة، جائز أن يكون على الابتداء وصف الذين آمنوا ونعتهم، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ)، أي: من عذاب ربهم خائفون. وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) الإيمان بالآيات يكون إيمانا باللَّه حقيقة؛ لأن الآيات هن الأعلام التي تدل على وحدانية اللَّه وربوبيته، والإيمان هو التصديق، فإذا صدق آياته، وهن أعلام وأخبار تخبر عن وحدانية اللَّه؛ فإذا صدقها صدق اللَّه وآمن به؛ لذلك قلنا: الإيمان بآياته يكون إيمانا باللَّه. وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) أي: لا يشركون غيره في عبادتهم. وقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) وفي بعض القراءات: (والذين يأتون ما أتوا)، مقصورة، وهي قراءة عائشة. فمن قرأ: (والذين يأتون ما أتوا) تأويله، أي: الذين يعملون من عمل وجلت له قلوبهم، أي: يتقبل منهم أم لا؟ ومن قرأ: (يُؤْتُونَ مَا آتَوْا) فهو من الإعطاء والإنفاق؛ يقول: والذين يعطون وينفقون ما أنفقوا، وقلوبهم وجلة: أن ذلك يقبل منهم أم لا؟ وفيه دلالة أن المطيع فيما يطيع ربه يكون على خوف منه كالمسيء في إساءته، وكذلك روي عن عائشة أنها سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن هذه الآية، قالت: " أهم الذين يشربون الخمر، ويسرقون، ويزنون؟ فقال: لا؛ ولكنهم الذين يصومون، ويصلون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) ".

(61)

وجائز أن يكون قوله: (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) لا على ذلك؛ ولكن على ما يذكر، أي: قلوبهم وجلة أنهم يرجعون إلى ربهم: على السعادة أم على الشقاوة؟ واللَّه أعلم. وقوله: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) أخبر أن الذين نعتهم ووصفهم هم الذين يسارعون في الخيرات، لا أُولَئِكَ الكفرة الذين تقدم ذكرهم، (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ): يحتمل، أي: سبقوا أُولَئِكَ الكفرة بها، والله أعلم. وقوله: (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) جائز أن يكون ذكر هذا وقاله؛ لما عمل أُولَئِكَ من الأعمال التي لا تسع ولا تحل، وقالوا: اللَّه أمرهم بذلك بقولهم: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)؛ فقال: (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، أي: إلا ما يسعها، أي: إلا ما يسعها ويحل؛ كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)؛ ردا لقولهم، وتكذيبا. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن يقول: لا نكلف نفسًا من الأعمال إلا وسعها، أي: طاقتها، وذلك يحتمل وجهين: أحدهما، أي: لا نكلف أحدًا من الأعمال ما يتلف طاقة وسعه فيه: لا يكلف الغني من الإعطاء ما يتلف به غناه، وكذلك لا يكلف كل حي من العمل ما يتلف به طاقته وحياته؛ ولكنه إنما أمره وكلفه بأمور يحتمل طاقتهم ذلك العمل والأمر؛ فإن كان كذلك؛ فدل ذلك أنه لم يرد به طاقة العمل وقدرته؛ ولكن طاقة الأحوال التي يجوز تقدمها عن الأحوال. والثاني: ذكر هذا؛ لئلا يقولوا: إنا لم نطق ما كلفنا؛ لأنهم تركوا الأعمال التي أمروا بها، وكلفوا بأعمال مثل التي تركوها، وهي المعاصي التي عملوها، فما أمروا من الأعمال ليس يفوق التي عملوها؛ ولكن مثلها؛ فلا يكون لهم في ذلك احتجاج. وقوله: (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ). قال قائلون: هو الكتاب الذي يكتب فيه أعمالهم وأفعالهم من الخيرات والسيئات، وذلك كله محفوظ محصى عليهم؛ كقوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)؛ فإن كان هذا فيكون قوله: (بِالْحَقِّ)، أي: بالتصديق. وقال قائلون: هو الكتاب الذي أنزل إلينا، وهو هذا القرآن؛ ينطق عليكم بالحق، أي: بالحق الذي لله علينا، وبالحق الذي يكون لبعض على بعض، وهو كقوله: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ)، وهو ما ذكرنا من الحق الذي له علينا، ومن الحق

(63)

الذي لبعضنا على بعض. وجائز أن يكون هو اللوح المحفوظ؛ فإن كان هذا، ففيه أن اللَّه لم يزل عالمًا بما كان ويكون في الأوقات التي يكون أبد الآبدين. (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). فإن كان على الكتاب الذي يكتب فيه أعمالهم فيكون قوله: (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، أي: لا ينقص من أعمالهم التي عملوا من الخيرات، ولا يُزاد فيه على سيئاتهم، بل يحفظ ما عملوا. أو أن يكون (لَا يُظْلَمُونَ)، أي: لا يزاد على الجزاء على قدر أعمالهم، ولا ينقص من قدرها؛ بل يجزون على قدر أعمالهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وقوله: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا). قيل: في عماية وجهالة وغفلة، (مِنْ هَذَا): من الكتاب الذي فيه أعمالهم، وأحصى عليهم. وقال قائلون في قوله: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا): أي: من هذا القرآن الذي ينطق بالحق، أي: قلوبهم في عماية وغفلة من هذا القرآن. وجائز أن يكون قوله: (مِنْ هَذَا) من الأعمال التي ذكر للمؤمنين فيما تقدم: من ذلك قوله: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. . .) إلى آخر ما ذكر من أعمالهم، فأخبر أن قلوب أُولَئِكَ الكفرة في غفلة وعماية من الأعمال التي عملها المؤمنون؛ واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ).

(64)

اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ)، أي: من دون ما عمل أُولَئِكَ الكفرة من الأعمال التي تقدم ذكرها: من قوله: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) على ما ذكر، ثم أخبر أن لهم أعمالا دون ما ذكر. وقال قائلون: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ)، يعني: المؤمنين الذين ذكر أعمالهم، أي: لهم أعمال دون الذي ذكر لهم دون تلك الأعمال. وقوله: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) قال أهل التأويل: ذلك في العذاب الذي أخذ أهل مكة في الدنيا من الجوع الذي نزل بهم حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة ونحوه. لكن الأشبه أن يكون ذلك في عذاب الآخرة؛ ألا ترى أنه يقول: (إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي: يتضرعون. ويقول أيضا: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ) فإنما يخبر: أن كنتم تفعلون كذا في الدنيا، ويذكر: (إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)؛ فلا يحتمل أن يتضرعوا إليه في الدنيا، ثم لا يقبل منهم ذلك التضرع، أو ينهاهم عن التضرع بقوله: (لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ (65) فدل ذلك أنه في الآخرة، وهو ما ذكر: (فَلَمَّا رَأَوا بَأْسَنَا. . .) الآية؛ مثل هذا يكون في الآخرة، وفي الدنيا ما ذكر: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ): ذكر في عذاب الدنيا أنهم لم يتضرعوا في الدنيا عند نزول العذاب بهم، ولا يقبل منهم التضرع والاستكانة؛ دل ذلك أنه ما ذكرنا؛ ألا ترى أنه قال: (لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ). نهاهم عن التضرع، ولا يحتمل النهي عن ذلك. وقوله: (إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ). أي: لا تمنعون من عذابه. وقوله: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) قوله: (عَلَى أَعْقَابِكُمْ) ترجعون على التمثيل، ليس على التحقيق؛ لأنهم إذا رجعوا على الأعقاب صار ما كان أمامهم وراءهم؛ فكأنهم نبذوا ذلك وراء ظهورهم. أو أن يكون المنقلب على الأعقاب كالمكب على الوجه، والمكب على وجهه مذموم

(67)

عند جميع من رآه وعاينه؛ لهذا شبه به وضرب مثله به، واللَّه أعلم. وقوله: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) قال عامة أهل التأويل: قوله: (بِهِ)، أي: بالبيت. ووجه هذا: أنهم لما رأوا أنفسهم آمنين بمقامهم عند البيت وفي حرم اللَّه، وأهل سائر البقاع في خوف - ظنوا أن ذلك لهم؛ لفضل كرامتهم ومنزلتهم عند اللَّه؛ فحملهم ذلك على الاستكبار على رسول اللَّه ومن تابعه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مُسْتَكْبِرِينَ)، أي: بالقرآن وتأويله، أي: استكبروا على الله ورسوله لما نزل القرآن، وإضافة الاستكبار إلى القرآن؛ لأنهم بنزوله تكبروا على اللَّه؛ فأضاف استكبارهم إليه؛ لأنه كان سبب تكبرهم، وهو كقوله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ. . . فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ. . .) الآية: أضاف زيادة رجسهم إلى السورة؛ لما بها يزداد رجسهم وكانت سبب رجسهم، وإن كانت لا تزيد رجسًا في الحقيقة. وقوله: (سَامِرًا تَهْجُرُونَ). قال الزجاج: السامر: هو ظل القمر، فيه كانوا يهجرون، والسمر: هو حديث بالليل. قوله: (تَهْجُرُونَ) قال قائلون: تهتدون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تهجرون القرآن، أي: كانوا لا يعملون به ولا يعبئون؛ فهو الهجر، وفيه لغة أخرى: تُهْجِرُون، وهو كلام الفحش والفساد. وقوله: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) قيل: أي: في القرآن؛ يحتمل قوله: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا) أي: فهلا دبروا ذلك القول الذي يقولون في الآخرة في الدنيا، وهو قولهم: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، وما ذكر من تضرعهم في الآخرة، وهو قوله: (إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ). وجائز أن يكون قوله: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ)، أي: قد دبروا القول، لكنهم تعاندوا

وكابروا واستكبروا ولم يخضعوا له؛ أنفا واستكبارًا؛ أو لا ترى أنه إذا قرع أسماعهم قوله: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)، وقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ. . .) الآية، لا يحتمل ألا يدبروا فيه؛ دل أنهم قد تدبروا فيه وعرفوه، إلا أنهم تعاندوا وكابروا واستكبروا؛ أنفا منهم واستكبارا واستنكافا عن اتباعه والخضوع له. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)، أي: يستغيثون، قال: وأصله من الصياح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَجْأَرُونَ): يصرخون. وقيل: يصيحون. وقيل: (سَامِرًا تَهْجُرُونَ) ما ذكرنا من الحديث بالليل، (تَهْجُرُونَ)، أي: تهذون كما يهذي النائم والمريض الشديد المرض. قال: وأهجر يهجر، من الهُجْر: وهو الفحش، وَهَجَّر يُهجِّر: إذا سار في الهاجرة، وهي شدة الحر. وقوله: (تَنْكِصُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: ترجعون، وقَالَ بَعْضُهُمْ: تستأخرون؛ كقوله: (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ): ترجعون، وتستأخرون واحد. وقوله: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ): قد ذكرنا أنه يخرج على وجهين: أحدهما: على ترك التدبر فيه والتفكر، والإعراض عنه، أي: لم يدبّروا فيه، ولم يتفكروا. والثاني: على إيجاب حقيقة التدبر فيه والتفكر، أي: قد تدبروا فيه، وعرفوا أنه منزل من اللَّه، لكنهم تركوا متابعته؛ عنادا وتمردًا وإشفاقًا على ذهاب رياستهم، وطمعًا في إبقائها ودوام مأكلتهم، فأي الوجهين كان، ففيه لزوم حجج اللَّه وبراهينه على من جهلها ولم يعرفها؛ بالإعراض عنها وترك التدبر فيها، حيث استوجبوا عذاب اللَّه ومقته لجهلهم بها: بترك التدبر فيها بعد أن كان لهم سبيل الوصول إلى معرفتها. وظاهر قوله: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا) استفهام، إلا أنه في الحقيقة: إيجاب لها؛ لا يجوز أن يستفهم اللَّه أحدًا؛ فهو على الإيجاب لأنه علام الغيوب. وقوله: (أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أي: قد جاءهم ما جاء آباءهم الأولين من

(69)

الرسل، ثم لم يأت هَؤُلَاءِ شيء إلا ما أتى آباءهم، لم يخصوا هم بالرسول؛ فكيف أنكروه؟! ألا ترى أنهم قالوا: (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ): قد أقروا أن في الأمم المتقدمة رسولا؛ حيث قالوا: (لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ). وعلى ذلك يخرج قوله: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أي: قد عرفوا رسولهم، لكنهم أنكروه وتركوا اتباعه؛ لما ذكرنا في القرآن من أحد الوجهين؛ عنادًا وتكبرا؛ إشفاقًا على رياستهم لكي تبقى؛ ألا ترى أنه قال: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ. . .) الآية. وعلى هذا، (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ). أي: قد عرفوا أنه ليس به جنة. وجائِز أن يكون قوله: (أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ): جاء هَؤُلَاءِ ما لم يأت آباءهم، وخص هَؤُلَاءِ ما لم يخص آباءهم. وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ: لعمري لقد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين. وجائز أن يكون قوله: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ): إلى ما ذكر من قوله: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ)؛ لأنه يخرج على الأمر بالتدبر فيه، ومعرفة الرسول أنه ليس كما يصفونه من الجنون وغيره؛ كقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)، أي: تفكروا فيه؛ فإنه ليس به جنة على ما يصفونه، أو على ما ذكرنا: أنهم تفكروا وعرفوا: أنه ليس به جنون، ولا شيء مما وصفوا به؛ لكنهم أرادوا أن يلبسوا أمره على أتباعهم وسفلتهم؛ إشفاقًا على إبقاء ما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ): من البراءة من العذاب. وقوله: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ (70) بالرسالة والقرآن من عند اللَّه، وجعل العبادة له من دون الأصنام التي عبدوها. وقوله: (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ). كرهوا الحق؛ لما ظنوا أن في اتباعه ذهاب الرئاسة والأسباب التي كانت لهم على أتباعهم، بعد معرفتهم أنه حق، أو كرهوا؛ لما لم يعرفوا في الحقيقة أنه حق، وإلا لا أحد ممن يوصف بصحة العقل وسلامته يكره الحق ويترك اتباعه؛ إلا للوجهين اللذين ذكرناهما، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ (71)

قال عامة أهل التأويل: الحق - هاهنا - هو اللَّه، أي: لو تبع اللَّه أهواءهم في كفرهم وشركهم (لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)، وتأويل هذا أن الكفر والشرك مما لا عاقبة له، وكل شيء لا عاقبة له فهو في الحكمة والعقل فاسد باطل غير مستحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحق - هاهنا - كتاب اللَّه، وهو القرآن على ما يهوون هم؛ ليفسد ما ذكر؛ لأنه يكون خارجًا عن الحكمة. وجائز أن يوصل قوله: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ) الحق الذي سبق ذكره، وهو قوله: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)، أي: لو اتبع ذلك الحق أهواءهم وجاء على ما هوته أنفسهم واشتهت من عبادة غير اللَّه، وتسميتهم إياها آلهة، وإنكارهم البعث والتوحيد، وغير ذلك من الأفعال التي كانوا اختاروها وعملوها - لفسدت السماوات والأرض وما ذكر؛ لأنه يكون خلقهم وخلق ما ذكر من السماوات والأرض وما فيهن - لا لما توجبه الحكمة والعقل؛ إذ خلقهم وخلق ما ذكر لأفعالهم التي يفعلون؛ فإذا خرج أفعالهم على غير ما توجبه الحكمة والعقل، بل على السفه والجهل - خرج الذي لها خلق، ومن أجلها أنشئ، كذلك؛ إذ خلق الشيء وفعله لا لعاقبة تقصد - خارج عن الحكمة، واللَّه أعلم بذلك. وجائز أن يكون الحق هو رسول اللَّه، أي: رسول اللَّه لو اتبع أهواءهم لفسد ما ذكر. وقوله: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ). قال أهل التأويل: لشرفهم وذكرهم؛ كقوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ). وقوله: (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ). أي: عن شرفهم معرضون. وجائز أن يكون الذكر هو الحق الذي تقدم ذكره، أي: لو قبلوا ذلك الحق الذي جاءهم وأقبلوا نحوه يكون في ذلك ذكرهم من بعد هلاكهم؛ كما يُذكر أصحاب رسول اللَّه من بعد ما ماتوا؛ ألا ترى أولادهم بذكر آباءهم يتعيشون يقولون: أنا من بني فلان؛ فيبرهم الناس بذلك ويكرمونهم، وأما أُولَئِكَ فإنهم لا يذكرون بشيء من ذلك؛ فذلك يدل على ما ذكرنا. ويحتمل قوله: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ) الثناء عليهم أن لو آمنوا؛ كقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. . .) الآية، وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)

(72)

وقوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ. . .) الآية، ونحو ذلك مما أثنى اللَّه على من آمن منهم؛ فهم لو آمنوا استوجبوا بذلك الثناء. وجائز أن يكون قوله: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ)، أي: يُدعى لهم، وهو ما دعا الملائكة والرسل للمؤمنين، كقوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية، وقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، وقول نوح: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ. . .) الآية، وقول إبراهيم ودعائه لهم: لو آمنوا استوجبوا دعاء هَؤُلَاءِ الملائكة والرسل جميعًا، أو أن يكون ما ذكرنا من إبقاء ذكرهم إلى يوم القيامة؛ كما بقي ذكر أُولَئِكَ الذين آمنوا به وصدقوه؛ فيكون في ذلك كله شرفهم وقدرهم؛ على ما قاله أهل التأويل، واللَّه أعلم. وقوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) جائز أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: (أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ)، اي: قد عرفوا رسولهم، (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ)، أي: ليس به جنة، أي: ليس به شيء يمنعهم عن الإجابة والإيمان به بما يعذرونهم في ترك الإيمان به؛ فعلى ذلك قوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا)، أي: لم تسألهم أجرًا على ما تدعوهم إليه حتى يمنعهم ثقل ذلك الأجر عن إجابته وتصديقه؛ كقوله -أيضًا-: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)، يقطع ما ذكر جميع أعذارهم وحجاجهم، وإن لم يكن عذر ولا حجة في ترك الإجابة له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخراج: الرزق، أي: لا تسألهم رزقًا، ثم أخبر: (فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). * * * قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وقوله: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). المستقيم: القائم بالآيات والحجج، ليس كالسبيل التي يسلكون هم بلا آيات ولا حجج ولا برهان. وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن إنكارهم البعث والآخرة هو الذي حملهم على العدول عن الصراط المستقيم.

(75)

والثاني: الصراط الذي في الدنيا هو المجعول للآخرة؛ فإذا تركوا سلوكه؛ لشهوات منعتهم عن ذلك - أنكروا الآخرة، أو كلام نحو هذا، وقوله: (لَنَاكِبُونَ)، أي: لعادلون، من العدول عنه والمجانبة والميل إلى غيره. وقوله: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) ذكر الضر، ولم يذكر أي شيء كان، وليس لنا أن نقول: كان الجوع أو كذا إلا بثبت، وفيه وجهان من المعتبر: أحدهما: أن رفع المحن التي امتحنهم من البلايا والشدائد إنما يكون برحمة منه وفضل، لا على ما قاله بعض الناس بالاستحقاق؛ حيث ذكر رحمته بكشف ذلك عنهم. والثاني: فيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه أخبر أنه، إن كشف ذلك الضر عنهم، (لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)؛ فكشف عنهم ذلك فلجوا في طغيانهم على ما أخبر؛ فدل أنه باللَّه عرف ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) يخبر عن سفههم وجهلهم باللَّه، وقسوة قلوبهم، وتمردهم وعنادهم؛ حيث أخبر أنهم وإن أخذوا بالعذاب لم يتضرعوا إليه، وما استكانوا له بجهلهم بعذاب اللَّه؛ حيث أخبر أنهم، وإن أخذوا ألم يستكينوا. وقوله: (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) اختلف في قوله: (مُبْلِسُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: المبلس: الآيس من كل خير، وهو ما وصفهم أنهم: (لَيَئُوسٌ كَفُورٌ)، و (فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ)، ونحوه. وقال الزجاج: المبلس: الساكن المتحير لا يدري ما يعمل به فعلى ذلك هم كانوا حيارى لما نزل بهم العذاب، لا يدرون ما يعملون به في دفع ذلك عنهم. وقال الكسائي: المبلس: المقطع السيء الظن، قال: ومنه سمي إبليس؛ لأنه أيس من رحمة اللَّه، وانقطع رجاؤه عنده. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المبلس، البائس الحزين، ويقال: أبلس الرجل، أي: أيس فحزن، وأبلس غيره أيضا، وإنَّمَا سمي إبليسُ إبليس؛ لأنه يئس عن رحمة اللَّه فحزن. قال: وقوله: (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ)، أي: لم يذلوا لربهم بالطاعة له، والخضوع لما ذكرنا.

(78)

قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ). يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم؛ ليتأدى بذلك الشكر له عليها، لكنه ذكر هنا أمهات النعم، لم يذكر غيرها، وهو السمع والبصر والفؤاد الذي ذكر، إذ بها يوصل إلى معرفة: كل نافع وضار، وكل طيب وخبيث، وكل لين وخشن، وكل سهل وشديد، وكل حلو ومر، وكان الإنسان مطبوعًا على حب النافع والطيب واللين والسهل، واختياره على أضداده، والهرب من كل ضار ومؤذ، والفرار عن أضداد ما ذكرنا من المختارات عنده؛ فأخبر أنه أعطى لهم ما يعرفون به: النافع من الضار، والطيب والخبيث، ونحوه شهادة وخبرا، وما به يميزون ذا من ذا، ويختارون ما هو المختار عندهم من غيره، وما ينفعهم مما يضرهم؛ ليتأدى بذلك شكره. ويذكرهم في قوله: (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ (79) أي: جعلكم سكان الأرض بقدرته وسلطانه، وأخبر أنه لم يخلقكم عبثا؛ ولكن للبعث بعد الموت، والحشر إليه؛ لما ذكرنا في غير موضع: أن خلق الخلق للفناء خاصة لا للبعث والإحياء بعد الموت - عبث ولعب، وأخبر عن قدرته وسلطانه؛ حيث قال: (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (80) أي: من قدر - واللَّه أعلم - على إحياء الموتى وإماتة الحي لقادر على البعث، ومن ملك على إنشاء الليل بعد ما ذهب أثر النهار وإنشاء النهار بعد ما ذهب أثر الليل لقادر على الإحياء والبعث بعد الموت. ثم قال: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ). أي: أفلا تعقلون أنه كذلك؛ فكيف تنكرون قدرته على البعث والإحياء بعد ما صرتم رمادًا وترابًا؟! وكيف تشكرون غيره في عبادتكم إياه وتصرفون الشكر إلى غيره فيما أنعم عليكم. وأهل التأويل صرفوا قوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) إلى آخره إلى الكفار، وهم يكفرون بنعمته التي ذكر وينكرونها، وهم لا يشكرون رأسًا؛ بقوله: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)، إلا أن يقال: إنهم في بعض الأحايين ربما يشكرون اللَّه ويتضرعون إليه؛ نحو قوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ. . .) الآية، ونحوه من الآيات التي ذكر فيها دعاءهم وتضرعهم إلى اللَّه عندما أصابهم الضرّ؛ فذلك منهم شكر، أو أن يقال: إن

(81)

قوله: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)، أي: قليلا ما تشكرون رأسًا؛ كقول الرجل: لآخر قليلا ما تفعل كذا، أي: لا تفعل؛ فعلى ذلك هنا إن كان المراد منها والخطاب بها أُولَئِكَ الكفرة، وإلا: الخطاب بها يجيء أن يكون راجعًا إلى المؤمنين الذين يقومون بفرض الشكر لنعمه وقليله، وأما الكفرة فهم يكفرونها وينكرون رأسًا. وقوله: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا). يخبر - جل وعلا - رسوله: سفه قومه، وقولهم الذي قالوا له بعد ما تبين لهم حكمته في خلقهم وإنشاء ما أنشأ لهم، وذكرهم نعمه التي أنعم عليهم، وذكر قدرته وسلطانه فيما ذكر من قوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)، وقوله: (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، وقوله: (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ): ذكرهم ما ذكر في هَؤُلَاءِ الآيات خلقهم وقدرته في إنشاء ما أنشأ لهم، وعرفهم ذلك؛ حتى عرفوا ذلك كله، ثم بين سفههم في جوابهم رسوله، فقال: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ): يخبر رسوله أن هَؤُلَاءِ ليسوا بأول مكذبي الرسل؛ ولكن كان لهم شركاء وأصحاب في التكذيب فقلد هَؤُلَاءِ أُولَئِكَ الأولين، يصبر رسوله على سفه هَؤُلَاءِ، وأذاهم؛ ليصبر على ذلك كما صبر إخوانه الذين كانوا من قبل؛ إذ يذكر لرسوله سبيل بعض ما تداخل فيه بتركهم إجابته، وخوضهم فيما فيه هلاكهم؛ لأنه كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كاد أن تهلك نفسه لذلك؛ حتى قال: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ):، (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ): فبين ما قالوا: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) يقولون: قد وعد آباؤنا بمثل ما وعدنا نحن، فلم ينزل بهم ما وعدوا من العذاب؛ ولا ينزل -أيضًا- بنا ما تعدنا، وهو أساطير الأولحن، أي: أحاديث الأولين، ثم أمر رسوله أن يسألهم ما يلزمهم الإيمان والاعتراف بما كانوا ينكرون، فقال: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). * * * قوله تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) وقوله تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

(86)

فقالوا: لله، لم يجدوا بدًّا من أن يقولوا: لله وأن يقروا؛ لأنهم لو أنكروا ذلك لظهر جهلهم عند كل الخلائق؛ فقالوا: لله؛ فيقول: فإذا عرفتم أن ذلك كله له، وهو خالقهم، فكيف تركتم طاعته، وأنا لست أدعوكم إلا إلى ذلك: أن تجعلوا الأرض وما فيها كله لله؛ أفلا تتعظون وتقرون بما أدعوكم إليه؛ وعلى ذلك قوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) لابد لهم من أن يقروا بذلك، فإذا عرفتم بذلك وأقررتم به: (أَفَلَا تَتَّقُونَ): مخالفته، وتتقون نقمته. وكذلك ما قال: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ... (88) فإذا عرفتم ذلك، وأقررتم به، (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) قيل: فانى تصرفون عن ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فأنى تخدعون وتفرون في ذلك؛ إذا عرفتم أن ذلك كله لله. وجائز أن يكون قوله: (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ): رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتقولون: إنه ساحر كذاب، وهو ليس يدعوكم إلا إلى ما أقررتم واعترفتم به؛ فأنى تنسبونه إلى السحر، واللَّه أعلم. وقوله: (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ): قد ذكرناه فيما تقدم. قوله: (وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ). أي: هو يؤمن كل خائف، ولا يقدر أحد أن يؤمن من أخافه هو، وهو كقوله: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ. . .) الآية. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ)، أي: لا يمنع، (وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ)، أي: لا يقدر أحد أن يمنع منه أحدًا؛ (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)، أي: تغرون وتخدعون، تقول: سحرت، أي: خدعت وغررت، وقال: تسحرون، أي: تخدعون وتصرفون عن هذا، وسمي السحر من هذا. وقوله: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) قد ذكرنا أنه يحتمل وجوهًا: أحدها: بالحق، أي: بوحدانية اللَّه، وألوهيته، وتعاليه عن الشركاء والولد، وعما وصفوه. أو أن يكون قوله: (بِالْحَقِّ)، أي: بالقرآن الذي عرفوه أنه حق، وأنه من عند اللَّه. أو أن يريد (بِالْحَقِّ): محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عرفوا أنه حق وأنه رسول اللَّه إليهم. أو أن يكون (بِالْحَقِّ) ما ذكر: من ذكرهم، وما فيه شرفهم ومنزلتهم.

(91)

و (بِالْحَقِّ) الذي يكون لله عليهم، وما لبعضهم على بعض من الحقوق، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). في وصفهم ربهم ما وصفوه بما لا يليق وصفه به. أو كاذبون في قولهم بأن القرآن مفترى مختلق من عند اللَّه. أو كاذبون في قولهم: بأنه ساحر، وأنه مجنون، وأنه ليس برسول؛ كذبوا في جميع ما أنكروا، واللَّه أعلم. وقوله: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) جائز أن يكون كل حرف من هذه الحروف موصولا بعضه ببعض لما تقدم. وجائز أن يكون كل حرف من هذه الأحرف منفصلا من الأول مستبدا بذاته. فإن كان على الأول فيكون قوله: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ)، ولو كان اتخذ ولدا لكان إلها؛ إذ الولد يكون من جنس الوالد ومن جوهره، لا يكون من خلاف جوهره ولا من غير جنسه في المتعارف؛ فإذا كان إلها من الوجه الذي ذكرنا لذهب إذن كل إله بما خلق. وإن كان منفصلا، فهو على ما ذكر من فساد ذلك كله؛ لأنه قال: ولو كان معه إله - على ما زعموا - إذن لذهب كل إله بما خلق من: الخير، والشر، والدلالة على ألوهيته. (وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ). أي: فهر وغلب بعضهم بعضا على ما يكون من عادة ملوك الأرض؛ فإذا كان ما قالوا ذهب دلالة الألوهية والربوبية؛ فإذا لم يكن ذلك دل أنه واحد لا شريك معه ولا ولد؛ إذ اتساق التدبير، وجري الأشياء على حد واحد وسنن واحد دل على ألوهية واحد لا لعدد؛ إذ لو كان لعدد لكان ما ذكر من غلبة بعض على بعض، وقهر بعض على بعض، ثم ما ذكر: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا). ثم معلوم أن مثل هذا الاحتجاج لا يكون مع الذين ينكرون ألوهية اللَّه ويعبدون الأصنام، وهم مشركو العرب وكفار مكة، ولكن إنما يكون مع الذين يقرون بألوهية اللَّه، لكن يجعلون معه شريكا لحاجة تقع له، وهم: الثنوية والدهرية والمجوس، وأُولَئِكَ الذين يجعلون خالق الشر غير خالق الخير، وخالق هذا غير خالق هذا؛ فيكون قوله: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) على هذا، أي؛ يتعالى عما وصفوه بالحاجة له في خلق ما خلق، والنفع له في ذلك، وكذلك قوله: (وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). وأما على ظاهر ما تقدم ذكره: من اتخاذ الولد والشريك - سُبْحَانَ اللَّهِ عما يصفونه من الولد والشريك، وما قالوا فيه ونسبوا إليه ما لا يليق به.

(93)

أو أن يكون قوله: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) كما يوصف المخلوق المحدث؛ لأنهم وصفوه بالولد، والولد في متعارف الخلق لا يكون إلا من الوالد والأم، هذا هو التوالد المعروف فيما بين الخلق، فإذا وصفوه باتخاذ الولد شبهوه بالمخلوق المحدث من الوجه الذي ذكرنا؛ فنزه نفسه عن ذلك. * * * قوله تعالى: (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) وقوله: (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وقوله: (رًدث اقا تُرِلَنى مَا يوُعَأُونَ): يحتمل على وجهين: أحدهما: (رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)؛ لأنه كان وعد له أن يريه بعضًا وعد لهم بقوله: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ)؛ فلا نريك شيئا؛ فقال: ربِّ إن أريتني ما يوعدون أو لا تريني فلا تجعلني في القوم الظالمين. والثاني: أنك، وإن أريتني ما تعدهم على التحقيق، فلا تجعلني في القوم الظالمين. ثم يحتمل قوله: (فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وجهين: أحدهما: لا تجعلني في القوم الظالمين: في العذاب الذي وعدت لهم أن ينزل؛ لأنه من العدل أن يعذبه ويعامله معاملة أهل العدل؛ كأنه يقول: ربِّ لا تعاملني معاملتك إياهم، وإن كان ذلك من العدل أن تعاملني مثل ما تعامل أُولَئِكَ؛ لأن رسول اللَّه، وإن لم يكن له زلات ظاهرة، فلقد كان من اللَّه إليه من النعم والإحسان: ما لو أخذ بشكر ذلك لم يقدر على أداء شكر واحدة منها فضلا عن أن يؤدي شكر الكل؛ ألا ترى أنه روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:: لا يدخلُ أحدٌ الجنةَ إلا برحمةِ اللهِ؛ فقيلَ: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟ فقالَ: ولا أنا إلا أَنْ يتغمدني اللهُ برحمتِهِ ". ويحتمل قوله: (فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ): في الزيغ والغواية، يسأل ربه أن يعصمه عن الزيغ بالضلال والغواية الذي عليه القوم الظالمون، وهو كدعاء إبراهيم ربه وسؤال العصمة عن الزيغ بقوله: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ

(95)

الْأَصْنَامَ)، وإن كان وعد لهم العصمة عن ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) هذا أيضًا يحتمل وجهين: أحدهما: يخبر رسوله أنه ليس لعجز يؤخر ما وعد لهم من العذاب؛ ولكن لحلم منه وعفو، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ): على التنبيه والإيقاظ؛ فعلى ذلك يحتمل هذا. والثاني: يعزي رسول اللَّه ويصبره على أذاهم إياه، يقول: إني مع قدرتي على إنزال العذاب عليهم والانتقام منهم أحلم عنهم وأؤخر عنهم؛ فأنت مع ضعفك عن ذلك أولى أن تصبر على أذاهم، وعلى هذا يخرج قوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ (96) أي: لا تكافئهم لأذاهم إياك، ولا تشغل بهم بمجازاة ذلك أوادفع، بأحسن من ذلك وكِلْ مكافأتهم إليَّ حتى أنا أكافئهم. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) من الكذب والأذى الذي يؤذونك. والثاني: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)، أي: ادفع سيئاتهم المتقدمة بإحسان يكون منك إليهم؛ ليكونوا لك أولياء وإخوانا في حادث الأوقات، وهو كقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). وقوله: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) وقال في آية أخرى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)، علم رسوله وأمره أن يتعوذ به من الشيطان الرجيم اللعين إذا نزغه - ونزغه: وسوسته - وأمره أيضًا أن يتعوذ من همزه، وهو: همه وقصده بذلك، وأمره أن يتعوذ بحضورهم مكان الوسوسة؛ حتى يدفع عنهم ولا يحضرون ذلك المكان، وكأن التعوذ عن نزغهم؛ ليدفع عنه؛ لئلا يؤثروا في نفسه بعد ما حضروه ووسوسوه. والتعوذ عن همزهم: هو أن يدفع عنه طعنهم ونخسهم؛ لئلا يشغلوه بالذي قصدوه به، والتعوذ عن حضورهم مكان الوسوسة. قال الحسن: همز الشيطان: الموتة، والموتة: غشيان القلب، روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يتعوذ من الشيطان الرجيم، قال: " في همزه، ونفخه، ونفثه ".

وقَالَ بَعْضُهُمْ: همزاته ونزغاته: واحد. وقَالَ الْقُتَبِيُّ همزات الشياطين: نخسها وطعنها، ومنه قيل للعائب: هُمَزة؛ كأنه يطعن ويعيب. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: همزات الشياطين: وساوسهم، يقال: همز يهمز همزًا، أي: وسوس، ومن وجه آخر: همز يهمز همزا، أي: عاب يعيب، ومنه قوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ). ثم في قوله: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ) إلى آخر ما ذكر وجهان على المعتزلة: أحدهما: أنه أمر رسوله أن يتعوذ به مما ذكر؛ فدل أن عنده لطفا لم يعطه: ما لو أعطاه اللَّه لدفع به ما ذكر وأنه مالكٌ لذلك؛ إذ لو كان غيره مالكًا لذلك يخرج السؤال به مخرج الهزء به؛ إذ من طلب من آخر شيئا يعلم أنه ليس عنده ذلك خرج ذلك الطلب مخرج الهزء به؛ فعلى ذلك هذا. والثاني: أن كل مأمور بالتعوذ جعل اللَّه له الإعاذة مما يتعوذ منه. فالوجهان جميعًا ينقضان على المعتزلة في قولهم: إن اللَّه قد أعطى كلا الأصلح في الدِّين، وأعطى كلا العصمة عن كل زيغ وضلال. * * * قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)

(99)

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) ظاهر هذا أن يكون قوله: (رَبِّ ارْجِعُونِ) بعد الموت، وبعد ما عاين أهوال الآخرة وأفزاعها؛ لأن الموت ليس هو شيء يأتي من مكان إلى مكان؛ إنما هو شيء يذهب بالحياة التي فيهم، إلا أن أهل التأويل قالوا: إن ذلك عند معاينتهم ملك الموت، وعند هجومه عليهم بأهواله؛ فعند ذلك يسألون الرجعة إلى الدنيا، والأول أشبه وأقرب. ثم قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ): ليس هو صلة قوله (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)، ولا جوابه؛ لأنه ليس من نوعه، ولا من جنس ذلك، ولكنه - واللَّه أعلم - صلة قوله: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، وجواب قوله: (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)، ونحوه الذي تقدم ذكره، يقول: وإنهم على ذلك (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ)، فعند ذلك يرجع إلى الحق والتصديق، لكن ذلك لا ينفعه في ذلك الوقت (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)، ولم يقل: رب ارجعني، وذلك يخرج على وجهين: أحدهما: سأل على ما يسأل الملوك ويخاطبون: افعلوا كذا، على الجماعة، وإن كان إنما يخاطب واحدا؛ على ما خرج جواب اللَّه وقوله: إنا فعلنا كذا، ونفعل كذا. والثاني: أن يكون قوله: (رَبِّ ارْجِعُونِ): يسأل ربه أن يأمر الملائكة الذين يتولون قبض أرواحهم أن يرجعوه إلى ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله: (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ (100) قَالَ بَعْضُهُمْ: (فِيمَا تَرَكْتُ)، أي: فيما كذبت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فِيمَا تَرَكْتُ): في الدنيا من الأعمال الصالحة فأعمل بها. وجائز أن يكون قوله: (فِيمَا تَرَكْتُ): من الأموال فأؤدي منه حقك؛ لأن من الكفرة ما كان سبب كفرهم منع الزكاة وجحودها؛ كقوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، فيسأل ربه أن يرجع إلى المال الذي تركه؛ ليؤدي الحق الذي كان فيه فمنعه، كقوله: (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)، وقوله: (فَأَصَّدَّقَ)، أي: فأتصدق بالصدقة التي منعتها؛ لأن الخطاب في الصدقة بقوله: (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ. . .) الآية، وهذا أشبه، واللَّه أعلم. وقوله: (كَلَّا)، هو رد لما سألوا من الرجعة.

وقوله: (إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنَّهَا كَلِمَةٌ): هو قول اللَّه: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا. . .) الآية، (قَائِلُهَا): يعني الكافر عند معاينة العذاب، وهو قوله: (ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ). ثم قوله: (كَلَّا) على هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه لا حقيقة لسؤاله الذي يسأله من الرجعة ليعمل العمل الصالح، أي: أنه وإن رد ورجع لا يعمل؛ كقوله - تعالى -: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ). والثاني: أن لا منفعة لهم في سؤالهم الرجعة؛ إذ لو رجعوا لا يصلون إلى ما يأملون؛ لأنهم إنما يسألون ليؤمنوا، والإيمان سبيله الاستدلال، فإذا لم يستدلوا به وقت أمنهم وفسحتهم؛ فكيف يقدرون على الاستدلال في وقت خوفهم؟! واللَّه أعلم. وقوله: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: وراءهم، أي: أمامهم. قال أبو معاذ: مشتقة من تواريت عنك، فكل ما توارى عنك أمامك كان أو وراءك فهو وراءك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ): على حقيقة الوراء. (بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: البرزخ: هو ما بين شيئين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البرزخ: هو الأجل بين الموت والبعث، وهو قول الكلبي وقتادة. وقال مجاهد: البرزخ: هو حاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأبو عبيدة: البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة، وقالا: كل شيء بين شيئين فهو برزخ. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: البرزخ: ما بين الحدين، يعني: الدنيا والآخرة، الأرض المستوية، وأصل البرزخ: الحاجز بينه كقوله: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا)، أي: حاجزًا، وتأويله، أي: صاروا إلى الوقت الذي يحجزهم عما يتمنون ويشتهون، وهو كقوله: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)، وإنما يشتهون ويتمنون الإيمان والأعمال الصالحة. وجائز أن يكون قوله: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ)، أي: من ورائهم أحوالهم أي: الحال

(101)

التي طلبوا الإيمان فيه أحوال لا يمكن فيها الإيمان وما تمنوا من العمل الصالح، والله أعلم. وفيه نقض قول الباطنية؛ لأنهم يقولون: البرزخ هو أن يجعل للمؤمن من الأعمال الصالحة صورة روحانية تبقى أبدًا تثاب تلك الصورة الروحانية من الأعمال، وأن يجعل من الأعمال السيئة للكافر صورة قبيحة روحانية هي تعاقب وتعذب أبدًا، فذلك البعث عندهم، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن بين موتهم وبين البعث: البرزخ، وهو الأجل الذي ذكرنا، أو الحاجز؛ فدل ذلك على نقض قولهم: أن ليس البعث إلا خروج الصورة دون المعاينة. وقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) إن كان قوله: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) في الناس كلهم؛ فذلك في اختلاف المواطن، على ما قال ابن عَبَّاسٍ وغيره من أهل التأويل، واختلاف الأوقات: لا يتساءلون في موطن أو في وقت، ويتساءلون في وقت آخر؛ ألا ترى أنه قال: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)، ونحوه. وإن كانت الآية في أهل، الكفر خاصة فهو يخرج على وجهين: أحدهما: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)؛ لأنه كان يتناصر بعضهم ببعض على غيرهم، ويستعين بعضهم بعضا، ويكونون ردءًا لهم في هذه الدنيا وشفعاء وأعوانًا وأنصارًا، فأخبر أن ذلك ينقطع بينهم ويذهب ذلك التناصر عنهم في الآخرة، والعرب خاصة كان يتفاخر بعضهم على بعض بالأنساب ويتناصر؛ فأخبر أن ذلك منقطع عنهم في الآخرة. والثاني: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ) وما ذكر (يَوْمَئِذٍ)؛ لشغلهم بأنفسهم؛ لفزع ذلك اليوم وأهواله ينسى بعضهم بعضا ويهرب منه، كقوله: (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ. . .) الآية، وقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. . .) الآية، وقال في آية أخرى: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى. . .) الآية، فذلك كله؛ لشدة أهوال ذلك اليوم وأفزاعه كان لكل في نفسه شغلا حتى لا يتفرغ إلى أحد وإن قرب عنه لشغلهم بأنفسهم. وإن كان في الناس جميعًا فهو ما ذكرنا أن ذلك يكون في اختلاف المواطن والأوقات: يسألون في وقت ولا يسألون في وقت، ويسألون في موطن ولا يسألون في موضع، أو

(102)

يسألون عن شيء ولا يسألون عن آخر، وروي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كلُّ نَسَب كانَ فهو منقطعٌ إلا نسبي " أو كلام نحو هذا، ثم يحتمل قوله: " إلا نسبي " وجهين: أحدهما: الشفاعة له في أنسابه، لا يكون ذلك لغيره في نسبه؛ فإذا أراد هذا فهو على حقيقة نسبه. والثاني: أراد بقوله: " إلا نسبي ": المعين له في دينه؛ لأن كل من اتبعه فقد انتسب إليه؛ فكأنه قال: إن كل ذى شفاعة دوني فهو منقطع إلا شفاعتي، فيمن اتبعني وانتسب إلي بقبوله ديني. وقوله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) جائز أن يكون قوله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)، أي: من عظم قدره ومنزلته عند الله بالأعمال التي عملوها من الصالحات والحسنات فهو من المفلحين، ومن خفت منزلته وقدره عند اللَّه بالأعمال الخبيثة السيئة فهو من الذين خسروا أنفسهم، واللَّه أعلم. وقد ذكرنا أقاويل أهل التأويل في الموازين فيما تقدم. وقوله: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) قَالَ بَعْضُهُمْ: لفحتهم النار لفحة؛ فلم تدع لحفا على عظم إلا ألقته. (وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: عابسون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تلفح، أي: تنفح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تلفح: تشوي وتحرق، وذلك عادة النار أنها تعمل كل هذا العمل. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: تلفح، أي تضرب، واللفح: الضرب، يقال: لفحته النار، أي: ضربته؛ فأحرقت وجهه، تلفح لفحًا فهي لافحة.

(105)

والكالح: العابس. وقوله: (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) كذلك كانوا يكذبون، وقد ذكرناه في غير موضع. وقوله: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) أما ما قال أهل التأويل: غلبت علينا من الشقاوة فإنه لا يحتمل؛ لأنهم يقولون ذلك القول؛ اعتذارًا لما كان منهم من التفريط في أمره والتضييع؛ فلا يحتمل أن يطلبوا لأنفسهم عذرا فيما كان منهم؛ إذ لو كان ما ذكر أُولَئِكَ لكان في ذلك طلب العذر لأنفسهم، وهم في ذلك الوقت لا يطلبون عذرا لأنفسهم؛ ولكن يقرون بما كان منهم؛ كقوله: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ)، لكن يحتمل وجهين: أحدهما: يقولون: ربنا شقينا بأعمالنا التي عملناها، وظلمنا أنفسنا، وكنا قومًا ضالين. والثاني: عملنا أعمالا استوجبنا بتلك الأعمال جزاء؛ فنحن أولى بذلك الجزاء، فغلب علينا جزاء تلك الأعمال، أو كلام نحو هذا. وأما ما قاله أُولَئِكَ من أهل التأويل: (غَلَبَتْ)، أي: كتبت فهو بعيد؛ لأنه إنما يكتب ما يفعل العبد وما يعلم أنه يختاره لا يكتب غير الذي علم أنه يفعله ويختاره، والله أعلم. قوله: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قوله: (فَإِنَّا ظَالِمُونَ): ظلم عيان، وظلم ظاهر، وإلا قد كانوا أقزوا بالظلم بقولهم: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ). وقوله: (وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ): قد أقروا بالظلم، لكنهم أقروا بظلم خبر وظلم سماع، لا ظلم عيان؛ فقالوا: (أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ): ظلم عيان، والله أعلم. وقوله: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (اخْسَئُوا)، أي: اسكتوا.

(109)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (اخْسَئُوا)، أي: ابعدوا فيها. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: خسأت فلانا، وأخسأت، أي: باعدته؛ فخسأ، أي: تباعد. وقوله: (وَلَا تُكَلِّمُونِ). يحتمل الوجهين: أحدهما: جائز أن يكون هذا السؤال منهم في أول ما أدخلوا، فقال لهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) فإنكم ماكثون، أو أن يكون هذا السؤال منهم بعد ما سألوا الملك الموت مرة بقوله: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ. . .) الآية، وسألوا مرة تخفيف العذاب بقوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ)، فلما أيسوا منه فعند ذلك يسألون ربهم إخراجهم والإعادة إلى المحنة؛ فقال: (اخْسَئُوا فِيهَا)، أي: ابعدوا فيها ولا تكلمون، أي: يصيرون بحال لا يقدرون على الكلام؛ لشدة العذاب؛ فعند ذلك يكون منهم الشهيق والزفير. وقوله: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أُولَئِكَ الكفرة الذين يسألون الإخراج من النار أنكم قد اتخذتم فريقًا من عبادي آمنوا سخريا، وكنتم منهم تضحكون؛ يذكر هذا لهم - واللَّه أعلم - ليكون ذلك حسرة ونكاية. وقوله (سِخْرِيًّا) اختلف في قراءته: فقرئ، بكسر السين فهو من الاستهزاء والهزء. وقال الكسائي: بالرفع والكسر جميعًا، من الاستهزاء، ولا يقال في العبودة إلا برفع السين، وقَالَ بَعْضُهُمْ: هما سواء. وقوله: (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي)، قَالَ بَعْضُهُمْ: حتى أنساكم الهزء بهم عن العمل بطاعتي. وقيل: أضاف الإنساء إلى الذكر؛ لأنهم كانوا عندما يذكرهم ويدعوهم إلى ذكر الله يهزءون به؛ فأضاف إليه ذلك؛ فكان كإضافة الرجس إلى السورة؛ لأن ذلك إنما يزداد لهم عند تلاوة السورة؛ فأضيف ذلك إلى السورة، وإلا كانت السورة لا تزيد رجسًا؛ فعلى ذلك أضاف الإنساء إلى ذكره؛ لما عند ذكره ودعائهم إليه يحملهم إلى ذلك، واللَّه أعلم، فأضيف إليه. وقوله: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)

(112)

أي: إني جزيتهم اليوم الفوز بما صبروا في الدنيا على أذى أُولَئِكَ الكفرة، أو على أداء ما أمروا به ونهوا عنه. أو أن يكون ذلك كقوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، ونصره إياهم هو أن صارت لهم عاقبة، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) اختلف فيه: قال مقاتل بن سليمان: في القبور. وقال أبو معاذ: أخطأ مقاتل، وذلك قول من ينكر عذاب القبر، وهو قول الجهمية؛ لأن من كان في عذاب وشدة لا يقتصر المقام فيه كل هذا الاقتصار، حتى يقول: لبثت يوما أو بعض يوم؛ بل يزداد له مقام يوم في العذاب على سنة وأكثر، قال: إلا أن يكون عَنِيَ ما بين النفختين حين تؤخذ الأرواح فترقد، فإذا بعثوا استقلوا رقدة ذلك المقدار؛ بما كانوا قاسوا قبل الرقدة من العذاب في القبور، إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل. وجائز عندنا ما قال مقاتل ومُحَمَّد بن إسحاق: بأن ذلك يكون في القبر، وذلك لا يدل على نفي عذاب القبر؛ لأنهم لا يعذبون في القبور بالعذاب الذي يعذبون في الآخرة؛ فجائز أن يستقلوا عذاب القبر بعذاب الآخرة، ويستقصرون ذلك الوقت بعذاب الآخرة لشدته وأهواله، وذلك جائز في متعارف الخلق أن يكون الرجل في بلاء وشدة، ثم يزداد له البلاء والشدة؛ فيستقل ذلك البلاء الذي كان به لشدة ما حل به؛ فعلى ذلك هم: جائز أن يكونوا في عذاب في قبورهم، لكنهم إذا عاينوا عذاب الآخرة استقلوا عذاب القبر واستقصروه؛ لشدة عذاب الآخرة. أو أن يكون عذاب القبر: على النفس الروحاني الدراك الذي يخرج في حال النوم ليس على روح الحياة، مثل النائم يرى نفسه في بلاء وعذاب في نومه، ويكون في أفزاع، وكانت نفسه ملقاة في مكان لا علم لها بذلك ولا خبر، وبها آثار الأحياء؛ فجائز أن يكون عذاب القبر على هذا السبيل على الروح التي بها يدرك الأشياء، لا على روح الحياة التي بها يحيا. وقال قائلون: ذلك في الدنيا: استقلوا حياة الدنيا لحياة الآخرة، وهو كقوله: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)؛ ألا ترى أنه قال: (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ): هذا يدل على أن ذلك في الحياة الدنيا أشبه؛ حيث أمر أن يسأل الذين يعدون،

(114)

وذلك إنما يكون في الدنيا لا في الآخرة. ثم اختلف في العادين: قَالَ بَعْضُهُمْ: هم الملائكة الذين يكتبون أعمالهم في هذه الدنيا ويرقبونهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم ملك الموت وأعوانه. وقوله: (قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أي: ما لبثتم إلا قليلا لو كنتم تعلمون، ولكن لا تعلمون. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (سِخْرِيًّا) بكسر السين، أي: يسخرون منهم، و (سُخْرِيًّا): بضمها، أي: يتسخرونهم من السخرية عبثًا. وقوله: (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي)، أي: شغلكم أمرهم عن ذكري، والوجه فيه ما ذكرنا فيما تقدم. وقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) قوله: (أَفَحَسِبْتُمْ): يحتمل وجهين: أحدهما: (أَفَحَسِبْتُمْ): قد حسبتم أنما خلقناكم عبثًا. والثاني: (أَفَحَسِبْتُمْ)، أي: لا تحسبوا أنا إنما خلقناكم عبثًا. (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ). صير خلقه الخلق لا للرجوع والبعث عبثا؛ لوجهين: أحدهما: لأن خلقه إياهم لا لعاقبة تتأمل أو لمنافع تقصد؛ للهلاك خاصة وللفناء - عبث؛ كبناء المباني لا لمنفعة تقصد به، ولكن للنقض يكون عبثًا في الشاهد، وهو ما قال في آية أخرى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا): سفهها في غزلها للنقض خاصة لا لمنفعة قصدت به، ونهانا أن نفعل مثل فعلها؛ فلو لم يكن المقصود من خلق الخلق إلا الموت والفناء خاصة، لا لعاقبة تقصد - كان سفهًا وعبثًا. والثاني: ما أخبر أنه إنما أنشأ هذا العالم غير البشر لهذا البشر، وله سخر ذلك كله؛ حيث قال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)؛ إذ ليس لغير البشر منفعة بهذه النعم التي أنشأها لهم، من نحو الجن والملائكة ونحوهم؛ إذ لهم قوام بدون ذلك: من الشمس، والقمر، ونحوه من النعم؛ إنما ذلك للبشر خاصة، فإذا كان

(116)

كذلك - لا يحتمل أن يجعل لهم كل هذه النعم التي ذكرها وأنشأها لهم، ثم لا يمتحنهم بالشكر على ذلك ولا يأمرهم بأوامر ولا ينهاهم بمناهٍ؛ فدل ما أنشأ لهم من النعم وسخر لهم من الأشياء أنهم يبعثون ويرجعون إليه؛ حتى يجزون جميعًا: المحسن جزاء الإحسان والمسيء جزاء الإساءة؛ إذ في العقول التفرقة بين الولي والعدو، وبين المحسن والمسيء وبين الشاكر والكافر، ثم رأيناهم جميعًا في هذه الدنيا عاشوا على سواء في الضيق والسعة، لم نر ما يفصل بين الولي والعدو، وبين المحسن والمسيء، وبين الشاكر والكافر؛ فدل ما لم يكن من التفرقة ما ذكرنا في هذه الدنيا على أن هنالك دارًا أخرى دار الجزاء، هناك يفصل بين ما ذكرنا في الجزاء، واللَّه الموفق. (لَا تُرْجَعُونَ): لا تبعثون. وقيل: لا ترجعون إليه بالأعمال التي عملتموها، كقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)، وقوله: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ). وقوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) أي: يتعالى اللَّه عوإن يكون خلق الخلق منه عبثا، أو يتعالى أن يكون خلق الخلق لا لحكمة. (الْمَلِكُ الْحَقُّ). قال الحسن: الحق: اسم من أسماء اللَّه، أو الملك الذي خلق الخلق للحكمة. (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): تنزيه وتبرئة عن جميع ما قالوا فيه. وقوله: (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) يشبه أن يكون على الأول: يتعالى الملك الحق ورب الملك الكريم عن أن يخلقهم لا للحكمة أو للعبث. وقالت الباطنية: العرش: القيامة. ونحن نقول: يشبه أن يكون العرش القيامة، على ما قالوا هم، إلا أنهم يقولون: هو قائم الزمان، وقلنا نحن: هي القيامة المعروفة وهي الساعة، رب القيامة وهي الملك الذي ذكرنا؛ كقوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ): خص ذلك اليوم بالملك له، وإن كان الملك له في الدارين جميعًا؛ لما لا يتنازع في ملكه يومئذ، وقد نوزع في الدنيا، فخلص له ملك ذلك اليوم وصفا له يومئذٍ. وقال بعض أهل التأويل: العرش: السرير، أضافه إلى نفسه؛ لمنزلته عند اللَّه، والكريم: هو نعت ذلك السرير، أي: الحسن؛ كقولهم: (رجل كريم)، أي: حسن، وهكذا يوصف كل كريم بالحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو نعت الرب، أي: ذو عفو وصفح، واللَّه أعلم.

(117)

قوله تعالى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) وقوله: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ). ظاهر هذا يوحي أن هنالك إلهًا آخر؛ لأنه قال: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)، لكنه يخرج على وجهين: أحدهما: لا يحتمل مع اللَّه إلهًا آخر؛ كقوله: (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ). والثاني: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)، أي: من يسم مع اللَّه إلهًا آخر؛ إذ كانوا يسمون الأصنام التي كانوا يعبدونها: آلهة، على هذين الوجهين يخرج تأويل الآية. وقوله: (لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ). أي: لا حجة لهم بذلك؛ لأن الحجة إنما تكون بوجوه ثلاثة: إما بالأخبار التي يجوز الشهادة على صدقها وصحتها. وأما العقول السليمة. وأما من جهة الحس يدل على ذلك؛ فلم يكن لهم واحد من هذه الوجوه. ثم الحس يكون بالدلالة من وجهين: إما بوقوع الحس عليه بالبديهة أو بآثار تدل على الألوهية؛ فلا كان في ظاهر وقوع الحس دلالة ذلك، ولا كان بها آثار تدل على ذلك، بل فيها آثار العبودة والذل، فضلا أن يكون لها آثار الألوهية، فلا عذر لهم في ذلك؛ لأن العبادة لآخر إنما تكون: إما للنعم والأيادي تكون منه إليه؛ فيعبده شكرًا لما أنعم عليه وأحسن إليه، وإما لحوائج يطمع قضاءها له، وإما لما يرى له في نفسه من آثار العبودة له؛ فإذا لم يكن واحد من هذه الوجوه التي ذكرنا فلا عذر لهم في عبادة تلك الأصنام. فإن قالوا: لنا برهان وحجة في ذلك. قيل: قطع حجاجكم بما ذكر من قوله: (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ. . .) الآية، وقوله: (فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا)، ونحو ذلك من الآيات: فيها قطع حجاجهم. وفي حرف حفصة: (لَا بُرْهَانَ لَهُ)، أي: لا سلطان له به. وقوله: (فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ). قال قائلون: (حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) هو قوله: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)، وقال

(118)

بعضهم: (حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي: جزاؤه عند ربه؛ كقوله: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26). وقوله: (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) جائز أن يكون هذا تعظيمًا من اللَّه لكل أحد سؤال المغفرة والرحمة، وقيل: هو لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو يخرج على وجهين: أحدهما: حكمته وعدله ألا يرحم ولا يغفر أحدًا، وإن كان في فضله ورحمته أن يرحم ويغفر. والثاني: يجعل له العصمة والرحمة بهذا الدعاء. أو أن يكون العصمة تزيد في الخوف، كقول إبراهيم: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، وقوله: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا). وقوله: (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)؛ لأن رحمته إذا أدركت أحدًا أغنته عن رحمة غيره، ورحمة غيره لا تغنيه عن رحمته، واللَّه الموفق، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله أجمعين. * * *

سورة النور

سُورَةُ النُّورِ كلها مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا). سماها سورة، وجعل تلاوتها سورة، ولم يجعل لغيرها من السور التلاوة سورة، كما جعل لها، ذلك جائز؛ لكثرة ما فيها من الأحكام: من الفرائض، والآداب: ما بالناس إلى ذلك حاجة، أو لمعنى لم يذكره، أو لا لمعنى، ولكنه ذكر هكذا، وله الخلق والأمر. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: السورة: القطعة من كل شيء؛ تقول: سورت الشيء، أي: قطعته. وقال بعض العلماء: إنما سمي القرآن لجماعة السور، وسميت السورة مقطوعة من الأخرى، فلما قرن بعضها إلى بعض سمي قرآنا؛ كقوله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ). أي: تأليف بعضها إلى بعض، (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)، أي: فإذا جمعناه وألفناه، فاتبع قرآنه، أي: ما جمع فيه فاعمل به: من أمر أو نهي، ويقال: ليس لشعره قرآن، أي: نظم وتأليف، ويقال للمرأة: ما قرأت سلى قط، أي: لم تجمع في بطنها ولدًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سورة - بلا همز - أي: المنزلة والرفعة، وبالهمز: سؤرة: البقية، ومنه سمي: سؤر الكلب، وسؤر الهر، وسؤر الطائر، أي: بقيته والقطعة منه. ثم قرئت بالنصب: (سُورَةً أَنْزَلْنَاهَا)، والرفع جميعًا: (سُورَةٌ)، وهي القراءة الظاهرة. فمن قرأها بالنصب أوقع الفعل عليها، أي: أنزلنا سورة، والفعل إذا وقع على شيء انتصب - تقدم الفعل أو تأخر - كقولك: زيدًا ضربناه، وضربنا زيدًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما انتصب لإضمار فيه كأنه قال: اتبعوا سورة، أو: اذكروا سورة أنزلناها؛ كقوله: (نَاقَةُ اللَّهِ)، أي: احذروا ناقة اللَّه. ومن قرأ بالرفع: على الابتداء، فكل ما يبتدأ به فهو رفع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: رفع على إضمار: هذه سورة أنزلناها، وذلك كله جائز في اللغة، والله أعلم. وقوله: (وَفَرَضْنَاهَا). قرئ بالتخفيف: (وَفَرَضْنَاهَا)، وبالتشديد: (وَفَرَّضْنَاهَا)، قال الزجاج: قوله (وَفَرَّضْنَاهَا)، بالتشديد، يخرج على وجهين:

(2)

أحدهما، أي: كثرنا فيها الفرائض والأحكام. والثاني: (وفَرضناها)، أي: فصلنا فيها بين ما يؤتى وبين ما يتقى، وبين ما أمر فيها وبين ما نهي. وقال: وأما التخفيف: (وَفَرَضْنَاهَا)، أي: الزموا ما فيها من الفرائض وآدابها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: فرضنا، بالتخفيف، أي: بينا فيها الفرائض. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: من قرأها بالتخفيف: (وَفَرَضْنَاهَا)، أي: أنزلنا فيها فرائض مختلفة، ومن قرأها: (وَفَرَّضْنَاهَا)، بالتشديد، يقول: فرضناها عليكم وعلى من بعدكم؛ على التكثير، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ). يحتمل قوله: (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)، أي: حججًا بينة يفهمها ويعرفها كل أحد بالبديهة والتأمل. أو أن يريد بالآيات: الآيات التي جمع فيها أشياء وتتلى؛ لأن الآية إنما تستحق اسم الآية إذا جمع فيها كلمات وحروف، فأما كلمة واحدة وحرف واحد فلا يسمى بهذا الاسم. أو أن يكون قوله: (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ): ما ذكر فيها وبين مما يؤتى ويتقى، وبين ما يحل وما يحرم؛ فذلك كله مبين، واللَّه أعلم. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، أي: تتعظون بما ذكر فيها من المواعظ، وبين فيها ما يزجر عن المعاودة، وهي الحدود التي ذكر فيها؛ لأن سبب الاتعاظ أحد شيئين: المواعظ التي تلين القلوب، والحدود التي تزجر. * * * قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ). لو كان الخطاب يجب اعتقاده على ظاهر المخرج والعموم على ما قاله بعض الناس، لكان لكل أحد أن يقيم على آخر حدَّا بظاهر قوله: (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)؛ فيقول: اللَّه أمرني بذلك بقوله: (فَاجْلِدُوا)، أو أن يضربوا جميعًا واحدا من الزنا بظاهر قوله: (فَاجْلِدُوا)؛ فيزداد الضرب والحد على ما حد اللَّه أضعافًا مضاعفة؛ فدل أن

اعتقادهم العموم فاسد بظاهر المخرج. أو أن يقول قائل: روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه ": سمى الناظر إلى ما لا يحل نظره إليه زانيا، والماس لها: كذلك؛ فيلزمه الحد بظاهر قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)؛ فإذا لم يفهم من ظاهر قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ما ذكرنا كله؛ دل أن الاعتقاد على عموم المخرج فاسد، وأن المراد بقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) - راجع إلى الخصوص: إلى مقيم دون مقيم، وإلى زان دون زان، وهو الزاني الذي يجمع في فعل الزنا جميع بدنه: العين، واليد، والرجل، والفرج، وجميع بدنه. ورجع الخطاب به إلى البكرين الحرين والثيبين الحرين الذين لم يستجمعا جميعًا أحكام الإحصان. فأما من استجمع جميع أسباب الإحصان فإن حده الرجم على اتفاق القول منهم جميعًا، إلا أن طائفة من أهل العلم أوجبوا عليه مع الرجم الجلد، وفي البكر مع الجلد تغريب عام. والدليل على أن المراد راجع إلى الحرين البكرين أو الثيبين اللذين لم يستجمعا أسباب الإحصان ما ذكرنا من القول المتفق. وقوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، دل إيجاب نصف ما على المحصنات على الإماء على أنه أراد بالمحصنات: الحرائر اللاتي لم يستجمعن جميع أسباب الإحصان، وأن الخطاب بقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) إلى آخر ما ذكر راجع إلى الحرين اللذين ذكرناهما. ثم لم يضرب في الزنا الذي به زنا، وهو الفرج، وقطع في السرقة الذي به سرق: وهو اليد؛ فهو - واللَّه أعلم - لما جعل الحدود زواجر عن المعاودة - لم تجعل دافعة مذهبة إمكان ذلك الفعل من الأصل، وفي ضرب الفرج ذهاب إمكان الفعل من الأصل، ولا كذلك في قطع اليد في السرقة؛ إذ تبقى أخرى: بها يأخذ، وبها يقبض؛ لذلك افترقا. أو أن يقال: في ضرب الفرج خوف هلاكه في الأغلب، وليس ذلك في قطع اليد؛ بل يبقى حيًّا في الغالب، وقد ذكرنا أن الحدود لم تجعل مهلكة متلفة؛ ولكن جعلت زواجر

عن المعاودة؛ لذلك افترقا. وفي قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) دلالة على أن النفي ليس من عذاب الزانيين ولا من عقوبتهما؛ لأنه قال: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، والنفي مما لا يحتمل أن يؤمر بشهوده؛ لأنه لا يمكن؛ فدل أنه ليس من عذابهما. ويدل عليه -أيضًا- قوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)؛ لأنهم أجمعوا على أن لا نفي على الإماء إذا زنين، وقد أوجب عليهن إذا زنين: نصف ما على المحصنات. أو إن ثبت النفي فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أراد به قطع الشَّين الذي لحقهما بفعل الزنا؛ لأنه ليس جرم من الإجرام أكثر شينا وأشد من فعل الزنا؛ فأراد أن ينقطع ذلك من بين الناس. أو أن يكون أراد به قطع الشهوة، التي حملتهم على الزنا: بذل السفر وذلة الغربة. أو صار منسوخًا لما شدد في الضرب بقوله: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ)، وفيما ذكر النفي، لم يذكر فيه الشدة؛ إنما ذكر فيه الجلد فحسب بقوله - عليه السلام -: " أما على ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام "؛ فجائز أن يكون الضرب كان بالتخفيف وفيه نفي، فلما شدد في الضرب ارتفع النفي، وقد جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه نفى رجلا فارتد عن الإسلام ولحق بالروم؛ فقال: كفى بالنفي فتنةً، وقال: لا أنفي بعد هذا أبدًا. وكذلك روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تأخذكم بهما رأفة في تخفيفها؛ فهو - واللَّه أعلم - لأنه من أعظم الإجرام في الشين. ثم للمعتزلة تعلقٌ بظاهر قوله: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ)؛ قالوا: إن اللَّه وصف نفسه بالرحمة بقوله: (رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، ووصف المؤمنين بالرحمة فيما

بينهم، والشدة على الكفار بقوله: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ثم نهاهم أن تأخذهم رأفة على الزانيين وقت إقامة الحد عليهم؛ دل أن الزاني قد خرج بفعله من الإيمان؛ لما ذكرنا من رفع الرأفة والرحمة عنهما. لكن عندنا في الآية دلالة أنه ليس على ما ذهبوا إليه؛ لأن الزاني لو كان يخرج من الإيمان بفعل الزنا لكان لا يحتاج إلى أن يقول: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ)؛ لأنهم كانوا على ما وصفهم اللَّه بالشدة على غير المؤمنين بقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)، دل أن الزنا لم يخرجه عن الإيمان؛ فنهى ألا تأخذ بهما رأفة الأيمان والدِّين في تعطيل الحد أو تخفيفه. أو أن يكون النهي عن أخذ الرأفة؛ ليتحمل ذلك الحد، وإلا: لم ينتفع به في الآخرة، وهو ألا يعذب به؛ ألا ترى أنه قال: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، وفائدته ما ذكرنا: أنه لا تأخذكم بهما رأفة في إضاعة الحد؛ لما يتأمل من النفع في الآخرة، نحو: من يشرب الأدوية الكريهة، ويفتصد، ويحتجم؛ لما يطمع البرء به والنفع؛ فعلى ذلك جائز أن يكون النهي عن أخذ الرأفة في حد الزاني؛ ليقام ذلك عليه؛ فينجو في الآخرة عن عذابه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطائفة: واحد واثنان فصاعدًا، وكذلك قالوا في قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)، هما رجلان اقتتلا؛ دل على ذلك قوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، وهما اثنان في الظاهر، لكن أن ينضم إلى كل واحد منهما جماعة من عشيرته؛ فيكون الطائفة جماعة لا واحدًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ الطائفة: جماعة من العشيرة فصاعدًا. ثم يجب أن ينظر لأي معنى أمر أن يشهد عذابهما طائفة من بين سائر الإجرام؛ فهو - واللَّه أعلم - يحتمل وجوهًا: أحدها: المحنة، أراد أن يمتحن من حضر ذلك، أو المرء قد يتألم على ضرب آخر، وما يحل لغيره؛ لينزجر عن مثله. والثاني: لانتشار الخبر في الناس؛ لينزجروا عن مثله. والثالث: لئلا يتعدى الضارب - والمقيم - ذلك الحد ويجاوزه على الحد الذي جعل له؛ فإن هو تعدى منعه من حضره عن المجاوزة والتعدي.

والرابع: لدفع التهمة عن الحاكم؛ لئلا يتهمه الناس أنه إنما أقام عليه الحد بلا سبب كان منه، ولا جرم. فإن كان الأمر بشهود الطائفة عذابهما هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا: من انتشار الخبر، ودفع التهمة عنه، ومنع المجاوزة، فالطائفة تحتاج أن تكون جماعة؛ لأن الواحد غير كافٍ لذلك. وإن كان الأول - وهو المحنة - فالواحد وما فوقه يكون يمتحن كلا في نفسه بحضور ذلك الحد؛ ليتألم به. وقد ذكرنا أن بعض أهل العلم قالوا: إنه يجمع مع الرجم والجلد؛ واحتجوا بما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الثيب بالثيب: جلد مائة ورجم الحجارة، والبكر بالبكر: جلد مائة وتغريب عام ": فأما الجلد فلا خلاف في أنه حد البكر، وأما النفي فمما اختلفوا فيه: فمنهم من رآه واجبًا، ومنهم من رآه عقوبة لهم يضم إلى الحد. ونحن قد ذكرنا المعنى في ذلك - إن ثبت - ما يغنينا عن تكراره، ونزيد -أيضًا- نكتة، وهي أن الحدود ذوو نهايات للمقدار وغايات، ولذلك سميت حدودًا؛ لأن لها نهاية وغاية، كما يقال: هذا حد فلان، وحد الدارين أنه منتهاها وآخرها، فلما لم يكن للنفي حد ينتهى الزاني إليه دل أنه ليس بحد؛ ولكن أراد به الوجوه التي ذكرنا، إما حبسًا كما يحبس الزاني حتى يحدث توبة، أو قطع الشَّين والذكر الذي يتحدث الناس به؛ لينسى ذلك ويترك، أو قطع الشهوات التي حملتهم على ذلك بذل السفر والغربة، أو أن كان ثم صار منسوخًا بما يشدد فيه الضرب، واللَّه أعلم. وأما قول أصحابنا: يفهم أنه لم يكن الجلد عن الثيب إذا كان محصنًا؛ بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " اغد يا أُنيسُ على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها "، ولم يذكر جلدًا. وذهبوا أيضًا إلى أن حديث ماعز بن مالك، لما رجمه النبي - عليه السلام - باعترافه، ولم يذكر جلدًا، وروي أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال له - لما اعترف ثلاثًا -: " لو اعترفت في المرة الرابعة لرجمك "، ولم يقل: جلدك: علم أنه ينفي الرجم الجلد. وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر برجم امرأة زنت، ولم يجلدها.

(3)

وروي عن ابن عمر عن عمر مثله. إلى كل هذه الأخبار ذهب أصحابنا رحمهم اللَّه، ويقولون: لا يجتمع على رجل في فعل واحد حدَّان: الجلد والرجم جميعًا؛ كما لا يجتمع في غيره من الإجرام في فعل واحد حدَّان أو عقوبتان. وقوله - عليه السلام -: " الثيب بالثيب: يجلد ويرجم " يحتمل الجلد جلد البكر المحصن، ويرجم ثيبًا آخر محصنًا، أو يجلد ثيبًا في حال ويرجم ثيبًا في حال، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة النساء. وقوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) في ظاهر الآية ألا يحل للزاني أن ينكح إلا الزانية من المؤمنات أو مشركة، وكذلك الزانية من المؤمنات لا ينكحها العفيف من المؤمنين؛ وإنما ينكحها الزاني منهم والمشرك. وفي ظاهر الآية النهي للزاني عن نكاح العفائف، وإباحة نكاح الزانيات والمشركات؛ فإن كان ذلك، فكان قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ)، إلا الزناة منكم؛ فإنه يحل لهم أن ينكحوا المشركات، وكذلك قوله: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ)، إلا الزانيات؛ فإنه يحل هذا ظاهرا، لكنهم أجمعوا على ألا يحل للمؤمن - وإن كان زانيًا - أن ينكح المشركة، وكذلك لا يحل للمشركة أن تتزوج بالزاني من أهل الإيمان. ثم اختلف أهل التأويل في تأويله: قال مقاتل، ومُحَمَّد بن إسحاق، وهَؤُلَاءِ: الزاني من أهل الكتاب لا ينكح - أي: لا يتزوج - إلا زانية من أهل الكتاب، أو مشركة من غير أهل الكتاب، والزانية من أهل الكتاب: لا ينكحها إلا زان من أهل الكتاب أو مشرك من غير أهل الكتاب يزنين علانية. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: نزلت الآية في نفر من أهل مكة هاجروا إلى المدينة وكانوا ذوي عسرة، وكان بالمدينة بغايا يبغين بأنفسهن ظاهرات بالفجور، وكن مخصبات أو مخاصيب البيوت، فهَمَّ أُولَئِكَ المهاجرون أن يتزوجوا بأُولَئِكَ البغايا؛ ليصيبوا من خصبهن وسعتهن، فذكروا ذلك لرسول اللَّه واستأذنوه في ذلك؛ فنزلت الآية في شأنهم: (الزَّانِي) من أهل القبلة المعلن به (لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) من اليهود (أَوْ مُشْرِكَةً)

الآية. (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). لكن هذا يصلح أن لو كان أُولَئِكَ المهاجرون مثلهن زناة، فأما إن كانوا مهاجرين أهل إيمان وعفة - فلا يصلح أن يقال فيهم: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً)، وهم لم يكونوا زناة؛ إلا أن يقال على الابتداء: إنه لا يفعل ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ)، أي: لا يجامع، ولا يزني إلا بزانية مثله، وكذلك الزانية لا تزني إلا بزان مثلها أو مشرك لا يحرم الزنا، وهو قول الضحاك وهَؤُلَاءِ. وقال سعيد بن المسيب: نسخت هذه الآية: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، قوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً. . .) الآية. وسئل ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رجل يزني بامرأة ثم يتزوجها؟ قال: هما زانيان ما اصطحبا. وجائز أن يكون النهي عن نكاح الزانية والزاني - نهيا عن الزنا نفسه لا عن النكاح؛ كأنه قال: لا تزنوا؛ فإنكم إذا زنيتم وصرتم معروفين به لا تجدون أن تنكحوا إلا زانِية أو مشركة التي لا تحرم الزنا؛ لأن العفائف منهن لا يرغبن في نكاح من صار معلن الزنا، فإذا لم يرغبن لم يجدوا إلا من ذكر، وهو ما قال: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)، ليس النهي عن قربان الصلاة؛ ولكن النهي عن السكر وشرب المسكر. وكذلك ما روي أنه قال: " لا صلاة للمرأة الناشزة ولا للعبد الآبق ": إنما نهى عن نشوزها وعن إباقه؛ ليس عن الصلاة؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ): إنما نهى عن الزنا، أي: لا تزنوا؛ ليرغب العفائف من المؤمنات فيكم، ولا يزني النساء؛ ليرغب أهل العفاف من المؤمنين؛ فإنكم إذا زنيتم وصرتم معروفين به معلنين لا تجدوا إلا نكاح من ذكر من الزانية أو

المشركة. أو أن يكون ما ذكرنا: لا يرغب الزاني إلا في نكاح زانية أو مشركة، وكذلك المرأة الزانية لا ترغب إلا في نكاح زان مثلها أو مشرك. أو لا يرغب الزاني في الزنا إلا بزانية أو مشركة لا تحرم الزنا، وكذلك الزانية لا ترغب في الزنا إلا بزان مثلها أو مشرك لا يحرم الزنا. (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). وحرم الزنا على المؤمنين. أو إن كان على النكاح؛ فيكون تأويل قوله: (وَحُرِّمَ) أي: منع عن ذلك المؤمنين، أعني: نكاح الزانيات والزناة. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الزانية والزاني يقال منه: زنى يزني زنا، وأما زنا يزنا زنيًا، أي: ارتقى يرتقي؛ ويقال: الزناء: الضيق، ويقال: زننته أزنه زنا، أي: ظننت به ظنا، والقذف: التهمة، والرمي أشد من القذف. ومن جعل الآية في الزانيين المسلمين، وجعل قوله: (لَا يَنْكِحُ): على التزويج - لزمه أن يجيز للزانية المسلمة أن تتزوج الزاني المسلم والمشرك على ما ذكرنا بدءًا، وهذا لا يقوله أحد، وفي بطلان هذا القول بيان أن الآية إن كان المراد بها عقد النكاح فإنها نزلت في الزانية المشركة يريد المسلم أن يتزوجها، كما ذكر في حديث مرثد، وإن كان المراد به بذكر النكاح منها: الوطء، فهو كما قال ابن عَبَّاسٍ في إحدى الروايتين عنه: إنه الجماع، ليس تحتمل الآية غير هذين الحالين، واللَّه أعلم بما أراد. وقد زعم قوم أن المرأة إذا زنت حرمت على زوجها؛ فكأنهم ذهبوا إلى أنه لما لا يحل له أن يطأها؛ لأنها إذا كانت زانية لم يحل المقام عليها إذا زنت وهي زوجة. لكن أهل التأويل في الآية على خلاف ما توهم أُولَئِكَ بما وصفنا؛ فلا وجه لتحريمهم الزانية على زوجها، ولو كان أهل التأويل على ما توهموه فوجب أن تحرم الزانية على زوجها من غير أن كان ممنوعًا من تزويجها؛ ألا ترى أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج امرأة في عدة من غيره، ولو أن رجلا وطئ امرأة رجل بشبهة فوجب عليها منه عدة لم تحرم على زوجها، أفلا ترى أن العدة إذا كانت على النكاح مخالفة للنكاح في العدة. واحتجوا -أيضًا- بأن الرجل إذا قذف امرأته لوعن بينهما وفرق. لكن الوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً

(4)

أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ). ذكر الرمي ولم يذكر بم؟ فيعرف ذلك بالنازلة، ولقوله: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)، وذكر الأربعة الشهود، والزنا هو المخصوص بالشهود الأربعة دون غيره من الإجرام؛ فدل ذكر ذلك على أثر ذلك على أن الرمي المذكور فيه هو الزنا. ثم قوله: (الْمُحْصَنَاتِ): هن الحرائر في هذا الموضع لا العفائف؛ لأن قاذف الأمة يلزمه التعزير؛ ألا ترى أنه قال: (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ. . .) الآية؛ وألا ترى أنه أوجب على الإماء نصف ما على المحصنات وهن الحرائر. ولأنا لو جعلنا (الْمُحْصَنَاتِ) عبارة وكناية عن العفائف دون الحرائر لأسقطنا شهادة الشهود؛ لأن العفة تكذبها. وكذلك يدل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ): عبارة عن العفائف؛ فدل أن المحصنات عبارة عن الحرائر، ثم أدخل المحصنين في حكم هذه الآية في الرمي والقذف وغيره، وإن لم يذكروا في الآية. ثم شدد اللَّه - تعالى - في الزنا وغلظ في أمره ما لم يشدد ولم يغلظ في غيره من الإجرام مثله: منها: ما نهى عن تعطيل الحد فيه وإضاعته وتخفيفه؛ حيث قال: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ). ومنها: ما أمر برجمه إذا كان محصنًا مثل ما يرجم الكلب ويقتل بالحجارة. ومنها: ما أوجب على الرامي به من الحد إذا لم يأت بأربعة شهداء. والزنا بهذا كله مخصوص من بين غيره من الإجرام؛ وذلك - واللَّه أعلم - لقبحه في العقل والطبع جميعًا، وكذلك في الشرع. والدليل أنه قبيح في الطبع والعقل جميعًا ما ينفر عنه طبع كل مسلم وينفر عنه كل عقل

سليم. فَإِنْ قِيلَ: لو كان ينفر عنه لكان لا يرتكبه ولا يأتيه. قيل: ينفر عنه إلا أن الشهوة التي مكنت فيه وركبت تغلبه وتمنعه عن النفار عنه؛ ألا ترى أنه لو تفكر مثله في المتصلات به من الأم والابنة وجميع المحارم، لم يحتمل قلبه ذلك، وبمثله روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن رجلا أتاه فقال له: ائذن لي في الزنا؛ فقال: " أرأيت لو فُعِل بابنتكَ وأمكَ مثلهُ: أكنت تكرهُ؟ فقال: نعم؛ فقال له: اكْرَهْ لِغَيرِكَ ما تكرهُ لنفسك ": دل ذلك أنه قبيح في الطبع والعقل جميعًا إلا أن الشهوة تمنعه عن النفار عنه. وفيه اشتباه الأنساب والمعارف التي جعلت فيما بين الخلق؛ حتى لا يهتدي أحد إلى معلم يعلمه الحكمة والآداب ومعالم السنن ولا الدعاء بالآباء، وارتفع التواصل وحفظ الحقوق التي يقوم بعض لبعض، والشفقة التي جعل لبعض على بعض: من التربية في الصغار، وحقوق المحارم وغيرهم، وبها امتحن البشر والعالم الصغير، وبطل خلق ما ذكر من الإنشاء لهذا العالم، وتسخير ما ذكر ما في السماوات والأرض لهم؛ فهذا كله يدل على قبح الزنا ونهايته في الفحش والمنكر؛ حتى لا يعرف هذا العالم قبحه ونهاية فحشه، وإنما يعرفه العالم الروحاني الذي لم يكن فيهم هذه الشهوة ولم يمتحنوا بها، وأمَّا هذا العالم الذي جعلت فيهم الشهوة لا يعرفون قدر قبحه وفحشه؛ لما تغلبهم وتمنعهم عن النفار عنه والنظر في معرفة قبحه؛ لهذا - واللَّه أعلم - ما شدد اللَّه - تعالى - أمر الزنا وغلظ في أحكامه ما لم يغلظ بمثله في غيره من الإجرام وعظم شأنه من بين سائر الآثام. ثم الذكر إنما جرى في الحرائر بما ذكرنا فهو بالرجال من الأحرار إن لم يكن أكثر فما يكون دونه؛ لأن العذر فيهن أكثر وهي الشهوة التي تغلب وتمنع عن النفار عنه، وفي الرجال أقل؛ فالعذر فيهم أقل؛ ألا ترى أنه ذكر الحد في الإماء بقوله: (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، ولم يذكر في العبيد شيئًا؛ فيلزم للعبد ذلك الحد إذا ارتكبه؛ فعلى ذلك ما ذكر من الحد في النساء والقذف، فهو في الرجال مثله. ثم أجمعوا على أن على قاذف الأمة التعزير ولا حد عليه، وقد سمى الزوجة وإن كانت محصنة أمة، وقال: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، وقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، سمى ملك اليمين:

محصنة بقوله: (أُحْصِنَّ)، أي: تزوجن، وقوله: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، أي: الحرائر؛ فقد بأن بهذه الآية أن الإحصان قد يكون بالحرية، ويكون بالزوج، وإن كانت الزوجة أمة إذا كان لها زوج، وسفى الطيعة من النساء محصنة، قال - تعالى -: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ)، يعني: العفائف، فالإحصان على ثلاثة أوجه؛ وإنما يجب الحد على قاذف الحر المسلم والحرة المسلمة؛ فإن كان حرا أو حرة فعليهما الحد ثمانين، وإن كان عبدًا أو أمة فعليه الحد أربعين سوطًا على ما ذكرنا. وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً). فظاهر هذا أنه لا يقع عند حضرة القذف، ولكن له أن يأتي إلى وقت إياسه وهو الموت، كمن يحلف بيمين ولم يوقت لها وقتا، فإنما وقعت إلى وقت إياسه فحنث عند ذلك؛ فعلى ذلك يجيء على ظاهره أن يقع على الأبد ليس عند حضرة القذف، لكن لو وقع على الأبد لكان فيه سقوطه؛ إذ لا يقام الحد بعد الموت. أو إن أراد بذكر الشهود الأربع زجره عن قذف المحصنات؛ لما لا يجد الشهود على الحلال؛ فالذي هو أخفى وأسر أبعد. والثاني: أن الحد قد لزمه بالفذف، فإن أراد إسقاطه لم يسقط إلا ببينة تقوم حضرة ذلك، كمن يقر بقصاص أو حق من الحقوق، ثم ادعى العفو في ذلك أو إسقاط ما أفر له والخروج منه، لم يصدق إلا ببينة تقوم على حضرة ذلك، فعلى ذلك قوله: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ): وقع ذلك على حضرة القذف، فإن أتى به وإلا حد، واللَّه أعلم. ثم المسألة بأنه إذا أتى بأربعة فساق درأ عن نفسه الحد عندنا، والقياس ألا يطالب بشهود عدول؛ لأن العدول لا يشهدون ذلك المشهد، ولا ينظرون إليه؛ إنما يشهده الفساق فالفساق أحق أن يدرأ بهم الحد عنه من العدول، وليس كالشهادة على إقامة حد الزنا؛ لأن قصدهم بالنظر إلى ذلك المكان - قصد إقامة الشهادة وإيجاب الحد على فاعل ذلك؛ لذلك لم يصيروا فسقة، ولأنهم لا يشهدون بذلك إلا عن توبة تكون منهم إذ يملكون الثوبة، ولأن الفساق من أهل الشهادة ليس كالكفار والعبيد، وهَؤُلَاءِ وإن كانت لا تقبل شهادة الفساق فهم من أهل الشهادة؛ ألا ترى أن من قذف فاسقًا أو كانت امرأة فقذفها زوجها - وهو فاسق - أنا نحد قاذف الفاسق، ونلاعن بين الزوج وبين امرأته، وإن قذف مسلمٌ كافرًا أو قذف حرٌّ عبدًا، لم يحد، وإن قذف أحدهما زوجته لم يلاعن بينهما، فمن خالفنا في هذا اللعان فليس يخالفنا في أن الحر إذا قذف العبد، والمسلم إذا قذف الكافر فلا حد على واحد منهما؛ فهذا كله يدل أن الفساق من أهل الشهادة والكافر والعبد

والمحدود في القذف ليسوا من أهل الشهادة، فإذا كانوا من أهل الشهادة - وإن لم تقبل شهادتهم في غيره - فأوجب ذلك الشبهة، والحدود مما يدرأ بالشبهات؛ لذلك درئ عنه الحد، وأما الكافر والعبد والمحدود في قذف فإن لم يكونوا من أهل الشهادة - لم يجب شبهة في درء الحد عنه؛ لذلك افترقا. ثم المسألة إذا جاء الشهود متفرقين حُدُّوا، ولم تقبل شهادتهم، والقياس عندنا ألا يحدُّوا؛ لأنهم إنما يقومون في الشهادة محتسبين لا يقصدون به قذفه ولا شتمه، وأما الرامي فإنه يقصد قصد شتمه وقذفه، ولأن الشاهد يقول: رأيته فعل كذا، والرامي يقول: أنت كذا؛ فكان كمن يقول الآخر: رأيته كفر، لم يضرب بهذا القول، ولو قال: يا كافر، ضرب؛ لأن هذا خرج مخرج الشتم، والأول لا؛ فعلى ذلك الأول، لكنهم أقاموا الحد على الشهود إذا جاءوا متفرقين؛ لأن اللَّه أكد الشهادة بالزنا بأمرين: أحدهما: ألا يقبل فيها أقل من أربعة، وألا يقبل حتى يقولوا: زنى بها، فيأتون هذه اللفظة ويصفوا بأكثر مما يوصف غيره من النكاح وغيره؛ فالشهادة بالزنا أحوج إلى اجتماع الشهود في موطن واحد من اجتماع الشهود على النكاح، ومن قولهم: إن النكاح إذا عقد بشاهدين متفرقين لم يكن نكاحًا؛ فالزنا الذي كان أمره أوكد والحاجة إليه أحوج وأكثر أحق ألا يقبل. والثاني: ما جاء عن عمر أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا وفيهم أبو بكرة، فجلدهم عمر جميعًا؛ لما لم يشهد الرابع كما شهدوا هم، وكان ذلك بحضرة أصحاب النبي فلم ينكر ذلك عليه أحد؛ فكان - لك إجماعًا؛ ألا ترى أن أبا بكرة قال بعد ذلك: أنا أشهد؛ فهمَّ عمر أن يجلده؛ فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن جلدت هذا فارجم صاحبك، فلم ينكر عليه على جلده إياهم إذا لم يتم أربعة؛ إنما أنكر إذا تم، واللَّه أعلم؛ لذلك قلنا: إنهم إذا جاءوا فرادى متفرقين صاروا قذفة ولا ينتظر به حضور من بقي منهم؛ كما لم ينتظر عمر. ثم مسألة أخرى: أنه إذا جاء أربعة وأحدهم زوج قبل عندنا ودرئ عنه الحد؛ لما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - وغيره من السلف، ولأن الشهادة عليها وشهادة الزوج على امرأته تقبل، وإنما ترد إذا شهد لها؛ ألا ترى أنه لو شهد عليها في الديون والقصاص

والسرقة وغير ذلك من الحقوق لقبل؛ فعلى ذلك في هذا. فَإِنْ قِيلَ: إن الزوج إنما يشهد لنفسه وفيه منفعة له؛ لأن حده اللعان إذا قذفها؛ فهو يريد أن يزيل اللعان عن نفسه. قيل: إنما يكون حد الزوج اللعان إذا قذفها قبل أن يرتفعا إلى الحاكم، فإذا فعل ذلك ثم شهد مع ثلاثة آخرين لم تجز شهادته، وأما إذا كان أول ما بدأ به إن جاء مع ثلاثة فشهدوا عليها بالزنا فليس يبطل بشهادته عن نفسه شيئًا وجب عليه؛ ألا ترى أن الأجنبي إذا قذف امرأة ثم جاء ليشهد بذلك عليها مع ثلاثة أن شهادته لا تجوز؛ لأن الحد قد لزمه قبل شهادته؛ فهو يدفع الحد الذي وجب عليه بشهادته؛ فلا تقبل، وأنه لو جاء مع ثلاثة، وكان أول أمرهم أن يشهدوا عليها بالزنا فشهادتهم جائزة، ولا يقال: إن أحدًا منهم يدفع عن نفسه شيئًا وجب عليه؛ فعلى ذلك الزوج. وقوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). تسمية الفسق لهم: لا تخلو إما أن كان لما رموا وقذفوا به بريئًا من ذلك، أو لما هتكوا عليه الستر من غير أن هتك هو على نفسه؛ فإن كان الأول فذلك لا يعلمه إلا اللَّه؛ فعلى ذلك توبته لا تظهر عندنا؛ فإنما ذلك فيما بينه وبين ربه؛ فكأنه قال: وأُولَئِكَ هم الفاسقون عند اللَّه إلا الذين تابوا. وإن كان الثاني فإنا نعلمه؛ فكأنه قال: وأُولَئِكَ هم الفاسقون عندكم. (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا). لا تظهر توبته عندنا؛ لأن توبته هو أن يعزم ألا يهتك على آخر ستره، أو يعزم ألا يقذف بريئًا من الزنا أبدًا؛ فأي الوجهين كان تسميته فسقهم فإن التوبة من ذلك لا تظهر عند الناس لذلك لم تقبل؛ ولذلك قال ابن عَبَّاسٍ: وإنَّمَا توبته فيما بينه وبين اللَّه: إذا تاب غفر اللَّه له ذنبه: الفرية، وكذلك روي عن غير واحد من السلف: من نحو الحسن وإبراهيم وأمثالهم، قالوا: توبته فيما بينه وبين ربه. وقوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) ليس ثمة شهادة رفعت إلى الحاكم فردها؛ ولكن: لا تقبلوا لهم شهادة يرفعونها إلى الحكام؛ فالحرج على كل شهادة يرفعون من بعد، ثم إذا شهد بعد ما قذف وقبل أن يجلد قبلت شهادته وهو قاذف؛ فدل أن شهادته إنما ترد بعد ما جلد لما اتهمه الحاكم، وكل شهادة ردت لتهمة فهي لا تقبلُ أبدًا، والتهمة التي بها جلد

القاذف هي لا تزول أبدًا. أو أن يكون توبته قوله: " فقد كذبت فيما قذفت "؛ فكنا نرد شهادته؛ لتهمة الكذب، فإذا أكذب نفسه نقبلها؛ لتحقق الكذب؛ فهذا بعيد. وأصله أن كل توبة كانت بعد التمكين فهي لا ترفع الحكم الذي جعل له والحدّ، وكل توبة كانت قبل التمكين فهي ترفع العقوبات، كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)؛ فلو لم يرفعوا عنهم تلك العقوبات لكانوا يتمادون في السعي في الأرض بالفساد، وأمَّا فيما نحن فيه فليس في ذلك التمادي فيه. وزعم الشافعي أن حاله قبل الحد وبعد ذلك سواء، هذا خلاف ما نص اللَّه عليه؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. . .) الآية، وقال: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)؛ فجعلهم كاذبين عند العجز عن إقامة الشهداء، وكان أمرهم قبل ذلك موقوفًا؛ فالواجب أن يجعلهم كاذبين عند عجزهم عن تصحيح ما قالوا، وهي الحال التي جعلهم اللَّه فيها كاذبين؛ فبان بما وصفنا أن من جعل حال المحدود بعد أن ضرب الحدّ كحاله قبل ذلك مخطئ. ودل ما وصفنا على أنه لا يجب أن يستدل بجواز شهادته قبل أن يجلد على جواز شهادته إذا تاب بعد الجلد على ما ذكرنا؛ لأنا بالجلد علمنا أنه قاذف، لا بما كان من رميه المرأة قبل أن يجلد. ومن الدليل على اختلاف الحالين أن عمر لما جلد أبا بكرة قال له: إن تبت قبلت شهادتك، وأنه قبل أن يجلده لم يرد شهادته؛ لأنه لو كان عنده مجروحًا بالقذف لم يسمع شهادته، ولا أعلم بين أهل العلم خلافًا أنه لا يقبل شهادته بعد الجلد ما لم يتب؛ وإنَّمَا يختلفون في شهادته بعد التوبة، وأن شهادته قبل الجلد مقبولة؛ فكيف يشتبه الحالتان مع ما وصف؟! وقال غيرهم: التوبة تزيل فسقه ولا يجوز شهادته، قالوا: الاستثناء على آخر الكلام على الذي يليه، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يدل على بطلان شهادته، وإن تاب: ما روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " المسلمونَ عدولٌ بعضُهم على بعضٍ إلا محدودًا في قَذْفٍ ".

وعن ابن عَبَّاسٍ قال: لما نزل قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)، وذكر حديث فيه طول، وفيه: " لم يلبثوا إلا قليلا حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تاب اللَّه عليهم، قال: يا رسول اللَّه، لقد رأيت فلانًا مع أهلي؛ فقال رسول اللَّه: ما تقول يا هلال؟! قال: واللَّه يا رسول اللَّه، لقد رأيته وسمعته بأذني، قال: فشق على رسول اللَّه للذي جاء به، ثم قال: أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين؟! فاشتد ذلك على رسول اللَّه، وجعل يقول: أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين؟! وقول رسول اللَّه: " يضرب هلال وتبطل شهادته في المسلمين "، وما ظهر من غمه بذلك وجزعه يدلان على أن المحدود لا تقبل شهادته بعد توبته؛ لأن توبته لو قبلت، وكان كسائر الأشياء التي إذا تيب منها، جازت شهادته، لقال النبي: " تبطل شهادته في المسلمين إلا أن يتوب "؛ لأنه لا يقال في شيء من المعاصي: فلان فعل كذا وكذا؛ فبطلت شهادته في المسلمين؛ حتى يقرن إلى ذلك: إلا أن يتوب. وقد ذكرنا عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: (إلَّا الَّذِينَ تَابُوا)، قال: فتاب اللَّه عليهم من الفسق، فأما الشهادة فلا تجوز. وكذلك روي عن كثير من السلف أنهم قالوا: توبته فيما بينه وبين ربه. وفيه وجه آخر، وهو أن القاذف إذا ضرب الحد فهو يقول ما لم يرجع: أنا صادق في نفسي ولم يلزمني الحد فيما بيني وبين ربي؛ وإنما لزمني في ذلك الحكم، فإذا تاب فهو يقول: كان الحد واجبًا علي فيما بيني وبين ربي وفي الحكم؛ فذلك أحْرى ألا يزول عنه من إبطال شهادته بذلك الحد. ووجه آخر: وهو أن القاذف لم تبطل شهادته بقوله: فلان زان؛ لأنه مدّع - بقوله هذا - شيئًا قد يجوز أن يكون حقًّا، ولكنه يصير قاذفا إذا عجز عن إقامة البينة وضربه الحاكم الحد، فإذا كانت شهادته إنما بطلت بحكم حاكم لم يزل ذلك الحكم إلا بحكم حاكم؛ فإن حكم حاكم: بجواز شهادته في شيء جازت شهادته فيه. فَإِنْ قِيلَ: يلزمكم على هذا أن تقولوا: إن قال حاكم: قد أجزت شهادته في كل شيء أن تجوز؛ لأن الحاكم قد رفع ما لزم من بطلان شهادته بالحكم الأول.

قيل: قول الحاكم: قد أجزت شهادته، ليس بحكم؛ إنما هو فتوى، والحكم إنما يكون فيما تقام له البينة، أو يقع به الإقرار. فَإِنْ قِيلَ: فما تقولون في رجل زنى فحده الحاكم: هل تجوز شهادته إن تاب؛ قيل: بلى. فَإِنْ قِيلَ: قد بطلت شهادته بحكم آخر، وتوبته مقبولة بغير حكم حاكم؛ فما منع أن يكون القذف مثل ذلك وما الفرق؟ قيل: الزنا فعل ظاهر يعرف به الزاني وإن لم يحد، والقذف لا يعلم كذب القاذف فيه من صدقه؛ لأنه شيء يدعيه على غيره، وإنما يعلم أنه كاذب في قذفه بما ينفذ عليه من حكم الحاكم؛ فلذلك افترقا. ومن الدليل -أيضًا- على أن شهادة القاذف إذا حد لا تقبل - وإن تاب - أنه إذا قال: تبت من قذفي فلانا، وكنت في ذلك كاذبًا؛ فلسنا ندري هل هو صادق في قوله: كنت كاذبا أم هو في قوله ذلك كاذب؛ لأن المقذوف إن كان في الحقيقة زانيا فقول القاذف: " كنت في قذفي إياه كاذبًا " كذب منه، وهو في ذلك آثم؛ فإذا كنا لا نقف بتكذيبه نفسه على كذبه فيه من صدقه لم نجعله توبة؛ لأن التوبة إنما تكون أن يظهر عند الحكم من الأفعال ما يعلم بنفسها أنها طاعة وأنه فيها على خلاف ما ظهر من نفسه في الوقت الأول؛ فلما لم يعرف كذب المكذب لنفسه من صدقه لم يجعل ذلك من توبة. وقلنا: توبته فيما بينه وبين ربه؛ لأن اللَّه يعلم هل هو كاذب في تكذيبه نفسه أو صادق، ونحن لا نعلم ولا دليل لنا من الظاهر عليه؛ فلم نجعل توبته توبة في الحكم، وقلنا: حالك الآن كحالك قبل ذلك. ودليل آخر: أنا قد علمنا كذبه بقول اللَّه: (فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)، فإذا قال: كذبت في قذفي، قلنا له: لم تفدنا بتكذيبك نفسك فائدة لم نعرفها، فأنت في هذا الوقت كاذب؛ فإنك في الوقت الأول تعلمنا أنك كاذب؛ فحالك الآن في شهادتك كحالك قبل ذلك، على ما ذكرنا. على أن الشافعي يقول: لا ترجع الملاعنة إلى زوجها، وإن تاب، فإذا كانت توبته لا تبطل ما لزمها من الحكم في رجوعها إليه فكذلك لا يبطل ما لزمه من الحكم في بطلان شهادته، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)، إن كان الجلد مأخوذًا من الجلود فجائز أن يستخرج منه حد الضرب، وهو ألا يجاوز الجلود؛ ولكن يضرب مقدار ما يتألم به ويتوجع، ولا

(6)

يمزق به الجلود ولا يخرقها. ونستخرج منه التفريق في الأعضاء كلها والجوارح؛ لأنه لو ضرب في مكان واحد لخرقه ومزقه، سوى الرأس والوجه والمذاكير؛ لما فيه من التأثير والمجاوزة. فإن كان كذلك ففيه حجة لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - في قوله: إن الشهود إذا شهدوا على حد، فضرب به الإمام فأصابه الجراحات، ثم رجعوا لا يضمنون ما أصابه من الجراحات؛ لأنهم لم يشهدوا على ضرب يجرح ويؤثر فيه ما أصابه؛ لذلك لم يضمنوا. وقول عمر لأبي بكرة: " تقبل شهادتك إن تبت "، فهو يحتمل، أي: تقبل روايتك عن رسول اللَّه ومشاهدك التي شهدتها. وقد ذكر أن الحكم والحد في الآية إنما جرى في قذف المحصنات دون المحصنين بقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ. . .) الآية، لكن قذف المحصن وشتمه إن لم يكن أكثر في الشين وأعظم في الوزر لا يكون دونه، فالذكر وإن جرى في المحصنات فأمكن وجود المعنى الذي به جرى ذلك في المحصنات في المحصن، وهو ما قال: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، وهو الإيمان والإحصان والعفة؛ لذلك لزم الحكم في هذا كما لزم في المحصنات. وقد ذكرنا فيما تقدم ألا يجلد من قذف مملوكة أو مملوكًا أو قذف كافرة: أما المملوك فلقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ)، وقد ذكرنا الدليل على أن المراد بالمحصنات الحرائر دون غيرهن؛ لذلك لم يجلد قاذف المملوك. ولأنا لو أوجبنا جلد ثمانين؛ فهو لو أتى بفعل الزنا حد خمسين؛ فلا يجوز أن نوجب على قاذفه مما به قذف من الجلد أكثر مما نوجبه في عين ذلك الفعل لو أتى به؛ فيسقط بما ذكرنا الجلد على قاذف المملوك. وأما الكافر والكافرة: فسقط عن قاذفهما الحد؛ لما ذكرنا من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ): شرط فيه الإيمان والإحصان والعفة، فإذا فقد واحد مما ذكرنا - لم يقم. ولأنا لو أوجبنا الحد وحددنا، لحد بقذف عدو اللَّه، ولا يجوز أن يجلد مسلم بقذف عدو من أعداء اللَّه، مع ما فيما ذكرنا من المسائل إجماع بين أهل العلم في ذلك، والله أعلم. وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) روي عن ابن عَبَّاسٍ، قال: لما نزلت هذه الآية قال عاصم بن عدي الأنصاري: إن

دخل منا رجل بيته فوجد وجلاً على بطن امرأته، وأراد أن يخرج فيجيء بأربعة رجال شهود؛ ليشهدوا على ذلك - قضى الرجل حاجته وخرج، وإن هو عجل فَقَتل قُتِل به، وإن هو قال: وجدت فلانا مع فلانة، ضرب به الحد، ولاعنَ امرأته، وإن سكت سكت على غيظ!! ". فذكر أنه ابتلي بذلك من بين الناس؛ فأتى رسول اللَّه فأخبره بذلك، وقال: وجدت فلانا على بطنها؛ فأرسل رسول اللَّه إلى امرأته وإلى فلان، فجمع بينهما وبين عاصم فقال للمرأة: ويحك، ما يقول زوجك؟! قالت: يا رسول اللَّه، إنه لكاذب؛ ما رأى شيئًا من ذلك، ولكنه رجل غيور؛ فذلك الذي حمله على أن يتكلم بالذي تكلم، فكان فلان ضيفا عنده بدخل ويخرج علي وهو يعلم ذلك، فلم ينهني عن ذلك ساعة من ليل ونهار أن يدخل علي؛ فسأله عن ذلك فقال: يا عاصم، اتق اللَّه في حليلتك، ولا تقل إلا حقا!! قال: يا رسول اللَّه، أقسم باللَّه ما قلت إلا حقًّا، ولقد رأيته يغشى على بطنها، وهي حبلى وما قربتها منذ كذا وكذا؛ فأمرهما رسول اللَّه أن يتلاعنا عند ذلك، وقال: يا عاصم، قم فاشهد أربع شهادات باللَّه أنه لكما قلت، وأنك لمن الصادقين في قولك عليها، ثم قال: والخامسة: أن لعنة اللَّه عليك إن كنت من الكاذبين؛ ففعل ما ذكر، ثم قال للمرأة مثل ذلك؛ فشهدت أربع شهادات باللَّه: إنه لمن الكاذبين عليها، والخامسة: أن غضب اللَّه عليها إن كان من الصادقين في قوله، فلما تلاعنا وفرغا من اللعان فرق بينهما، ثم قال للمرأة: إذا ولدت فلا ترضعيه حتى تأتيني به، فلما انصرفوا عنه قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إن ولدته أحيمر مثل الينعة فهو الذي يشبه أباه الذي نفاه، وإن ولدته أسود أدعج جعدا قططا فهو يشبه الذي رميت به، فلما وضعت أتت به رسول اللَّه، فنظر إليه فإذا هو أسود أدعج جعد قطط على ما فعته رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يشبه الذي رميت به؛ فقال رسول اللَّه: لولا اللعان والأيمان التي سلفت لكان لي فيها رأي. وفي بعض الأخبار أنه لما جمع بينهما قال لها: بعد أن تلاعنا: " فإن اللَّه يعلم أن أحدكما كاذب؛ فهل منكما تائب؟! "، وقال: " عذاب الآخرة أشد من عذاب

الدنيا "، وفي بعض الأخبار: " أن الآية نزلت في لعان هلال بن أمية، فذكر فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. ثم في هذا مسائل: إحداها: أنه ذكر قذف الأزواج وذكر فيه الأيمان ولم يبين؛ فظاهر الآية: الزوج والزوجة: كافران أو مسلمان، حران أو مملوكان، أو كيف كانا؟! فعندنا أنه إذا كان أحدهما حرَّا والآخر مملوكًا، أو كانا جميعًا مملوكين لم يكن بينهما لعان إلا أن يكونا جميعًا من أهل الشهادة. وحجتهم في ذلك أن اللَّه جعل على الأجنبي الحر إذا قذف أجنبية حرة الحد ثمانين، وجعل حد الزوج إذا قذف زوجته وهما حران مسلمان اللعان، ثم قد ذكرنا إجماعهم على أن الحر إذا قذف أمة أو يهودية فلا حد عليه؛ فلما لم يكن على الحر القاذف للأمة من الحد ما على القاذف الحرّ إذا قذف حرة لم يكن على زوج الأمة من اللعان ما على زوج الحرة. وأصل هذا: أن اللَّه ذكر الشهادة في رمي الأجنبية المحصنة وأبرأ القاذف من الحد إذا أتى بها، وأمر بإقامة الحد إذا عجز عن إقامتها، ثم استثنى من الشهداء الذين ذكر في قذف الأجنبية شهادة الزوجين بقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ)؛ فإذا لم يدخلا في تلك الشهادة إذا كانا مملوكين أو كافرين أو أحدهما لم يدخلا فيما استثنى؛ إذ الثنيا استخراج من تلك الجملة المستثناة وتحصيل منها؛ لذلك بطل اللعان. ووجه آخر في الكافرة: وهو أن المرأة تقول في الخامسة: عليها غضب اللَّه إن كان من الصادقين، وغضب اللَّه يكون عليها بغير شرط؛ فمحال أن يقول القاضي لها: عليك غضب اللَّه بشرط إن كان الزوج صادقًا، وهو يعلم أن غضبه عليها في كل حال؛ لذلك بطل. والمخالف لنا أولى بإبطال اللعان بين الحرة والأمة والمسلم والذمية منا؛ لأنهم يزعمون أن العبد ليس بكفء للحر ولا الكافر بكفء للمسلم في القصاص في النفس وفيما دون النفس؛ فكيف جعلوهما في أيمانهما أكفاء لأيمان الأحرار المسلمين؟! كان يجب أن يقولوا مثل يمين الكافر يصححان به ليمين المسلم؛ فلا يوجبون بينهما لعانا، والوجه فيه ما ذكرنا بدءًا.

(8)

ثم المسألة في إباء الأيمان: إذا أبى أحدهم حد عند بعض أهل العلم وهو قول الشافعي، وعندنا أنه لا يحد بالإباء؛ فذهب من أوجب الجلد بالإباء إلى ظاهر قوله: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ): أوجب الجلد في قذف الأجنبي إذا عجز عن إقامة الشهود، ودرأ عنه الحد إذا أتى بأربعة يشهدون؛ فعلى ذلك درأ عن الزوجين الحد إذا شهد كل واحد منهما أربع شهادات باللَّه، فوجب إذا أبى أحدهما الأيمان أن يحد؛ إذ بالأيمان يدرأ الحد ويوجب اللعان. والثاني: ما قال: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) جعل الأيمان سبب درء الحد عنها؛ فإذا أبت ذلك لزم الحد. وعندنا أنه لا يحد بالإباء؛ لأنه ليس في الإباء ظهور الكذب؛ إذ ليس كل من أبى اليمين يظهر كذبه فيه؛ وإنما يحدّ لظهور كذبه في القذف، وهو لا يعلم، ولا يظهر بالإباء، وإنما حدّ في الأجنبية إذا لم يأت بأربعة شهداء؛ لأنه في الظاهر عند الناس كاذب؛ لأنه ليس بينه وبين الأجنبية سبب ولا معنى يبعثه على إظهار ما ذكر، وأمَّا فيما بينه وبين زوجته سبب ومعنى يحمله على إظهار ذلك، وهو الغيرة، فإذا كان كذلك فهو في قذف الزوجة في الظاهر صادق عند الناس؛ للسبب الذي ذكرنا؛ لأنه طالب حق قبلها؛ على ما روي: لا يوطئن فرشهن من يكره الأزواج؛ فلا يزال صدقه بإباء اليمين، وأما من قذف أجنبية فهو كاذب في الظاهر؛ لعدم السبب الحامل على إظهار ذلك الكذب، حتى يأتي ما يزيل الكذب وهو الشهود، وفي الزوجة: على الصدق، حتى يظهر بالأيمان؛ لذلك افترقا، ولأن الحد لا يقام بالإباء ألبتَّة. ولأن الأيمان لا تقابل بشهادة العدول بحال؛ ألا ترى أن من شهد عليه شاهدا عدلٍ بحق، فحلف هو بأيمان لم تقابل الأيمان بتلك الشهادة في سقوط الحق. وأما قوله: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ): جائز أن يكون ذلك في تلك المرأة التي في أمرها نزلت الآية، علم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كذبها بالوحي؛ ألا ترى أنه قال: إذا جاءت بكذا فهو لكذا، وإذا جاءت بكذا فهو لكذا، ثم إذا بها قد جاءت شبيها بالذي رميت به، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " كذبها؛ حيث قال: " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن "، فدرأت تلك المرأة العذاب عنها بالأيمان. أو أن يكون العذاب الذي دُرئ عنها الحبس؛ إذ من قولنا: أيهما أبى اليمين حبس،

حتى يشهد أربع شهادات باللَّه، أو تقر بالزنا، أو يكذب نفسه؛ فدرأ الحبس عنها بالأيمان التي ذكر. وإنما لم يحد بالإباء؛ لأن الإباء لا تظهر الكذب كالإقرار، ولأن الإباء في الحقيقة إباحة. ولو أن إنسانًا أباح للحاكم أن يقيم عليه الحد لم يقم؛ فعلى ذلك هذا، أو لما يجوز أن يأبى عن الأيمان؛ صونًا لنفسه عن اللعن والغضب الَّذِي ذكر فلم يحدّ؛ لما ذكرنا. ثم مسألتان في هذا نذكرهما وإن لم يكونا في ظاهر هذه الآية: إحداهما: في إلحاق الولد أمه. والأخرى في تفريق الحاكم بينهما إذا تلاعنا. قال بعض أهل العلم: إذا فرغ الزوج من لعانه لحق الولد أمه، وإن لم تلتعن المرأة، والقياس في لحوق الولد ما قال أُولَئِكَ: إنه يلحق بفراغ الزوج من اللعان. والقياس في وقوع الفرقة: ما قال أصحابنا: إنه لا يقع إلا بعد فراغ الزوجين جميعًا وتفريق الحاكم بينهما؛ لأن الزوج إذا شهد أربع شهادات باللَّه إنه لمن الصادقين قد ألزم امرأته الزنا في الظاهر؛ فإذا ظهر أن الولد ليس منه فجائز لحوقه بالأم بفراغه من اللعان. وأما الفرقة فإنها لا تقع بظهور الزنا؛ ألا ترى أن امرأة الرجل إذا زنت لا يقع بينهما الفرقة، وألا ترى أن دعوى المرأة باقية بعد فراغ الزوج من أيمانه؛ لذلك افترقا. والأخبار تدل لمذهب أصحابنا في المسألتين جميعًا؛ لأنه روي عن نافع، عن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - أن رجلا لاعنَ امرأته في زمان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وانتفى من ولدها؛ ففرق رسول اللَّه بينهما، وألحق الولد بالمرأة. وعن ابن عَبَّاسٍ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما لاعن بينهما فرق بينهما. وروي في الأخبار: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لهما: " اللهُ يعلمُ أن أحدَكما كاذب؛ فهل منكما تائب؟ "، قال ذلك لهما ثلاثًا، فأبيا؛ ففرق بينهما. وفي بعض الأخبار قال: " حسابُكما على اللهِ، أحدُكما كاذب، لا سبيلَ لكَ عليها ". فَإِنْ قِيلَ: إنما فرق بينهما النبي؛ لأن الفرقة قد وقعت بينهما؛ فأخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لا تحل له، وقال: " لا سبيل لك عليها ".

قيل: قولكم: إن الفرقة قد وقعت بينهما باللعان دعوى منكم، وظاهر الأخبار يشهد لنا وعلى وهم الخصم. ثم يقال لهم: ألستم تقولون في الْمُولي إذا مضت مدته فارتفعا إلى الحاكم: هل تقع الفرقة بينهما إذا امتنع من قربانها وطلاقها ما لم يقل القاضي: قد فرقت بينكما؟! فَإِنْ قِيلَ: فرقة الإيلاء طلاق وفرقة اللعان غير طلاق عندنا. قيل: هما عندنا طلاق. فَإِنْ قِيلَ: إنكم تزعمون أن فرقة الإيلاء تقع بمضي الأجل؛ فما منع أن يقع الفرقة باللعان بتمام اللعان؟! قيل: لم يكن للحاكم في الإيلاء صنع؛ فلا يحتاج إلى حكمه، وفي الآخر: لا يتم اللعان إلا بالقاضي؛ فلا تقع الفرقة إلا بالقاضي. ويقال لهم: ما تقولون في رجل ادعى حقًّا فأقام عليه شاهدين عند قاض: هل يلزم الحكم قبل أن يقول القاضي: قد حكمت بذلك؟ فإن قالوا: لا يلزم الحكم حتى يقول: قد حكمت؛ فيقال: ما منع أن يكون اللعان مثله؟! ويقال لهم أيضًا: ما تقولون في العنين: أجَّله الحاكم أيفرق بينهما؟ فإن قالوا: لا تقع حتى يفرق الحاكم بينهما، قيل: ما منع في فرقة اللعان أنه كذلك؟! فإن قالوا: إنما صارت الفرقة لا تقع في العنين والمولى حتى يوقعها الحاكم، يقول: طلقها أو [فيء] إليها، ويقول لامرأة العنين: اختاري في الفرقة أو المقام معه؛ فلما كان الحاكم ينتظر ما يقول المولي وامرأة العنين، لم تقع الفرقة حتى يوقعها، وليس في اللعان شيء ينتظره الحاكم؛ لذلك افترقا. فقيل: بل ينتظر الحاكم تكذيب المرأة نفسها؛ فيحدها وتكون امرأته، وكذلك إن أكذب الزوج نفسه حده وترك عنده امرأته. وأصله أنه لا تقع الفرقة إلا بعد التعانهما جميعًا وتفريق الحاكم بينهما؛ لأنهما إذا التعنا جميعًا عند ذلك يكون أحدهما ملعونًا أيهما كذب، والانتفاع بالملعون حرام؛ ألا ترى أنه روي في الجبر أنها موجبة، أي: اللعنة التي ذكرت؛ فإنما يلحق اللعن أحدهما إذا التعنا جميعًا، فأما بالتعان الزوج خاصة فلا يقع؛ فإذا كان كذلك فيحتاج إلى أن يفرق الحاكم بينهما ويطرد أحدهما من صاحبه؛ إذ اللعن هو الطرد في اللغة، وهو عندنا كالعقود التي تفسخ: لا يكون إلا بالحاكم، نحو ما ذكرنا من العنين، والذي يأبى الإسلام، وغيرها من العقود؛ فإنه لا يقع بينهما الفرقة إلا بالحاكم؛ فعلى ذلك هذا.

وروي عن عمر أنه قال: المتلاعنان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا. ثم مسألة أخرى: أنه إذا فرق بينهما باللعان فأكذب الملاعن نفسه: يجوز له أن يتزوجها أم لا؟ فعند بعض أهل العلم: ليس له أن يتزوجها؛ احتجوا بما روي عن عمر وعلي - رضي اللَّه عنهما -: " المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا "، وعن عبد اللَّه كذلك. وعند أبي حنيفة ومُحَمَّد - رحمهما اللَّه -: له أن يتزوجها إذا أكذب نفسه، وليس في الخبر: " لا يجتمعان أبدا "، وإن تاب وأكذب نفسه فجائز أن يكون قوله: " لا يجتمعان أبدا " ما داما في تلاعنهما وما أقام على قوله ولم يكذب نفسه، وإن كان فيه حجة لمن قال إذا قال: " لا يجتمعان " قبل التوبة وبعدها، يدل على ما ذكرنا قوله: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)، وقوله: (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) ما داموا في ملتهم، فأمَّا إذا انقلعوا منها فقد أفلحوا؛ فعلى ذلك: لا يجتمعان أبدا ما داموا في تلاعنهما وما أقام الزوج على قوله، فأمَّا إذا رجع عن ذلك لهما الاجتماع، واجتمعوا: أنه إذا أكذب نفسه وادعى الولد ألحق به؛ فعلى ذلك هي. والثاني: لو أكذب الزوج نفسه بعد اللعان قبل الفرقة، وجب أن يحدّ، ويكونان على نكاحهما، فيجب إذا أكذب نفسه بعد اللعان فجلد - فله أن يتزوجها. ثم فرقة اللعان عندنا طلاق، وهي تطليقة بائنة؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما لاعنَ بين عويمر وامرأته - قال: " كذبت عليها إن أمسكتها؛ هي طالق ثلاثا "؛ فصارت سنة في المتلاعنين، فإذا كانت سنة الفرقة بين المتلاعنين الطلاق الذي أوقعه عويمر؛ فواجب أن يكون كل فرقة تقع باللعان: طلاقا. ومن الدليل على ذلك أن قذف الزوج كان سبب هذه الفرقة، وكل فرقة تكون من الزوج، أو أن يكون الزوج سببها، وتقع بقوله فإنها طلاق: كالعنين، والخلع، والإيلاء ونحوه؛ فعلى ذلك فرقة اللعان تطليقة بائنة؛ لأن الزوج سببها وتقع به، وعلى ذلك جاءت الآثار عن السلف أن كل فرقة وقعت من قبل الرجال بقول، فهي طلاق، من نحو إبراهيم، والحسن، وسعيد وقتادة وهَؤُلَاءِ، وكذلك يقول أصحابنا: إن كل فرقة جاءت من الرجال بقول - فهي تطليقة. فإن عورض بأفعال تكون من الرجال، فثقع بها الفرقة والحرمة: من نحو الجماع

(10)

ونحوه - فذلك ليس بمعارضة لما ذكرنا، واللَّه أعلم. ثم قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) هذا الحرف مما يقتضي الجواب، ثم يحتمل أن يكون جوابه: لولا فضل اللَّه عليكم ورحمته لأظهر الكاذب منهما من الصادق، والمذنب من غيره. ويحتمل: لولا فضل اللَّه عليكم ورحمته لأظهر الملعون منهما من غيره، لكن لا يشفع بأحدهما مما لحقه اللعن الَّذِي ذكر، ولا يحل الانتفاع بالملعون؛ ألا ترى أنه روي في الخبر: أن امرأة ركبت ناقتها فلعنتها فاستجيب؛ فأمرت أن ترفع ثيابها وتخلي سبيلها. لكن بفضله ورحمته ستر على الملعون حتى يجوز لغيره أن ينتفع به، وإن كان لا يجوز لواحد منهما أن ينتفع بصاحبه ما دامت اللعنة فيها قائمة. وجائز أن يكون وجه آخر: وهو أن يقال: لولا فضل اللَّه عليكم ورحمته لأظهر الملعون منهما، وإلا جعل العقوبة بين الزوجين كهي في الأجنبيين: وهي الحد، ولأظهر الزاني، لكن بفضله لم يجعل، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ). جائز أن يكون (تَوَّابٌ): يقبل التوبة إذا تاب وأكذب نفسه؛ فيرفع اللعن عنهما بالتوبة؛ فإذا رفع اللعن جاز لهما الانتفاع والاجتماع بينهما؛ ففيه حجة لقول أبي حنيفة ومُحَمَّد - رحمهما اللَّه - في جواز نكاحهما إذا أكذب نفسه. (حَكِيمٌ): حيث حكم بالحكمة بين المتلاعنين، أو (حَكِيمٌ): وضع كل شيء موضعه. وفيه نقض قول المعتزلة في قولهم: إن اللَّه لا يفعل بأحد إلا ما هو أصلح له في الدِّين وأخير؛ إذ لو لم يكن له أن يفعل غير الذي فعل لم يكن لتسمية ما فعل فضلا ورحمة - معنى؛ فدل أن له أن يفعل غير الأصلح في الدِّين. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ

(11)

هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ ... (11) أي: بالكذب. (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ). أي: جماعة منكم. ثم اختلف في قوله: (مِنكُم). قال قائلون: كانوا من أصحاب عائشة رموها بما ذكر في الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا منافقين، من نحو: عبد اللَّه بن أبي رأس المنافقين، وحسان ابن ثابت، وغيرهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك من الفريقين جميعًا: من أصحاب أبي بكر وأقربائه، والمنافقين أيضًا. فإن كان ذلك من أصحاب عائشة - رضي اللَّه عنها - وقراباتها فذلك يخرج منهن على الغفلة والعثرة، ليس على الانتقام والحقد؛ لأن القرابات والمتصلين بالرحم لا يقصد بعضهم ببعض الانتقام والحقد بمثله؛ فإذا كان كذلك فيخرج ذلك منهم إن كان مخرج الغفلة والزلة لا مخرج الانتقام. وإن كان ذلك من المنافقين فهو على الانتقام وطلب الشين منهم لها، وكأن في ظاهر الآية دلالة افتراء الإفك من المنافقين، ثم تسامع المؤمنون بعد ذلك، ويتلقى بعضهم من بعض؛ حيث قال: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)؛ فإن كان ذلك فهو على ما وصفنا: أن ذلك من المؤمنين غفلة وزتة وعثرة، ومن المنافقين انتقام وطلب شين، واللَّه أعلم. وقوله: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

(12)

قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تحسبوه شرا لكم؛ لأنكم تؤجرون وتثابون على ما قيل فيكم من الفحش والقذف بما قرفوا به؛ بل هو خير لكم في الآخرة؛ على ما ذكرنا من الأجر. ويحتمل قوله: (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في الدنيا؛ لما برأه اللَّه مما قرفوا به، ودفع عنهم تمكين ما قرفوا به، ووعد لهم الجنة بقوله: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، وكان قبل نزول هذه الآية موهوم عند الناس فيها متمكن احتمال ذلك الفعل؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)، وقال: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. . .) الآية، كانت كالمؤمنات جميعًا موهوم عنهن عند الناس، محتمل ذلك؛ فلما قرفت - رفع اللَّه ما كان موهومًا عند الناس قبل ذلك، ووعد لهم الأجر الكريم والرزق الحسن بقوله: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): فلا شك أن ذلك خير لهم في الدنيا وشر لأُولَئِكَ الذين رموها حتى لم يتجاسر أحد بعد ذلك، ولا اجترأ أن يظن فيها ظن السوء، فضلا عن أن يقول فيها سوءًا، وقصة عائشة - رضي اللَّه عنها - طويلة، لكنا نذكر ما كان بنا إلى ذلك حاجة. أو أن يقال: بل هو خير لكم لما أنزل اللَّه - تعالى - فيهم آيات فيها براءتهم عما قرفوا به تتلى تلك الآيات إلى يوم القيامة، وذلك خير لهم، واللَّه أعلم. وقوله: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ). إثمه: ما قرفها به. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ). هو ذلك المنافق الذي ألقى ذلك في الناس، (لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ): فيه دلالة أنه يموت على نفاقه، وكذلك مات على نفاقه؛ فلحقه ذلك الوعد، قيل: هو عبد اللَّه بن أبي ابن سلول، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ)، أي عظمه من المعصية، يعني: عبد اللَّه بن أبي ابن سلول (لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)؛ لأنه كان منافقًا. وقوله: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) قَالَ بَعْضُهُمْ: هلا إذ سمعتموه قذف عائشة - رضي اللَّه عنها - بصفوان كذبتم أنتم

(13)

أُولَئِكَ القذفة، يقول: ألا ظن بعضهم ببعض خيرا، وهلا قالوا: (هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)، يقول اللَّه: هلا قالوا: القذف كذب مبين، وعلى هذا يخرج -أيضًا- قوله: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)، أي: هلا قالوا لهم: جيئوا بأربعة شهداء على قذفكم إياهم؛ (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ). ويحتمل أن يكون قوله: لولا إذ سمعتموه ظننتم بهم ظنا: ما يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا دون أن قالوا: إفك مبين. أو أن يكون التأويل: إن لم يظن أحد منكم بنفسه إذا كان مع أزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك فكيف ظن بصفوان ذلك إذا كان هو مع أزواجه؟! أو أن يقال: إذا لم يكن يظن أحد منكم بأمهاته ومحارمه ذلك، فكيف ظن بأزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهن أمهاتكم وأمهات جميع المؤمنين؟! واللَّه أعلم. وقوله: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) أي: لم يكن لهم بما قذفوا شهداء، ولا يجدون على ذلك شهداء. وجائز أن يكون قوله: (لَوْلَا)، أي: لم يكن؛ كقوله: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ)، أي: لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا). وإلا على تأويل (هَلا) يبعد؛ لأنه لم يكن لهم شهداء على ذلك؛ فكيف يأتون؟! وقوله: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ). وإن أتوا بالشهداء على أمر عائشة كانوا كاذبين أيضا؛ فدل أن تأويل قوله: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)، أي: لم يكن شهداء؛ فكيف قذفوها؟! واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ): حيث أنزل في قذفكم عائشة بصفوان آيات في براءتهما حتى تبتم عن ذلك، وإلا لمسّكم العذاب في الآخرة بذلك. والثاني: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لمسكم العذاب، ولعاقبكم بما قلتم في عائشة في الدنيا؛ على هذا التأويل: العذاب الموعود: في الدنيا، وعلى التأويل الأول: الوعيد في الآخرة، لكن بفضله ورحمته دفع عنكم، واللَّه أعلم.

(15)

وقوله: (فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ)، أي: خضتم فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)، أي: بأمثالهم خيرًا، تأويله: لولا ظن المؤمنون بأمثالهم خيرا دون أن يظنوا بهم شرا. وفيما عظم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر القذف وشدد فيه ما لم يشدد في غيره ولم يعظم وجوه: أحدها: قطع طمع أهل الفجور والريبة فيهن، لئلا يطمع أحد منهم في المحصنات وأولاد الكرام ذلك الفضل، فقطع طمعهم بما شدد فيه؛ لئلا يقرفن بذلك، ولا يطمع فيهن ذلك. والثاني: بترك الناس الرغبة في مناكحة المحصنات وأولاد الكرام، ويرغبون فيمن دونهن، ويحدث أيضًا الضغائن والعداوة بين القذفة وبين المتصلين بالمقذوفات. وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لكان كذا: هذا من اللَّه على الإيجاب، أي: قد كان منه ذلك، وإذا كان مضافًا إلى الخلق فهو على أنه لم يكن ذلك؛ ولذلك تأولوه: هلا. وعن ابن عَبَّاسٍ أنه قال في قوله: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ)، يقول: قال للمؤمنين: (لَوْلَا): هلا إذ بلغكم عن عائشة وصفوان (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)، يقول: فظننتم بعائشة ظنكم بأنفسكم، وعلمتم أن أمكم لا تفعل ذلك، وكذلك المؤمنة لا تفعل ذلك، وقلتم: هذا إفك مبين. (لَوْلَا): هلا جاءوا عليه بأربعة شهداء على قولهم، ويصدقوهم على مقالتهم، فإذا لم يأتوا بالشهداء كذبتموهم؛ فأُولَئِكَ عند اللَّه هم الكاذبون، وهو قريب مما ذكرنا فيما تقدم. وقوله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ... (15) بالتشديد، أي: تقبلونه، وتلقونه - بالتخفيف - أي: تأخذونه من الولق، وهو الكذب، وكذلك قرأت عائشة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ)، أي: تقولونه، قال: تلقيت الكلام، ولقنت وتلقنت: واحد. وقوله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) من غيركم. (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ) فيما بينكم.

(17)

وجائز أن يكونا جميعًا واحدًا، أي: تتكلمون بألسنتكم، وتقولون بأفواهكم (مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي: من غير أن تعلموا أن الذي قلتم من القذف قد كان، واللَّه أعلم. وقوله: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: تحسبون القذف ذنبًا هينًا. (وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) في الوزر. وجائز أن يكون قوله: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا): في الدِّين؛ لأن القذف يحدث نقصانًا في الدِّين، والنقصان في الدِّين عظيم عند اللَّه وتحسبونه أنتم هينًا. ثم وعظ الذين خاضوا في أمر عائشة فقال: (وَلَولَا) يقول: هلا، (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) أي: القذف، (قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا) أي: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا الأمر، وهلا قلتم: (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) لعظم ما قالوا فيها، والبهتان: الذي يبهت، فيقول: ما لم يكن من قذف أو غيره. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: البهتان: الكذب، يقال: بهت أي: كذب. (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا (17) أي: القذف أبدًا. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ... (18) في بيان ذلك وبراءتهم، أو يبين أوامره ونواهيه. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي: عليم بكل شيء من قول أو فعل، حكيم يضع كل شيء موضعه. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) كان أصل النفاق هم الذين أحبوا أن تشيع الفاحشة، وإلا أهل الإسلام لا يحبون ذلك في المؤمنين (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة؛ لنفاقهم وقرف عائشة. وأما في المؤمنين فهو ما قال: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وروي عن عمرة عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول اللَّه على المنبر، فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدَّهم. وعن ابن عَبَّاسٍ أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ضرب عبد اللَّه بن أبي، وحسان، ومسطح بن أثاثة الحد، وفي بعض الأخبار: وامرأة أيضا، وقيل: خمسة، لكل واحد ثمانين جلدة. ثم ما ذكر من قذف عائشة أنه بهتان عظيم وقوله: (وَتَحْسَبُونَهُ) (وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) ونحوه فجائز أن يكون في قذف كل محصنة بريئة دون أن يكون ذلك خصوصا لعائشة، وهو كما

(20)

ذكر في قذف المحصنات (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ). وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: يشيعون الفاحشة ويذيعونها في الذين آمنوا هم الذين تولوا إشاعتها وإذاعتها فيهم لهم ما ذكر من العذاب الأليم. والثاني: يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ ليكون ذلك ذريعة لهم في المؤمنين فيقولون: إن دينكم لم يمنعكم عن الفواحش والمنكر. (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)؛ لأنهم كانوا منافقين ومنهم كان أول بدء القذف، وبهم شاع؛ لذلك كان لهم هذا الوعيد. وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) أي: واللَّه يعلم حقائق الأشياء وأنتم لا تعلمون حقائقها. وفيه دلالة تعليق الحكم بالظواهر دون تعليقه بالحقائق. وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) لم يذكر جواب قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ)، فجوابه ما ذكر في قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) أن بفضله يزكو من زكا، وبرحمته يصلح من صلح، لا يصنع من نفسه. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) نهى المؤمنين أن يتبعوا خطوات الشيطان، ولم يبين ما خطوات الشيطان، لكنه قال: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) فجوابه أن يقول: فإن خطواته كذا، ولم يقل أيضًا: ومن يتبع خطوات الشيطان يفعل الفاحشة، ولكنه قال: (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، لكن جوابه ما قال في آية أخرى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ

(22)

عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ. . .) الآية، أخبر أن، من اتبعه أمره بالفحشاء. والخطوات: من الخُطْوة والخَطْوة وهما من رفع القدم ووضعه، وأصله نَهْي عن اتباع آثاره. وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) التزكية تحتمل التوفيق، والعصمة؛ يزكون بما أعطى لهم من التوفيق والعصمة. أو يزكون بما أرسل إليهم من الكتب والرسل والعصمة، وهو أشبه. وفيه نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر أن من زكا إنما يزكو بفضله ورحمته، وهم يقولون: لو فعل بهم غير الذي فعل كان جائزًا عندهم فعلى قولهم ليس بمفضل ولكن عادل؛ لأنه فعل ما عليه أن يفعل؛ فعلى قولهم لا يكون مفضلا، ولكن عادلا؛ إذ لم يسم في الشاهد من فعل ما عليه أن يفعل: مفضلا؛ وعلى قولهم: إنه قد أعطى كلا ما به يزكون ويصلحون، لكنهم لم يزكوا هم؛ فعلى قولهم لم يزك من زكا به، ولكنه إنما زكا بما أعطاه له، فقد أخبر أن من زكا إنما زكا به، وأنه قد أبقى عنده ما لو أعطاهم ذلك لزكوا، وقد أعطى ذلك من زكا وصلح، ولم يعط من لم يزك. وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي: سميع لأقوالهم وعليم لأفعالهم، وأصله ما ذكر: يعلم ما يسرون وما يعلنون. وقوله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَا يَأتَلِ) أي: ولا يحلف، وهو (يفتعل) من الإيلاء. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: لَا يَأْتَلِ، أي: لا يعجز، ولا يقصر، يقال: ائتلى يأتلي، وألا يألو ألوًا، وهو التقصير، وترك المبالغة. ثم يحتمل قوله: (أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ) أي: من له الفضل والسعة. ويحتمل (أُولُو الْفَضْلِ) من له الأفضال والمعروف وبر أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل اللَّه. ذكر أهل التأويل أن أبا بكر كان حلف ألا ينفع مسطحا بنافعة وكان قريبه بما تكلم في عائشة؛ فأنزل اللَّه النهي عن ذلك فقال: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ). لكن الآية وإن نزلت في أمر ومعنى كان من أبي بكر، فإن غيره من الناس يشترك في معنى ذلك، وفي ذلك النهي، وكذلك ما قال في آية أخرى، وهو قوله: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ

(23)

عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ. . .) الآية، ذكر أن قومًا كانوا يحلفون ألا يبروا الناس، ولا يصلحوا بذلك أن يكون حلفهم في ذلك عذرا لهم في ترك الإنفاق عليهم، والتعاون، والإصلاح بين الناس، فنهوا عن ذلك، وذلك اليمين لهم، ولمن كان في معناهم، ليس لهم خاصة؛ فعلى ذلك قوله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ. . .) الآية، وإن كان في أبي بكر فهو فيه وفي الذين في معناه. وإن كان حلف هذا بترك الإنفاق لإساءة كانت منهم إليهم، والأول على الابتداء لإساءة كانت منهم إليهم، وكذلك هذه الآيات نزلت لنازلة كانت في عائشة وصفوان فإنما نزلت لتلك النازلة لمعنى لا نزلت لأنها كانت عائشة أو أبو بكر، لكن لمعنى بكل من وجد ذلك المعنى فيه شرك في ذلك، ويجعل كان هذه الآيات كلها نزلت فيه، وهو ما قال: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) فكل محصنة مؤمنة غافلة بريئة مما رميت به دخلت في الآية، وكل رامٍ محصن مؤمن غافل بريء مما رمي به في الآية؛ لوجود المعنى الذي نزلت الآية. وعلى ذلك القرآن إذا نزل بسبب بالمرء أو نازلة لمعنى، يشترك من وجد فيه ذلك المعنى فيه شرك في ذلك الحكم؛ فعلى ذلك ما نزل في أبي بكر من النهي بترك الإنفاق، وما عوده من اصطناع المعروف إليه لما كان منه إليه من الإساءة، ثم أمره بالعفو والصفح، وهو قوله: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)، أي: اعفوا عن إساءته واصفحوا أي: لا تذكروا عفوكم إياه عن إساءة، ولا تذكروا زلته أيضًا؛ لأن ذكر العفو يخرج مخرج الامتنان كقوله: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)؛ لأن المن والأذى يبطل الصدقة، وذكر الزلة يخرج مخرج التعيير والتوبيخ، فأمره بالعفو وهو ظاهر والصفح ما ذكرنا من ترك ذكر العفو والزلة والإساءة جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) أي: قد تحبون أن يغفر اللَّه لكم ما كان منكم إليه من الإساءة، فإن أحببتم ذلك فاعفوا عمن أساء إليكم، واللَّه غفور رحيم. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ (23) قد ذكرنا أن المحصنات هاهنا: هن الحرائر، والغافلات: هن بريئات من الفاحشة، والمؤمنات ظاهر. وقوله: (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) كان الآية نزلت في المنافقين الذين كان منهم ابتداء القذف وإشاعته في الناس؛ لذلك ذكر فيهم اللعن؛ فهو كما قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) والمؤمن لا

(24)

يحب أن تشيع الفواحش في المؤمنين، إنما ذلك عادة المنافقين. ثم اللعن في الدنيا هو الحد الذي ضرب، وفي الآخرة العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وعظيم كأنه ذكر اللعن والعذاب الأليم إذا لم يتوبوا، وماتوا على النفاق، فعند ذلك يكون لهم ما ذكر؛ ويدل لما ذكرنا أن الآية في المنافقين قوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ... (24)،الآية. وإنَّمَا تشهد هذه الجوارح على الكافر لإنكاره باللسان، وأمَّا المؤمن فإنه مقر بذلك كله لا يحتاج إلى أن تشهد عليه الجوارح، وهو ما قال: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ. . .) الآية، ونحوه، كأنهم ينكرون ذلك في الآخرة كما أنكروا في الدنيا كقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ)، أخبر أنهم يحلفون لله في الآخرة كما كانوا يحلفون لرسول اللَّه في الدنيا، فجائز: أن ألسنتهم تشهد عليهم بعد ما أنكروا، وتشهد عليهم سائر الجوارح إذا أنكروا، وهو ما قال في آية أخرى: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ. . .) الآية. (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا. . .) الآية، تكون شهادة الألسن بعد ما أنكروا هم ذلك، وحلفوا؛ فعند ذلك تشهد عليهم ألسنتهم، واللَّه أعلم. وقوله: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) يؤمنون به جميعًا يومئذ، ويقرون بالحق، لكن لا ينفعهم إيمانهم يومئذ؛ كقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا)، (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)، أي: يعلمون أن ما دعاهم الرسول إليه من توحيد اللَّه، والإقرار بالربوبية له والألوهية هو الحق المبين، أي: تبين ذلك، والحق المبين: ما يبين ما يؤتى وما يتقى، وما يحل مما يحرم. وقوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ... (26) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الخبيثات من الكلمات والقول للخبيثين من الناس والخبيثون من الناس للخبيثات من الكلمات والقول، والطيبات من الكلمات للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات. وقال مجاهد: هو القول السيئ والقول الحسن، فالحسن للمؤمنين والسيئ للكافرين. وذلك ما قال الكافرون من كلمة طيبة فهي للمؤمنين، وما قال المؤمنون من كلمة خبيثة

فهي للكافرين كل بريء مما ليس له، ونحوه من الكلام. ثم قال: (أُولَئِكَ) يعني: عائشة وصفوان. (مُبَرَّءُونَ) مما يقول أُولَئِكَ القذفة. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي: حسن؛ فابن عَبَّاسٍ صرف الآية إلى عائشة وصفوان وإلى قذفتهم، وذلك محتمل، وهو قريب من الأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، لكن هذا يتوجه إلى النكاح شرعًا ووجودا، أما الشرع: فنهيه المؤمنين عن نكاح المشركات بقوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)، وقوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) فالمشركات من الخبيثات فهن للخبيثين منهم، وهم المشركون، وكذلك الزانيات للزناة منهم، والمؤمنات هن الطيبات فهن للمؤمنين، وكذلك المحصنات الغافلات هن الطيبات فهن للمحصنين من أهل العفاف والصلاح؛ هذا هو الشرع. وأما الوجود: فهو ما صبر أزواج المنافقين والكفرة على كفر أزواجهن، والسب لرسول اللَّه، والأذى له، وذلك لخبثهن وكفرهن، وموافقة أزواجهن، فلو كن طيبات لكُنَّ لا يصبرن على ذلك كما لا تصبر المؤمنة بكفر زوجها، والزوج بكفر امرأته، ومن صبر على ذلك إنما صبر لخبثه، فبعضهم لبعض أكفاء: الخبيثات للخبيثين والخبيئون للخبيثات، وكذلك الطيبات والطيبون، واللَّه أعلم. وعن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " إن الكلمة الخبيثة لتكون في جوف الرجل الصالح فلا يكون لها في قلبه مستقر حتى يلفظها، فيسمعها الرجل الخبيث فيضمها إلى ما عنده من الشر، وإن الكلمة الصالحة لتكون في جوف الرجل الخبيث فلا يكون لها في قلبه مستقر حتى يلفظها، فيسمعها الرجل الصالح، فيضمها إلى ما عنده من الخير. ثم تلا عبد اللَّه (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ. . .) الآية. وجائز أن يكون الخبيئات هي الدركات التي تكون في النار للذين عملوا أعمالا خبيثة

(27)

في الدنيا، والطيبات هي الدرجات التي تكون في الجنة للطيبين الذين عملوا في الدنيا أعمالا طيبة، فالدرجات في الجنة للطيبين الذين عملوا الطيبات في الدنيا، والدركات في النار للذين عملوا الخبائث والمعاصي في الدنيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) إلى قوله: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أُنزلت في المنافقين الذين قذفوا عائشة: عبد اللَّه بن أبي وأصحابه، وكان قذفها منافقون ومؤمنون، وهو ما ذكرنا لم يقصدوا به قذفها، ولكن كان ذلك زلة منهم أو غفلة، وأمَّا المنافقون فقد قصدوا به القذف والفرية؛ فأوجب للمنافقين الحد واللعن والعذاب العظيم على ما ذكر (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ولهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، وأمّا المؤمنون فقال لهم: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن، أي: لولا ذلك لعذبكم كما عذب أُولَئِكَ. ثم قال: الخبيثات من القول للخبيثين من الناس نحو ما ذكر أُولَئِكَ إلا أنه زاد فيه من القول والعمل، وذلك كله قريب بعضه ببعض، واللَّه أعلم بذلك. وقال: إن الرجل الصالح يتكلم بالكلمة العوراء فيقول القائل: قال فلان: كذا وكذا، فيقول الآخر: ما هذا من كلام فلان. وروي عن كعب بمثل قِيلِ عبد اللَّه بن مسعود، فقال: إن الكلمة الخبيثة تخرج من لسان العبد فتصعد إلى السماء فلا يفتح لها أبواب السماء، وترجع إلى الأرض فلا تجد لها مستقرًّا، وتذهب إلى البحور فلا تجد لها فيها مكانًا، فتقول: ما أجد لي موضعًا أسكنه غير الموضع الذي خرجت منه، فترجع إلى صاحبها. ثم تلا كعب هذه الآية: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ. . .) الآية. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى

أَهْلِهَا) روي عن عبد اللَّه بن عَبَّاسٍ أنه كان يقرؤها: (حتى تستأذنوا وتسلموا على أَهْلِهَا). وقال: (تَسْتَأْنِسُوا) وهمٌ من الكاتب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الاستئناس: الاستئذان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الاستئناس: الاستعلام، وهو أن يطلب من أهل البيت الإذن بالدخول، والاستئذان هو طلب الإذن منهم للدخول. وروي عن أبي أيوب قال: قلنا: يا رسول اللَّه، هذا السلام قد عرفناه فما الاستئذان؟ قال: " أن يرفع صوته بالتحميد أو بالتسبيح أو بالتكبير ليؤذن للدخول ". فإن ثبت هذا فهو إلى الاستعلام أقرب وهو كقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا)، أي: علمتم. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها) على التقديم والتأخير، أي: حتى تسلموا وتستأنسوا، وهو أن يبدأ فيقول: السلام عليكم ورحمة الله! أدخل أو لا؟ ثم يستأذن، وهو ما روي: " السلام قبل الكلام ". ولكن عندنا أن الاستئذان للدخول فإذا أذن بالدخول فدخل فعند ذلك يسلم عليهم كقوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً)، فإنما أمر بالسلام بعد الدخول؛ فعلى ذلك هذا يستأذن للدخول فإذا أذن له فدخل فبعد الدخول يسلم عليهم؛ لأنه لو سلم أولا ثم استأذن احتاج إلى أن يسلم ثانيا إذا دخل؛ فهذا الذي ذكرنا أشبه بعمل الناس وظاهر الآية، واللَّه أعلم. ثم قوله: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) لم يرجع إلى المساجد ونحوه بل يرجع ذلك إلى بيوت مسكونة؛ فذلك يدل لقولنا: إن من حلف ألا يدخل بيتًا فدخل المسجد لم يحنث. وقوله: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي: ذلك الاستئذان والتسليم خير لكم من ترك الاستئذان؛ لأنه ترك التأدب بما أدبه اللَّه وعلمه (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، أي: تتعظون

(28)

بأدب اللَّه، وروي في بعض الأخبار: (أن من دخل بيتًا بغير إذن قال له الملك الموكل به: عصيت وآذيت فيسمع صوته الخلق كله غير الثقلين، ويصعد صوته إلى السماء الدنيا، فيقول ملائكة السماء: إن فلانًا عصى ربه وأذى). وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) هذا يدل على أن الاستئذان وطلب الإذن لا لحيث أنفسهم خاصة ولكن لأنفسهم ولما لهم في البيوت من الأموال؛ لأنه قال: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا) لم يأذن لهم بالدخول فيها وإن لم يكن فيها أحد حتى يأذن أرباب الأموال والمنازل بالدخول فيها؛ ليعلم أن النهي عن الدخول للأنفس والأموال جميعًا؛ لأن الناس يتخذون البيوت والمنازل صونًا للأنفس والأموال جميعًا، فكما يكرهون اطلاع غيرهم على أنفسهم وعيالاتهم فلا يطيب أنفسهم أيضًا باطلاع غيرهم، على أموالهم وأمتعتهم فلا يدنجل إلا بإذن من أهلها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) ذكر في بعض الأخبار أن الاستئذان ثلاث من لم يأذن له فيهن فليرجع؛ أما الأولى: فيستمع الحي، وأمَّا الثانية: فيأخذون حذرهم، وأما الثالثة: فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا. وقيل: لا تقعدن على باب قوم ردوك عن بابهم؛ فإن للناس حاجات ولهم أشغال، واللَّه أعذر بالعذر. وفي بعضها: وما تنقبم من شيء بابن آدم هو أزكى لكم. وقوله: (هُوَ أَزْكَى لَكُمْ)؛ لأنه إذا لم يؤذن بالدخول فقعدوا على بابهم ولم يرجعوا، أورث ذلك معاني تكره: أحدها: تهمة على أهل الدار على ما يقعد على أبواب أهل التهم من الشرطي وغيره فذلك مكروه عند الناس. والثاني: يكون للناس أشغال وحاجات في منازلهم وخارج المنازل، فإن انتظر وقعد على بابهم ضاق بذلك ذرعهم وشغل قلوبهم ذلك فلعل حاجاتهم لا تلتئم لشغلهم به؛ لذلك كان الرجوع أزكى لهم وخيرًا لهم من القعود على الباب والانتظار، واللَّه أعلم. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الاستئذانُ ثلاث فإِنْ أُذِنَ لكَ فيهن وإلا فَارْجِعْ ".

(29)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: معنى (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا): يقول: إن سكت عنكم فلم يؤذن لكم فقد قيل لكم: ارجعوا، وإن لم يقولوا بألسنتهم: ارجعوا. وقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وعيد؛ كقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ). ثم الاستئذان على محارمه لازم، وإن كان يجوز له أن ينظر إلى شعر ذات محرمه ووجهها فإنه منهي عن النظر إلى ما سوى ذلك من عورتها؛ لما يخشى أن يبدو من عورة المرأة إن دخل عليها بدون إذن. روي أن رجلاً سأل نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: أنا أخدم أمي وأفرشتها أستأذن عليها؟ قال: " نعم ". فسأله ثلاثًا؛ فقال له: " أيسرك أن تراها عريانة؟! " قال: لا قال: " فاستأذن عليها ". وكذلك روي عن حذيفة أن رجلا سأله فقال: أستأذن على أختي؟ فقال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوءك. وكذلك قال ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ عن أحدهما في الأم وعن الآخر في الأخت. لكن أمره في الاستئذان على هَؤُلَاءِ أسهل وأيسر من أمر الأجنبي؛ إذ كان مطلقًا له أن ينظر إلى شعر محرمه ووجهها، واللَّه أعلم. وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) يحتمل قوله: (بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) وجهين: أحدهما: بيوتًا غير محتملة للسكنى، وهي الخربات، والمواضع التي يقضي فيها الحوائج، وكذلك ذكر في حرف حفصة: (بيوتًا غير معمورة لكم فيها منافع). والثاني: بيوتًا مسكونة محتملة للسكنى إلا أن أهلها لم يسكنوها؛ لنزول الناس فيها، وهي نحو الخانات والرباط التي تكون للمارة، وعلى ذلك روي في الخبر أنه لما نزلت آية الاستئذان قال أبو بكر: يا رسول اللَّه، فكيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة وبين المدينة والشام ليس فيها مساكن؟ فأنزل اللَّه - تعالى -: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ). وذكر في حرف ابن مسعود: (ليس عليكم جناح في بيت ليس فيه ساكن أن تدخلوه).

(30)

وقوله: (فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) إن كان ذلك البيوت الخانات والبيوت التي ينزل فيها أهل السفر فيكون قوله: (فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) أي: فيها منفعة لكم من الدفء في الشتاء، والظل في الصيف، ودفع الحرّ في أيام الحرّ، ودفع البرد في أيام البرد. وإن كان البيوت هي الخربات وقباب وأمتعات التي كانوا يضعون في الطهور لقضاء الحوائج، فيكون قوله: (فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) أي: الخلاء والبول، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) قال: ما تبدون من السلام، وما تخفون منه، أو في كل شيء؛ كقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) يذكر هذا لنكونن أبدًا على حذر وخوف، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وقوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) روي عن علي - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يا علي إن لك كنزا في الجنة، وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ". وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يا بن آدم لك أول نظرة فإياك الثانية ". وعن جرير قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: يغضوا أبصارهم عن شهواتهم فيما يكره اللَّه. ثم يحتمل قوله: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) وجوهًا ثلاثة:

(31)

أحدها: غضوا أبصارهم لكي يحفظوا فروجهم؛ فإن حفظ الفرج إنما يكون بغض البصر وحفظه. والثاني: يغضوا أبصارهم عن النظر إلى من لا تحل من الأجنبيات؛ لأن النظر إلى المحارم يحل، ويحفظوا فروجهم عن الكل من المحارم والأجنبيات إلا الذين استثناهم في آية أخرى. والثالث: غضوا أبصارهم عما في أيدي الخلق، ولا تفتحوها إلى ما في أيديهم؛ كقوله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ. . .) الآية. وقوله: (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) أي: أطهر لهم، وأدعى لهم إلى الصلاح من النظر. وعلى هذه يخرج قوله: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ... (31) وقوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) روي عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي اللَّه عنه - قال: (إِلَّا مَا ظَهَرَ): الرداء والثياب. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا): الكحل والخاتم. وفي رواية أخرى: الكف والوجه. وعن عائشة قالت: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا): القلب والفتخة، وهي خاتم أصبع الرجل. وعن عبد: اللَّه الزينة زينتان: زينة باطنة لا يراها إلا الزوج. وأما الزينة الظاهرة فالثياب. والباطنة كالإكليل والسوار والخاتم. فإن كان التأويل ما روي عن ابن مسعود حيث جعلها من الثياب وغيره، ففيه دلالة ألا يحل النظر إلى وجه امرأة أجنبية.

وإِن كان ما قال ابن عَبَّاسٍ ففيه دلالة حل النظر إلى وجه المرأة لا بشهوة. وإِن كان ما قالت عائشة من القلب والفتخة، ففيه دلالة جواز النظر إلى الكفين والقدمين؛ لأنهما ظاهرتان باديتان؛ ألا ترى أنهما من الظواهر في فرض غسل الوضوء، وإن كان ذلك ففيه دلالة جواز صلاتها مع ظهور القدم. وجائز أن يكون النظر إلى وجه المرأة حلالا إذا لم يكن بشهوة، لكن غض البصر وترك النظر أرفق وأزكى، كقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) كما تؤذى الإماء. والذي يدل أن للمرأة ألا تغطي وجهها، ولا ينبغي للرجل أن يتعمد النظر إلى وجه المرأة إلا عند الحاجة إليه - قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إنما لك الأولى وليست لك الآخرة "، وفي بعضها: " الأولى لك والآخرة عليك "؛ لأنه كأنه إنما كرر النظر في الثانية؛ لشهوة تحدث في قلبه. وإذنه للذي يريد أن يتزوج امرأة أن ينظر إليها يدل على أن نظر الرجل إلى وجه المرأة غير حرام؛ لأنه لو كان حرامًا لم يأذن فيه النبي لأحد. ونرى - واللَّه أعلم - أن النظر إلى وجه المرأة ليس بحرام إذا لم يقع في قلب الرجل من ذلك شهوة، فإذا وجد لذلك شهوة، ولم يأمن أن يؤدي به ذلك إلى ما يكره فمحظور عليه أن ينظر إليها إلا أن يريد به معرفتها والنكاح فإنه قد رخص في ذلك؛ روي أن المغيرة أراد أن يتزوج امرأة فقال له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اذهب فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ". وقال في بعض الأخبار: " إذا خطب أحدكم المرأة فلا بأس أن ينظر إليها؛ إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة، وإن كانت لا تعلم ". وأحسن للشابة وأفضل لها أن تستر وجهها ويديها عن الرجال ليس لأن ذلك حرام وإليها معصية، ولكن لما يخاف في ذلك من حدوث الشهوة، ووقوع الفتنة بها، فإذا لم

يكن للناظر في ذلك شهوة بأن كان شيخًا كبيرًا، أو كانت المرأة دميمة، أو عجوزًا فإنه لا يحظر النظر إلى وجوه أمثالهن، ولا ينظر إلى ما سوى ذلك، وأصله قول اللَّه - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ). ومما يدل على أن الوجه والكفين جائز ألا يكون بعورة أن المرأة لا تصلي وعورتها مكشوفة، ويجوز أن تصلي ووجهها ويداها ورجلاها مكشوفة. فإذا كان كذلك دل ذلك على أن النظر إلى ذلك جائز إذا لم يكن ذلك لشهوة؛ دخل في ذلك معنى قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " العينان تزنيان "؛ لأن زناء العين لا يكون إلا النظر للشهوة، فإذا كان لشهوة دخل في ذلك معنى قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وروي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة، وهو ما روي عن عائشة قالت: دخلت عليَّ أختي أسماء وعليها ثياب شامية رقاق، وهي اليوم عندكم صفاق، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " هذه ثياب لا تحبها سورة النور فأمر بها فأخرجت "، فقلت: يا رسول اللَّه، زارتني أختي فقلت لها ما قلت، فقال: " يا عائش، إن الحرة إذا حاضت لا ينبغي أن يرى إلا وجهها وكفَّاها "، فإن ثبت هذا عنه فهو يبين ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) قد ذكرنا أن المرأة يكره لها النظر إلى الرجال من غير محرمها كما يكره للرجل النظر إلى المرأة الأجنبية؛ ألا ترى أنه روي أن أعميين دخلا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعض أزواجه عنده - عائشة وأخرى - فقال لهما رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قُومَا "، فقالتا: إنهما أعميان يا رسول الله!! فقال لهما: " هما وإن كانا أعميين فأنتما لستما بأعميين "، أو كلام نحو هذا، فدل أنه ما ذكرنا.

وعلى ذلك أخبار: روي عن خالد بن معدان قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر، أن تبيت في مكان تسمع فيه نفس رجل ليس بمحرم، ولا يحل لامرئ يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يبيت في مكان يسمع فيه نفس امرأة ليست له بمحرم ". وفي بعض الأخبار: أنه لم يرخص للمرأة أن يرى غير ذي محرم منها إلا الوجه والكف وما ظهر، وقبض رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على كوع عائشة وقال: " هذا ". وعن الحسن أنه قال في قوله: (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا): الوجه وما ظهر من الثياب. فإن ثبت ما ذكرنا من المروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث رخص النظر إلى الوجه والكف؛ لقوله: " إلا الوجه والكف " فاستثنى الوجه والكف من بين سائر الجوارح - كان ذلك تفسيرًا لقوله: (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) كأنه قال: " ولا يبدين زينتهن للأجنبيين إلا ما ظهر منها وهو الكحل والخاتم "، ثم الكحل يكون في الوجه والخاتم في اليد فذكر الزينة يكون كناية عن موضعها؛ لأن النظر إلى الزينة حلال لكل أحد إذا كان المراد بالزينة الحلي وما ذكره القوم، فدل أن المراد بذكر الزينة موضع الزينة لا نفس الزينة والحلي، ثم رخص للأجنبيين النظر إلى بعض مواضع الزينة وهو ما ظهر منها من الوجه والكف ولم يرخص ما خفي منها وما بطن. ثم استثنى المحارم منها، ورخص لهم النظر إلى ذلك بقوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ) إلى آخر ما ذكر. ثم مواضع الزينة الخفية منها الصدر، ومنها الأذنان وهما في الرأس، ومنها الساق. ثم جمع بين الأب ومن سمى معه وبين الزوج في النظر إلى زينة المرأة، ولا خلاف في أن الأب لا يجوز له أن ينظر من عورة ابنته إلا إلى رأسها وفي الرأس الأذنان، وقد يكون فيهما القرط ونحوه، وإذا جاز له أن ينظر إلى رأسها ولا خمار عليها؛ فله أن ينظر إلى صدرها وهو موضع الزينة؛ لأنه مما يغطيه الخمار، وينظر إلى ذراعيها وموضع الخلخال من قدميها ورجليها، وهي مواضع الزينة الباطنة التي لا يجوز للأجنبي النظر إليها. ثم النظر إلى الوجه أحق أن يحرم النظر إليه للأجنبي من الرأس وغيره من مواضع الزينة؛ لأن الوجه يجمع فيه جميع المحاسن وغيره من مواضع الزينة ليس فيها محاسن لكن إنما حرم النظر إلى هذه المواضع؛ لأنها عورة في نفسها؛ فالنظر إلى العورة حرام للأجنبي؛ ولأن النظر إليها - أعني: مواضع الزينة - لا يكون إلا للشهوة والنظر إليها للشهوة حرام.

فأما المحارم منها فإنهم لا ينظرون إلى هذه المواضع منها لشهوة ولا يقصدون به ذلك ألبتَّة؛ فأبيح لهم النظر إليها لحاجة. وكل من يخشى من المحارم النظر إليها لشهوة لا ينظر إليها، وكذلك الأجنبي حيث أبيح النظر إلى الزينة الظاهرة فإن خشي به الشهوة لم ينظر إليها. ثم غيرها من الزينة لا يحل لأحد النظر إليها: الأب وغيره - إلا للزوج خاصة وللمولى إلى مملوكته وهو ما قال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)، استثنى الأزواج والموالي من بين غيرهم؛ لأن النظر إلى ذلك لا يكون إلا للشهوة لا يقع فيه حاجة فلا يباح ذلك إلا لمن له قضاء أن شهوة والوطء وهو الزوج والمولي. فانقسمت العورة إلى جهتين: جهة يحل للمحارم منها النظر إليها لحاجة وضرورة تقع لهم. وجهة لا تحل لهم إلا للأزواج لما لا يقع لهم حاجة ولا ضرورة بالنظر إلى ذلك؛ ألا ترى أن الأمة ينظر إلى شعرها وذراعيها وساقيها وصدرها إذا أراد شرائها ولا ينظر إلى ما سوى ذلك، فإذا جاز للأجنبي أن ينظر إليه من الأمة جاز لمحرمها النظر إلى ذلك من المرأة للحاجة التي ذكرنا. ثم ذكر في الآية المحارم جميعًا عدا الأعمام والأخوال، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما لم يذكرا في هذه الآية؛ لأنها تحل لبنيهما بالنكاح فكره أن يصفاها لبنيهما؛ ولهذا كره من كره للمرأة المسلمة إبداء الزينة الخفية للكافرة من اليهودية والنصرانية لما لعلها تصف ذلك للمشركين، فيرغبون فيها، ويتكلفون ذلك، وصرف قوله: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) إلى المسلمات. لكن جائز عندنا أن العم والخال إنما لم يذكرهما للكثرة والتطويل لما يكثر ذلك من أجناسهم وأمثالهم، فذكر الرخصة في أمثالهم كافية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ نِسَائِهِنَّ) يحتمل وجوهًا: يحتمل النساء اللاتي يختلطن بهن، أو نساء قرابتهن وأرحامهن، أو النساء اللاتي توافقهن في دينهن، وهن المسلمات على ما قاله أُولَئِكَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ). قال قائلون: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) كقوله: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)، ونحوه. وقال قائلون: الإماء والعبيد جميعًا. فإن كان المراد به الإماء فهو ظاهر.

وإن كان المراد به الأمة والعبد، ففيه إباحة نظر العبد إلى شعر مولاته على ما يقوله بعض الناس. والأشبه أن يكون المراد به واللَّه أعلم الإماء دون العبيد؛ لما ذكر في آخر الآية (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) والعبد من الرجال. أو ذكر التابع والمتابع وإن كان خصيًّا أو عنينًا أو معتوها على ما قالوا، فإنه لا يحل لهَؤُلَاءِ النظر إلى تلك المواضع على حال فعلى ذلك العبد؛ فيكون الدخول عليهن مضمر في الآية، وكن النساء متأهبات وقت دخول العبيد والتابعين عليهن؛ لأنه ذكر المتابعين ْوهم تابعو الأزواج، ووقت دخول هَؤُلَاءِ يكون معلومًا عندهن فيتأهبن لهم ويستترن، واللَّه أعلم بذلك؛ ألا ترى أنه لا يحل للمرأة أن تسافر بعبدها، دل أنه ليس بمحرم لها؛ لذلك لم يحل له النظر إلى شعر مولاته. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى ذكر إمائهن ونسائهن وكل النساء يجوز لهن النظر إلى المرأة وإلى هذه المواضع التي ذكرنا؟ قيل: خصَّ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالذكر إماءهن ونساءهن دون النساء الأجنبيات؛ تأديبا لا حظرًا، وذلك أن المرأة قد يضيق عليها أن تستتر من أمتها ونساء أهل بيتها، لكثرة رؤيتهن لها، وقد تقدر أن تستر من الأجنبية محاسنها وزينتها؛ لقلة رؤيتها لها؛ ألا ترى أنه قد نهى المرأة أن تضرب برجلها؛ ليعلم ما تخفي من زينتها، وفي ذلك صيانة للرجل والمرأة وإبعاد لهما عما يحذر عليهما ويخاف؛ فليس ببعيد أن يجعل نهيه المرأة أن تظهر زينتها ومحاسنها للأجنبية؛ لما يخاف على الأجنبية من فساد قلبها وحدوث الشهوات لها؛ صيانة للنساء والرجال جميعًا، وإبعادًا لهم عن الزينة، ولئلا تصفها لرجل يفتتن بها، ويتكلف الوصول إليها. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: " لما نزلت هذه الآية، أخذ النساء أزرهن فشققنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها "، وعن ابن عَبَّاسٍ: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) يقول: وليشددن

بخمرهن على جيوبهن، يقول: ليرخين بخمرهن على الصدر والنحر فلا يرين منها شيئًا. قال: وكن النساء قبل هذه الآية إنما يسدلن خمرهن سدلا من ورائهن كما يصنع النبط، فلما نزلت هذه الآية شددن الخمر على النحر والصدر. وفي الآية دلالة أن دروع النساء كانت جيب؛ لأن الجيب إنما تكون للدروع، وذلك كان لباس النساء، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى الرجال عن لبسة النساء، وأنه لعن المتشبهين من الرجال بالنساء. وروي أنه لعن الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل. وعن ابن عَبَّاسٍ: " لعن النبي المؤنثين من الرجال والمذكرات من النساء ". وكأنه مكروه للرجل - واللَّه أعلم - أن يلبس فراعة وحدها لا قميص تحتها؛ لأن ذلك لباس النساء إلا أن يكون لها شق ذيل، فخرجت من لبس النساء، ولم تكره للرجال، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) جائز أن يكون قوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا): إنما يباح النظر إلى الوجه للحاجة، وأما على غير الحاجة فلا يباح؛ لما ذكرنا من قوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ. . .) الآية، وقوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)؛ فعلى ذلك ترك النظر إلى وجه المرأة أطهر للنساء وللناس جميعًا؛ فلا يباح ذلك إلا عند الحاجة إليه، وهو معرفتها؛ ليقيم به الشهادة. فَإِنْ قِيلَ: أليس النظر يسع إلى مواضع الزينة الخفية للأجنبي؛ للتداوي بها؟ قيل: يسع ذلك للضرورة وأما للحاجة فلا، ومسألتنا في الحاجة ليست في الضرورة. ثم قوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) إلى آخره ما ذكر: جائز أن يكون المراد برخصة النظر إلى الزينة لهَؤُلَاءِ المسمين في الآية رخصة النظر إلى نفس الزينة لا موضع

الزينة؛ فيدخل في هذه الرخصة من ذكِرَ من التابعين غير أولي، الإربة من الرجال ونحوه؛ لأن الزينة في الصدر وما ذكر إنما تكون من وراء ثياب تكون على الصدر، ثم رخص النظر للمحارم إلى مواضع الزينة الخفية بغير هذه الآية. أو أن يكون رخصة النظر للمحارم إلى مواضع الزينة ولغير المحارم من المماليك والتابعين غير أولي الإربة ومن ذكر - رخصة الدخول عليهن؛ فيكون في الآية إضمار الدخول؛ كأنه قال: ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ومن ذكر من المحارم، ولا يدخل عليهن إلا العبيد والتابعون ومن ذكر من غير أولي الإربة، فيكن في وقت دخول هَؤُلَاءِ متأهبات؛ لأن وقت دخول هَؤُلَاءِ يكون معلومًا يعرفن فيتأهبن لهم؛ لأن العبيد إنما يدخلون على ساداتهم ومواليهم عند حاجتهن إليهم، والتابعون ومن ذكر إنما يدخلون إذا دخل أزواجهن عليهن فيتأهبن لذلك، ومثل هذا الإضمار جائز في الكلام يتبين ذلك بالثنيا كقوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، دل قوله: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) أنه قد كان الصيد مذكورا فيه مرادًا؛ إذ لو لم يكن مذكورًا لم يكن استثنى منه؛ فعلى ذلك جائز أن يكون في الأول إضمار الدخول فيه لهَؤُلَاءِ الذين لا يحل لهم النظر إلى مواضع الزينة منهن ورخصة الإبداء للمحارم، أو أن يكون ما ذكرنا فيما تقدم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الشيخ الكبير الذي لا حاجة له في النساء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعتوه الأحمق الذي لا يشتهي النساء، ولا يغار عليه الأزواج. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العنين والخصي، وهَؤُلَاءِ الذين لا يطيقون الجماع. لكن عندنا لا يسع للعنين ولا للخصي أن يخلو بامرأة أجنبية. وقال الحسن: (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) هم المخنثون؛ روي عن عائشة قالت:

كان يدخل على أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مخنث، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، قالت: فدخل النبي ذات يوم وهو ينعت امرأة، فقال: " لا أرى هذا يعلم ما هاهنا؛ لا يدخلن عليكم "؛ فحجبوه. وعن أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها وعندها مخنث، فأقبل على أخي أم سلمة فقال: يا عبد اللَّه، إن فتح اللَّه لكم غدًا الطائف دللتك على بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال: " لا أرى هذا يعرف ما هاهنا؛ لا يدخلن عليكم ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) الذين لا تهمهم ولا يخافون على النساء، وكله واحد، وهم الذين ليست لهم الحاجة إلى النساء. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإربة: الحاجة: والإرب جمع، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ. وقال ابن عَبَّاسٍ: هو الذي لا يستحي منه النساء. وقوله: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الاطلاع، أي: لم يطلعوا، ولم يعلموا، ولم يدروا ما هو من الصغر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم يظهروا على عورات النساء، أي: لم يبلغوا الحلم. والأول أشبه عندنا؛ وذلك أن الطفل الذي لم يحتلم قد أمر بالاستئذان في بعض الأوقات؛ لقوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ)، فالذي يؤمر بالاستئذان هو الطفل الذي لم يحتلم، وقد يطلع على عورات النساء، والذي لا يؤمر بالاستئذان هو أصغر من ذلك، وهو الذي لا يطلع على عورات النساء لصغره، واللَّه أعلم.

(32)

وقوله: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) أي: لا تضربن إحدى رجليها على الأخرى ليقرع الخلخال بالخلخال. (لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) أي: ما يواري الثياب من الزينة وهو الخلخال قد أخفاه الثياب؛ نهيت المرأة عن ضرب رجلها؛ ليعلم الرجال ما تخفي من زينتها، وذلك محظور عليها، لما يخرج ذلك مخرج ترغيب الناس وحثهم عليها، فالزينة في الأصل ما جعلت إلا للترغيب والتحريض على أنفسهم، وهي الداعية إلى النظر والشهوة، وفي ترك ذلك وترك المرأة الزينة صيانتها، وصيانة الرجال، وإبعادهم جميعًا من الزينة، والرغبة، فكشف الشابة عن وجهها، ونظر الرجل بشهوة إليها أحرى أن يكون محظورا عليه، منهيًّا عنه، واللَّه أعلم بالصواب. وقوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) هذا يحتمل وجهين: يحتمل قوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ) أي: ارجعوا إلى اللَّه بالطاعة له والخضوع؛ لتكونوا مفلحين. أو أن يكون قوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ) ارجعوا عما قدمتم من المعاصي والمساوئ، واجعلوا مكان ذلك طاعة له؛ ليعفوا عنكم ما قدمتم من المعاصي، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) وقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) الأمر بالإنكاح وإن خرج مخرج أمر واحد في الظاهر فهو في الحقيقة على أقسام: الأمر في تزويج الإماء والعبيد يخرج مخرج الترغيب والتحريض. وفي الأحرار يخرج مخرج المعونة والتقوية؛ لأن من بلغ ولده النكاح ذكرًا أو أنثى استثار أقرباءه، وأهل أنسابه، والمتصلين به في ذلك، واستعانهم على ذلك، ولا كذلك السادات في المماليك؛ دل أن الأمر في أحدهما يخرج على المعونة، وفي الآخر على

الترغيب. ثم تزويج العبد يخرج كأنه فعل المعروف؛ إذ في ذلك إلزام مؤن بلا عوض يحصل له؛ ألا ترى أنه لا يملكه إلا من يملك المعروف من نحو الوصي والأب والمكاتب والعبد المأذون له في التجارة؟ ولا كذلك تزويج الإماء؛ إذ يملك هَؤُلَاءِ ذلك، وكل مكتسب خير له لنفسه أو لغيره. ثم جرى الوفاق بينهم: أن للولي أن يزوج أمته شاءت هي أو أبت، واختلفوا في تزويج العبد امرأة: قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس له ذلك إلا برضاء العبد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: له ذلك شاء أو أبى. ثم الناس اختلفوا في قوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الأيامى منهن: الإناث من الأحرار دون الذكور، واستدلوا ببطلان النكاح وفساده إذا كان بغير إذن الولي بهذه الآية؛ لأن اللَّه تعالى أمر الأولياء وخاطبهم أن يزوجوهن؛ كما أمر المولى بتزويج أمته، فأوجب للمولى الولاية كما أوجبها للولي وإن كانا مختلفين في الولاية. لكن عندنا لو كانت الآية خرجت على التفسير على ما يقول خصومنا (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) الإناث - لم يكن فيه دليل على ما قالوا هم، ويخرج ذلك على وجوه: أحدها: على الترغيب في إنكاحهن لما لا يتولى هن النكاح بأنفسهن حياء، ويستحيين التكلم بذلك حتى من فعلت ذلك منهن بنفسها صارت مطعونة عندهن. أو أن يخرج ذلك مخرج المعونة لهن على ما ذكرنا؛ ألا ترى إلى ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه من بلغ ولده النكاح وعنده ما ينكحه فأحدث، فالإثم بينهما "، فهذا يدل - واللَّه أعلم - على وجه المعونة في تزويج الأب الابن البالغ، فإذا كان الأب مأمورًا من جهة التأديب على المعونة بتزويج ابنه، ولا يوجب ذلك عليه ولاية إذا كره ذلك؛ فكذلك يكون مأمورًا بتزويج ابنه من طريق المعونة، أو جهة الحياء، أو أن يخرج ذلك على ما قال خصومنا من إيجاب الولاية له عليها. ثم رأينا أنها إذا رغبت في النكاح ورضيت به وكره وليها ذلك، جبر الولي على الإنكاح، وإن هي كرهت النكاح وأبت، ورغب الولي في ذلك وشاء، لم تجبر هي على ذلك؛ دل ذلك على أن الحق لها عليه دون أن يكون الحق في ذلك له عليها، فإذا كان

الحق لها عليه جاز ذلك إذا تولت بنفسها؛ لما ذكرنا أن الخطاب للأولياء يخرج على الوجوه التي ذكرنا، واللَّه أعلم. هذا إذا كان في الآية ذكر الإناث دون الذكور، فكيف أن ليس في الآية ذكر تخصيص الإناث دون الذكور، واسم " الأيم " يقع على الإناث والذكور جميعًا؛ ألا ترى أنه روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " لما نزلت هذه الآية ما رأيت مثل ما يلتمس بعد هذه الآية إنما التمسوا الغَناء في الباءة ". وما روي عن نجدة: أن عمر دعانا إلى أن ينكح من أيمنا وفي الشعر: لله در بني علي ... أيم منهم وناكح وفي بعضها: وأيم تأبى من القوم أيماه. جمع فيها اسم " الأيم ": الرجال والنساء. ومن الدليل -أيضًا- على ذلك قوله: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) فدل ذلك على أنه حث على تزويج البالغين من الأحرار رجالهم ونسائهم. فَإِنْ قِيلَ: فما وجه أمره بتزويج الرجال والأمر إليهم؟ فجواب ذلك ما ذكرنا من المعونة، والترغيب فيه. ثم قوله: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) جائز أن يكون قوله: (وَالصَّالِحِينَ) أي: المؤمنين. وجائز أن يكون الصالحين: من طلب منكم الصلاح والعفة. أو ذكر الصالحين لما كانت العادة في الملوك أنهم يخاطبون أهل الصلاح منهم والأخيار، لا على إخراج غيرهم من حكم ذلك الخطاب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الناس من استدل بهذه الآية على أن العبد يملك؛ لأنه ذكر العبيد والأحرار جميعًا، ثم ذكر في آخره الغناء دل أنه يملك. ويستدل بقوله: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، أضاف الأجور والإيتاء إليهن؛ دل أنهن يملكن، لكن عندنا أن المماليك يملكون ملك التوسيع، وملك التصرف، ويقع لهم غناء التوسيع وغناء التصرف، ولا يقع لهم التمليك، ولا حقيقة الملك، والدلالة على ذلك قوله: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ

(33)

فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ)، لو كان ما ملكت أيمانهم يملكون ما يملك الموالي والسادات لكان المماليك يفضلون على السادات، في الملك؛ إذ هم الذين يتصرفون ويكتسبون الأموال دون السادات، فدل ذكر تفضيل بعض على بعض أنهم لا يملكون ما يملك الموالي. والثاني قوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ. . .) الآية، ولو كانوا يملكون على ما يملك السادات، لكانوا لهم فيه شركاء، دل أنهم لا يملكون حقيقة الملك، ولكن يملكون ملك التوسيع والتصرف. أو أن يكون قوله: (يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) راجعًا إلى الأحرار منهم دون المماليك، وذلك جائز في اللسان كقوله، ثم روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ثلاثة حق على اللَّه تعالى أن يغنيهم: المجاهد في سبيل اللَّه، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء ". وعن عمر قال: " ما رأيت مثل الرجل لا يلتمس الغناء في الباءة " واللَّه تعالى يقول: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). وروي في الخبر قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء "، وروي في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لعمر بن الخطاب: " ما فعلت ببناتك؟ " قال: هن عندي يا رسول اللَّه. قال: " وقد حضن؟ " قال: نعم. قال: " إنك لم تحبس واحدة منهن عن كفؤ إلا نقص من أجرك كل يوم قيراط "، وفي بعض الأخبار: " من بلغ ولده النكاح، وعنده ما ينكحه، فأحدث فالإثم بينهما ". وقوله: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... (33) الاستعفاف: هو طلب العفاف؛ كأنه قال: يطلب الأسباب التي تمنعه عن الزنا، وتصيره عفيفًا حتى يغنيه اللَّه من فضله، وأسباب العفة تكون أشياء:

أحدها: ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء " ونحوه، يطلب أسباب العفة إن لم يكن عنده ما ينكح حتى لا يقع في الزنا إلى أن أغناه اللَّه، كقوله عليه السلام: " من استعف أعفه اللَّه ". وجائز أن يكون قوله: (وَلْيَسْتَعْفِفِ) أي: يتعفف الذين لا يجدون نكاحا، لم يجعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - للذي عجز عن النكاح استباحة الفروج والاستمتاع بها زنا إذا لم يكن عنده ما ينكح، كما جعل في الأموال وغيرها - رخصة التناول في ملك غيره عند الحاجة والضرورة ببدل؛ لوجوه: أن رخصة التناول في ملك غيره إنما تكون عند الضرورة، والضرورات لا تقع في الفروج، وفي الاستمتاع بها بحال؛ لذلك لم تبح. والثاني: الاستمتاع بالنساء في الأصل كأنه إنما جعل وأبيح لبقاء النسل والتوالد، لا لحاجة أنفسهم وقضاء الشهوة، فإذا لم يكن عنده ما ينكح ارتفع عنه إبقاء النسل والتوالد. والثالث: أن السعة والغَناء وأنواع النعم هي الداعية إلى الحاجة، وقضاء الشهوة، فإذا كان فقيرًا لا يجد ما ينكح زال عنه الأسباب التي تدعو إلى ذلك؛ لذلك لم يبح، وأما الحاجات والضرورات وما ذكرنا كلها تقع في الأموال، وإنما الحاجة في التناول منها لأنفسهم ولإبقائها؛ لذلك افترقا، واللَّه أعلم. ثم في قوله: (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، وقوله: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ووجهان من المعتبر على نقض قول المعتزلة: أحدهما: أنه أضاف الإغناء إلى نفسه، وهو ليس يعطي أحدًا شيئا يطرحه ويلقيه في يده بلا سبب، ولكن إنما يغنيه ويعطيه بأسباب تجعل لهم؛ فدل إضافة الإغناء إلى نفسه على أن له في تلك الأسباب التي فيها لهم غناء صنعًا وفعلا، ليس على ما تقوله المعتزلة أن لا صنع لله في أفعال عباده. والثاني: فيه دلالة: أن غناهم وسعتهم فضل منه ورحمة لا شيء يستوجبون هم بأنفسهم ذلك قبله، لكن إفضالا منه لهم وإحسانًا؛ إذ لو كان عليه ذلك كان منه عدلا لا فضلا؛ فدل تسمية الفضل ذلك على أن من أعطاه اللَّه يقال: ذلك أعطاه فضلا منه وإنعامًا

لا استيجابًا واستحقاقًا، وذلك رد عليهم في الأصلح في الدِّين. ثم من الناس من استدل بهذه الآية بقوله: (يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ): حتى يغنيهم اللَّه من فضله على تفضيل الغَناء على الفقر قالوا: لأنه سماه فضلا بقوله: (مِنْ فَضْلِهِ) وسماه في غير آي من القرآن: رحمة وحسنة، وسماه: خيرًا أيضًا في غير موضع، وسمى الفقر والضيق: بلاء مرة، وسيئة ثانيًا، وضرًّا: شدة بقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وقال: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وقوله: (هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)، وغير ذلك من الآيات، وكأن ما سمى من البلاء والشدة والشر والضر والسيئة كله عبارة وكناية عن الضيق والفقر، وما ذكر من الخير والحسنة والرحمة ونحوه، كله عبارة عن السعة والغَناء؛ فدل تسمية الغَناء خيرًا وحسنة ورحمة على أنه أفضل؛ إذ لا شك أن الخير والحسنة والرحمة خير من الشر والسيئة والبلاء؛ لذلك كان الغَناء أفضل من الفقر. فيقال لهم: هو كما قلتم: إنها خير مما ذكرتم، إلا أن هذه الأسباب التي ذكرتم هي الداعية إلى الفساد، الباعثة على قضاء الحاجات، والشهوات، وأنواع المعاصي في أنواع المحرمات، ولا كذلك الفقر والضيق والشدة، بل هي أسباب تمنع صاحبها عن التعاطي في أنواع المعاصي والمحرمات؛ فضلا أن تدعوه وتبعثه إلى ذلك، فقولنا: إنه أفضل؛ للمعنى الذي ذكرنا، لا لمعنى فهمتموه أنتم. أو أن يكون ما ذكر وسُمي: خيرًا: السعة عند الناس، وكذلك ما ذكر من الضيق شرا وسيئة عندهم؛ لأنه كذلك عند الناس لا أنهما في الحقيقة كذلك؛ لما يحتمل أن يكون الغَناء والسعة سبب الفساد، والضيق والفقر سبب منعه عن الفساد. أو ألا يتكلم في تفضيل أحدهما على الآخر؛ إذ هما محنتان يمتحن بهما العباد: هَؤُلَاءِ بالصبر على الفقر والضيق، وهَؤُلَاءِ بشكرهم على الغناء والسعة، فالتكلم في فضل أحدهما على الآخر فضل، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ): ظاهر هذا ليس على [الكتابة]، ولكن على الكتاب المعروف وهو كتاب اللَّه - تعالى - لأن الكتاب المطلق هو كتاب اللَّه تعالى، يسألون ساداتهم تعليم الكتاب لهم، إلا أن الناس لم يفهموا من هذا هذا، ولكن فهموا كتابة العبيد والإماء حيث صرفوا الآية إليها. ثم قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ) ليس على الوجوب والإلزام، ولكن على الترغيب فيها والحث؛ دليله ترك الأمة المماليك بعد موتهم دون مكاتبتهم من لدن رسول اللَّه إلى يومنا هذا، ولو

كان على الوجوب واللزوم لم يكونوا يتركون لازمًا واجبًا عليهم؛ فدل تركهم المكاتبة على أنه خرج مخرج الترغيب عليها، والحث لا على الوجوب، واللَّه أعلم. وقوله: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: كاتبوهم إن علمتم أنهم يرغبون في أنواع الخير، وإقامة الصلاة، وأنواع الصلاح، وفرغوا أنفسهم لذلك. قَالَ بَعْضُهُمْ: إن علمتم فيهم خيرًا، أي: وفاء وأمانة وصلاحًا، وهو قول الحسن. وتأويل هذا: أي: كاتبوهم؛ إن علمتم أنهم يقدرون على وفاء ما كوتبوا، وأداء ذلك. وقال قائلون: (خَيْرًا) أي: حيلة. وقال قائلون: مالا. وقال قائلون: (خَيْرًا)، أي: حرفة، ورووا في ذلك خبرًا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مفسرا عن يحيى بن كثير قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن علمتم فيهم خيرًا - أي: حرفة - ولا ترسلوهم كَلًّا على الناس ". إن ثبت هذا لا نحتاج إلى غيره من التفسير، ولو كان قال: إن علمتم لهم خيرًا، جاز أن يقال: معنى (خَيْرًا) مالًا، ولكنه قال: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) [الجاه الذي] والمال لا يكون فيهم، وإنما يكون لهم؛ فأشبه ذلك - واللَّه أعلم - أن يكون الخير حرفة في الخير أو وفاءه، وأمانته، ثم في الآية دلالة أن العبيد لا يملكون شيئا؛ لأنهم لو كانوا يملكون لكان يرغبهم ويحثهم على العتاق دون الكتابة، فدل ترغيبه إياهم عليها أنهم لا يملكون حتى تجعل الكتابة الكسب لهم والخدمة دون المولى. وفي الكتابة أيضًا نظر للموالي؛ لأنهم إن قدروا على وفاء ما قبلوا أداءه، وإلا كان للموالي ردهم إلى منافع أنفسهم، ولو كان عتقًا لم يملكوا ردهم إلى منافع أنفسهم،

ويبطل حقهم بلا شيء يصل إليهم، واللَّه أعلم. وفي قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) دلالة القول بعلم العمل على ظاهر الأسباب دون تحقيق العلم به، حيث قال: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) وإنما يوصل ما ذكر من الخير بأسباب تكون لهم على نحو ما ذكروا فيه من الحرفة والوفاء وأداء الأمانة وأمثاله، وذلك أسباب توصل إلى الخير على أكبر الظن والعلم لا على الحقيقة. وفيه دلالة العمل بالاجتهاد على ما يرى بهم من ظاهر الأسباب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) اختلف في خطابه: قال الحسن وغيره: هو شيء حث الناس عليه مولاه وغيره، فيخرج ذلك على وجهين: أحدهما: ما جعل اللَّه من الحق للمكاتبين في الصدقات؛ لقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ)، إلى قوله: (وَفِي الرِّقَابِ) وهم المكاتبون، أمر أرباب الأموال بدفع الصدقات للمكاتبين، وجعلهم أهلا لها، ليستعينوا بها على أداء ما عليهم من الكتابة. فإن كان ذلك فذلك حق لهم. والثاني: جائز أن يأمر الناس بمعونة هَؤُلَاءِ المكاتبين على أداء ما عليهم من الكتابة بأموالهم سوى الصدقات؛ ليفكوا رقابهم عن ذل الرق والكسب. وقال قائلون: إنما الخطاب للموالي خاصة؛ لما أن أول الخطاب بالكتابة راجع إلى الموالى؛ فعلى ذلك هذا. ثم اختلفوا فيه: روي عن علي بن أبي طالب - رضي اللَّه تعالى عنه - قال: " يترك المولي الثلث من مكاتبته له ". وروي عنه أنه قال: " ربع المكاتبة ". وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كاتب غلامًا له، فحط عنه أول نجمه، وقال له: حط عني آخره، فقال عمر: " لعلي لا أصل إليه "، أو كلام نحو هذا، ثم تلا هذه الآية، قوله: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ. . .) الآية. وروي عن غلام لعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " كاتبني عثمان، ولم يحط

عني شيئا "، دل ما روي عن عثمان أنه لم يحط عنه شيئًا على أن الأمر بالإيتاء للمكاتبين من الأموال والحط عنهم إنما هو على الاختيار والإفضال ليس على الوجوب واللزوم؛ لأنه لو كان على الوجوب، لكان عثمان بن عفان لا يحتمل ألا يحط عنه شيئًا. ومن جعل ذلك واجبًا على المولى أن يؤتيه من ماله، ويعجله له كان ذلك خارجًا عما روي عن الصحابة - رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين - خلافًا لهم؛ لأنه روي عن بعضهم الحط عنهم، والوضع دون الإيتاء من ماله. وروي عن بعضهم: الاستيفاء على الكمال لا حط فيه ولا إيتاء؛ دل أن قول من يأمرهم بالإيتاء من أموالهم دون الكتابة خارج عن قولهم جملة. ثم يبطل ذلك من وجهين: أحدهما: أن من قال لعبده: " إذا أديت إليَّ كذا فأنت حر "، فحط عنه بعض ذلك، فأدَّى البقية - لم يعتق حتى يؤدي الكل؛ فدل أن قوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) ليس على الوجوب، ولكن على الاختيار. والثاني: أنه لا يسمى بعد الأداء: مكاتبا، وإنما هو حر، وإنما ذكر الإيتاء إياهم وهم مكاتبون حيث قال: (فَكَاتِبُوهُمْ)، ثم قال: (وَآتُوهُمْ)، فلو كان على ما يقوله قوم، لكان ذلك باطلا؛ للوجهين اللذين ذكرناهما، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا). ليس قوله: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) بشرط فيه؛ لأنهن لا يكرهن على البغاء وإن لم يردن التحصن، دل أن ذلك ليس بشرط فيه، ولا يمكن الإكراه فيه إذا كن أطعن فيه، لكنه خرج ذلك على ما ذكر في القصة: كانوا يكرهونهن على الزنا ابتغاء المال، وهن كُنَّ يردن التحصن، فخرج الخطاب والنهي على فعلهم، دون أن يكون ذلك شرطا فيه. أو أن يكون ذلك إكراهًا إذا كن مطاوعات في ذلك. وفيه دلالة بطلان المتعة وفسادها؛ لأنهم كانوا يكرهون إماءهم على أن يؤاجروا أنفسهن للزنا ابتغاء الأجر، وليست المتعة إلا كذلك. وقال أهل التأويل: إن الآية نزلت في نفر من المنافقين عبد اللَّه بن أُبي وفلان وفلان كانوا يكرهون فتياتهم على الزنا ابتغاء عرض الدنيا، فإن كان ما ذكروا، ففيه دلالة أن

(34)

الزنا حرام في الأديان كلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: يرجع إلى الإماء يقول: فإن اللَّه من بعد إكراههن غفور رحيم لهن، وكذلك روي في بعض الحروف أنه قرئ: (فإن اللَّه من بعد إكراههن لهن غفور رحيم). والثاني: يرجع إلى السادات؛ فإن اللَّه لهم غفور رحيم إذا تابوا، وأصلحوا. واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ... (34) بخفض الياء ونصبها، ثم يحتمل أن يكون المراد بالآيات: آيات القرآن جميعًا، وقوله: (مُبَيِّنَاتٍ) بالخفض، أي: تبين للخلق ما لهم، وما عليهم، وما لله عليهم، وما لبعضهم على بعض. (مُبَيَّنَاتٍ) بالنصب، أي: مُبَيَّنَاتٍ أنها من عند اللَّه. وجائز أن يكون المراد بالآيات: الحجج والبراهين، فإن كان هذا، فقوله: (مُبَيِّنَاتٍ) بالخفض، أي: تبين وحدانية اللَّه - تعالى - وعلم رسالة رسوله و (مُبَيَّنَاتٍ) بالنصب، أي: واضحات بينات أنها حجج وبراهين. وقوله: (وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي: أنزلنا إليكم أيضًا مثل الذين، خلوا من قبلكم ما حل بهم، ونزل بالمكذبين من العذاب، وموعظة ما يتعظ المتقون، أو جعل لكنم فيما أنزل من الآيات عليكم أمثالا من الذين خلوا من قبلكم؛ لتتعظوا به واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّه هادي السماوات

والأرض، ثم انقطع الكلام فأخذ في نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما ضرب له من الأمثال، فقال: (مَثَلُ نُورِهِ)، يقول: نور مُحَمَّد إذ كان في صلب أبيه (كَمِشْكَاةٍ) أي: كوة - بلغة الحبش - غير نافذة (فِيهَا مِصْبَاحٌ) أي: سراج المصباح. يقول - واللَّه أعلم -: ذلك السراج المضيء ضوؤه (فِي زُجَاجَةٍ)، الزجاجة نعتها الصافية التامة الصفاء، والمشكاة: صلب أبيه عبد اللَّه، والزجاجة وصفاؤها: محمد رسول اللَّه، وطهره من الأدناس والمعاصي، والمصباح: نوره، وصفاؤه: قلب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وما فيه من الإيمان، والحكمة، والنبوة، (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) أي: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذكره مع أسماء الأنبياء، والرسل في اللوح المحفوظ عند اللَّه في الفضيلة على تلك الأنبياء والرسل عليهم السلام كفضل الكوكب الدري - أي: المضيء، وهي الزهرة - على سائر الكواكب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) يقول - واللَّه أعلم -: استنار نور مُحَمَّد من نور إبراهيم؛ لأن محمدا على دين إبراهيم وعلى سنته ومنهاجه، فمثل إبراهيم مثل الشجرة المباركة، وأصل مُحَمَّد من نسل إبراهيم، صلوات اللَّه عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) والزيتونة: المحاسن وطاعة إبراهيم لربه؛ فنفعه اللَّه بحسن طاعته يوم القيامة، وفي غيره من المواطن، كما تنفع الزيتونة أهلها في الدنيا، فهي فاكهة وطعام، وهي إدام وهو الصباغ والدهن والدباغة يعني: زيتونة (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) يقول: إن إبراهيم صلوات اللَّه عليه لم يكن نصرانيا لقول النصارى: هو نصراني يصلي قبلة النصارى من قبل المشرق، ولا يهوديا لقول اليهود: إنه كان على ديننا يصلي قبل المغرب ببيت المقدس، يقول اللَّه تعالى: لم يكن كما قال هَؤُلَاءِ، ولكن كان حنيفًا مسلفا مصلما إلى الكعبة، وهي قبلته وإليها حج. وقوله: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) يقول - واللَّه أعلم -: لو أن إبراهيم لم يكن نبيا لأصاب بحسن طاعة اللَّه في الدنيا الفضل مع الأنبياء والرسل في الدنيا والدرجات العلا في الآخرة. وقوله: (نُورٌ عَلَى نُورٍ)؛ لأن محمدا وما جاء به من الدِّين والكتاب أصل نوره من قبل إبراهيم؛ لأنه على دينه ولممنته وكتابه ومنهاجه. ثم قال: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) الذي جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو النور، وهو القرآن يهدي إليه من يشاء ممن سبق له في علمه السعادة، ويضل عنه من يشاء ممن

سبق له في علمه الشقاء. ثم قال: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) يعني: ويصف اللَّه الأمثال للناس؛ ليؤمنوا بالله ويوحدوه ويعرفوا نور نبيه من صنيعه، ويصدقوا بإبراهيم ومُحَمَّد - عليهما أفضل الصلوات - أنهما رسولا الرب، وهو تأويل مقاتل. وقال أهل الكلام: قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: أنار اللَّه لأهل السماوات والأرض، مثل نوره الذي به أنار ما ذكر مثل المشكاة التي ذكر إلى آخره. وجائز أن يكون قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: باللَّه نور أهل السماوات وأهل الأرض؛ ألا ترى أنه قال: (مَثَلُ نُورِهِ) كذا، ولم يقل: مثله، ولو كان النور هو اللَّه على ما قاله قوم وفهموه، لقال: " اللَّه نور السماوات والأرض مثله كذالا، ولم يقل: (مَثَلُ نُورِهِ)، فدل قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) كذا أنه لم يرد بالنور نفسه، ولكن ما ذكرنا أنه به نور أهل السماوات وأهل الأرض؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) أنه لم يرد بالنور ما فهموا، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) دل أنه ليس على ما فهموه به: أنه نور كسائر الأنوار التي عاينوها ويشاهدوها وهم المشبهة، على هذا يخرج تأويل ابن عَبَّاسٍ حيث قال: اللَّه هادي أهل السماوات والأرض. وقوله: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) جائز أن يكون قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) أي: مثل نور المؤمن الذي في قلبه مثل مشكاة فيها مصباح؛ لأن المشكاة هي الكوة التي لا منفذ لها يدخل فيها الأنوار، فتكون مظلمة، فإذا جعل فيها المصباح أضاء ذلك كله وأناره حتى لا يبقى فيها ناحية إلا وقد أصابها الضياء والنور، فعلى ذلك القلب، وهو مظلم إذ ليس له منفذ يدخل فيه النور من الخارج، فإذا أنار الله قلبه بإيمانه ظهر ذلك النور وأثره في جميع نواحيه وجوارحه، وهو ما قال: " أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ "، أخبر أن من شرح اللَّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه، فهذا يدل أن قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) إنما هو مثل نور المؤمن، وعلى ذلك روي في حرف أبي بن كعب أنه قرأ: (مثل نور المؤمن كمشكاة)، وفي حرف ابن مسعود: (مثل نوره في قلب المؤمن).

ْوقال الحسن: (مَثَلُ نُورِهِ) قال: مثل القرآن في قلب المؤمن (كَمِشْكَاةٍ) كوة (فِيهَا مِصْبَاحٌ)، أو أن يكون قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أي: به تنجلي الظلمات، وتنكشف الحجب والسواتر؛ إذ النور إنما سمي: نورا؛ لما به تنجلي الظلمات، وتنكشف السواتر، والحجب، لا أنه نور، ألا ترى أنه سمى القرآن: نورًا، والرسول: نورا؛ لما به تنجلي الشبهة والظلمات، وبه ترتفع السواتر والحجب وإن كانا في أنفسهما ليسا بنور سميا: نورا؛ لما ذكرنا من تجلي الأشياء بهما وارتفاع السواتر، فعلى ذلك جائز أن يسمى اللَّه: نورا؛ لما به يكون تجلي الظلمات والشبه، وانكشاف السواتر، وارتفاع الحجب، لا أنه نور. وقوله: (مَثَلُ نُورِهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: مثل نور المؤمن على ما ذكرنا فيما تقدم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَثَلُ نُورِهِ) في صدر المؤمن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مثل نور مُحَمَّد على ما ذكر مقاتل وغيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مثل نور القرآن. وقوله: (كَمِشْكَاةٍ) قال: الكوة التي لا منفذ لها للنور على ما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: موضع الفتيلة من القنديل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحدايد التي تعلق بها القنديل. وقوله: (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) قال: بعضهم: هي شجرة مصحرة تطلع عليها الشمس إذا طلعت وتغرب عليها إذا غربت، وهو أجود الزيت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة في كنّ لا تطلع عليها الشمس إذا طلعت، ولا تغرب عليها إذا غربت.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليست شرقية: لا غرب لها، ولا غربية: لا شرق لها، ولكنها شرقية غربية. فكيفما كان فإنما ذكر الزيت لصفائه وخلوصه؛ فيجب أن يسأل أهله فيقال: أي الزيت أجود وأصفى الذي تصيبه الشمس أو الذي لا تصيبه، أو الذي تصيبه في وقت ولا تصيبه في وقت؟ وقَالَ بَعْضُهُمْ: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هو اللَّه سبحانه هادي أهل السماوات وأهل الأرض، كما هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء؛ قالوا: هو زيت كلما مسته النار ازداد ضوءًا على ضوء، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل الهدى قبل أن يأتيه العلم أفإذا أتاه العلم، ازداد هدى على هدى ونورًا على نور، وعن أبي بن كعب قال في قوله: (مَثَلُ نُورِهِ): يقول: مثل نور المؤمن، وكذلك يقرؤها: (مثل نور المؤمن) على ما ذكرنا من قبل. قال: فهو عبد قد جعل القرآن والإيمان في صدره. قال: (كَمِشْكَاةٍ) قال: المشكاة: صدره (فِيهَا مِصْبَاحٌ): قال: المصباح: القرآن والإيمان الذي جعل في صدره. قال: (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) فالزجاجة: قلبه. قال: (الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) يقول: كوكب مضيء. (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) قال: الشجرة المباركة أصله، فالمبارك: الإخلاص لله وحده لا يشرك به. قال: (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) قال: فمثله كمثل شجرة، جعله كالشجرة فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت: لا إذا طلعت، ولا إذا غربت، وكذلك هذا المؤمن قد أجير عن أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها، فثبته اللَّه فيها، فهو بين أربع خلال: إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل؛ فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات. قال: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) قال: فهو يتقلب في خمسة من النور: كلامه نور، وعلمه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره النور إلى يوم القيامة إلى الجنة. قال: ثم ضرب مثل الكافر فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) وهو يحسبه عند اللَّه خيرًا فلا يجده، فيدخله اللَّه النار، وقال في آية أخرى له مثلا فقال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ

لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ)، فهو يتقلب في ظلمات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: بنوره يهتدي من في السماوات ومن في الأرض على ما ذكرناه (مَثَلُ نُورِهِ) في قلب المؤمن (كَمِشْكَاةٍ) وهي الكوة غير النافذة على ما ذكرنا (فِيهَا مِصْبَاحٌ) أي: سراج (كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ): مضيء، أي: منسوب إلى الدر؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (كَمِشْكَاةٍ): الكوة التي تكون في الحائط؛ ومثال جماعته: الكوة، (كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ): مثل لسانه وصدره وقلبه (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) قال: يكاد محمد يبين للناس وإن لم ينطق. وعن الضحاك بن مزاحم (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) قال: خلقت الكواكب من نار يقال لها: دري؛ فمن ثمة قال: (كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ). وقد ذكرنا قولهم في المشكاة: قَالَ بَعْضُهُمْ: الكوة: التي لا منفذ لها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفتيلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفتيلة التي في جوف القنديل نفسه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: القائم في وسط القنديل، وهو موضع الفتيلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي الحدايد التي يعلق بها القنديل. وأما الزجاجة فهي القنديل. ثم إن كان قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) أي: نور المؤمن، فليس ذلك وصف كل مؤمن ونعته، ولكن وصف المؤمن الذي يجتمع فيه جميع شرائط الإيمان وجميع الأخلاق الحسنة والآداب؛ لأنه وصفه بطهارة نفسه وجسده وقلبه وجميع أعماله وأفعاله؛ لأنه قال: (كَمِشْكَاةٍ)، وهي قلبه (مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ) وهو صدره الذي في قلبه المصباح والزجاجة وهو الإيمان الذي في صدره، ثم نعت الزجاجة فقال: (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) أي: مضيء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من الدر، فوصف الكل بالضياء والنور وطهارة الداخل منه والخارج ونقاوته، فهو المؤمن الذي يجتمع فيه جميع الشرائط والخصال المحمودة، وأما كل مؤمن فلا يحتمل، وهذا أشبه؛ ألا ترى أنه ذكر نعت الكافر من بعد وخبثه حيث قال:

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ). وإن كان وصف مُحَمَّد، ففيه جميع ما ذكر ونعته، وإن كان القرآن فهو كذلك أيضًا. وقوله: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) الذي ذكرنا يحتمل المؤمن ويحتمل محمدا ويحتمل إبراهيم في كلهم (نُورٌ عَلَى نُورٍ)، وقوله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) يحتمل: يهدي اللَّه لنور مُحَمَّد، ويحتمل: القرآن، ويحتمل: الإيمان والهدى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) قال: فالزيت نور، والمصباح نور، والقنديل نور، وقال: المؤمن نور، وعمله نور، وكلامه نور. ويحتمل قوله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: بنوره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يقول: بنوره أضاء السماوات والأرض على ما ذكرنا: (مَثَلُ نُورِهِ) يقول: في قلب المؤمن، وهو في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: (في قلب المؤمن)، وهذا مثل ضربه للإيمان والقرآن، والقلب حين يدخله الإيمان والقرآن (كَمِشْكَاةٍ) يعني: الكوة، (فِيهَا مِصْبَاحٌ) يعني: الإيمان، والقرآن (فِي زُجَاجَةٍ) يعني: القلب، والمشكاة: الصدر، فكما دخل هذا المصباح في الزجاجة فأضاء؛ فكذلك أضاء القلب، ثم خرج من الزجاجة، فأضاءت المشكاة، فكذلك أضاء الصدر، ثم نزل الضوء من الكوة، فأضاء البيت، فكذلك نزل النور من الصدر فأضاء الجوف كله؛ فلم يدخله حرام، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) يحتمل ضرب الأمثال لهم وجهين: أحدهما: ضرب لأفعالهم وأقوالهم مثلا؛ ليعرفوا مقاديرها في الحسن والجمال؛ ليعلموا قدرها من الجزاء والثواب، أو ضرب الأمثال لهم للأنفس المكرمين المعظمين المستوجبين كل خير؛ ليرغبوا في مثل ذلك فيستوجبوا ما استوجب أُولَئِكَ، وكان ضرب مثل الإيمان أو القرآن أو محمدًا وما كان على اختلاف ما قالوا بالأنوار التي ضربها - والله أعلم - لما أنه قد أقام الحجج والبراهين على الإيمان والقرآن ومُحَمَّد حتى صاروا كالأنوار التي شبههم بها من الحسن والجمال والضياء إليها حتى يعرف حسن هذه الأنوار وبهاءها كل أحد؛ فعلى ذلك المضروب به المثل صار في الحسن والبهاء والضياء بالحجج والبراهين كالأنوار التي لا يخفى حسنها وبهاؤها على أحد، ولا ينكرها إلا معاند ومكابر، وكان مثل الكفر والعناد من القبح والفساد والبطلان كالظلمات التي ذكر بعضها فوق بعض وكالسراب والزبد الذي ذكر حيث قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ)، وكالظلمات التي ذكر حيث قال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ. . .) الآية، (وَمَنْ لَمْ

يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ). وقال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) قال: الأنجم الخمسة دري: زهرة، وعطارد، والمشتري، وبهرام، والزحل. قال قتادة: الدري: الضخم المنير. قال الكسائي: من همز " دريء " فهو حسنه وظهوره وارتفاعه، تقول: درأ النجم، وهو فاش ظاهر في كلام العرب، ومن رفع الدال ومن لم يهمز فهو ينسبه إلى الدر، ومنهم من يرفع الدال ويهمز وأظنها لغة. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدري: النجم الذي تراه يتلألأ كأنه يجيء ويذهب. وقد روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن الرجل من أهل عليين ليشرف على أهل الجنة؛ فتضيء الجنة بوجهه كأنه كوكب دري "، وروي أن أبا بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - لمنهم، وأنعم. وأيضًا روي دري بالرفع. وفي خبر آخر عنه: " إن أول زمرة تدخل الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أضوا كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان آدميتان يري مخ سوقهما من وراء اللحم، والذي نفس مُحَمَّد بيده ما فيها غرب ". وقوله: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) اختلف في قراءته: قرأه بعضهم: (يُوقَدُ) بالياء ورفعها ونصب القاف، يقول: المصباح يوقد. ومن قرأها بالتاء ورفع الدال ونصب التاء رده على الزجاجة أراد تتوقد، ثم طرح إحدى التاءين. ومن قرأ بالتاء ورفعها يعني: الزجاجة التي توقد. وأقرأ، أهل مكة: (تَوقَّد) بنصب التاء وتشديد القاف، يعني: المصباح توقد؛ فلذلك انتصب. ومن قرأ: (يُوقَدُ) يعني: الكوكب أو المصباح.

وقوله: (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) قد ذكرنا بعض أقاويلهم فيما تقدم، لكنا نزيد فيها شيئًا. قال قائل: هي شجرة ضاحية من حين تطلع الشمس إلى أن تغرب، ليس لها ظل شرقي ولا غربي، وزيتها أصفى الزيت وأعذبه وأطيبه. وقال قائل: ليست بشرقية يحوزها المشرق، دون المغرب، وليست بغربية يحوزها المغرب دون المشرق، ولكنها بارزة في صحراء أو في رأس جبل تصيبها الشمس النهار كله، وهو مثل الأول. وقال الكسائي: ليست بشرقية وحدها، ولا بغربية وحدها ولكنها شرقية وغربية، كما تقول: لا آتيك ولا آتي فلانا، له معنيان: إن شئت كان معناه: لا تأتي واحدا منهما، وإن شئت كان معناه: أنك لا تأتيهما معا، ومثله: واللَّه لا آكل ولا يأكل زيد معنيان، وكان يقال: رجل لا يرجو الجنة ولا يخاف النار ويحب الفتنة إنه رجل صالح: أما الفتنة فالمال والولد، قال اللَّه تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)، وهو يرجو الجنة ويخاف النار على ما فسرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا شَرْقِيَّةٍ) يقول: لا تضحى للشمس من أول النهار إلى آخره، ولا غربية عليها ظل من أول النهار إلى آخره، ولكنها شرقية وغربية يصيبها الشمس والظل، والعرب تقول: لا خير في شجرة في مضآة، ولا خير في شجرة في مضحاة. وقائل يقول: لا تطلع الشمس ولا تغرب. وقائل يقول: هي شجرة بالشام ليست بالمشرق وليست بالمغرب. والحسن يقول: واللَّه لو كانت هذه الزيتونة في الأرض، لكانت شرقية أو غربية، والله ما هي في الأرض، ولكن هذا مثل ضربه اللَّه تعالى لنوره وهو هذا القرآن. وأما قوله: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: إيمان المؤمن نور، وعلمه نور، فهو نور على نور. قَالَ بَعْضُهُمْ: نور النار على نور الزيت، فذلك نور على نور، وهو بجودته يعني: الزيت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحد بغير صاحبه، كذلك نور القرآن ونور الإيمان إذا اجتمعا لا يكون أحدهما مضيئا إلا بصاحبه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما ذكرنا من نور الإيمان والعلم.

(36)

ثم معنى تشبيه ما ذكر بالزيت؛ لأن الزيت أصفى شيء وأطهر وأطيب شيء وأضوأ للسراج، وكل المنافع من الإدام والدواء وغيره منه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَنْ تُرْفَعَ) أي: تعظم، ويرفع قدرها -وهي المساجد- على غيرها من البيوت المسكونة بذكر اسم اللَّه فيها، والتسبيح والتنزيه من الأقذار، والأنجاس، ومن الأمور الدنيوية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَنْ تُرْفَعَ) أي: تبنى وتتخذ. فإن كان التأويل هذا، ففيه الأمر ببناء المساجد واتخاذها. وإن كان الأول، ففيه الأمر بتعظيم المساجد ورفع قدرها بما ذكر من ذكر اللَّه والتسبيح فيها. ثم الإذن في هذا الأمر لوجهين: أحدهما: بحق إقامة الجماعات فيها في هذه الصلوات المعروفة؛ إذ الأرض كلها في الأصل جعلت مسجدًا؛ حيث قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ". فهي من حق جواز الصلاة مسجد، فيخرج الأمر به مخرج الأمر ببنائها لإقامة الجماعات.

(37)

والثاني: أمر بها خصوصًا للمساجد؛ إذ غيرها من البيوت المسكونة إنما اتخذت وبنيت بالإذن والإباحة، فخص المساجد بالإذن ببنائها خصوصًا لها؛ إذ لو كان إذنًا على ظاهر ما ذكر، لكان المساجد وغيرها من البيوت سواء، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) فإن كان تأويل قوله: (أَنْ تُرْفَعَ) أي: تعظم ويرفع قدرها؛ فيكون قوله: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ) تفسيرًا لذلك التعظيم والقدر الذي أمر، أي: أمر أن تعظم، ويرفع قدرها بذكر اسم اللَّه فيها، وما ذكر من التسبيح. وإن كان التأويل هو الأمر بالبناء يكون قوله: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا) كذا على الابتداء، أي: أمر أن نبني سويًّا مساجد، وأمر أن يذكر فيها اسمه، ويسبح له فيها بالغدو والآصال. ثم اختلف في تلاوة قوله: (يُسَبِّحُ لَهُ): قرأ بعضهم (يُسَبَّحُ لَهُ) بنصب الباء. وقرأ بعضهم (يُسَبِّحُ) بخفض الباء. فمن قرأها بالنصب صيره على الأول (ويذكر فيها اسمه يُسَبَّحُ لَهُ فيها بالغدو والآصال)، ثم ابتدأ فقال: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ). ومن قرأها بالخفض -أعني: خفض الباء- صيره مقطوعًا من الأول مبتدأ به، أي: يسبح له فيها رجال بالغدو والآصال، ثم ابتدأ من قوله: (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ) ثم قوله: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) جائز أن يراد بذكر اسمه: الصلاة، وكذلك التسبيح. ويحتمل أن يريد بذكر اسمه: جميع أنواع الأذكار من الخير. ويراد بالتسبيح بالغدو والآصال: الصلاة المفروضة. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: الغدو: صلاة الغداة، والآصال: صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ فيجعل الأصيل عبارة عن هذه الصلوات في أوقاتها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآصال: صلاة العصر خاصة، وأما غيرها من الصلوات فإنما عرف لا بهذا ولكن بشيء آخر، والغدو هو صلاة الفجر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ ... (37) أي: لا تشغلهم تجارة ولا بيع، ذكر

(38)

التجارة والبيع، والبيع تجارة، ولكن كان اسم التجارة يجمع كل أنواع التقلب، واسم البيع يقع على خاص، وكذلك يقال للذي يجمع أنواع التقلب: تاجر، وللذي يبيع شيئًا خاصًّا: بائع. أخبر أنه لا يشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللَّه. ثم جائز أن يكون قوله: (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي: لا يشتغلون بالتجارة والبيع، ولكن فرغوا أنفسهم لذكر اللَّه، وإقامة الصلاة، وما ذكر. وجائز أن يكون يتجرون ويبيعون لكن تجارتهم وبيعهم لا تشغلهم، ولا تمنعهم عن ذكر اللَّه، يكونون أبدًا في ذكر اللَّه. ثم قوله: (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) يحتمل الصلاة. وقوله: (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) أي: تمام الصلاة بركوعها، وسجودها، وقراءتها، وجميع أسبابها، وشرائطها. وجائز أن يكون قوله: (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) جميع أنواع الأذكار (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) وإقامة الصلاة بنفسها وإيتاء الزكاة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جائز أن يكون قوله: (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) الخطبة (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) صلاة الجمعة؛ لأنه قال: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً. . .) الآية، وقال: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ)، وهي الخطبة. وهذا القول، غير مسموع من أهل التأويل، ولكنه يحتمل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) وهو يوم القيامة يخبر عن شدة هول ذلك اليوم وخوفه إذ لا تثبت القلوب والأبصار فزعًا منه وخوفًا، كقوله: (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ. . .) الآية، وكقوله: (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ). وجائز أن يكون قوله: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) يعرفون مرة، ويجهلون تارة، ويعتبرون يومئذ بما لم يعتبروا في الدنيا، ويقرون بما لم يقروا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ)، حين زالت عن أماكنها من الصدور، فنشبت في حلوقهم عند الحناجر، ثم قال: (وَالْأَبْصَارُ) أي: تتقلب أبصارهم فيكونون زرقا، وهو قول مقاتل. وقوله: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ... (38) يحتمل قوله: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) أي:

(39)

يجزيهم اللَّه جزاء إحسانهم، ويكفر عنهم مساويهم، ولا يجزيهم بها كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا. . .) الآية، وكقوله: (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على قدر حسناتهم، (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس فوقه ملك يحاسبه فهو لذلك يرزق من يشاء بغير حساب لا يخاف من أحد يحاسبه كقوله (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ). ويحتمل قوله: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: يعطيهم بلا حساب يحاسبهم، ويدخلهم الجنة بلا محاسبة. وجائز أن يكون (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: يعطيهم بلا حساب أضعافًا مضاعفة ما لا يحصى لا على قدر أعمالهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً) جائز أن يكون ضرب مثل أعمال الكفرة بالسراب الذي ذكر من وجهين: أحدهما: أنهم قد عملوا في الظاهر أعمالا طمعوا أن يصلوا إليها في الآخرة، وينتفعوا بها من نحو الصدقات، والنفقات، وصلة الأرحام، ونحوه مما هي في الظاهر أعمال الخير، فإذا هم حُرِمُوا أجرها ولم يجدوا شيئًا كالذي يرى السراب من بعيد يحسبه ماء فسار إليه، فإذا هو لا شيء؛ فعلى ذلك الكفار عملوا تلك الأعمال على طمع منهم أنهم ينتفعون بها، فإذا هم على لا شيء كالعطشان الذي يرى السراب، فحسبه أنه ماء، فإذا هو سراب. والثاني: ضرب مثل أعمالهم بالسراب الذي ذكر، وذلك أنهم قد عبدوا الأصنام والأوثان رجاء أن ينتفعوا بشفاعتهم في الآخرة؛ كقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، وكانت عبادتهم لما ذكروا من شفاعتهم عند اللَّه ثم لم ينتفعوا فصاروا كالعطشان الذي يرى السراب يحسب أنه ماء؛ فإذا جاءه وجده سرابًا؛ لم يجده ماء كما حسبه، إلى هذا تمام المثل. ثم ابتدأ فقال: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) أي: وجد اللَّه يوفيه حساب عمله وجزاءه.

(40)

أو يقول: قدم على عمله يوم القيامة لم يجد عمله الذي عمل في الدنيا شيئًا إلا كما وجد هذا العطشان هذا السراب، ووجد اللَّه عنده فوفاه حسابه، يقول: قدم على اللَّه فوفاه حسابه؛ أي: عمله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا المثل ضرب للكفار؛ وذلك أنهم يبعثون يوم القيامة وقد تقطعت أعناقهم من العطش، فيرفع لهم سراب بقيعة من الأرض؛ فإذا نظروا إليه حسبوه ماء؛ فأتوه ليشربوا منه فلم يجدوا شيئًا، ويؤخذون ثمة فيحاسبون، وكذلك أعمالهم تضمحل يوم القيامة فلا يصيبون منها خيرًا. وقوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) هذا مثل آخر ضربه اللَّه لأحوال الكافر؛ أو (كَظُلُمَاتٍ) جسده، شبهه بظلمات؛ وذلك أن البحر إذا كان عميقًا كان أشدّ لظلمته؛ فقال: والبحر اللجي: قلب الكافر، (يَغْشَاهُ مَوْجٌ): فوق الماء (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ): فهو ظلمة الموج، وظلمة الليل، وظلمة السحاب، هذه ظلمات (بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)، فكذا الكافر قلبه مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم، لا يبصر الإيمان كما أن صاحب البحر إذا أخرج يده في تلك الظلمة (لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا)؛ أي: لم يرها ألبتَّة. أو أن يكون ضرب المثل بظلمات ثلاث بظلمات أحوال لا يزال يزداد ظلمة كفره في كل وقت وفي كل حال بعمله الذي يعمله؛ كالظلمات التي ذكرها؛ فكان كضرب المثل الذي سبق لأنوار أحوال المؤمن؛ حيث قال: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) والنور جسده وصدره وقلبه. ثم قوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ): ليس هو حرف شك، ولكنه كأنه قال: إن ضربت مثل عمله بالسراب فمستقيم، وإن ضربته بالظلمات التي ذكرها فمستقيم، بأيهما ضربت فمستقيم صحيح، لا أنه ذا أو ذا. ثم ذكر في أعمال الكفرة مثلين: أحدهما: السراب، والثاني: الظلمات. فجائز أن يكون في المؤمن أيضًا مثلين: الظلمة التي ذكر مقابل النور الذي ذكر في المؤمن، والسراب الذي ذكر لأعمالهم مقابل ما ذكر من أعمال المؤمنين؛ حيث قال: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. . .) إلى قوله: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ). وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: من لم يجعل اللَّه له إيمانًا فما له من إيمان. وقيل: هدى، فما له من هدى، وهما واحد.

(41)

والآية على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: لم يجعل اللَّه للمؤمن من النور إلا وقد جعل مثله للكافر، وفي الآية إخبار أنه لم يجعل للكافر النور؛ إذ لو كان جعل للكافر كما جعل للمؤمن لم يكن لقوله: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) - معنى؛ دل أنه لم يجعل للكافر النور. وقوله: (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) يقول: فجازاه بعمله فلم يظلمه. وقوله: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) قد ذكرناه في غير موضع. قَالَ الْقُتَبِيُّ: السراب: ما رأيته من الشمس كالماء نصف النهار، والآل: ما رأيته في أول النهار وآخره؛ الذي يرفع كل شيء، والقيعة: القاع. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: السراب الذي يثيره الحرّ فتراه كأنه ماء يجري وهو الذي يكون نصف النهار إلى السماء، والآل في أوّل النهار إلى قريب من نصف النهار، والقيعة: القاع؛ وهي الأرض اليابسة الطيبة التي يستنقع فيها الماء، وقاع واحد، وقيعان جمع، والظمآن: العطشان، وقوم ظِمَاء، وامرأة ظمأى، ونسوة ظماء، وأظمأته: أعطشته، وظمأته أيضًا. (بَحْرٍ لُجِّيٍّ) اللجي: الكثير الماء، واللجة: وسط البحر (يَغْشَاهُ مَوْجٌ)؛ أي: يصير فوقه، قال: الموج طرائق في الماء تكون إذا هبت الريح. وقال الكسائي: الظمآن والصديان والعطشان واحد، قيل: والسراب: الزوال، والآل: بعد الزوال؛ وهو أرفع من السراب، والرواق بعد العصر. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا): يقول: لم يقاربه البصر؛ كقوله: الرجل لم يصب ولم يقارب. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

قوله: (أَلَمْ تَرَ)، و (أَلَمْ تعلَم)، ونحوه في الظاهر حرف تعجيب واستفهام، يقول الرجل لآخر: ألم تر كذا، وألم تعلم كذا؛ على التعجيب أو على الاستفهام، لكنه يخرج من اللَّه على وجهين: أحدهما: أي: قد رأيت وعلمت؛ إذ الاستفهام لا يجوز عنه. والثاني: على الأمر؛ أي: اعلم ورِه؛ على ما ذكرنا في غير موضع. وقوله: (يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). يحتمل تسبيح من ذكر وجهين: أحدهما: تسبيح خلقة وصنعة؛ إذ في خلقة كل أحد دلالة وحدانيته وتعاليه عن الأشباه وتنزيهه، والشهادة له بالربوبية، والتفرد بالألوهية له. والثاني: يجعل اللَّه - تعالى - في هذه الخلائق من الطيور والدوابّ وغيرها معنى يسبحون له بذلك، يفهمون هم ذلك من أنفسهم، ويعرفون أنه تسبيح؛ وإن لم يفهم غيرهم من الخلائق، نحو ما ذكر من تسبيح الجبال والطير في قصة سليمان في قوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)، وقال في آية أخرى: (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ). ولو كان التسبيح ممن ذكر تسبيح خلقة لكان سليمان وغيره من الناس في ذلك شرعًا سواء؛ والعشي وغيره من الأوقات سواء، فدل تخصيص سليمان في ذلك، وتخصيص الأوقات من بين غيرهم على أن تسبيح هذه الأشياء ليس بتسبيح خلقة؛ ولكنه تسبيح عبادة بالمعنى الذي جعل له فيه، وإن لم يفهم غيره من الخلائق تسبيحهم؛ ألا ترى أن الله تعالى أخبر عن قول النملة؛ حيث قال: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ. . .) الآية، ثم معلوم أنه لم يكن حقيقة قوله كقول المميز والممتحن، ولكنه معنى، فهموا منها ذلك، فعلى ذلك الأول؛ ألا ترى أنه أخبر عن نظر الجوارح وشهادتها عليه يومئذ؛ حيث قال: (يَوْمَ تشْهَدُ عَلَيهِم. . .) الآية، وقال: (شَهِدَ عَليهِم. . .) الآية، فيفهم هَؤُلَاءِ من شهادة الجوارح عليهم ما لم يفهمه غيرهم حتى أنكروا عليها؛ دل ذلك أنه ما ذكرنا. وذلك جائز أن يكون لمعنى فيهم فهموه هم ولا يفهمه غيرهم؛ ألا ترى أن اللَّه جعل في سرية الماء معنى يحيا به كل شيء إذا أصابه ووصل إليه، وذلك المعنى لا يعلمه إلا اللَّه أو من أطلعه اللَّه عليه وارتضاه لنفسه رسولا، فعلى ذلك تسبيح من في السماوات والأرض والطير وغيره، جعل في سريتهم معنى يعرفون هم من أنفسهم ذلك تسبيحًا له

(42)

وتنزيهًا؛ وإن لم يفهمه غيرهم، واللَّه أعلم؛ كقوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - -: (يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ). حرف " من " إنما يعبر به عن التمييز وحرف " ما " يعبر به عن المميز. وقوله: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: كل من فيها قد علم صلاته وتسبيحه؛ من الملائكة وغيرهم؛ بلغته ولسانه غير كفار الإنس والجن. وجائز أن يكون قوله: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) ما ذكرنا أن كلا منهم يعرف ويفهم أنه يسبح له، وإن لم يفهم غيره، كأنه يذكر سلطانه وملكه وغناه عن عبادة هَؤُلَاءِ والتسبيح؛ لأن من سبح له كل شيء في السماوات والأرض، فترك عبادة هَؤُلَاءِ له وعبادته بمحل واحد لا ينفع ولا يضر. أو أن يقول: من له ملك السماوات والأرض لا يقع له الحاجة إلى عبادة أحد ولا طاعته، وإنما الحاجة والمنفعة في الطاعة والعبادة لهم دون اللَّه؛ ولذلك قال: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على أثر ذلك. وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) جائز أن يكون هذا على الأول؛ أي: عليم بما يفعل من ذكر من التسبيح وغيره، أو أن يكون على ابتداء وعيد للخلق؛ أي: عليم بجميع ما يفعلون. وقوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) قد ذكر في غير موضع. وقوله: (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي: قد صفت أجنحتها في الطيران، وكذلك قال أبو عَوْسَجَةَ، أي: صفت أجنحتها في الهواء فلا تحركها. وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) قيل: يسوق سحابًا (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي: بعضه إلى بعض (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) قال: فيها تقديم وتأخير (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) أي: قطعًا يحمل بعضه على أثر بعض (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي: يضم السحاب بعضه إلى بعض بعد الركام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (يُزْجِي) أي: يخرجه من الأرض فيسخره بين السماء والأرض ثم يجعله ركامًا. وقوله: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) وقيل: " خِلَلِهِ "؛ أي: من خلال السحاب (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: جبال من ثلج ينزل اللَّه على السحاب

(44)

منها الثلج والبرد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جبال خلقها اللَّه من برد في السماء ثم ينزل. وليس في الآية بيان أن الجبال التي ذكر أنها من السماء أنها من ثلج أو برد، سوى أنه أخبر أن فيها بردًا؛ فالأشياء تشبه بالجبال وتنسب إليها؛ إما للكثرة، وإما للشدة والغلظ والعظم ثانيًا؛ كقوله: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً. . .) الآية؛ فجائز أن تكون الجبال المذكورة في هذه الآية هي الجبال التي أخبر أنه ينزلها، أو لا يدري أين هي: في السماء أو فيما بين السماء والأرض؟ وقوله: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ) في نفسه أو زرعه أو ثمره فيضره، (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) فلا يصيبه، وإن كان على هذا فهو يخرج على التعذيب، وكذلك عمل البرد يفسد في مكان، ويترك مكانًا لا يعمه، ولكن يصيب مكانًا ويخطئ مكانًا. وجائز أن يكون قوله: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ) من بركته (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) من بركته، (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ) قيل: ضوء برقه، كاد أن يقارب أن يذهب ضوء البرق بالأبصار من شدة نوره، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) تقليبه الليل والنهار واختلافهما: يأتي بهذا ويذهب بالآخر. يذكر هذا - واللَّه أعلم - صلة قوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية؛ يخبر عن سلطانه، وقدرته، وتدبيره، وعلمه، وحكمته، ووحدانيته، وقدرته، ما ذكر من سوق السحاب بين السماء والأرض، وتسخيره، وضم بعضه إلى بعض - دل ذلك أنه قادر بذاته، لا يعجزه شيء، ودل نزول المطر وإصابته في مكان دون مكان، وتخطيه موضعًا دون موضع مع اتصال السحاب وانضمام بعض على بعض على السواء أنه على التدبير والعلم كان ذلك، لا بطباع السحاب، أو على جزاف. ودل جريان الأمر واتساق التدبير فيما ذكرنا، وفي اختلاف الليل والنهار، وتقليبهما من حال إلى حال، من النقصان إلى الزيادة، ومن الزيادة إلى النقصان، واتصال منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما - أنه تدبير واحد، لا عدد؛ إذ لو كان تدبير عدد، لمنع بعض بعضًا عما يريد من التدبير والنفع، دل ذلك كله على أنه واحد، عليم، قادر، مدبّر، لا يعجزه شيء؛ ولذلك قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)؛ لما ذكرنا فيه من وجوه الاستدلال والاعتبار. قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (يُزْجِي) أي: يسوق (رُكَامًا) بعضه فوق بعض (فَتَرَى

(45)

الْوَدْقَ) أي: المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) و (خَلَلِهِ)، (سَنَا بَرْقِهِ) ضوءه. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: والركام: الكثير المتراكم الذي بعضه فوق بعض؛ يقال: ارتكم الشيء، أي: صار بعضه على بعض، ويقال: ركمت المتاع أركمه ركمًا: إذا جعلت بعضه فوق بعض، والودق: المطر؛ يقال: ودقت السماء تدق ودقًا: أي: مطرت (يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) أي: من بينه، وواحد الخلال: خلل، (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ) السنا مقصور، وهو الضوء؛ يقال: السنا: النار، وهو واحد. وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ... (45) هو - واللَّه أعلم - صلة قوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية؛ ذكر السحاب وما فيه من التدبير والعلم والحكمة، وذكر -أيضًا- تقليبه الليل والنهار وما فيهما من التدبير والعلم والحكمة والقدرة؛ فعلى ذلك قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) يذكر قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره؛ أخبر أنه خلق الخلائق كلهم من هذا الماء، على اختلاف أجناسهم وجواهرهم من شيء واحد وأنهم لم يكونوا بالطباع كذلك، ولكن بتدبير واحد عالم بذاته، لا بعلم وتدبير مستفاد، ولكن علم ذاتي؛ إذ لو كانوا بالطباع لخرجوا على تقدير واحد وصفة واحدة. والثاني: أنه لا أحد من حكماء البشر يدرك كيفية إنشاء هذا العالم، وخلق هذه الخلائق من هذه المياه فإنه خلق ذلك، وليس في تلك المياه معنى ولا شيء من جوهر الخلائق دل إنشاؤه إياهم أنه قادر بذاته، لا يعجزه شيء يخلق بسبب وبغير سبب، وأنه خلق الخلائق بحكمة ذاتية؛ إذ لم يدرك ذلك حكماء البشر. ودل خلق هذه الخلائق على هذه المعاني والأسباب أنه لم يخلقهم عبثًا ليتركهم سدى، لا يأمرهم ولا ينهاهم؛ فإذا ثبت الأمر والنهي ثبت الإحياء من بعد الممات للجزاء. ودلت قدرته على خلق هذه الخلائق من الماء أنه قادر على الإحياء، وأنه لا يعجزه شيء؛ لأن من قدر على هذا لقادر على ما ذكرنا. وقوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) يذكر هذا - واللَّه أعلم - لأحد وجهين: إما تذكيرًا إياه نعمه ومننه وفضله الذي أعطاهم وإحسانه الذي أحسن إليهم؛ لأنه أخبر أنه خلق هذا العالم معتدلا سويًّا من غير أن كان منهم اختيار لذلك.

(46)

أو يستوجبون ذلك قبله، وخلق غيرهم من الدواب منكبين على وجوههم وماشين على بطونهم، وذلك فضل منه ونعمة. أو ذكر مثالا بحال الكفرة في الآخرة؛ كقوله: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى. . .) الآية؛ أخبر أن الكفرة يكونون منكبين على وجوههم، وأهل الإسلام يمشون منتصبين مستوين (يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) بسبب وبغير سبب (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)؛ لأنه قادر بذاته، لا بقدرة مستفادة بالطباع. * * * قوله تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وقوله: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ. . .) الآية؛ قد ذكرناه. وقوله: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) اختلف فيه: قال بعض أهل التأويل - ابن عَبَّاسٍ وغيره -: إنه وقعت بين علي بن أبي طالب وبين عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خصومة في أرض اشتراها عثمان من علي، فاختصما إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تلك، فقضى لعلي على عثمان، وألزمه الأرض، فقال قوم لعثمان: إنه ابن عمه وأكرم عليه فقضى عليك له، أو نحو هذا من الكلام، فنزل في قوم عثمان ذلك. . إلى آخر ما ذكر. لكن هذا بعيد؛ إذ لا يحتمل أن يكون عثمان أو قومه يخطر ببالهم في رسول اللَّه ما ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزل هذا في بشر المنافق، وذلك أن رجلا من اليهود كان بينه وبين بشر

(49)

خصومة، وأن اليهودي دعا بشرًا إلى رسول اللَّه، ودعاه بشر إلى كعب بن الأشرف، فقال: إن محمدًا يحيف علينا، أو نحوه من الكلام؛ فنزل هذا؛ لكنا لا نعلم أنه فيمن نزل سوى أن فيه بيانًا أنها إنما نزلت في المنافقين. وفي ظاهر الآية دلالة أنهم علموا أن رسول اللَّه لا يقضي إلا بالحق؛ ألا ترى أنه ذكر في آخره: (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) مسرعين مطيعين، ولو كان عندهم أنه يقضي بالجور لكانوا لا يأتونه للقضاء، وإن كان الحق لهم مخافة الجور والظلم عليهم، لكن ما ذكر في سياق هذا يمنع هذا التأويل. وقوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) في هذا من الدلالة أن عندهم أنه لا يقضي بالحق لهم، وأنه يجور؛ حيث قال: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) إن كان على هذا الوصف فهو يخاف جوره وحيفه، إلا أن تجعل الآية في فرق من المنافقين: فرقة منهم عرفوا أنه لا يقضي إلا بالحق، وفرقة منهم كان في قلوبهم مرض، وفرقة ارتابوا، وفرقة خافوا جوره، وهم كانوا فرقًا؛ ألا ترى أنه قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ) ومنهم من قال: كذا، ومنهم من قال: كذا. أو أن يكون تأويل قوله: (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) أي: وإن يكن لهم القضاء بالحق أتوه مذعنين؛ أي: إذا عرفوا أنه يقضي لهم لا محالة أتوه، وإلا لا يأتونه، فإن كان على هذا، فما ذكر على سياقه من المرض والارتياب والخوف في الحيف فمستقيم. على هذين الوجهين يحتمل أن يخرج تأويل الآية، وأما على غير ذلك فإنا لا نعلم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)؛ لأن من ارتاب، أو شك في رسالته، أو خاف جوره وحيفه فهو كافر، ليس بمؤمن. وفي قوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ) يخرج على وجهين وإن كان ظاهره حرف شك: أحدهما: على الإيجاب والتحقيق، أي: في قلوبهم مرض وارتابوا وخافوا على ما ذكرنا في حرف الاستفهام أنه في الظاهر، وإن كان استفهامًا فهو في التحقيق علم وإيجاب؛ أي: قد علمت ورأيت ونحوه؛ لما لا يجوز الاستفهام منه، فعلى ذلك هذا. والثاني: ما ذكرنا أنه في فرق: فرقة عرفت أنه لا يقضي إلا بالحق، وفرقة منهم ارتابت، وفرقة منهم خافت جوره وظلمه.

(51)

قَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (مُذْعِنِينَ) أي: خاضعين. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: مسرعين، مطيعين؛ يقال: ناقة مذعان: أي سريعة، ونوق مذاعين، والحيف: الجور، حاف يحيف حيفًا فهو حائف. وقوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) قوله: (دُعُوا إِلَى اللَّهِ) يحتمل إضافة الدعاء إلى اللَّه وجهين: أحدهما: دعوا إلى كتاب اللَّه وإلى رسوله: (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ)، كقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا). والثاني: إضافته إلى اللَّه هي إضافة إلى رسوله، كقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، جعل طاعة الرسول طاعة لله؛ فعلى ذلك جائز أن يراد بإضافة الدعاء إلى اللَّه دعاء إلى رسول اللَّه، وعلى ذلك يخرج قوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) لا يحتمل أن يكونوا يخافون حيف اللَّه وجوره، لكن إنما يخافون جور رسوله أو كتابه، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... (51) قد ذكرنا إضافة الدعاء إلى الله في قصة المنافقين ونعتهم، فعلى ذلك في نعت المؤمنين. وقوله: (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) يحتمل قوله: (سَمِعْنَا) أي: سمعنا الدعاء وأطعنا الأمر. ويحتمل: سمعنا: أجبنا وأطعنا الأمر. وجائز أن يكون قوله: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ليس على حقيقة القول منهم والنطق به، ولكن إخبار من اللَّه - تعالى - عما هم عليه واعتقدوا به؛ إذ كل مؤمن يعتقد في أصل اعتقاده طاعة اللَّه وطاعة رسوله، فيكون كما ذكر في آية أخرى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)، هذا إخبار عما أطعموهم، ليس أنهم قالوا باللسان: إنما نطعمكم لكذا، ولكن إخبار عما في قلوبهم، فعلى ذلك الأول. وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المفلح هو الذي يظفر بحاجته دنيوية وأخروية؛ يقال: فلان أفلح: أي: ظفر بحاجته، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) يحتمل قوله: (وَيَخْشَ اللَّهَ) أي: يخشى اللَّه على ما مضى من ذنوبه ويتقيه فيما بقي من عمره. أو يخشى اللَّه على ما يكون منه من التقصير والتفريط ويتقي ذلك وكل معصية الله

(53)

ومخالفته (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) وفي حرف ابن مسعود وأبي وحفصة (فأُولَئِكَ هم المؤمنون) فهما واحد. وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قَالَ بَعْضُهُمْ: كل يمين باللَّه فهي جهد اليمين؛ لأنهم من عاداتهم أنهم كانوا لا يحلفون باللَّه إلا في العظيم من الأمر والخطير، فأمَّا الأمر الدون فإنما يحلفون بغيره، فيكون على هذا كل يمين باللَّه فهو جهد اليمين. ويحتمل أن يكونوا حلفوا بيمين غليظة شديدة على ما يغلظ الناس في أيمانهم ربما، فسمى ذلك جهد اليمين. أو أن يكون جهد اليمين ما ذكر على أثره، وهو قوله: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) قوله: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) هو جهد أيمانهم، واللَّه أعلم. وقوله: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) قوله: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) يحتمل وجوهًا: لئن أمرتهم ليخرجن من أرضهم التي تخاصموا إليه فيها؛ أي: ليخرجن ويسلمونها إلى خصمهم. ويحتمل: لئن أمرتهم (لَيَخْرُجُنَّ) من جميع أملاكهم وما تحويه أيديهم، تعظيمًا لأمرك وإجلالا، فكيف لا يتبعون لقضائك وينقادون لحكمك. وجائز أن يكون قوله: (لَيَخْرُجُنَّ) من المدينة بعيالاتهم وجميع حواشيهم إلى بلدة أخرى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) أي: أمرتهم أن يخرجوا في الجهاد ليخرجن؛ لأنهم كانوا يتخلّفون. ثم أمر رسوله أن ينهاهم عن القسم الذي أقسموا فقال: (قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تقسموا؛ فإن اللَّه لو بلغ منكم الجهد لم تبلغوه، ثم قال: (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) يقول: أطيعوه وقولوا له المعروف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا) تم الكلام، ثم قال: (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ). وفي هذا الكلام حذف؛ للإيجاز يستدل بظاهره عليه؛ كأن القوم كانوا ينافقون ويحلفون في الظاهر على ما يضمرون خلافه، فقيل لهم: لا تقسموا هي طاعة معروفة

(54)

صحيحة لا نفاق فيها، لا طاعة فيها نفاق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تحلفوا، ولتكن هذه منكم للنبي طاعة معروفة حسنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) يقول: طاعة يعرف أنها طاعة بالقول والعمل، لا تكونوا كاذبين فيها بالقول دون العمل، وبعضه قريب من بعض: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فلا تقسموا. وفيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنهم كانوا يسرون ويضمرون فيما بينهم التولي والإعراض عن حكمه، ثم أخبرهم بذلك؛ فعلموا أنه باللَّه عرف ذلك. وقوله: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) أي: فإن تولوا عن طاعة اللَّه وطاعة رسوله (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) قال: فإنما على النبي ما أمر بتبليغ الرسالة وعليكم ما حملتم وأمرتم من الطاعة لله ورسوله. ويحتمل: فإنما عليه أداء ما حمل من الفرائض، وعليكم أداء ما حملتم وأمرتم من الفرائض. وجائز أن يكون قوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ) أي: لا يسأل هو، ولا يؤاخذ بما عليكم، ولا تسألون أنتم ولا تؤاخذون -أيضًا- بما عليه؛ إنما يسأل كل عما عليه؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) لا شك أنهم إن أطاعوه اهتدوا (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) ظاهر. * * * قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: مكث رسول اللَّه بمكة سنين من بعد ما أوحي إليه خائفًا هو وأصحابه يدعون الناس إلى اللَّه - تعالى - سرًّا وعلانية، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فكانوا بها خائفين، يصبحون في السلاح، ويمسون في السلاح، فقال رجل من أصحابه: يا رسول اللَّه، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح، فقال رسول اللَّه: " لن تلبثوا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا ليس معهم حديدة "، فأنزل الله

(56)

هذه الآية على أثر ما ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لما صدّ المشركون رسول اللَّه وأصحابه يوم الحديبية وعد الله المسلمين أن يظهرهم وأن يفتح لهم مكة، وقال: وتصديق ذلك ما ذكر في سورة الفتح، وهو قوله: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. . .) الآية، حتى قال في آخر ذلك: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. . .) الآية؛ وعد رسوله في القرآن أنه يستخلفهم في الأرض وينزل فيها كما استخلف الذين من قبلهم فجعلهم خلفاء في الأرض. وقال قائلون: كان وعده إياهم في التوراة والإنجيل والزبور أنه يجعلهم خلفاء في الأرض كما فعل بالذين من قبلهم، ولكن كيفما كان ذلك الوعد لهم في القرآن أو في الكتب المتقدمة ففيه أمران اثنان: أحدهما: البشارة للمسلمين، والحجة على الكافرين؛ لأنه وعد لهم الأمن في النصر في وقت لا يرجون ولا يطمعون في النجاة فضلا أن يطمعوا في الاستخلاف، والتمكن في الأرض، وإظهار الدِّين الذي ارتضى لهم وهو الإسلام على الأديان كلها، فإذا كان مثل ذلك الوعد والبشارة لا يطمع ولا يرجى في مثل ذلك الوقت والخوف - علم أنه إنما بشرهم بذلك بوحي من اللَّه، ووعد منه، فكان ما وعد دل أنه باللَّه وعد ذلك وبشر، فذلك حجة على أُولَئِكَ، وبشارة للمؤمنين، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). قوله: (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) ليس بشرط فيه؛ لأنه لو كفر قبل ذلك -أيضًا- فهو فاسق. ثم من الناس من قال: ومن كفر بعد هذه النعم التي أنعمها عليهم ولم يشكره عليها فهو كذا. وجائز أن يكون قوله: (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) ليس له جواب. وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (56) فيما أمركم به ونهاكم عنه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) هو ظاهر، قد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع. ثم قال: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) قَالَ بَعْضُهُمْ: (مُعْجِزِينَ) أي: فائتين في الأرض هربًا من عذابه؛ فلا يدركهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سابقين في الأرض هربًا -أيضًا- حتى لا يجزون بكفرهم، وهو واحد

(58)

(وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قد ذكرناه أيضًا. وقوله: (لَا تَحْسَبَنَّ) كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعلم أنهم ليسوا بفائتين ولا بسابقين عنه، لكنه ذكر له هذا كما ذكر في قوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)، هما واحد. وفي حرف ابن مسعود وأبي وحفصة: (حسب الذين كفروا أن يعجزوا اللَّه في السماوات والأرض) إنه وإن اختلفت الحروف فالمعنى واحد، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) قال بعضهم: ذكر أن رجلا وامرأته تسمى أسماء بنت مرثد اتخذا طعامًا للنبي، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا يا رسول اللَّه أن يدخل عليَّ الرجل وامرأته بغير إذن وهما في ثوب واحد غلامها المملوك، فأنزل اللَّه: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزل هذا في شأن عمر بن الخطاب، وهو ما قال: " وافقت ربي في ثلاث "؛ ذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث غلامًا من الأنصار يقال له: مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه، فانطلق إليه ليدعوه، فوجده قائلا قد أغلق عليه الباب، فسأل الغلام عنه، فأخبر أنه في هذا البيت، قال: فدفع الغلام الباب على عمر وسلم، فلم يستيقظ عمر، فرجع الغلام ورد الباب، فقام من خلفه وحركه، فلم يستيقظ، فقال الغلام: اللهم أيقظه لي، قال: ودفع الباب، ثم ناداه ودخل فاستيقظ عمر فجلس، فانكشف منه شيء، فرآه الغلام وعرف عمر أن الغلام قد رأى ذلك منه، فقال عمر: وددت - واللَّه - أن اللَّه نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذنه، ثم انطلق معه إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فوجده قد نزل عليه هذه الآية وأمر بالاستئذان على دخولهم في هذه الساعات.

لكن لا حاجة لنا إلى أن نتعرف أنها نزلت في شأن فلان أو فلان، أو في أمر فلان وسببه، سوى أن نتعرف المودع فيها وما ذكر من أنواع الآداب والأحكام. ثم خاطب بالاستئذان المستأذن عليه لا المستأذن والسادات والآباء ومن يعول الصغار حيث قال: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) وذلك الخطاب - والله أعلم - يخرج مخرج الأمر للآباء والسادات بتعليم صبيانهم أمور الدِّين والقيام بما يحتاجون إليه، والتأديب على ذلك إن أبت أنفسهم، وكذلك ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعًا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرًا، وفرقوا بينهم في المضاجع " خاطب به الآباء والأولياء أن يأمروهم بأمور الدِّين أمر عادة، والتعليم لهم والتأديب إن امتنعوا عن ذلك، ولم يخاطبهم في أنفسهم لجهلهم وقلة معرفتهم بأمرهم، وإذا بلغوا وعرفوا النهي والأمر، فعند ذلك خاطبهم بأنفسهم بالاستئذان؛ حيث قال: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) خاطبهم إذا بلغوا، وأمرهم بالاستئذان في أنفسهم، وما داموا صغارًا خاطب به الآباء والأولياء لما لا يجري عليهم القلم، وليس الخطاب والأمر والنهي إلا لجرية القلم عليهم، وترك الأمر والخطاب لرفع القلم عنهم. وأمَّا أمر الآباء لهم بذلك فيخرج مخرج الشفقة لهم عليهم والقيام لبعض مصالحهم، وذلك جائِز.

ثم اختلف فيما ملكت أيماننا: قال جماعة: هن النساء دون الرجال، وأما الرجال فإنهم يستأذنون في جميع الأوقات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم النساء والرجال جميعًا، والنهي عن الدخول في هذه الأوقات الثلاث؛ إذ هي أوقات غرة وساعات غفلة للذكور والإناث جميعًا. ومنهم من يقول: هم الكبار فإنهم دون الصغار. والأشبه أن يكون في الصغار منهم؛ لأن الكبار منهم والأحرار سواء في حظر النظر إلى العورة وإباحته؛ ألا ترى أنه قال: (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) وهم الأحرار والصغار؛ فعلى ذلك قوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) الصغار منهم؛ أمر السادات بتعليمهم ما ذكرنا من الأمور، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) هذا يحتمل وجهين: يحتمل قوله: (لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) أي: لم يحتلموا، ويحتمل الذين لم يبلغوا الحلم أو لم يبلغوا مبلغ الحلم بعد ما جعلهم في مراتب ثلاث؛ أعني: الصغار في حال لا يؤمرون ولا ينهون، وهي الحال التي لا يميزون بين العورة وبين غير العورة، وهو ما قال: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) أي: لا يعرفون العورة من غير العورة، وحال يعرفون ذلك إلا أنه لا يقع لهم الحاجة إليها فيؤمرون بالستر عنهم، وحال يقع الحاجة إليها وقضاء الوطر، فيؤمرون بالحجاب والتفريق في المضاجع، واللَّه أعلم. وقوله: (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) يحتمل قوله: (ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) وجهين: أحدهما: ثلاث أوقات عورات لكم وساعاتها. ويحتمل: (ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ) أي: ثلاث حالات تظهر فيها العورة؛ كقوله: (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)، أي: ليس مما يمنع السرق عن السرقة فيها. وفيه أن العمل بالاجتهاد في الأغلب والأكبر من الرأي والأمر ليس على الحقيقة جائز؛ لأنه قد سمى بثلاث عورات من الأمر، ونهى عن الدخول بلا استئذان، وإن كان يجوز أن تكون العورة مستورة، والمباح في غيرها من الأوقات الدخول بلا استئذان، ويجوز أن يكون هناك كشف العورة؛ حيث قال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ) أي: بعد

(59)

ثلاث ساعات (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ) لكنه أباح وحظر بالأغلب والأكبر، لا على الحقيقة، وهكذا العمل بالاجتهاد، واللَّه أعلم. وقوله: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي: يخدمونكم بعد هذه الثلاث ساعات يدخلون عليكم بغير إذن بعضكم على بعض بالخدمة؛ فلا إذن عليهم؛ لما ذكرنا أن الأغلب أن تكون العورات مستورة في غير هذه الثلاث ساعات، وفي الثلاث لا. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ): العبيد والإماء (ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) ويريد هذه الأوقات؛ لأنها أوقات التجرد وظهور العورة. أما قبل صلاة الفجر فللخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار. وأما عند الظهيرة فلوضع الثياب للقيلولة. وأما بعد صلاة العشاء فلوضع الثياب للنوم. (بَعْدَهُنَّ) أي: بعد هذه الأوقات. ثم قال: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) يريد: أنهم خدمكم؛ فلا بأس بأن يدخلوا؛ قال اللَّه - تعالى -: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) أي: يطوف عليهم في الخدمة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الظهيرة: نصف النهار، وظهائر: جمع، وأظهرت، أي: دخلت في الظهيرة. وقوله: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ... (59) فقد ذكرنا أنه خاطب به الأولياء في تعليم الآداب وأمور الدِّين الصغار، ولم يخاطبهم هو؛ حيث قال: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) وإذا بلغوا خاطبهم بأنفسهم؛ حيث قال: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا)، ثم يحتمل قوله: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) وجهين: يحتمل: إذا احتلموا. ويحتمل: إذا بلغوا وقت الحلم؛ فالأول على حقيقة الاحتلام، والثاني على قرب بلوغ الاحتلام؛ فكأن الأول أشبه؛ لأنه خاطبهم في أنفسهم، وأمرهم بالاستئذان، فلو لم يكونوا بالغين لم يخاطبهم، ولكن خاطب به الأولياء، كما خاطبهم في الآية الأولى. وفيه دلالة أن الحدّ في بلوغ الصغير الاحتلام، وعلى ذلك اتفاق القول منهم؛ ألا ترى أنه قال: (فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول - واللَّه أعلم -: ما أمر به قبل هذه الآية البالغين ألا يدخلوا بيتًا حتى يستأذنوا على أهله. أو أن يكون قوله: (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني: الكبار، أي: يكون

(60)

الاستئذان في الكبار معروفًا ظاهرًا، وفي الصغار لا، فأمر إذا بلغوا أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار منهم. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يوافق ظاهر الآية، وهو رفع القلم عن ثلاث: أحدهم: الصبي حتى يحتلم، وأما إذا بلغ خمس عشرة سنة فمما اختلف أصحابنا فيه: رآه أبو يوسف ومُحَمَّد بالغًا؛ لحديث ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أجازه في القتال وهو ابن خمس عشرة سنة، ولم يجز له وهو ابن أربع عشرة سنة، لكن ليس فيه أنه أجازه لبلوغه، ولم يجزه لأنه لم يبلغ؛ جائز إجازته في العام الثاني لقوته وطاقته على القتال، ولم يجزه في العام الأول لضعفه ووهنه وعجزه عن القتال. واحتج بعض مشايخنا - رحمهم اللَّه - لقول أبي حنيفة في تحديده بثماني عشرة سنة لبلوغ الغلام إذا لم يحتلم، قال: لأن الوسط من احتلام الغلمان أن يبلغوا خمس عشرة سنة، وربما احتلموا قبل ذلك، وربما تأخر احتلامهم عنه، ووجد المعروف فيمن نقصت سنه عن اثنتي عشرة ألا يحتلم، فإذا بلغها فربما احتلم، فجعل حد الزيادة على الخمس عشرة سنة التي هي وسط بين المختلفين - ثلاث سنين، كما كان مقدار النقصان عنها ثلاث سنين، وهذا القول من قوله استحسان، واللَّه أعلم. وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) أعلامه؛ أي: يبين لكم الأعلام التي تحتاجون إليها وتعرفون ما يسع لكم مما لا يسع وما يؤتى مما يتقى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: آياته - هاهنا -: أمره ونهيه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) قال أهل التأويل: قوله: (لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) لا يريدون نكاحًا، لكن الأشبه أن يكون قوله: (لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) أي: لا يطمعن

أن يرغب فيهن الرجال لكبرهن، وإلا كن يردن النكاح، وإن كبرن وعجزن. وقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: ثيابهن: الرداء، وكذلك روي في حرف أبن مسعود أنه قرأ: (أن يضعن من ثيابهن) وهو الرداء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الجلباب؛ يقال: الجلباب: هو القناع الذي يكون فوق الخمار؛ فلا بأس أن تضع ذلك عند أجنبي وغيره بعد أن يكون عليها خمار صفيق (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) يقول - واللَّه أعلم -: من غير أن تكون وضعت الرداء أو الجلباب تريد بذلك إظهار الزينة والتبرج. وقوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) أي: وألا يضعن ما ذكرنا من الثياب خير لهن من أن يضعن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخمار. لكنه لا يحتمل؛ لأنه معلوم أن المرأة وإن كبرت وعجزت لا تكشف عورتها لأحد. ثم الزينة ربما تكشف للمحارم، ولا تكشف للغريب، وهو الرأس والصدر ونحوه، فإذا بلغت في السن مبلغًا لا تطمع أن يرغب في نكاحها لا تتزين، ومع ما لا تفعل لا يحل للأجنبي أن ينظر إلى شعرها، ولا إلى صدرها، ولا إلى ساقها، وإنها وإن صلَّت ورأسها مكشوت فصلاتها فاسدة، وإذا كان كذلك فليس يجوز أن يجعل تأويل وضع الثياب الخمار؛ لما ذكرنا، ولكن الرداء والجلباب الذي يلبس إذا خرجن من منازلهن. فَإِنْ قِيلَ: إنما أطلق لها بهذه الآية أن تضع خمارها عن رأسها؛ إذا لم يرها أحد. قيل: الشابة -أيضًا- يجوز لها أن تضع الخمار عن رأسها إذا خلت في البيت؛ فذلك يدل على أن العجوز أُذن لها أن تضع ثوبها وهو الجلباب أو الملاءة التي كانت تغطي بها وجهها إذا خرجت، وإذا كان المطلق لها هذا فالواجب على الشابة ألا تظهر وجهها إذا كانت تُشتهى ولا يديها، فإذا كان كذلك كان قوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)، هو الزينة التي لا يمكن سترها بحال، وهو الكحل، واللَّه أعلم.

وقوله: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: غير مظهرات محاسنهن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ) أي: غير متزينات بزينة، والمتبرجة: المتزينة؛ لإظهار الزينة، والزينة: هي الداعية المرغبة إلى النظر إليها وقضاء الشهوة، فكأنه أباح لها وضع الثياب إذا كانت غير متزينة، وإذا كانت متزينة فلا، وأباح لها -أيضًا- إذا لم يكن بها محاسن يرغب فيها، وإذا كان بها ذلك لم يبح. وقوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) يحتمل وجهين: أحدهما: يحتمل: وإن يستعففن ولا يبدين محاسنهن خير لهن من أن يبدين. والثاني: وأن يستعففن ولا يضعن ثيابهن حتى يكون ذلك علمًا بين معرفة الحرة من الأمة خير لهن من الوضع؛ كقوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) أن يعرفن أنهن حرائر فلا يؤذين كما تؤذى الإماء، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) كأن قوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) هاهنا صلة قوله: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وإلا ليس في هذه الآية ما يوصل به. أو أن يكون جوابًا له. قَالَ الْقُتَبِيُّ: القواعد من النساء: هن العجزة، واحدها: قاعد، ويقال: إنما قيل لها: قاعد؛ لقعودها من الحيض والولد، ومثلها لا ترجو النكاح، أي: تطمع فيه، ولا أراها سميت قاعدًا بالقعود عما ذكر، إلا أنها إذا أسنت عجزت عن التصرف وكثرة الحركة، وأطالت القعود، فقيل لها: قاعد، بلا هاء؛ ليدل بحذف الهاء على أنه قعود كِبَر، كما قالوا: امرأة حامل بلا هاء؛ ليعرف على أنه حمل حبل، وقالوا في غير ذلك: قاعدة في بيتها، وحاملة علي ظهرها، وقال: والعرب تقول: امرأة واضع: إذا كبرت فوضعت الثياب، ولا يكون هذا إلا في الهرمة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) كل واحد من الحرفين يكون معناه معنى الآخر؛ كقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) إذا كن محصنات كن غير مسافحات، وإذا كن غير مسافحات كن محصنات؛ فعلى ذلك قوله: (لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا)، إذا كن لا يرجون النكاح كن غير متبرجات - واللَّه أعلم - لأن التزين إنما يكون منهن طمعًا في النكاح والناس مع ما لا يرجون النكاح يتزين ويتبرجن، فقال: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) غير مظهرات الزينة.

(61)

على هذين الوجهين جائز أن يخرج تأويل الآية. وقوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) عن ذلك كله (خَيْرٌ لَهُنَّ)، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) وقوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ. . .) الآية. اختلف في تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الرجل الصحيح كان يتحرج من مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض؛ إشفاقًا عليهم ورحمة؛ يقول: إنه لا يبصر طيب الطعام، فلعله يأكل الخبيث وأنا آكل الطيب، ويقول: إن الأعرج لا يستوي جالسًا إذا قعد فلا يقدر أن يتناول فيما أتناول أنا، وإن المريض لا يأكل مثل ما يأكل الصحيح. وكان الرجل لا يأكل من بيت أبيه، ولا من بيت أمه إذا لم يكونا فيه، وكذلك ما ذكر. . . إلي آخره، حتى يكونوا فيه، وكذلك الصديق وهَؤُلَاءِ، فأنزل اللَّه هذه الآية في رخصة ذلك كله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن هَؤُلَاءِ الزمنى والعميان والعرجى والمرضى وأولي الحاجة منهم يستتبعهم رجال إلى بيوتهم ويستضيفونهم، فإن لم يجدوا لهم طعامًا أو شيئًا يأكلونه ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم ومن عدَّد معهم، فكره ذلك المستتبعون التناول من غير بيوت أُولَئِكَ بلا دعوة ولا إذن سبق منهم؛ فأنزل اللَّه في ذلك إباحة لهم ورخصة، وأحل لهم الطعام حيث وجدوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الأعمى والأعرج والمريض وهَؤُلَاءِ الذين كانت بهم زمانة كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء؛ مخافة أن يتقذذوا منهم ويستقذروا؛ يقول الأعرج: لا أؤاكل الناس؛ لأني آخذ من المجلس مكان رجلين وأضيق عليهم، وقال الأعمى: إني أفسد عليهم طعامهم، وكذلك المريض منهم يقول مثل ذلك؛ فأنزل اللَّه الرخصة في ذلك

ورفع عنهم الجناح في مؤاكلتهم، فيقول: إن الحق عليهم أن يرجوكم؛ لما بكم من الزمانة وأن يدعوا لكم بالرفع عنكم، لا التقذذ والاستقذار عنكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الرجل الغني كان يدخل على الرجل الفقير والزمن فيدعوه إلى طعامه، فيقول: واللَّه إني لأجنح وأحرج أن آكل من طعامك وأنا غني وأنت فقير؛ فأنزل اللَّه في ذلك: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ. . .) إلى آخر الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان هذا في أهل الجهاد، وأن الرجل كان يخرج إلى الجهاد فيخلف آخر في منزله في حفظ ماله وأهله، والقيام بكفايتهم، فكان يحرج ولا يأكل من ماله شيئًا ولا من طعامه لما لم يسبق منه الإذن في ذلك؛ فأنزل اللَّه في ذلك رخصة إباحة التناول من ذلك. إلى هذا انتهت أقاويل أهل التأويل وتأويلهم. والأشبه عندنا أن يكون تأويل الآية في غير ما ذهبوا هم إليه، وهو أن يكون قوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي: ليس على هَؤُلَاءِ حرج أن يأكلوا من بيوت آبائهم وأمهاتهم، أو بيوت إخوانهم، أو بيوت أخواتهم، أو بيوت أعمامهم إلى قوله: (أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ)؛ لأنهم إنما يأكلون بالحق؛ لأن من كان به زمانة كان له التناول من أموال من ذكر من الآباء والأمهات والقرابات؛ إذ تفرض لهم النفقة في أموالهم؛ فيكون في ذلك دلالة وجوب النفقة لهم في أموالهم، ويكون (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي: لا بأس أن تأكلوا من بيوتكم، أو ما ملكتم مفاتحه، أو من بيوت صديقكم؛ إذ ليس يباح للرجل التناول من مال نفسه ومن مال صديقه في حال عذر، ولا يباح في حال الصحة والسلامة؛ بل يباح في الأحوال كلها دل أن التأويل الذي ذكرنا أشبه، فيصرف تناول الزمنى في أموال القرابات بحق النفقة والحق، ومن ليس به زمانة في ماله ومال صديقه بحق الملك والصداقة؛ لأن الزمانة ترفع الصداقة من بينهم، وكذلك وجوب النفقة في مال الصديق يرفع الصداقة، ولا يرفع القرابة، ولا تزول صلتها. ثم اختلف في قوله: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: من بيوت أولادكم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: من بيوت أزواجهم ونسائهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من بيوت أنفسهم، وهو ما يجد الرجل في بيته من طعام فإنه لا بأس أن يأكله، وكذلك لا بأس للرجل أن يتناول من بيت زوجته؛ لأنه لم يذكر في الآية الولد وبيت الزوجة على الإشارة والتفسير، فيصرفون تأويل قوله: (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) إلى هَؤُلَاءِ. وقوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) أي: خزائنه؛ يحتمل: العبيد؛ لأن السيد يملك مال عبده. ويحتمل: الوكيل والخازن أن يأكل من طعامه وأدمه بغير إذن السيد. ويحتمل قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) السيد نفسه صاحب الخزانة ومالكها. ثم ذكر الأكل من بيوت من ذكر على التأويل الذي ذكرنا، واستدللنا على إيجاب النفقة لهَؤُلَاءِ الزمنى في أموال من ذكرنا من القربات يخرج على وجهين: أحدهما: ذكر البيوت؛ لأنهم إذا كانوا زمنى يستوجبون السكنى -أيضًا- مع النفقة، فذكر البيوت لكونهم فيها وسكناهم معهم. والثاني: ذكر الأكل من بيوتهم، لئلا يفهم من الأكل الأخذ منها؛ لأنه ذكر في آيات الأكل، والمراد المفهوم منه: الأخذ؛ كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا)، وقوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا)، مفهوم المراد من الأكل المذكور في هذه الآيات: الأخذ، لا الأكل نفسه، فذكر - هاهنا - الأكل من بيوتهم؛ لئلا يفهم منه الأخذ كما فهم من ذلك. وعلى تأويل أهل التأويل يستقيم ظاهر ذكر البيوت؛ إذ لا يجعلون ذلك الأكل والتناول منه أكلا وتناولا بحق. وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر هذا لأن قومًا كانوا لا يأكلون وحدهم، ولا يرون ذلك حسنًا في الخلق، ويتحرجون من ذلك حتى يكون معهم غير، فرخص اللَّه - تعالى - لهم ذلك ورفع عنهم الحرج، فقال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا). وعلى تأويل من يقول: إنهم استضافوا قومًا فلم يجدوا في بيتهم شيئًا يأكلون ذهبوا بهم إلى بيوت هَؤُلَاءِ، فتحرج أُولَئِكَ الأضياف من الأكل من بيوت من ذكر وأرباب البيوت

ليسوا فيها فرخص لهم في ذلك. وعلى تأويل من يقول: إنهم كانوا يتحرجون الأكل مع الأعمى ومن ذكر؛ إشفاقًا عليهم وترحمًا؛ لما لا يبصرون طيب الطعام، ولا يأكلون ما يأكل الصحيح، فرفع عنهم ذلك الحرج، ورخص لهم في ذلك. وعلى تأويل من يقول: إنهم كانوا يتحرجون الأكل مع هَؤُلَاءِ تقذذًا واستقذارًا يرغبهم. في الأكل مع أُولَئِكَ، وترك التقذذ من ذلك. ويدل للتأويل الأول ما روي عن أصحاب رسول اللَّه؛ روي عن مُحَمَّد بن علي قال: كان أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يرى أحدهم أنه أحق بالدنانير والدراهم من أخيه المسلم، قال: وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ليأتين على الناس زمان يكون الدِّينار والدرهم أَحبَّ إلى الرجل من أخيه المسلم ". وعن ابن عمر قال: " لقد رأيتني وما الرجل المسلم أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ". وقوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) يحتمل قوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: يسلم بعضكم على بعض، فيصير المسلمين أجمع بعضهم لبعض كأنفسهم؛ كقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، وقوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، ونحو ذلك من الآيات، فصير بعضهم لبعض كأنفسهم؛ لأنهم كشيء واحد، يتألم بعضهم بألم بعض، ويحزن بعضهم بحزن بعض، ويُسَرُّ بعضهم بسرور بعض، ونحوه؛ فهم جميعًا كشيء واحد، وأنفسهم جميعًا كنفس واحدة؛ لذلك جعل سلام بعضهم على بعض في حق السلام واحدًا. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن بعضهم إذا سلم على بعض يرد عليه مثله؛ فيصير كأنه هو يسلم على نفسه، وكذلك قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي: لا يقتل أحد آخر فيقتل به؛ فيكون قاتل نفسه؛ إذ لولا قتله إياه لم يقتل به، وكذلك قوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، أنه إذا أكل مال غيره بغير رضاه ضمنه، فإذا ضمنه فكأنه أكل مال نفسه بالباطل. ويحتمل أنه أراد به السلام على أنفسهم؛ أي: يسلم كل على نفسه إن لم يكن فيه أحد، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ قال: أراد المساجد: إذا دخلتها فقل: السلام علينا

وعلى عباد اللَّه الصالحين، وعلى ذلك رويت الأخبار: " من دخل بيتًا أو مسجدًا ليس فيه أحد فليقل: السلام علينا من ربنا، والسلام على عباد اللَّه الصالحين "؛ وعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بترك الإنفاق عليها وغيره، وكذلك قوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) وجائز أن يريد بالأنفس: أهلهم؛ أي: سلموا على أهليكم، وهو الأولى. ثم اختلف في السلام: قَالَ بَعْضُهُمْ: السلام: من السلامة؛ أي: عليك السلامة من جميع الآفات والنكبات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السلام هو اسم من أسماء اللَّه؛ فتأويله: عليك اسم اللَّه الذي لا يضرك معه شيء، ولا يلحقك به أذى، وفي الخبر: " باسم اللَّه الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء ". وقوله: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) التحية كأنها الكرامة، كأنه قال: كرامة من اللَّه لكم. وقوله: (مُبَارَكَةً) المبارك: هو الذي ينال به كل خير وبرّ. أو أن تسمي مباركة؛ لما بها ينمو الشيء ويزكو وقوله: (طَيِّبَةً) أي: يستطيب بها كل أحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: طيبة: أي: حسنة، فتأويله: ما يستحسن به كل أحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يقول: تحية من أمر اللَّه لكم، مباركة بالأجر، طيبة بالمغفرة، واللَّه أعلم. وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ) أي: مثل الذين يبين اللَّه (لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي: كي تعقلوا ما لكم وما عليكم، وما لله عليكم، وما لبعضكم على بعض. وقوله (بُيُوتِكُم): ما ذكرنا. قَالَ بَعْضُهُمْ: المساجد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البيوت المسكونة؛ كقوله: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ).

(62)

قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)، وقال في آية أخرى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا. . .) الآية، وقال في آية أخرى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، هذا - واللَّه أعلم - ليس أن ما ذكر من الاستئذان وترك الارتياب من حقيقة الإيمان بالتلاوة، ونحوه من شرط الإيمان، ولكن - واللَّه أعلم - أن الأولى بالمؤمنين هذا ألا يذهبوا حتى يستأذنوا رسوله وألا يرتابوا، وأن يجاهدوا، وأن تزداد لهم التلاوة وما ذكر، ليس على جعله شرطًا للإيمان، ولكن ما ذكرنا من الأولى بهم والاختيار ما ذكر، واللَّه أعلم. ثم ذكر في هذه الآية: أن المؤمنين لا يذهبون عنه ولا يفارقونه إلا بالاستئذان منهم من رسول اللَّه، وذكر أن المنافقين يذهبون ويفارقونه تسللا ولواذًا؛ حيث قال: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) وقال في آية أخرى: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، ذكر أنهم لا يستأذنوك، وإنما يستأذنك المنافقون بقوله: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فهذه الآيات في ظاهر المخرج مختلفة وإن كانت في المعاني المدرجة فيها موافقة، فهذا سبيل من يحتج بظاهر المخرج؛ إذ للملاحدة أن تقول: هو مختلف في الظاهر وأنه من عند غير اللَّه بقوله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، فدل ما ذكرنا أن الاحتجاج بظاهر المخرج باطل، والاعتقاد به فاسد خيال. وجائز أن يكون ما ذكر من استئذان المؤمنين وترك استئذان أُولَئِكَ للخروج منه؛ لما لا يستأذنه المؤمنون للخروج من القتال إلا لعذر، وأُولَئِكَ يستأذنونه للخروج لا للعذر؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ)، ونحوه، وأمّا المؤمنون فلا يستأذنونه إلا بعذر. أو أن يكون ذلك في نوازل مختلفة، أو في فرق، أو أن يكون المؤمنون يظهرون له

(63)

عذرهم ويفوضون أمرهم إلى رسول اللَّه على أن ينظر في ذلك: فإن رأى الصواب أن ينصرفوا صرفهم، وإن رأى الصواب الكون والمقام معه أقاموا معه، والمنافقون لا على ذلك كانوا يفعلون، وعلى هذا - واللَّه أعلم - جائز أن يخرج تأويل الآيات التي ذكرنا. ثم قوله: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ) أي: مع رسول اللَّه (عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) اختلف فيه: قال بعضهم: يوم الجمعة، ويوم العيد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في الغزو والجهاد، يخبر أن المؤمنين يكونون معه، لا يذهبون عنه إلا بإذن، والمنافقون يتسللون ويذهبون مستخفين منه ويخرجون من عنده، وأصله: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ) أي: على أمر طاعة (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ). قال بعض أهل التأويل: هذه الآية نسخت الآية التي في سورة براءة؛ حيث قال في تلك: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ. . .) الآية. وقال هاهنا: (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) أذن له بالإذن لهم في هذه وعيره في ذاك بالإذن لهم، لكن الوجه فيه ما ذكرنا من التأويل. وقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الأمر بالاستغفار لهم يخرج مخرج الأمر بالتشفع لهم. وقوله: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: لا تجعلوا دعاء الرسول إياكم إلى ما يدعوكم إليه كدعاء بعضكم بعضًا: مرة تجيبونه، ومرة لا تجيبونه، كما يجيب بعضكم بعضًا إذا دعاه مرة، ولا يجيبه تارة؛ بل أجيبوا رسول اللَّه في جميع ما يدعوكم إليه في كل حال تكونون. والثاني: لا تجعلوا دعاءكم الرسول إذا دعوتموه كما يدعو بعضكم بعضًا يقول يا ْفلان، ولكن ادعوا باسم هو مخصوص به: يا رسول اللَّه، ويا نبي اللَّه؛ على ما أقررتم أنه ْمخصوص من بينكم، ليس كمثلكم في الدعاء والإجابة، اجعلوه مخصوصًا تعظيمًا له وإجلالا، وخصوصية له وفضيلة، وهو ما ذكر في آية أخرى: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ). وقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا).

(64)

قَالَ بَعْضُهُمْ: يعني: المنافقين إذا كانوا في أمر جامع فيسمعون رسول اللَّه يذكر مثالبهم ومساوئهم وعيوبهم فيتسللون كراهية لذلك، ويلوذ بعضهم ببعض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزل هذا في المنافقين الذين كانوا يذهبون عنه ويخرجون من عنده بغير استئذان. وقوله: (لِوَاذًا) أي: يستترون بالشيء، ويلوذ بعضهم ببعض، ويستتر بعضهم ببعض ويخرجون. وقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) يحتمل قوله: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي: يخالفون أمره، وحرف " عن " يكون صلة فيه. وجائز أن يكون على ظاهر ما ذكر: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ): فإن كان على هذا فكأنه قال: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي: يعدلون عن أمره ويزيغون عنه؛ كقوله: (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. وقوله: (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) يحتمل: الفتنة: الكفر. ويحتمل الفتنة: القتال والتعذيب في الدنيا، أو يصيبهم العذاب في الآخرة، والله أعلم. وقوله: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) ليس هاهنا ما يستقيم أن يجعل قوله: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) صلة له، اللهم إلا أن يجعل ذلك صلة قوله: من يجعل له الولد والشريك. - أو صلة قوله: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي: أن من له ما في السماوات والأرض لا يحتمل أن تقع الحاجة له إلى الولد أو الشريك. أو من له ملك ما في السماوات والأرض يختار لرسالته من يشاء بشرًا أو ملكًا، ليس لأحد القول في ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) هذا وعيد منه وإعلام أنه مراقبهم مطلع عليهم في جميع أحوالهم؛ ليكونوا أبدًا على حذر؛ لأن من علم أن عليه رقيبًا وحافظًا، كان أنبه وأيقظ وأحذر ممن لم يعلم ذلك. أو أن يكون على علم بأحوالكم وما أنتم عليه من الخلاف لأمره خلقكم، أو أرسل إليكم رسولًا لا على جهل بذلك وغفلة.

أو يؤخر عنكم العذاب على علم بما أنتم عليه ليوم موعود، لا بسهو وغفلة؛ كقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ. . .) الآية. فعلى ذلك قوله: (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ). وقوله: (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا) أي: إنما يؤخر ذلك عنهم إلى يوم الرجوع إليه؛ فعند ذلك ينبئهم بما عملوا، واللَّه بكل شيء عليم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يتسللون، أي: يذهبون مستخفين، يقال: انسل الرجل، أي: انسرق ْمن الناس، أي فارقهم، وهم لا يعلمون به، والتسلل من الجماعة. وقوله: (لِوَاذًا): يقال: لاذ مني، أي: اختبأ مني واختفى. ويقال: لاذ بي، أي: استتر بي. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) أي: من يستتر بصاحبه، ويتسلل، ْويخرج، يقال: لاذ فلان، واللواذ: مصدر. وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين، وبه نستعين. * * *

سورة الفرقان

سُورَةُ الْفُرْقَانِ كلها مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَبَارَكَ): قال أهل التأويل: تبارك من التفاعل، وهو من تعالى؛ لأن البركة هي اسم كل رفعة وفضيلة وشرف، فكان تأويله: تعالى من التعالي والارتفاع. وقال أهل الأدب: تبارك: هو من البركة، والبركة هي: اسم كل فضل وبر وخير، أي: به نيل كل فضل وشرف وبر. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (تَبَارَكَ) هو تنزيه؛ مثل قولك: تعالى. وقال الكسائي والْقُتَبِيّ: هو من البركة؛ وهو ما ذكرنا. وقوله: (نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ): سماه؛ فرقانا؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، وبين ما يؤتى وما يتقى؛ وعلى هذا جائز أن يسمى جميع كتب اللَّه التي أنزلها على رسله فرقانًا؛ لأنها كانت تفرق بين الحق والباطل، وبين ما يحل وما يحرم، وبين ما يؤتى وما يتقى؛ ولذلك سمى التوراة: فرقانًا بقوله: (وَلَقَدْ آتَينا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرقَانَ). وأما القرآن: هو من قرن بعضه إلى بعض؛ يقال: قرنت الشيء إلى الشيء إذا ضممته إليه، قرن يقرن قرنا.

(2)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمي القران: فرقانا؛ لأنه أنزل بالتفاريق مفرقا، وسائر الكتب أنزلت مجموعة، لكن الوجه فيه ما ذكرنا بدءًا، وهو أقرب وأشبه. وقوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا): جائز أن يكون قوله: (لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، أي: القرآن الذي أنزله على عبده يكون نذيرًا لمن ذكر. ويحتمل قوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) أي: ليكون مُحَمَّد بالقرآن الذي أنزل عليه نذيرًا؛ كقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)؛ وكقوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)، أي: من بلغه القرآن من الخلق فرسول اللَّه نذيره. ثم قوله: (لِلْعَالَمِينَ) جائز أن يراد به الإنس والجن. ثم ذكر النذارة فيه ولم يذكر البشارة، فإن كان على هذا فهو حجة لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - أن ليس للجن ثواب إذا أسلموا سوى النجاة من العقاب، ولهم عقاب بالإجرام؛ لأن اللَّه - تعالى - لم يذكر لهم الثواب في الكتاب، وذكر لهم العقاب بالعصيان؛ حيث قال: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ. . .) الآية، جعل ثوابهم نجاتهم من عذاب أليم. وجائز أن يكون في النذارة بشارة -أيضًا- ما كان وما يكون إلى يوم القيامة؛ لأنهم إذا اتقوا مخالفة اللَّه ومعاصيه كانت لهم العاقبة، فلهم بشارة في ذلك ونذارة؛ كقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا). وقوله: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (2) جائز أن يكون قوله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وصلة قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْفَانَ)، ووجهه - واللَّه أعلم - أي: تعالى عن أن يكون النذير الذي بعثه فيهم، إنما بعثه لحاجة نفسه لجر منفعة إليه، أو لدفع مضرة عنه على بعث ملوك الأرض من الرسل لحوائج أنفسهم: لجر النفع إليهم، أو لدفع مضرة عنهم، ولكن إنما يبعث النذير والبشير إلى الخلق لمنافع أنفسهم؛ إذ لا يحتمل أن يكون من له ملك السماوات والأرض أن يبعث النذير والبشير لمنافع نفسه ولحاجته؛ لغناه، وأما ملوك الأرض لا يملكون ذلك؛ فلذلك ما يرسلون ويبعثون من الرسل إنما يبعثون ويرسلون لمنافع أنفسهم وحوائجهم؛ لدفع مضرة أو جر منفعة. وجائز أن يكون قوله: (تَبَارَكَ) أي: تعالى عن أن يتخذ ولدا أو شريكًا في الملك على ما نسبوا إليه من الولد والشريك، فقال: تعالى عن أن يكون له الولد أو الشريك؛ إذ له ملك السماوات والأرض، فالولد في الشاهد إنما يتخذ لإحدى خلال ثلاث؛ وقد ذكرناها.

(3)

وبعد: فإن الولد في الشاهد إنما يكون من جنس الوالد ومن جوهره، ويكون من أشكاله، وكل ذي شكل وجنس يكون فيه منقصة وآفة؛ وكذلك الشريك إنما يكون من جنسه ومن شكله، وإنما يقع الحاجة إلى الولد إما لعجز أو آفة، فإذا كان اللَّه سبحانه له ملك السماوات والأرض وهو خالقهما - فأنى يقع له الحاجة إلى الولد والشريك؟! وقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ): فيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر أنه خلق كل شيء، وعلى قولهم أكثر الأشياء لم يخلقها من الحركات والسكون والاجتماع والتفرق وجميع الأعراض؛ لأنهم يقولون: إنها ليست بمخلوقة لله ولا صنع له فيها. وقوله: (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا): جائز أن يكون قوله: (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) لحكمة أو (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) لوحدانية اللَّه وألوهيته، أو (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) أي: جعل له حدًّا لو اجتمع الخلائق على ذلك ما عرفوا قدره ولا حده من صلاح وغيره ما لو لم يقدر ذلك لفسد. وقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ... (3) أي: معبودا. ثم تسميته إياها -أعني: الأصنام التي عبدوها-: آلهة على ما عندهم وفي زعمهم: أنها آلهة؛ والإله عند العرب المعبود، يسمون كل معبود إلها؛ وكذلك قوله: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، عندهم وفي زعمهم، وقول موسى: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا)، في زعمهم وعندهم أن كل معبود إله، وإلا قد عابهم بتسميتهم الأصنام: آلهة. ثم بين سفههم وقلة فهمهم في عبادتهم الأصنام وتسميتهم إياها: آلهة؛ حيث قال: (لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، أي: يتركون عبادة من يعلمون أنه خالق كل شيء، ويعبدون من يعلمون أنهم لا يخلقون وهم يخلقون، ويتركون عبادة من يعلمون أنه يملك النفع والضر لأنفسهم أيضًا، وهو قوله: (وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا) لغيرهم؛ فعلى هذا الظاهر يجيء أن يكونوا هم سموا أنفسهم: آلهة لا الأصنام؛ لأنهم يملكون ضرر الأصنام ونفعها، والأصنام لا تملك ذلك لهم ولا لأنفسها. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا) أي: الموت الذي كان قبل أن يخلق الناس، كقول اللَّه تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا). وأما قوله: (وَلَا حَيَاةً) يقول: لا يملكون أن يزيدوا في هذا الأجل المؤجل، (وَلَا نُشُورًا) أي: بعثًا بعد الموت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يملكون أن يميتوا حيًّا قبل أجله، (وَلَا حَيَاةً): ولا يحيون ميتًّا إذا جاء أجله، (وَلَا نُشُورًا)، أي: بعثا، على ما ذكرنا، وباللَّه العصمة.

(4)

قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ) يعنون هذا القرآن الذي أنزل على رسوله، وكان يقرؤه عليهم، يقولون: ما هذا إلا إفك -أي: كذب- افتراه من تلقاء نفسه ويخترعه من نفسه. إن أهل الشرك كانوا يكذبون الأنباء والأخبار من غير أن كانت لهم أسباب التي بها ما يوصل إلى معرفة صدق الأخبار وكذبها، وذلك كانت عادتهم وهِمَّتهم، والأسباب التي يعرف بها صدق الأخبار وكذبها هي الكتب السماوية والرسل التي نطقوا عن وحي السماء، فكفار مكة لم يكن لهم واحد من هذين، فكيف ادعوا على رسول اللَّه اختلاق هذا القرآن واختراعه من نفسه، وأنه مفترى، على غير كون أسباب معرفة الكذب والصدق لهم في الأخبار، مع ما ظهرت لهم آيات رسالته وأعلام صدقه في الأخبار؛ حيث لم يؤخذ عليه كذب قط، ولا رأوه اختلف إلى أحد من أهل الكتاب، ولا كان يحسن أن يخط بيده كتابًا، وما قرع أسماعهم من أول الأمر إلى أَخر الأبد قوله: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) وقوله: (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)، فدل عجزهم وترك تكلفهم ذلك على أنهم عرفوا أنه من عند اللَّه، وأنهم كذبة في قولهم: إنه إفك مفترى. وقوله: (وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ)، وقالوا: إنه إفك مفترى، وأعانه على ذلك قوم آخرون في افترائه واختراعه، وهم قوم من أهل الكتاب أسلموا، وقد كانوا يجدون في التوراة والإنجيل نعته وصفته، وما كان أنبأهم رسول اللَّه ويخبرهم من الأنباء المتقدمة والأخبار الماضية، فأخبروهم بذلك حين سألهم أُولَئِكَ المشركون عما يخبرهم رسول اللَّه، وقالوا: إنه كما يقول، وإنه صادق في ذلك كله، وإنا نجد ذلك في كتابنا، فلما سمعوا ذلك من أهل الكتاب ما سمعوا من تصديقهم إياه - عند ذلك قالوا: ((وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ). ثم أخبر أنهم (فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا)، أما قوله: (ظُلْمًا) لأنهم كذبوه، وقالوا: إنه مفترى من غير أن كان لهم أسباب الكذب والصدق، فهو ظلم؛ حيث وضعوا ذلك في غير موضعه. وأما قوله: (وَزُورًا) لأنهم قالوا: إنه مختلق، وإنه سحر، وإنه (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ

(5)

بَشَرٌ)، وإنه (وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ)، وإنه (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قد ظهر كذبهم بهذا فيما بينهم؛ لأنهم متى رأوه اختلف إلى واحد منهم يعلمه ذلك؟! أو متى رأوه كتب شيئًا قط أو يحسن الكتابة قط؟! وقولهم: (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)؟! فإذا عرف تلك الأنباء والأحاديث التي كانت من قبل -ولا شك أنها لم تكن بلسانه، وإنما كانت بلسان أُولَئِكَ- دل إخباره عما في كتبهم بلسانه أنما عرف ذلك باللَّه تعالى. وقوله: (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) وقال أهل التأويل: غدوًّا وعشيًّا، فلو كان على ذلك لكان يحضرونه في البكرة والعشي، فيسمعون ويشاهدون ما يملى عليه؛ إذ الوقت وقت الحضور، ولكن -عندنا- كأنهم أرادوا بالبكرة والعشيّ: أول الليل وآخره، الأوقات التي هي ليست بأوقات الحضور والجلوس، يقولون: يأتونه سرًّا فتملى عليه ويعلمه، فلو كان ذلك أيضًا لكانوا يراقبونه ويحافظونه سرًّا؛ ليعرفوا ذلك ويشاهدوه، فإذا لم يفعلوا ذلك دل أنهم كانوا يعرفون صدقه، وأنهم كذبة في زعمهم، لكنهم كابروه وعاندوه في ذلك. ثم أخبر أنه إنما أنزل عليه الذي يعلم السر في السماوات والأرض؛ حيث قال: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) ليس بمختلق منه ولا مفترى، ثم قوله: (يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: يعلم الأعمال الخفية والسرية من أهل السماوات والأرض، أي: يعلم الكوائن التي في السماوات والأرض وخفياتها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) أي: قل لهم يا مُحَمَّد: أنزله - أي: هذا القرآن - الذي يعلم السر؛ وذلك أنهم قالوا بمكة سرًّا: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)، فإنه بشر مثلكم، بل هو ساحر (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)، ففي ذلك دلالة إثبات رسالته؛ لأنهم قالوا سرًّا فيما بينهم ثم أخبرهم بذلك، دل أنه باللَّه عرف ذلك. وقوله: (إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) في تأخير العذاب عنهم، (رَحِيمًا) حين لا يعجل عليهم بالعقوبة إذا تابوا ورجعوا عن التكذيب إلى التصديق على ما ذكرنا. وقوله: (إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) في تأخير العذاب، يحتمل قوله: (غَفُورًا رَحِيمًا) إذا تابوا عن ذلك وآمنوا به ورجعوا إلى الحق، أو غفور رحيم لا يعجل بالعقوبة أي: برحمته وفضله لا يعجل بعقوبتهم؛ لعلهم يتوبون.

(7)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: " تبارك " مشتق من البركة، وكذلك قال الكسائي، وقد ذكرنا ذلك. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: تنزيه، مثل قولك: " تعالى "، على ما ذكرنا، وقال: الفرقان هو الحق؛ فرق بين الحق والباطل، والقرآن: هو من قَرْنِ بعض إلى بعض، والزبور: هو اسم كتاب، والزُّبُر: جميع، وزبرت: كتبت، والزبَر: قطع الحديد، كقوله: ((آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ)، الواحد: زبْرة، والتوراة: اسم كتاب لا أظنه بالعربية. قال أبو معاذ: الأساطير: الأحاديث، واحدها: أسطورة، كأرجوزة وأراجيز، وأحدوثة وأحاديث، وأعجوبة وأعاجيب. وفي حرف حفصة: (فهي تُمَلُّ عليه)، وهما لغتان، وفي سورة البقرة: (أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ). وقوله: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) كان الكفرة يطعنون رسول اللَّه بشيئين: أحدهما: أنه من البشر؛ بقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)، و (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، كانوا لا يرون أن يكون من البشر رسول كقوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) الآية، وقو لهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)، ونحو ذلك. والثاني: كانوا يطعنون بالفقر والحاجة وصفارة اليد؛ حيث قالوا: (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ)، وحيث قالوا: (يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) كأنهم ينكرون الرسالة في الفقراء وذوي الحاجة، ويرونها في ذوي الملك والأموال؛ ولذلك قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، فعلى ذلك قولهم: (يَأْكُلُ الطَّعَامَ) كما يأكل الفقراء، (وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) وفي حوائجه كما يمشي الفقراء، ولو كان رسولًا لكان ملكًا غنيًّا يأكل طعام الملوك، لا يقع له الحاجة إلى أن يمشي في الأسواق في حوائجه. فأجاب لهم في طعنهم فيه أنه بشر مثلهم، وإنكارهم الرسالة في البشر بوجوه: أحدها: قول: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ)، قال: (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ) الآية، معناه - واللَّه أعلم -: أنه لا ينزل الملك إلا بالعذاب، فلو أنزل لأنزل بالعذاب فأهلكوا. والثاني: ما قال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا)، تأويله - واللَّه أعلم -: أنه لم يجعل في وسع البشر رؤية الملك على صورته وعلى ما هو عليه؛ إذ جنس هذا غير جنس أُولَئِكَ، وجوهرهم غير جوهر أُولَئِكَ، ولو جعلناه هكذا كنا لبسنا ما كان

(8)

يلبس أُولَئِكَ القادة على الأتباع؛ كقولهم: إنه ساحر وإنه كذاب وإنه مجنون؛ فكان في ذلك تلبيس عليهم. والثالث: ما قال: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ. . .) الآية، أي: لو كان أهل الأرض ملائكة لكنا أنزلنا عليهم الرسول ملكا من جنسهم وجوهرهم؛ لأنهم أعرف به وأظهر صدقًا عندهم ممن هو من غير جوهرهم وجنسهم، فإذا كان أهل الأرض بشرًا فالرسول إذا كان منهم، فهم أعرف به وصدقه أظهر عندهم، وقلوبهم إليه أميل لا إلى من هو من غير جنسهم. وأجاب لطعنهم في أكله ومشيه في الأسواق حيث قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ)، في حوائجهم، أي: غيره من الرسل الذين تؤمنون أنتم بهم كانوا فقراء، يأكلون الطعام ويمشون في حوائج أنفسهم، ثم لم يمنع ذلك عن أن يكونوا موضعًا لرسالته؛ فعلى ذلك مُحَمَّد، والفقير وذو الحاجة أحق أن يكون موضعًا لرسالته من الغني الثري؛ لأن الناس يتبعون الغني ومن له الملك والثروة، فلو كان الرسول غنيًّا مثريًّا لكان لا يظهر متبع الحق من غيره، وإذا كان فقيرًا محتاجًا لظهر ذلك، اللهم إلا أن يكون ملكًا هو آية الرسالة نحو ملك سليمان وداود، وذلك لنفسه آية لرسالته على ما قال: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)، واللَّه أعلم. وقوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا): كأنهم قالوا ذلك لما نزل قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، قالوا عند ذلك: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ)، وقالوا: (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا (8) عند سماع قوله: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أي: قالوا: لو كان مُحَمَّد رسول اللَّه من له ملك السماوات والأرض ونذيرًا للعالمين على ما يقول، لكان أنزل معه ملك نذيرًا، ولكان أعطي هو كنزًا أي: مالا أو تكون له جنة يأكل منها على ما يكون لرسل ملوك الأرض. لكن الجواب لهم ما ذكرة (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .) الآية، أي: لو شاء أعطاك خيرًا مما يقولون من البنيان والقصور على ما أعطى غيرك، لكن ليس فيما يمنع منقصة لك، ولا فيما أعطاهم فضيلة. وقوله: (وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي: ما تتبعون، (إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا): لا تزال عادتهم بنسبة الرسول إلى السحر والجنون والكذب. وقوله: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) فتأويله - واللَّه أعلم - أي: انظر إلى

(10)

سفههم أن كيف ضربوا لك الأمثال، وشبهوك بها؛ نسبوك مرة إلى السحر وقالوا: إنك ساحر، ومرة إلى الجنون وقالوا: إنك مجنون، ومرة إلى الشعر وقالوا: إنك شاعر، ومرة إلى الكذب حيث قالوا: بل هو كذاب أشر، ونحو هذا مما كانوا ينسبونه إليه، فيقول - واللَّه أعلم -: انظر إلى سفههم أن كيف ضربوا لك الأمثال ونسبوك إلى ما ذكروا، على علم منهم أنك لست كذلك ولا على ذلك، وأنك على الحق وهم على باطل وكذب. أو أن يكون قوله: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ) وما قالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) وأمثال ما سألوا، فيقولون: لو كان ما يقول إنه رسول، لكان ذلك له أعلام الرسالة وأمارات صدقه، فيخبر أن الأعلام والآيات ليست تأتي على شهوات سؤال المعاندين وأمانيهم، ولكن إنما تجيء على ما توجبه الحكمة، مما يدل على صدق ما ادعى ويظهر كذب من عاند وتولى، وقد أتاهم مُحَمَّد صلوات اللَّه عليه وسلامه بحجج وبراهين ما أظهر لهم صدق ما ادعى من الرسالة والنبوة، لكنهم عاندوها وكابروا، فلم يقروا بها خوفًا أن يذهب عنهم رياستهم. وقوله: (فَضَلُّوا) لا شك أنهم قد ضلوا عن الهدى، أي: عدلوا بضربهم الأمثال له، ونسبتهم إياه إلى ما نسبوه إليه؛ فلا يستطيعون سبيلا إلى الهدى أو إلى ما سألوا من الأشياء. وفي حرف حفصة: (فلا يهتدون سبيلا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: فلا يستطيعون مخرجًا من الأمثال التي ضربوها لك، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) وقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ) قد ذكرنا أنه خرج جواب ما سألوه من الأشياء: من الملك والكنز والجنة وأنواع الطعن الذي طعنوه، أي: لو شاء لأعطاك

(11)

خيرًا من ذلك. ثم أخبر أن الذي حملهم على ذلك السؤال وأنواع الطعن فيه هو تكذيبهم بالساعة؛ حيث قال: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ... (11) هو حيث لم يروا لأمورهم عاقبة ينتهون إليها؛ يثابون عليها أو يعاقبون. ثم أخبر ما أعدّ لهم بتكذيبهم الساعة فقال: (وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا). ثم وصف ذلك السعير فقال: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وقوله: (رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ): يحتمل وجهين: أحدهما: يجعل لها أسبابًا تراهم كما يرونها. والثاني إذا صاروا في مكان بحيث يرونها كأنها رأتهم. وقوله: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) قيل: إن النار ترفع ويعلو لهبها، وترد من كان في أعلاها إلى أسفلها، ويرد من كان في أسفلها إلى أعلاها، فيجمعهم جميعًا فيضيق عليهم المكان ويشتد بهم العذاب، كلما ضاق عليهم المكان كان العذاب لهم أشد. وقوله: (مُقَرَّنِينَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: مقيدين بعضهم ببعض. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: الشيطان يقرن، وَيقَتدُ كل بشيطانه الذي دعاه إلى دعائه واتبعه؛ كقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يقرن العابد والمعبود من دون اللَّه، وهو الأصنام التي عبدوها؛ كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا. . .) الآية. وقوله: (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) أي: هلاكا، والثبور: الهلاك؛ كقوله: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) أي: هالكًا. والثبور والويل: هما حرفان يدعو بهما كل من كان في الهلكة والشدة، فقال: (لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) أي: لا تدعوا هلاكًا واحدًا؛ كما يكون في الدنيا أن من هلك مرة لا يهلك ثانيًا، وأما في النار فإن لأهلها هلكات لا تحصى؛ كقوله: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) أي: أسباب الموت تأتيهم من كل مكان وما هو بميت؛ وكقوله: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ. . .) الآية. وإنما يسألون ويدعون بالهلاك لما يرجون من الهلاك النجاة من ذلك العذاب؛ وهكذا كل من ابتلي ببلاء شديد يتمنى الهلاك والموت.

(15)

قوله تعالى: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وقوله: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ): يشبه أن يكون قال هذا لقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا، فيقول: أذلك الذي سألتموه أنتم خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون؟! أو يكون قال ذلك لهم لما رأوا لأنفسهم الفضل والمنزلة في الدنيا؛ لما وسع عليهم الدنيا وأعطوا من حطامها، فقال: أذلك الذي أعطيتم في الدنيا من السعة خير، أم جنة الخلد التي أعطي المتقون؟! واللَّه أعلم. وقوله: (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) يحتمل قوله: (وَعْدًا مَسْئُولًا) مما سألته لهم الملائكة؛ كقوله: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ. . .) الآية، وسؤال الرسل؛ كقوله: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ. .) الآية، أو وعدًا مسئولا مما سألوا ربهم، فوعد لهم ذلك؛ فهذا يدل أنهم إنما يدخلون الجنة بالسؤال والتشفع لهم والتضرع، لا أنهم يستوجبون ذلك بأعمالهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ): في السلاسل وذلك أنهم إذا ألقوا فيها تضايق عليهم كتضايق الزج في الرمح، فالأسفلون يرفعهم اللهب، والأعلون يخفضهم اللهب، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة فضايق عليهم، فعند ذلك يدعون بالثبور؛ يقولون: يا ثبوراه ويا ويلاه. وروي مثله عن عبد اللَّه بن عمر، وكان يقول: إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج في الرمح. وقوله: (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) يقول: ويلا وهلاكا، قال اللَّه تعالى: (لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا): ثم قيل: (أَذَلِكَ خَيْرٌ) يعني: الذي ذكر، (أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً) لأعمالهم، (وَمَصِيرًا) هو أي: منزلا. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: التغيظ: من الغيظ، والزفير: الشهيق يكون في الحلق، وشهق يشهق شهيقًا وشهقا، وهو نفس في الحلق شديد له صوت. وقال: (ثُبُورًا) أي: إهلاكا، وصرفه: ثبر يثبر ثبرا وثبورا، فهو ثبور.

(17)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)، أي: تغيظًا عليهم؛ كذلك قال المفسرون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بل يسمعون فيها تغيظ المعذبين وزفيرهم واعتبروا ذلك بقول اللَّه تعالى: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ)، واعتبره الأولون بقوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) هذا أشبه التفسيرين إن شاء اللَّه؛ لأنه قال: (سَمِعُوا لَهَا)، ولم يقل: سمعوا فيها، ولا منها. وقال: (ثُبُورًا) أي: بالهلكة؛ كما يقول القائل: واهلاكاه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) وقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: نحشر أُولَئِكَ الذين عبدوا دون اللَّه والمعبودين وهم الملائكة؛ لأن من العرب من قد عبدوا الملائكة؛ كقوله في آية أخرى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو عيسى يحشر بينه وبين من عبدوه؛ لأنه قد عبد دون اللَّه فيقول له ما ذكر؛ كقوله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحشر الأصنام ومن عبدها، ثم يأذن لها في الكلام فيقول: (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ)؛ كقوله: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ) إلى قوله: (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ)، ولو كان عيسى - عليه السلام - أو الملائكة لكانوا عالمين بعبادتهم إياهم غير غافلين؛ دل ذلك أنها الأصنام التي عبدوها دون اللَّه وإياها يسألون. وكل ذلك محتمل؛ إذ قد كان منهم ذلك كله، واللَّه أعلم. وقوله: (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ): واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -

(18)

كان عالمًا لما كان منهم، لكن السؤال إياهم - واللَّه أعلم - يخرج مخرج توبيخ أُولَئِكَ الكفرة وتعييرهم؛ لأنهم يعبدون من ذكر من دون اللَّه، ويقولون: هم أمروهم بذلك، وكانوا مقبولي القول عندهم صادقين فيما يخبرون ويقولون، فأراد أن يظهر كذبهم عند الخلائق؛ لذلك سألهم، واللَّه أعلم بالكائن منهم من أنفسهم، لكنه يخرج على ما ذكرنا. ثم نزهوه عن جميع ما لا يليق به، وبرءوا أنفسهم عن أن يكون منهم أمر أو شيء مما نسبه أُولَئِكَ إليهم، وهو أعلم بهم فقالوا: (سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) قال أهل التأويل: (أَوْلِيَاءَ) أي: أربابًا، وهم لم يتخذوا أربابا من دونه، لكنه عندنا يخرج على وجهين: أحدهما: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونه أولياء هم المؤمنون. الثاني: أو أن يكون: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دون ولايتك ولاية سواك. وفي بعض القراءات: (أن نُتَّخَذَ من دونك أولياء) برفع النون، لكن أهل الأدب يقولون: هو خطأ. وقوله: (وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ): هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن آباءهم قد أمهلوا ومتعوا في هذه الدنيا، حتى ماتوا على ذلك من غير أن أصابهم شيء مما أوعدوا في كتابهم، ومما أوعدهم الرسل من العذاب والهلاك على ما اختاروا من الدِّين وصنيعهم، فظنوا أنهم على حق من ذلك؛ حيث لم يصبهم من المواعيد المذكورة في كتابهم، أو ما أوعدهم رسلهم بشيء؛ فعلى هذا التأويل الذكر: الذي نسوه هو كتابهم، أو ما أوعدهم رسلهم، واللَّه أعلم. فإن كان على هذا فالآية في أهل الكتاب منهم. ويحتمل أن تكون الآية في الفراعنة، والقادة من هَؤُلَاءِ الكفرة متعوا في هذه الدنيا بأحوال ورياسة، ووسع عليهم المعيشة، حتى دعوا الناس وأتباعهم إلى ما هم عليه من التكذيب برسوله وما أنزل عليه، فأجيبوا بالأموال عندهم، فنسوا ما في القرآن من الوعيد. (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا) والبور: قَالَ بَعْضُهُمْ: الهلاك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البور: الفساد. وقوله: (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) أي: فقد كذبكم أُولَئِكَ، (بِمَا تَقُولُونَ): أنهم أمرونا بذلك، وكانوا عندهم صدقة.

وقوله: (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا): هذا يحتمل وجوها: أحدها: أي: ما يستطيع أُولَئِكَ الكفرة صرف قول من عبدوهم وتكذيبهم حين كذبوهم في قولهم. (وَلَا نَصْرًا) أي: ولا استطاعوا الانتصار منهم حين كذبوهم؛ وعلى ذلك يخرج قراءة من قرأه بالتاء: (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا). والثاني: يحتمل: (فما يستطعون) أُولَئِكَ المعبودون صرف عذاب اللَّه ونقمته عنكم، ولا كانوا لهم نصراء؛ لأنهم قالوا: (هَؤلَآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّه)، و (مَا نعبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). والثالث: (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا) أي: فداء، (وَلَا نَصْرًا) أي: لا يقبل منهم الفداء، ولا كان لهم ناصر ينصرهم في دفع العذاب عنهم؛ كقوله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ). وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الصرف: النافلة، سميت صرفًا لأنها زيادة على الواجب، والعدل: الفريضة. وقد روي في الخبر: " من طلب صرف الحديث ليبتغي به إقبال وجوه الناس، لم يرح رائحة الجنة " أي: من طلب تحسينه بالزيادة فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصرف: الدية، والعدل: رجل مثله؛ كأنه يريد: لا يقبل منه أن يفتدي برجل مثله وعدله، ولا يصرف عن نفسه بديته، ومنه قيل: صارفي، وصرف الدرهم بالدنانير؛ لأنك تصرف هذا إلى هذا، وأصله ما ذكرنا. قَالَ الْقُتَبِيُّ وأبو عبيدة: (قَوْمًا بُورًا)، أي: هلكى، وهو من بار يبور؛ إذا هلك وبطل؛ يقال: بار الطعام، إذا كسد، وبارت الأيم؛ إذا لم يرغب فيها، وفي الخبر: " كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يتعوذ من بوار الأيم ". قال أبو عبيدة: يقال: رجل بور وقوم بور لا يثنى ولا يجمع.

(20)

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (قَوْمًا بُورًا): لا خير فيهم، ورجل بائر؛ وكذلك قال ابن زيد: بورا أي: ليس فيهم من الخير شيء. وقال قتادة: بورا: فاسدين، بلغة أهل عمان، وقال: " ما نسي قوم ذكر اللَّه قط إلا باروا وفسدوا ". وقوله: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا): أما على قول بعض الخوارج: كل ظلم ارتكبه فهو في ذلك الوعيد على أصل مذهبهم. وعلى قول المعتزلة: كل صاحب كبيرة في ذلك الوعيد. وأما على قول المسلمين: فذلك الوعيد لمرتكبي الظلم: ظلم كفر وشرك، وأمَّا ما دون ذلك فهو في مشيئة اللَّه: إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) قد ذكرنا فيما تقدم أن هذا إنما أخرج جوابًا لقول أُولَئِكَ: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ)، فأخبر أن الرسل الذين كانوا من قبل مُحَمَّد كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق على ما يأكل هو ويمشي. ثم من الناس من كره الركوب في الأسواق بهذا، وقال: إنه أخبر عن الأنبياء والرسل جملة أنهم كانوا يمشون في الأسواق، لم يذكر منهم الركوب؛ فدل ذلك منهم أنه مكروه منهي عنه؛ فيشبه أن يكون ما قال هَؤُلَاءِ، وأنه يكون مكروهًا؛ لأنه يخرج الركوب في الأسواق مخرج التعزز والمباهاة؛ فالواجب على كل مسلم أن يكون تعززه بالإسلام وبدينه الذي اختاره اللَّه تعالى، وخاصة على العلماء يجب أن يكون تعززهم ومباهاتهم بالعلم الذي أعطاه اللَّه لهم وأكرمهم؛ فإنه عز لا يُعْقِبُهُ ذلاًّ: ولا يورثه صغارا ولا قهرا، وأمَّا كل عز كان سوى ما ذكرنا فهو إلى ذل ما يصير سريعًا، كأنه ليس بعز في الحقيقة، ولو تأصَّل، واللَّه أعلم. وقوله: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً): الفتنة كأنها هي المحنة التي فيها شدة وبلاء. ثم قال أهل التأويل: إنه لما أسلم عبد اللَّه وأبو ذر وعمار وبلال وصهيب وأمثال هَؤُلَاءِ، قال الفراعنة من قريش نحو أبي جهل والوليد وأمثالهما: انظروا إلى هَؤُلَاءِ الذين اتبعوا محمدا، اتبعوه من موالينا وأعرابنا رذالة كل قوم، فازدروهم وآذوهم واستهزءوا

(21)

بهم؛ فأنزل اللَّه هذه الآية لهَؤُلَاءِ الفقراء الذين اتبعوا رسول اللَّه؛ ليصبرهم على أذاهم فقال: (فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) أي: اصبروا على الأمر؛ هذا محتمل. وقال الحسن: قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) جعل أهل البلوى فتنة لغيرهم وغير أهل البلوى؛ يقول الأعمى: لو شاء اللَّه لجعلني بصيرا مثل فلان، ويقول الفقير؛ لو شاء اللَّه لجعلني غنيًّا مثل فلان؛ وكذلك يقول السقيم: لو شاء اللَّه لجعلني صحيحًا مثل فلان، لكنه أعطى لأهل البلوى البلوى وأمرهم بالصبر عليها، وأعطى لأهل النعمة النعمة وأمرهم بالشكر عليها ". وجائز أن يكون غير هذا، وهو قريب من هذا، وذلك أنه أعطى بعضا النعمة والسعة، وجعل بعضهم أهل ضيق وشدة، ثم جعل كل فريق محتاجًا إلى الفريق الآخر؛ جعل الغني والمثري محتاجًا إلى الفقير في بعض أموره، والفقير محتاجًا إلى الغني لغناه، وجعل لبعض على بعض مؤنة ما لولا فقر الفقير لا يعرف الغني قدر غناه، ولا الفقير قدر فقره، ولا قام بعض بكفاية مؤنة بعض، ثم أمر كلا بالصبر على تحمل مؤنة الآخر بقوله: (أَتَصْبِرُونَ) أي: اصبروا على الأمر يخرج، وإن كان ظاهره استفهامًا وسؤالا، والله أعلم. وقوله: (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) أي: على بصر وعلم؛ جعل بعضا فتنة لبعض ليس على سهو وغفلة. * * * قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا): قال أهل التأويل: (لَا يَرْجُونَ) أي: لا يخافون ولا يخشون لقاءنا، أي: البعث بعد الموت.

(22)

وقال أهل الكلام: الرجاء: هو الرجاء لا الخوف، لكن جائز أن يكون في الرجاء خوف، وفي الخوف رجاء؛ لأن الرجاء الذي لا خوف فيه هو أمنٌ، والخوف الذي لا رجاء فيه إياس، فكلاهما مذمومان: الإياس والأمن جميعًا. وقوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا): جائز أن يكون قولهم: لولا أنزل علينا الملائكة رسلا دون أن أنزل البشر رسلا إلينا؛ لإنكارهم البشر رسولا؛ كقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). ويحتمل قولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ): بالوحي والرسالة لنا دونك، ونحن الرؤساء والملوك والقادة دونك؛ يقولون: لو كان ما تقول حقًّا وصدقًا أنك رسول، وأنه ينزل عليك الوحي والملك فنحن أولى بالرسالة منك؛ إذ نحن الملوك والرؤساء؛ كقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وأمثال هذه الأفكار. ثم الرسالة لمن هو دونهم في الدنياوية. أو أن يكون ذلك؛ كقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) أي: رسول أو نرى ربنا عيانا ونكلمه ونسأله عن ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ): الاستكبار: هو ألا يرى غيره مثلا له، ولا عدلا ولا شكلا في نفسه وأمره، فإن كان هذا فهو ما لم يروا رسول اللَّه أهلا للرسالة وموضعًا لها؛ لفقر ذات يده وحاجته، ورأوا أنفسهم أهلا لها، فاستكبارهم هو ما لم يروا غيرهم مثلا ولا شكلاً لأنفسهم؛ فاستكبروا ولم يخضعوا لرسول اللَّه، ولم يطيعوه، ولم يتبعوه أنفا منه، بعد علمهم أنه محق في ذلك وأنه رسول إليهم. وقوله: (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: العتو: هو الجرأة، وهو أشدّ من الاستكبار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العتو: هو الغلو في القول غلوا شديدًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من التكبر. وقوله: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) قال الحسن: حِجْرًا مَحْجُورًا: كلمة من كلام العرب؛ إذا كره أحدهم الشيء قال: حجرًا حرام هذا، فإذا رأوا الملائكة كرهتهم، وقال: حِجْرًا مَحْجُورًا، فعلى هذا القول الكفرة هم يقولون:

(23)

حِجْرًا مَحْجُورًا؛ إذا رأوا الملائكة وما معهم من المواعيد. قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الملائكة يتلقون المؤمنين بالبشرى على أبواب الجنة، ويقولون للكفرة: لا بشرى لكم، ويقولون: حِجْرًا مَحْجُورًا، أي: تقول الملائكة: حرام البشرى للمجرمين، أو حرام عليهم الجنة أن يدخلوها، والحجر على هذا القول هو الحرام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحجر هاهنا هو المنع والحظر، يقولون: إنهم يمنعون ويحظرون عما طمعوا وقصدوا بعبادتهم الملائكة والأصنام التي عبدوها، حيث قالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، فيقول: يمنع عنهم ما قصدوا وطمعوا بعبادتهم. أو يكون المنع: ثواب الخيرات التي عملوها في هذه الدنيا من صلة الأرحام والصدقات ونحوها، مما هي في الظاهر خيرات منعوا ثوابها في الآخرة؛ كقوله: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)، وقوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)، ونحو ذلك كله، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) هو ما ذكرنا من الأعمال عملوها في هذه الدنيا رجاء أن يصلوا إليها في الآخرة، فجعلناها هباء منثورا. قال أهل التأويل: (وَقَدِمْنَا) أي: عمدنا وقصدنا إلى ما عملوا من عمل. لكن عندنا: جعلنا أعمالهم تلك في الأصل هباء منثورا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: منبثا وهو رهج الدواب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الهباء المنثور: هو غبار الثياب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الغبار الذي يكون في شعاع الشمس، وهو الذي يسمى: الذر. وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (حِجْرًا مَحْجُورًا) أي: عوذا معاذا، يقول: المجرمون يستعيذون من الملائكة.

(24)

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا): هو من التكبر، ويقال: من الخلاف: عتا عتيا؛ إذا خالف، يقال في الكلام: لا تعت علي، أي: لا تخالفني. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الشدة واليبس؛ كقوله: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي: يابسا. وقال: (حِجْرًا مَحْجُورًا) أي؛ حراما محرمًا، وحجرت عليه ماله، أي: منعته من ماله أحجر حجرا. ويقال: حجرت عينه، أي: لطخت أجفانها بشيء من الدواء. وقوله: (هَبَاءً مَنْثُورًا) أي: لا شيء، والهباء: هباء النار، أي: رمادًا يكون على أعلى النار إذا خمدت ويقال: هبت النار تهبو هبوا إذا خمدت والجمرة على حالها، إلا أنه قد غطاه ذلك الهباء، وكل شيء ليس لشيء فهو هباء، وتقول: هذا هباء، أي: لا شيء، ومنثور: قد نثر. وقوله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وصف عَزَّ وَجَلَّ أعمال الكفرة مرة بالهباء المنثور، ومرة بالرماد، ومرة بالسراب، ومرة بالتراب الذي يكون على الصفوان، وهو الحجر الأملس إذا أصابه الوابل. ووصف أعمال المؤمنين بالثبات والقرار ونحوه. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة ثم قرأ: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا). وكذلك ذكر في حرفه في سورة الصافات: (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) قرأ هو: (إن مقيلهم لإلى الجحيم) أي: إلى الجحيم. ويشبه أن يكون ذكر هذا لقولهم: (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) أي: لنا أموال وجنات، وليس له من ذلك شيء، فقال جوابا لهم: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا). وقوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) وصف السماء لهول ذلك اليوم بأوصاف وذكر لها أحوالا، فقال في آية أخرى: (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ)، و (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، و (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)، وقال: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ)، و (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ)، ونحو ذلك، وذلك في اختلاف الأوقات، يكون في كل وقت على الحال التي وصف؛ وكذلك ما

(26)

وصف مرة بالهباء المنثور، ومرة كالعهن المنفوش، ومرة كثيبًا مهيلا، ومرة قال: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً) الآية، ونحوه من الأوصاف التي وصفها، وذلك في أوقات مختلفة، تكون في كل وقت على حال ووصف الذي وصف؛ فعلى ذلك السماء لشدة هول ذلك اليوم وفزعه. وقوله: (تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) أي: تنشق عن الغمام فتبقى بلا غمام؛ كقوله: (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ). وجائز أن يكون قوله: (تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) أي: يبقى الغمام فوق رءوس الخلائق يظلهم، وهذا يدل أن قوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) إنما معناه: بظلل من الغمام؛ فإن كان على هذا فيرتفع الاشتباه، واللَّه أعلم. وقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) يحتمل إضافة ملك ذلك اليوم إليه، وإن كان الملك له في جميع الأيام في الدنيا والآخرة - وجوهًا: أحدها: لما أن ملك الآحنرة ملك دائم باق بلا فناء له، وملك الدنيا جعله فانيا لا دوام ولا بقاء له. والثاني: لما يقر له جميع الخلائق بالملك له في ذلك اليوم، وإن لم يقر له البعض بملك الدنيا. والثالث: لما لا ينازعه أحد في ملك ذلك اليوم، وإن كان له منازع في الدنيا. أو أن يكون المقصود بخلق هذا العالم في ذلك اليوم يظهر للخلق، ويومئذ يعلم كل أن خلقهم في الدنيا لذلك اليوم كان، لا للدنيا خاصة. وقوله: (لِلرَّحْمَنِ): ذكر هنا الرحمن، وقال في آية أخرى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)؛ لتعلم العرب أن الرحمن المذكور في هذه الآية هو اللَّه الذي لا إله إلا هو ذكر في تلك الآية؛ لأن العرب تسمي وتعرف كل معبود: إلها، ولا تعرف الرحمن معبودا ولا تسميه الرحمن، فعرفهم أن اللَّه والرحمن اللذين ذكرهما واحد. وقوله: (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا): ظاهر لا شك فيه فكذلك يكون. وقوله: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) قال بعض أهل التأويل: نزلت الآية في عقبة بن أبي معيط؛ كان يؤاخي رسول الله ويواده، وكان رسول اللَّه يجيبه إذا دعاه إلى طعامه، فدعا يوما رسول اللَّه إلى طعامه

(28)

فقال: " لا حتى تشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأني رسول اللَّه "، فشهد بذلك فطعم من طعامه، فبلغ ذلك أبيّ بن خلف فأتاه فقال: صبوت يا عقبة أصدَّقت، محمدًا وأجبته إلى ما دعاك؟!! فعيره على ذلك حتى رجع عقبة عن ذلك، وارتد عن دينه، وفي الحديث طول؛ فنزلت الآية في شأنه وصنيعه وندامته وحسرته على ما فعل، فقال: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. . .) إلى آخر ما ذكر. وذكر أن عقبة وأبي بن خلف قتلا: أحدهما يوم بدر، والآخر يوم أحد، ولكن الآية في كل ظالم وكل كافر يكون على ما ذكر. ثبم يحتمل قوله: (يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) وعلى التمثيل، والكناية عن الندامة والحسرة؛ لأن من اشتد به الندامة والحسرة والغيظ على شيء كاد أن يعض يديه غيظًا منه على ذلك؛ كما كنى بغل اليد عن ترك الإنفاق، وبالبسط عن كثرة الإنفاق والمجاوزة فيه؛ وكما كنى بالنبذ وراء الظهر عن ترك الانتفاع وقلة النظر فيه والاكتراث إليه؛ كقوله: (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ)، عن الرجوع ونحوه، وقوله: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، وقوله (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)، وأمثال هذا على التمثيل والكناية عن الرجوع والثبات والأخذ والترك؛ فعلى ذلك جائز أن يكون عض الأيدي كناية عن شدة الندامة والغيظ على ما حك به. ويشبه أن يكون على التحقيق: تحقيق عض اليد، يجعل اللَّه عقوبته بعض اليد؛ كما جعل عقوبة أنفسهم بأنفسهم؛ حيث جعل أنفسهم حطبا للنار يعذبون ويعاقبون، واللَّه أعلم. وقوله: (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا): السبيل الذي دعاه الرسول إليه. (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) يحتمل الإنسان، ويحتمل الشيطان، أي: لم أتخذ الشيطان خليلا، ولم أطعه فيما دعا، أو الإنسان الذي قلده فيما قلده. وقوله: (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) يحتمل قوله: (عَنِ الذكْرِ) أي: الشرف الذي يذكر به المرء، أضلني عن ذلك الشرف، أو أضلني عما يذكرني هذا، أو أضلني عن الذكر، أي: عن القرآن: وما فيه من الذكرى، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) أي: تاركا له متبرئًا منه، يقول كما قال في آية أخرى حكاية عنه: (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ)، ويقول كما قال: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ. . .) الآية، أو أن يكون كما ذكر: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ. . .) الآية. أو أن يكون ذلك الخذلان منه له في الدنيا يمنيه بأماني ويزين له أشياء، ثم لا يوصله إليها.

(30)

قوله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وقوله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: المهجور: هو الذي لا ينتفع ولا يعمل به وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: مهجورًا أي: تركوه مهجورا، أي: متروكا، ويقال: مهجورا أي: كالهذيان، والهجر الاسم يقال: فلان يهجر في منامه، أي: يهذي، وهو بالفارسية " بلايه كفتى ". وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) أي: مثل الذي جعلنا لك من العدو من الكفرة جعلنا لكل نبي من قبلك عدوًّا. ثم العداوة تكون في الدِّين مرة، ومرة في الأنفس وأحوالها. فإن كان العدو عدوا في الدِّين، فجميع الكفرة له أعداء لخلافهم له في الدِّين، ويكون حرف (مِن) صلة، أي: جعلنا لكل نبي المجرمين أعداء. وإن كان على تحقيق (مِن) وإثباتها فالعداوة عداوة في الدِّين والإخوان، وذلك راجع إلى الفراعنة وأضداد الرسل، ما من رسول إلا وله فراعنة وأضداد ينازعونه ويقاتلونه ويهمون قتله. ثم بشر رسوله بالحفظ له والنصر والظفر على أعدائه، وهو قوله: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا). وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) ذكر أهل التأويل أن أهل مكة كانوا يأتون رسول اللَّه فيتبعونه ويسألونه ويقولون: يا مُحَمَّد، أتزعم أنك رسول من عند اللَّه، أفلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة؛ كما أنزلت التوراة جملة واحدة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود فقال: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ

(33)

فُؤَادَكَ): أي: بمثل الذي نثبت به فؤادك. ثم يحتمل قوله: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) وجهين: أحدهما: أنزلناه متفرقًا لنثبته في فؤادك تحفظه وتذكره؛ لأن حفظ الشيء إذا كان سماعه بالتفاريق كان حفظه أهون، وأيسر من حفظه إذا سمع جملة واحدة، وخاصة إذا كان الكلام من أجناس وأنواع. والثاني: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) أي: لنثبت بما في القرآن من الحكمة والمعاني فؤادك. ثم يحتمل قوله: (فُؤَادَكَ) أنه يراد به: فؤاد من يسمع إليه ويسمعه، فإن كان هذا فهو كقوله: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ. . .) الآية، على ما ذكرنا أنه يكون أسرع حفظًا وأهون ثباتًا من سماعه جملة. وجائز أن يكون أراد فؤاده؛ كقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17). وقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) كان يعجل بحفظه إذا قرئ عليه؛ خوفًا أن يذهب، فأخبره أنه يثبت فؤاده وينزله بالتفاريق؛ لكي يحفظه ويذكره. ثم إن كان المراد تثبيته في الفؤاد: هو ما فيه من الحكمة والمعاني وقراءته على الناس على مكث كذلك فهو - واللَّه أعلم - ينزله على قدر النوازل والحوائج؛ ليكونوا أحفظ لتلك المعاني وأعرف بمواضعها، وتقدير غيرها من النوازل بها من أن نزل جملة في دفعة واحدة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) أي: بصفة يشبهون بها على الخلق إلا جئناك بصفة هي أحق مما أتوا بها هم، فترفع تلك الشبهة عنهم، أعني: عن الخلق. أو أن يقال: ولا يأتونك بصفة هي باطل إلا جئناك بحق - أي: بصفة هي حق - فتبطل تلك وتضمحل. (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) أي: بيانًا من الأول؛ على التأويل الأول، وعلى التأويل الثاني ظاهر لا شك أنه أحسن وأحق. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) أي: أنزلنا بعضه بعد بعض، وعلى أثر بعض، لم ننزله في مرة واحدة؛ وكذلك قال في قوله: (وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا).

(34)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) أي: بيناه تبيانا. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)، قال: لا يخاصمونك بشيء ولا يجادلونك إلا جئناك بالحق -يعني: القرآن- (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)، يقول: جئناك بالقرآن بأحسن مما جاءوا به تفسيرا، وهو قريب مما ذكرنا بدءًا. وفي حرف حفصة: (إلا جئناك بأحق منه وأحسن تفسيرا)، وهو شبيه ببعض التأويلات التي ذكرناها. وقوله: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا) يشبه أن يكون ذكر هذا على مقابلة سبقت، وإلا على الابتداء لا يستقيم ذكره؛ فجائز أن يكون ذكره على مقابلة قوله: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا. . .) الآية، هذا ذكر مقام أهل الجنة، فذكر مقابل ذلك مكان أهل النار، فقال: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي: شر مكانا في الآخرة، وأضل سبيلا في الدنيا، ويكون مقابل قوله: (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)، فقال (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا)، من الذين آمنوا، بل مقامهم الجنة -أعني: المؤمنين- ومقام الكفرة النار، فهم شر مكانًا منهم. وفي بعض الأخبار: أن رجلا قال: يا نبي اللَّه، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: " إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه ". * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) أي: التوراة، (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا): ذكر هاهنا أنه كان وزيرا له، وذكر في آية أخرى: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ)، وفي آية أخرى: أنه كان نبيًّا حيث قال: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا)، فكان ما ذكر ذلك كله نبيًّا ورسولا، وكان له وزيرا، والوزير هو العون والعضد، فإنه قال: (وَجَعَلْنَا مَعَهُ

(36)

أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا) أي: عونا وعضدا؛ كقوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي)؛ لأنه سأل ربه المعونة له والإشراك في أمره، وقال: (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي). وقال الزجاج: الوزير هو الذي يلجأ إليه في النوائب ويعتصم بأمره؛ وهو واحد. وقوله: (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) أي: أهلكناهم إهلاكا. وقوله: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ ... (37) جائز أن يكون قوله: (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) نوحًا خاصة؛ لأنه ذكر قوم نوح، فإن كان ذلك، ففيه دلالة جواز تسمية الواحد باسم الجماعة. وجائز أن يكون نوح دعاهم إلى الإيمان وتصديق الرسل، فكذبوه وكذبوا الرسل جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله: (أَغْرَقْنَاهُمْ): لم يغرقهم على أثر تكذيبهم إياه، ولكن إنما أغرقهم بعدما دعاهم ألف سنة إلا خمسين عامًا. وقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً): يحتمل قوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أي: آية للمكذبين والمصدقين، لما بين حكمه في المكذبين منهم: الإهلاك والاستئصال، وفي المصدقين منهم: النجاة والخلاص منه، فذلك آية لكل مكذب ومصدق؛ لما إليه يئول عاقبة أمرهم: عاقبة المكذبين: الإهلاك، وعاقبة المصدقين: النجاة. فَإِنْ قِيلَ: إنهم جميعًا قد هلكوا المصدقون منهم والمكذبون، قيل: أهلك المكذبون منهم إهلاك عقوبة وتعذيب، والمصدقون هلاكهم بانقضاء آجالهم لا هلاك عقوبة. ثم ذكر: (وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) فمعنى جعل أنفسهم آية ما ذكرنا. وقال في آية أخرى: (وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) أي: السفينة. قَالَ بَعْضُهُمْ: جعل السفينة آية؛ لأن من طبع السفن أنها إذا امتدت الأوقات وطال الزمان أنها تفسد وتتلاشى، وهي بعد باقية كما هي -أعني: سفينة نوح- لكن ذلك لا يعلم أنه كما ذكر أو لا، فالوجه فيه ما ذكرنا. وقوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا): هكذا جزاء كل ظالم -ظلم كفر وشرك- أن يعد له العذاب الأليم.

(38)

وقوله: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) أخبر أنه أهلك هَؤُلَاءِ كلهم بالتكذيب: عادا وهم قوم هود، وثمودا وهم قوم صالح، وأصحاب الرس: قال بعضهم: سموا أصحاب الرس؛ لأنهم رسوا نبيهم في بئر، أي: رسوه فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرس: هو اسم لبئر كانوا نزولا عليها، فبعث إليها شعيبًا فكذبوه، فسموا بذلك ونسبوا إلى تلك البئر. وعن ابن عَبَّاسٍ: أنه سأل كعبًا عن أصحاب الرس فقال: إنكم معاشر العرب تدعون البئر: رسا، والقبر: رسا، وتدعون الخد: رسا، فخدوا خدودًا في الأرض فأوقدوا فيها النيران للرسولين اللذين ذكر اللَّه في يس: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) أي: ذكرنا لأهل مكة أمثال من تقدم منهم من الأمم من المكذبين والمصدقين، وما حل بهم وما إليه آل عاقبة أمورهم بالتكذيب، حيث قال: (وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) أي: أهلكنا إهلاكا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (تَبَّرْنَا) أي: كسرنا بالنبطية، يقول أحدهم للشيء إذا أراد أن يكسره: أتبره. وقوله: (وَلَقَدْ أَتَوْا ... (40) يعني واللَّه أعلم: أهل مكة، (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ): وهي الحجارة، يعني - واللَّه أعلم -: قريات لوط، أي: يمر عليهم أهل مكة في تجارتهم ويأتونها؛ وهو كما قال في الصافات: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. . .). (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا): ما حلَّ بهم بالتكذيب فيعتبروا، (بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا) أي: بعثًا بعد الموت وإحياء، أي: إنما كذبوا الرسل؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث ولا يخافون نشورا. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ

(41)

يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) وقوله: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) كانوا إذا رأوه هزئوا به، إذا خلا بعضهم إلى بعض يقولون فيما بينهم: أبعث اللَّه بشرًا رسولا، هكذا كانت عادة الكفرة يهزءون به إذا حضروه، وإذا غابوا عنه قالوا ما ذكر. وقوله: (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) في قوله: (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا) دلالة أنه إنما أراد أن يضلهم عن عبادتهم الأصنام بالحجج والآيات؛ إذ ليس في وسع النبي صرفهم ومنعهم عن ذلك إلا من وجه لزوم الآيات والحجج، إلا أنهم رفضوا تلك الآيات والحجج، وكابروها وثبتوا على عبادة الأصنام والأوثان، وإلا علموا -من جهة الآيات والحجج التي أقامها عليهم- أنه على الحق، وأنهم على باطل. ثم قوله: (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) أي: يعلمون حين لا يقدرون على الجحود والإنكار إذا أنزل بهم العذاب، ووقع: من أضل سبيلا هم أو المؤمنون؟ لأنهم وإن علموا بالآيات والحجج أنه على الحق، وأنهم على باطل، وعلموا الموعود من العذاب فأخبر أنهم يعلمون عند وقوعه بهم علما لا يقدرون على جحوده ولا إنكاره؛ كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) وهذه الآية، وقوله: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، وقوله: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا)، وأمثال ذلك إذا عاينوا الموعود في الدنيا يقرون به لا يقدرون على الجحود؛ فكذلك قوله: (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) علما لا يقدرون على الإنكار والجحود (حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا). وقوله: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا يعبدون أشياء حجرًا أو غيره، فإذا رأوا أحسن منه في رأي العين والمنظر، تركوا عبادة ذاك، وعبدوا ما هو أحسن منه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كلما هوت أنفسهم شيئًا عبدوه، وكلما اشتهوا شيئًا أتوه، لا يحجزهم عن ذلك ورع ولا تقوى لله. ويحتمل وجهين آخرين سوى ما ذكر هَؤُلَاءِ: أحدهما: تركوا عبادة الإله الذي قامت الحجج والآيات بألوهيته وربوبيته، ولزموا

(44)

عبادة من لم يقم له الآيات والحجج بذلك بهواهم. والثاني: أنهم عبدوا ما عبدوا من الأصنام بلا أمر كان لهم بالعبادة؛ لا بد من أمر يؤتمر بها، بل عبدوا بهواهم، أو كلام نحو هذا. وقوله: (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) أي: لست أنت بوكيل ولا مسلط عليهم ولا حافظ، أي: لا تسأل أنت عن أعمالهم ولا تحاسب عليها، بل هم المسئولون عنها، وهم محاسبون عليها؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)؛ وكقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ. . .) الآية، واللَّه أعلم. وقوله: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) قوله: (أَمْ تَحْسَبُ) إن كان في الظاهر استفهامًا، فهو في الحقيقة على الإيجاب، وهكذا كل استفهام من اللَّه يخرج على الإيجاب أو على النهي؛ كأنه قال: قد حسبت أكثرهم يسمعون أو يعقلون، أي: لا ينتفعون بما يعقلون. (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: كالأنعام لأن همتهم ليست إلا كهمة الأنعام، وهو الأكل والشرب، ليست لهم همة سواه، ليس للأنعام همة العاقبة، فعلى ذلك الكفرة فهم كالأنعام من هذه الجهة. وقوله: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ): قال قائلون: قوله: (أَضَلُّ) لأن الأنعام تعرف ربها وخالقها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه. أو هم أضل لأنهم ينسبون إلى اللَّه ما لا يليق به من الولد والشريك، ويشركون غيره في العبادةِ والأنعامُ لا، فهم أضل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم أضل؛ لأن الأنعام إذا هديت الطريق اهتدت، وهم يهدون ويدعون إلى الطريق فلا يهتدون ولا يجيبون فهم أضل. أو أن يقال: هم أضل لأنهم يَضلون وُيضلون غيرهم ويمنعونهم عن الهدى، والأنعام لا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وقوله: (أَلَمْ تَرَ): قد ذكرنا في غير موضع أن حرف (أَلَمْ تَرَ) هو حرف تعجب واستفهام، لكن في الحقيفة على الإيجاب، أي: قد رأيت.

(46)

وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) أي: إلى تدبير ربك ولطفه أن كيف مد الظل، وهو لا يؤذي ولا يضر ولا يحس، ولا يشعر به أحد بكونه فيه ولا يثقل ولا يخف، ولا يستر ولا يكشف عن وجوه الأشياء، إنما النور هو الكاشف عن وجوه الأشياء، والظلمة هي الساترة لذلك، ونحو ذلك ما يكثر ذكره مما يحيط بالخلائق كلها؛ ليعلم أن من المحسوسات التي يقع عليها الحواس ما لا يدرك حقيقة من نحو الظل الذي ذكرنا هو ما لا يدرك حقيقة، ومن نحو السمع والبصر والعقل والنطق باللسان، ونحو ذلك من المحسوسات؛ ليعلم أن الذي سبيل معرفته الاستدلال وهو منشئ هذه الأشياء - أحق ألا يدرك ولا يحاط بتدبيره ولطفه؛ وليعلم أن من بلغ تدبيره ولطفه هذا المبلغ لا يحتمل أن يعجزه شيء أو يخفى عليه شيء؛ يخبر عن قدرته وتدبيره ولطفه؛ ليعلم أنه قادر ومدبر بذاته لطيف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا) أي: دائبًا لا يذهب أبدًا، ولا تصيبه الشمس ولا يزول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (سَاكِنًا) أي: مستقرا دائمًا لا تنسخه الشمس كظل الجنة. وقوله: (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تتلوه وتتبعه حتى تأتي على كله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) يقول: حيثما تكون الشمس يكون الظل، وأصله: أنه بالشمس يعرف الظل أنه ظل، ولولا الشمس ما عرف الظل، فهو دليل معرفته وكونه أنه ظل. وقوله: (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) قَالَ بَعْضُهُمْ: هَيِّنًا خفِيًّا، وأصله: أنه يقبض بالشمس الظل وينسخه شيئًا فشيئًا، حتى تأتي على كله. وقوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا ... (47) قيل: سكنا يسكن فيه الخلائق. وقيل: لباسا، أي: سترًا. (وَالنَّوْمَ سُبَاتًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: راحة، يقال: سبت الرجل يسبت سباتا فهو مسبوت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أصل السبت: التمدد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سبت الرجل إذا نعس. وقيل: رجل مسبوت: لا يعقل كأنه مسبت.

(48)

(وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا): فمن جعل السبات: النوم، جعل قوله: (النَّهَارَ نُشُورًا) أي: حياة يحيون فيه. ومن يقول: السبات: راحة، يجعل النهار نشورا: ينشر فيه للمعاش والكسب وابتغاء الرزق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يذكر نعمه ومننه على عباده؛ لتأدي شكره. وقال أبو معاذ: قال مقاتل: (مَدَّ الظِلَّ) يعني: الفيء من أول وقت صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. وأخطأ؛ لا يسمى ذلك الظل: فيئًا. وقال الكسائي: العرب تقول: الظل من حين تصبح إلى انتصاف النهار، فإذا زالت الشمس عن كبد السماء فما خرج من ظل فذلك الفيء ويقال للفيء: الظل، ولا يقال للظل: فيء قبل الزوال. وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ نُشْرًا (¬1) ... (48) قَالَ بَعْضُهُمْ: (نُشْرًا) أي: حياة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (نُشْرًا) للسحاب: تنشره، أي: تبسطه. وعلى التأويل الأول ننشرها، أي: نحييها. وقوله: (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي: بين يدي المطر، سمي المطر: رحمة؛ لما برحمته يكون؛ وكذلك ما سمى الجنة: رحمة؛ لأنها برحمة ما يدخل من دخل فيها. وقوله: (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ): هذا يدل أنه لا يفهم باليد: اليد المعروفة التي هي الجارحة، حيث ذكر للمطر ذلك ولا يعرف -أعني: اليد- ليعلم أنه لا يفهم من قوله: بيد اللَّه، بين يدي اللَّه - ذلك، وباللَّه العصمة. وقرأ بعضهم: (بُشْرًا) بالباء، وهو من البشارة؛ كقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ)، أي: تبشرهم بالرحمة والسعة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) أي: ما يطهر به الأنجاس والأقذار الظاهر منها والباطن؛ وكذا الطهور أنه يطهر حيثما أصابه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) قَالَ بَعْضُهُمْ: الأناسي: جمع إنسي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي جمع إنسان، وأصله بالنون (أناسين)، لكن أبدلت النون ياء. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: أَنَاسِيَّ مشددة، يعني: أناس، وأناسي جماعة الإنسان على ¬

_ (¬1) قال السمين: وأمَّا «بُشْراً» فقرأه في هذه السورة وحيث ورد في غيرها من السور نافع وأبو عمرو وابن كثير بضم النون والشين، وهي قراءةُ الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء بخلافٍ عنهم وشيبة بن نصاح والأعرج وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين. وقرأ ابنُ عامر بضمِّ النون وسكون الشين وهي قراءةُ ابن عَبَّاسٍ وزر ابن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي وابن مصرف والأعمش ومسروق. وقرأ الأخَوان: «نَشْراً» بفتح النون وسكون الشين. وقرأ عاصم: «بُشْراً» بالباء الموحدة مضمومةً وسكونِ الشين، وهو جمعُ بشيرة كنذيرة ونُذُر. اهـ باختصار (الدر المصون للسمين 5/ 346 - 349). (مصحح النسخة الإلكترونية).

(50)

ما ذكرنا. ويحتمل قوله: (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)، أي: نسقيه من الماء الطّهور والمنزل من السماء كثيرًا من الأنعام، وكثيرًا من الإناس، وكثيرا ما يسقى من المياه المنتزعة من الأرض. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا)، أي: صرفنا المطر والسحاب بينهم يمطر في مكان، ويسوق السحاب إلى مكان ولا يسوق إلى مكان آخر؛ كقوله: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية؛ وكقوله: (فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ) الآية. يذكرهم في هذه الآيات من قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) إلى قوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ) ليذكروا تدبيره وقدرته وحكمته ونعمه؛ أما تدبيره: حيث ترى السحاب في موضع ولا تراه في موضع، وتراه منبسطًا في الآفاق ثم يمطر في موضع آخر، ولا يرسل في مكان ويرسل في مكان آخر؛ ليعلم أنه عن تدبير كان هكذا لا بالطبع؛ لأنه لو كان بالطبع كان ذلك لكان لا جائز أن يمطر في مكان ويترك في مكان آخر، دل أنه بالتدبير كان ما كان وبالأمر. وأما قدرته: فما ذكر من إحياء الأرض الميتة بعد موتها، وإماتتها بعد حياتها مما يعلم كل أحد حياتها وموتها، ويقر بذلك، فمن قدر على هذا قادر على إحياء الموتى بعد الموت، ولا يعجزه شيء. وأما حكمته: أن ما خلق مما ذكر وأنشأه لم ينشئه عبثًا، يمهلهم لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم بشيء، ولا يجعل لهم عاقبة يثابون ويعاقبون، ولا يستأدي بهم شكر ما أنعم عليهم من أنواع النعم مما يعجز عقولهم عن إدراكه، ويقصر أفهامهم عن تقدير مثله؛ ليعلم أنه قادر بذاته لا يعجزه شيء. ثم قال: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) قال الكسائي: الكُفور برفع الكاف: الكفر، والكَفور -بفتح الكاف-: الكافر، والشُّكور -بضم الشين-: الشكر، والشَّكور -بفتح الشين-: الشاكر وهو المؤمن؛ فيكون تأويله: فأبي أكثر الناس إلا كفرا باللَّه وتكذيبا لنعمه؛ بصرفهم العبادة إلى غيره ولتفاؤلهم وتطيرهم أن هذا من نوء كذا، واللَّه أعلم.

(51)

وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: لو شئنا لرفعنا عنك، يعني: ما حملنا عليك من المؤن من مؤنة التبليغ والقيام بذلك، وحملنا غيرك؛ فيكون عليك أيسر وأهون من القيام بالكل. والثاني: لو شئنا لجعلنا غيرك -أيضًا- أهلا للرسالة وموضعًا لها في زمانك وحينك، فبعثناه في بعض القرى والمدن، لكنا لم نجعل غيرك أهلا لها، وخصصناك لها من بين غيرك من الناس؛ فهو على الامتنان يخرج والاختصاص له. ثم لا يخلو ذلك من أن يكون فيهم من يصلح للرسالة، ويصلح أن يكون أهلا لها وموضعًا، فلم يرسل، أو كان لم يكن فيهم من يصلح لذلك؛ فيكون تأويله: لو شئنا لجعلنا فيه من يصلح للرسالة، ويصلح أن يكون أهلا لها وموضعًا، فأي الوجهين كان، فهو ينقض على المعتزلة قولهم؛ لأنه إن كان فيهم من يصلح لها وأرسل كان أصلح له فلم يرسل، فقد ترك ما هو أصلح له وأخير، أو أن يكون لا يصلح فيهم أحد لذلك، لكنه يملك أن يصلحه ويجعله أهلا لها، فهو أصلح له وأخير ثم لم يفعل؛ دل أن له ألا يفعل الأصلح والأخير في الدِّين. وقوله: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز للرسل النبذ والامتناع عن التبليغ إليهم والقيام بمجاهدتهم، وإن خافوا على أنفسهم الهلاك؛ حيث قال: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)، ولم يكن معهم يومئذ إلا قليل ممن اتبعه؛ إذ كان ذلك بمكة؛ لأن سورة الفرقان فيها نزلت. والثاني: فيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنه أمر بالخلاف لهم، والقيام بمجاهدتهم بالحجج والآيات، وهم يعلمون ألا يكون في وسع واحد القيام لذلك لأمثالهم، وكانت همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم؛ فعلموا أنه إنما قام لذلك باللَّه لا بنفسه؛ إذ لا يملك واحد القيام لذلك، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا

(53)

وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وقوله: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ (53) قَالَ بَعْضُهُمْ: مرج، أي: خلع ماء المالح على ماء العذب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَرَجَ): أرسل البحرين أحدهما عذب والآخر أجاج. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَرَجَ) أي: أفاض أحدهما على الآخر. قال أبو معاذ: العرب تقول: مرجت الدابة إذا خلعتها وتركتها تذهب حيث شاءت، ومرج الوالي الناس من السجون إذا أرسلهم، فإذا رعيت دابة في المروج، قلت: أمرجت دابتي أمرجها إمراجًا، وإنما سمي المرج: مرجًا؛ لأنه متروك للسباع غير معمور، والممرج الذي يرعى دابته في المرج والدابة الممروجة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: مرج البحرين مرجهما، أي: خلطهما فهو مارج، وقال: (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي: مختلط، ويقال: مرجت عن كل شيء إذا خلطت، واللَّه أعلم. ثم اختلف في البحرين؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: أحدهما بحر الأرض، والآخر بحر السماء، وجعل بينهما برزخًا، أي: حاجزًا عن أن يختلط أحدهما بالآخر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أحدهما بحر السماء، والآخر بحر تحت الأرض، وجعل بينهما برزخًا وهو الأرض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بحران على وجه الأرض: أحدهما بحر الروم والآخر بحر الهند. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أحدهما بحر الشام، والآخر بحر العراق: أحدهما مالح أجاج، والآخر عذب، وكان الأجاج هو الذي بلغ في الملوحة غايته، والفرات هو الذي بلغ في العذوبة غايته؛ ذكر منَّتَه وفضله ولطفه؛ حيث لم يخلط أحدهما بالآخر، بل حفظ كلًّا على ما هو عليه إلى أن تقوم الساعة، فعند ذلك يصير الكل واحدا؛ كقوله: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ). ثم إن كان أحدهما بحر السماء والآخر بحر الأرض، وإن كانا بحرين في الهواء، فالحاجز بينهما ليس إلا اللطف؛ وكذلك إن كان الثالث ليعلم أن من قدر على حفظ هذا من هذا بلا حجاب ولا حاجز باللطف، لقادر على إحياء الموتى وبعثهم، ولا يعجزه

(54)

شيء، وله الحول والقوة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: ماء أجاج: شديد الملوحة، ويقال: أجّ الماء يؤجّ أجّا فهو أجاج، ويقال: عاج، أي: ماء روي به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) أي: من النطفة؛ يخبر عن فضله ومنَّته وقدرته ولطفه. أما لطفه وقدرته: فحيث خلق البشر من النطفة، ولو اجتمع جميع حكماء البشر على أن يعرفوا أو يدركوا البشر من النطفة أو يدركوا كيفيته - لم يقدروا على ذلك؛ دل أنه قادر بذاته لطيف لا يعجزه شيء. وأمَّا فضله ومنَّته: فما أخبر أنه جعل لهم نسبًا وصهرا؛ أمّا النسب فيه يتعارفون ويتواصلون ما لولا ذلك ما تعارفوا ولا تواصلوا، وأما الصهر فلما به يتزاوجون ولوادون ويتوالدون؛ كقوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً)، وقال: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، يذكر فضله ومنته؛ ليتأدى به شكره؛ ليعلم أن خلق مثل هذا لا يخرج عبثًا باطلا بلا محنة ولا عاقبة، وكأن النسب: ما لا يجري بينهم التناكح والتزاوج، والصهر: ما يحل ويجري بينهم التناكح والتزاوج. وفي حرف حفصة: (وهو الذي خلق من الماء نسبا وصهرا). قال أبو معاذ: الصهر الفتى وآله، والختن: أبو المرأة، والختنة: أم المرأة، والأختان: آل المرأة وأهلها، والأصهار، آل الفتى وأهله. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَصِهْرًا) من المصاهرة، وكلهم أصهار من الجانبين جميعًا، والمعروف عندنا: أنه إنما يسمى قرابة الزوج: أختانًا، وقرابة المرأة أصهارًا، وذلك لسان فهو على ما تعارفوه بينهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) أي: يعبدون من دون اللَّه ما يعلمون أنه لا ينفعهم في الآخرة إن عبدوه، ولا يضرهم في الدنيا إن تركوا عبادته؛ يذكر سفههم بعبادتهم من يعلمون أنه لا ينفع ولا يضر، وتركهم العبادة لمن ينفعهم إن عبدوه ويضرهم إن تركوا عبادته؛ وهو كما ذكر: (هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ. .) الآية، وأمثال ما ذكر في غير آي من القرآن سفه أُولَئِكَ بعبادتهم للأصنام، وتركهم عبادة اللَّه تعالَى. وقوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) أي: تأويله - واللَّه أعلم -: وكان الكافر للكافر ولوليه ظهيرا على من أطاع ربه، يكون بعضهم ببعض عونًا وظهيرًا على أولياء اللَّه، وإلا لا يكون الكافر على اللَّه ظهيرًا، ولكن على أوليائه، ويكون ذكر الرب على إرادة وليه ومن

(56)

أطاعه؛ كقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)؛ وكقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ)، ونحو ذلك مما يراد به: أولياؤه لا نفسه. وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) مبشرًا لمن أطاعه، ونذيرًا لمن عصاه. والبشارة: هي الإعلام لما يلحق من السرور والفرح في العاقبة بالأعمال الصالحة. والنذارة: هي الإعلام لما يلحق من المكروه والمحذور في العاقبة بالأعمال السيئة القبيحة. وقوله: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) أي: ما أسألكم على الدِّين الذي أدعوكم إليه من أجر؛ كقوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)، أي: لا أسألكم أجرًا على ذلك حتى يمنعكم ثقل الغرم عن إجابتي؛ فعلى ذلك قوله: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) كان فيه إضمار، أي: لا أسالكم عليه أجرًا إلا من شاء، ولكن إنما أسألكم أن تتخذوا إلى ربه سبيلا. أو أن يقول: قوله: (إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي: ولكن من أراد أن يتخذ إلى ربه سبيلا أطاعني وأجابني. ويحتمل قوله: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ) على تبليغ الرسالة إليكم، وما أدعوكم إليه (مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) فيبرني. أو أن يكون قوله: (إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) فيوادني؛ كقوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى). وقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) أي: توكل على اللَّه، والتوكل: هو الاعتماد عليه بكل أمر. وقوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي: نزه ربك وبرئه عن الآفات كلها والعيوب، بثناء تثني عليه وهو التسبيح بحمده. وقال أهل التأويل: أي صل بأمر ربك، لكن التأويل ما ذكرنا. وقوله: (وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا) أي: كفى به علما بذنوب عباده، أي: لا أحد أعلم بها منه. وقوله: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ... (59) قد ذكرنا هذا. وقوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا): قال قائلون: قوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) لما يسأل عنه مُحَمَّد، وذلك أن بعض كفار مكة قالوا: يا مُحَمَّد، إن كنت تعلم الشعر فنحن لك، فقال النبي: " أفشعر هذا؟! إن هذا كلام الرحمن "، فقالوا: أجل لعمر اللَّه إنه لكلام الرحمن

(60)

الذي باليمامة هو يعلمك، فقال النبي: " الرحمن هو اللَّه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما من عنده يأتيني ذلك "، فقالوا: أيزعم أن اللَّه واحد وهو يقول: اللَّه يعلمني، الرحمن يعلمني، ألستم تعلمون أن هذين إلهان، أو كلام نحو هذا. وجائز أن يكون قولهم: (وَمَا الرَّحْمَنُ) لما لا يعرفون الرحمن وعرفوا اللَّه فأنكروا ذلك لما لم يكونوا يسمعون ذلك، فعرفهم بقوله: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ. . .) الآية. أو أن يكونوا يعرفون كل معبود: إلها؛ وكذلك يسمون الأصنام التي عبدوها: آلهة، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعاهم إلى عبادة الرحمن؛ فظنوا أنه غيره، فقالوا: فلئن جاز أن يعبد غير اللَّه، فنحن نعبد الأصنام فلِمَ تمنعنا عن ذلك؟! فأخبر: أن الرحمن والإله واحد ليس هو غير؛ حيث قال: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا. . .) إلى آخر ما ذكر، يقول اللَّه: محال أن يكون الرحمن غير الإله، بل الرحمن هو الذي جعل في السماء بروجًا، وقد كانوا يعلمون أن الذي جعل في السماء البروج وهي النجوم، وجعل فيها السراج وهي الشمس والقمر - هو اللَّه، فأخبر أن الرحمن هو ذلك لا غير. وفي قول بعضهم: إن قوله: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .) الآية من المكتوم، وفي الآية دلالة أنه ليس من المكتوم، ولكنه مما يعلم ويفسر؛ حيث قال: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)، ولو كان مما لا يعلم لكان لا يأمره أن يسأل به خبيرًا، أو إن أمره بالسؤال لكان لا يحتمل ألا يخبره؛ دل ذلك أنه ليس من المكتوم، ولكنه مما يعلم، لكن لا يعلمه إلا الخبير، وهو العالم. ثم يحتمل: اللَّه أو جبريل أو من يعلمه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاسْأَلْ بِهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: باللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بالذي سبق ذكره من قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ). وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ ... (60) قد ذكرناه. (أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا) بالياء والتاء جميعًا. وقوله تعالى: (وَزَادَهُمْ نُفُورًا) أي: زادهم دعاؤه إلى عبادة الرحمن نفورا عن رسول اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) يقول: ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك لا شك فيه، واللَّه أعلم.

(61)

وقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) قوله: (تَبَارَكَ) قد ذكرنا أن بعضهم يقولون: هو من البركة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من التعالي. قوله تعالى: (جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا): هو ما ذكرنا أنه خرج جوابًا لقولهم: (وَمَا الرَّحْمَنُ)؛ وكذلك قوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً (62) أي: جعل أحدهما خلف الآخر، إذا ذهب هذا جاء هذا. (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) أي: يذكر الليل والنهار لمن أراد أن يتذكر لمواعظه أو يشكر لنعمه؛ لأنهما يذكران قدرته وسلطانه، حيث يقهران الجبابرة والفراعنة ويغلبانهم حيث يظلانهم ويأتيانهم شاءوا، أو كرهوا لا يقدرون دفعهما عن أنفسهم. وفيهما دلالة الإحياء والبعث بعد الفناء والهلاك؛ حيث ذهب بهذا أتى بآخر بعد أن لم يبق من أثره شيء، فمن قدر على هذا قدر على البعث والإحياء بعد الموت وذهاب أثره. ويذكران أيضًا نعمه وآلاءه؛ لأنه جعل النهار متقلبًا لمعاشهم ومطلبًا لرزقهم، وما به قوام أنفسهم، وجعل الليل مستراحًا لأبدانهم وسكونهم لا قوام للأبدان بأحد دون الآخر؛ ألا ترى أنه كيف ذكر نعمه فيهما؛ حيث قال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) الآية، وقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) الآية، يذكرهم عظيم نعمه فيهما أعني في الليل والنهار؛ ليتأدى بذلك شكره؛ فعلى ذلك هذا ما ذكرنا قوله: (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) النعمة التي جعل لهم. قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) أي يكون كل واحد منهما خلفا للآخر فيما يفوت فيه من التذكر والتشكر، أي: ما فات في أحدهما من التذكر والتشكر يقضي في الآخر. وقال الحسن قريبا مما ذكرنا، وقال: من فاته شيء بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته شيء بالنهار أدركه بالليل. وعلى مثل ذلك روي عن عمر: أن رجلا قال له: يا أمير المؤمنين، إني لم أدرك الصلاة الليلة، فقال عمر: " أدرك ما فاتك من ليلك في نهارك، وما فاتك من نهارك في ليلك "، ثم قرأ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً). وقَالَ بَعْضُهُمْ (خِلْفَةً) من الاختلاف، أي: يخالف أحدهما الآخر. ثم يحتمل الاختلاف وجهين:

(63)

أحدهما: مجيء أحدهما وذهاب الآخر على ما ذكرنا؛ كقوله: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ). والثاني: هو اختلاف اللون من [السواد] والبياض: أحدهما أسود، والآخر أبيض، والله أعلم. وقوله: (جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: البروج هي النجوم العظام، والواحد: برج، وهو قول ابن الأعرابي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البروج: القصور في السماء، فيها تنزل الشمس في كل ليلة، وروي مثل قول عمر عن سلمان أن رجلا قال له: إني لا أستطيع قيام الليل. قال: " إن كنت لا تستطيع قيام الليل، فلا تعجزه بالنهار ". وذكر لنا أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " أصيبوا من الليل ولو ركعتين ولو أربعا ". وذكر لنا أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " والذي نفسي بيده، إن في كل ليلة ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللَّه فيها خيرًا إلا أعطي له في هذا الليل والنهار؛ فإنهما مطيتان تقحمان الناس إلى آجالهم، تقربان كل بعيد، وتبليان كل جديد، وتجيئان كل موعود، حتى يؤدي ذلك إلى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يكون مصيرهم إلى الجنة وإلى النار؛ لتجزى كل نفس بما كسبت ". * * * قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) وقوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) وصف - عَزَّ وَجَلَّ - هَؤُلَاءِ

(64)

الصفوة والأخلاص من عباده أنهم يمشون على الأرض هونا - إلى آخر ما ذكر، وإلا كانوا كلهم عباد الرحمن. وصف أهل الصفوة منهم والإخلاص والتقى. وقوله: (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: حلماء أنقياء بغير مرح ولا بطر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (هَوْنًا) أي: متواضعين، لا خيلاء، ولا كبرياء، ولا مرحًا. وعن الحسن قال: هم المؤمنون قوم ذلل، ذلت - واللَّه الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى، واللَّه ما بالقوم من مرض، وإنهم لأصحة القلوب، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم. وفي بعض الأخبار مرفوعًا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " المؤمنون هينون لينون كالجمل الدنف؛ إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ ". وأصله: أنهم يمشون هونًا من غير أن يتأذى بهم أحد، أو يُلْحِقَ بأحد منهم ضررٌ، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا خاطبهم الجاهلون، وشافههم السفهاء، لا يجاهلون أهل الجهل والسفه، ولكن قالوا: السلام عليكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وإذا سمعوا الشتم والأذى قالوا: سلامًا، أي سدادًا وصوابًا من القول، وردًّا مصروفًا أعرضوا عن سفههم وجهلهم بهم، ولم يكافئوهم؛ كقوله: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ. . .) الآية، يخبر - عز وجل - عن صحبتهم أهل السفه والجهل وحسن معاشرتهم إياهم، ورفقهم، فكيف يعاملون أهل الخير والعقل منهم ويصاحبون، فهذه معاملتهم الخلائق على الوصف الذي وصفه، ثم أخبر عن صنيعهم لله وركونهم إليه، فقال (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64). عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رحم اللَّه الذين يبيتون الليل وأيديهم على ركبهم "، ثم قال: " من صلى ركعتين بعد العشاء، فقد بات لله تعالى ساجدًا قائمًا ". وقال الحسن: كانوا يبيتون لله على أقدامهم ويفترشون وجوههم سجدًا لربهم تجيء دموعهم على خدودهم، فرقا من ربهم، وقال: لأمر ما سهر ليلهم، ولأمر ما خشع له

(65)

نهارهم. وقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) يحتمل أن يكون هذا إخبارًا من اللَّه تعالى عما في ضميرهم، ليس على حقيقة القول والدعاء؛ لأن من بلغ في العبادة والورع المبلغ الذي وصفهم لا يشغلون أنفسهم بالسؤال عن دفع المضار أو جر النفع. ويحتمل: على الدعاء والقول على ما أخبر، واللَّه أعلم. ثم أخبر عن عذابها فقال: (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا). قال الحسن: الغرام: اللازم الذي لا يفارق صاحبه، وكل غريم يفارق غريمه غير عذاب جهنم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغرام: الهلاك وقال: (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) أي: جهنم بئس المستقر وبئس المقام لأهلها، هو مقابل ما ذكر لأهل الطاعة الجنة حيث قال: (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: غراما: غرموا في الآخرة ما نعموا في الدنيا. وفي حرف ابن مسعود: كان غراما إنما أنبئنا (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا). وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (هَوْنًا) من الرفق يقال: وإن يهون هونًا، فهو هائن. وقولهم: (وإذا عز أخوك فهن) أي: إذا اشتد، فارفق به. والغرام: الهلاك. وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: غراما، أي: هلكة. وقال: مشيًا هونًا: رويدًا، سلامًا، أي: سدادًا من القول لا رفث فيه ولا هجر. وقوله: (إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا (67) قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يسرفوا في غير حق، كسبوا طيبا وأنفقوا قصدًا وأعطوا فضلا وجادوا، واستبشروا (وَلَمْ يَقْتُرُوا) أي: ولم يتمسكوا عن الحق. وقوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) أي: بين الإسراف والتقتير مقصدًا؛ وهو تأويل مقاتل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإسراف هو الإنفاق في معصية اللَّه، (وَلَمْ يَقْتُرُوا) أي: لم يمنعوا عن طاعته، (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) أي: عدلا، لا يمسك عن حق ولا ينفق في باطل، ولكن نفقة في طاعة اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإسراف في النفقة: هو الإنفاق فيما لا ينتفع به؛ من نحو: البحيرة

(68)

والسائبة والوصيلة التي كانوا يتركونها سدى ولا ينتفعون بها. والإقتار: هو الإمساك عن الإنفاق فيما ينتفع به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإسراف: هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له في الإنفاق: في الإكثار، والإقتار: هو المنع عن الحد الذي جعل له. (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) أي: وسطا؛ كقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) ولكن بين ذلك. وأصل (لَمْ يُسْرِفُوا)، أي: لم ينفقوا ولم يضعوا إلا فيما أمروا أن يضعوا فيه. (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) أي: قائمًا في ذلك، أخبر أن ما يفعلونه لا يفعلونه إلا بأمر، وأخبر أنهم لا يدعون مع اللَّه إلها آخر. ثم يحتمل هذا وجهين: (لَا يَدعُونَ (68) أي: لا يعبدون دون اللَّه غيره، أو: لا يسمون غير اللَّه. (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ): أخبر في الآية الأولى في قوله (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) عن معاملتهم الخلق، وصنيعهم بينهم وبين العباد؛ حيث أخبر أنهم يمشون هونًا ولا يؤذون أحدًا ولا يضرونه، وإذا أذاهم أهل الجهل والسفه لم يكافئوهم لأذاهم، ولكن احتملوا ذلك عنهم وتجاوزوا، وقالوا لهم قولا سديدًا؛ هذه معاملتهم فيما بينهم وبين الخلق بالنهار، وأخبر عن معاملتهم ودعائهم ربهم بالليل حيث قال: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) الآية. ثم أخبر عن صنيعهم في أموالهم التي في أيديهم أنهم لا يضعونها إلا فيما أمروا بالوضع فيها. وأخبر عن صفتهم وإخلاصهم لله في العبادة وكفهم عن محارم اللَّه حيث قال: (إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا)، وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ)، وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) موصول بهذا أيضًا، ومقدم عن قوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا)؛ كأنه قال: ولا يزنون ولا يشهدون الزور، ومن يفعل ذلك - أي: ما ذكر من قتل النفس المحرمة، والزنا، وشهادة الزور، والشرك - يلق أثامًا.

(72)

قَالَ بَعْضُهُمْ: أثامًا: أي: واديًا في جهنم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أثامًا: عذابًا في النار. وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يشهدون مكان الزور، وهو الغِناء، أي: لا يشهدون المكان الذي يتغنى فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يشهدون بشهادة الزور، وهو الكذب. وقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا): مرور الكرام، أي: إن قدروا على تغيير ما عاينوا من اللغو والمنكر غيروه، ومضوا على وجههم من غير أن دخل في ذلك فساد، وإن لم يقدروا مضوا، ولم يعبئوا به، ولا اشتغلوا به؛ كقوله: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ). وفي قوله: (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) دلالة نقض قول الخوارج؛ بتكفيرهم أصحاب الكبائر؛ لأنه أخبر أنها محرمة بعد ارتكابها الزنا والقتل كما هي قبل ارتكابها إلا بالحق؛ حيث قال: (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) دل أنها محرمة بعد غير كافرة. (إِلَّا بِالْحَقِّ): إما بحق القصاص، وإما بحق الزنا، واما بحق الارتداد؛ على ما ذكر في الخبر: " لا يحل قتل امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زنا بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير حق " ولو كانت كافرة بارتكاب ما ذكر لكانت غير محرمة؛

(73)

فدل أنه ما ذكرنا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإسراف: الفساد، والتقتير: التضييق، (وَلَمْ يَقْتُرُوا) أي: لم ينفقوا قليلا لا يكفي عيالهم. قال: والقوام: الوسط. ويقال: لا قوام لي في هذا الأمر، أي: لا طاقة لي فيه، ولا أقاوم هذا الأمر، أي: لا أطيقه، والقوام: القصد. قال أبو معاذ: في قوله: (وَلَمْ يَقْتُرُوا) لغات أربع: (ولم يُقْتِروا): برفع الياء وبخفض التاء غير مثقل، و (يَقْتِروا) بنصب الياء، وخفض التاء، و (يَقْتُرُوا) برفع التاء، والمعنى كله واحد. وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) قَالَ بَعْضُهُمْ: يقول: إذا ذكروا بآيات ربهم لم يصموا عن الحق ولم يعموا؛ قال: هم - واللَّه أعلم - قوم عقلوا عن اللَّه، وانتفعوا بما سمعوا من كتاب اللَّه. وقال الحسن: من يقرؤها بلسانه يخر عليها أصم وأعمى؛ كأنه يخبر أن أُولَئِكَ - أعني: أهل صفوة اللَّه وإخلاصه - لم يخروا على تلك الآيات صُمًّا ولا عميانا كالكفرة العندة، ولكن خروا عليها متذكرين ومتفقهين متيقظين، عالمين بما فيها، عاملين؛ كقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. . .) الآية. وقوله: (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا): فَإِنْ قِيلَ: أخبر هاهنا أنه يضاعف له العذاب، وقال في آية أخرى: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)، فما معنى الضعف هاهنا؟ قيل: يحتمل هذا وجهين: أحدهما: أنه يضاعف العذاب للذين تقدم ذكرهم إذا كفروا باللَّه بعدما بلغوا المبلغ

الذي وصفهم والرتبة التي ذكر، وهو قوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ) الآية: أن واحدا منهم إذا كفر يضاعف له العذاب؛ يتضاعف عذابه على قدر منزلته ومرتبته عند اللَّه، وعلى قدر نعم اللَّه عليه إذا كان منه عصيان وكفران لذلك، وهو كما قال لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ). أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات، وما ذكر - أيضًا - لأزواجه حيث قال: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)، كل من كان أعظم قدرًا وأكثر نعمًا عليه، فعقوبته إذا عصى ربه أكثر وأشد من الذي لم يبلغ ذلك ولا تلك الرتبة، فيكون ضعف غيره وجزاء مثله. والثاني: أن يكون ذلك للأئمة -أعني: الكفرة والرؤساء- دون الأتباع؛ لأنهم عملوا هم بأنفسهم ودعوا غيرهم إلى ذلك؛ كقوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ). أو أن يكون ذلك لهم العناد الذي كان منهم والمكابرة. ثم استثنى من تاب منهم، فقال: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا. . .) الآية، في الذين قال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)، فكان فيه دلالة قبول توبة المرتد إذا تاب ورجع إلى الإسلام؛ حيث استثنى من تاب منهم. وقوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ): هذا يحتمل وجهين: أحدهما: يوفقهم اللَّه إذا تابوا وندموا على ما فعلوا من السيئات في الدنيا؛ حتى يعملوا مكان كل سيئة عملوها حسنة؛ فذلك معنى تبديل اللَّه سيئاتهم حسنات، أي: يوفقهم على ذلك. والثاني: يبدل اللَّه سيئاتهم حسنات في الآخرة؛ لما كان منهم الندامة والحسرة على كل سيئة كانت منهم في الدنيا، وعلى ذلك روي عن أبي هريرة قال: " ليأتين أقوام يوم القيامة ودوا أنهم استكثروا من السيئات، فقيل له: يا أبا هريرة، ومن هم؟ قال: هم الذين يبدل اللَّه سيئاتهم حسنات "؛ وكأنه روي مثله عن عبد اللَّه بن مسعود. وقوله: (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) لا يرجع عنها أبدًا، وعلى ذلك يخرج قوله: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)، على الأمر؛ دليله قوله حيث قال: (خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) الآية. والثاني: أن يكون ذلك لقوم خاص، علم اللَّه أنهم إذا تابوا توبة لا يرجعون عنها أبدًا،

(74)

وإلا ليس كل من تاب يكون على توبته أبدًا. وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ): قد ذكرناه، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا): قد ذكرناه أيضًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا أوذوا صفحوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح أو غيره كنوا عنه. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (يَلْقَ أَثَامًا) أي: عقوبة، الآثام: العقوبة. وقوله: (مَرُّوا كِرَامًا) أي: لم يخوضوا فيه، وأكرموا أنفسهم عنهم. (صُمًّا وَعُمْيَانًا) أي: لم يتغافلوا عنها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم إذا وعظوا بالقرآن لم يخروا عليها صُمًّا وعميانًا عند تلاوة القرآن، فلا يسمعون ولا يبصرون، ولكن يخرون عليها سمعًا وبصرًا؛ وهو واحد. وقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) قد نعتهم - عَزَّ وَجَلَّ - في معاملتهم أن كيف عاملوا ربهم بالليل والنهار ونعتهم أيضًا في معاملتهم عباده أن كيف عاملوا عباده، ثم نعتهم في معاملتهم أهليهم ودعائهم لهم، فقال: يقولون: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)، فهو - واللَّه أعلم - لما أمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم النار بقوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا. . .) الآية؛ فعند ذلك دعوا ربهم، وسألوه أن يهب لهم من أزواجهم وقرباتهم ما تقر به أعينهم في الدنيا والآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اجعلهم صالحين مطيعين؛ فإن ذلك يقر أعيننا. قال الحسن: واللَّه ما شيء أَحبَّ إلى العبد المسلم من أن يرى ولده أو حميمه يطيع اللَّه، ودال: نراهم يعملون بطاعة اللَّه، فتقر بذلك أعيننا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: اجعلنا أئمة هدى وتقوى يقتدى بنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: واجعلنا بحال يقتدي بنا المتقون. وأصله - واللَّه أعلم - أنهم سألوا ربهم أن يجعلهم بحال من اقتدى بهم صار متقيًا، لا من اقتدى صار ضالا فاسقًا، هذا - واللَّه أعلم - تأويله، وإلا سؤالهم: أن اجعلنا إمامًا

(75)

للمتقين لا معنى له أن يطلبوا لأنفسهم الإمامة، ولكن على الوجه الذي ذكرنا، والله أعلم. ثم أخبر عن جزائهم في الآخرة لعملهم في الدنيا وصبرهم على ما أمروا، فقال: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) والغرفة: هي أعلى المنازل وأشرفها؛ أخبر أنهم يجزون ذلك ويكونون فيها. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا)، فجائز أن يكون الغرفة المذكورة في الآية كناية عن الجنة؛ يدل له حرف ابن مسعود. وجائز أن يراد به نفس الغرفة؛ وهو لارتفاعها وعلوها على غيرها من المنازل، وذلك مما يختار الكون فيها في بعض الأوقات في الدنيا، والناس يرغبون فيها لإشرافها وارتفاعها على غيرها؛ فرغبهم بذلك في الآخرة. وقوله: (وَيُلَقَّوْنَ) فيها بالتخفيف والتشديد، (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) أي: يلقاهم الملائكة بالتحية والسلام؛ كقوله: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ)، وقوله: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ). أو يلقى بعضهم بعضا بالتحية والسلام، ويحيي بعضهم بعضا، ويسلم بعضهم على بعض. وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا ... (76) دائمين. (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا): تأويله - واللَّه أعلم - أي: حسنت لهم الجنة مستقرا ومقاما؛ حتى لا يملوا فيها ولا يسأموا، ولا تأخذهم الوحشة والكآبة؛ كنعيم الدنيا يمل ويسأم عند الكثرة وطول المقام. وقوله: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ (77) قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ) أي: ما يعتد بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى التوحيد لتوحدوه وتطيعوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا يَعْبَأُ) أي: ما يصنع بكم ربي. وتأويله - واللَّه أعلم - أي: ما يصنع ربي بعذابكم إن شكرتم وآمنتم. وقوله: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا): اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ:

هو عذاب يوم بدر -يعني: ألزم بعضهم بعضا- وكذلك قال ابن مسعود قال: " مضت آية الدخان والبطشة واللزام يوم بدر "، وقال: لزامًا، أي: عذابًا ملازمًا غير مفارق، وهو عذاب الآخرة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي) أي: ما يصنع، يقال: عبأ يعبأ عبئا؛ فهو عابئ إذا احتاج إليكم، ويقال: " ما أعبأ بهذا الأمر " أي: ما أصنع به، ويقال: عبأت بفلان، أي: احتجت إليه؛ وكذلك قول الْقُتَبِيّ، واللَّه أعلم. * * *

سورة الشعراء

سُورَةُ الشُّعَرَاءِ وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (طسم) قد ذكرنا تأويل الحروف المعجمة فيما تقدم؛ وكذلك قوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) قد ذكرنا تأويله، أيضًا. وقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) كان يشتد على رسول اللَّه تركهم الإيمان وتكذيبهم إياه؛ إشفاقًا وخوفًا عليهم، وتعظيمًا لله وإجلالا لحقه، حتى كادت نفسه تهلك حزنًا على ذلك؛ وكقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) والأسف: هو النهاية في الحزن؛ كقول يعقوب: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأسف: هو النهاية في الغضب؛ كقوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)، قيل: أغضبونا، وقد ذكرنا في سورة يوسف على ما ذكر الله ورسوله ووصفه كان مطبوبًا بحزن وتأسف لمكان كفرهم وتكذيبهم؛ كقوله: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ. . .) الآية، يحزن عليهم إشفاقًا عليهم، ويغضب عليهم لله تعظيمًا له وإجلالا لأمره لما ضيعوا أمره ونهيه، وهكذا الواجب على كل من رأى آخر في فاحشة أو كبيرة أن يحزن ويترحم عليه ويغضب لله لما ارتكب من الفاحشة. وقوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) قالت المعتزلة: قوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً) مشيئة قسر وقهر حتى يضطروا لها فيؤمنوا. لكن عندنا مشيئة الإيمان والاختيار، أي: إن شاء إيمانهم ينزل عليهم آية فيؤمنوا؛ لأن الآية لا تضطر أحدًا ولا تقهر على الإيمان، دليله قوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى) الآية، أخبر أنهم لا يؤمنون وإن فعل ما ذكر، ولا يضطرهم ذلك على الإيمان؛ وكذلك ما أخبر عنهم في الآخرة، قال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ. . .) الآية. وقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ. . .) الآية، أخبر عن خلفهم وإنكارهم في

(5)

الآخرة: أنهم لم يكونوا على ما كانوا، ولا تكون آية أعظم مما عاينوا من أنواع العذاب، ثم لم يمنعهم ذلك عن التكذيب، ولا اضطرهم على الإقرار والتصديق؛ دل أن الآية وإن كانت عظيمة لا تضطر أهلها على الإيمان والتصديق، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم ما يغنينا عن ذكرها في هذا الموضع. وقوله: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) أي: مالت وخضعت لها أعناقهم، والأعناق كأنها كناية عن أنفسهم. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) قال: سيكون لنا دولة على بني أمية، فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة وهوانا بعد عزة، فقد كان ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأعناق: السادة والقادة، والواحد عنق، أي: إذا أسلم القادة أسلم الأتباع اتباعًا لهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) قَالَ بَعْضُهُمْ: يقول: كلما نزل شيء بعد شيء من الموعظة والذكر فهو محدث من الأزل. وجائز أن يكون قوله: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) مما به فيه ذكرهم في الآخرين وشرفهم في الخلق إلا كانوا عنه معرضين؛ لأنهم لو آمنوا لذكروا في الناس، وبقي لهم ذكر وشرف كذكر الأنبياء والرسل فيهم إلى آخر الدهر. وقوله: (مُحْدَثٍ) هو محدث على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما. قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ) كما تقول: ظللت اليوم، قالا: والأعناق: السادة والواحد منه: عنق. وقوله: (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (6) هي ظاهرة؛ قد ذكرنا تأويله فيما تقدم. وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: قد رأوا ما أنبتنا وأخرجنا منها. والثاني: على الأمر، أي: رأوا ما أنبتنا في الأرض، وأخرجنا منها. (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ): قال الحسن: الكريم: الحسن البهيج. وقوله: (مِنْ كُلِّ

(8)

زَوْجٍ) أي: جنس حسن. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ... (8) يحتمل قوله: (لَآيَةً) لوحدانية اللَّه وألوهيته، وآية لسلطانه وقدرته، وآية لعلمه وتدبيره؛ لأن من قدر على إحياء النبات والأرض بعد ما يبس وجف لقادر على إحياء الموتى وبعثهم. ودل إخراج النبات من الأرض في كل عام على حد واحد، وعلى قدر وميزان واحد، على أنه إنما خرج ذلك عن تدبير وعلم ذاتي وقدرة ذاتية، ليست بمستفادة؛ فدل ذلك كله أنه فعل واحد قادر مدبّر عالم، لا يعجزه شيء أو لا يخفى عليه شيء، واللَّه الموفق. وقوله: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ): يحتمل قوله: وما كان أكثر الذين بعث إليهم محمد مؤمنين، وهم الذين كانوا وقت مبعثه. وجائز أن يكون: وما أكثر ما يكونوا مؤمنين. وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) جائز أن يقال: العزيز: المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه. ويحتمل: العزيز على الخلائق كلهم، وهم أذلاء دونه، به يعز من عز. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) وقوله: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى) أي: أمر ربك موسى وأوحى. (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ): فيه دلالة أن موسى - صلوات اللَّه عليه - كان مبعوثًا مرسلا إلى فرعون وقومه، وإن كان لم يذكر في بعض الآيات قومه حيث قال: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)، وقال في بعضها: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ)؛ فهذا لأنهم كانوا الرؤساء والقادة، فإذا آمنوا هم اتبعهم الأتباع في ذلك، وإلا كان مبعوثًا في الحقيقة رسولا إليه وإلى قومه جميعًا الأتباع والمتبوعين لما ذكر. وقوله: (قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) كأنه على الإضمار: أن ائت القوم الظالمين، وقل لهم: ألا تتقون. ثم قوله: (أَلَا يَتَّقُونَ) يحتمل وجهين: أحدهما: ألا تتقون مخالفة أمر اللَّه ونهيه. أو يقول: ألا تتقون نقمة اللَّه وعقوبته، واللَّه أعلم.

(12)

وقوله: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) لم يقطع موسى القول في التكذيب، ولكنه على الرجاء قال ذلك، وذلك - واللَّه أعلم - كقوله: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، فكأنه رجا ذلك منه لهذا، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون على القطع والعلم منه بالتكذيب؛ كأنه قال: إني أعلم أن يكذبون، وذلك جائز في اللغة. وقوله: (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) لأن عليه أن يغضب لله إذا كذبوه، فإذا اشتد بالمرء الغضب ضاق صدره وكَلَّ لسانه، وهو ما دعا ربه وساله حيث قال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي) الآية، وهو ما ذكرنا أن الغضب إذا اشتد بالمرء يضيق صدره حتى يمنعه عن الفهم، ويكل لسانه حتى يمنعه عن العبارة والبيان. وجائز أن يكون ذلك لآفة كانت بلسانه. ثم ضيق الصدر يكون لوجهين: أحدهما: لعظيم أمر اللَّه وجلال قدره إذا كذبوه وردوا رسالته وأمره - ضاق لذلك صدره. أو يضيق لما ينزل عليهم من عذاب اللَّه ونقمته بالتكذيب؛ إشفاقًا عليهم منه، والله أعلم. وقوله: (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قوله: (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) لسؤاله إياه حيث قال: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)؛ فعلى ذلك قوله: (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) يكون معي في الرسالة؛ وكقوله: (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا. . .) الآية. وذنبه الذي ذكر أنه عليه: هو قتل ذلك القبطي وهو قوله: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ)، ذلك ذنبه الذي لهم عليه. ثم قال: (كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) وقوله: (كَلَّا) رد على قول موسى: (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)؛ كأنه قال: لا تخف، وهو ما قال في آية أخرى حيث قالا: (إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى)، فقال عند ذلك (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)؛ فعلى ذلك قوله: (كَلَّا فَاذْهَبَا

(16)

بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ)، وقال في تلك الآية: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، أي: أسمع ما يقولون لكما، وأرى ما يفعلون بكم، فأمنعهم عنكما؛ لأنهما ذكرا الخوف منه من شيئين: من الفعل والقول حيث قالا: (إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا): بالفعل، (أَوْ أَنْ يَطْغَى) باللسان. وقوله تعالى: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قوله: (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) ليس على حقيقة الإرسال معه، ولكن على ترك استعبادهم؛ كقوله: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ) أي: خل بينهم وبين استخدامك إياهم واستعبادك، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) ثم قال له فرعون: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ): يذكر نعمته التي أنعمها عايه بتربيته إياه صغيرًا، وكونه فيهم دهرا، وكفران موسى لما أنعم عليه وهو ما قال: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) وهو قتل ذلك القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، فأقرَّ له موسى بذلك، فأخبر أنه فعل ذلك حيث قال: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) وقوله: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي: فعلت ذلك وأنا كنت من الجاهلين، لا يعلم أن وكزته تلك تقتله، وإلا لو علم ما وكزه؛ لأنه لم يكن يحل له قتله حيث قال: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)؛ دل ذلك منه أنه كان لم يحل قتله إلا أنه جرى

(21)

ذلك على يده خطأ وجهلا. وفيه دلالة أن الرجل قد ينهى ويؤاخذ بما يجري على يده خطأ وجهلا، ويخاطب بذلك حيث قال: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ). ثم قال: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ... (21) وهو حين قال ذلك الرجل: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) الآية، فخرج منها خائفًا يترقب، وذلك فراره منهم. وقوله: (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا) أي: نبوة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حكما، أي: منَّ عليَّ بالحكم وجعلني من المرسلين، وقد كان ذلك له كله. وقوله: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) وهو استعبادك إياهم، أي: إذا ذكرت هذا فاذكر ذاك، هذا يحتمل وجوهًا. أحدها: أن تذكر ما أنعمت عليَّ وتمنها، ولا تذكر مساوئك ببني إسرائيل، وهو استعبادك إياهم، أي: إذا ذكرت هذا فاذكر ذاك. والثاني: أن تلك نعمة تمنها عليَّ حيث لم تعبدني وعبَّدت بني إسرائيل، يخرج على قبول المنة منه. والثالث: وتلك نعمة لو خليت عن بني إسرائيل ولم تستعبدهم لولوا ذلك عنك، وتمام هذا يقول موسى لفرعون: أتمن عليَّ يا فرعون بأن اتخذت بني إسرائيل عبيدًا، وكانوا أحرارا فقهرتهم؟! وقال موسى: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي: من الجاهلين بذلك أنه يتولد من وكزته الموت؛ وكذلك روي في بعض الحروف: (وأنا من الجاهلين)؛ دل أنه على الجهل ما فعل ذلك لا على القصد. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ) يقول: وهذه منة تمنها بقوله: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) أن يقول: تمن بها عليَّ أن تستعبد بني إسرائيل، وتمن عليَّ بذلك. ثم قال فرعون لموسى: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) فقال له: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا (24) من خلق، (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)، ثم قال لمن حوله: (أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)

(26)

إنما قال اللعين هذا - واللَّه أعلم - لما وقع عنده أن موسى حاد عن جواب ما سأله؛ لأنه إنما له سأله عن ماهيته فهو إنما أجابه عن قهره وربوريته؛ فظن أنه حائد عن جواب ما سأله؛ وكذلك قال لقومه: (أَلَا تَسْتَمِعُونَ) إلى ما يقول موسى؛ تعجبًا منه أني أسأله عن شيء وهو يجيبني عن شيء آخر. ثم قال موسى: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) فقال عند ذلك. (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) نسبه إلى الجنون لما ذكرنا أنه ظن أنه حائد عن الجواب في كل ما ذكر، إنما كان السؤال منه عن الماهية، وهو لم يجبه عنها، فعند ذلك قال موسى: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) لم يجبه موسى في كل ما ذكر عن الماهية، ولكن أجابه في الأول في بيان ربوريته وألوهيته حيث قال: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ذلك، فعرف اللعين أنه ليس هو رب السموات والأرض لما يعلم أن لا صنع له في ذلك، وأنه لم ينشئهما ولكن أنشأهما رب العالمين على ما ذكر موسى، لكن كأنه لم يعرف حدوثهما ولا فناءهما بما ذكر له موسى؛ لما لم يشاهد حدوثهما وفناءهما، فلم يتقرر ذلك عنده لما يقع عنده أنهما كذلك كانا ويكونان أبدًا، فعند ذلك احتاج إلى أن ذكر له ما يشاهد حدوثهما وفناءهما وهو ما قال: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)، ذكر له ما شاهد حدوثه وفناءه، فإذا عرف حدوث ما ذكر وفناءه يعرف أنه إذًا لم يكن بنفسه ولا كان نفسه، ولكن بمحدث أحدثه وبمدبر دبره. ثم قال: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا): ذكر هاهنا قدرته وسلطانه، وهو ما يأتي بالنهار من المشرق، وبالليل من المغرب، ويطلع الشمس من المشرق، ويغربها من المغرب؛ وكذلك القمر والنجوم، ففيه دلالة البعث؛ لأن من قدر على أن يأتي بالنهار من كذا، وبالليل من ناحية كذا، والشَّمس والقمر من كذا - قادر على البعث، لا يعجزه شيء؛ ففي كل حرف من هذه الأحرف دلالة واستدلال على شيء ليس ذلك في الأخرى. وفي قوله: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) دلالة ربوبية اللَّه وألوهيته. وفي قوله: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) دلالة حدوث ما ذكر وفنائه، ودلالة محدث ومدبر. وفي قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) دلالة قدرته وسلطانه على البعث على الوجه الذي ذكرنا. وفي ذلك دلالة أن اللَّه تعالى لا يعرف بالماهية ولا بما يحس، ولكنه إنما يعرف من جهة الاستدلال بخلقه، وبالآيات التي تدل على وحدانيته، حيث سأل فرعون موسى عن

(29)

الماهية، فأجاب على الاستدلال بخلقه. ثم قال اللعين: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أوعده السجن ولم يوعده القتل؛ لأنه طلب منه الحجة على ما ادعى من الرسالة حيث قال: (قَالَ فَأْتِ بِهِ ... (31) ولو قتله لكان لا يقدر على إتيانها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن كان سجنه أشد من القتل ومن كل عقوبة. فقال له موسى: (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي: ما يبين ربوبية اللَّه وألوهيته أو ما يبين أني رسول اللَّه، فقال له فرعون: (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) بالرسالة، وبما ادعيت، فدل قول فرعون لموسى حيث قال له: (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أنه قد عرف أنه رسول، وأنه ليس بإله على ما ادعى، وأن الإله غيره حيث طلب هذه الآية. وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) بالآيات التي تدل على وحدانية اللَّه تعالى ومشيئته، ذكر هذا مقابل إنكارهم الصانع. والإيقان: هو العلم الذي يستفاد من جهة الاستدلال؛ ولذلك لا يقال لله. موقن. وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ): صلة قوله: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ). وقوله: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) قَالَ بَعْضُهُمْ: الثعبان: هو الكبيرة العظيمة من الحيات. وقال في موضع آخر: (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ)، وقال في موضع آخر: (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)، فجائز أن تكون كالثعبان بعد ما طرحها وألقاها، وقبل أن يطرحها كالجان وهي الحية الصغيرة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) بياضا خارجًا عن خلقة البشرية، وخارجًا عن الآفة على ما ذكر في آية أخرى: (مِنْ غيرِ سُوءٍ). وقوله: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) هذا منه إغراء وتحريش منه لقومه على موسى؛ لئلا ينظروا إليه بعين التعظيم؛ لعظيم ما أتاهم من الآية وأراهم، حيث قال: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ)، وموسى كان لم يرد إخراجهم من أرضهم، ولكن ذلك إغراء منه لهم عليه؛ لئلا يتبعوه؛ كأنه يقول: يريد أن

(36)

يخرجكم من أرضكم فيفسد عليكم معاشكم، ويضيق عليكم مقامكم ومتقلبكم. وقوله: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ): هذا يبين أنه كان عرف أنه ليس بإله، فبين دناءته وقلة معرفته؛ لأنه لا يقول ملك من الملوك لقومه: ماذا تأمرون، وخاصة من يدعي لنفسه الألوهية بقوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)؛ فدل أنه كان خسيس الهمة في الرأي والبال. * * * قوله تعالى: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وقوله (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ): احبسه وأخره، (وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ): الحاشر: الجامع، والحشر: الجمع، (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37). وكان يجب أن يعرف أن السحر يقابل بسحر مثله، ولا يحتاج إلى أن يسأل قومه ذلك، لكنه كان اللعين ما ذكرنا من قلة البصر في الأمر وخساسة الهمة ودناءة الرأي. وقوله (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) قال اللعين: نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، ولم يقل: نتبعهم إن كانت معهم الحجة؛ ليعلم أنه قد علم وعرف أن لا حجة معهم، وأن الحجة مع موسى حيث وعد اتباع الغالبين دون من معهم الحجة. وفي حرف ابن مسعود: (قال للناس هل أنتم مستمعون إلى السحرة أنهم يتغالبون لعلنا نتبع منهم الغالبين). وقوله: (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) هذا ظاهر، لكن أهل التأويل قالوا: كان السحرة كذا كذا عددا، وأن موسى

(43)

قال لأكبرهم ساحرًا: أتؤمن بي إن غلبتك، وقال الساحر كذا، وغير ذلك من الكلام مما ليس ذلك في الكتاب ذكره، وليس ينبغي لهم أن يشتغلوا بشيء من ذلك، أو أن يتأولوا شيئًا ليس في القرآن لما يدخل في ذلك من الزيادة والنقصان؛ فيكون للكفرة مقال في ذلك وطعن في رسالة رسول اللَّه؛ لأن هذه الأنباء كانت في كتبهم، فذكرت لرسول اللَّه لتكون آية له في الرسالة، فإن زادوا أو نقصوا يقولون: هذا كذب لم يذكر في كتابنا ذلك؛ فلهذا الوجه ما ينبغي لهم أن يزيدوا على ما ذكر في الكتاب أو ينقصوا؛ لئلا يجد أُولَئِكَ مقالا في تكذيب رسول اللَّه. وقوله: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَإِنْ قِيلَ: كيف قال موسى لأُولَئِكَ السحرة: ألقوا، وهو يعلم أن ما يلقون هو سحر، فكيف أمرهم بالسحر؟! قيل: هذا وإن كان في الظاهر أمرا فهو في الحقيقة ليس بأمر، إنما هو تهدد وتوعد، أي: ألقوا لتروا عجزكم وضعفكم، وذلك في القرآن ظاهره أمر، وهو في الحقيقة توعد؛ كقوله لإبليس: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ. . .) الآية، لا يخرج على الأمر، ولكن على التوعد والتهدد، أي: وإن فعلت ذلك فلا سلطان لك عليهم؛ كقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، وقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ). والثاني: أمرهم بذلك؛ ليظهر كذبهم ويتبين صدقه وحجته؛ إذ بذلك يظهر. أو قال لهم ذلك لما كان ذلك سبب إيمان أُولَئِكَ السحرة، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) هذا يدل أن السحرة كانوا يعبدون فرعون حيث قالوا: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ)، وقد علموا عجز فرعون وضعفه؛ حيث فزع إليهم وقال: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ). وقوله: (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلَقَّفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) وقد قرئ: (تَلْقَفُ) بالتخفيف. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: تقول: تلقفت الشيء والتقفته، أي: أخذته، وقال غيره: تلقف، أي: تلقم؛ وهو واحد. وقوله: (يَأْفِكُونَ): وهو الفاعل بمعنى المفعود، أي: مأفوك، وذلك جائز في اللغة وأمثاله كثير؛ كقوله: (فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ). وقوله: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) أخبر لسرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا لما بانَ لهم من الحق وظهر، فقالوا: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)

(48)

قال أهدٍ التأويل: إن فرعون قال عند ذلك: أنا رب العالمين، فقالت السحرة: (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) لكن الامتناع عن هذا وأمثاله مما لم يذكر في الكتاب أولى؛ لما ذكرنا أنه إنما يحتج عليهم بهذه الأنباء على تصديقٍ من أهل الكتاب له في ذلك، لما هي مذكورة في كتبهم، فيخاف الزيادة والنقصان فيكذبون في ذلك، فيذكر القدر الذي في الكتاب؛ لئلا يدخل فيه الزيادة والنقصان فيفرق به ويكذب، إلا ما ظهر عن رسول اللَّه القول به فيقال، وإلا الامتناع والكف أولى. ثم قال فرعون: (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) إن فرعون قد علم أن ما جاء به موسى هو حجة، لكنه كان يلبس على قومه وأصحابه ويغريهم عليه، فقال مرة: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)، وقال: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)، وقال مرة: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)، وقال: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ. . .) الآية. ثم أوعد لهم بوعائد فقال: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)، فقالوا هم: (لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) أي: إنا إلى ثواب ربنا الذي وعد لنا لراجعون، لا يضرنا ما توعدنا به. قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: لَا ضَيْرَ: هو من ضاره يضوره ويضيره بمعنى: ضره، وقد قرئ: (وإن تصبروا وتتقوا لا يَضِرْكُم كيدهم شيئا) بالتخفيف بمعنى: لا يضركم. فقالوا: (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: أن كنا أول أهل مصر إيمانًا. وجائز: أن كنا أوّل المؤمنين للحال. وقال بعض أهل التأويل: إن فرعون قد فعل بهم ما أوعد من قطع الأيدي والأرجل والصلب، لكن ليس في الآية بيان حلول ما أوعد بهم؛ فلا نقول به مخافة الكذب. * * * قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ

(52)

اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) السرى: سير الليل، وهو ما قال في آية أخرى: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)، أي: يتبعكم فرعون وقومه. وقوله: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) أي: أرسل في المدائن من يحشر الجنود والعساكر. وقالوا: (إِنَّ هَؤُلَاءِ ... (54) يعنون: أصحاب موسى (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الشرذمة: الجماعة العصابة، أي: عصابة قليلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) أي: طائفة قليلة. (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) في الحلي الذي استعاروه منا، أي: ذهبوا به، مغايظة لنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ) بما فعلنا بهم من قتل أولادهم، واستحيائهم نساءهم، ورجالهم يفعلون بنا ما فعلنا بهم إن ظفروا. وقوله: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) وحذرون: قَالَ بَعْضُهُمْ: من الحذر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) أي: مؤدون، أي: مقوون، أي: معنا أداة أصحاب الحرب، والمقوي: الذي دابته قوية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حَاذِرُونَ)، أي: مستعدون للحرب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حَاذِرُونَ) لما حدث لهم من الخوف، والحذر للحال حذر المعاودة، أي: حذروا أن يعودوا إليهم، وحذرون أي: كنا لم نزل منهم على حذر. وقال أبو معاذ: حاذرون: مؤدون من الأداة، أي: تام السلاح. وفي خروج موسى ببني إسرائيل مع كثرتهم على ما ذكر أنهم كانوا ستمائة ألف فصاعدًا من غير أن علم القبط بذلك - آية عظيمة؛ إذ لا يقدر نفر الخروج من محلة أو ناحية إلا ويعلم أهلها بخروجهم، ففي ذلك كان آية عظيمة؛ حيث خرجوا من بينهم من غير أن علم أحد منهم بذلك.

(57)

وقوله: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) يعني: فرعون وقومه، (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) أي: حسن، (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) أي: تبع فرعون وقومه حين شرقت الشمس أي: طلعت - ومشرقين أي: كانوا في الشمس، أي: قوم موسى صاروا في الشمس، يقال: أشرقنا إذا صاروا فيها. وقوله: (فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ (61) جمع موسى وجمع فرعون، أي: إذا تراءى بعضهم بعضا، (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) قال موسى (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) كان قوم موسى لم يعلموا بالبشارة التي بشرها اللَّه موسى أنهم لا يدركون، وهو ما قال: (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى) أي: لا تخاف دركهم ولا تخشى فرعون وقومه؛ لذلك قالوا: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) وكانت البشارة لهم لا لموسى خاصة، يدل لذلك قول موسى: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) ءلمى أثر قولهم: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي: كلا إنهم لا يدركونكم. وقوله: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ (63) أي: انشق؛ وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود: (فانشق). (فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي: كالجبل العظيم، والطَوْد والطور واحد، وأطواد جماعة. وقوله: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) قال الحسن: أزلفنا، أي: أهلكنا ثم الآخرين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جمعنا، ومنه قيل: ليلة المزدلفة، أي: ليلة الازدلاف وهو الاجتماع؛ وكذلك قيل للموضع: جمع. فإن كان التأويل هذا ففيه دلالة أن لله في فعل العباد صنعًا وتدبيرًا؛ لأنه أضاف الجمع إليه، وهم إنما كانوا خرجوا للمعصية؛ فدل ذلك أنه على ما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي: أدنيناهم وقربناهم، ومنه زلفك اللَّه، أي: قربك اللَّه، ويقال: أزلفني كذا عند فلان، أي: قربني منه، والزلف: المنازل، والمراقي؛ لأنها تدنو بالمسافر، ومنه: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ)، أي: أدنيت وقربت؛ وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ. وقوله: (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) الآية ظاهرة. وقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ... (67) أي: في هلاك فرعون وقومه، وإنجاء موسى ومن معه متعظ ومزجر لمن بعدهم؛ حيث رأوا أنه أهلك الأعداء، وأبقى الأولياء.

(68)

وقوله: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ): هذا يحتمل وجوهًا: قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يكن أكثر أهل مصر بمصدقين بتوحيد اللَّه؛ إذ لو كان أكثرهم مؤمنين لم يعذبوا في الدنيا، ولكن غير هذا كأنه أشبه، أي: لو لم يهلكهم اللَّه تعالى، ولكن أبقاهم لم يؤمن أكثرهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ) من بني إسرائيل (مُؤْمِنِينَ) أي: لم يدم أكثرهم على الإيمان، بل ارتد أكثرهم من بعد ما أنجاهم حيث قالوا لموسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) المنتقم من فرعون. وقوله: (الرَّحِيمُ): بموسى ومن معه من المؤمنين، هذا في هذا الموضع يستقيم أن يصرف تأويل العزيز إلى الأعداء، والرحيم إلى الأولياء، كل حرف من ذلك إلى الفريق الذي يستوجب ذلك: الرحمة إلى المؤمنين، والنقمة إلى الأعداء. * * * قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ): أي: اتل على أهل مكة نبأ إبراهيم وخبره؛ لأنهم كانوا من أولاد إبراهيم ومن نسله، وهم يقلدون آباءهم في عبادتهم الأصنام، وإبراهيم وبعض أولاده: إسماعيل وإسحاق وهَؤُلَاءِ كانوا مسلمين، عباد رب العالمين لا عباد الأصنام، فهل اتبعوا إبراهيم ومن كان معه على دينه من آبائهم، دون أن اتبعوا من عبد الأصنام يسفه أحلامهم في عبادتهم الأصنام وتقليدهم أُولَئِكَ الذين عبدوا من آبائهم الأصنام، وتركهم تقليد من لم يعبدها وعبد اللَّه. ثم قول إبراهيم حيث قال لأبيه وقومه: (مَا تَعْبُدُونَ (70) يحتمل قوله: (مَا تَعْبُدُونَ) على ما ذكر في آية أخرى: (مَاذَا تَعْبُدُونَ).

(71)

ويحتمل، (مَا تَعْبُدُونَ) أي: من تعبدون؟ فقالوا: (نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) أي: نقيم عاعابدين، أي: نديم على عبادتها، والعكوف على الشيء: هو الإقامة عليه والدوام. قال أبو معاذ النحوي: " ظَلَّ " لا يقال إلا بالنهار، ومحال أن يقال: ظل ليله يصنع كذا، حتى يقول: بات ليله، ومنه الحديث: " ظل نهاره صائمًا، وبات ليله قائمًا ". ثم قال، يبين سفههم: (يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) يحتمل قوله: (يَسْمَعُونَكُمْ) أي: هل يجيبونكم إذ تدعونهم. ويحتمل: هل يسمعونكم على السماع نفسه، أي: هل يسمعون دعاءكم إذ تدعونهم؛ كقوله: (إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ) الآية. وقوله: (إِذْ تَدْعُونَ): يحتمل تعبدون، ويحتمل الدعاء نفسه، وإن كان على العادة فلا يحتمل تأويل السماع. وقوله: (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) وهل يقدرون على نفعكم وضركم إن أرادوا ذلك بكم وشاءوا. أو أن يكون ما ذكر أهل التأويل: هل ينفعونكم إن عبدتموها وأطعتموها، أو يضرونكم إن عصيتموها وتركتم عبادتها، فبهتوا ولم يقدروا على الجواب له سوى ما ذكروا من تقليد آبائهم في ذلك فقالوا: (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) لما عرفوا أن تلك التي عبدوها لا تملك ضرا ولا نفعًا، لكنهم عبدوها تقليدًا لأبائهم؛ لما وقع عندهم أن آباءهم ما عبدوها إلا بأمر، إذ لو لم يكن ذلك بأمر ما تركوا، لكن قد ذكر أن في آبائهم من لم يعبدها قط، ثم لم يقلدوهم فكيف قلدوا أُولَئِكَ؟! دل أن الاعتلال فاسد. وقوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) ثم قال: إنهم وآباءهم الذين عبدوا الأصنام من قبل عدو له [(إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)] استثنى رب العالمين، يقول: هم عدو لي وأنا بريء منهم، إلا أن يكون فيهم من يعبد رب العالمين، فيكون على الإضمار،

(78)

أي: فإنهم جميعًا عدو لي إلا مَن عَبَدَ رب العالمين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يقول: إن العابد والمعبود كلهم عدو لي إلا رب العالمين، أي: إلا المعبود بالحقيفة الذي يستحق العبادة، فإنه وليي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس على الاستثناء، ولكن على الابتداء؛ كأنه قال: أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي، ولكن ربي: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) ذكر هذا لهم أن الإله المستحق للعبادة هو هذا الذي يصنع هذا، وهو المالك للنفع ودفع الضر، لا الأصنام التي عبدتم أنتم وآباؤكم. وقوله: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا (83) قَالَ بَعْضُهُمْ: فهما وعلما، وجائز أن يكون إبراهيم سأل ربه الإبقاء على الحكم؛ إذ كان قد أعطاه العلم والحكم؛ كقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). أو سأل الزيادة على ما أعطاه؛ كقوله: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا). ويحتمل أن يكون سأل ربه قبول حكمه في الخلق، ورفع الحرج له عن قلوبهم على ما ذكر في حكم رسول اللَّه؛ حيث قال: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ. . .) الآية. وقوله: (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي: توفني على ما توفيت الصالحين حتى ألحق بهم، هذا - واللَّه أعلم - يعني: آله؛ الإلحاق بالصالحين: أن يتوفاه على الذي توفي أُولَئِكَ - وهو الإسلام - ليلحق بهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) أي: اجعل لي الثناء الحسن في الناس، وكذلك إبراهيم - صلوات اللَّه عليه - جميع أهل الأديان على اختلافهم قد انقادوا له وانتسبوا إليه، وادعوا أنهم على دينه، وأن دينه هو الذي هم عليه ليس من أهل ملة إلا وهم يتولونه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) أي: اجعلني باقيا من بعد موتي في جنة النعيم؛ إذ الوارث هو الباقي عن الموروث؛ وكذلك تأويل قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)، أي: نبقى بعد فناء أهلها؛ إذ الوارث هو الباقي؛ فعلى ذلك قول إبراهيم: اجعلني من الباقين في جنة النعيم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) لا يحتمل أن يكون استغفار إبراهيم لأبيه -

(87)

واللَّه أعلم - على ما ذكر في ظاهر الآية: واغفر لأبي فإنه من الضالين؛ لأنه لا يجوز له أن يدعو له وهو كذلك، لكن كان من إبراهيم الاستغفار له، فأخبر اللَّه له أنه من الضالين؛ فيكون هذا الثاني إخبارا من اللَّه لإبراهيم أنه من الضالين، والأول قول إبراهيم. وكذلك قال بعض أهل التأويل في قصة بلقيس حيث قال: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً)، فصدقها اللَّه تعالى في مقالتها وقال: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)، يجعلون قوله: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) تصديقًا من اللَّه لقول تلك المرأة، [وأمثال] ذلك كثير في القرآن، يكون بعضه مفصولا من بعض كقوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ)؛ قوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) مفصول من قوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ)، لا وصل بينهما؛ فعلى ذلك دعاء إبراهيم يحتمل أن يكون قوله: (وَاغْفِرْ لِأَبِي) مفصولا من قوله: (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ)، هذا جائز أن يكون إخبارًا من اللَّه لإبراهيم حين دعا له بالمغفر أنه من الضالين. وجائز أن يكون قوله: (وَاغْفِرْ لِأَبِي) أي: أعط له ما به تغفر خطاياه وهو التوحيد؛ فيكون سؤاله سؤال التوحيد له والتوفيق على ذلك، وبه يغفر ما يغفر من الخطايا؛ كقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). وعلى ذلك يخرج دعاء هود لقومه حيث أمرهم أن يستغفروا ربهم، وهو قوله: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)، (وَأَسْلِمُوا لَهُ)، طلب منهم ابتداء الإسلام؛ إذ لا يحتمل أن يقول لهم: قولوا: نستغفر اللَّه، ولكن أمرهم أن يأتوا ما به يغفر لهم وهو التوحيد؛ وكذلك قول نوح: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا). وقول أهل التأويل: " إن إبراهيم كذب ثلاثا " كلام لا معنى له، لا يحتمل أن يكون الله يختاره ويجعل رسالته في الذي يكذب بحال. وقوله: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) قال أهل التأويل: (وَلَا تُخْزِنِي) أي: لا تعذبني يوم يبعثون، وكأن الإخزاء هو العذاب الذي يهتك الستر على صاحبه، فسأله ألا يهتك الستر عليه؛ لما خاف أن كان منه ما يهتك الستر عليه، فسأل ربه ذلك؛ إذ العصمة لا ترفع عن أصحابها الخوف، بل كلما عظمت العصمة كان الخوف أشد؛ لأن الأنبياء - صلوات الله عليهم - كان خوفهم أشدّ على دينهم وأنفسهم من غيرهم، ثم الأمثل فالأمثل، هم كذلك أشذ خوفًا ممن هو دونهم؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم حيث قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، وقال يوسف: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)

(88)

ومثله كثير. وقوله: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) لا ينفع ويضر لا يكون في نفي النفع دفع الضر؛ وكقوله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ)؛ وكقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ)؛ وكذلك قوله: (لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، وقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ). وقوله: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ)، وقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، وفي ظاهر ما استثنى من الآية دلالة أنه ينفع المال والبنون إذا أتوا بقلب سليم، حيث قال: (لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). ويشبه أن يكون كذلك ينفعهم مالهم وأولادهم إذا أتوا ربهم بقلوب سليمة؛ لما استعملوا أموالهم في الطاعات وأنواع القرب، وعلموا الأولاد الآداب الصالحة والأخلاق الحسنة، فينفعهم ذلك يومئذ؛ كقوله: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا)، أخبر أنهم إذا آمنوا وتابوا تقربهم أموالهم وأولادهم عنده. وجائز أن يكون على غير ذلك، أي: لا ينفع مال ولا بنون، وإنما ينفع من أتى ربه بقلب سليم. والقلب السليم: هو السالم عن الشرك، أو السليم عن الآفات والذنوب، والخالص لربه لا يجعل لغيره فيه حقا ولا نصيبا. وشرط فيه إيتاءه ربه ما ذكر؛ ليعلم أنه ما لم يقبض على السلامة والتوحيد لا ينفعه ما كان منه من قبل من الطاعات، إذا لم يقبض على التوحيد؛ وكذلك ذكر في الحسنات الإتيان فقال: من جاء بالحسنة فله كذا، ولم يقل: من عمل بالحسنة، وهو ما ذكرنا أن يخرج من الدنيا على التوحيد، ولا يفسد ما عمل من الحسنات، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) وقوله: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ)، وذكر في حرف ابن مسعود

(92)

وأبي: (وقربت الجحيم الضالين) وفي هذه القراءة الظاهرة: (بُرِّزَتِ): أظهِرَتْ. وقوله: (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ ... (93) في الدنيا، أي: ثم يقال لهم: أين ما كنتم تعبدون من دون اللَّه في الدنيا، هل ينصرونكم ويمنعونكم من عذاب اللَّه، أو ينتصرون هم من العذاب؟! لأنهم يطرحون جميعًا العابد والمعبود في النار؛ كقوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)، وإنما قالوا ذلك لهم؛ لأنهم كانوا يقولون في الدنيا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، فيقال لهم مقابل ذلك في الآخرة: (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) الآية. وقوله: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) قال الزجاج: هو من كب، أي: كبوا، لكن ذكر كبكبوا على التكرار والإعادة مرة بعد مرة، أي: يكبون لم يزل عملهم ذلك، أو كلام نحو هذا. وقال القتبي: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا): ألقوا على رءوسهم، وقذفوا. وأصل الحرف كبوا، من ذلك كببت الإناء، فأبدلت مكان الباء الكاف، وهو الطرح والإلقاء على الوجوه؛ يقال: كبكبتهم أي: طرحتهم في النار أو في البئر، هو من قوله: (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ). (وَالْغَاوُونَ): قيل: الضالون، يقال: غوى يغوى غيا وغواية فهو غاوٍ، أي: ضل؛ وهو قول أبيءوسجة والْقُتَبِيّ. وقال ألي ومعاذ: (فَكُبْكِبُوا): أصله: كبوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جمعوا فيها: (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالْغَاوُونَ) هم الشياطين، (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ): ذريته، أي: الشياطين الذين أضلوا بني آدم؛ وهو قول قتادة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالْغَاوُونَ): هم كفار الجن، (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) هم الشياطين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالْغَاوُونَ): هم الأئمة من الكفار، (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ): سائر الكفار أتباعهم وذريتهم، واللَّه أعلم.

(96)

وقوله: (قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) ذكر أنهم يختصمون في النار، ولم يذكر فيم يكون خصومتهم؟ فجائز أن يكون في آية أخرى: (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. . .)، إلى آخر ما ذكر، وقوله! (قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ) الآية، وقوله: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا) الآية، وأمثاله من المجادلات التي تجري فيما بين الأتباع والمتبوعين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اختصامهم ما ذكر على أثره، قال: (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) هذه مخاصمتهم. وقوله: (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ): فإن كان قولهم هذا للأصنام التي عبدوها، وذلك في تسميتهم آلهة، وجعلهم العبادة لها يسوونها برب العالمين في التسمية والعبادة. وإن كان قولهم هذا للشياطين، فهو في اتباعهم أمرهم ودعاهم الذي دعوهم، وإلا لا أحد من الكفرة يقصد قصد عبادة الشيطان أو يسميه: إلها، ولكن على ما ذكرنا من متابعتهم أمرهم. وفي حرف ابن مسعود: (إذ نسويكم برب العالمين إذ كنا نشرككم برب العالمين). وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذ كنا نطيعكم كما نطيع رب العالمين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذ نعدلكم برب العالمين؛ وبعضه قريب من بعض. وقوله: (وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) أي: ما أضلنا إلا أوائلنا؛ وكذلك في حرف ابن مسعود: (وما أضلنا إلا الأولون). وتأويل هذا: أنهم لما رأوا الأولين تركوا على ما كانوا عليه من الكفر والشرك، ولم يعذبوا في الدنيا ولا أصابتهم نقمة - ظنوا أنهم أمروا بذلك، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا). وقوله: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) لأنهم قالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) فلم يشفعوا لهم، أي: ليست لنا شفعاء يشفعون، ولو كانت لهم شفعاء لا تنفعهم شفاعتهم، على ما قال: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، وهو ما قال: (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ)، ليس أنه كان ينفعهم فعلى ذلك هذا. وقوله: (وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) الحميم: القريب، أي: ليس لهم حميم يهتم بأمرهم.

(102)

وقوله: (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) وقوله: (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً) أي: لو أن لنا رجعة إلى المحنة فنكون من المؤمنين، فأخبر اللَّه أنهم إو ردوا لعادوا بقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا) إلى ما كانوا فيه لما نهوا عنه، وقد ذكرناه. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً (103) ما ذكرنا من الأخبار والأنباء لآية وعبرة لمن اعتبروا. (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لو كان أكثرهم مؤمنين ما عذبوا في الدنيا. وجائز أن يكون لو ردوا إلى المحنة التي سألوا الرجعة إليها، ما كان أكثرهم مؤمنين. وجائز أن يكون نفر منهم، واللَّه أعلم. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) قد ذكرناه. قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) وقوله: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ): ذكر كذبت بالتأنيث على إضمار جماعة؛ كأنه قال: كذبت جماعة قوم نوح، وإلا القوم يذكر ويؤنث. وقوله: (الْمُرْسَلِينَ): لأن من كذب رسولا من الرسل فقد كذب الرسل جميعًا؛ لأن كل رسول يدعو الخلق إلى الإيمان بجميع الرسل. وبعد: فإن نوحًا كان يدعو قومه إلى الإيمان بالرسل الذين يكونون بعده؛ لذلك قال - واللَّه أعلم -: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ). وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ ... (106) قال أهل التأويل: كان أخاهم في النسب، وليس بأخيهم في الدِّين. قال الشيخ أبو منصور - رحمه اللَّه -: إن اللَّه - تعالى - سمى الناس: بني آدم؛ على بُعدهم من آدم، فيجوز -أيضًا- تسميتهم: إخوة على بُعد بعضهم من بعض. وقوله: (أَلَا تَتَّقُونَ): نقمة اللَّه وعذابه في مخالفتكم أمره ونهيه.

(107)

أو يقول: ألا تتقون عبادة غير اللَّه، وطاعة من دونه. وقوله: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: كنت أمينًا فيكم قبل هذا، فتصدقونني في جميع ما أخبرتكم وأنبأتكم، فما بالكم لا تصدقونني الآن إذا أخبرتكم أني رسول اللَّه إليكم؟! والثاني: يقول: إني لكم رسول أمين، ائتمنني اللَّه وجعلني أمينًا على وحيه، فأبلغكم الرسالة وأؤدي الأمانة شئتم أو أبيتم، قبلتم أو لم تقبلوا، فلا أخافكم ما توعدونني بعد أن جعلني اللَّه أمينا وائتمنني على أمانته؛ كقوله: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ). وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) أي: اتقوا نقمة اللَّه وعذابه، أو اتقوا مخالفة اللَّه في أمره ونهيه، وأطيعون فيما أبلغكم عن اللَّه وأدعوكم إليه. قوله تعالى: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) أي: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه وأبلغكم أجرًا وشيئًا يمنعكم ثقل ذلك عن الإجابة، ولا أحملكم في أموالكم وأنفسكم مؤنة فيما أدعوكم إليه، بل أدعوكم إلى عبادة الواحد، وعبادة الواحد أهون وأخف على أنفسكم من عبادة العدد، ولا أحملكم في أموالكم وأنفسكم مؤنة فيما أدعوكم إليه من عبادة العدد، ولا أحملكم - أيضًا - مؤنة يمنعكم ذلك عن إجابتي. (إِنْ أَجْرِيَ) أي: ما أجري. (إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ): (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) (فَاتَّقُوا اللَّهَ) ما ذكرنا، أي: اتقوا نقمة اللَّه وعذابه، واتقوا مخالفة اللَّه في أمره ونهيه، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه. وقوله: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) يقولون: نصدّقك وإنما اتبعك الضعفاء منا والسفلة ممن لا رأي لهم ولا تدبير، ولو كنت صادقًا لاتبعك الأشراف والرؤساء، فكان في اتباع الأراذل له ومن ذكروا أعظم آية من الرسالة من اتباع الأشراف، وذلك أن الأراذل من الناس هم أتباع لغيرهم؛ لما يأملون من فضل مال ونيل منهم، أو رياسة ومنزلة تكون لهم، أو لفضل بصر وحظ وعلم في الدِّين؛ فيصيرون أتباعًا لمن كان عنده من هذه الخصال شيء، فالرسل - صلوات اللَّه عليهم - حيث لم يكن عندهم أموال ولا طمع رياسة ولا منزلة اتبعهم الضعفاء والسفلة، مع خوف لهم على أنفسهم من أُولَئِكَ الأشراف من القتل والصلب لمخالفتهم إياهم، فما اتبعوهم إلا لما تبين عندهم أنهم على حق، وأن ما يدعون صدقٌ، ففي اتباع من ذكرنا أعظم دلالة على صدق الرسل فيما ادعوا من الرسالة لو تأملوا التفكر في ذلك. وقول نوح: (وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) يحتمل وجهين:

(113)

أحدهما: يقول: لم أكن أعلم أن اللَّه يهديهم للإيمان والتوحيد من بينكم - يعني: الضعفاء - ويدعكم لا يهديكم. ثم قال: (إِنْ حِسَابُهُمْ ... (113) أي: ما جزاء الذين اتبعوني من الأراذل (إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ). والثاني: (وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، أي: ما أنا بعالم بما يعملون هم في السر وما ذلك عليَّ، (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ)، أي: حسابهم عليه فيما يعملون في السر؛ فهذا يدل أن التأويل الأخير أشبه وأقرب من الأول، وكان من أُولَئِكَ طعن في الذين آمنوا بأنهم يعملون في السر على خلاف ما أظهروا، حتى قال لهم ذلك. وفي بعض القراءات: (لو يشعرون) بالياء، فهو راجع إلى المؤمنين الذين اتبعوه، يقول: حسابهم على اللَّه فيما يعملون في السر، أي: لو يشعرون ذلك ولا يعملون في السر خلاف، ما يعملون في العلانية، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) قال أهل التأويل: إنهم سألوا نوحًا أن يطرد أُولَئِكَ الذين آمنوا به من الضعفاء؛ حتى يؤمنوا هم به، فقال عند ذلك: (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ). وجائز أن يكونوا طعنوا في الذين آمنوا أنهم قالوا ظاهرًا، وأما في السر فليسوا على ذلك، فقال نوح عن ذلك: وما أنا بطارد الذين آمنوا؛ يدل على ذلك قول نوح حيث قال: (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا)، هذا القول منه يدل على أن كان منهم طعن في أُولَئِكَ الذي آمنوا به، حيث وكل أمرهم إلى اللَّه فقال: اللَّه أعلم بما في أنفسهم، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قد ذكرناه فيما تقدم في غير موضع. وقوله: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) المرجوم: هو المقتول بالحجارة، وهي أشد قتل؛ لذلك أوعدوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لتكونن من المشتومين باللسان. لكن الأول أقرب؛ لأنه قد كان منهم الشتم فلا يحتمل الوعيد به. ثم دعا نوح عند ذلك فقال: (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ... (118) أي: اقض

(119)

بيني وبينهم قضاء، أي: اقض عليهم بالعذاب والهلاك، ألا ترى أنه قال: (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؛ فدل سؤاله نجاة نفسه ومن معه من المؤمنين على أن قوله: (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا) سأل ربه هلاك من كذبه، وهو ما قال في قصة أخرى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ)، الذي وعدت أنه ينزل بهم، وهو العذاب، فعلى ذلك هذا. ثم لا يحتمل أن يكون هذا منه في أول تكذيب كان منهم، بل كان ذلك بعد ما أيس من إيمانهم؛ لأنه لبث فيهم ما قال اللَّه تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما، وفي كل ذلك دعاهم إلى توحيد اللَّه، وإنما دعا عليهم بالهلاك بعد ما أخبره اللَّه تعالى عن أمرهم وأياسه عن ابمانهم، فقال: (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)، وأذن له بالدعاء عليهم بما دعا؛ إذ الأنبياء - صلوات اللَّه عليهم - لا يدعون على قومهم بالهلاك إلا بإذن من اللَّه في ذلك؛ ألا ترى أنه ذكر عتاب يونس بالخروج من بينهم بلا إذن كان من اللَّه له بالخروج من بينهم، فإذا عوتب هو بالخروج بلا إذن فلا يحتمل أن يدعو بالهلاك بلا إذن، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) قيل: المملوء. قال أبو معاذ: والعرب تقول: شحنت السفينة فلم يبق إلا الدفع: وهو السوق، وتقول العرب: شحنا عليهم بلادهم خيلا ورجالا، أي: ملأناها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المشحون: المجهز الذي قد فرغ منه فلم يبق إلا دفعه؛ وهو واحد. وإنما شحنت بأصناف من الخلق وإلا كان المؤمنون قليلي العدد، وهو ما قال فيها: (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)، أخبر أنه أنجى من كان معه في الفلك المشحون، وأهلك الباقين. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً (121) أي: في نبأ نوح الآية لمن كان بعدهم. أو إن في هلاك قوم نوح وإغراقهم لعبرة لمن بعدهم. (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. . .) إلى آخر القصة قد ذكرناه. * * * قوله تعالى: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا

(123)

إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) وقوله: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) هو - واللَّه أعلم - ما ذكرنا، أي: قد كذبت جماعة عاد المرسلين. وقوله: (الْمُرْسَلِينَ) ما ذكرنا أن كل رسول كان دعا قومه إلى الإيمان به وبجميع الرسل فمن كذب واحدًا منهم، فمّد كذب الكل. وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ (124) هو كان أخاهم في النسب؛ لأنهم جميعًا ولد آدم على بعد من آدم؛ فعلى ذلك هم إخوة فيما بينهم على بعد بعضهم من بعض. وقوله: (أَلَا تَتَّقُونَ) يحتمل وجهين: أحدهما: ألا تتقون نقمة اللَّه وعذابه. أو ألا تتقون مخالفة أمر اللَّه ومناهيه. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فيما ائتمنني اللَّه، وبعث على يدي إليكم هدايا، فاقبلوا مني هداياه وأمانته، أو أن يكون ما ذكرنا من قبل، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) ما ذكرناه. (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أي: أسعى في نجاتكم وتخليصكم من عذاب اللَّه، وما أسألكمى لي ذلك أجرا، وفي الشاهد: لا يعمل أحد إلا ويطمع على ذلك منه أجرًا، وأنا لا أسالكم اعلى ذلك أجرًا، فيمنعكم ذلك عن قبول ذلك مني. (إِنْ أَجْرِيَ) أي: ما أجري (إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ). وقوله أن (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ ... (129) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: كأنهم كانوا يبنون بنيانًا لا حاجة لهم إلى ذلك البنيان ولا ينتفعون به فهو عبث؛ لأن كل من بني بناء أو عمل عملا لا ينتفع به ولا يحتاج إليه فهو عابث؛ لذلك سمى ما بنوا: عبثًا. والثاني: جائز أن يكون ذلك المكان لهم كان مكان العبث والاجتماع للهو، فبنوا على ذلك المكنان فسماه: عبثًا؛ لما لم يكن اجتماعهم في ذلك إلا للعبث واللهو. والثالث: أن يكون ذلك المكان مكانًا يمر فيه الناس فبنوا فيه أعلاما يضلون الناس بها لما يرون أنه طريق ولم يكن ذلك، فكان قصدهم بذلك البناء باطلا، وكل باطل عبث، واللَّه أعلم. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ): ولا تموتون، أي: تنفقون نفقة من يطمع أن يخلد في هذه الدنيا، ليس بنفقة من يموت ويرجو ثوابه وعاقبته.

(130)

أو أن يكون قوله: (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) لما وسع عليهم الدنيا ورزقهم الدعة يحسبون أنهم يخلدون؛ لأن من وسع عليه الدنيا ويكون له الدعة والسعة في هذه الدنيا، يطمئن فيها ويسكن؛ وهو كما قال: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ)؛ فعلى ذلك الأول، والله أعلم. وقوله: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) كنى - واللَّه أعلم - بالجبار عن الظالم والمعتدي، أي: وإذا بطشتم بطشتم ظالمين. والريع: - هو المكان المرتفع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الطريق. ومصانع: قَالَ بَعْضُهُمْ: البنيان، وقيل: الحياض. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الريع: ما ارتفع من الأرض، وجمع الريع: ريع، وجمع الريع أرياع؛ وهما واحد. والريع: الربح -أيضًا- تقول: أراع إذا ربحت عليه، وجمعه: أرياع. ومصانع في موضع: قصور وفي موضع: حياض يجتمع فيها الماء، الواحد: مصنعة من كلاهما. وقال: البطش: الأخذ، يقال: بطشت بفلان أبطش بطشًا؛ إذا أخذته وقبضت عليه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ -أيضًا-: الريع: الارتفاع من الأرض، والمصانع: البناء، واحدها: مصنعة؛ فكان المعنى: أنهم يستوثقون في البناء والحصون، ويذهبون إلى أنها تحصنهم من أقدار اللَّه وقضائه، وهذا يشبه أن يكون ما ذكر؛ لأنه قال في آخره: (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي: يبنون بناء كأنهم يخلدون ولا يموتون. وقال: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ) أي: إذا ضربتم بالسياط ضربتم ضرب الجبارين، وإذا عاقبتم قتلتم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بطشتم: أخذتم بالظلم والاعتذار والاستحلال لما حرم اللَّه. وقال أبو معاذ: وكل بناء مصنعة. وفي حرف حفصة: (وتبنون مصانع كأنكم خالدون). والآية: العلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الريع ما استقبل الطريق من الجبال والظراب. وقال قتادة: كل نشز في الأرض.

(131)

وقال مُحَمَّد بن إسحاق: إنهم كانوا إذا سافروا فلا يهتدون إلا بالنجوم، فبنوا القصور الطوال عبثًا علمًا بكل طريق يهتدون بها في طرقهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مصانع، أي: مجالس ومساكن لعلكم تخلدون ما بقيت مصانعكم. والجبار: هو الذي يضرب أو يقتل بلا حق بلا خوف تبعة في العاقبة. وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) قد ذكرناه. وقوله: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أمدكم: قيل: أعطاكم وهو من المدد، أي: أعطاكم الكم تباعًا واحدة بعد واحدة لا تنقطع. ثم هو يحتمل وجهين: أحدهما: اتقوا كفران الذي أعطاكم النعم، فلا توجهوا شكرها إلى من لم ينعم عليكم ولم يمدها لكم وأنتم تعلمون، وهو عبادتهم الأصنام التي لا يقدرون على إعطاء شيء من النعم. والثاني: اتقوا نقمة اللَّه الذي أعطاكم هذه النعم؛ فإن الذي قدر على إنعامها قدر على الانتقام منكم. وعلى التأويل الأول: اتقوا كفرانها؛ فإن الذي قدر على إعطائها قدر على صرفها عنكم على هذين الوجهين، واللَّه أعلم. ثم ذكر الذي أمده لهم من النعم فقال: (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) هذا وغيره مما لا يحصى. (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنِّي أَخَافُ) أي: أعلم أن ينزل بكم عذاب، يوم عظيم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخوف هاهنا هو الخوف نفسه؛ لأنه كان يرجو الإيمان منهم بعد، فقال: إني أخاف عليكم العذاب إذا متم على هذا، فقالوا عند ذلك جوابًا له: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) الوعظ: هو الإخبار عن عواقب الأمور من ترغيب وترهيب، أي: سواء علينا تخوفنا العذاب أو لم تخوفنا لا نصدقك، ولا نجيبك إلى ما تدعونا إليه. ثم قالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) قيل فيه بوجوه: أحدها: أي: هذا الذي نحن عليه دين الأولين، وما أتيت أنت وتدعونا إليه هو حادث بديع. والخلق: يجوز أن يكنى به عن الدِّين؛ كقوله: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) أي: لدين اللَّه.

(138)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنْ هَذَا) أي: ما هذا الذي تقوله إلا كذب الأولين واختلاقهم، أي: تكذب وتختلق، كما اختلق الذين كانوا من قبلك من الرسل؛ كقوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، فإن كان على هذا فيكون قوله: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرسَلِينَ) هذا لأنهم كذبوا الرسل جميعًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) قالوا: هكذا كان الناس قبلنا يعيشون ما عاشوا، ثم يموتون ولا بعث ولا حساب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوعظ: هو النهي؛ كقوله: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا) أي: ينهاكم. وقوله: [(وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)] عليه على ما تزعم وتخبر كما لم يعذب الآباء. وقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ... (139) قيل: أهلكوا بالريح؛ كقوله: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. . .) الآية. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً): قد ذكرناه. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (خَلْقُ الْأَوَّلِينَ)؛ أي: اختلاقهم وكذبهم؛ يقال: خلقت الحديث واختلقته، إذا افتعلته. قال الفراء: والعرب تقول للخرافات: أحاديث الخلق. قال ومن قرأ: (خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) - بضم الخاء - أراد: عادتهم وشأنهم. * * * قوله تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

(141)

وقوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) قد ذكرنا تأويله فيما تقدم. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) أي: كنت أمينًا قبل ذلك، فكيف تتهموني اليوم؟! ويقال: أمين على الرسالة ناصح لكم، وقد ذكرنا تأويله، إلى قوله: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ). وقوله: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) يخرج على وجهين: أحدهما: أتتركون هذا، وإن خرج على الاستفهام فكأنه قال على الإخبار: ولا تتركون فيما ذكر آمنين. والثاني: أتتركون: أي: أتظنون أن تتركوا فيما هاهنا آمنين، أي: لا تظنوا أن تتركوا. (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) قَالَ بَعْضُهُمْ: الهضيم: المتهشم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الذي أرطب بعضه، وهو الذي يسمى: المذنب. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: هو الذي قد أرطب واسترخى وهو اللين. وعن الحسن: الذي ليس له نوى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الرطب الهضيم، وهو الذي ينقطع للينه، ومن اليابس: الهشيم يتكسر ليبوسته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: والهضيم: الطلع قبل أن ينشق عنه القشر وينفتح. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الهضيم: الذي لا شوك فيه ولا مشقة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الهضيم: هو الذي يتراكم بعضه بعضا، ويكون فوق بعض. ولو قيل: إن الهضيم هو الهنيء المريء الذي لا داء فيه ولا مشقة يهضم كل ما فيه داء ومرض؛ ولذلك سمي الهاضوم: هاضوما، وهو الذي يهني الطعام ويهضمه - لجاز، واللَّه أعلم. وقوله: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) بالألف، وفَرِهِينَ بغير ألف: (فَرِهِينَ)

(150)

أي: حاذقين مجيدين، أي: لهم حذاقة وبصر في نحت البيوت في الجبال؛ يقال: فلان فاره في أمر كذا، أي: حاذق. و (فَرِهِينَ): أشرين بطرين، أي: فرحين. قَالَ الْقُتَبِيُّ: والفرح: قد يكون السرور، ويكون الأشر، ومنه قول اللَّه - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي: الأشرين. قال: ومن قرأها (فَارِهِينَ) - بالألف - فهي لغة أخرى؛ يقال: فره، وفاره؛ كما يقال: فرح، فارح، ويقال: فارهين: حا ذ قين. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: فَارِهِينَ وفرحين، أي: مسرورين، ويقال: فره يفره فرهًا، فهو فَرِهٌ وفاره. وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) يقول - واللَّه أعلم -: اتقوا نقمة اللَّه في مخالفتكم أمره، وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين، أي: لا تطيعوا أمر من ظهر لكم منه الإسراف والفساد، ولكن أطيعوا أمري؛ إذا لم يظهر لكم مني إسراف ولا فساد، ولا تطيعوا الذين تعلمون أنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون. أو أن يكون قوله: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) مؤخرا عن قوله: (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)؛ يقول لهم صالح: تتركون طاعتي والإجابة لي لأني بشر مثلكم؛ فلا تطيعوا إذن بشرا هو دوني، وهم الذين ظهر لكم منهم الفساد والإسراف، ولم يظهر لكم مني شيء: يخبر عن سفههم وقلة تمييزهم؛ حيث تركوا اتباع الرسل وطاعتهم؛ لأنهم بشر دونهم في كل شيء، ثم أجابوا صالحًا في قوله: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ). فقالوا: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: يقولون: إنما أنت سوقة مثلنا، لست بأفضلنا، وإنما نتبع نحن الملوك وذا ثروة من المال، وأنت لست بملك ولا لك ثروة، فهُم - واللَّه أعلم - طعنوا صالحًا كما طعن كفار مكة رسول اللَّه حيث قالوا: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: يقولون: أنت بشر مثلنا في المنزلة، لا تفضلنا بشيء لست بملك ولا رسول، (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) بأنك رسول، فنتبعك كما أطعنا أُولَئِكَ وأُولَئِكَ.

(155)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ)، أي: من المعللين بالطعام والشراب؛ وهو مثل الأول. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) ممن له سحروا السحر ألوية، وأسحار جمع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من المسحورين، لكنه عند الكثرة يشدد، واللَّه أعلم. ثم قال صالح: (هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) ذكر أهل التأويل أن الماء منقسم بينهم: كان يوم لهم ويوم للناقة، واستدلوا بقوله: (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)، فلما كان يوم لها معلوم، لكن ليس في الآية دلالة أن الأمر ما وصفوا، ولكن في الآية أن الماء قسمة بينهم: كل يوم لهم ويوم شرب محتضر، وظاهره أن الماء بينهم بالقسمة لا الشرب. وقوله: (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ): جائز أن يكون الماء بينهم بعضه للناقة وبعضه لهم، ثم لهم يوم معلوم ليس للناقة في ذلك اليوم شيء، واللَّه أعلم. وقد ذكرنا أن هذه الأنباء إنما ذكرت في كتبهم حجة لرسول اللَّه؛ فلا يزاد على ما ذكر في الكتاب، مخافة أن تذهب حجته عليهم - أعني: أهل الكتاب - لئلا يكذبوا رسول الله فيما يخبر من الأنباء التي في كتبهم. وقوله: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) يحتمل قوله: (فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ) إذا هلكوا، وإلا لو ندموا على صنيعهم وتابوا قبل أن يهلكوا لقبل ذلك منهم. وقوله: (فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ... (158) كل آية آتاهم الرسل على أثر السؤال فكذبوها أخذهم العذاب فأهلكوا. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً): قد ذكرناه. * * * قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) وقوله: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ): قد ذكر بالتأنيث على إضمار جماعة؛ كأنه قال:

(161)

كذبت جماعة قوم لوط المرسلين. (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161). . .) إلى قوله: (الْعَالَمِينَ) قد ذكرناه فيما تقدم. وقوله: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وقال في آية أخرى: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ). وقوله: (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) أي: تذرون ما جعل اللَّه ذلك طلبًا لإبقاء هذا النسل؛ لأنه لم يجعل النساء لهم لقضاء الشهوات خاصة، ولكن إنما جعل لهم الأزواج لإبقاء هذا النسل ودوامه، فيعيرهم لوط بتركهم إتيان النساء؛ لما في ذلك انقطاع ما جعلن هن له وهو إبقاء النسل، واشتغالهم بالرجال، وليس في ذلك إبقاء النسل، هذا - واللَّه أعلم - معنى قوله: (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)، وإنما خلق لبقاء النسل لا لقضاء الشهوة خاصة، لكن جعل فيهم ومكن قضاء الشهوات؛ ليرغبهم على ذلك ليبقى هذا النسل إلى يوم القيامة، وإلا لو لم يجعل ذلك فيهم لعلهم لا يتكلفون ذلك، ولا يتحملون هذه المؤن التي يتكلفون حملها لذلك. وفي الآية دلالة أن المرأة هي المملوكة عليها دون الزوج، والزوج هو المالك عليها حيث قال: (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)، وقال في آية أخرى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا. . .) الآية، أخبر أنه خلق النساء لنا لا أنه خلقنا لهن، وفي ذلك حجة لأصحابنا في قولهم: إن المسلم إذا تزوج نصرانية بشهادة نصرانيين جاز النكاح؛ لأنه هو المتملك عليها النكاح وهي المملوكة، واللَّه أعلم. وقوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) أي: بل أنتم قوم متجاوزون حده الذي حد لكم. أو عادون حقه الذي له عليكم. أو عادون. وقوله: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) ذكر الانتهاء ولم يبين عن ماذا، فجائز أن يكونوا قالوا: لئن لم تنته يا لوط من تعييرك الذي تعيرنا به لتكونن من المخرجين. ويحتمل: لئن لم تنته من دعائك الذي تدعونا إليه لتكونن كذا. وقوله: (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ): يحتمل نفس الإخراج، أي: نخرجك من القرية ومن بيننا. وجائز أن يكون أرادوا بالإخراج: إخراجًا بالقتل؛ كقول قوم نوح حيث قالوا: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)، وهو أشبه.

(168)

ثم قال لوط: (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) أي: من المبغضين، أي: كيف توعدونني بالإخراج، وإني لعملكم الذي تعملون من المبغضين؛ أكره المقام فيكم، وأبغض رؤية أعمالكم التي تعملون، فكيف توعدونني بالإخراج؟!. ثم دعا فقال: (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) هذا يحتمل وجوهًا. أحدها: رب نجني وأهلى من عذاب ما يعملون وجزائه. أو أن يكون: رب نجني وأهلي من عمل ما يعملون من الخبائث؛ كقول إبراهيم: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ). أو أن يقول: رب نجني وأهلى عن رؤية ما يعملون ومعاقبته. ثم قال: (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) قد ذكرناه فيما تقدم. وقوله: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) يحتمل أن يكون أمطر عليهم الحجارة بعدما قلبهم ظهرًا لبطن وبطنًا لظهر؛ كقوله: (جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً). وجائز أن يكون جعل عاليها سافلها بما أمطر عليهم من الحجارة. وجائز أن يكون جعل القريات ومَن فيها عاليها سافلها، وأمطر على من كان غائبًا منهم الحجارة. قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (مِنَ الْقَالِينَ) أي: من المبغضين، يقال: قليت الرجل إذا أبغضته، ومن ذلك قوله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)، والغابر: الباقي. * * * قوله تعالى: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وقوله: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ): الأيكة: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة نسبوا إليها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأيكة: الغيضة. (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) قال بعض أهل التأويل: وإنما لم يقل هاهنا في شعيب أخوهم؛ لأن شعيبًا لم يكن من نسلهم - أعني: من نسل أصحاب الأيكة - لذلك لم

(181)

يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب، وقال في سورة هود حيث قال: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا. . .) الآية، كان من نسل أهل مدين، ويقولون: إن شعيبًا كان بعث إلى أهل مدين وهو كان منهم، وإلى أصحاب الأيكة وهو لم يكن منهم؛ لذلك قال ثَمَّ: أخاهم ولم يقل هاهنا. لكن ليس فيما لم يقل: إنه أخوهم ما يدل أنه لم يكن من نسلهم ولا من نسبهم؛ لأن جميع أولاد آدم إخوة، إذ يسمى جميع البشر بنيه؛ فعلى ذلك أولاده إخوة وأخوات. ثم لا ندري أن مدين غير الأيكة والأيكة غير مدين، فبعث شعيب إليهم جميعًا أو هما واحد نسبوا إلى الأيكة مرة وإلى مدين ثانيًا، واللَّه أعلم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الأيكة: الغيضة، وجمعها: أيك. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الأيكة: شجرة، والأيك: جمع أيكة، وقال: لا أعرف " لَيْكة " بلا ألف؛ وكذلك قال أبو عبيدة. وقال أبو زيد: أصحاب الأيكة أصحاب بادية، واللَّه أعلم. وقوله: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وكذلك قال لأهل مدين في سورة هود: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)، ذكر فيهما جميعًا إيفاء الكيل، فلسنا ندري أنه قد ظهر فيهما جميعًا نقصان الكيل والوزن، فأمرهما بإيفاء ذلك لو كانت القصة واحدة فذكر فيهما ذلك. ثم في قوله: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) جواز الاستدلال من وجهين: أحدهما: وقوع المبيع بملك المشتري، وإن لم يقبضه المشتري. والثاني: جواز بيع الجزء من الكيلي والوزني شائعًا من الكل؛ لأنه قال: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)، أضاف الأشياء إلى الناس ونسبها إليهم، فلولا أن ذلك ملك لهم وإلا لم تكن، أشياءهم، ولكن كانت أشياء هَؤُلَاءِ؛ إذ لا يخلو ذلك إما أن كان ثمنا أو كان مبيعا، فكيفما كان فهو موصوف بالملك لهم دون الذين عليهم إيفاء ذلك. وقوله: (أَوْفُوا الْكَيْلَ): كأنه قال: أوفوا الكيل والوزن فيما عليكم إيفاؤه، ولا تستوفوا

(184)

من الناس أكثر مما لكم عليهم. (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) القسطاس: قَالَ بَعْضُهُمْ: العدل، أي: وزنوا للناس حقوقهم بالعدل ولا تنقصوها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: القسطاس: هو المَبان وهو الميزان. وقوله: (الْمُسْتَقِيمِ): المستوي؛ كأنه قال: وزنوا بالميزان المستوي، لا تجعلوا إحدى الكفتين أثقل من الأخرى؛ كأنهم يجعلون الكفة التي يوفون بها حقوق الناس أثقل، والكفة التي يستوفون بها من الناس أخف، فأمرهم أن يسووا الكفتين جميعًا. وقوله: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي: لا تفسدوا فيها. وقوله: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) أي: اتقوا نقمة الذي خلقكم وخلق الجبلة الأولين، أي: كيف عذبهم وانتقم منهم بظلمهم. والجبلة: هي الخليقة؛ يقال: جبل أي: خلق. (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الذي سحر مرة بعد مرة؛ فعلى هذا التأويل يكون إنما أنت من المسحورين، لكن التشديد للتكثير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أنث مخلوق وبشر مثلنا، وقد ذكرناه. وقوله: (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) هذا يدل أنهم إنما قالوا ذلك ظنّا منهم لا يقينًا وحقا. (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) سألوا شعيبًا العذاب على التعنت، كما سأل غيرهم: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، فنزل بهم العذاب من حيث سألوا من السماء. وعن الحسن قال: سلط اللَّه الحر على قوم شعيب سبعة أيام ولياليهن، حتى كانوا لا ينتفعون بظل بيت ولا ببرد ماء، ثم رفعت لهم سحابة في البرية فوجدوا تحتها الروح، فجعل بعضهم يدعو بعضًا، حتى إذا اجتمعوا تحتها أشعلها اللَّه نارًا فأحرقتهم، فذلك قوله: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سقطت عليهم تلك السحابة فقتلتهم. والظلة: قال أَبُو عَوْسَجَةَ: حر شديد.

(188)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (كِسَفًا)، أي: قطعة من السماء، والكسف القطع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أصابهم حر شديد وغم في بيوتهم، فخرجوا يلتمسون الرَّوْحَ قِبَلَهُ، فلما غشيتهم تلك السحابة أخذتهم الرجفة فأصبحوا جاثمين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ظلل العذاب إياهم، وبعضه قريب من بعض. وعن ابن عَبَّاسٍ قريبًا من هذا قال: " بعث اللَّه عليهم وهدة وحرَّا شديدًا، فأخذ بأنفاسهم، فلما أحسوا بالموت بعث لهم سحابة فأظلتهم، فتنادوا تحتها، فلما اجتمعوا سقطت عليهم، فذلك قوله: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ)، والظلة: السحابة؛ وهو قريب من الأول. وقول شعيب: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) من نقصان الكيل وغيره من صنيعهم. وقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ... (189) كذبوه فيما أخبر من نزول العذاب بهم، أو كذبوه فيما ادعى من الرسالة وما سوى ذلك؛ هو مذكور فيما تقدم. * * * قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) وقوله: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ): وإنه - أي: القرآن - تنزيل رب العالمين، أي: نزله رب العالمين. (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ): جواب لقولهم: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ). وقوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ (194) يحتمل وجوهًا: أحدها: أن جبريل لما ينزل من القرآن إنما ينزل على قلبه، لا يحجبه شيء عن قلبه.

(195)

والثاني: (عَلَى قَلْبِكَ) أي: لا يذهب عنه، بل اللَّه يجمعه في قلبك؛ كقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ). أو أن يكون قوله: (عَلَى قَلْبِكَ) أي: يثبته على قلبك لقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ). أو أن يكون قال ذلك لما انتهى إلى قلبه وحفظه غاية حفظه قال: (عَلَى قَلْبِكَ)؛ كأنه ألقي في قلبه وكذلك يقال. وقوله: (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) كأنه - واللَّه أعلم - على التقديم والتأخير يخرج، أي: نزل به الروح الأمين على قلبك بلسان عربي مبين لتكونن من المنذرين. والباطنية يقولون: أنزله على رسوله كالخيال غير موصوف بلسان، ثم إن رسوله أداه بلسانه العربي المبين أي: بيَّنه، لكنه ليس كذا؛ لأنه قال في آية أخرى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)؛ فيبطل قولهم: إنه أداه بلسانه عربيّا من غير أن أنزله كذلك، ولو كان على ما يقوله الباطنية: إنه لم ينزله بهذا اللسان - أعني: اللسان العربي - وأن الرسول هو الذي صيره بهذا اللسان وأداه به لكان لا يصير جوابًا لقولهم: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، ولا حجة عليهم، فإذا ذكر هذا جوابًا لقولهم وحجة عليهم؛ دل أنه إنما أنزل عليه عربيا، وأن تأويل الأول ما ذكرنا على التقديم والتأخير. وقوله: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) قال بعض أهل التأويل: وإنه - أي: نعت محمد وصفته - كان في كتب الأولين. وجائز أن يكون قوله: (وَإِنَّهُ) أي: هذا القرآن كان ذكره في كتب الأولين أنه ينزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا أن عينه كان فيها. أو أن كان بعضه في زبر الأولين لا الكل، واللَّه أعلم. وقوله: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) قال بعض أهل التأويل: أوَلم يكن لهم مُحَمَّد آية أن علماء بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في الكتب. لكن تأويله: أو لم يكفهم علم علماء بني إسرائيل آية أنه رسوله. ثم الآية تكون بوجهين: أحدهما: ما ذكر أن أهل مكة أرسلوا إلى اليهود بالمدينة يسألونهم عن رسول اللَّه، فأخبروهم عنه أنه يخرج في وقت كذا، وأن نعته كذا، وهذا وقت خروجه. والثاني: يقول: أولم يكفهم آية إسلام علماء بني إسرائيل وفقهائهم أنه رسول نحو ابن

(198)

سلامٍ وغيره؛ إذ كانوا لا يسلمون إلا عن علم وثبت أنه رسول؛ إذ كان في إسلامهم ذهاب مكانتهم ورياستهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) قال بعضهم: نزلناه على رجل منهم عربي فلم يؤمنوا به، فكيف لو نزلناه على أعجمي؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو نزلنا هذا القرآن على بعض الأعجمين، فقرأه عليهم، يقول: إذن لكانوا شر الناس فيهم ما فهموه وما دروا ما هو؛ وهو قريب من الأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو نزلناه على بعض الأعجمين من الدواب فكلمهم هذا ما صدقوه؛ يذكر سفههم وتعنتهم. ويحتمل قوله: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) أي: لو نزلناه أعجميا فلم يفهموه لقالوا: (لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ)، ولكن نزلناه عربيًّا؛ لئلا يقولوا ذلك، والله أعلم. وقوله: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) قَالَ بَعْضُهُمْ: هكذا سلكنا الكفر والتكذيب، وأدخلناه في قلوب المجرمين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كذلك سلكناه - يعني: البيان والحجج - في قلوب المجرمين حتى عقلوه، ولزمتهم الحجة، لكنهم تركوا الإيمان تعنتًا وعنادًا، لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، حين لا ينفعهم إيمانهم؛ لأن إيمانهم عند معاينة العذاب إيمان دفع واضطرار لا إيمان اختيار، وهو كما قال: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)؛ لأنه إيمان دفع العذاب عن أنفسهم حين خرج أنفسهم من بين أيديهم، وإيمان اضطرار لا إيمان اختيار؛ لذلك لم ينفعهم. وقوله: (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) أي: يأتيهم العذاب فجأة وهم لا يشعرون؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون أبدًا، أنزل بهم العذاب بغتة، ولو علم منهم أنهم يؤمنون حقيقة عند معاينة العذاب؛ لأنزل عليهم العذاب معاينة مجاهرة؛ ليؤمنوا فيقبل منهم ذلك ويدفع العذاب عنهم، كما قبل إيمان قوم يونس حيث قال: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . .)، قبل منهم الإيمان عند معاينتهم العذاب؛ لما علم منهم أنهم يحققون الإيمان في ذلك،

(203)

وأما من كان همهم المعاندة والمكابرة فهم لا يحققون الإيمان. وقوله: (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) لا يزالون يطلبون الرجعة إلى الدنيا، وتأخير العذاب عن أنفسهم إذا نزل بهم؛ كقولهم: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ)؛ وكقوله: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ)، فيتمنون الرجوع والنظرة، لكن لا يجابون. وقوله: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) هو كقولهم: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ)، وقولهم: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً)، ومثله، وإلا ليس هذا في الظاهر جوابًا لقوله: (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) وجواب هذا - واللَّه أعلم - قوله: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ. . .): يقول: ما يغني تأخير العذاب عنهم، وإمهالهم عنه وقتا يمتعون فيه - من عذاب اللَّه من شيء؛ لا ينفعهم ذلك. أو أن يكونوا سألوا العذاب في الظاهر واستمهلوه في الحقيقة، فخرج قوله: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. . .) الآية جوابًا لاستمهالهم. أو أن يكون بعضهم استعجل العذاب واستمهل غيرهم، فخرج هذا جواب من استمهل. ثم خوفهم فقال: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى ... ) يقول: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ) إهلاك استئصال وانتقام، إلا بعد الإنذار وإقامة الحجة والبيان. (ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) أي: موعظة وزجرا عما هم فيه. أو (ذِكْرَى) بذكر ما لهم وما عليهم وما لبعضهم على بعض. وقوله: (وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ): في تعذيبهم، أي: لم نعذبهم بلا ذنب ولا جرم، ولكن بعنادهم ومكابرتهم؛ لأن العذاب في الدنيا لا يكون لنفس الكفر ولكن لعناد ومكابرة، وإنَّمَا عذاب الكفر في الآخرة؛ وعلى ذلك يخرج قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). أي: ما كنا معذبين في الدنيا تعذيب انتقام حتى نبعث رسولا، فيظهر منهم العناد والمكابرة، فعند ذلك يعذبهم اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ) أي: ما كنا نعذبهم إلا من بعد البيان والحجة وقطع العذر، واللَّه أعلم. وفي مصحف أبي: (وما أهلكنا من قرية إلا بذنوب أهلها).

(210)

وقوله: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: ما تنزلت بالقرآن الشياطين، فذلك جواب لقول أهل مكة: إن محمدا كاهن معه رئيٌّ يأتيه بما يقول يعنون بالرئي: الشيطان، وكانت الشياطين من قبل يقعدون من السماء مقاعد يستمعون فيها الوحي من الملائكة، فينزلون به على الكهان فمن بين مصيب ومخطيء، فقالوا: محمد كذلك، فأكذبهم اللَّه في مقالتهم تلك، فقال: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ) أي: بالقرآن (الشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ) أن ينزلوا بالقرآن (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ)، أي: قد حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب، وأخبر أنهم عن السمع لمعزولون. وفي قوله: (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) دلالة أن من أراد أن يجعل القرآن حجة لغير الذي جعل هو حجة، لم يقدر على النطق به ولا التلاوة؛ نحو: من يأتي أفقًا من آفاق الأرض لم ينته إليهم هذا القرآن، فادعى لنفسه النبوة وجعل يحتج بهذا القرآن، فإنه لا يقدر على تلاوته ولا النطق به؛ لأنه إنما جعل حجة وبرهانًا للمحق لا للمبطل حيث قال: وما تنزلت الشياطين وما ينبغي لهم أن ينزلوا وما يستطيعون ذلك وإنهم معزولون عن ذلك. * * * قوله تعالى: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) وقد ذكرنا وجه النهي لرسول اللَّه في قوله: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) وأمثاله، والله أعلم. وقوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) روي عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) جمع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قريشًا، فخصَّ وعمَّ فقال: " يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني لا أملك لكم من اللَّه نفعًا ولا ضرًّا، يا معشر بني قصي، أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإنى لا أملك لكم من اللَّه ضرًّا ولا نفعًا، وقال: يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار لا أملك لكم من اللَّه ضرًّا ولا نفعًا "؛ وكذلك قال لبني عبد المطلب، وقال لفاطمة ابنته: " يا فاطمة بنت مُحَمَّد، أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لك من اللَّه ضرا ولا نفعًا، ولكن لك رحم سأبُلُّها ببلالها " أي: بأصلها.

(215)

وفي بعض الأخبار: أنه قال عند نزول هذه الآية: " إني أرسلت إلى الناس عامة، وأرسلت إليكم يا بني هاشم وبني عبد المطلب خاصة "، وهم الأقربون وهما أخوان ابنا عبد مناف. وعن الحسن قال: ذكر لنا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جمع أهل بيته قبل موته فقال: " ألا إن لي عملي ولكم عملكم، ألا إني لا أملك لكم من اللَّه شيئًا، ألا إن أوليائي منكم المتقون، ألا لا أعرفنكم يوم القيامة تأتونني بالدنيا تحملونها على رقابكم، ويأتيني الناس بالآخرة ". وعن قتادة ذكر لنا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بات ليلة على الصفا يفخذ عشيرته فخذا فخذا يدعوهم إلى اللَّه، قال في ذلك المشركون. لقد بات هذا الرجل يهوِّت منذ الليلة. يقول يصيح، فأنزل اللَّه في ذلك: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) الآية. ومعنى التخصيص في إنذاره عشيرته في هذه الآية يحتمل وجهين - وإن كانوا داخلين في جملة إنذار الناس جميعًا في قوله: (لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) إذ هم من العالمين -: أحدهما: جائز أن يكونوا هم يطمعون شفاعة رسول اللَّه يوم القيامة، وإن لم يطيعوه ولم يجيبوه إلى ما يدعوهم إليه؛ على ما روي عنه أنه قال: " كل نسب وسبب منقطع يومئذ إلا نسبي وسببي "، فيشبه أن يكونوا يطمعون شفاعته يومئذ - وإن خالفوه بحق القرابة والوصلة - ما لا يطمع ذلك غيرهم من الناس إلا بالطاعة والإجابة، فأمره أن ينذرهم؛ لئلا يكلوا إلى شفاعته، ولكن احتالوا حيلتهم بالطاعة والعمل لما يأمر، وهو ما ذكر في الأخبار التي ذكرنا: " إني لا أملك لكم من اللَّه نفعًا ولا ضرًّا، ألا إن أوليائي منكم المتقون "، أخبر أن لا ولاية إذا لم يتقوا مخالفته. والثاني [ .... ]. وقوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) قيل: لين جانبك لمن اتبعك من

(216)

المؤمنين؛ كأنه أمر رسوله أن يتواضع لهم ويرحم، وقال في الوالدين: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، وقال في المؤمنين: بعضهم لبعض فيما بينهم (رُحَمَآءُ بينَهُم)، (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، ذكر الذل فيما بينهم والرحمة، ولم يذكر في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذل - واللَّه أعلم - لأن الذل كأنه يرجع إلى الخضوع واستخدام بعضهم بعضا، وذلك في رسول اللَّه بعيد لا يحتمل أن يأمره بالخدمة لهم. وجائز أن يمتحن بعضهم بخدمة بعض، واللَّه أعلم. وقوله: (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) قالوا: إنه راجع إلى قوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وموصول به؛ كأنه قال: وأنذر عشيرتك الأقربين فإن عصوك فقل (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ). قد كان رسول اللَّه بريئا مما كان يعمل أُولَئِكَ الكفرة، لكنه يحتمل أن يكون أُولَئِكَ لما أنذرهم رسول اللَّه، طلبوا منه أن يطيعهم في بعض أمورهم ويشاركهم في بعض أعمالهم؛ حتى يطيعوا أُولَئِكَ له في بعضًا يأمرهم ويدعوهم إليه، ويشاركونه في بعض أعماله، فقال عند ذلك: إنه بريء مما يدعونه إليه، وطلبوا منه مساعدته إياهم والإغماض عما يعملون فقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) كأنه أمنه عن شرهم وكيدهم فقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)، ولا تخف مخالفتهم إياك فيما تدعوهم إليه. أو أمره أن يكل نفسه إليه، ويفوض جميع أموره في كل وقت فقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)، العزيز: المنتقم لأوليائه أو الشديد بأعدائه، الرحيم بأوليائه. أو ذكر العزيز؛ لأنه به يعز من يعز وهو يرحم من يرحم، من لم يعزه هو لا يكون عزيزًا ومن لم يرحمه هو لا ينفعه ترحم غيره، والعزيز هو الذي لا يعجزه شيء. وقوله: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) في ظلمة الليل وحدك قائمًا وجالسًا وعلى حالاتك، ويراك في تقلبك -أيضًا- في الساجدين في الصلاة مع الناس في الجماعة. وبعضهم يقول في (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) في المصلين؛ يقول: كان يرى من خلفه من الصفوف كما يرى من أمامه. لكن هذا ليس تأويل الآية، بل كلام قاله من ذات نفسه، ولو كان ما ذكر لكان يقول: يُريك، برفع الياء لا بالنصب. وروي في بعض الأخبار: " أنا إمامكم؛ فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام، فإني أركم خلفي كما أراكم أمامي، والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم

(220)

قليلا ولبكيتم كثيرا "، قالوا: يا رسول اللَّه وما رأيت؟ قال: " رأيت الجنة والنار ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: يراك حين تقوم إلى الصلاة فتصلي وحدك، ويراك مع المصلين في جماعة؛ وهو مثل الأول. وفي حرف حفصة: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ). (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) السميع لمقالتهم مما يخفون ويسرون وما يعلنون، والعليم: بضمائرهم وخفياتهم. أو السميع: المجيب لمن دعاه، العليم: بأفعالهم وأعمالهم. * * * قوله تعالى (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) وقوله: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ): خرج هذا - واللَّه أعلم - وما تقدم ذكره من الآيات جوابًا لقول كان من رؤساء الكفرة وقادتهم لا يزالون يلبسون على أتباعهم والسفلة أمر رسول اللَّه وما ينزل، فقالوا مرة: (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، ومرة: (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، وأنه شاعر وأنه ساحر، ومرة قالوا: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، وأمثال هذا، فجائز أن كان منهم -أيضًا- قول: إن الشياطين هم الذين يتنزلون بهذا القرآن عليه، على ما ذكر أنهم قالوا: يجيء به الرئي - وهو الشيطان - فيلقيه على لسانه، فقال عند ذلك جوابًا لهم: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ. . .) الآية، ولكن إنما يتنزل به جبريل حيث قال: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ. . .) الآية. ثم أخبر عن الشياطين أنهم على من ينزلون حيث قال: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)، ذكر هذا لما عرفوا هم أن الشياطين لا يتنزلون

(223)

إلا بكذب وباطل، فمن لا ينزل إلا بكذب وباطل لا ينزل إلا على كذاب أفاك، وكان معلوما عندهم أن محمدا لم يكذب قط ولا أفك أبدًا؛ إذ لم يأخذوه يكذب فيما بينهم قط، فيقول - واللَّه أعلم - كيف يتنزل عليه الشياطين وهو معروف عندكم أنه ليس بكذاب ولا أفاك، وقد تعلمون أن الشياطين لا ينزلون إلا بكذب وباطل؟! على هذا يخرج تأويل هذه الآيات، وإلا على الابتداء لا يحتمل أن تكون. ثم أخبر عن صنيع الشياطين دنقال: (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) قَالَ بَعْضُهُمْ: يلقي الشياطين بآذانهم إلى السمع في السماء لكلام الملائكة، وذلك أن اللَّه إذا أراد أمرًا في الأرض علم به أهل السماء من الملائكة، فيتكلمون به فيسمع الشياطين ذلك، فيخبرون به الكهنة، فيخبر الكهنة أهل الأرض بذلك، فيقولون: إنه يكون في الأرض كذا في وقت كذا، ثم قال: (وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) - على هذا التأويل -: وأكثر الشياطين كاذبون فيما يخبرون الكهنة من أخبار السماء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الجن كانوا يصعدون إلى السماء فيسترقون أسماعهم إلى السماء، فيسمعون من أخبار أهلها، ثم ينزلون به على الكهنة، ويسمع الكهنة -أيضًا- من أخبار الرسل، ويخلطون ما سمعوا من الرسل من الحق بما سمعوا من الشياطين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا يسمعون من الجن حقًّا، لكنهم يخلطون من عند أنفسهم كذبًا، فيحدثون به الناس، حتى إذا كان الناس يتركون ما يسمعون منهم من الكذب، حدثوهم بذلك الحق الذي نزل به من السماء، ويراجعونهم ويصدقونهم؛ فذلك قول اللَّه: (وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) أي: أكثر قولهم كذب، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) قَالَ بَعْضُهُمْ: رجلان شاعران كانا على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، فهجوا رسول الله وأصحابه ومع كل واحد منهما غواة من قومه؛ فذلك قوله: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ). قال: فاستأذن شعراء المسلمين النبي أن يقتصوا من المشركين، فأذن لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فهجوا المشركين ومدحوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك قوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)؛ أخبر في الأول: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ)، فاستثنى شعراء المسلمين بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا).

(225)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشعراء عصاة الجن يتبعهم غواة الإنس؛ كقوله: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الكفار يتبعون ضلال الجن والإنس؛ وهو مثل الأول. وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) قَالَ بَعْضُهُمْ: في كل فن يأخذون، أي: يمدحون قومًا بباطل، ويذمون قومًا بباطل. (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) وأنهم يصفون ما لا يعلمون؛ وكذلك ذكر في بعض الحروف أنه كذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم في كل لغو وباطل يخوضون. (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) يقول: في أكثر قولهم يكذبون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) أي: يقولون: فعلنا كذا، وهم كذبة؛ لم يفعلوا ذلك. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يَهِيمُونَ) أي: يذهبون ويمضون ويركبون كل واد، هام يهيم هيمًا فهو هائم، ويقال: الهائم: العطشان، يقول: هام يهيم هيما، وهيمان: عطشان، وقوم هيم، والهائم، الواهن المحب الذي هو عطشان إلى لقاء من يحب، والتهويم: النوم؛ يقال: هوم يهوم تهويما، وقوله: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) هم العطاش، والواحد: هيمان. وقَالَ الْقُتَبِيُّ (فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) أي: في كل واد من القول وفي كل مذهب يذهبون؛ كما يذهب الهائم على وجهه. وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) هذا الاستثناء يحتمل أن يكون من قوله: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) وهو ما ذكرنا؛ كأنه قال: أُولَئِكَ الشعراء وهم القادة منهم الذين قالوا: نحن نقول بمثل ما أتى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقالوا الشعر وأنشدوه واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم، ويروون عنهم حين يهجون النبي وأصحابه، قاستثنى شعراء المسلمين الذين قالوا الشعر وأنشدوه في انتصار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه فقال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فإنهم لا يتبعهم الغاوون.

أو أن يكون الاستثناء من قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فإنهم لا يهيمون في كل واد، ويقولون ما يفعلون، ولا يقولون ما لا يفعلون، بل يذكرون اللَّه كثيرًا وينتصرون لرسوله؛ ولأنفسهم من بعد ما ظلموا؛ فيكون الاستثناء في أحد التأويلين من الاتباع وفي الآخر من الأئمة والقادة؛ فكان منهم قول سبق في ذلك، حتى قال: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. . .) إلى آخر ما ذكر؛ إذ لا يحتمل على الابتداء دون قول كان منهم على ما ذكرنا في قوله: (وَمَا وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ. . .)، وقوله: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. . .) الآية، قد كان من أُولَئِكَ الكفرة قول وطعن بأن الشياطين هم الذين يتنزلون به عليه، حتى خرج جوابًا لهم: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ)، وإن لم يذكر ذلك، يظهر ذلك في الجواب أن كان منهم قول وطعن، وإن لم يذكر، ثم أوعدهم وقال: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) يحتمل في الآخرة في منقلب الظلمة وهي النار، أي: يعلمون علم عيان يومئذ، وإن لم يعلموا ذلك في الدنيا علم استدلال لما تركوا النظر فيه. أو يعلمون ذلك علم عيان في الآخرة، وإن علموا في الدنيا علم استدلال، لكنهم تعاندوا وكابروا فلم يؤمنوا، واللَّه أعلم وصلى اللَّه على رسولنا مُحَمَّد وآله أجمعين. * * *

سورة النمل

سُورَةُ النَّمْلِ وهي مَكِّيَّة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (طس): قد ذكرنا فيما تقدم تأويل الحروف المعجمة وأقاويل الناس فيها؛ وكذلك الآيات قد ذكرناها. وقوله: (وَكِتَابٍ مُبِينٍ): يحتمل قوله: (مُبِينٍ) أي: بين واضح؛ لأن (أبان) قد يستعمل في موضع (بان)، يقال: بانَ وأبان. ويحتمل: (وَكِتَابٍ مُبِينٍ) أي: يبين أنه رسول من اللَّه، أو يبين ما لله عليهم، أو ما لبعضهم على بعض، أو ما لهم وما عليهم. وقوله: (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) قوله: (هُدًى) يحتمل وجهين: أحدهما: دعاء؛ كقوله: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) أي: داع يدعو الخلق إلى توحيد الله تعالى؛ فعلى ذلك يحتمل قوله: (هُدًى) أي: دعاء، يدعوهم إلى توحيد اللَّه تعالى، فإن كان هذا فهو للناس كافة. والثاني: جائز أن يريد بالهدى: الهدى الذي هو نقيض الضلال وضده، فهو للمؤمنين خاصة، وإن كان أراد به البيان والدعاء فهو للكل. وقوله: (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي: يدعوهم إلى الإيمان باللَّه وبرسوله، فإذا آمنوا كان لهم بشرى. ثم نعت المؤمنين ووصفهم فقال: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ... (3) يحتمل قوله: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) أي: يقرون بهما ويؤمنون؛ لأن من الناس من كان يؤمن بالله وبرسوله، لكنهم أبوا الإيمان بالصلاة والزكاة؛ كقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ). لا يحتمل أن يأمرهم بحبسهم إلى أن تمضي السنة فتجب الزكاة عليهم فيؤتون، فحينئذ يخلون سبيلهم، ولكن الأمر بحبسهم إلى أن يقروا بها ويؤمنوا، فيخلون عند ذلك سبيلهم.

(4)

وكذلك قوله: (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، لا يقبلونها ولا يقرون بها ليس على فعل الإيتاء، فعلى ذلك الأول يحتمل هذا. والثاني: يحتمل الأمرين جميعًا: القبول والإقرار بها والإيتاء جميعًا، أي: إذا قبلوها وأقروا بها وأعطوها - فحينئذ يستوجبون هذه البشارة التي ذكرت. وقوله: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ): الإيقان بالشيء: هو العمل به من جهة الاستدلال والاجتهاد، والأسباب التي يستفاد بها العلم بالأشياء لا العلم الذاتي؛ ولذلك لا يوصف اللَّه على الإيقان بالشيء ولا يقال: يا موقن؛ لأنه عالم بذاته لا بالأسباب، وبالله التوفيق. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) الأعمال التي هم فيها بما ركب فيهم من الشهوات والأماني. ويحتمل (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) الأعمال التي هي عليهم، أي: زين لهم الخيرات والطاعات، لكنهم أبوا أن يأتوا بها؛ فالمعتزلة قالوا بهذا التأويل، وأبوا أن يقولوا بالأول أن يكون من اللَّه تزيين ما هم فيه من الشرك والكفر وأنواع أفعال الكفر؛ إذ أضاف تزيين ذلك إلى الشيطان حيث قال: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)، وقال: (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)، ونحو ذلك من الآيات، فقالوا: أضاف إلى الشيطان، ولا يجوز أن يضاف إلى اللَّه ذلك بعينه؛ فدل أن اللَّه إنما زين لهم أعمالهم التي عليهم من الإيمان والخيرات، لا الأعمال التي هم فيها. لكن عندنا يجوز إضافة تزيين أعمالهم التي هم فيها إلى اللَّه من جهة ما ركب فيهم من الشهوات والأماني التي توافق طباعهم وأنفسهم؛ لأن التزيين يقع بنفس الكفر وأفعاله؛ إذ الكفر نفسه ليس بمزين ولا مستحسن، إنما هو شتم رب العالمين، ولكن تزيينه واستحسانه هو موافقة ما يعمل من الأعمال طباعه والجهة التي تضاف إلى اللَّه؛ إذ الجهة التي تضاف إلى الشيطان هو دعاؤه وتمنيه إلى ما يوافق طباعهم؛ فمن هذه الجهة يجوز إضافته إلى الشيطان، والجهة التي تضاف إلى اللَّه هو ما ركب فيهم من الشهوات والأماني وجعل الطباع موافقة لها، وإلا الصدق وجميع الخيريات إنما يكون مزينًا مستحسنًا في العقل للعاقبة، والكفر وجميع المعاصي مستقبح في العقل للعاقبة إذا حمد أحدهما وأثيب على فعله، وذم الآخر وعوقب لسوء اختياره. أو أن يكون إضافة ذلك إلى اللَّه لما خلق أفعالهم وأعمالهم التي عملوها، وأخرجها من العدم إلى الوجود، وهي من هذه الجهة فعله، وهو يرد قولهم في إبائهم خلق أفعال العباد.

(5)

وقوله: (فَهُم يَعْمَهُونَ): قيل: يترددون، وأصل العمه: الحيرة، أي: يتحترون. (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) أي: لهم ما يسوءهم من العذاب في الآخرة؛ لاختيارهم سوء الأفعال في الدنيا. (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ): الأخسرون والخاسرون واحد. وجائز أن يقال: (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) للقادة منهم والرؤساء؛ لأنهم ضلوا بأنفسهم وأضلوا غيرهم هم أخسر من الأتباع؛ كقوله؛ (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وقوله: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: لتلقى القرآن من اللَّه على يدي رسوله وهو جبريل. والثاني: جائز أن يكون حكيم عليم هو جبريل نفسه، أي: إنك لتلقى القرآن من لدن جبريل، وهو حكيم يضع الوحي والقرآن حيث أمر بوضعه فيه؛ إذ الحكيم: هو المصيب في فعله الواضع للشيء موضعه، وعليم بما أمر به وأرسل وهو كذلك كان؛ إذ يجوز أن يقال للمخلوق: حكيم عليم؛ ألا ترى إلى قول يوسف: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)؛ فعلى ذلك هذا جائز، والأول أشبه. أي: إنك لتأخذ القرآن من لدن حكيم عليم على يدي رسوله جبريل، فما يأخذ من رسوله كأنه يأخذ من عند مرسله؛ إذ الرسول إنما يؤدي كلام مرسله. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) يقال: تلقيته: أخذته، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَتُلَقَّى) أي: لتأخذه. وقال مُحَمَّد بن إسحاق: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي: لتؤتى بالقرآن؛ كقوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي: وما يؤتيها، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وقوله: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا): قيل: رأيت وأبصرت.

(8)

(سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ) وقال في آية أخرى: (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)، هذا يدل أنه كان ضل الطريق على ما ذكره أهل التأويل، وقال في آية أخرى: (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) ذكر على التقديم والتأخير على اختلاف الألفاظ والحروف، والقصة واحدة، والممتحن بذلك موسى لا غير؛ فهذا يدل أن ليس على الناس تكلف حفظ الألفاظ والحروف بلا تقديم ولا تأخير ولا تغيير، بعد أن أصابوا المعنى المودع فيها - أعني: في الألفاظ - وحفظوها من غير تغيير يدخل في المعنى المودع؛ إذ قصة موسى هذه وغيرها من قصص الأنبياء - عليهم السلام - ذكرت في الكتاب في التقديم والتأخير على اختلاف الألفاظ والحروف فدل: أن ليس على الناس حفظ الألفاظ والحروف في كثير من الأحكام في الشهادات والأخبار وغيرها، وإنما عليهم إصابة المعنى. ثم قوله: (بِشِهَابٍ قَبَسٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الشهاب: خشبة في طرفها نار، والقبس: النار وشهبان: جمع، ولا تسمى النار: قبسا إلا ما يحمل من موضع إلى موضع، يقال: قبست النار قبسا واقتبست؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: القبس: الجمر، والشهاب: النار الموقدة، وهو قول أبي عبيدة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشهاب: النور، والشهاب: الكواكب، سمي: شهابًا لضوءه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِشِهَابٍ قَبَسٍ) أي: شعلة من نار، والجذوة: كأنها خشبة فيها نار؛ وهو مثل الأول. ودل قوله: (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) على أن الوقت وقت البرد وأيام الشتاء؛ حيث ذكر الاصطلاء وهو الاستدفاء، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) اضطربت أقاويل أهل التأويل في هذا: صرف بعضهم تأويله إلى (ما) لا يزيده إلا سماجة وبعدًا عن الحق والصواب وعمى، لكن لو جاز أن يعبر ويكنى بحرف (مَن) عن غير مميز وغير ذي فهم وعقل، لاستقام التأويل فيه ولم يقع فيه شبهة؛ فيجعل كأنه قال: أن بورك ما فيه من النار وما حولها، ويكون عبارة عن المكان الذي فيه النار وما حولها من الأمكنة، أي: بورك في ذلك

(9)

المكان الذي فيه النار وما حولها؛ لأنه قال له في آية أخرى: (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)، أي: طوي فيه البركات. وقال في آية: (بَارَكْنَا حَوْلَهُ)، عن بركة ذلك المكان؛ فعلى ذلك لو جاز أن يعبر بحرف (مَن) عن غير المميز والفهم، ويكنى به - جاز صرف التأويل إلى ما ذكرنا من المكان. أو يقال: (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا)، أي: بورك ما في النار من النور وما حول ذلك، وما يستنار به ويستضاء، وهو ما استفاد به من النبوة والرسالة. هذا كله إذا جازت العبارة والكناية بحرف (مَن) عن غير ذي التمييز والفهم، فإن جاز هذا لاستقام أن يقال هذا. أو أن يكون التأويل منصرفًا إلى ما ذكره في حرف ابن مسعود وأُبي على طرح حرف (من) وحرف (في) ذكر: أن في حرفهما: (نودي أن بوركت النار ومن حولها)، وذلك جائز في اللغة أن يقال: بورك في فلان وبورك فلانٌ وبوركت وبورك فيك؛ وكذلك ذكر عن الكسائي أنه قال ذلك، فإن كان ما ذكر عن ابن مسعود وأبئ ثابتًا صحيحًا - لم يقع فيه شبهة ولا ريب. أو إن لم يجز العبارة بحرف (من) عن غير ذي التمييز، فجائز أن يصرف حرف (من) إلى موسى؛ فيكون كأنه قال: بورك في الذي أتى النار وهو موسى، أو بورك فيمن جعل له اقتباس النار؛ فينصرف تأويل (من) إلى موسى، وقد جعل له من البركة في تلك النَّار ما لا يحصى من استفادة النبوة والإرشاد إلى الطريق والاصطلاء وغير ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ): ذكر هذا - واللَّه أعلم - تنزيهًا عن جميع ما قاله بعض أهل التأويل؛ تبرئة منه عن ذلك كله من نحو مقاتل، ومن قال بمثل قوله مما يؤدي إلى التشبيه والشبه. وقوله: (يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) أي: الذي أعطاك ذلك اللَّه العزيز الحكيم. أو يقول: إن الذي جعل لك ذلك اللَّه العزيز الحكيم. أو أن يقول: إنه الذي أراك هذا وأكرمك به أنا اللَّه العزيز الحكيم. أو أن يقول: إن الذي أراك - أي: الذي جعل لك ذلك - اللَّه العزيز الحكيم؛ العزيز: الذي لا يعجزه شيء، الحكيم: المصيب في فعله غير مخطئ، أو أن يقال: عزيز لا يذل أبدًا قط؛ لأنه عزيز بذاته، يضع كل شيء موضعه لا يخطئ.

(10)

قال أبو معاذ: قال مقاتل بن سليمان: إنه يقول: يا موسى، إن النور الذي رأيت أنا اللَّه، وهذا محال لا وجه له؛ لأنك لا تقول: " إن الذي رأيت أنا " لإنسان رآه أو لشيء رآه، ولكن تقول: أنا الذي رأيت. ومحال -أيضًا- قوله؛ لما ذكر في حرف ابن مسعود: (نودي يا موسى لا تخف) يكلمه اللَّه ويخاطبه ثم يقول: إن النور الذي رأيت أنا. ومحال -أيضًا- لقول اللَّه: (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ)، قال اللَّه: (فَلَمَّا أَتَاهَا)، ولم يقل: أتاه. ومحال -أيضًا-: أن يكون اللَّه نعتًا؛ لأنك لا تقول بأن الذي رأيت أنا أخوك. فقال: قول مقاتل محال من أربعة أوجه خلافا لظاهر الآية، وأصله ما ذكرنا فيما تقدم. وقوله: (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) في الآية الأمر بإلقاء العصا، ولم يذكر أنه ألقاها، ولكن فيه: (وَأَلْقِ عَصَاكَ) فألقاها، (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ)، أي: تتحرك كأنها جان. ذكر أهل التأويل أن الجان هي الحية الصغيرة ليست بعظيمة. لكنه أخبر أن موسى خافها وولى مدبرا، وموسى لا يحتمل أن يخاف من حية صغيرة على الوصف الذي ذكر، فكأنها كانت عظيمة لكنها في تحركها والتوائها كأنها صغيرة؛ إذ الحية العظيمة الكبيرة لا تقدر على التحرك والالتواء كالصغيرة؛ لذلك خافها موسى، حتى نهاه اللَّه عن ذلك وقال له: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ). وقوله: (وَلَمْ يُعَقِّبْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يرجع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم يلتفت، وهو مأخوذ من العقب. والجان: قَالَ بَعْضُهُمْ: من الجن، والجان: الحية، ولا تكون إلا من الجن. وقول أبي عبيدة: وقوله: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) فَإِنْ قِيلَ: كيف نهاه عن الخوف، وأخبر أنه لا يخاف لديه المرسلون، وقد مدح اللَّه الملائكة وغيرهم من الخلائق بالخوف من ربهم؛ حيث قال: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)، وقال في آية أخري: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)، و (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)، وأمثال ذلك من الآيات مما فيها مدحهم بالخوف من ربهم؛ لكنه يخرج على وجوه: أحدها: أنه قد أمن موسى حيث قال: (وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)؛ فكأنه قال هاهنا: لا تخف بعدما أمنتك؛ (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) إذا أمنتهم.

(11)

والثاني: (لَا تَخَفْ) من غيري؛ (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) من غيري؛ فكأنه قال - واللَّه أعلم - على هذا التأويل: إنما نهاه عن الخوف من غيره، وأخبر أنه لا يخاف لديه المرسلون. والثالث: أخبر أنه أمنه من خوف الآخرة وأهوالها؛ كأنه قال: لا تخف فإني سأؤمن المرسلين من خوف يومئذ. ثم استثنى فقال: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) هذا -أيضًا- يخرج على وجوه: أحدها: لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم إذا بدل حسنا بعده سوء. والثاني: لا يخاف لدي المرسلون، ولكن من ظلم ممن سواهم ثم بدل حسنًا بعد سوء فإني غفور رحيم، رجاء المغفرة وطمع العفو عما كان منه. والثالث: لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم منهم؛ نحو: موسى بقتله النفس، وإخوة يوسف، ثم بدل حسنا وتاب عن ذلك - فإنه يخاف أيضًا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فاللَّه تعالى قادر أن يجعل يده بيضاء من غير إدخاله إياها في جيبه، لكنه امتحن موسى بالأمر بإدخالها في جيبه؛ وكذلك قادر أن يصير عصاه في يده حية، لكنه امتحن بالأمر بإلقائها، ولله أن يمتحن عباده بكل أنواع المحن. وقوله: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ): قيل: من غير آفة من برص أو غيره، وقد ذكرنا معناه فيما تقدم. وقوله: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: موسى من تسع آيات، وقد يجوز استعمال حرف (في) مكان (من) كما يقال: لفلان كذا كذا نوقا فيها فحلان، أي: منها فحلان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ): قال أبو معاذ: قد يكون معنى (في) و (مع) واحدًا فيما لا يحصى عدده، تقول: (خرجت في أهل مرو إلى مكة)، و (مع أهل مرو إلى مكة)، فإذا قلت: (خرجت في تسعة) اختلفا؛ لأنك أحصيت العد في تسعة أنت تاسعهم، و (مع تسعة) أنت عاشرهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الانقطاع من الأول؛ كأنه قال لرسوله مُحَمَّد: ولقد بعثنا موسى في

(13)

تسع آيات إلى فرعون؛ كما قال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ). وقوله: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ): دل هذا أنه كان مبعوثًا إلى فرعون وقومه جميعًا؛ إذ ذكر في آية إلى فرعون خاصة، وفي آية أخرى. (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ)، وذكر هاهنا (إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ)، فكان مبعوثًا إلى الكل. وقوله: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) أي: يبصر بها ويعلم، كقوله: [(وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)]، أي: يبصر به. وقرأ بعضهم: (مُبْصَرَةً) بنصب الصاد، أي: بينة ظاهرة يبصر فيها؛ وكذلك قال موسى لفرعون: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ). وقالوا: (هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ): لم يزل عادة فرعون اللعين تلبيس أمر موسى وآياته على قومه؛ لئلا يؤمنوا به ولا يطيعوه فيما يدعوهم؛ مرة قال: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)، و (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ). وأمثال ذلك مما يلبس على قومه أمره ويغويهم عليه؛ لئلا يطيعوه فيما يدعوهم إليه ولا يجيبوه. وقوله: (وَجَحَدُوا بِهَا ... (14) بالآيات: جائز في اللغة أن يقال: (جحد بها) و (جحدها)؛ كلاهما واحد. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الجحود لا يكون إلا بعد العلم به والإيقان. ولكن يجوز أن يقال: جحد بعد المعرفة والعلم، وقبل أن يعلم به ويعرف؛ إذ الجحود ليس إلا الإنكار، وقد يكون الإنكار للشيء للجهل به وبعد المعرفة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: فلما جاءتهم آياتنا مبصرة جحدوا بها ظلمًا وعلوا. (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ): أنها من اللَّه، وأنها آياته، ليست بسحر، ولو كان سحرا في الحقيقة لكان آية؛ لأن السحر على غير تعلم يكون منه آية سماوية. وقوله: (ظُلْمًا): لأنهم جحدوا الآيات وسموها سحرا، فوضعوا الآيات موضع السحر، لم يضعوها موضعها، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه. وقوله: (وَعُلُوًّا) أي: تكبرا وعنادا. (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ): ليس على الأمر له بالنظر في ذلك، ولكن

(15)

على تنبيه أُولَئِكَ، والزجر لهم عما هم فيه، أي: انظر ما ينزل بهم لجحود الآيات وعنادهم فيها على ما نزل بأوائلهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ): فيه وجهان من الاستدلال: أحدهما: في خلق أفعال العباد. والثاني: في ترك الأصلح. أمّا الاستدلال على خلق الأفعال: لأنه قال: (آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا)، وقال على أثره: (عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ)، وقال في رسول اللَّه (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) وقال: (الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ).، ونحوه من الآيات فيما أضاف التعليم والفعل إلى نفسه، فلو لم يكن له في ذلك صنع لم يكن لإضافة ذلك إليه معنى؛ فدل أنه خلق أفعالهم منهم. فَإِنْ قِيلَ: إنما أضاف ذلك إلى نفسه بالأسباب التي أعطاهم. قيل: لا يحتمل ذلك؛ لأنه قد أعطى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جميع أسباب الشعر، ولم يكن غيره من الشعراء أحق بأسباب الشعر من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم أخبر أنه لم يعلمه الشعر؛ دل أنه لم يرد به الأسباب، ولكن أراد ما ذكرنا. وأما في ترك الأصلح: فهو ما ذكر من قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)، أنه إنما ذكر هذا على الامتنان والإفضال، فلو كان لا يجوز له ألا يعطيه ذلك، ولا كان له ترك ما فعل بهم من الإفضال - لم يكن لذكر ذلك له على الإفضال والامتنان معنى، ولا كان داود وسليمان يحمدانه على ما أعطاهما، ولا كان هو يستوجب الحمد بذلك؛ إذ فعل ما عليه أن يفعل؛ دل أنه إنما أعطى ذلك لهم وفعل بهم ذلك على جهة الإفضال والامتنان، وكان له ترك ما فعل، وإن كان ذلك ليس أصلح في الدِّين. فهذان الوجهان ينقضان على المعتزلة مذهبهم

(16)

في إنكارهم خلق الأفعال، وجواز ترك الأصلح في الدِّين. ثم قوله: (عِلْمًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: علما بالقضاء والحكم والعلم بكلام الطير والدواب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فضلا بالنبوة والعلم. لكن عندنا ذكر أنه آتاهما العلم، ولم يبين ما ذلك العلم أنه علم ماذا؟ مخافة الكذب على اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) قال أهل التأويل: ورث النبوة والحكم، والوارث: هو الباقي بعد هلاك الآخر وفنائه، كقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)، أي: نبقى بعد هلاك أهلها وفنائهم، وقوله: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) أي: الباقون بعد فنائهم، إلا أنه ورث شيئا لم يكن له من قبل؛ وكذلك قوله: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. . .) الآية، أي: أبقاكم وترككم في أرضهم وديارهم، وقوله: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا)، أي: أبقيتم فيها، وأمثال ذلك كله راجع إلى البقاء؛ فعلى ذلك قوله: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) أي: بقي في ملكه ونبوته؛ وعلى ذلك ما سأل زكريا ربه من الولد حيث قال: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)، لا يحتمل أن يسأل ربه ولدا يرث ماله من بعد وفاته، ولكن كأنه سأل ربه الولد؛ ليبقى في نبوته ورسالته بعد وفاته؛ لتبقى النبوة في نسله، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ): لا يحتمل أن يذكر هذا - صلوات اللَّه عليه - على الافتخار والنباهة، ولكن ذكر فضل اللَّه ونعمه التي أعطاه ومن عليه؛ كقوله: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، ألا ترى أنه قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ). ثم قوله: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ): لا يحتمل كل شيء؛ لأنهم لم يؤتوا كل شيء حتى لم يبق شيء، إنما أوتوا شيئًا دون شيء، ولكن كأنه قال: وأوتينا من كل شيء سألناه أن يؤتينا. أو أن يكون (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) - مما يؤتى الأنبياء والملوك وما يحتاج إليه، والله أعلم.

(17)

وقوله: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَهُم يُوزَعُونَ) أي: يحبس أولهم على آخرهم؛ كأنه لا يدعهم أن ينتشروا ويتفرقوا، ولكن يسيرهم مجموعين على كل صنف منهم وزعهَ ترد أولهم على آخرهم، وذلك من سيرة الملوك وأمراء العساكر أن يسيروا جنودهم مجموعة غير منتشرة ولا متفرقة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي: يساقون، ويقال: أوزعني، أي: ألهمني، والوزع: من الكف والسوق، تقول: وزع، أي: كف، ووزع، أي: ساق. وقال مرة: (يُوزَعُونَ): يجتمعون، يقال: وزعت الإبل - أي: جمعهما - أزع وزعًا. وقال القتبي: (يُوزَعُونَ)، أي: يدفعون، وأصل الوزع: الكف والمنع، يقال: وزعت الرجل إذا كففته، ووازع الجيش: هو الذي يكفهم عن التفرق والانتشار، وهو على ما ذكر. وقوله: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) هذا يدل أن النمل وقتئذ لا تخالط الناس؛ حيث أضاف الوادي إليها بقوله: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ)، ولو كانت تخالط الناس كهي الآن لقال: حتى إذا أتوا على الوادي الذي فيه النمل؛ دل أنها كانت لا تخالط الناس، وكان لها مكان على حدة، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): يخرج قوله: (قَالَتْ نَمْلَةٌ) على وجهين: على حقيقة القول من النملة كما يكون من البشر، أطلع اللَّه سليمان على ذلك، وألقاه على مسامعه؛ لطفًا منه وفضلا من بين سائر الخلائق على ما ذكرنا في قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. . .) الآية. والثاني: أن يجعل اللَّه في سرية النمل معنى يفهم بعضها من بعض لما يريدون فيما بينهم من أنواع الحوائج على غير حقيقة القول، أطلع اللَّه سليمان على ذلك؛ حتى فهم منها ما كانت تفهم بعضها من بعض لطفًا منه وفضلا؛ وهو كقوله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)، ليس أحد يقول لآخر إذا تصدق عليه ذلك، لكن اللَّه أخبر عما علم من ضميرهم ومرادهم من التصدق على غير حقيقة القول منهم؛ فعلى ذلك قول النملة، أخبر سليمان عما كان في سريتها فيما بينهم من غير أن كان منها نطق أو كلام يفهم منه الخلق، واللَّه أعلم. وقالت الباطنية: ليس المراد من ذكر النمل: النملة المعروفة وقولها؛ وكذلك قالوا في

(19)

الهدهد: إنه لم يرد به: الهدهد المعروف؛ إذ لا يجوز للهدهد من العلم أكثر مما يكون لسليمان ولغيره، ولكن أراد به: الرجل، وهو الإمام الذي يدعو الناس إلى الهدى، ويدلهم على الرشد. وليس كما قالوا؛ لأنه إنما ذكر هذا على التعجب، ولو كان ذلك إنسانًا ممن يكون له قول وكلام، لم يكن لذكر ذلك منه كبير تعجيب ولا فائدة؛ دل أنه ليس كما قالوا. وقوله: (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ) أي: لا يكسرنكم، والحطم: هو الكسر. وفي حرف ابن مسعود: (لا يحطمكم) على طرح النون والتشديد. وقوله: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا من النملة ثناء على سليمان ومدح عليه لعدله في ملكه وسلطانه: أنه لو شعر بكم، لم يحطمكم ولم يهلككم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أي: لا يشعر جنوده كلام النملة، وهذا يدل أن النملة كانت رئيسة سائر النمل وسيدته؛ حيث قالت ذلك من بين غيرها من النمل، وعلى كل رئيس وسيد للقوم أن يحفظ رعيته وحواشيه عما يحملهم على الفساد. وقول من قال: إن النمل يومئذ كان كالذباب عظيمًا، لا يحتمل؛ لأنها لو كانت كما ذكر لم يكن لقوله: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) معنى؛ لأنها لو كانت كالذباب يشعرون بها، فدل أنها كانت على ما هي اليوم، واللَّه أعلم. وقوله: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا) أي: سبح اللَّه لما فهم من قول النمل وحمده عليه، وتبسم الأنبياء: التسبيح. وجائز أن يكون التبسم: هو السرور؛ إذ التبسم إنما يكون لسرور يدخل في الإنسان، فقوله: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا) أي: سر بما أعطاه اللَّه من عظم النعمة له والملك؛ ألا ترى أنه سأل ربه الإلهام؛ ليشكر نعمه التي آتاه اللَّه حيث قال: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ)، سأل ربه الإلهام واللطف الذي يكون منه؛ ليشكر نعمه، ولو كان الإلهام هو الإعلام على ما قاله بعض الناس، لم يكن سليمان ليسأله ذلك؛ لأنه كان يعلم أن عليه شكر نعمه؛ وكذلك يعلم كل أحد أن عليه شكر منعمه، فدل سؤاله الإلهام على الشكر أنه إنما سأل اللطف الذي عنده به يشكر نعمه إذا أعطاه، وهو التوفيق، لا الإعلام الذي قالوه. وقوله: (وَعَلَى وَالِدَيَّ) فيه أنه يجب على المرء شكر النعم التي أنعم اللَّه على والديه. وسأل ربه -أيضًا- أن يوفقه على العمل الذي يرضاه منه، حيث قال: (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ).

(20)

وقوله: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ): جائز أن يكون سؤاله هذا بإدخاله فيما ذكر كسؤال يوسف حيث قال: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، سأل ربه التوفي على الإسلام والإلحاق بالصالحين؛ فعلى ذلك سؤال سليمان يشبه أن يخرج على ذلك. ثم فيه دلالة أن النجاة ودخول الجنة إنما يكون برحمة اللَّه لا بالعمل حيث قال: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ) بعدما سأل ربه العمل الصالح المرضي. وقوله: (أَوْزِعْنِي) أي: ألهمني، والإيزاع: الإلهام، والوزع: الكف والسوق. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: وأصل الإيزاع: الإغراء بالشيء؛ يقال. أوزعته بكذا، أي: أغريته وهو موزع بكذا ومولع بكذا. * * * قوله تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) وقوله: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ): عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - قال: " تدرون كيف تفقد سليمان الهدهد؟ ثم قال: إنه إذا كان في فلاة من الأرض، دعا الهدهد وسأله عن بعد الماء في الأرض وغوره، فهو يعلمه من بين غيره من الطيور؛ لذلك تفقده وسأل عن حاله ". وذكر أنه سأل ابن سلام عن ذلك، فأخبر بذلك. لكن هذا بعيد؛ لأن سليمان - صلوات اللَّه عليه - كانت له الريح مسخرة، ذكر أنها كانت تحمله وتسير به كل غداة مسيرة شهر وكل عشية كذلك، وهو قوله: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ)؛ فلا يحتمل أنه إذا وقعت له الحاجة إلى الماء ألا يبلغ إلى الماء حتى يحتاج إلى أن يحفر له البئر، فيستخرج منه الماء، وما كان له من

(21)

الشياطين والجن مسخرين له مذللين حتى قال واحد منهم: (أَنَا آتِيكَ بِهِ) يعني: عرش بلقيس (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ)، وقال الآخر: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)، فمن له سلطان وقوة على القدر الذي ذكر لا يحتمل أن يقع له الحاجة إلى الماء، وإذا وقعت لا يحتاج إلى أن يتكلف وصوله إليه بالهدهد مع تكلف الحفر في الأرض، هذا يبعد بمرة - واللَّه أعلم - إلا أن يخرج على الامتحان، ويكون تفقده الطير لما كان عليه حفظهم جميعًا، ومنعه إياهم عن الانتشار في الأرض والتفرق، لا لما ذكروا هم - واللَّه أعلم - لما على كل ملك وأمير حفظ رعيته وحاشيته، والتفقد عن أحوالهم وأسبابهم؛ فعلى ذلك هذا. ثم يحتمل أن يكون من كل صنف من الطير واحد لا عدد حتى قال: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ)؛ إذ لو كان عددا من الهداهد لقال: مالي لا أرى هدهدا من الهداهد، إلا أن يكون الذي فقده كان رئيسًا لغيره من الهداهد وسيدهم؛ فجائز أن يقال ذلك: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ) من بين غيرهم يغيب عن بصري ولا أدركه (أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) عنهم؛ فكأنه سأل واحدا منهم عن ذلك، فأخبر أنه من الغائبين، فعند ذلك قال: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فقالت الباطنية في ذلك: إن سليمان لا يحتمل أن يعذب من ليس بمخاطب في شيء، ولا يجري عليه القلم؛ فدل وعيده إياه من التعذيب والذبح أنه لم يكن هدهدا معروفًا، ولكن كان رجلا ممن يخاطب ويجري عليه القلم؛ وكذلك قالوا في النملة: إنه كان رجلا ممن يكون منه الكلام والفهم، وأما النملة المعروفة فلا يحتمل. لكن الجواب لهم في ذلك: أن اللَّه خلق هذه الدواب والطير وغيرها من الأشياء لمنافع البشر ولحاجاتهم، فجائز تعذيبها وذبحها للرد إلى منافعهم إذا امتنعت عن الانتفاع بها، على ما تؤدب الدواب وتعذب للرياضة والتعليم؛ لردها إلى الانتفاع بها. أو يعذبه لما يشغله عن ذكر اللَّه والقيام ببعض أموره، على ما ذكر في آية أخرى حيث قال: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ. فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. . .) الآية، لما شغله عن ذكر ربه؛ فعلى ذلك جائز أن يكون تعذيب الهدهد على الوجوه التي ذكرنا. ومن الناس من استدل بهذا على مخاطبة الطيور والدواب وغيرها، وتكليفها بأمور كما يكلف غيرها من الخلائق، واحتج على هذا بقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)، أخبر أن الطير وغيره أمم أمثالنا، وقد أخبر في آية أخرى أنه لم تخل أمة عن أن يكون فيها نذير بقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)، الأمة التي هي أمثالنا من الإنس والجن، دليله قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وقوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ

(22)

وَالْإِنْسِ. . .)، ونحوه كثير، وقوله: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)، ليس في الخطاب والتكليف، ولكن في أشياء كثيرة. وقوله: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) أي: لم يمكث طويلا حتى جاءه. وفي حرف ابن مسعود: (فمكث غير بعيد ثم جاءه). (فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ): كأنه سأله: أين كنت؟ فقال عند ذلك له: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ). وفي حرف أبي: (أحطت بما لم تحط به أنت ولا أحد من جنودك)، أي: بلغت ما لم تبلغ أنت، أي: علمت ما لم تعلم أنت ولا أحد من جنودك. ثم قال: (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ): لا شك فيه؛ فكأنه سأله عن ذلك النبأ، فقال عند ذلك - واللَّه أعلم -: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يؤتى الملوك على ما ذكرنا في قوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). ثم العجب من أمر بلقيس أن كيف خفي خبرها وأمرها على سليمان كل ذلك الخفاء، وكانت بقرب منه، وكانت ملكة جبارة ذات سلطان وملك، وكان يذهب في كل غدو مسيرة شهر، وفي كل رواح كذلك، كيف لم يطلع على أمرها وخبرها؟! وكانت الجن والشياطين مسخرين له ومذللين، يعملون له الأعمال الصعبة الشديدة، ويطوفون في الآفاق والأفق، وكان هو بعث إلى الدعاء إلى توحيد اللَّه، كيف خفي عليه أمرها وخبرها كل هذا الخفاء، حتى أخبره بذلك الهدهد؟! هذا - واللَّه أعلم - أمر عجيب، ومن عادة الملوك -أيضًا- أنهم يطلع بعضهم على أمور بعض، ويعلم بأحواله. لكن يحتمل خفاء خبرها عليه لما لا يتجاسر كل أحد أن يكلمه في ذلك، وأن يعلمه عن حالها - وإن كان لا يعلم هو ذلك - إلا بعد السؤال وطلب الخبر؛ تعظيمًا له وإجلالا؛ وهكذا الملوك ليس يتجاسر كل أحد أن يخبره عن كل أمر وخبر إلا بعد السؤال إياه؛ تعظيمًا لهم وتوقيرا، فعلى ذلك أمر سليمان مع بلقيس. أو أن يكون لأمر وسبب لم يبلغنا ذلك، ولم نشعر به. وقال بعض أهل التأويل في قوله: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ): إنما طلبه وتفقده؛ لأن الطير كانت تظله على رأسه من الشمس، فلما نظر إلى الطير وجد موضع الهدهد خاليا يقع عليه الشمس، فعند ذلك قال: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ). وقالوا في قوله: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا) أي: لأنتفن ريشه حتى تصيبه الشمس، فذلك هو العذاب الشديد، لكن لا نفسر ما ذلك العذاب الشديد الذي أوعده سليمان مخافة الكذب واللَّه أعلم.

(23)

وقوله: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: غير طويل. وجائز أن يكون: فمكث وقتا يأتي في مثله مَن كان غير بعيد؛ لأنه إنما يعبر به عن المكان لا عن الوقت في الظاهر. فقال: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) كأنه يريه المناصحة له والشفقة، يقول: أتيتك من العلم والخبر ما لم تأت أنت ولا أحد من - جنودك، فكيف تعذبني؟! وفي حرف عبد اللَّه: (فمكث غير بعيد ثم جاءه). قال أبو معاذ: مكَث: بنصب الكاف ورفعها مكُث لغتان. وقوله: (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: حق لا شك فيه، أي: عند الهدهد، وأما عند سليمان فلا؛ ألا ترى أن سليمان قال له: (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، وقف في خبره لينظر أصدق ما يقول أم كذب؟ وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي: عجيب. ثم اختلف في قوله: (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: سبأ: اسم رجل تنسب القرية إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اسم بلدة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: سبأ: أبو اليمن. فمن جعلها اسم بلدة لم يجر، ومن جعلها اسم رجل جره، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) كأنه على الإضمار، أي: وجدت امرأة تملكهم، أي: تملك أهل سبأ، ألا ترى أنه قال في آخره: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) ذكر القوم في آخر الآية؛ دل أن (الأهل) كان مضمرا فيه. وقوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي: أوتيت من كل شيء كما يؤتى الملوك من الذكور من الأسباب والهيئة وغير ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وأوتيت من كل شيء في بلادها. (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ): قال أهل التأويل: أي: لها سرير حسن عظيم ضخم، كذا كذا ذراعًا طوله، وكذا كذا ذراعًا عرضه. وجائز أن يكون العرش كناية عن الملك؛ كأنه قال: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي: ملك

(24)

عظيم. وقوله: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) (يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، أي: يعبدون الشمس من دون اللَّه. وجائز: يطيعون للشمس ويخضعون لها من دون اللَّه. وقوله: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) الخبيثة السيئة حتى رأوها حسنة (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ): وهو سبيل اللَّه؛ لأن السبيل المطلق هو سبيل اللَّه وهو الإسلام، والكتاب المطلق كتاب اللَّه. وقوله: (فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ): فإن كان هذا القول من الهدهد؛ فتأويله: فصدّهم عن السبيل فهم غير مهتدين؛ لأنه لا يحتمل أن يعرف أنهم لا يهتدون في حادث الوقت. وإن كان من اللَّه فهو إخبار أنهم لا يهتدون أبدا، لما علم أنهم لا يهتدون، واللَّه أعلم. وقوله: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اختلف في تلاوته بالتخفيف والتشديد: فمن قرأه بالتشديد: (أَلَّا يَسْجُدُوا) فهو يخرج على وجهين: أحدهما: على طرح (لا) كأنه يقول: فهم لا يهتدون أن يسجدوا، أي: هم لا يهتدون أن يسجدوا. والثاني: صلة قوله: (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) لئلا يسجدوا. ومن قرأ بالتخفيف فهو يخرج على الأمر، أي: ألا فاسجدوا لله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ألا - بالتخفيف -: هلا يسجدون لله؛ وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود أنه قرأ: (هلا يسجدوا لله)، وهو حجة من قرأه بالتخفيف. وفي حرف أبي: (ألا تسجدوا لله)، بالتاء على المخاطبة إلى قوله: (وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ). وذكر في حرف حفصة: (ألا يسجدون) بالنون. قال الكسائي: ومن شدد (ألَّا) فتأويله: زين لهم الشيطان ألا يسجدوا على ما ذكرنا. وأما التخفيف فهو على وجه الأمر، أي: اسجدوا و (أَلَا) صلة والياء صلة أيضا - ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: من قرأه بالتخفيف يلزمه السجود؛ لأنه أمر. وأما من قرأه بالتشديد فلا يلزم. لكن عندنا سواء يلزمه السجود بالتلاوتين جميعًا؛ لأنه لا يحتمل أن يلزم السجود فيما يأمر غيره بالسجود، ولا يلزم فيما يخبر عنهم أنهم لا يسجدون، بل لزوم السجود فيما يخبر أنهم لا يسجدون أولى؛ خلافًا لصنيعهم وإظهارًا للطاعة لله في ذلك، واللَّه أعلم.

(26)

وقوله: (يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الخبء: ما يخبأ من الشيء ما كان. قَالَ بَعْضُهُمْ: خبأ في السماء المطر فيخرج، وفي الأرض النبات فيخرج ذلك النبت. ويحتمل الخبء ما يخبئ بعضهم من بعض وشر بعضهم بعضا، يخبر أنه يظهر ذلك ويعلمه؛ ألا ترى أنه قال: (وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) على الوعيد؛ ليكونوا على حذر أبدًا. وفي حرف حفصة: (ألا يسجدون لله الذي له الغيب في السماوات والأرض). وقوله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) ذكر هذا - واللَّه أعلم - جواب قوله: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)، يقول: رب العرش العظيم هو اللَّه الذي لا إله إلا هو، لا هي، أعني: بلقيس. وقوله: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) أي: ننظر أصدقت فيما أخبرت وأتيت من أمر بلقيس، أم كنت من الكاذبين في ذلك؟ وقف في خبره، ولم يصدقه ولم يكذبه إلى أن يظهر له الصدق أو الكذب؛ وهكذا الواجب على كل من أخبر بخبر أن يقف فيه إلى أن يظهر له الحق في ذلك، إذا كان الخبر ممن يحتمل الغلط والكذب. ثم قال له: (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) لا يحتمل أن يكون سليمان أمر الهدهد بذهاب الكتاب إليها ويوليه تبليغ ذلك إليها، وهو أعظم من خبره الذي أخبره بذلك بعدما وقف في خبره قبل أن يتبين ويظهر له صدقه في خبره؛ فدل توليته إياه تبليغ الكتاب إليها أنه قد ظهر له صدقه فيما أخبره من أمر تلك المرأة، إما بوحي من اللَّه تعالى إليه، أو انتهى إليه من الخبر ما قد علم بذلك علم يقين وإحاطة، فعند ذلك ولاه تبليغ الكتاب إليها حيث قال له: (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ). وقوله: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) يحتمل وجهين: أحدهما: ألق الكتاب إليهم ثم تول، أي: استتر واختف عنهم، فانظر ماذا يقولون، وماذا يرددون فيما بينهم من الكلام والجواب؟ والثاني: على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: ألق الكتاب إليهم، فانظر ماذا يرجعون من الجواب؟ ثم تول عنهم، أي: أعرض عنهم؛ ففعل ما قال له سليمان من إلقاء الكتاب إليها، وإن لم يذكر في الآية. * * * قوله تعالى: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ

(29)

بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) حيث قالت: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) فكأنهم قالوا: ممن ذلك الكتاب؛ فقالت عند ذلك (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ). وقوله: (كِتَابٌ كَرِيمٌ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: حسن؛ لما رأت فيه من الكلام الحسن والقول اللطيف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كِتَابٌ كَرِيمٌ) أي: مختوم، وقد ذكر في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " من كرم الكتاب ختمه " أو كلام نحو هذا أو شبهه. وجائز أن يكون فيه إضمار، أي: إني ألقي إليَّ كتاب من إنسان كريم، وسليمان كان معروفًا بالكرم، يشبه أن يكون قد أتاها خبر كرمه. و (الْمَلَأُ) قالوا: هم الأشراف وأهل السؤدد. وقال الزجاج: سموا لما اجتمع عندهم من حاجات الناس، وحسن الرأي والتدبير في كل شيء من الأمور، أو كلام نحو هذا. وقوله: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) هو ما ذكرنا كأنهم سألوها ممن ذلك الكتاب؛ فقالت: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ)، وسألوها -أيضًا-: ما في ذلك الكتاب؛ فقالت: (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قوله: (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) أي: لا تتكبروا ولا تتعظموا عليَّ. (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ): مخلصين لله بالتوحيد، أي: اجعلوا أنفسكم سالمة لله خالصة له، لا تجعلوا لأحد سواه فيها شركا ولا حقا؛ لأنه أخبر أنهم كانوا يسجدون للشمس من دون اللَّه فيخبر في الكتاب، حيث افتتح ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: أن الذي يستحق السجود والعبادة هو اللَّه الرحمن الرحيم لا ما تعبدون أنتم. ثم إن من عادة الأنبياء والرسل الإيجاز في الكلام والرسائل، لا يشتغلون بفضول الكلام وتطويله، على ما ذكر من كتاب سليمان إلى بلقيس: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ذكر هذا القدر كان الكتاب، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) استشارت أشراف قومها وطلبت منهم الرأي في ذلك، وهكذا عمل الملوك وعادتهم أنهم إذا أرادوا

(33)

أمرا أو استقبلهم أمر يستشيرون أولي الرأي من قومهم وأهل الحجى والتدبير منهم، ثم يعملون بتدبير يكون لهم وما يرون ذلك صوابًا؛ وعلى ذلك أمر اللَّه رسوله أن يشاور أصحابه بقوله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، ثم أمره إذا عزم على الأمر أن يتوكل على اللَّه في ذلك، وأن يكل أمره إليه. وقوله: (حَتَّى تَشْهَدُونِ): يحتمل وجهين: ما كنت قاطعة أمرا حتى تحضروا. أو ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدوا أنه صواب حق. فأجابوها فيما طلبت منهم الرأي والتدبير في ذلك، فقالوا: (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) أي: نحن أولو قوة في أنفسنا وأولو بأس شديد، أي: حرب وقتال شديد، أي: لنا معرفة في ذلك، ومع ما قالوا وكلوا الأمر إليها حيث قالوا: (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ)، وهكذا الواجب على وزراء الملوك والرعية أنهم إذا استشاروهم في أمر أن يدلوهم على الأصوب والحسن لهم، ثم يكلوا الأمر إليهم. وقصة سليمان صلوات اللَّه عليه مع ما فيها من العجائب والآداب، ففيها معرفة سياسة الملوك وتعلم آدابهم؛ من ذلك: ما قال سليمان: (فَهُم يُوزَعُونَ)، ومن ذلك قوله: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ. . .) الآية، وقوله: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا)، أو من ذلك استشارة بلقيس أشراف قومها في ذلك وجوابات قومها لها، وإخبارها إياهم من طبع الملوك وعاداتهم من الإفساد والقتل والإذلال؛ حيث قالت: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) قال أهل التأويل: هذه شهادة من اللَّه لها بما قالت، والتصديق لها فيما أخبرت أنهم كذلك يفعلون بكبرائهم. ثم قال: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) ذكر أنها قالت: إن لي في هذا رأيا، فإن يك صاحب دنيا فعسى أن نرضيه بالمال فيسكت عنا ويكف شره، وإن يكن نبيا فلا يقبل ذلك منا وسنعرف، فعملت ذلك وأرسلت إليه بهدايا، فلم يقبلها سليمان فعرفت أنه نبي، وهذا كان منها تدبيرًا أو حسن الرأي في الأمر واحتيالا وفقت في ذلك، لم تشتغل بالحرب والقتال على ما أشار لها قومها. وقال ابن عَبَّاسٍ: " قالت بلقيس لما أتاها كتاب سليمان، واستشارت قومها في ذلك وطلبت فتياهم، فأفتوا لها بما أفتوا - قالت: أبعث إليه بهدية، فإن قبلها فهو ملك فأحاربه، وإن لم يقبلها فهو نبي أتابعه ".

(36)

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَنَاظِرَةٌ) يقال: أنظرته نظرة، أي: أمهلته، والنظرة في الدَّين خاصة وهو الإنظار. * * * قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) وقوله: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ): الرسول الذي بعثت معه بلقيس الهدية. ويحتمل: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ) المال الذي بعثت إليه؛ يحتمل ذا أو ذا. وقوله: (قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ) أي: أتعطونني بمال، وقال أهل الأدب: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ) من المدد، والمدد الزيادة كما يمد القوم، ويكون الإعطاء كقوله: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)، ويحتمل هذه الزيادة، واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) أي: ما آتاني اللَّه من النبوة والعلم والحكمة خير مما آتاكم من الأموال. ويحتمل: (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ) فأوتيكم إذا أتيتموني مسلمين (خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ)؛ إذ لم تؤتوني وأوتيتم الإسلام، أو كلام نحو هذا. وقال بعض أهل التأويل: فما آتاني اللَّه من الملك خير مما آتاكم من الملك؛ لأنه سخر له الجن والإنس والشياطين والطيور والرياح وجميع الأشياء، فذلك خير له وأعظم من ملكها. والأول أشبه وأقرب؛ إذ لا يحتمل أن يفتخر سليمان بملكه على غيره، إنما يكون افتخاره بالدِّين والنبوة، واللَّه أعلم. وقوله: (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: بل أنتم بهديتكم تفرحون إذا ردت إليكم، لكن هذا بعيد: لا تفرح برد الهدية إذا ردت إليها، ولم تقبل بل تحزن على ذلك وتهتم، لكنه يقول - واللَّه أعلم - بل أنتم أولى بالفرح بالمال والهدايا منا؛ إذ مرادكم المال والدنيا، ومرادنا الدِّين ودار الآخرة، أو كلام نحو هذا، واللَّه أعلم بذلك.

(37)

وقوله: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قال ذلك - واللَّه أعلم - للرسول الذي أتاه بالهدية: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَ)، أي: لنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بها إن لم يأتوني مسلمين، (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) إن لم يأتوني مسلمين. ثم قال سليمان - عليه السلام -: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) إنما خاطب به أشراف قومه، وهكذا العادة في الملوك أنهم إذا خاطبوا أحدًا بثيء إنما يخاطبون أهل الشرف والمنزلة منهم. (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ): قال بعض أهل التأويل: إنما قال هذا لأنه علم نبي اللَّه متى أسلموا يحرم أموالهم مع دمائهم، فأحب أن يؤتى به قبل أن يحرم ذلك عليه، لكن هذا محال بعيد وفحش من القول لا يحتمل أن يكون رغبة سليمان في الأموال هذا الذي ذكر بعدما رد هداياها إليها، وأخبر: إنكم تفرحون بها؛ لأنكم أهل دنيا؛ إذ رغبة أهل الدنيا في الأموال، ونحن أهل الدِّين رغبنا في الدِّين به نفرح، ويستعجل كل هذا الاستعجال رغبة في مالها وعرشها. لكنه - واللَّه أعلم - يخرج على وجهين: أحدهما: أنه أراد أن يريهم قوته وسلطانه أن يرفع واحد من جنوده عرشها - مع عظمه - بمعاينة منهم ومشاهدة وحمله من بينهم؛ ليعلموا أن من قدر على ذلك لقادر أن يأتيهم بجنود لا طاقة لهم تصديقًا لما قال: (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا)، ويقدر على قهرهم وغلبتهم. والثاني: أراد أن يريهم آية من آيات نبوته إذا أتوه (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)؛ ليعلموا أنه نبي ليس بملك. وهذا التأويل الذي ذكرنا آية، لكنه قبل أن يأتوه؛ ليعلموا أنه نبي ليس بملك. وقوله: (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي: مصالحين، وذلك جائز في اللغة. وقوله: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ بَعْضُهُمْ: مقامه: مجلسه الذي كان يقضي فيه إلى أن يفرغ من قضائه حتى يؤتى به. (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ): لأن الجن أقوى من الإنس وصف نفسه بالأمانة؛ لأن الجن لا يرغبون في الأهوال ما يرغب الإنس.

(40)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمين على فرج تلك المرأة. مقامه: مجلس الرجل يكون فيه حتى يقوم، ولكن لا ندري ما أراد بمقامه الذي ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراد سليمان أن يكون أعجل من ذلك (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) ذكر أنه كان رجلا يعلم اسم اللَّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ). ثم اختلف في ارتداد طرفه. قَالَ بَعْضُهُمْ: هو أن يبعث رسولا إلى منتهى طرفه فلا يرجع حتى يؤتى به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الرجل ينظر إلى الشيء البعيد قبل أن يرجع إليه طرفه. (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: دخل في نفق الأرض، فخرج بين يدي سليمان - يعني: العرش - كأنه - واللَّه أعلم - أتاه إذ دعاه بذلك الاسم، من غير أن تكلف هو حمله أو إتيانه؛ فهذا يدل أن الآيات قد تجري على غير أيدي الرسل، لكن تكون الآية للرسول وإن كانت تجري على أيدي غيره. ثم قال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: واللَّه ما جعله فخرا ولا أشرا ولا بطرا، لكنه جعله شكرا وتواضعا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لما دعا ذلك الرجل بذلك الاسم فرآه مستقرا عنده، وقع في قلب سليمان شيء وخطر بباله أنى يكون رجل عنده علم ما ليس عنده من العلم، قال: فعزم اللَّه له على الخبر. وقيل له: إنه ممن خولك اللَّه، فقال سليمان: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي)، يقول: ما أعطى ذلك الرجل ما لم يعطني (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ) إذا كان مثله تحت يدي. (أَمْ أَكْفُرُ)، لكن لا يحتمل أن يشكر اللَّه على ما أعطى غيره. ثم يحتمل قوله: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) إتيانه أُولَئِكَ مسلمين، أو النبوة والعلم الذي آتاه اللَّه، قال: ذلك من فضل ربي، أراد: تسخير ما سخر له (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)، أي: يمتحنني أأشكر أم أكفر؟ (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)؛ ليعلم أنه إنما يمتحن بالشكر، ويأمره به لا لمنفعة الممتحن ولكن لمنفعة المأمور به.

(41)

وقوله: (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ): غني: عن شكره، كريم: يقبل القليل منه واليسير. وقوله: (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) قال أهل التأويل: (نَكِّرُوا) أي: غيروا لها عرشها؛ كأنه أمر أن يغيروا بعض ما عليه من الزيادة والنقصان؛ ليمتحنها أتعرف أنه عرشها أم لا؟ والمنكر هو الذي لا يعرف؛ كقوله: (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)، وقوله: (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)، أي: لم يعرفهم. وقوله: (نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا): كان يجيء أن يقال: نكروا عرشها، ويكون (لَهَا) زائدة، إلا أن يقال: (نَكِّرُوا لَهَا)، أي: نكروا لأجلها عرشها، وهذا يشبه أن يكون. وقوله: (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ): قال أهل التأويل: أتهتدي أنه عرشها أو لا تهتدي إليه؟ وجائز أن يكون قوله ننظر: أتهتدي إلى دين اللَّه وتوحيده، أم تكون من الذين لا يهتدون إلى دين اللَّه؟ * * * قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) وقوله: (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: شبهت هي عليهم ولبست أمره، كما فعلوا هم بها من تغيير عرشها عليها وتلبيسه عليها، لكن قوله: (كَأَنَّهُ هُوَ) لم تقطع فيه القول لما رأت فيه من التغيير والتنكير، ورأت فيه سررها - وقفت فيه. ودل قوله: (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ) أن العرش لم يحمل وهي نائمة، على ما قاله بعض أهل التأويل: إنه حمل دونها من قبل، ثم جاءت بعد ذلك - واللَّه أعلم - ألا ترى أنه لو أمرهم أن يغيروا عرشها وهي عليه لم تشعو به - هذا بعيد، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ): إن كان هذا القول من سليمان فكأنه يقول: قد أوتينا العلم من قبل علمها به أنه عرشها، ولنا غنية عن السؤال لها عنه، لكن نسألها مستخبرين عن ذلك ممتحنين لها. وقوله: (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي: صرنا مسلمين جميعًا، وأن يكون هذا صلة قوله: (وَلَقَدْ

(43)

آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا)، فهذا العلم الذي قال: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ)، وإلا في الظاهر ليس هذا صلة ما تقدم من قوله: (قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قَالَ بَعْضُهُمْ: صدها عبادتها الشمس والأصنام التي عبدوها دون اللَّه عن الإسلام وعبادة اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وصدها سليمان عن عبادتها التي كانت تعبد من دون اللَّه؛ لأنه ذكر أنها أسلمت. وقوله: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) قَالَ بَعْضُهُمْ: الصرح: صحن الدار؛ وهو قول الزجاج. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ وأكثر أهل التأويل: الصرح: هو القصر. ثم لا ندري ما سبب بناء ذلك الصرح؟ وما سبب أمره إياها بالدخول فيه وكشفها عن ساقيها؟ أما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا في ذلك: قَالَ بَعْضُهُمْ: قالت الجن لما أقبلت بلقيس: لقد لقينا من سليمان ما لقينا من التعب، فلو اجتمع سليمان وهذه المرأة وما عندها من العلم لهلكنا، وكانت أم هذه المرأة جنية، فقالوا: تعالوا نُنقصها ونكرهها إلى سليمان، فقيل لسليمان: إن رجلها مثل حافر الدواب؛ لأن أمها كانت جنية، فأمر سليمان عند ذلك فبني له بيت من قوارير فوق الماء، وأرسل فيه السمك لتحسب أنه ماء فتكشف عن رجليها، فينظر سليمان أصدقت الجن أم كذبت، فلما رأته حسبته الماء وكشفت عن ساقيها فنظر إليها سليمان فإذا هي أحسن الناس قدمين وساقين، فلما رأت الجن أن سليمان رأى ساقيها قالت الجن: لا تكشفي عن ساقيك (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن ذكر لسليمان أن على ساقيها شعرا وأنهما شعراوان، فأمر بذلك ليعرف ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن خافت الجن عند ذلك أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أشياء كانوا أطلعوها عليها وأفشوا إليها، فأرادوا أن يكرهوها إليه، فطعنوها بعيوب في عقلها ونفسها، فقالوا: يا نبي اللَّه، ألا نريك عقلها فإن في عقلها شيئًا؟ قال: بلى،

فجاءت الجن بماء فأجروه فتركوه لجة، ثم جاءوا بالسمك والضفادع فأرسلوها في الماء، ثم جيء بها إلى ذلك الماء، فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، فقالوا لسليمان: إن في عقلها آفة؛ ألا ترى أنها لا تعرف الصرح من الماء، ولا تميز بينهما؟ أو نحو هذا من الكلام. لكن لا نعلم ما سبب ذلك، ولا يحتمل أن يكون سليمان يحتال هذا؛ لينظر إلى ساقها وهي أجنبية. ثم جائز أن يكون لغير ذلك، أو أراد أن يريها آية من آيات نبوته؛ حيث اتخذ صرحًا ممردا من قوارير يرى كالماء للطافته، وذلك خارج عن تدبير البشر؛ لتعلم هي أن ذلك تدبير السماء لا تدبير البشر. أو أن يكون أراد بذلك - واللَّه أعلم - أن يريها عظم ملكه وسلطانه؛ لتعلم أنه يفعل ما يشاء قادر على ذلك لا ينفعها سوى الطاعة له والإجابة والخضوع لله والإسلام له، فعند ذلك قالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) فيما عبدت دون اللَّه (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: أخلصت وأسلمت نفسي لله رب العالمين. قَالَ الْقُتَبِيُّ: عفريت، أي: شديد وثيق، وأصله العفر زيدت التاء فيه، يقال: عفريت نفريت، وعفريت ونفريت، وعفاريت نفاريت. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: العفريت: الخبيث المارد، وعفاريت جمع. وقال: صدها أي: ردها ومنعها. وقال الصرح: القصر، والصروح جمع. واللجة: الماء المجتمع الكثير. وقال: الممرد: وهو المملس بالطين أو بالجص أو بما كان. وقال غيره: الممرد الطويل. قَالَ الْقُتَبِيُّ: ومن ذلك يقال: الأمرد للذي لا شعر على وجهه، ويقال للرملة التي لا تنبت: مرداة، ويقال: للممرد: المطول، ومنه قيل لبعض الحصون: مارد. وقال الكسائي: الممرد: الأملس، ويقال: منه سمي الأمرد أمرد. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ

(45)

وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ (45) يحتمل هذا: لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا، وأمرناه أن يقول لهم: اعبدوا اللَّه. وجائز أن يكون قوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) بالرسالة، أي: أرسلناه ليدعوهم إلى عبادة وقوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ): يحتمل: وحدوا اللَّه. ويحتمل العبادة نفسها: أن اعبدوا اللَّه ولا تشركوا غيره فيها، ولا تشركوا في تسمية الألوهية غيره، ولكن وحدوه، فكيفما كان ففيه أمر بالتوحيد له في العبادة والألوهية له. وقوله: (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ): مؤمن بصالح ومكذب به، ولم يبين فيم كانت خصومتهم؛ وبَيّنَ مَنْ كانت في هذه الآية؛ لكنه بين في آية أخرى وفسر وهو ما قال: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)، هذه الخصومة التي ذكر في قوله: (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ) بين الرؤساء من المؤمنين بصالح، واللَّه أعلم. وقوله: (يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) أي: لم تستعجلون العذاب قبل الرحمة، واستعجالهم العذاب والسيئة ذكر في آية أخرى وهو قوله: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، فذلك استعجالهم السيئة قبل الحسنة. وقوله: (لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي: لولا توحدون اللَّه ولا تشركوا غيره في العبادة وتسمية الإلهية؛ لكي يرحمكم، وفيه إطماع لهم لو آمنوا وتابوا عنه لرحمهم؛ كقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). وقوله: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) أي: تشاءمنا منك وبمن معك، لم يزل الكفرة يقولون لرسل اللَّه - عليهم السلام - ولمن آمن منهم: اطيرنا بكم، إذا أصابتهم الشدة

(48)

والبلاء يتطيرون بهم ويتشاءمون، ويقولون: إنما أصابنا هذا بشؤمكم، وإذا أصابهم رخاء وسعة فقالوا: هذا لنا بنا ومن أنفسنا، وهو ما قال موسى حيث قال: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ) الآية؛ وكذلك قال أهل مكة لرسول اللَّه حيث قال: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)، كانوا يتطيرون برسول اللَّه ويتشاءمون بما يصيبهم من الشدة، وما ينزل بهم من البلاء، فأخبر اللَّه رسوله، وأمره أن يقول لهم: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: الرخاء والشدة من عند اللَّه ينزل، وهو باعث ذلك لا أنا؛ فعلى ذلك قوله: (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي: ما ينزل بكم ويصيبكم من الشدة والرخاء إنما ينزل من عند اللَّه لا بنا ولا بكم. أو يقال: ما ينزل بكم من العذاب في الآخرة إنما يصيب بتكذيبكم إياي في الدنيا. أو أن يقال: طائركم عند اللَّه، أي: جزاء طيرتكم عند اللَّه، هو يجزيكم بها بعذاب الدنيا والآخرة. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) يحتمل قوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) ابتداء: مرة بالشدة ومرة بالرخاء، لا بما تكسبون من الأعمال. وجائز أن قوله: (تُفْتَنُونَ) بالعذاب بما تكسبون من الأعمال في الدنيا، أي: تعذبون بها. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) يقول: اللَّه أعلم بطائركم وما تطيرتم به. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي: ليس ذلك بي وإنما هو من اللَّه، وهو ما ذكرنا. وقوله: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالَ بَعْضُهُمْ: الرهط: إنما يقال من ثلاثة إلى تسعة، وإذا نقص عن ذلك أو زاد يقال: رجال. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الرهط: النفر، وأراهط ورهوط جمع. ثم يحتمل الرهط وجهين: أحدهما: (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي: تسعة نفر من الأتباع وغيره يفسدون في الأرض ولا يصلحون. والثاني: تسعة رهط لا تسعة نفر من الرؤساء، ولكل أحد منهم رهط من الأتباع يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

(49)

جائز أن هذا إخبار من اللَّه أنهم يفسدون أبدًا في الأرض ولا يؤمنون أبدًا. وجائز أن يكون إخبارا عن حالهم، أي: يعملون الفساد والمعاصي ولا يصلحون، أي: لا يسعون بالصلاح. وقال ابن عَبَّاسٍ: إن هَؤُلَاءِ التسعة كانوا من أبناء أشرافهم، وكانوا بالحِجر، وكانوا فساقا، فقَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: لنقتلن صالحًا وأهله، ثم لنقولن لوليه - أي: لقومه من ورثته -: ما قتلناه. وقوله: (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) فتحالفوا على ذلك، فأتوا صالحا ليلا فدخلوا عليه بأسيافهم ليقتلوه، وعند صالح ملائكة جاءوا من اللَّه تعالى يحرسونه، فقتلوا الرهط في دار صالح بالحجارة؛ فذلك قوله: (وَمَكَرُوا مَكْرًا ... (50): بصالح وأهله، (وَمَكَرْنَا مَكْرًا) أي: أهلكناهم، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): أنهم يهلكون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلَاءِ التسعة الرهط تواثقوا أنهم يبيتون صالحًا ويقتلونه وأهله بعدما عقروا الناقة، وقالوا فيما بينهم: فإن خُوصِمنا في ذلك لنقولن ولنقسمن: ما شهدنا مهلك أهله، أي: ما حضرنا في هلاكهم؛ على هذا التأويل يكون على التقديم والتأخير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هَؤُلَاءِ التسعة كانوا شرار قومه، خرجوا بخمر إلى بعض المغار ليشربوها، ثم ليبيتوا على صالح وأهله، فشربوا هنالك فانهدم بهم الصخرة وعذبوا فيه؛ فذلك قوله: (وَمَكَرُوا): بقتل صالح وهلاكه، (وَمَكَرْنَا مَكْرًا). بهم حيث أهلكناهم، (مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ). والمكر: هو الأخذ بغتة. وقوله: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا) أي: جزيناهم جزاء مكرهم. ثم اختلف في قراءة (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ) بالنون؛ فذلك قول بعضهم لبعض. وقرأه بعضهم بالتاء: (لتبيتنه وأهله ثم لتقولن)؛ فذلك قول الرؤساء للأتباع، ومن قرأ بالياء يجعله خبرًا عن اللَّه تعالى لهم. وقوله: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) أي: لم نُسكن فيها أحدًا، ولكن تركناها خالية كذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (خَاوِيَةً) أي: خربة بما ظلموا كقوله: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) أي: ساقطة خربة، وقد كان ذلك كله: منها ما جعل لغيرهم مسكنًا إذا أهلكهم من نحو ما

(53)

أورث بني إسرائيل ديار القبط وأموالهم، وأنزلهم فيها، ومنها: ما تركها كذلك خالية بعد ما أهلك أهلها وخربها وتركها كذلك. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) أي: في هلاك من ذكر لآية ولعبرة يعتبرون. (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) مخالفة اللَّه، ومخالفة أمره ونهيه. * * * قوله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) وقوله: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ): كأن فيه إضمارًا كأنه قال: أرسلنا لوطًا إلى قومه. (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي: أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون، وتعلمون أنها فاحشة. (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) أي: اشتهاء لكم (مِنْ دُونِ النِّسَاءِ): يقول: تأتون الذكور وتدعون النساء، وهو ما قال في آية أخرى: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ. . .) الآية. وقوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: ولكن أنتم قوم تجهلون، أي: تجهلون الأمر فتعصون. ويشبه أن هذا جواب قول كان من قومه نحو ما قالوا: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، فقال عند ذلك: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ما تقولون، أي: على جهل ما تقولون ذلك، أو كلام نحوه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) قوله: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) في وقت إلا أن قالوا كذا، لا في الأوقات كلها؛ لأنه قد كان منهم قول وجوابات نحو ما قالوا: (ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ. . .) الآية، ونحوه، وقولهم: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)؛ دل هذا منهم أنهم قد علموا أن ما يأتون ويعملون أنه خبيث وفحش ومنكر حيث قالوا: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ). ثم يحتمل قولهم هذا وجوهًا: أحدها: أنهم قالوا ذلك استهزاء منهم بهم. والثاني: قالوا: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ)؛ فإنهم يستقذرون أعمالنا وأفعالنا. والثالث: على التحقيق (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).

(57)

وقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) فيه دلالة أن غير الزوجة يجوز أن يسمى أهلا. قال عامة أهل التأويل: أهله: بناته. وفي قوله: (قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ) دلالة خلق أفعال العباد؛ حيث أخبر أنه قدرها من الغابرين، والغبور والبقاء فعلها، فأخبر أنه قدر ذلك منها وخلق. وقوله: (مِنَ الْغَابِرِينَ) أي: الباقين في عذاب اللَّه. وفي حرف ابن مسعود: (ولقد وفينا إليه أهله كلهم إلا عجوزا في الغابرين). وقوله: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) أي: ساء مطر المنذرين الذين لم يقبلوا الإنذار، ولم تنفعهم النذارة. * * * قوله تعالى: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وقوله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أمر نبيه بالحمد له والثناء عليه على هلاك أعداء الرسل الخالية. ثم قال: (وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) وهم الرسل والأنبياء، صلوات اللَّه عليهم. وجائز أن يكون أمره إياه بالحمد له والثناء عليه لما أنعم عليه من أنواع النعم، منها ما ذكر من هلاك أعداء الرسل وإبقاء أوليائهم؛ تخويفا لأعداء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يهلكوا كما أهلك أعداء الرسل الخالية. أو أن يكون أمره إياه بالحمد له والثناء عليه؛ لما أنعم عليه في نفسه من أنواع النعم من النبوة والرسالة والهداية ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى): يحتمل الرسل؛ كقوله: (وَسَلَامٌ عَلَى

(60)

الْمُرْسَلِينَ). ويحتمل الأمر بالسلام على أصحابه وجميع المؤمنين؛ كقوله: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ)، أمر رسوله بالسلام على المرسلين وعلى أصحابه وعلى المؤمنين. ثم في قوله: (اصْطَفَى) دلالة: أن لا أحد يستوجب الصفوة إلا باللَّه؛ حيث قال: (اصْطَفَى). وقوله: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) أي: الذي فعل هذا بالأمم الخالية من الهلاك للأعداء وإبقاء الرسل والأولياء، أم الأصنام التي تشركون في عبادته، وهي لا تملك شيئًا من ذلك؛ يقول - واللَّه أعلم -: إنكم تعلمون أن اللَّه يملك ما ذكر من إهلاك أعدائه وإبقاء رسله، والأصنام التي تعبدونها دونه لا تملك شيئًا، فكيف تشركونها في ألوهيته؟! وإلا لم يذكر جواب قوله: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) جوابه أن يقولوا: بل اللَّه خير. وكذلك روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إن ثبت -: أنه كان إذا قرأ هذه الآية، قال: " بل اللَّه خير وأبقى وأجل وأكرم ". وقوله: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) يذكرهم بهذا؛ لوجهين: أحدهما: يذكر قدرته وسلطانه في خلق ما ذكر من السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وإنبات النبات من الأرض، وإخراجه على إقرارهم أن اللَّه خالق ذلك لا غيره، فيقول: فإذا علمتم أن اللَّه هو خالق ذلك كله، فكيف أشركتم غيره ممن لا يملك ذلك، ولا يقدر في تسمية الإلهية والعبادة؟! والثاني: يخبر عن اتساق الأمور والتدبير فيهما جميعًا، واتصال منافع أحدهما بالآخر، على تباعد ما بينهما؛ ليعلم أن منشئهما ومدبرهما واحد لا عدد، فإذا عرفتم ذلك فكيف أشركتم غيره فيهما؟! وهو كقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا). وهذا الحرف على الثنوية والدهرية وهَؤُلَاءِ لقولهم بالعدد وإنكارهم الواحد، والأول على المقرين بالواحد إلا أنهم أشركوا الأصنام في التسمية والعبادة. وقوله: (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: الحدائق: الحيطان، والبساتين: ما دون الحيطان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحدائق: الحوائط التي خصت بالأشجار، والبساتين: هي الملتفة بها.

(61)

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحدائق: البساتين والرياض، والحديقة: الروضة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الحدائق: البساتين واحدها: حديقة، سميت بذلك لأنها تحدق بها، أي: تحيط (ذَاتَ بَهْجَةٍ): حسن المنظر. وجائز أنها سميت ذات بهجة لما يبتهج صاحبها إذا نظر إليها ويسر. وقوله: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا) أي: ما تقدرون أنتم أن تنبتوا شجرها، فمن هو دونكم أشد وأبعد، فكيف أشركتم في العبادة وتسمية الإلهية من هو دونكم في كل شيء؟! وقوله: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) أي: لا إله مع اللَّه. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ): يحتمل هذا وجهين: أحدهما: يحتمل (يَعْدِلُونَ) أي: يجعلون من لا يملك ما ذكر عديلا لله. والثاني: (يَعْدِلُونَ) أي: يعدلون عن اللَّه، ويميلون إلى غيره من العدول، والله أعلم. (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) يقرون عليها، ويتعيشون فيها ويبيتون، (وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا): ينتفعون بها أنواع المنافع ويشربون، (وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ)، أي: الجبال لئلا تميد بهم، (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: جعل بين بحر فارس والروم جزيرة العرب حاجزًا، وسميت: جزيرة؛ لما جزر الماء فيها، أي: ذهب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بحر الشام وبحر العراق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا) بين العذب والمالح حاجزًا بلطفه، لا يختلط هذا بهذا ولا هذا بهذا؛ لطفا منه، يذكرهم نعمه عليهم ولطفه: أن كيف أشركتم في عبادته وألوهيته من لا يملك ذلك، وصرفتم شكرها إلى غير المنعم؟! (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) أي: لا إله مع اللَّه. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): لأن من لا ينتفع بما يعلم فكأنه جاهل، نفى عنهم العلم لتركهم الانتفاع به؛ كما نفى عنهم السمع والبصر واللسان والعقل؛ لتركهم الانتفاع بهذه الجوارح والحواس، وإن كانت لهم هذه الجوارح؛ فعلى ذلك جائز نفي العلم عنهم لتركهم الانتفاع به. والثاني: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) لما لا يتكلفون النظر فيما ذكر، أو لا يعلمون أن بينهما حاجزا، واللَّه أعلم.

(62)

وقوله: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) يخرج على الصلة بقوله: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)؛ كأنه يقول: من يملك إجابة المضطر وكشف السوء عنه وجعلكم الخلفاء في الأرض خير، أمَّن لا يملك من ذلك شيئًا؟ فجواب ذلك أن يقولوا: بل الذي يملك ذلك خير ممن لا يملك ولا يقدر على ذلك. أو يخرج على الوجهين اللذين ذكرتهما: أحدهما: أنكم تعلمون أن الذي يجيب المضطر ويكشف السوء هو اللَّه تعالى، لا الأصنام التي تعبدونها، فكيف أشركتموها في الألوهية والعبادة؟! والثاني: أنه إذا أجاب دعوة المضطر وكشف السوء والأحزان ومنع؛ فدل بقاء ذلك كله واتساق الأمر أنه واحد لا شريك له؛ فهذا على الثنوبة، والأول على المشركين؛ لإشراكهم غيره في العبادة له وتسميته الإله. وقوله: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) أي: لا إله مع اللَّه (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ). وعلى ذلك يخرج قوله: (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) على الوجوه التي ذكرناها؛ وكذلك قوله: (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أي من يقدر على ما تقدم ذكره يملك البعث بعد الموت وإحياءكم؛ يلزمهم البعث بهذا أي: من يقدر على هذا يقدر على ما ذكر. (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) أي: لا إله مع اللَّه، بل اللَّه هو المتفرد بذلك دون من يعبدون ويشر كون. وقوله: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ (64) أي: من لج في هذا أو أنكر ذلك وادعى الشرك فيه لغيره، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في مقالتكم. وقوله: (بُشْرًا) من البشارة و " نُشْرًا " بالنون من التفريق والرفع. وقوله: (خُلَفَاءَ الْأَرْضِ): يخلفون من قبلهم من الأمم؛ قال أبو معاذ: وواحد خلفاء خليف، وواحد الخلائف خليفة، والخليف من الخالف كالعليم من العالم. وقوله: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) يقول - واللَّه أعلم - يفعل ذلك، أي يرزقكم، وينزل لكم من السماء ماء، وينبت من الأرض ما تأكلون، ويرعى أنعامكم، أو مع اللَّه إله يهديكم في ظلمات البر والبحر، ويرسل لكم الريح بشرًا، أو يجيب المضطر ويكشف السوء عنه، وكل ما ذكر، أي: ليس معه إله سواه، بل اللَّه يفعل ذلك وحده، فكيف أشركتم غيره في إلهيته وعبادته، على علم منكم أن الذي تعبدون من دونه لا يملك شيئا أن يفعل ذلك

(65)

بكم؟! يذكر سفههم وقلة بصرهم ومعرفتهم. ثم قال: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) أن مع اللَّه إلفا فعل ذلك بكم (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). ثم قال: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) كأنه قال - واللَّه أعلم - لرسوله: قل لا يعلم ممن تعبدون من أهل السماوات ومن في الأرض الغيب إلا اللَّه؛ لأن بعضهم كان يعبد أهل السماوات وهم الملائكة، وبعضهم كانوا يعبدون من في الأرض؛ يقول: لا يعلم ممن تعبدون من دون اللَّه من في السماوات والأرض الغيب، إنما يعلم الغيب اللَّه. ثم قوله: (الْغَيْبَ) يخرج على وجهين: أحدهما: ما يغيب بعضهم من بعض؛ يقول: ما يغيب بعضهم من بعض فهو يعلم ذلك. والثاني: لا يعلم الغيب إلا اللَّه، أي: ما كان وما يكون إلى أبد الآبدين لا يعلم ذلك إلا اللَّه وإن أعلموا وعلموا ذلك. ومنهم من صرف الغيب إلى البعث والساعة، يقول: لا يعلم الساعة أحد متى تكون إلا اللَّه. وقوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ): قال أهل التأويل: وما يشعر أهل مكة متى يبعثون، لكن لو كان الجهل عن وقت البعث، فأهل مكة وغيرهم من أهل السماوات وأهل الأرض في جهلهم بوقت البعث شرعًا سواء، لا أحد يعلم مِن أهل السماوات والأرض أنه متى يبعث، إلا أن تكون الآية في منكري البعث، فحينئذ جائز صرفه إلى بعض دون بعض، فأما في وقت البعث فالناس في جهلهم بوقت البعث سواء، وهو ما قال في آية أخرى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا. . .) الآية، أخبر أنه لم يطلِعْ أحد على علم ذلك عند اللَّه. وقوله: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) اختلف في قراءته وتأويله: أما القراءة: فإنه قرأ بعضهم: (ادَّارَكَ) بالتشديد والألف. وقرأ بعضهم: (ادَّرَكَ) بإسقاط الألف والتشديد. وقرأ بعضهم: (بلى) بإثبات الياء في (بلى)، على الوقف عليها، و (أَأَدَّرَكَ) على الاستفهام: (بلى أَأَدرَكَ). ومنهم من قرأ على الاستفهام: (آدْرَكَ) على غير إثبات الياء في حرف (بَل) وعلى

غير قطع منه. فمن قرأ: (ادَّارَكَ) بالتشديد على غير الاستفهام، يقول: معناه: تدارك واجتمع، أي: تدارك علمهم في الآخرة، يقول: أبلغ علمهم بالآخرة. أي: لم يدرك ولم يبلغ علمهم، (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ)، يسفههم ويجهلهم، يقول: ما بلغ علمهم بالآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ)، أي: أم ادَّارك علمهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ)، أي: خاب علمهم عن الآخرة، وادرك في الآخرة حين لم ينفعهم. وعن الحسن قال: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ)، أي: اضمحل علمهم وذهب، وعن ابن عباس وغيره قالوا: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ)، بل أجمع علمهم بأن الآخرة كائنة، وهم مشركو العرب. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا) قال: يقولون مرة: الآخرة كائنة ثم يشكون فيها فيقولون: ما ندري أكائنة أم لا؟ (بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ) يعني: جهلة بها. وجائز أن يسمى الشاك في شيء: عَمِيا. وأَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ يقولان: (ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) أي: تدارك ظنهم في الآخرة، وتتابع في القول. (بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ) أي: من علمها. وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل الأدب: لا تستقيم قراءة من قرأ بإثبات الياء في (بلى) والصلة بالأول؛ لأن (بلى) بالياء إنما يقال في الإيجاب والإثبات، وما تقدم من الكلام هو على الإنكار والنفي، وذلك غير مستقيم في اللغة والكلام. * * * قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ

(67)

الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) كأنهم قالوا ذلك لأحد وجهين: إما استهزاء بما يخبرهم الرسل أنكم تبعثون، أو قالوا ذلك احتجاجا بما احتجوا به على الرسل بقولهم الذي قالوا: (لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) يحتجون فيقولون: لقد وعد آباؤنا بالبعث كما وعدنا نحن، ثم لم نرهم بعثوا منذ ماتوا؛ فعلى ذلك نحن وإن وعدنا فلا نبعث كما لم تبعث آباؤنا. ثم قال: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) يقول - واللَّه أعلم -: لو سرتم في الأرض فنظرتم إلى ما حل بمكذبي الرسل من العذاب، والرسل إنما كانوا يدعون إلى توحيد اللَّه، والإقرار بالبعث بعد الموت، فكل ذلك ينزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ بتكذيبهم الرسل بالبعث وغيره؛ فيكون قوله: (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ليس على حقيقة الأمر بالسير، ولكن على ما ذكرنا، أي: لو سرتم لعرفتم ما حل بهم بتكذيبهم، أو أن يكون الأمر بالسير في الأرض أمرا بالتفكر فيما نزل بأُولَئِكَ، الأمر بالنظر في عاقبة أمرهم أمر بالاعتبار فيهم، وفي أمر أُولَئِكَ أمر بهذا؛ ليزجرهم ذلك عن مثل صنيعهم وفعلهم. وقوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) قال قائلون: قوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) بما يحل بهم من العذاب، إن لم يحزنوا هم على أنفسهم ولم يرحموها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إن لم يسلموا؛ كقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)؛ وكقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، وأمثال ذلك، كادت نفسه تهلك وتتلف؛ إشفاقًا عليهم بما ينزل بهم بتركهم الإسلام، فقال: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، ليس على النهي، ولكن على تسكين نفسه وتقريرها على ما هي عليه؛ لئلا تتلف وتهلك، وهو ما قال: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). وقوله: (وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ): هذا يحتمل وجهين: أحدهما: لا تكن في ضيق مما يستهزئون بك، ويسخرون بما توعدهم من العذاب

(71)

والهلاك؛ ألا ترى أنهم قالوا على أثر ذلك: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قالوا ذلك له استهزاء بما يوعدهم؛ فكأنه قال لرسوله: لا تكن في ضيق مما يستهزئون بما توعدهم؛ فإن اللَّه يجزيهم جزاء استهزائهم بك. والثاني: (وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي: مما يريدون ويهمون قتلك؛ فإن الله يحفظك ويحوطك؛ فلا يصلون إليك بما يريدون من قتلك وإهلاكك، وهو ما قال: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). وفيه دلالة إثبات رسالته؛ حيث أمنه وأخبره أنه يحفظه ويعصمه من جميع الأعداء وهو بين أظهرهم، فذلك آية من آيات النبوة والرسالة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): قد ذكرنا أنهم إنما يقولون ذلك استهزاء وتكذيبًا بما كان يوعدهم من العذاب بتكذيبهم إياه، ثم كان يوعدهم مرة بعذاب ينزل بهم في الدنيا كما نزل بأوائلهم بتكذيبهم الرسل، ومرة يوعدهم بعذاب ينزل بهم في الآخرة، فيكذبونه في ذلك كله ويستهزئون به ويقولون: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)؛ وكذلك قال أوائلهم لرسلهم: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). ثم قال: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: قوله: (رَدِفَ لَكُمْ) بعد هذه الحال، وبعد هذا القول الذي قالوا: (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)، أي: ينزل بكم بعد هذه الحال بعض الذي تستعجلون وهو العذاب، وقوله: (رَدِفَ لَكُمْ) أي: يدنو منكم ويقرب. والثاني: (عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) بعد الحزن والمكروه الذي يحل بكم بالموت (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) وهو عذاب القبر؛ لأنهم وقت الموت يحزنون ويكرهون لما شاهدوا وعاينوا من حالهم؛ ولذلك يسألون ربهم الرجوع والرد إلى المحنة ثانيًا؛ نحو قولهم: (رَبِّ ارْجِعُونِ)، وقولهم: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ)، ونحوه. وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) يحتمل قوله: (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) وجوهًا: أحدها: ذو فضل في تأخير العذاب عنهم، ولكن أكثرهم لا يشكرون ذلك الفضل ولكن يستعجلون. والثاني: ذو فضل على الناس في دينهم في بعثه وإرساله إليهم من يزجرهم ويصرفهم عما يستوجبون من عذاب اللَّه ومقته وهو الرسول، لكنهم لا يعرفون هذا الفضل ولا يشكرونه، بل يعاندونه ويكابرونه.

(74)

أو لذو فضل على الناس فيما أنعم عليهم في أموالهم وأنفسهم، لكنهم لا يشكرون في ذلك، بل يصرفون شكره إلى غير المنعم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) قوله: (تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) يحتمل وجهين: أحدهما: ما تكنون أنتم في صدوركم وتسترون فيها (وَمَا يُعْلِنُونَ)، أي: ما يبدون ويظهرون فيها، يعلم ذلك كله. أو (مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ)، أي: ما تخفي أنفس الصدور وتستر فيها (وَمَا يُعْلِنُونَ): وما تحمل الصدور أصحابها على إبداء ما فيها وإظهاره، وهو ما ذكر في الخبر حيث قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن في الإنسان مضغة إذا صلحت صلح جميع بدنه وهو القلب "، والله أعلم. وقوله: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) هذا يخرج على وجهين -أيضًا-: أحدهما: ما من غائبة في السماء والأرض مما كان ويكون أبد الآبدين إلا كان ذلك مبينا في كتاب مبين، يخبر أنه كان لم يزل عالمًا بما كان منهم أبد الآبدين، وأنه عن علم بأفعالهم وصنيعهم خلقهم وأنشاهم، لا عن جهل وغفلة. والأني: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أي: ما من غائبة عن الخلق ما يغيب بعضهم من بعض ويستر بعضهم بعضا، (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ): إلا كان ذلك عند اللَّه محققا ظاهرًا مرقوبا، ينبههم؛ ليكونوا على حذر؛ يقول: إن ما يغيب بعضهم من بعض فهو عند اللَّه محفوظ رقيب لا يغيب عنه شيء؛ كقوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، واللَّه الموفق. قَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) أي: أعجل لكم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وقوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) قوله:

(77)

(أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) مقطوع من قوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)؛ كأنه قال: (يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: يبين لهم، ثم قال على الاستئناف: (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن هو موصول بعضه ببعض؛ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ) أي: يبين على بني إسرائيل أكثر ما اختلفوا فيه. فإن كان على ما يقول هذا، فهم بأنفسهم يبينون الاختلاف الذي هم فيه لا يحتاج إلى أن يبين القرآن الذي هم فيه يختلفون؛ إذ هم يبينون ما اختلفوا فيه. ولكن تأويله - واللَّه أعلم - إن هذا القرآن يبين لهم الحكم في أكثر ما يختلفون، أو يبين لهم الحق في أكثر ما يختلفون فيه. وفي ظاهر الآية أنه يبين لهم أكثر الذي هم فيه يختلفون: أنه قد بقي شيء مما اختلفوا فيه لم يبين لهم؛ حيث قال: (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، لكن قوله: (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي: يبين لهم ما فيه نص القرآن، ولم يبين لهم ما فيه دليل القرآن، أو يبين لهم ما فيه نص القرآن ولم يبين ما فيه سنة القرآن ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنَّهُ ... (77) أي: القرآن الذي ذكر، (لَهُدًى وَرَحْمَةٌ) أي: هدى ورحمة، أي: هدى من الضلالة لمن اتبعه في الدنيا وعمل به، ورحمة في دفع العذاب عنهم في الآخرة، فيكون هو هدى ورحمة لمن آمن به. وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) حكمه: هو عدله؛ كأنه يقول: إن ربك يقضي بينهم بعدله، لا يجور ولا يظلم في الحكم والقضاء. (وَهُوَ الْعَزِيزُ): الذي لا يعجزه شيء، (الْعَلِيمُ): الذي لا يخفى عليه شيء؛ عزيز بذاته عالم بذاته. وقوله: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) أي: توكل على اللَّه واعتمد عليه، ولا تخف مكرهم وما يريدون ويقصدون أن يكيدوا بك؛ كقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وقوله: (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)؛ لأن معك حججا وبراهين، وليس مع أُولَئِكَ حجج وبراهين، وإن كان كل منهم يقول: إنا على الحق، فأنت على الحق المبين لا هم؛ لأن معك حججا وبراهين؛ فالذي أنت عليه حق، وإن الذي هم عليه باطل ليس بحق. وقوله: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) قال بعض أهل التأويل: بلغنا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نادى يوم بدر: " يا فلان ويا فلان - وهم قتلى بعدما أمر أن يجمعوا

(81)

في قليب - هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟! ألم تكذبوا نبيكم وتكفووا بربكم وتقطعوا أرحامكم "؟! فأنزل اللَّه هذه الآية: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى). لكن عندنا أن اللَّه تعالى سمى الكافر: ميتًا في غير آي من القرآن؛ لما لم يجهدوا أنفسهم في عبادة اللَّه ولا استعملوها في طاعته، فهم كالموتى، وسماهم: صُمًّا؛ لما لم يسمعوا الحق ولم يقبلوه، وسماهم: بُكما؛ لما لم ينطقوا بالحق ولا تكلموا به، وسماهم: عُميا؛ لما لم يبصروا الحق، وسماهم: موتى؛ لما لم يستعملوا أيديهم في الحق؛ فنفى عنهم هذه الحواس لما لم ينتفعوا بهذه الحواس، ولا استعملوها فيما أنشئت وخلقت وإن كانت لهم هذه الحواس؛ فعلى ذلك سماهم: موتى وهلكى، وفي موضع آخر شبههم بالأنعام وأخبر أنهم أضل؛ لما لم يستعملوا أنفسهم فيما أنشئت هي له، ولم ينتفعوا بها. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله: (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ): أخبر أنه لا يقدر على أن يسمع الصم إذا ولوا مدبرين، ولا يقدر أن يسمع الصم وإن أتوا مقبلين ولم يولوا؟ قيل: معناه - واللَّه أعلم - أنهم صاروا صُمًّا لا ينتفعون بما سمعوا لإعراضهم وترك إمكان النظر فيه، ولو أقبلوا إليه لانتفعوا به، فيصير مسمعا لهم؛ يخبر عن شدة تعنتهم ومكابرتهم أنهم كالصم المدبرين، لا يمكن إسماعهم بحال ولا تفهيمهم وإن جهد، وأما الصم المقبلون فإنهم قد يمكن إسماعهم وتفهيمهم بجهد بالإشارة والإيماء، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ... (81) وفي بعض القراءات: (وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم)، هذا يدل أن ليس كل الهدى البيان على ما قالت المعتزلة؛ لأنه لو كان الهدى كله بيانًا في جميع المواضع على ما قالوا هم، لكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقدر أن يبين للكفار عن ضلالتهم، وقد بين لهم، ثم أخبر رسوله: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ)، فدل هذا أن عند اللَّه هداية ولطفًا إذا سألوه وطلبوا منه ذلك وأعطاهم لاهتدوا به وآمنوا، فهذا ينقض على المعتزلة قولهم.

(82)

وقوله: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي: ما تسمع إلا أهل الإيمان بالآيات وأهل الإسلام منهم، فأما أهل العناد والمكابرة فلا. وقوله: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي: إذا وقعت الحجة عليهم ولزمت فكذبوها أخرجنا لهم دابة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وإذا وقعت السخطة والغضب عليهم أخرجنا لهم دابة. وقال قائلون: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)، أي: إذا بلغوا في الكفر حدّا يعلم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا بعد ذلك (أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً)، لكن قد ذكرنا في غير موضع: أن هذا لا يصح ولا يجوز؛ إذ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يزل عالما بما كان ويكون منهم أبد الآبدين، فليس علمه بأحوالهم بما يكون منهم إذا بلغوا ذلك الحد، بل لم يزل عالمًا بما يكون منهم، وهذا الحرف الذي يقول القائل يومئ إلى أنه إنما يعلم ذلك منهم إذا بلغوا ذلك الحد وقبل ذلك لا، فهو قبيح. وقول من قال: إذا وقعت الحجة عليهم؛ فهو لا يحتمل أيضًا؛ لأن الحجة قد كانت قامت قبل ذلك الوقت، وليست تقوم الحجة عليهم في ذلك الوقت. فيكون التأويل أحد وجهين: أحدهما: ما ذكرنا من وقوع العذاب، ووجوب العقوبة والسخطة عليهم؛ كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي: العذاب وجب عليهم. والثاني: أي: إذا أتى وقت خروج الدابة التي وعدنا لهم أنها تخرج، أخرجناها لهم في ذلك الوقت، أي: لا يتقدم خروجها عن الوقت الموعود ولا يتأخر؛ كقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، وهكذا كل شيء جعل اللَّه لظهور ذلك وكونه وقتًا لا يتقدم ولا يتأخر ذلك الوقت؛ هذا - واللَّه أعلم - يشبه أن يكون تأويل الآية. وقوله: (تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ): قراءة العامة بالتشديد: (تُكَلِّمُهُمْ) من التكليم والتحديث؛ وكذلك في بعض الحروف: تحدثهم وتنبئهم، وقد قرئ: (تَكْلِمُهُم) بالتخفيف وهو من الجراحة، وهو ما ذكر في الأخبار والقصص أن الدابة إذا خرجت تجرح الكافر، وتسمه بسمة وعلامة، حتى يعرف الكافر من المؤمن فيقال: يا مؤمن ويا كافر. وسئل ابن عَبَّاسٍ عن ذلك؟ فقال: " تكلم المؤمن وتحدثه، وتجرح الكافر "، والله

(83)

أعلم. ثم اختلف في قوله: (أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ)؛ اختلف في تلاوته، وتأويله: (أَنَّ النَّاسَ) بنصب الألف، و (إِنَّ النَّاسَ) بكسرها، فمن قرأ بالنصب: (أَنَّ النَّاسَ) وجعل ذلك القول من الدابة، ثم يخرج على وجهين: أحدهما: تقول الدابة: إن الناس كانوا بي وبخروجي لما وعدوا لا يوقنون أني أخرج، فهأنذا خرجت. والثاني: أنها تخبر عن اللَّه وتنبئ أن الناس كانوا بالدابة وبغيرها من الآيات لا يوقنون. ومن قرأ بالخفض (إِنَّ) يجعل ذلك القول من اللَّه ابتداءَ إخبارٍ: أنهم كانوا لا يزالون لا يوقنون. وفي خروج الدابة أعظم آيات في إثبات رسالة رسول اللَّه ونبوته؛ لأنه أخبر أنها تخرج في وقت كذا؛ فتخرج على ما أخبر في ذلك الوقت على الوصف الذي وصف؛ فتدلهم على صدقه. * * * قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) وقوله: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا): يجمع القادة منهم والأتباع والمتبوعون، فيساقون إلى النار جميعًا؛ كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ. . .) الآية، وكقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الآية؛ وكقوله: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ). قال أهل التأويل: (يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، وقد ذكرنا الوزع فيما تقدم وما قيل فيه.

(84)

وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) أي: حتى إذا جاءوا جميعًا واجتمعوا - يعني: الكفار - قال لهم: (أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا)، يحتمل (وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) أي: قد أحطتم بها علما أنها آيات، لكن كذبتم وأنكرتم أنها آيات عنادا ومكابرة؛ إذ يجوز أن ريكلم بالنفي على إثبات ضده؛ كقوله: (أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) أي: يعلم بضد ذلك وبخلاف ما تقولون أنتم، وذلك جائز في القرآن كثير. أو أن يكون قوله: (وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) لما لم تتفكروا فيها، ولم تنظروا إليها نظر التعظيم والإجلال لكي تعرفوا، وأحطتم بها علما أنها آيات. وإلا لو كان التأويل على ظاهر ما ذكر لكان لهم عذر في تكذيبها إذا لم يحيطوا بها علما؛ إذ من لم يحط العلم بالشيء فله عذر الرد وترك القبول، لكن يخرج على الوجهين اللذين ذكرتهما، واللَّه أعلم. ثم قال: (أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): في تكذيب الآيات والأعمال التي عملوها بلا حجة، ولا برهان. (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أي: وجب القول بالعذاب، ووقع ما وعدوا من العذاب بما ظلموا حيث قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، ونحوه. وقوله: (فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ) أي: لا ينطقون بالحجة مما يكون لهم به عذر. وقوله: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) أي: في الليل والنهار لآيات لقوم يؤمنون. ثم الآيات التي ذكر فيهما تكون من وجوه: أحدها: دلالة وحدانيته ودلالة علمه، وتدبيره وحكمته، ودلالة كرمه وجوده، ودلالة قدرته وسلطانه، ودلالة القدرة على البعث والإحياء بعدما صاروا رمادا وترابًا. أما دلالة كرمه وجوده: ما جعل لهم في الليل والنهار منافع تدوم ما داموا هم. ثم تلك المنافع تكون من وجهين: أحدهما: جعل النهار للتقلب فيه والتصرف لمعاشهم وما به قوام دنياهم، وجعل الليل راحة لهم وسكونا، ولو جعلهما جميعا للتقلب ما قام به معاشهم وما به قوام أنفسهم وأبدانهم أبدًا؛ لأنه لا يلتئم ذلك إلا بالراحة، ولو جعلهما جميعًا للراحة لم يقم أمر معاشهم، فمن رحمته وفضله جعل أحدهما للراحة والآخر للتقلب، وهو ما ذكر في آية أخوى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ). والثاني: من النعمة التي ذكر أنه جعل الذي للتقلب إنما جعل ذلك للكل، لا للبعض

(87)

دون البعض؛ وكذلك الذي هو مجعول الراحة، والقرآن إنما جعله كذلك للكل لا لقوم دون قوم، ولو جعل كذلك لكان لا يقوم أمر معاشهم، ولا ما به يقوم أبداتهم وأنفسهم، ولكن من رحمته وفضله جعل المجعول وقتًا للراحة للكل لا لبعض دون بعض؛ وكذلك المجعول للتقلب؛ ليظفر المشترون بالباعة والباعة بالمشترين؛ ليلتئم أمر معاشهم ودنياهم. وأما دلالة وحدانيته: ما جعل منافع أحدهما متصلة بالآخر؛ إذ لا يقوم أحدهما إلا بالآخر على اختلاف جوهرهما؛ ليعلم أن مدبرهما ومنشئهما واحد؛ إذ لو كان عددا لكان ما أراد هذه إيصاله منع الآخر، فإن لم يكن ولكن جريا على سنن واحد واتساق واحد؛ دل أنه تدبير واحد لا عدد. ودلالة علمه وحكمته: أنهما منذ كانا، كانا على ميزان واحد، وعلى تقدير واحد من غير تغير ولا تبدل يقع فيهما؛ دل أن لمنشئهما علما ذاتتا وحكمة ذاتية، لا علما مكتسبًا مستفادًا كعلم الخلق. وأما دلالة القدرة والسلطان: لأنهما يقهران الخلق كله من الجبابرة والفراعنة شاءوا أو أبوا، حتى إذا أراد واحد منهم أن يمنع أحدهما أو ينقص من الآخر لم يقدر عليه. أو إن اجتمعوا جميعًا على دفعهما أو دفع أحدهما دون الآخر لم يقدروا عليه؛ دل أن لمنشئهما قدرة وسلطانا؛ إذ من قدر على إنشاء هذا لا يعجزه شيء. ودلالة القدرة على البعث: لأنه يتلف أحدهما ويذهب به حتى لا يبقى أثره، ثم يأتي بالآخر على تقدير الأول، فمن قدر على إنشاء هذا بعد ذهاب الآخر بكليته وذهاب أثره لقادر على إنشاء الخلق بعد فنائهم وهلاكهم، وأنه لا يعجزه شيء. ثم لما جعل هذا ما ذكرنا وخلق ما خلق من المنافع التي ذكرنا لهذا العالم خلق هذا العالم للمحنة يأمرهم وينهاهم، وجعل لهم عاقبة فيها يثاب من أطاعه ويعاقب من عصاه؛ إذ لو لم تكن عاقبة لكان خلقهم عبثًا لا حكمة فيه؛ لأن من بني بناء للفناء والنقض خاصة لا لعاقبة يتأمل نفعه كان بناؤه عبثًا غير حكمة؛ فعلى ذلك خلق الخلق لا لعاقبة تقصد عبث ليس بحكمة. والآيات لمن آمن بها وصدق، فأما من لم يؤمن وكذب بها فهي آيات عليهم لا لهم. وقوله: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) اختلف في النفخ ما هو؟ وفي عدده؟ واختلف في الصور أيضًا ما هو؟ وكيف هو؟! أما الاختلاف في النفخ: فمنهم من يقول: ليس على حقيقة النفخ، ولكن إخبار عن خفة قيام القيامة على اللَّه؛ أخبر بالنفخ عنها؛ لأنه أخف شيء على الخلق وأهونه، فأخبر به عنها، وهو ما قال: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ)، شبه أمرها بلمح

البصر لما ليس شيء أخف على المرء من لمح البصر؛ فعلى ذلك النفخ عند قيامها لخفته على الخلق. ومنهم من يقول: ذكر النفخ لسرعة نفاذ الساعة؛ إذ ليس شيء أسرع نفاذا من النفخ، وهو ما قال: إلا صيحة، وإلا رجفة، ذكر ذلك وشبهها بالصيحة والرجفة لسرعة نفاذها؛ إذ ليس شيء أسرع نفاذا من الصيحة والرجفة، فيقول: ليس على حقيقة النفخ، ولكن إخبار عن خفتها على اللَّه أو سرعة نفاذها على ما ذكرنا، وهو ما قال: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)، ليس أنه ينفخ فيه نفخًا، ولكن يجعل كأنه قال: وجعلنا فيه من روحنا. ومنهم من يقول: هو على حقيقة النفخ، فإن كان على هذا فهو أن يمتحن الملك من غير أن يقع له الحاجة إلى ذلك؛ نحو ما امتحن الكرام الكاتبين بكتابة أعمال الخلق وأفعالهم من غير وقوع الحاجة إليه، لكن امتحانًا منه ملائكته بذلك، أو أن يكونوا أحذر؛ إذ هو عالم بما كان وبما يكون كيف يكون؟ ومتى يكون وأي شيء يكون؟ وأما اختلافهم في عدد النفخ: قال قائل: إنه واحد يحتج بقوله: (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً). ومنهم من يقول بالنفختين؛ يحتج بقوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7). أخبر أنه يردف الأولى غيرها، ويحتج بقوله أيضًا: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى). ومنهم من يقول بالنفخات الثلاث يقول: الأولى للفزع، والثانية للصعق على ما ذكرنا في الآية، والثالثة للإحياء. ومنهم من يقول بالثلاث إلا أنه يجعل ذلك كله بعد الموت: أحدها للفزع في القبور، والثانية للإحياء فيها، والثالثة للإخراج منها والنشر، ويقول هذا القائل بعذاب أهل القبر من النفخة الثانية إلى النفخة الثالثة؛ وعلى ذلك رويت أخبار في ذلك، فإن ثبتت فهو ذاك وإلا نقف فيه. وأمَّا اختلافهم في الصور: قال قائلون: ينفخ في الخلق، والصور جمع صورة؛ قال: الزجاج: لا يحتمل هذا؛ لأن الصور على سكون الواو ليس هو من أفراد الصور ولا من جمعها؛ لأن الفرد هو صورة بالهاء وجمع الصورة صور - بتحريك الواو - على ما ذكر في الآية: (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ). ومنهم من يقول: هو قرن ينفخ فيه كقرن كذا، أو بوق كبوق كذا. لكنا لا نفسر شيئًا مما ذكر من النفخ والصور أنه كذا، ولا نشير إلى شيء أنه ذا، إلا إن ثبت شيء من التفسير عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيقال به وليس هو بشيء يوجب العمل به

(88)

فيتكلف صحته أو سقمه، إنما هو شيء يجب التصديق به، فنقول بالنفخ والصور على ما جاء ولا نفسسر، واللَّه أعلم. وقوله: (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)، وقال في آية أخرى: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) إنما هو إخبار عن شدة هول ذلك اليوم؛ كقوله: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى. . .) الآية؛ وكقوله - تعالى -: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ)، ونحوه. وقوله: (إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ): هم الشهداء في الأرض؛ وعلى ذلك روي في بعض الحديث أنه قال: " ما أعطي آدمي بعد النبوة أفضل من الشهادة، لا يسمع الشهيد الفزع يوم القيامة إلا كرجل قال لصاحبه: أتسمع، قال: أسمع كتأذين الصلاة ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الأنبياء والرسل. لكن لا نقول نحن: إن أهل الثنيا هم كذا ولا نشير إلى أحد؛ لأنا لا نعلم ذلك إلا إن ثبت في ذلك خبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فنقول به. وجائز أن يكون الذين استثناهم عن الذين أخبر عنهم في آخر الآية أنهم يكونون آمنين من فزع ذلك اليوم وهوله، وهو ما قال: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ). وقوله: (وَكُلٌّ أَتَوْهُ): قرئ بالمد (آتُوهُ) وتطويله مضموم التاء فيه على مثال (فاعلوه)، وهو جمع (آت)؛ كقوله (إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)، و (أَتَوْهُ) جمع (أتى) وهو من سيأتون. وقرأ بعضهم بقصر الألف ونصب التاء على الإتيان: قد أتوه. وقوله: (دَاخِرِينَ) قيل: صاغرين ذليلين، دخر، أي: ذل. وقوله: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) قَالَ بَعْضُهُمْ: وهي تمر مر كذ!؛ لكثرتها وازدحامها يرنو الناظر إليها ويحسبها كأنها جامدة؛ وكذلك العسكر العظيم

يحسب الناظر إليه كأنه ساكن جامد؛ لكثرتهم وازدحامهم؛ فعلى ذلك الجبال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن لشدة ذلك اليوم وهوله وفزعه على الناس يحسبون كأنها جامدة، (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) وهو ما ذكر: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى. . .) الآية؛ لشدة ذلك اليوم ونزعه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن الجبال لهول ذلك اليوم وفزعه تمرّ مر السحاب وسيره؛ كقوله: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)، وأصله: إنما يذكر هذا وما تقدم من هول ذلك اليوم وشدته على الخلق؛ ليتعظوا وينزجروا. وقوله: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَتْقَنَ): أحكم وأبرم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَتْقَنَ): أي: أحسن كل شيء. قال بعض المعتزلة: كيف يكون الكفر حسنا وهو قبيح؛ لأنه شتم رب العالمين، ولا يجوز أن يقال: اللَّه خلق شتم نفسه وأحسن شتم نفسه، أو أحسن كفر الكافر وغير ذلك من الخرافات؟! فيقال لهم: لا يقول أحد: إنه خلق الكفر وأحسنه أو أحسن شتم نفسه على هذا الإطلاق، من قال ذلك فهو كافر، ولكن يقول: فعل الكفر من الكافر قبيحًا، وخلق فعل المعصية من العاصي قبيحًا، لكنه من حيث خلقه ذلك وجعله حجة عليه حسنًا متقنًا محكمًا، وإن كان ذلك الفعل منه قبيحًا باطلا سفها جورا - أعني: من الكافر - ألا ترى أن من تكلف أن يعرف فعل الكفر منه سفهًا وجورا كان غير مذموم؛ لأنه يتكلف أن يعرف ما هو سفه في الحقيقة سفها، ويعرف ما هو حق حقا فهو من هذا الوجه عارف بحق وحكمة؛ لأن الحكمة توجب أن يعرف كل شيء على ما هو في نفسه حقيقة؛ فعلى ذلك خلق فعل الكفر من الكافر على الوجه الذي ذكرنا هو حسن متقن محكم، وإن كان من حيث فعل الكافر قبيحًا سفهًا باطلا، وهذا كما نصفه على الإطلاق: أنه رب كل شيء وخالق كل شيء، ولا نقول: يا خالق الأنجاس ويا رب الأقذار ونحوه، وإن كان هذا داخلا في الجملة أنه خالقها وربها؛ لأنه على الإطلاق يخرج مخرج المدح له والثناء وعلى التخصيص مخرج الذمِ له؛ فعلى ذلك الأول. وقوله: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ): على أثر وصف الجبال بما وصف من انتقاضها

(89)

وإفسادها، وإخراجها عن الصفة التي أنشأها إلى ما ذكر لم يخرج من الإتقان والإحكام والإبرام؛ ليعلم أن ليس في إفساد الشيء خروج عن الإتقان إذا كان ذلك لحكمة، والله أعلم. وقوله: (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ): وعيد لهم. وقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) قالوا جميعًا: الحسنة هاهنا: التوحيد والإيمان. وقوله: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا): قيل فيه بوجوه: أحدها: من جاء بالتوحيد: توحيد ربه يوم البعث فله خير منها، ومجيئه ربه بالتوحيد إذا ختم به فله ما ذكر، شرط المجيء به، ولم يقل: من عمل بالحسنة فله كذا؛ لأن الرجل قد يعمل بالحسنات ثم يفسدها ويبطلها؛ فلا يثاب عليها؛ ليعلم أن ما ينتفع بالحسنات في الآخرة الحسنة التي ختم عليها وجاء بها ربه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) أي: ما يعطى في الآخرة له من الثواب، والثواب والجزاء إنما يكون من الحسنة التي كانت منه في الدنيا منها يكون له جميع الخيرات في الآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) أي: الذي أعطي له في الآخرة من الخيرات خير مما ترك في الدنيا من النعم وصبر عليها، فذلك خير مما ترك، كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ)، كذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) أي: رؤية الرب ولقاؤه خير مما أعطي غيرها من الخيرات، على ما يكون في الدنيا رؤية الملك ولقاؤه على الرعية أعظم وأفضل عندهم من غيره من الكرامات وإن عظمت وجلت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك الثواب والجزاء في الآخرة خير مما عملوا به من الخيرات في الدنيا؛ لأن الثواب وجوبه الفضل والرحمة لا الاستيجاب والاستحقاق؛ إذ في الحكمة والعقل وجوب العمل، وليس فيهما وجوب الثواب، فما هو سبيله فضل اللَّه خير مما هو غيره. لكنه عورض بأن ما كان سبيل وجوبه الحكمة والعقل خير مما كان سبيل وجوبه الإفضال؛ إذ ما كان سبيل وجوبه الحكمة والعقل لا يسع تركه، وما كان سبيل وجوبه الإفضال له تركه، لكنه قال: إن قوله: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا)، أي: في طباعكم ووهمكم ذلك

(90)

الثواب خير من ذلك، لا أنه في الحقيقة خير؛ وهو كقوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، أي: في طباعكم، وعندكم أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه؛ إذ ليس شيء أهون على اللَّه من شيء، ولكن عندكم أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله: (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) أخبر أنهم إذا أتوا ربهم بالتوحيد يكونون آمنين من فزع ذلك اليوم وهوله. وقوله: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ ... (90) أي: بالشرك، (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ): المنكب على الوجه: هو الملقى على الوجه، كقوله: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ). وقوله: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: ما تجزون إلا بأعمالكم. * * * قوله تعالى (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) وقوله: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا). قوله: (حَرَّمَهَا) يحتمل وجهين: يحتمل (حَرَّمَهَا) أي: منعها من الاستلاب والاختطاف فيها؛ كقوله: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ)، ليس على التحريم حتى لا يحل له ذلك، ولكن على المنع والحظر، أي: منعنا منه المراضع. والثاني: على التحريم نفسه، وهو ما جعل في كل أحد من الكافر والمسلم في الجاهلية والإسلام حرمة ذلك المكان؛ حتى لا يتناول أحد من صيد تلك البقعة ومن شجرها وحشيشها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ... (92) أيضًا عليكم كأنهم أوعدوه بوعيد وخوفوه به، وطلبوا منه الموافقة لهم، فقال عند ذلك لهم: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة، وهو رب كل شيء، أي: أمرت أن أكون عبدا له، لا أجعل نفسي عبدا لغيره، وأمرت -أيضًا- أن أجعل نفسي سالمًا له، لا أجعل لأحد فيها شركا كما جعلتم أنتم - أيضا - ذلك كله. وأمرت -أيضًا- أن أتلو القرآن عليكم، فأنا أتلوه عليكم كذبتموني أو لم تكذبوني، فإني لا أخاف كيدكم ولا مكركم، واللَّه أعلم. وفي قوله: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) دلالة لزوم الرسالة؛ لأن أهل مكة وغيرهم قد أقروا جميعًا بحرمة تلك البقعة من أوائلهم وأواخرهم، فما

(93)

عرفوا ذلك إلا بالرسل؛ دل أن أوائلهم يقرون بالرسل والنبوة، فعلى ذلك يلزم هَؤُلَاءِ الإقرار بها، واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ): يخبر: أن من آمن وقبل الهدى فإنما يفعل ذلك لمنفعة نفسه، ومن ضل -أيضًا- فإنما يكون ضرره عليه؛ كقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا). وقوله: (فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي: ليس عليَّ إلا الإنذار، فأما غير ذلك فذلك عليكم؛ كقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)، وقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ). وقوله: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ... (93) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: سرِيهم آيات وحدانيته وربوبيته، وآيات رسالته. وقوله: (فَتَعْرِفُونَهَا) أي: بالآيات ما ذكر؛ كقوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ). والثاني: سيريهم ما وعد لهم من النصر والمعونة ليعرفوه عيانًا على ما عرفوه خبرا. وقوله - تعالى -: (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا الحرف توبيخ للظالم وتعيير وزجر، وتعزية للمظلوم وتسل له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا الحرف ترمخيب وترهيب. قَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (رَدِفَ لَكُم)، أي: تبعكم، واللام زائدة؛ كأنه قال: ردفكم، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة القصص

سُورَةُ الْقَصَصِ وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2): قد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع مما يغني عن ذكره في هذا الموضع. وقوله: (نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) (مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ) أي: من خبرهما. وقوله؛ (بِالْحَقِّ) أي: بالصدق ما يعلم أنه صدق وحق. وجائز أن يكون قوله: (بِالْحَقِّ) أي بالحق الذي لموسى على فرعون وقومه. أو بالحق الذي لله عليه، واللَّه أعلم. وقوله: (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يحتمل وجهين: أحدهما: (نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ) للمؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون بالأنباء وما فيها، وأما من لا يؤمن فلا ينتفع بها فلا يكون. والثاني: لقوم يؤمنون بالأنباء والكتب المتقدمة، هم يعرفون أنه حق لما في كتبهم ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) قَالَ بَعْضُهُمْ: تجبّر واستكبر وأبي أن يصغى لموسى ولأمثاله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَلَا فِي الْأَرْضِ) أي: بغى وقهر؛ فيكون تفسيره ما ذكر على أثره (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)، هذا - واللَّه أعلم - يشبه أن يكون علوه وبغيه في الأرض. ويشبه أن يكون قوله: (عَلَا فِي الْأَرْضِ) أي: علا قدره وارتفع رتبته في الأرض لما

(5)

ادعى لنفسه الألوهية والربوبية، بعد ما كان عبدا كسائر العباد أو دونهم، فعلا قدره وارتفعت منزلته بدعواه بذلك، وعلا في الأرض، أي: غلب. وقوله: (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) هو قيل: فرقا: يستضعف طائفة، ويذبح طائفة، ويستحيي طائفة، ويعذب طائفة. وجائز أن يكون قوله: (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) أي: جعل لكل طائفة منهم عبادة صنمٍ لم يجعل ذلك لطائفة أخرى، وجعل طائفة أخرى على عمل أُولَئِكَ وحوائجهم؛ ليتفرغوا لعبادة الأصنام التي استعبدهم لها؛ لأن الشيع فرق يرجعون جميعًا إلى أصل واحد وإِلَى أمر واحد. وقوله: (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ): كذلك كان، لعنه اللَّه. وقوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) هذا في الظاهر إخبار لرسوله أنه سيفعل ذلك، لا أنه من عليهم وفعل ذلك؛ لأنه يقول: نريد أن نمن على الذين كذا، وقد من عليهم بذلك فهلا قال: وقد مننا على الذين استضعفوا في الأرض؛ لكن معناه - واللَّه أعلم - أي: كنا نريد في الأزل أن نمن عليهم، وأن نجعلهم أئمة، وأن نجعلهم الوارثين، وإلا الظاهر ما ذكرنا. وقوله: (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) يحتمل وجهين: أحدهما: جعلهم جميعًا أئمة لنا، بهم نقتدي وننقاد لهم، أو أن يكون قوله: قوله تعالى: (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي: نجعل فيهم أئمة وقادة لهم، أي: نجعل بعضهم أئمة لبعض؛ كقوله لموسى: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ)، والأئمة المذكورة هاهنا كأنهم هم الأنبياء الذين ذكروا في هذه الآية. (وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5). وَنُمكِّنَ لَهُم فِي آلْازضِ): هذا كما ذكر في آية أخرى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) الآية، أي: يرثون الأرض وملكهم بعد فرعون وقومه. والوارث: هو الباقي على ما ذكرنا؛ كأنه قال: يبقون هم في أرضهم وملكهم بعد هلاكهم؛ كقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)، أي: نبقى نحن بعد هلاك الأرض وهلاك من عليها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) أي: يرون ما كانوا

يحذرون منه، وهو الهلاك وذهاب الملك، هذا كانوا يحذرون فأراهم ذلك؛ لأنه كان يذبح أبناءهم إشفاقًا على بقاء ملكه ويحذر ذهابه. قال الزجاج: إن من حماقة فرعون وقلة عقله أنه كان يذبح أبناءهم لقول الكهنة: إنه يذهب ملكه بغلام يولد في العام الذي قالوه، فلا يخلو إما أن صدقوا في قولهم فيذهب ملكه وإن قتل الأبناء، وإما أن كذبوا في قولهم فلا معنى لقتل الأبناء؛ لأنه لا يذهب لكنه فعل ذلك بهم لحماقته وسفهه وجهله بنفسه. وقوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ): بالنجاة من فرعون وآله، واستنقاذه إياهم من يديه، ومن قتل الولدان وغير ذلك من أنواع التعذيب، والله أعلم. وفي قوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ. . .) إلى آخر ما ذكر - وجوه على المعتزلة في قولهم: إن ليس لله أن يفعل بعباده إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين، وأنه لو لم يفعل ذلك كان ذلك جائزا. فيقال لهم: لو كان عليه فعل الأصلح لهم في دينهم على كل حال لكان لا معنى لذكر المنة على الذين استضعفوا في الأرض في جعلهم أئمة وإبقائهم في أرضهم وتمكينه إياهم في ملكهم ووراثتهم أموالهم؛ لأنه على زعمهم فعل بهم ما عليه أن يفعل؛ لأن ذاك أصلح لهم في الدِّين، وكل من فعل فعلا عليه ذلك الفعل؛ لا يكون له الامتنان على المفعول به ذلك، فدل ذكر المنة فيما ذكر أنه فعل بهم على أنه فعل ما لم يكن عليه ذلك، ولكنه فعل ذلك متفضلا ممتنا، وله ألا يفعل ذلك. ويقولون -أيضًا-: إن إهلاك فرعون وقومه أصلح لهم من إبقائهم؛ وكذلك إماتة كل كافر فلم يذكر فيه المنة، دل ذلك أنه ليس على ما يقولون هم، وأن ذلك منقوض مردود عليهم. ويقولون -أيضًا-: إن الإرادة من اللَّه لهم أمر لهم يأمرهم به، فلو كان أمرا على ما يزعمون لكان الأمر منه قد شمل الكل، ثم لم يصيروا جميعًا أئمة وقادة، ولكن إنما صار بعض دون بعض؛ دل أن الإرادة غير الأمر، وأنه إذا أراد لأحد شيئًا كان ما أراد، ليس على ما يقولون: إنه أراد إيمان كل كافر، لكنه لم يؤمن بعدما أعطاه جميع ما عنده من القوة والعون على ذلك، حتى لم يبق عنده شيء من ذلك إلا وقد أعطاه؛ فدل ما ذكر على فساد مذهبهم.

(7)

قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ): قال عامة أهل التأويل: إن الوحي هاهنا وحي الإلهام والقذف في القلب، لا وحي إرسال صارت رسولة، وذلك لا يجوز. لكن يقال: جائز أن تلهم هي إرضاعه وإلقاءه في اليم، فأمَّا أن تلهم ما ذكر: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) هذا مما لا سبيل إلى معرفة ذلك وعلمه إلا بتصريح قول ومشافهة آخر، اللهم إلا أن يقال: إنه كان بموسى آيات الرسالة وأعلام به؛ لما عرفت هي بتلك الأعلام والآيات التي كانت له أنه يرد إليها، وأنه يبقى رسولا إلى وقت، وقد كانت بالرسل أعلام وآيات الرسالة في حال صغرهم وصباهم؛ نحو عيسى حيث كلم قومه في المهد: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ. . .)، إلى آخر ما ذكر وأن محمدا لما ولد بالليل استنارت تلك الناحية واستضاءت بنوره حتى ظنوا أن الشمس قد طلعت ونحوه؛ فعلى ذلك جائز أن يكون بموسى أعلام وآيات عرفت أمه بها أنه رسول، وأنه يرد إليها. وإنما تكلفنا بهذا التخريج قول أهل التأويل: إنه وحي إلهام وقذف في القلب لا غير. وعندنا جائز أن يكون الوحي إليها وحي إرسال رسول وإخبار من غير أن صارت هي بذلك رسولة؛ نحو ما ذكر من قصة مريم أن الملك لما دخل تعوذت باللَّه منه حيث قالت: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا)، وذلك من البشارة التي بشروها بالولد فلم تصر بما أرسل إليها من الرسل وشافهوها رسولة؛ فعلى ذلك أم موسى؛ ونحو بشارة الملائكة لامرأة

(8)

إبراهيم بالولد وهو قوله: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)، ونحوه مما يكثر ذكره لم يصيروا بذلك رسلا؛ فعلى ذلك الوحي إلى أم موسى يحتمل ما ذكرنا. وجائز ذلك من غير أن صارت بذلك رسولة، وهو أشبه وأقرب، واللَّه أعلم. وقوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) قَالَ بَعْضُهُمْ: في الآية إضمار؛ لأنهم لم يلتقطوه؛ ليكون لهم عدوا وحزنا ولكن كان فيه إضمار، أي: التقطه آل فرعون ليتخذوه ولدا ووليا، فكان لهم عدوا وحزنا إذا كبر ونحو هذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذاك إخبار عما في علم اللَّه أنه يكون ما ذكر، معناه - واللَّه أعلم -: التقطه آل فرعون، فكان في علم اللَّه - تعالى - أنه يكون لهم عدوا وحزنا، وذلك جائز في اللغة؛ يقال: . . . . . . . . . . . . لدوا للموت وابنوا للخراب لا يلدون للموت ولا يبنون للخراب، ولكن إخبار عما هو عليه عملهم في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ): ظاهر. وفيه نقض قول المعتزلة من وجه. وقوله: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) هذا لطف من اللَّه بموسى؛ حيث ألقى محبته في قلوبهم وحلاوته في أعينهم، وهو ما ذكر منة عليه حيث قال: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)، ليتأدى بذلك الشكر عليه. قال أبو معاذ: قال مقاتل: قوله: (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) تقول: ليس لك بقرة عين. قال أبو معاذ: وهذا محال، ولو كان كذلك لكان في القراءة: " تقتلونه "، وهذا - أيضًا - محال لقوله: (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا)، ولو كانت القراءة: (قرت عين لي ولك لا (لا) تقتلوه) لكان مقاتل مصيبًا. وقوله: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): يحتمل وجهين: أحدهما: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أن إهلاكهم واستئصالهم على يديه. والثاني: لا يشعرون أنه هو المطلوب بقتله من بين الكل، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) قَالَ بَعْضُهُمْ: فارغًا من هم موسى وحزنها

عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فارغًا من كل شيء إلا على موسى وذكره، وكأن قوله: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا) جواب قوله: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ. . .) الآية. وهو يحتمل وجوهًا: أحدها: أن اللَّه رفع الحزن والخوف وطمأنها من غير أن كان ثمة قول أو كلام. والثاني: على القول لها: لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين، فلو كان على هذا فهو على البشارة لها بالرد إليها وجعله رسولا، أو على النهي والزجر عن الحزن عليه والخوف عليه، هو حزن مفارقته لها، والخوف عليه خوف الهلاك؛ كقول يعقوب حيث قال: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)، ذكر الحزن عند المفارقة والذهاب عنه، والخوف عند الهلاك، فرفع اللَّه عنها حزن المفارقة، وبشرها بالرد إليها وجعله رسوله وأمنها عن الهلاك؛ فيكون قوله: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا) مما خافت عليه وحزنت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا): كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها بما ذكر من قوله: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي. . .) الآية، فلم تكد أن تبدي، وهو كما ذكر: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) أي: كان يهم بها لو لم ير برهان ربه لا أنه هم بها؛ وهو كقوله: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)، أي: كان يركن إليهم شيئًا قليلا لو لم يثبته، لكنه ثبته فلم يركن إليهم ونحوه؛ فعلى ذلك الأول. وقال أهل التأويل: ربط قلبها بالإيمان. وجائز أن يكون ربطه قلبها لما ذكر من قوله: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَارِغًا) من عهد اللَّه الذي كان عهد إليها، أنساها عهد اللَّه عظم البلاء الذي حل بها، فكادت تبدي به، ثم تداركها اللَّه بالرحمة فربط على قلبها فذكرت وارعوت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اتخذه فرعون ولدًا، فصار الناس يقولون: ابن فرعون ابن فرعون، فأدركت أمه الرقة وحث الولد فكادت تقول: بل هو ابني، والأوّل أشبه، وفي حرف

(11)

ابن مسعود وأبي وحفصة: (إن كادت لتشعر به). وقوله: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ... (11) أي: اتبعي أثره. وقوله: (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) قيل: عن بعد، أي: كانت تتبع أثره عن بعد منه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى موضع بعيد، وهو إلى جنبه بقرب منه، وذلك عند الناس معروف ظاهر فيهم ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في قوله: (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) قال: مشيت بجانبه وهي معرضة عنه كأجنبية. وقوله: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): أن هذه تراقبه أو تنظر إليه وتحفظه. أو لا يشعرون أن هلاكهم على يديه. بصرت وأبصرت واحد. وقوله: (عَنْ جُنُبٍ): عن ناحية بعيدة، وجوانب: جماعة، ويقال: رجل جنب وقوم أجناب، وجانب وأجناب وأجانب وأجنبي أي: غريب، وهذا كله من الاجتناب؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ. وقوله: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) حرم تحريم منع وحظر الذي ضده الإطلاق والإرسال، لا التحريم الذي ضده الحل، وذلك لطف من اللَّه تعالى وفضل ورحمة؛ حيث منع موسى عن أن يرتضع من النساء وهو طفل، وهَمُّ أمثاله الارتضاع والرغبة في التناول من كل لبن ومن كل مرضع ترضعه لا تمييز لهم في الارتضاع؛ فدل امتناعه وكفه نفسه عن الارتضاع من النساء أجمع أن ذلك لطف من اللَّه أعطاه ليمتنع عنه. فعلى ذلك جائز أن يكون عند اللَّه لطف لو أعطى الكافر الذي همته الكفر والرغبة فيه لآمن واهتدى، لكنه لما عرف رغبته وهمته فيه واختياره له منع ذلك عنه ولم يعطه. وهذا الحرف ينقض على المعتزلة مذهبهم في زعمهم أن اللَّه قد أعطى كل كافر السبب الذي به يؤمن وما به يصير مؤمنًا، حتى لم يبق شيء مما يكون به إيمانه إلا وقد أعطاه، لكنه لم يؤمن، فينقض قولهم ما ذكرنا من أمر موسى أن عنده لطفًا لم يعطه لو أعطاه لآمن

(13)

واهتدى، لكنه لم يعطه لما ذكرنا. وفيه لطف آخر: وهو أن فرعون والقبط كانوا يقتلون الولدان من الذكور؛ ليصير الذي يخاف هلاكه وذهاب ملكه على يديه مقتولا، فجعل اللَّه بلطفه ورحمته محبته في قلب فرعون وقلوب أهله، حتى صار أحب الخلق إليهم، وصاروا هم أشفق الناس وأرحمهم عليه، حتى خافوا هلاكه وطلبوا له المراضع؛ لئلا يهلك بعدما كانوا يطلبون هلاكه وتلفه، وذلك لطف منه له ورحمة، وهو ما قال: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)، وبالله يستفاد كل فضل ونعمة. وقوله: (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ). قوله: (فَقَالَتْ) أي: أخته التي كانت تتبعه وتمشي على أثره، وذلك منها تعريض بالدلالة لهم إلى أفه؛ لئلا يشعروا أنها أمه حيث قالت: (أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ)، ولم تقل: على امرأة لها لبن وهي ترضع، ولعلها لو قالت لهم ذلك وقع عندهم أنها أمه، ولكن دلتهم إلى بيت ليقع عندهم أنهم أهل بيت قتل ولدهم ولهم ولد يكفلونه لكم، أي: يقبلونه ويضمونه إلى أنفسهم. (وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ): يحتمل قولهم: (وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) أي: لفرعون لا يخونونه فيه. ويحتمل (وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) لموسى. وقوله: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) بالمقام معه والكون عندها، (وَلَا تَحْزَنَ): على فراقه. أو أن يقال: (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ)، أي: تسر برده إليها، وذلك معروف في النساء ظاهر أنهن يحزن بمفارقة أولادهن ويهممن لذلك، ويسررن إذا جعلوا إليهن واجتمعوا. وقوله: (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ): كانت تعلم هي - واللَّه أعلم - أن وعد الله حق كائن لا محالة، لكن علم خبر لا علم عيان ومشاهدة؛ كأنه قال: لتعلم علم عيان ومشاهدة ما علمت علم خبر؛ لأن علم العيان والمشاهدة أكبر وأبلغ وأتقى للشبهة من علم الإخبار؛ ألا ترى أن إبراهيم سأل ربه أن يريه إحياء الموتى، وإن كان يعلم حقيقة أنه يحيي الموتى، وأنه قادر على ذلك، لكنه كان يعلمه علم خبر فأحب أن يعلمه علم عيان ومشاهدة؛ لأنه أكبر وأبلغ وأدفع للوساوس من علم الإخبار؟! فعلى ذلك هذا. وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): والمعتزلة فيهم؛ لأنه أخبر أنه يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين؛ حيث قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ)، وهم يقولون: أراد ألَّا يملأ جهنم؛ لأنهم يقولون: إنه أراد إيمان كل الناس جميعًا وشاء ذلك لهم فلم يؤمنوا، فعلى

(14)

قولهم: إذا شاء ذلك لهم شاء ألا يملأ جهنم منهم، فذلك خلف في الوعد وكذب في القول على قولهم. * * * قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وقوله: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى): قال بعض أهل التأويل: الأشد: هو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، ثم هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين استواء الشدة، ثم يأخذ بعد الأربعين في النقصان، ثم غير بعمره إلا أربعين سنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بلغ أشده: ثلاث وثلاثون سنة واستوى: أربعون، وعن ابن عَبَّاسٍ مثله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بلغ أشده قال: الأشد: الحلم، والاستواء: أربعون سنة. وأصل الأشد: أن يشتد كل شيء منه، وصار يحتمل ما قصد به وجعل فيه، ويدخل في ذلك العقل وكل شيء. واستوى: أي استوى ذلك واستحكم، وصار بحيث يحتمل ذلك. وجائز أن يكون الاستواء هو الأشد الذي ذكره. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: واستوى: أي استحكم وانتهى شبابه واستقر، فلم يكن

(15)

فيه زيادة، وأصله ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) أي: آتيناه العلم الذي يحكم به بين الناس، وعلما بمصالح نفسه ومصالح الخلق. وقال بعض أهل التأويل: الحكم: الفقه والعقل والعلم قبل النبوة. وقوله: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ): يحتمل قوله: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في الآخرة بالوعد الذي وعد لهم في الدنيا؛ كما جزي موسى بإنجاز ما وعد له، أو أن يكون من موسى إحسان وجهد في طلب العلم وغير ذلك مما أعطاه ذلك، وأخبر أنه كذلك يجزي من ذكر؛ كقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، وقوله: (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، كان وعده إياها أن يرده إليها ويجعله من المرسلين، ومعناه ما ذكر فيما تقدم. قال الكسائي: يقال: امرأة مرضع: ما دامت ترضع، فإذا فطمت سميت: مرضعة، وما دامت حبلى فهي مرضعة، أي: سترضع. وقوله: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قال عامة أهل التأويل: على حين غفلة أهل المدينة وهو عند الظهيرة، وذلك وقت القائلة. وقال قائلون: على حين غفلة أهل البلد عن دخول موسى، أي: دخلها من غير أن شعروا به وعرفوا أنه موسى؛ على هذا التأويل الغفلة تكون على دخول موسى عليهم. وعلى الأول على غفلة أهل المدينة، أي: وقت غفلتهم. فإن كان على هذا فيحتمل أن يكون غفلة أهلها: هو أن كان ذلك يوم عيدهم خرجوا إليه، فدخل هو المدينة ليطلع أحوالها وأسبابها، إلا أن تكون العادة فيهم بأجمعهم يقيلون فذلك محتمل، واللَّه أعلم. وقوله: (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ): قال بعض أهل الأدب: إن قوله: (هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) إنما يقال للشاهد المشار إليه، فأما الغائب فإنه لا يقال، لكن قالوا: إن فيه إضمارًا أو لطفًا؛ كأنه قال: فوجد فيها رجلين يقتتلان من نظر إليهما يقول: هذا من شيعته وهذا من عدوه. ثم قال أهل التأويل: آحدهما كان إسرائيليا والآخر قبطيًّا.

(16)

فَإِنْ قِيلَ: كيف سمي الإسرائيلي من شيعة موسى وذلك أول ما دخل موسى المدينة، وبنو إسرائيل يومئذ كانوا عباد الأصنام، وقد حبب ذلك إليهم حتى قالوا لموسى بعدما أخرجهم من المدينة وبعد هلاك فرعون والقبط جميعًا: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)؛ وكذلك يقول مقاتل: كانا كافرين جميعًا؛ ألا ترى أنه قال: (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)، لكن يخرج هذا على الإضمار؛ كأنه قال: يكون هذا من شيعته وهذا من عدوه. أو يقول: يكون هذا من قوم شيعته ويبقى هذا عدوا في قوم هم أعداؤه، وعلى هذا يخرج قوله: (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا) أي: يبقى عدوا لهما، أو أن يكون عدوا لهما؛ لأن أبا معاذ النحوي يستدل به على وهم مقاتل ووهمه في تأويله أنهما كانا كافرين جميعًا، لكن يخرج على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) أي: استغاثه الذي كان في علم اللَّه أنه يكون من شيعته على الذي في علم اللَّه أنه يبقى عدوا له ينصره، والاستغاثة هي الاسثعانة والاستنصار، أي: سأله أن يكون من شيعته. وقوله: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ): قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الوكزة: الطعن في الصدر. وقال الزجاج والْقُتَبِيّ وهَؤُلَاءِ: الوكزة: الد فعة (فَوَكَزَهُ)، أي: دفعه. (فَقَضَى عَلَيْهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أي فرغ منه؛ كقوله: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ)، وقوله: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)، أي: فرغ ونحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَقَضَى عَلَيْهِ) أي: قتله. وكلاهما سواء إذا قتله فقد فرغ منه، وهو لم يتعمد قتله ولا قصده، لكن اللَّه قضى أجله وجعل انقضاء عمره بوكزة موسى، وهو في الظاهر قاتل؛ لأنه قال: (إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)، ولم يكذب اللَّه موسى في قوله: إنك لم تقتل، وقال -أيضًا-: (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي. . . (16). الآية. وفيه دلالة جواز الاستدلال لقول أبي حنيفة حيث قال: من قتل آخر بحجر عظيم أو بخشبة عظيمة مما لا ينجو من مثله فإنه لا يقتل به، ولا يجب القصاص فيه؛ لأن موسى لما وكز ذلك القبطي فمات، وكان له قوة أربعين رجلا - لم ير القصاص به واجبا حيث قال له ذلك الرجل: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، ولو كان القصاص واجبًا

(17)

لكان أُولَئِكَ لم يكونوا ظلمة في قتله، بل يكون هو الظالم فيه. ولا يحتمل أن يكون القصاص واجبًا -أيضًا- وموسى يفر من ذلك ويهرب وفي ذلك إبطال حقهم دل أنه لم يجب. ولا شك أن وكزة من له قوة أربعين رجلا إلى الهلاك أسرع وأقرب وأعمل من الضرب بالحجر العظيم أو الخشبة العظيمة، فإذا لم يجب في هذا لم يجب في ذاك، واللَّه أعلم. وقوله: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) قَالَ بَعْضُهُمْ: بما أنعمت عليَّ بالمغفرة، فلم تعاقبني بقتل النفس وعصمتني من أن أعاقب به في الدنيا. وجائز أن يكون بما أنعم عليه هو قوته التي أعطاها أخبر أنه لا يكون بها ظهيرا للمجرمين، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) أكثر ما ذكر في القرآن (أصبح)، أي: صار؛ كقوله: (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا)، وقوله: (إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا)، ونحوه، وأما هاهنا قوله: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا) وإنما يريد: الصباح نفسه. وقوله: (يَتَرَقَّبُ): قال عامة أهل التأويل: (يَتَرَقَّبُ) أي: ينتظر سوءًا يناله منهم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الترقب: الخوف؛ كأنه قال: خائفًا يخاف هلاكه، وأصل الترقب هو النظر؛ لأن موسى كان يرقب من يطلبه ومن يأتيه في طلبه، وهو من الرقيب. وقوله: (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ): كأن الرجل الذي أخبر أنه من شيعة موسى كان ضعيفًا في نفسه، حيث لا يقدر أن يقوم لواحد؛ فيستغيث بموسى ويستعين به، إلا أنه كان يخاطب وينازع ويقاتل لسوء فيه وبلاء يقاتل وينازع، وإلا لم يكن بنفس هذا قوة ما يقوم لواحد فمن حيث لا يقاتل مثله، ولكنه لما ذكرنا من سوء به؛ ولذلك قال له موسى: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)، لكن موسى إنما عرف غوايته بالاستدلال الذي ذكرنا لا بالمشاهدة؛ ولذلك أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما لئلا يقتله ولا يهلكه لما عرف غوايته بالاستدلال لا حقيقة. وذكر هاهنا البطش - وهو الأخذ باليد - وفي الأول ذكر الوكزة: وهي الدفع والطعن على ما ذكرنا، فهو - واللَّه أعلم - لأنه لما وكز الأول فأتت الوكزة على نفسه فقتلته، فأخذ هذا من هذا ليمنعه عن إهلاكه وإتلافه، ولا يأتي على نفس الآخر كما فعلت الوكزة.

(19)

ثم قال: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) اختلف في قائل هذا: قال عامة أهل التأويل: إن قائل هذا هو الذي استصرخه واستغاثه بالأمس ظن أن موسى إنما أراد بطشه وأخذه وإليه قصد؛ لذلك قال: (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ). وقال قائلون: هذا القول إنما قال له ذلك القبطي، فإن كان هذا فهو يدل أن قتله ذلك الرجل بالأمس كان ظاهرًا، حيث علم به القبطي، وكان قوله: (عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا) أي: من دخول موسى المدينة. وإن كان هو الأول كان قتله إياه خفيًا غير ظاهر، فعلى هذا تكون الغفلة على أهل المدينة ليس على دخول موسى، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ)؛ لأن الذي يصلح بين اثنين لا يقتل ولا يأخذ أحدهما دون الآخر، ولكن يصلح بينهما على السواء الذي قال ما قال. وقوله: (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: يقول هكذا فعل الجبابرة، يقتلون النفس بغير نفس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجبابرة تقتل النفس بغير نفس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجبار: هو الذي يحمل الناس على هواه وعلى ما يريده، ويقهرهم على ذلك شاءوا أو أبوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجبار: هو الذي يتكبر على الناس لا يرى أحدًا لنفسه نظيرًا أو كلام نحوه. ويقال: كل قاتل آخر على الغضب بغير حق فهو جبار. وقوله: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) يحتمل أن يكون أقصى المدينة هو سكن فرعون ومقامه، فمنه جاءه ذلك الرجل. أو أن يكون أقصى المدينة: موطن الملأ والألثراف الذين ذكر أنهم ائتمروا على قتله. وقوله: (يَسْعَى): والسعي: هو العَدْوُ في اللغة، كأنه يسرع المشي إليه ليخبره بذلك. وقوله: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ).

(21)

(يَأْتَمِرُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: يتشاورون في قتلك. وقال الزجاج: (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي: يأمر بعضهم بعضا أن يقتلوك. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (يَأْتَمِرُونَ): أي يهمون في قتلك، وذكر عنه أنه قال: (يَأْتَمِرُونَ): يتشاورون بك؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ. وأصل الائتمار في اللغة هو الطاعة والاتباع لما يؤمر من الفعل، كأن فرعون أمر الملأ أن يقتلوه فأطاعوه وائتمروا لأمره، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ): قال الزجاج: قوله: (لَكَ) صلة، والصلة لا تتقدم الموصول به، ولكن معناه: فاخرج إني لك من الناصحين الذين ينصحون لك، وليس كما قال؛ الصلة تتقدم وتتأخر، وذلك ظاهر في الكلام. وقوله: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) قد ذكرنا هذا. دل قوله: (خَائِفًا يَتَرَقَّبُ): أن الخوف قد يكون من دون اللَّه. وجائز أن يخاف من غيره، وليس كما يقول بعض الناس: إنه لا يسع الخوف من دون اللَّه، وحقيقة الخوف تكون من اللَّه يخاف أن ينتقم منه على يدي هذا، واللَّه أعلم. وقوله: (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ): يحتمل الظالم كل مشرك؛ لأن كل مشرك ظالم. ويحتمل قوله: (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) حيث هموا قتله، وقتل موسى ذلك القبطي لم يوجب عليه القتل والقصاص؛ لأنه لم يتعمد قتله أو لم يقتله بسلاح يجب به القتل، فذكر أنهم فيما هموا قتله ظلمة. * * * قوله تعالى (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي

(22)

وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) وقوله: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ (22) قَالَ بَعْضُهُمْ: أخذ طريفا إذا سلك ذلك الطريق وأخذ فيه خرج تلقاء مدين، أو وقع تلقاء المكان المقصود إليه. وقوله: (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) أي: الطريق الذي كان يقصده ويطلبه وهو طريق مدين، وذكر أنه كان ضل الطريق. وقوله: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) أي: ورد البئر التي كان ماء مدين من تلك البئر. (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) أمة أي: جماعة. وقيل: أناس من الناس يسقون أغنامهم ومواشيهم. (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: (تَذُوَدانِ): تحبسان حتى يفرغ الناس ويصدرون ويخلو لهما البئر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (تَذُودَانِ) أي: تطردان أغنامهما لتسقياها. ثم قوله؛ (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ) يحتمل وجهين: أحدههما: تذودان غنمهما ولا تسقيانها حتى يصدر الرعاء؛ لما لا تتركان تسقيان غنمهما مع غنم أُولَئِكَ الرعاء حتى يصدروا هم. والثاني: لا تمنعان ذلك، ولكنهما تستحيان أن تزاحما الرجال وتختلطا بهم، فتنتظران فراغهم صدور الرعاء عنها. فَإِنْ قِيلَ: فما بالهما لا تتخلفان وقت اجتماع القوم، وتشهدان في ذلك الوقت، ولا تنتظران خلاء البئر عنهم؟! قيل: لما ذكر أن على رأس البئر حجرا يلقى عليه لا يطيقه إلا كذا كذا نفرا؛ وكذلك الدلو التي يستقى منها لا يطيقها إلا كذا كذا من عشرة إلى أربعين على ما ذكر، فهما تشهدان ذلك البئر وقت شهود القوم وحضورهم؛ ليتولوا هم نزح الدلو واستقاءها، ولو تخلفتا وانتظرتا خلاء البئر عنهم ثم تأتيان، لم تقدرا على نزح الماء والدلو، ورفع الحجر الذي ذكر أنه كان على رأس البئر؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله: (مَا خَطْبُكُمَا) أي: ما شأنكما وما أمركما؛ (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ

(24)

الرِّعَاءُ)؛ لما ذكرنا. وقرئ: (يُصْدِرَ) بنصب الياء وبالرفع جميعًا. فمن قرأه بالنصب فإنه يقول: حتى يصدر الرعاء بأنفسهم أي: يرجع. ومن قرأه بالرفع، أي: حتى يصرفوا ويرجعوا أغنامهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ): تذكران - واللَّه أعلم - عذر أبيهما في التخلف عن سقي الغنم، وإرساله إياهما في ذلك دون تولي ذلك بنفسه، وقالا: ذلك لكبره وضعفه ما يتخلف عن ذلك ويرسلهما، وإلا لا معنى لذكر كبر أبيهما بلا سبب يحملهما على ذلك سوى ما ذكرنا. وجائز أن يكون لمعنى آخر لا نعلمه. وقوله: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) دل أن البئر التي كانت تسقى الماشية منها كانت في الشمس؛ حيث أخبر أنه سقى لهما ثم تولى إلى الظل. وفيه أن لا بأس بأن يجلس في الظل. وقوله: (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) قيل: إن هذا منه شكاية عما أصابه من الجوع؛ لأنه ذكر أنه خرج من المصر إلى مدْين هاربًا من فرعون وقومه، غير متزود، وهو مسيرة ثماني ليال. وفيه دلالة أن لا بأس للرجل أن يخبر ويذكر عما هو فيه من الشدة والبلاء، حيث ذكر موسى حاله التي هو فيها من الجوع الذي أصابه؛ وكذلك ما قال في آية أخرى: (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)، وذلك يرد قوال من - يقول: إن مثل هذا يخرج مخرج الشكاية عن اللَّه، ولو كانت شكاية لكان موسى لا يقول ذلك ولا يذكره. وقوله: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قوله: (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)؛ مشي من لم يعتد الخروج. أو (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)، أي: تمشي مشي من لم يخالط الناس على، التستر والتغطية. (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا): (هذا يدل على أن لا بأس أن يؤخذ على المعروف الذي صنع إلى آخر أجر، والأفضل على من صنع إليه المعروف والتبرع أن

(26)

يعطي لمعروفه وتبرعه بدلا وأجرا، والأفضل على المتبرع وعلى صانع المعروف ألا يأخذ على ذلك بدلا، إلا أن موسى كان قد اشتدت به الحاجة؛ لذلك كان ما ذكر وأخذ لمعروفه ما ذكر بدلا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي: لما جاء موسى أبا المرأتين وقص عليه قصته قال لي: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). دل قوله هذا لموسى: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ): أنه لم يكن لفرعون على ذلك المكان سلطان ولا يد؛ إذ لو كان له سلطان لكان له فيه الخوف الذي كان من قبل، ولم يكن نجا موسى منه، دل أنه لم يكن له عليهم سلطان. وقوله: (الظَّالِمِينَ) يحتمل: المشركين؛ إذ كل مشرك ظالم. ويحتمل (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ): الذين يقتلون بغير حق حيث قال: (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وقوله: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قال أهل التأويل: قال أبوهما لما قالت له استأجره فإنه قوي أمين: ما قوته وأمانته؟ فقالت: أما قوته: فإنه رفع الحجر من رأس البئر وحده، وكان لا يطيقه إلا كذا كذا نفرا، ونزح الدلو من البئر وحده، وكان لا يطيق نزحه إلا كذا كذا؛ فذلك قوته. وأمَّا أمانته: فإنه قال لي: امشي خلفي وصفي لي الطريق؛ فذلك أمانته. ولكن قد كانت تعرف أمانته قبل ذلك لما جرى بينه وبينهما من المعاملة حين قال لهما: (مَا خَطْبُكُمَا)، وحين سقى لهما في مثل هذا تعرف أمانته في ترك النظر إليهما، وترك الاعتراض لما يوجب التهمة، واللَّه أعلم. وقولها: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) كأن أباها كان في طلب أجير قوي أمين، لكنه لا يجد ولا يظفر به؛ لذلك قالت له: (اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) إذ لا يحتمل أن يكون له ماشية وله غناء وبه حاجة إلى رعي ذلك وسقيه، وقد بلغ في نفسه من الكبر والضعف ما ذكر، يرسل ابنتيه في الرعي والسقي، ولا يستأجر الأجير ليتولى ذلك دون بناته، هذا لا يحتمل ذلك، وخاصة مع ما وصف ابنته من الحياء حيث قال: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) دل ذلك أنه كان في طلب الأجير، وإنما أرسل ابنتيه في سقي الغنم وهو مضطر إلى ذلك محتاج إليه؛ لذلك قالت له: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ

(27)

اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). ثم قال: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) طلبت هي الاستئجار، وهو عرض عليه النكاح لما لم ترغب هي في النكاح، أو طلبت الاستئجار ولم تُرِ من نفسها الرغبة في النكاح، وإن كانت لها الرغبة حياء، واللَّه أعلم. ثم قوله: (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ): يحتمل وجهين: أحدهما: أنه جعل عمله ثماني حجج بدلا للنكاح ومهرا لبضعها. ثم تحديده ثماني حجج لما رأى عمل ثماني سنين مهر مثلها. وقوله: (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ) أي: فإن أتممت عشرًا وزدت على مهر المثل فمن عندك، أي: لك ذلك فضل منك وإحسان. والثاني: قوله: (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ليس على جعله بدلا للنكاح، ولكن على الإجارة المعروفة على أجر معلوم على حدة، من غير أن كان ذلك مهرا لها. ثم التحديد بثماني سنين على هذا الوجه يخرج على إحدى خلتين: إحداهما: أنه لما قص عليه قصته علم أنه لا يقدر على العود إلى المصر، ورأى أنه لا يأمن تلك الناحية بدون ما ذكر من المدة. أو لما رأى أن نفسه تنزع وتشوق بالعود في ذلك الوقت فشرط ذلك عليه لئلا يحدث نفسه بالرجوع إليه إلى ذلك الوقت. وقوله: (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ) أي: فإن زدت سنتين على ذلك فمن فضلك وإحسانك (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) في الزيادة على ذلك كله، واللَّه أعلم. ثم قال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في جميع ما يجري بينك وبيني من المعاملة والصحبة. وفيه أن الثنيا فيما يعدون كان ظاهرًا في الأمم السالفة. ثم اختلف في أبي المرأتين: قَالَ بَعْضُهُمْ: كان شعيبا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ابن أخي شعيب. وقال الحسن: لم يكن شعيبا، ولكنه كان سيّد الماء يومئذ. وليس لنا إلى معرفة من كان حاجة، أما شعيب فإنه لم يكن في زمن موسى، واللَّه أعلم.

(28)

وقوله: (قَالَ ذَلِكَ ... (28) يعني: الشرط - واللَّه أعلم - (بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) أي: أوفيت وعملت، إما الثماني وإما العشر (فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ) يقول: لا سبيل لك عليَّ بعد ذلك ولا تبعة، والعدوان: هو الظلم والمجاوزة عن الحد الذي حد له يقول: لا ظلم عليَّ ولا مجاوزة على أي الاختيارين قضيت، أي الأجلين اخترت وشئت لنا. ثم قال: (وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: واللَّه كفيل على مقالتي ومقالتك، والوكيل: هو الشهيد أو الحافظ، كأنه يقول: واللَّه على ما نقول شهيد. ذكر أن جبريل جاء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إن سُئلت: أي الأجلين قضى موسى؟ فقل: أبرهما وأوفاهما، وإن سُئلت: أي المرأتين تزوج؟ فقل: أصغرهما ". فإن ثبت هذا، ففيه أنه قضى الأجلين جميعًا: الثماني والعشر، وليس في الآية إلا قضاء الأجل حيث قال: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ). وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي) أي: تجازيني من التزويج والأجر من اللَّه إنما على الجزاء على العمل. قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) وقوله: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) قال أهل التأويل ما ذكرنا: أنه قضى أتمهما أو أكثرهما

(30)

لكن لا نعلم التأويل الصحيح، فعلى ما ذكروا، وليس في الآية إلا قضاء الأجل؛ فلا يزاد على ذلك إلا بثبت، فإن ثبت ما روي من الخبر، فهو واللَّه أعلم. وقوله: (وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) (آنَسَ): قيل: أبصر وأحس نارًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: إن موسى لم يكن رأى نارًا، ولكن إنما رأى نورًا ظن أنه نار، فلا يحتمل ذلك؛ لأنه أخبر أنه آنس نارًا، وإن لم يكن ذلك في الحقيقة نارًا لم يجز، وكان ذلك يوجب الكذب في الخبر، إلا أن يقال على الإضمار: آنس من جانب الطور نورًا ظن أنه نار، أو في ظنه أنه نار. (قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) أي: امكثوا لعلي آتيكم منها بخبر يدلنا أو بجذوة تضيء الطريق؛ فكأنه قد ضل الطرلق فيقول: لعلي آتيكم منها بخبر الطريق أو جذوة من النار، أي: آتيكم بجذوة من النار، وهي ما رغبتم فيه ولم آتكم بخبر الطريق (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) هذا يدل أنه كان في أيام الشتاء، وفي وقت البرد: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) قَالَ بَعْضُهُمْ: الأيمن: أي: عن يمين الجبل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عن يمين موسى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يمين الشجرة، ولكن الأيمن: المبارك، وهو من اليمن، الوادي اليمن. والبقعة المباركة: قال بعض أهل التأويل: سميت مباركة؛ لكثرة أشجارها وأنزالها، وكثرة مياهها وعشبها، ولكن سماه: مباركًا وأيمن - واللَّه أعلم - لأنه مكان الأنبياء والرسل وموضع الوحي. وقوله: (مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ولله أن يسمع ويخبر من شاء مما شاء وكيف شاء كما أسمع مريم من تحتها حيث قال: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي)،

(31)

وقوله: (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ... (31) ليس هذا بموصول بقوله: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ولكن ذلك ما ذكر في سورة طه: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ. . .)، إلى آخر ما ذكر. ثم قال في آخره: (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ) أي: تتحرك (كَأَنَّهَا جَانٌّ) وقال بعضهم: الجان: الحية الصغيرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجان ما يعم العظيمة والصغيرة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَّى مُدْبِرًا) فارا هاربًا (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي: لم يلتفت ولم يرجع لشدة خوفه وفرقه. وقوله: (يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ). قوله: (وَلَا تَخَفْ) ويحتمل وجوهًا: أحدها: على رفع الخوف من قلبه؛ إذ قال: له الأمن فيه. والثاني: على البشارة أنه لا يؤذيه؛ كأنه يقول: لا تخف وكن من الآمنين، فإنه لا يؤذيك. والثالث: على النهي، أي: لا تخف؛ فإني أحفظك وأدفع أذاه عنك؛ كقوله: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى. قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، أسمع ما يقول لكما، وأرى ما يفعل بكما، وأدفع ذلك عنكما. وقوله: (أو جذوة) بكسر الجيم ورفعها؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: عود قد احترق بعضه. وقال قتادة: أصل شجرة فيها نار. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجذوة: مثل الشهاب سواء، والجذى: جمع الجذوة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجذوة: القطعة الغليظة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الجذوة: عود قد احترق، أي: قطعة منها. وشاطئ: أي شط الوادي. آنست: أبصرت، وكذلك قوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا)، أي. أبصرتم وعلمتم. وقوله: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) على ما ذكر في آية أخرى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) هذا يدل أن لا بأس بتغيير الألفاظ واختلافها بعد إصابة المعنى وما قصد بها. وقوله: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) قد ذكرناه فيما تقدم.

(33)

وقوله: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرُّهْبِ) بالضم، والرهب بالفتح؛ قد قرئ بهما جميعًا. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير، قوله: (مِنَ الرَّهْبِ) موصول بقوله: (أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من الرهب، أي: الخوف والغرق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمره أن يضم يديه إلى نفسه؛ لأن ذلك أخوف وأهيب وأعظم من إرسالهما، وذلك معروف أيضًا في الناس أنهم إذا دخلوا على ملك من الملوك ضموا أيديهم وجناحيهم إلى أنفسهم؛ تعظيمًا لهم وتبجيلا، أو خوفًا منهم. فعلى ذلك جائز أن يأمره بضم يديه إلى نفسه؛ ليكون بين يدي ربه أهيب وأخوف ما يكون، وأعظم ما يجب له، وهو ما قال له: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى). وقوله: (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ) أي: اليد والعصا، اللتان ذكرهما (بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ) أي: حجتان (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ). وقوله: (قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) وقال في سورة الشعراء: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. . .) إلى قوله: (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)، أخر في هذا ما كان مقدمًا في الذكر في ذلك، وذكره على اختلاف الألفاظ وتغيير الحروف؛ ليعلم: أن ليس على السامع حفظ الألفاظ والحروف بعد إصابته المعنى، وفهم ما قصد بها وأودع فيها؛ لأن اللَّه ذكر هذه الأنباء والقصص التي كانت من قبل في القرآن على اختلاف الألفاظ، وتغيير الحروف، على التقديم والتأخير، والزيادة والنقصان؛ ليعلم أن المقصود والمراد بذكرها ما فيها، لا عين اللفظ والحروف، فإذا عرف ما فيها وفهم جاز الأداء بأي لسان كان، وبأي لفظ كان، واللَّه أعلم. وقوله: (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا (34) يحتمل وجوهًا: أحدها: أما أهل التأويل فإنهم قالوا: كان في لسانه رتَّة أي: عقدة لما أدخل في فمه من النار؛ فذلك لا نعلمه، وقد قال في آية أخرى: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي)، فيجوز أن يكون ذلك خلقة خلقه هكذا، على ما خلق بعض الخلق أفصح وأبين من بعض. أو أن يكون لما ذكر له من الخوف والذنب ما لم يكن ذلك لهارون، ولا شك من اشتد به الخوف منع صاحبه عن التكلم والبيان، وذلك متعالم معروف في الناس، وهو ما قال:

(35)

(إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. . .) الآية. أو أن يكون ذلك لأن نشوء هارون كان فيهم وهم بلسانه أعرف، ومنطقه أفهم، ولموسى فترات كان معتزلا عنهم. وقوله: (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا) أي: عونًا (يُصَدِّقُنِي) ثم بيِّن في آية أخرى أنه فيم طلب منه عونا؛ وهو ما قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي. . .) الآية، أي: يصدقني فيما أقول إذا كذبوني هم، أو أستأنس به إذا ضاق صدري بالتكذيب والرد، فأجابه ربه فقال: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) كناية وعبارة عن القوة والعون؛ لأن القوة فيه تكون؛ فذكر فيمن تكون، وهو كقوله: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)، ذكر الأقدام، لأنه بالأقدام يثبت، وقوله: (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ)، لأنه بالعقب ينكص، ومثله كثير، فعلى هذا ذلك. وقوله: (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا) قال قائلون: هو على التقديم والتأخير، أي: نجعل لكما سلطانا، أي: نجعل لكما سلطانا بآياتنا فلا يصلون إليكما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ونجعل لكما سلطانًا باللطف ندفع عنكما أذاهم وشرهم؛ كقوله: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، أي: أسمع ما يقول لكما، وأرى ما يفعل بكما، وأدفع ذلك عنكما فلا يصلون إليكما بالآيات التي معكما. وقوله: (أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) يحتمل هذا وجوهًا: الغالبون بالحجج والبراهين، أي: تغلب حجتكما سحرهم وتمويهاتهم. أو أن يكون عاقبة الأمر لكما. أو أن يكون ذلك في الآخرة. قال أبو معاذ: العرب تقول: أردت الرجل: أي: أعنته. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) أي: أعينك به وأقويك، والعضد: كناية عن القوة؛ لأته فيه تكون القوة، وبه يقوى من يوصف بالقوة؛ على ما ذكرنا. * * * قوله تعالى (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ

(36)

الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ ... (36) أي: جاء موسى فرعون وقومه بآياتنا، أي: أعلافا أنشأها موضحات، مظهرات يظهرن، ويوضحن رسالة موسى ونبوته، وقد أظهرن لهم ذلك وعرفوا أنها آيات من اللَّه نزلن؛ أفلا ترى أن موسى قال له يا فرعون: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) لكنهم عاندوا وكابروا، وقالوا: (مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى)؛ هذا منهم تمويه وتلبيس على الأتباع والسفلة، ولم تزل عادتهم التمويه والتلبيس على أتباعهم أمر موسى. وهّوله: (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) يقولون - واللَّه أعلم -: إن آباءنا قد عبدوا الأصنام على ما نعبد نحن، وقد ماتوا على ذلك من غير أن نزل بهم ما توعدنا من الهلاك والعذاب، فعلى ذلك نحن على دين آبائنا، وعلى ما هم عليه؛ فلا ينزل بنا شيء مما تذكر وتوعدنا به من العذاب. ثم قال موسى: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) هذا - واللَّه أعلم - كأنه ليس بجواب لقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) ويكون جواب هذا إن كان هو قوله: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) كنى بالظلم عن السحر؛ يقول - واللَّه أعلم - ليس بسحر؛ لأني قد غلبتكم وقهرتكم، وقد أفلحت أنا، ولو كان سحرًا ما أتيتكم به لم أفلح؛ إذ اللَّه - تعالى - أخبر أن الساحر لا يفلح بقوله: (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)، وقال -أيضًا-: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ. . .) الآية، وقد أصلح عملي؛ فظهر أنه ليس بفساد، ولكنه صلاح. ويكون جواب قوله: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) ما ذكر في سورة (المص)، حيث قالوا: (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)، فقال عند ذلك: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) أنتم أو نحن؛ يقول: ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده جوابًا لقوله: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي (38) كأنه قال للملأ

(39)

خصوصية لهم؛ لأنه كان اتخذ للأتباع أصنامًا يعبدونها وجعل للملأ عبادة نفسه وإلهيته، لما لم ير الأتباع أهلا لعبادة نفسه جعل لهم عبادة الأصنام، ورأى الملأ أهلا لذلك؛ فخصهم، ومنه اتخذت الرب عبادة الأصنام دون اللَّه؛ لما لم يروا أنفسهم أهلا لعبادة اللَّه، وقالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). وقوله: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا) قال أهل التأويل: أول من اتخذ الآجر هو، ولا نعلم ذلك، يحتمل أن يكون من فبل ذلك. وقوله: (فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا) أي: قصرًا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) كان يعرف أنه ليس إله السماء والأرض؛ إذ لا يملك ذلك، فكأنه أراد بقوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) قومه وأهله خاصة (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) كأن جميع ما كان بين موسى وفرعون من الكلام كان على الظن؛ كقوله: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) وكذلك قال له موسى: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا). وقوله: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) الاستكبار: هو ألَا يرى لنفسه شكلا ولا نظيرًا، وهو كذلك، كان لا يرى لنفسه شكلا ولا نظيرًا؛ لأنه يدعي لنفسه الربوبية والألوهية، واستكبار قومه لما استعبدوا هم بني إسرائيل، واستخدموهم، أو استكبروا أن يخضعوا لموسى ويجيبوا له إلى ما يدعوهم إليه. وقوله: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ. فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ (40) أخذناه أخذ تعذيب وإهلاك (فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) يعذبون بظلمهم. وقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) ذكر في هَؤُلَاءِ: أنه جعلهم أئمة في الشر، وذكر في الرسل وأهل الخير: أنه جعلهم ألْمة في الخير؛ حيث قال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)، وما قال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)، فكان من اللَّه - تعالى - في أهل الخير صنع ومعنى حتى صاروا بذلك أئمة الخير ما لم يكن ذلك منه بأهل الشر وأئمة السوء فيرد على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: لم يكن من اللَّه - تعالى - إلى الرسل وقادة الخير إلا وقد كان ذلك منه إلى كل كافر وفاسق. فلو كان على ما قالوا لكان لا يحتمل أن يصير هَؤُلَاءِ أئمة الخير وأُولَئِكَ أئمة الشر بأعمالهم أيضًا، وإن كان ما من اللَّه إليهم على السوء، لكن يضاف ذلك إلى اللَّه بأسباب تكون منه، وكانت حقيقة ذلك منهم بعملهم؛ نحو: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)

(42)

أضاف إنذاره إلى من اتبع الذكر، وإن كان رسول اللَّه ينذر من لم يتبع، وكذلك ما قال في الشياطين: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ)، إنما يدعو الحزبين جميعًا، لكنه أضاف دعاءه إلى حزبه لما منهم يكون له الإجابة، وأضاف إنذار رسول اللَّه إلى من اتبعه وقبله لطاعتهم له؛ فعلى ذلك الأوّل، أضاف ذلك إلى نفسه لفعلهم. لكن عندنا لا يكون من الخلق في فعل الخلق حقيقة الفعل، إنما يكون منهم الأسباب، ويكون من اللَّه - تعالى - في أفعالهم الأسباب، وحقيقة الفعل، فيكون إضافة ذلك إلى اللَّه على حقيقة الفعل والأسباب جميعًا وإلى الخلق لأسباب تكون منهم إليهم. والثاني: إنما خصَّ بالإنذار من اتبع الذكر؛ لأنه إنما يقصد بالإنذار من اتبعه لا من لا يتبعه، وكذلك الشيطان إنما يقصد بدعائهم إياهم حزبه منهم، وإن كان الرسول ينذر الخلق جميعًا: الذي سوف يتبعه والذي لا يتبعه، وكذلك الشيطان يدعو الحزبين جميعًا؛ لأن هذا يقصد ضررهم بما يدعوهم إليه؛ ألا ترى إلى قوله: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، والرسول بما ينذر يقصد نفعهم؛ لذلك خصّ الإنذار لمن اتبعه وخص في ذلك حزبه. وقوله: (أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ليس تصريحًا؛ لأنهم لو دعوهم إلى النار لا يجيبونهم، ولكن يدعونهم إلى أعمال توجب لهم النار لو أجابوهم، وهو كقوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي: ما أصبرهم على عمل يستوجبون به النار. وقوله: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ) كأن الشيطان مناهم النصر والشفاعة بعبادة الأصنام، فيخبر أنهم لا ينصرون لما مناهم. وقوله: (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وهو ما عذبوا في الدنيا واستؤصلوا (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: مسودون وجوههم. وجائز أن يكون ذلك جزاء ما افتخووا في هذه بالحلي والزينة، وطعنوا في موسى جوابًا لهم على ما قالوا: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) يخبر أنهم يكونون في الآخرة على غير الحال التي كانوا في الدنيا وافتخروا بها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المقبوح: هو أن سواد مع الزرقة.

(43)

قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى) من نحو عاد، وثمود، وهَؤُلَاءِ الذين كانوا من قبل من الأمم، أي: أرسلناه بعد هلاك من ذكر؛ حتى يعتبر الناس، يشبه أن يكون قوله: (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ) أي: هلاك من ذكر من القرون الأولى بصيرة وعبرة لمن يكون من بعدهم؛ لينزجروا بذلك عن تكذيب الرسل، ويكون ذلك آية لرسالة موسى. والثاني: أن يكون قوله: (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً) أي: الذي آتاه اللَّه موسى هو بصائر وهدى ورحمة لهم إذا قبلوه واتبعوه وعملوا به، وكذلك كان جميع كتب اللَّه هدى ورحمة وبصيرة لمن آمن بها وعمل بها. وجائز أن يكون هذا جوابًا وصلة لقولهم: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) يقول - واللَّه أعلم -: إنكم لا تسمعون ذلك في آبائكم الذين اتبعوا رسلهم، فأجابوهم، فأما من كذبوهم فإنا أهلكناهم بتكذيبهم الرسل واستأصلتهم، والله أعلم. وقوله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) قَالَ بَعْضُهُمْ: جانب الغربي: حيث تغرب الشمس والقمر والنجوم، والشرقي: حيث تشرق وتطلع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بجانب الغربي، أي: بجانب الوادي الغربي، واللَّه أعلم ما أراد به. وقوله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ. . . وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي: مقيمًا (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا) يحتمل وجوهًا: أحدها: أنك لم تكن شاهدًا هذه المشاهدة التي شهدها موسى حيث قضينا إلى موسى الأمر بجانب الغربي، ولم تكن شاهدًا هنالك، وما كنت في أهل مدين ثاويًا حتى تعلم أمر موسى وحينه، وما كنت بجانب الطور حيث نادى: يا موسى ونحوه؛ أي: لم تكن شاهدًا هذه المشاهدة التي كان موسى شاهدًا فيها، ثم أعلمناك بتلك الأنباء والأخبار على ما كانت لتتلو تلك الأنباء والأخبار على أهل مكة؛ فتكون آية لنبوتك، وحجة لرسالتك؛ إذ لم تشهدها ولا اختلفت إلى أحد ممن يعرفها فعلمك، ثم أنبأت على ما كانت؛ ليعرفوا أنك إنما عرفت باللَّه تعالى.

(45)

والثاني: يحتمل أن يذكر هذا له امتنانًا عليه ليتأدى به شكره؛ لأنه ذكر أنه أوحى إلى موسى، وذكر محمدًا وأمته في شرفه حتى تمنى موسى أن يجعل من أمته. يقول - واللَّه أعلم -: لم تكن أنت شاهدًا في هذه المشاهد فذكرتك ثمة وأمتك. أو أن يذكر هذا له على الاختصاص له؛ ليعرف أن أمر الرسل والوحي إليهم على الاختصاص لهم من اللَّه، لا بأمر كان منهم. على هذه الوجوه الثلاثة يحخمل أن يخرج تأويل ما ذكر له. وقال بعض أهل التأويل في قوله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ) (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا) يقول لمُحَمَّد: لم تعاين هذا ولم تشهده، وإنما هو شيء أنزلناه عليك لتتلوه على أهل مكة. وقوله: (وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ (45) هذا ليس بصلة الأول، ولكن على الابتداء؛ يقول - واللَّه أعلم -: لكنا أنشأنا قرونًا بعد انقراض الرسل، ودروس أعلامهم وآثارهم، وتطاول العهد والعمر، ثم بعثناك فيهم رسولا؛ لتحيى به آثارهم، وتظهر فيهم سننهم وأعلامهم ورحمة منا إليهم، وهو ما قال في آخره: (وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ... (46) أي: أرسلنا إياك رحمة منا لهم، وهو ما قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، أو أن يكون قوله: (وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي: ما أنبأك وأعلمك من أنباء موسى وأخباره، حيث لم تشهدها من رحمة ربك، حيث جعلها آية لنبوتك، وحجة لرسالتك، واللَّه أعلم. وقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا) أنذر به الرسل الذين من قبلك قومهم. والثاني: لتنذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون، أي: على رجاء التذكر تندْرهم. أو أن يكون ذلك خاصة لمن تذكر إذا كان على الإيجاب. * * * قوله تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وقوله: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) لا ينتظم الجواب، وليس ما ذكر

على إثره جوابًا له، إلا أن يقال: إن قوله: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) أي: لم تصبهم مصيبة، وذلك جائز في اللغة؛ كقوله: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا) أي: لم تقولوا: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ)، أي: لم يمشهم، وجميع ما ذكر في هذه السورة من (وَلَوْلَا) كله أنه لم يكن؛ فعلى ذلك جائز أن يكون تأويل قوله: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) أي: لم تصبهم مصيبة، ولو أصابتهم مصيبة، وهو العذاب (فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) وهو كقوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا)، على هذا يخرج تأويل هذا. ثم في هذه الآية في قوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ) ووجهان: أحدهما: على من يقول بأن ليس لله أن يعذبهم بما كان منهم قبل بعث الرسل إليهم لقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وفي الآية بيان أن له أن يعذبهم وإن لم يبعث الرسل؛ لأنه أوعدهم الهلاك، فلو لم يكن له التعذيب والإهلاك لم يكن للإيعاد فائدة؛ فدل أن له الإهلاك في الدنيا والاستئصال، لكنه أخره عنهم؛ فضلا منه ورحمة. والثاني: على المعتزلة في قولهم الأصلح؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون ما أوعدهم أصلح لهم من الترك أو الترك لهم أصلح: فإن كان ما أوعد لهم أصلح فقد تركهم؛ فيكون في تركهم إياهم جائرًا على قولهم؛ لأنه لم يفعل ما هو أصلح لهم في الدِّين. أو أن يكون الترك لهم أصلح؛ فيكون بما أوعدهم جائرا؛ إذ أوعد بما كان غيره أصلح لهم مما أوعد؛ فدل ما ذكرنا على أن ليس على اللَّه حفظ الأصلح لهم في الدِّين. ثم قوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ليس الكفر نفسه، ولكن العناد والمكابرة مع الكفر؛ لأن عذاب الكفر في الآصه: ليس في الدنيا؛ لأن اللَّه تعالى قد أبقى كثيرًا من الكفرة لم يهلكهم ولم يعذبهم في الدنيا، ولكن إنما أهلك واستأصل في الدنيا من عاند وكابر الرسل في الآيات والحجج التي أتوهم بها وأقاموها عليهم على أثر سؤال كان منهم، فعند ذلك أهلكهم واستأصلهم لا بنفس الكفر، ثم مع ما كان له التعذيب قبل بعث الرسل لم يعذبهم، ولكن أخر عنهم إلى أن يبعث الرسل إليهم بالآيات والحجج؛ ليقطع به لجاجهم ومنازعتهم فضلا منه، وإن لم يكن لهم الاحتجاج عليه بقولهم: (لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). يحتمل قوله: (فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) الآيات التي تبعث مع الرسل لا يبعث الرسل بالآيات.

(48)

وجائز أن يكون قوله: (فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) يعنون بالآيات: الرسل أنفسهم، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) جائز أن يكون الحق الذي ذكر الرسول نفسه، ويحتمل الحق الكتاب الذي أنزل عليه وآيات. وقوله: (قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى): هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: قالوا: هلا أوتي مُحَمَّد من أنواع النعم من المن والسلوى وغيره من غير تكلف ولا تعب؛ مثل ما أوتي موسى لو كان رسولا على ما يقول. أو أن يقولوا: لولا أوتي من الآيات الحسيات الظاهرات من نحو اليد والعصا والحجر الذي كان ينفجر منه والغمام، وما ذكر من الضفادع والقمل والدم والطوفان وغير ذلك مثل ما أوتي موسى. أو أن يقولوا: لولا أوتي مُحَمَّد القرآن جملة عيانًا جهارًا؛ كما أوتي موسى التوراة جملة عيانًا جهارًا، واللَّه أعلم بذلك ما عنوا به. ثم بين اللَّه تعالى وأخبر أنهم إنما يسألون ما سألوه سؤال عناد ومكابرة لا سؤال استرشاد وطلب الحق حيث قال: (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) أي: لم يكفر هَؤُلَاءِ الذين سألوك الآيات بما أوتي موسى - يعني: أهل مكة - لأنهم كانوا مشركين لم يؤمنوا برسول قط من قبل. ويحتمل قوله: (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) أي: أولم يكفر قوم موسى بعد سؤالهم الآيات إذ أتاهم بها؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ يكفرون بما أوتيت. والأول أشبه. ثم قالوا: (سِحْرَانِ تَظَاهَرَا)، وقد قرئ: (ساحران) بالألف. وقَالَ بَعْضُهُمْ ساحران: موسى وهارون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: موسى ومُحَمَّد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عيسى ومُحَمَّد.

(49)

وقوله: (سِحْرَانِ) بغير ألف: كتابان، لكنهم اختلفوا: قَالَ بَعْضُهُمْ: التوراة والإنجيل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفرقان والتوراة ونحوه. وقال بعض أهل الأدب: ساحران: أولى وأقرب؛ لأن ذكر التظاهر إنما يكون بين الأنفس لا يكون بين الكتب. (تَظَاهَرَا) أي: تعاونا. وقَالَ بَعْضُهُمْ من أهل الأدب -أيضًا- (سِحْرَانِ) بغير ألف أولى؛ لأنه أراد به الكتابين. ألا ترى أنه طلب منهم بما قالوا إتيان الكتاب حيث قالوا: (فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا) ردًّا على ما قالوا وطلبوا منه. لكن نقول نحن: لا نحب أن نختار إحدى القراءتين على الأخرى؛ لأنه إنما هو خبر أخبر عنهم أنهم قالوا ذلك: فمرة قالوا: (ساحران)، ومرة قالوا: (سِحْرَانِ)، فأخبر على ما قالوا؛ وكذلك قوله: (سيقولون الله) بالألف وبغير الألف، لا يختار أحدهما على الآخر؛ لأنه خبر أخبر عنهم على ما كان منهم فهو على ما أخبر، واللَّه أعلم. وقال بعض أهل التأويل في قوله: (لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى): قالت اليهود: نأمر قريشًا أن تسال أن يؤتى مُحَمَّد مثل ما أوتي موسى يقول اللَّه لرسوله: قل لقريش يقولوا لهم: (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى) يعني: اليهود، وقالوا: (ساحران تظاهرا) قاك قول اليهود لموسى وهارون وهو مما ذكرنا قريب، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ) ما أوتي موسى على اختلاف ما ذكرنا. ثم قال: قل يا مُحَمَّد لقريش أهل مكة: (فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا ... (49) من التوراة والفرقان أو التوراة والإنجيل على اختلاف ما قالوا، (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في زعمكم أنهما سحران تظاهرا، وأنه مفترى، ائتوا أنتم من عند اللَّه بكتاب أتبعه؛ إلى هذا ذهب أهل التأويل. ووجه آخر يشبه أن يكون أقرب منه: وهو أن قوله: (فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ

(50)

أَهْدَى مِنْهُمَا)، أي: ائتوا بكتاب من عند اللَّه أنه أمركم بعبادة الأصنام والأوثان؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام دون اللَّه، ويقولون: اللَّه أمرهم بذلك، ويقولون: هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عند اللَّه، وإن عبادتهم إياها تقربهم إلى اللَّه زلفى ونحوه من الكلام، فيقول - والله أعلم -: ائتوا بكتاب من عند اللَّه: أنه أمركم بذلك هو أهدى منهما، أي: أبين منهما وأوضح من هذين؛ لأن هذين إنما جاءا بنهي عبادة غير اللَّه ومنعها دونه، يقول: ائتوا بكتاب هو أهدى وأبين عما جاء منه من هذين، إن كنتم صادقين أن اللَّه أمركم بذلك، ويكون عبادتكم إياها على ما تزعمون، هذا جائز أن يكون أقرب من الأول، واللَّه أعلم. وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ... (50) في إتيان ما تطلب منهم وتسأل من الكتاب، (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) بغير علم، وهم كانوا يعلمون: أنهم إنما يتبعون في عبادة الأصنام وتحريم الحلال وتحليل الحرام - أهواءهم، ويجعلون هواهم هو الإمام؛ إذ لا يؤمنون برسعول حتى يكون لهم كتاب. ثم قال: (وَمَنْ أَضَلُّ)، أي: لا أحد أضل (مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ)، أي: من غير بيان من اللَّه - (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، أي - واللَّه أعلم -: إن الله لا يهدي قومًا يتبعون أهواءهم، لا يتبعون الحجج والبراهين لا يهديهم ما داموا في اتباع هواهم. أو لا يهدي القوم الذين ظلموا الحجج والبراهين، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وقوله: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ): اختلف فيه: قال قائلون: هو القرآن، ثم يخرج على وجهين: أحدهما: وصل القرآن بعضه ببعض حتى خرج كله موافقا بعضه بعضا مصدقًا مجتمعًا غير مختلف، وإن فرق في الإنزال على تباعد الأوقات وطول المدد. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ): أن مثل هذا لا يكون إلا ممن يعلم الغيب، ولا يعزب عنه شيء ولا

(52)

يغيب؛ إذ لو كان هو ممن لا يعلم ذلك من كلام المخلوق لخرج مختلفًا متناقضا على ما يكون من كلام المخلوق في تباعد الوقت وطول المدة مختلفًا متناقضًا. والثاني: وصل مواعظ القرآن بعضها ببعض ومواعيده بعضها ببعض، وعداته بعضها ببعض، وكذلك أوامره ومناهيه، وإن تفرق نزولها واختلف مواضعها، يدعوهم به مرة بعد مرة؛ لعلهم يتذكرون به. ومنهم من يقول في قوله: (وَقُلنَا لَهُمُ): القول، أي: الإنباء وإخبار الأمم الخالية نبأ بعد نبأ وخبرا على أثر خبر ما نزل بمكذبي الرسل منهم من الهلاك والعذاب، ومصدقي الرسل من النجاة والبقاء في النعم الدائمة، على إقرار منهم بذلك وعلم أنه وإن بهم ذلك؛ لعلهم يتذكرون ذلك وينزجرون عن تكذيب رسولهم؛ مخافة أن ينزل بهم بالتكذيب ما نزل بأُولَئِكَ. وجائز أن يكون قوله: (وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي: قول التوحيد. ووجه هذا: أن وصلنا التوحيد حتى جعلنا في كل أمة وكل قوم أهل توحيد لم يخل قوم ولا أمة عنه؛ كقوله: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)؛ وكقوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ. . .)، ونحو ذلك من الآيات، يدل على أن كل أمة وقرن أهل توحيد؛ لعلهم يتذكرون أن في آبائهم من قد آمن بالرسل وصدق بهم، ولا يقولون: إن آباءنا على ما هم عليه، يشبه أن يكون هذا وصل القول الذي ذكر. و (وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: أي: أتبعنا بعضه بعضا؛ فاتصل عندهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَصَّلْنَا) أي: بينا شيئًا فشيئا؛ حتى صار عندهم ظاهرًا. وقال أبو معاذ: وصلنا في كلام العرب: أتممنا؛ كصلتك الشيء بالشيء. وقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وقال في آية أخرى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). وقال في آية أخرى: (فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، وقال: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)، وأمثاله. يذكر في هذه الآيات أن من أهل الكتاب من لم يؤمن، ويذكر في الأولى على

(53)

الإطلاق: أن الذين أوتوا الكتاب من قبله هم به يؤمنون، جائز أن يكون قوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) وانتفعوا به يؤمنون به. أو أن يكون الذي آتيناهم الكتاب فيتلونه حق تلاوته هم يؤمنون به على ما ذكر في آية أخرى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ)، أُولَئِكَ يؤمنون به، وأما من لم يتله حق تلاوته فلا يؤمنون. فأمأ أهل التأويل فإنهم صرفوا الآية إلى قوم خاص من أهل الكتاب: عبد اللَّه بن سلام وأصحابه الذين آمنوا به، وكذا جائز أن تكون الآية في قوم منهم؛ ألا ترى أنه قال على أثره: (وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) ذكر أهل التأويل: أنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث مُحَمَّد، فلما بعث ثبتوا على ذلك وآمنوا على ما كانوا من قبل. وفيه دلالة: أن الإيمان والإسلام واحد؛ لأنهم قالوا: (آمَنَّا بِهِ)، وقالوا: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) دل أنهما واحد؛ وكذلك قوله: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، وهما واحد ذكر مرة الإيمان ومرة الإسلام؛ دل أنهما واحد. وقوله: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) هذا يحتمل وجوهًا ثلاثة: أحدها: يؤتون أجرهم مرة بالإسلام، ومرة بما صبروا على زوال الرياسة منهم وذهابها؛ لأنهم كانوا أهل رياسة ومنزلة وقدر، فذهب ذلك كله عنهم بالإسلام، فلهم الأجر مرتين لذلك. والثاني: يؤتون أجرهم مرتين: مرة بالإسلام، ومرة بما صاروا قدوة وأئمة لمن بعدهم يقتدون بهم: أحد الأجرين بإسلام أنفسهم، والثاني بدعائهم غيرهم إليه على ما يعاقب الرؤساء منهم والقادة، ويضاعف العذاب عليهم مرتين: مرة بضلال أنفسهم، ومرة بإضلال غيرهم؛ كقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، جائز: أن يكون إيتاء الأجر مرتين؛ لما يصيرون أئمة وقدوة لغيرهم في الخير، ويضاعف عليهم العذاب إذا صاروا أئمة وقدوة في الشر؛ ألا ترى أنه قال في نساء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)، وذلك - واللَّه أعلم - لما يصرن هن أئمة لغيرهن يقتدين بهن؛ فعلى ذلك الأول. والثالث: جائز أن يكون يؤتون أجرهم مرتين بالإسلام نفسه، ويكون الصبر كناية عن الإيمان؛ كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: آمنوا وأسلموا.

(55)

وأما أهل التأويل فإنهم يقولون: يؤتون أجرهم مرتين: مرة بإيمانهم بمُحَمَّد قبل أن يبعث، ومرة بإيمانهم بعدما بعث، والأول أشبه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) بما صبروا: مرة بإسلامهم، ومرة بما صبروا، وحلموا على أذى أُولَئِكَ الكفرة، ولم يكافئوهم، بل خاطبوهم بخير حيث قالوا: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ). وروي في بعض الأخبار عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل آمن بنبي ثم إذا بعث نبي آخر آمن به، ومملوك لرجل يخدمه ويحسن خدمته ويعبد ربه، ورجل ربى جاريته ثم أعتقها فتزوجها ". وقوله: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ): هذا يحتمل وجهين: أحدهما: يحسنون إليهم بعد إساءتهم إليهم وأذاهم إياهم على ما كانوا يفعلون ويصنعون إليهم قبل ذلك. والثاني: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي: يعفون عن أذاهم ولا يكافئونهم فيكون كقوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ. . .) الآية، والأول كقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). وقوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أي: ينفقون في حق اللَّه وسبيل الخير، وإلا كل كافر ينفق كقوله: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ. . .) الآية. وقوله: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) هذا -أيضًا- يحتمل وجهين: إذا سمعوا منهم من الكلام ما يتأذون من كلام اللغو والأذى والفرية، أعرضوا عنه، أي: لم يكافئوهم لأذاهم. والثاني: إذا سمعوا ما يلغون به من الباطل أعرضوا، أي: لم يخالطوهم فيما هم فيه؛

(56)

فليس أنهم لا ينهون ولا يمنعونهم عن ذلك إذا رأوا النهي ينجع فيهم، وإذا رأوه لا ينجع فيهم، فعند ذلك أعرضوا عنه؛ وهو كقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا). وقوله: (وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ): يقولون هذا لهم إذا لم ينجع النهي والموعظة ولم يقبلوا ذلك، عند ذلك يقولون: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ)، أي: لكم جزاء أعمالكم ولنا جزاء أعمالنا؛ وكذلك قوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، لم يقل هذا لهم في ابتداء الدعاء، ولكن بعدما أيس عن إيمانهم وإجابتهم؛ فعلى ذلك الأول. وقوله: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ): هذا يشبه أن يخرج على وجهين: أحدهما: على القول منهم بالسلام عليهم، أي: كانوا لا يخاطبون الجهال، ولا يخاطبونهم إلا بالسلام خاصة، بهذا القدر يخالطونهم حسب. والثاني: ليس على حقيقة قول: السلام عليهم، ولكن على الصلح وترك المكافأة لهم، وتركهم إياهم على ما هم عليه؛ إذ السلام هو الصلح، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ردوا عليهم معروفًا (لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)، يعنون: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه. وقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) ذكر أهل التأويل أن هذا نزل في أبي طالب عم النبي، وذلك أن أبا طالب قال: يا معشر بني هاشم، أطيعوا محمدًا وصدقوه تفلحوا وترشدوا، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟! " قال: فقال: ما تريد يا ابن أخي؟ قال: " أريد منك كلمة واحدة في آخر يوم من الدنيا: أن تقول: لا إله إلا اللَّه؛ أشهد لك بها عند اللَّه " قال: يا ابن أخي، قد علمت أنك صادق، ولكن أكره أن يقال: جزع عن الموت، ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك وأخيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها، ولأقررت بها عينك عند الفراق؛ لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك، ولكن سوف أموت على ملة الأشياخ فلان وفلان؛ فأنزل اللَّه ذلك: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، فهو على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: أن الهدى البيان،

(57)

ولو كان بيانا على ما يقولون لكان رسول اللَّه يقدر أن يبين له وقد بين. لكن الجبائي يحتج لهم فيتأول ويقول: إن رسول اللَّه كان يحرص أن يدخله الجنة فيقول: إنك لا تهدي طريق الجنة له حتى يدخلها، أو كلام يشبه هذا، وذلك بعيد. وقال جعفر بن حرب: هذا ليس في ابتداء الهداية، ولكن في اللطائف التي تخرج مخرج الثواب لهم لما كان منهم من الاهتدء في البداء والأنف؛ كقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى. . .) الآية، فيخبر أنك لا تملك الهداية اللطيفة التي تخرج مخرج الثواب أن تهديهم. فيقال له: أخبرنا عن تلك الزيادة التي تخرج مخرج الثواب لهم لما كان منهم من الاهتداء في الابتداء تنفع لهم دون الابتداء. فإن قالوا: نعم. فيقال لهم: فذلك عليه أن يفعل بهم؛ إذ من قولهم: إن عليه أن يعطي كل كافر ما ينفعه ويصلح له في دينه، فكيف منع ذلك وهو ينفعهم؟! والثاني: يقال لهم: إن تلك الزيادة التي تخرج مخرج الثواب لهم واللطائف على ما كان منهم في الابتداء يستوجبها أو لا يستوجبها، فإن كان يستوجبها فلا معنى للمنع على قولهم؛ لأنهم يقولون: إن على اللَّه أن يعطي ذلك، وإن كان لا يستوجبها، فلا معنى لقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) على قولهم؛ فيبطل الاحتجاج به على قولهم. وعندنا زيادة الهداية وابتداؤها سواء، وهو على ما أخبر رسوله أنه لا يهديه، ولكن لو كان الهداية بيانًا - على ما قالوا - لكان قد بين لهم؛ فدل ذلك منه أن ثم هداية سوى البيان عند اللَّه إذا أعطاها العبد يصير بها مؤمنًا، وهي التوفيق والعصمة والسداد، وذلك لا يملك رسول اللَّه إنشاء ذلك وابتداعه، بل اللَّه هو المالك بذلك. * * * قوله تعالى: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وقوله: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا): دل قولهم: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى

(58)

مَعَكَ) على أنهم عرفوا أن ما جاء به رسول اللَّه ويدعوهم إليه هو الهدى، حيث قالوا: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ). وقوله: (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا): يخرج قولهم هذا على وجهين: أحدهما: أن نهلك ونفنى جوعًا إذا خالفنا أهل الآفاق في الدِّين؛ لأن أرزاقهم وما به قوام أبدانهم إنما يحمل ويمار من الآفاق، فيقولون: إنا إذا اتبعنا الهدى معك وخالفنا في الدِّين أهل الآفاق، منعونا الميرة فنهلك ونموت جوعًا؛ فذلك تخطفهم من الأرض. والثاني: قالوا ذلك مخافة أن يغزوا ويؤسروا أو يقتلوا إذا خالفوا أهل الآفاق والأطراف في الدِّين واتبعوا الهدى مخافة الأسر والقتل، فأجابهم اللَّه ورد عليهم اعتلالهم في الوجهين، فقال: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) يقول - واللَّه أعلم -: إنا جعلناهم في الحرم آمنين، وما يمتار إليهم من أنواع الثمرات باللطف لا بموافقة الدِّين؛ ألا ترى أنهم مع موافقة الدِّين كانوا يتخطفون الناس منهم؛ حيث قال في آية أخرى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أخبر أنهم مع موافقتهم في الدِّين يتخطفون؛ دل أنه إنما جعل لهم الحرم مأمنا والميرة إليهم باللطف لا بالموافقة في الدِّين؛ حتى لا يتعرض لأهل الحرم في الحرم ولا خارجه بشيء منه، ولا يتعرض -أيضًا- من دخل الحرم بشيء؛ ليعلم أنه إنما كان كذلك باللطف من اللَّه لا بالموافقة في الدِّين. والثاني: أنه مع ما كانوا يعبدون الأصنام دون اللَّه فيه لا يمنعهم الرزق ويؤمنهم فيه، فلأن يفعل ذلك بهم عند عبادتهم لله وتركهم عبادة غيره أحق أن يرزقوا ويأمنوا فيه. وقوله: (يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ): قال أهل التأويل: (ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي: من كل جنس ونوع من الثمرات يجيء إليه. وظاهره: أن يجيء إليه من كل شيء أرفعه وأنفعه وذلك ثمرته؛ لأن ثمرة كل شيء أرفعه وأنفعه، يقال: ثمرة الشيء كذا وثمرة هذا الكلام كذا، أي: ما ينتفع من هذا: هذا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أي: ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ما يحمل إليهم من الآفاق، ويجيء إليهم من الثمرات والأطعمة إنما هو باللطف لا بموافقة الدِّين؛ وكذلك لا يعلمون أن أمنهم فيه باللطف لا بموافقة الدِّين، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) قَالَ بَعْضُهُمْ: كفرت معيشتها.

(59)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم ترض معيشتها، وفيه إضمار " في "، أي: (بطرت في معيشتها) فانتصب لانتزاع حرف " في "، وتأويله - واللَّه أعلم - أي: كم أهلكنا قرية بطر أهلكها في معيشتها، حتى صرفوا شكر ما أنعم عليهم، وجعلوا عبادتهم لغير الذي جعل لهم السعة والرخاء، فأنتم يا أهل مكة إذا بطرتم أشركتم في سعتكم وخصبكم تهلكون؛ كما أهلك من كان قبلكم، وهو كما قال: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ. . .) الآية. وقوله: (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا): من القريات، قريات إذا أهلك أهلها أسكن غيرهم فيها نحو: قريات فرعون وغيره، جعل مساكنهم لبني إسرائيل حيث قال: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ. . .) الآية، وقوله: (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ)، ومن القريات ما جعلها خربة هعطلة لم يسكن غيرهم فيها نحو قريات لوط وغيره. وقوله: (وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) أي: الباقين، والوارث: هو الباقي في اللغة على ما ذكرنا آنفًا في غير موضع. وقوله: (وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) يخرج على وجهين: أحدهما: إخبار عن هلاك أهل الأرض وفنائهم ويبقى هو؛ كقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)، والثاني: إخبار عن هلاك أُولَئِكَ وجعلها لغيرهم، أي: للمتقين؛ كقوله: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) أي: نؤخذ، وقوله: (يُجْبَى إِلَيْهِ) من الجباية، أي: يجمع، يقال: جبيت أجبي جباية وجبيا، وأجبى يجبي، أي: حاز يحوز، (بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) أي: لم ترض بمعيشتها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: أشرت. وقالا: (فِي أُمِّهَا رَسُولًا) أي: في أكثرها وأعظمها قدرا وهي مكة، والنبي منهم والكتاب أنزل عليهم. وقالا: و (أُمِّهَا): كلمة لا يتكلم بها أحد يعنون بالكسر. وقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) جائز أن يكون تلك القرى التي أخبر أنه غير مهلكها حتى يبعث في أمها رسولا -:

(60)

القريات اللاتي هن حول مكة، لا يهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا. قيل: في أعظمها - وهي مكة - رسولا (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)، فإن كان هذا؛ فيكون الإهلاك لها الانتزاع من أيديهم، وجعلها في أيدي أهل الإسلام على ما كان؛ لأن اللَّه كان يفتح على رسوله قرية فقرية وبلدة فبلدة، حتى جعل الكل في أيدي المسلمين، وهو ما قال: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) وهو وعد فتح مكة، وذلك إهلاكهم. والثاني: جائز أن يكون هذا في كل القرى وجميع الرسل: أنه كان لا يهلكها بالكفر نفسه، حتى يبعث في أكبرها وأعظمها - وهي المصر - رسولا يتلو عليهم آياته، وذلك يشبه قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). وإنَّمَا ذكر بعث الرسول في أمها؛ لأنه إذا بعث الرسول في أعظمها - وهو المصر - ينتشر وينتهي إلى الآفاق والصغائر منها والقرى؛ لما أنهم يدخلون المصر لحوائجهم؛ فيتهيأ للرسول تلاوة الآيات عليهم والدعاء لهم، وإذا كان في بعض القرى لا يتهيأ لهم ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) أي: معاندون مكابرون، لا نهلكهم إهلاك تعذيب بنفس الكفر في الدنيا، حتى يكون منهم العناد والمكابرة، إنما يعذبون عذاب الكفر في الآخرة وهو عذاب الأبد. وقوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) إنهم كانوا يتفاخرون بما أوتوا من السعة ومتاع الحياة الدنيا، وأهل الزهد والتقوى آثروا الباقي الموعود في الآخرة على متاع الحياة الدنيا وزينتها؛ ولذلك قال: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (61) فجواب هذا أن يقال: بل الموعود الحسن الملاقى بالذي له عاقبة خير من المتاع الفاني الذي ليست له عاقبة، لكنه لم يذكر له جوابًا، فجوابه ما ذكرنا. ثم كل استفهام كان من اللَّه فهو على الإيجاب في الحقيقة ليس على الاستفهام. وقوله: (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي: يحضرون في النار. وقيل: من المحضرين، أي المعذبين، وكلاهما واحد.

(62)

قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ). قوله: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ) الذين في زعمكم أنهم شركائي، حيث أشركتموهم في العبادة وتسمية الألوهية، وإلا لم يكن لله شريك فيقول: أين هَؤُلَاءِ الذين زعمتم أنهم شركائي. ثم قوله: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ) إنما يقال لهم لقولهم: (مَا نعبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، فيقول: أين شفاعة من زعمتم أنهم شفعاؤكم عند اللَّه، وأين قربتكم وزلفاكم بعبادتكم إياها حيث زعمتم أن عبادتكم إياها تقربهم إلى اللَّه زلفى؛ أين ذلك لكم منهم؟ وقولِه: (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) يحتمل قوله: (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الذي قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ). وجائز أن يكون قوله: (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي: وجب عليهم العذاب؛ كقوله: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)، أي: وجب العذاب عليهم؛ وكقوله: (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا)، أي: وجب العذاب عليهم بما ظلموا ونحوه. ثم اختلفوا في الذين حق عليهم القول: فمنهم من يقول: هم رؤساء الكفرة وأئمتهم الذين أضلوا أتباعهم ودعوهم إلى الضلال. ومنهم من يقول: هم شياطين الجن. وللفريقين جميعًا في الكتاب ذكر: قال في أئمتهم: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا)، وقال: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا)، وأمثال هذا كثير. وقال في شياطين الجن: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) وقال: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ. . .) الآية، ونحوه كثير أيضًا. وقوله: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا): يقولون: (أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا) يعتذرون: أنه لم يكن منا إليهم إلا الدعاء والإشارة إلى الغواية؛ وهو كقول إبليس اللعين

(64)

وخطبته يومئذ حيث قال: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ. . .) الآية؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ يقولون لم يكن منا إليهم سوى الدعاء بلا برهان ولا حجة فاتبعونا؛ فلا تلومونا ولوموا أنفسكم؛ حيث تركتم إجابة الرسل ومعهم براهين وحجج، وأجبتمونا بلا حجة ولا برهان، فأغويناكم كما غوينا، ولو كنا على الهدى لهديناكم، كقولهم: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ). وقوله: (تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ): إنما يتبرءون أنا لم نأمرهم بالعبادة لنا، وإلا كانوا عبدوهم. ثم إن للمعتزلة أدنى تعلق بهذه الآية؛ لأنهم يقولون: إنما أضافوا الغواية إلى أنفسهم حيث قالوا: (أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا)؛ دل أن اللَّه لا يغوي أحدا. فيقال لهم: إنا لا نضيف ولا نجيز إضافهَ الغواية إلى اللَّه فيما يخرج مخرج الذم له، وإنما نضيف فيما يخرج مخرج المدح له والثناء عليه، ثم قد أضاف إبليس الغواية إليه، ولم ينكر عليه حيث قال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي)، في غير موضع وقال: (يُضِلُّ مَن يشَآءُ)، ونحوه كثير في القرآن، فما خرج مخرج أن مدح له والثناء عليه يضاف إليه، وما خرج مخرج الذم له فلا، وقد ذكرنا هذا في غير موضع، واللَّه أعلم. وقوله: (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) يوم قال لإبليس: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ثم قالت الشياطين في الآخرة: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا) يعنون: كفار بني آدم، هَؤُلَاءِ الذين أضللناهم عن الهدى كما ضللنا تبرأنا إليك منهم يا رب (مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ)، فتبرأت الشياطين ممن كان يعبدها، فقالوا: لم نأمرهم بعبادتنا، وقيل لكفار بني آدم: (ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ (64) يقول: سلوا الآلهة التي سميتموها: آلهة أهم آلهة؛ (فَدَعَوْهُمْ) أي: سألوهم، فلم تجبهم الآلهة بأنها آلهة. وقوله: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) في الدنيا، أي: معي شركاء على ما ذكرنا من قبل، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ) يحتمل شركاءكم في الخلقة، أو شركاءكم في العبادة ادعوهم؛ ليشفعوا لكم ويقربوكم إلى اللَّه على ما زعمتم في الدنيا، (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ)، أي: لم يشفعوا لهم ولم يستجيبوا لهم؛ لما لم يجعل في وسعهم الإجابة لهم واجبًا كائنًا في الآخرة. وقوله: (وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ): تأويله، أي: لو رأوا العذاب في الدنيا لكانوا يهتدون، ولكن لم يروه؛ هذا وجه.

(65)

ووجه آخر: أنهم لم يصدقوا بالعذاب في الدنيا، ولو صدقوه لاهتدوا مخافة نزول العذاب بهم. والثالث: لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ ... ) اختلف فيه: قال قائلون: إنما يسألون عن إجابتهم الرسل ماذا أجبتموهم؟ على علم منه أنهم ماذا أجابوا هم، (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) أي: الإجابة، فلا يتهيأ لهم الإجابة لهول ذلك وفزعهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما يسألون عن الحجة والعذر الذي به كانوا تركوا إجابة الرسل، فيقول لهم: لأي حجة وعذر تركتم إجابتهم (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ)، أي: الحجج والعذر، لما لم يكن لهم الحجة والعذر في تركهم إجابتهم. (فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسأل بعضهم بعضا، بل يتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا على ما ذكر في الكتاب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ) بالحجة والبرهان؛ لما لا حجة لهم ولا برهان، أي: لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج؛ لأن اللَّه أدحض حججهم وكلل ألسنتهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يتساءلون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتساءلون في الدنيا؛ كقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ). واللَّه أعلم بذلك. ثم إن بعض المعتزلة تكلموا فيه وقالوا: لو كان الأمر على ما قاله القدريون والجبريون في المشيئة والإرادة، لكان يسهل لهم الاحتجاج، ويهون لهم العذر، فيقولون: يا ربنا أجبنا ما نفذ من مشيئتك وإرادتك، وما مضى من قضائك وكتابتك علينا؛ إذ كنت أنت قضيت وكتبت علينا وشئت وأردت ما كان منا من التكذيب لهم وترك الإجابة، فلم يكن لنا تخلص مما شئت أنت وقضيت علينا. إلى هذا الخيال يذهب جعفر بن حرب، وهذا تعليم لأُولَئِكَ الكفرة الحجاج بالباطل والكذب بين يدي رب العالمين للتكذيب الذي كان منهم. ثم يقال: لو كان لهم ذلك الحجاج على زعمكم، فلا يكون ذلك لهم بقولنا، ولكن إنما يكون بكتاب اللَّه وسنة رسوله وقول المسلمين أجمع حيث قالوا: (ما شاء اللَّه كان

(67)

وما لم يشأ لم يكن)، وبكتاب اللَّه ما ذكر في غير آي من القرآن (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى)، وقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا. . .) الآية، وأمثاله مما لا يحصى من الآيات، فلئن كان لهم ذلك إنما يكون بما ذكرنا لا بقولنا. وأصله: أنه لا يكون لهم هذا النوع من الاحتجاج؛ لأنهم وقت فعلهم لا يفعلون بان اللَّه شاء ذلك لهم أو قضى وكتب ذلك عليهم، وهم يودون ويحبون وقت فعلهم أن يشاء اللَّه ذلك منهم ويرضى، فإذا كانوا وقت فعلهم لا يفعلون لذلك، فكيف يكون لهم الحجاج على ما كانوا عليه يفعلون لا لذلك؟! لكن هذا منهم ثعليم الكذب لهم ليكذبوا بين يدي رب العالمين على ما ذكر. وأصل قولنا في هذا: أنا نقول: إنه شاء من كل ما علم أنه يكون منه ويختار، وكذلك قضى وكتب على كل ما علم أنه يكون منه؛ إذ لا يجوز أن يشاء منه خلاف ما علم أنه يكون؛ لأن فيه أحمد وجهين: إما الجهل بالعواقب. وإما العجز فيه. وذانك عن اللَّه منفيان، تعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرا. وأصلهما: ما روي عن أبي حنيفة - رحكمه اللَّه - أنه قال: بيننا وبين القدرية حرفان: أحدهما: أنا نقول لهم: إن اللَّه علم ما يكون أنه يكون، فإن قالوا: لا، كفروا؛ لأنهم جهلوا اللَّه، وإن قالوا: بلى، فيقال لهم: وشاء أن يكون ما علم أنه يكون، فإن قالوا: لا، كفروا؛ لأنهم يقولون: شاء أن يجهل، وذلك كفر، وإن قالوا: بلى شاء ذلك، لزمهم قولنا في المشيئة والإرادة لله في ذلك. تال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (فَعَمِيَتْ) بالتخفيف، أي: خفيت، و (فَعُمِّيَتْ) بالتشديد، أي: أخفيت. وقوله: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا (67) أي: فأما من تاب، أي: رجع عما كان فيه من الشرك والكفر، وآمن بالذي دعاهم الرسل وأجابهم، وعمل صالِحًا فيما بينه وبين ربه. (فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ): يحتمل رجوع (فَعَسَى) إلى ذلك الرجل الذي نعته، يقول: على رجاء القبول والفلاح يفعل ما يفعل من التوبة والعمل الصالح.

(68)

أو أن يقال ما قال أهل التأويل: إن (عَسَى) من اللَّه واجب، وهو ما ذكرنا أن كل استفهام كان من اللَّه فهو على اللزوم والوجوب؛ فعلى ذلك حرف (عسى)، و (لعل)، وإن كان حرف شك في الظاهر، فهو من اللَّه على الوجوب واليقين. قال أبو معاذ: الفلاح في كلام العرب البقاء، ويقال: النجاة، وقد ذكرناه في غير موضع. * * * قوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) وقوله: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ): يقول - واللَّه أعلم -: وربك يختار للرسالة من يشاء ويجتبيه لها، فيجعلهم رسلا. (مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ): يقول: لم يكن لهم أن يختاروا هم، ولكن اللَّه يختار ويصطفي من يشاء ردًّا لقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ. . .) الآية، إلى هذا ذهب بعضهم. وجائز أن يكون هذا في كل أمر، أي: وربك يختار ما يشاء ويأمر، وما كان لهم الخيرة من أمره أي: التخلص والنجاة من أمره؛ كقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا)، أي: أمر اللَّه ورسوله أمرًا، (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). والقضاء هاهنا أمر، لكنه يحتمل وجهين: أحدهما: على الوقف على قوله: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)، والابتداء من قوله: (مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) من أمرهم، فإن كان على هذا فيكون (ما) هاهنا (ما) جحد، أي: لم يكن لهم الخيرة من أمرهم. والثاني: على الصلة: ليس على الحجاج، فيكون تأويله: وربك يخلق ما يشاء ويختار الذي لهم الخيرة أن يكون، الوقف على هذا على قوله: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)، ثم يقول (وَيَخْتَارُ) الذي لهم (الْخِيَرَةُ). قال أبو معاذ: قرئ (الْخِيْرَةُ) بجزم الياء وبتحريكها (الْخِيَرَةُ). ثم قوله: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) على المعتزلة من وجهين: أحدهما: ما أجمعوا عليه أن اللَّه قد شاء جميع ما يفعله العباد من الخيرات والطاعات، فإذا شاء ذلك دل أنه خلقها لهم، أخبر أنه يخلق ما يشاء وقد شاء الخيرات؛ فدل ذلك على خلق أفعال العباد.

(69)

لكنهم يقولون: قوله: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) إذا خلقه؛ وكذلك يقولون في قوله: (وَاللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): إن خلقه أو كلام نحو هذا. قلئن جاز لهم هذا من الزيادة جاز لكل أحد مثله، فذلك بعيد. وعلى قولهم أكثر الأشياء ليست بمخلوقة لله، وهو على أكثر الأشياء غير قدير؛ لأن أفعال الخلق لا شك أنها أكثر من أنفسهم، فأخبر أنه على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء، وأن هذا منه خرج مخرج الامتداح له والثناء له بما له من السلطان والقدرة على الخلق كلهم، فلو كان على ما يقوله المعتزلة لم يكن هذا مدحًا له ولا ثناء بالسلطان والقدرة؛ إذ هو على قولهم على أكثر الأشياء ليس بقادر على ما ذكرنا. ثم نزه نفسه وبرأها عما قالوا فيه وأشركوا غيره في ألوهيته وربوبيته وفي عبادته فقال: (سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، وقال: (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) هذا يخرج على الوعيد لهم والتنبيه؛ ليكونوا على حذر فيما يسرون وما يعلنون، والله أعلم. وقوله: (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قوله: (وَلَهُ الْحُكْمُ) كقوله: (وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)، وقد ذكرنا أن قوله: (وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) من أمرهم أنه يخرج على وجهين: أحدهما: له الاختيار في أمرهم؛ لا لهم الاختيار في أمرهم، ولا يملكون هم ما يختار لهم دفعه. والثاني: هو يختار لهم الخيرة في أمرهم؛ لأنه هو العالم بمصالح أمورهم وما يرجع إلى الأوفق والأنفع وهم لا يعرفون ذلك، فعلى ذلك قوله: (وَلَهُ الْحُكْمُ) في الدنيا والآخرة لأن أنفس الخلائق له دونهم، فله الحكم في أمورهم وأفعالهم؛ كما له الحكم في أحوالهم؛ لأنه لا يلحقه الخطأ في حكمه؛ إذ هو عالم بذاته، ولا تلحقه التهمة أيضا في دفع مضرة أو جر نفع؛ لأنه غني بذاته فله الحكم في الدارين جميعًا، واللَّه الموفق. وقوله: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ): هذا يخرج على وجوه: أحدها: ما قاله أحس التأويل: إن أولياءه يحمدونه في الدنيا والآخرة في الجنة حيث قالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. . .) الآية، يقولونه إذا دخلوا الجنة. والثاني: وقَالَ بَعْضُهُمْ (فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ) يقول: في السماوات والأرض، وتصديقه

(71)

قول اللَّه: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقوله: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، وقوله: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ). والثالث: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ): وهو أن جعل الدنيا مشتركة بين الأعداء والأولياء في نعيمها غير مفترقة ولا مختلفة، وأما الآخرة فقد فرق فيها بين الأولياء والأعداء؛ جعل للأولياء النعمة الدائمة وللأعداء العذاب الدائم، فله الحمد على ذلك. والرابع: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ) لما جعل الدنيا دار محنة والآخرة دار الجزاء لم يجعلها دار المحنة. أو أن يكون قوله: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ) أي: له الحمد من الخلق في كل حال وكل وقت؛ كقوله: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أنهم يحمدونه في بدء كل أمر وختمه، أو أن يكون له الحمد. * * * قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ): أو إن جعل النهار سرمدًا، أي: دائفا لا ليل فيه. . . إلى آخر ما ذكر من قوله: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) و (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) يخرج ذكره لوجهين: أحدهما: في تسفيههم في صرف العبادة والشكر إلى الأصنام التي كانوا يعبدونها على علم منهم أنها لا تملك شيئا مما ذكر، من جعل الليل نهارا وجعل النهار ليلا، وتركهم عبادة من يعرفون أنه يملك ذلك كله؛ وكذلك ما ذكر في آية أخرى حيث قال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ. . .) الآية. يقول - واللَّه أعلم -: فإذا لا يملك ما تعبدون من دون اللَّه دفع ضر أراده اللَّه فيه وجعله رحمة، ولا دفع رحمة أرادها اللَّه وجعله ضرا، فكيف تعبدونها وتتركون عبادة من يملك جعل هذا هذا ودفع هذا بهذا؟ فعلى ذلك يقول - واللَّه أعلم -: كيف تعبدون من لا يملك جعل الزمان كله ليلا دائمًا لا نهار فيه، وجعل النهار نهارا كله دائمًا لا ليل فيه، وتتركون عبادة من يملك ذلك كله يجعل وقت الراحة والفرار. والثاني: يذكرهم عظيم نعمه ومنته حيث أنشأ هذا العالم محتاجًا إِلَى ما به قوام أنفسهم وأبدانهم في دينهم ودنياهم، ثم جعل ذلك كله على التعاون والتظاهر بعضهم بعضا ما لو

(74)

جعل ذلك على غير ذلك لا يقوم أنفسهم وأبدانهم بذلك؛ حيث جعل الليل وقتًا للراحة والسكون، والنهار وقتًا للتقلب والتعيش، ولو كان ذلك كله وقتًا للراحة لا يقوم أنفسهم أبدًا للتعيش والكسب، ولو كان كله وقتًا للتقلب والكسب لا راحة فيه لا تقوم أيضًا أنفسهم بذلك، لكنه - من رحمته وفضله - جعل لهم وقتًا للراحة، ثم جعله للكل لا لبعض دون بعض؛ وكذلك ما جعله وقتًا للتقلب إنما جعله كذلك للكل لا لبعض دون بعض؛ ليقوم لهم أسباب العيش، وما به قوام أنفسهم وأبدانهم، ولو كان ذلك كله وقتًا لأحدهما لم تقم أنفسهم، ولا بقي هذا العالم إلى الوقت الذي كتب له البقاء إلى ذلك الوقت وهو ما ذكر: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). وقوله: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ)، و (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) إنما هو سمع عقل وقلب وبصر عقل؛ كانه يقول: أفلا تسمعون هذا بالعقل وأفلا تبصرون بالعقل، واللَّه أعلم؛ كقوله: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ. . .) الآية. * * * قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) قد ذكرناه. وهذه الآيات التي يكررها ويعيدها مرة بعد مرة من قوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)، وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، وقوله: (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ)، وأمثال ذلك مما يكثر على علم منه أنهم لا يصدقونها، ولا يقبلونها ولا يستمعون إليها وإن كررت وأعيدت، غير مرة؛ فهو - والله أعلم - يخرج على وجهين: أحدهما: لزوم الحجة لما مكنوا من الاستماع والسماع، وإن كانوا لا يستمعون إليها. والثاني: يكون فيه عظة للمؤمنين من وجوه: أحدها: ليشكروا على ما عصموا من عبادة غير اللَّه، ووفقوا إلى عبادة اللَّه المستحق لها؛ ليعرفوا عظيم نعمة اللَّه عليهم. والثاني: ليحذروا عاقبتهم في الرجوع إلى ما هو عليه أُولَئِكَ الكفرة، على ما حذر الرسل والأنبياء وأولو العصمة عاقبتهم في الرجوع إلى ذلك؛ كقول إبراهيم: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، وأمثاله كثير. والثالث: خوف المعاملة لئلا يعاملوا هم في العمل كما عامل أُولَئِكَ في الاعتقاد؛ لأن المؤمنين وإن خالفوا هم أُولَئِكَ الكفرة في الاعتقاد في إشراك غيره في العبادة فربما

(75)

يوافقونهم في العمل، فكررت هذه الأنباء والآيات عليهم وأعيدت مرة بعد مرة، وإن كان أُولَئِكَ لا يستمعون إليها للوجوه التي ذكرنا. والرابع: كررت غير مرة لما لعلهم لا يقبلون في وقت ويقبلون في وقت، فيقولون: لو كررت وأعيدت لقبلنا، فكررت وأعيدت لئلا يقولوا بأنها لو أعيدت وكررت لقبلناها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) قيل: شهيدها رسولها؛ كقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ. . .) الآية، وقوله: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا)، ونحوه، سمي: شهيدًا؛ لأنه شهد على ما عملوا، وحضر ما كان منهم - واللَّه أعلم - من التكذيب والقبول والرد. (فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ): في تسميتكم الأصنام: آلهة، أو في استحقاقها العبادة، أو في زعمكم: هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عند اللَّه ونحو ذلك، يقول: هاتوا برهانكم وحجتكم على ما زعمتم. وقوله: (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ): هذا أيضًا يحتمل وجوهًا: أحدها: علموا أن الألوهية والربوبية لله. أو علموا أن الشفاعة لله لا للأصنام التي عبدوها ليكونوا شفعاء لهم عند اللَّه؛ كقوله: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا). أو أن يكون: أن الحق الذي عليهم وهي العبادة لله. أو أن يكون ما جاء به الرسل من الحق إنما جاءوا به من عند اللَّه. (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي: ضل عنهم ما كانوا يأملون من عبادتهم تلك الأصنام من الشفاعة والزلفى. * * * قوله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ

(76)

اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) وقوله: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ... (76) كأنه قال - واللَّه أعلم - يخوف أهل مكة، ويوعدهم ببغيهم على اللَّه وعلى رسوله بعذاب ينزل بهم؛ كما نزل بقارون ببغيه على موسى وقومه، أي: لم تنفعه قرابته من موسى ولا صلته به؛ لما ذكر أنه كان ابن عمه وكان ختنه: زوج أخته مريم؛ فعلى ذلك يقول - واللَّه أعلم -: لا تنفعكم القرابة التي بينكم وبين رسول اللَّه ولا اتصالكم - به من عذاب اللَّه ومقته في الدنيا، إذا بغيتم عليه وتركتم اتباعه؛ كما لم تنفع القرابة التي بين قارون وموسى من عذاب اللَّه ومقته في الدنيا إذا بغى عليه، وكما لم تنفع أبوة أبي إبراهيم لأبي إبراهيم إذا بغى عليه وترك اتباعه، حيث تبرأ إبراهيم منه وحيث قال: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ) الآية، وحيث لم تنفع لامرأة نوح ولوط الزوجية التي كانت بينهما وبين نوح ولوط من نزول العذاب ومقته بهما إذا تركتا اتباعهما وبغتا عليهما؛ فعلى ذلك يا أهل مكة لا ينفعكم من عذاب اللَّه ومقته قرابتكم برسول اللَّه - صلوات اللَّه عليه - ووصلتكم به، واللَّه أعلم. وقوله: (فَبَغَى عَلَيْهِمْ): اختلف أهل التأويل في بغيه عليهم: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو أن موسى طلب منه زكاة ما آتاه اللَّه من المال، فمنعه وأبى أن يعطيه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: بغيه عليهم هو أن أعطى امرأة جُعلا لتقذفه بنفسها، فأراد أن يفضحه على رءوس الأخيار والملأ وأن يرجموه، فدفع اللَّه عنه وبرأه منه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما بغى عليه بكثرة ماله وولده، هذا يشبه أن يكون كأنه افتخر بكثرة ماله في دفع عذاب اللَّه ونقمته؛ كقول أهل مكة: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بغى عليه لأن النبوة جعلت في موسى والحبورة في هارون، ولم يجعل لقارون شيء، فاعتزل عن موسى واتبعه ناس كثير، فاعتدى عليه ونحو هذا كثير مما قالوه. والأشبه أن يكون بغيه الذي ذكر عليه كبغي فرعون وهامان عليه؛ حيث قال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)؛ وكقوله: (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، فكان منه ما كان من فرعون وهامان من التكذيب والرد لرسالته، وتسميته: ساحرًا كذابًا، فذلك هو البغي عليه. أو لا يفسر البغي عليه؛ لأنه ذكر البغي ولم يبين ما ذلك البغي، واللَّه أعلم بذلك. وقال قائلون: بغيه عليهم: هو أن زاد في ثيابهم شبرا، فذلك أيضا لا نعلمه فهو مثل الأول. وقوله: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: مفاتحه: خزائنه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جمع مفتاح وهو في الأصل مفاتيح. وذكر أن كنوزه كانت كذا كذا ألفا، وأن مفاتيحه كان يحملها كذا كذا بغلا، وأنها من جلود كذا أو من كذا قدر كذا، فذلك أيضًا لا نعلمه ولا نفسره ولا نذكره إلا قدر ما ذكر في الكتاب؛ إذ ذكر في الكتاب الكنوز والمفاتح، وذكر أن العصبة تنوء بها وذلك للكثرة

(77)

ما ذكر، ولكن لا نعلم قدره وعدده ما هو؟ ولا كم هو؟ وكذلك العصبة أيضًا لا نعلمه كم عدده؟ إلا أن أهل التأويل يقول بعضهم: من عشرة إلى أربعين، ويقول بعضهم: من عشرة إلى خمس وسبعين، وبعضهم: من عشرة إلى خمس عشرة ونحوه، لا نفسره ولا نذكر عدده سوى أنه اسم جماعة يتعصب بعضهم بعضًا يرجعون جميعًا إلى أمر واحد، وكذلك الشيعة هي جماعة يتشيع بعضهم بعضًا ويتبع بعضهم بعضًا؛ ولذلك قال إخوة يوسف لأبيهم: (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ)، أي: يتعصب بعضنا بعضًا لا ندعه يأكله، ولئن لم نفعل ولم نحفظه (إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ). وقوله: (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ): اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: لتثقل بالعصبة تلك المفاتيح. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَتَنُوءُ) أي: تميل بها العصبة إذا حملتها من ثقلها. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ)، أي: لتعجز العصبة عن حملها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تنوء: تثقل، والعصبة: جماعة. وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تبطر ولا تأشر؛ إن اللَّه لا يحب البطرين الأشرين. وجائز أن يكون قوله: (لَا تَفْرَحْ) أي: لا تفتخر على الناس بما آتاك اللَّه من المال ولا تتكبر عليهم، (لَا تَفْرَحْ) لا تسكن إليها، ولا تركن إلى ذلك، إن اللَّه لا يحب من ذكر. وقوله: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) كان كثرة ما آتاه اللَّه من المال أنسته الآخرة، وشغلته عنها وعن العمل لها، حتى حمله ذلك على الجحود والإنكار، فقالوا: وابتغ الدار الآخرة بما آتاك اللَّه. (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أي: لا تنس من مالك نصيبك في الدنيا ولكن قدم لآخرتك.

(78)

قال الحسن في قوله: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) إلى آخره قال: أمر أن يأخذ من ماله قدر عيشه، ويقدم ما سوى ذلك لآخرته، وكذلك قال في قوله: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي: قدم الفضل وأمسك ما يبلغك. (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ): قال: يكفيك ما أحل اللَّه لك من الدنيا؛ فإن فيه غناء وكفاية. وأصله: ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لك من الدنيا ما أكلت ولبست وأفنيت وما قدمت " جعل المقدم من الدنيا له، وأمَّا ما خلفه فهو لغيره. وهكذا أمر الدنيا لم تخلق الدنيا لتبقى لأهلها أو يبقى أهلها فيها، ولكن إنما خلقت لتفنى هي أو يفنى أهلها، وخلقت الآخرة للبقاء، فنصيبه من الدنيا ما قدم وأنفق في طاعة اللَّه وفي سبيله ليس ما خلفه في هذه الدنيا. وقوله: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) يحتمل قوله: (وَأَحْسِنْ) إلى نفسك في العمل للآخرة كما أحسن اللَّه إليك، وأحسن إلى الخلق كما أحسن اللَّه إليك. وقوله: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ): هذا يدل أنه كان ينفق ماله إلا أنه كان ينفق في الصد عن سبيل اللَّه؛ حيث قال: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ)، ولو كان في ترك الإنفاق لم يكن في ذلك بغي الفساد في الأرض. ثم الواجب على من حضر الملوك وشهد مجالسهم من أهل العلم أن يخوفوا الملوك، ويواعدوهم بما أوعد قوم موسى قارون وخوفوه، ويأمروهم بالصلاح في أنفسهم وفي رعيتهم، كما أمر أُولَئِكَ قارون، وينهوهم كما نهاه أُولَئِكَ، فإن أجابوهم وإلا امتنعوا عنهم وكفوا أنفسهم عن الاختلاف إليهم، فإن لم يفعلوا فهم شركاؤهم في جميع ما يفعلون، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن قارون كان أخبر الناس بالتوراة وأعلمهم بها وسمي: قارون لذلك، وذكر أنه سمي: المنور؛ لحسن صوته بالتوراة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمى: منورًا لذكائه، واللَّه أعلم. وقال): قوله: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي): وهو الكمياء، ذكر أنه يعالج

صنعة الذهب ويحسنها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) أي: على خبر عندي، قال ذلك على أثر قول أُولَئِكَ: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) إلى قوله تعالى: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ) كأنهم أوعدوه بذهاب ذلك عنه وهلاكه، فقال - واللَّه أعلم -: إنما أوتيت ذلك على علم عندي، لم أوت جزافًا بلا سبب، وكأنه - واللَّه أعلم - نسي الآخرة بما أوتي من المال والكنوز، وترك الإنفاق في الخير، وكان ينفق في صد الناس عن سبيل اللَّه؛ ولذلك قال: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ)، إلا أنه كان عارفًا باللَّه حيث قالوا له: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) وقالوا له: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) دل هذا منهم أنه كان عارفًا باللَّه تعالى. وقوله: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا): ذكر هذا - واللَّه أعلم - لما أنه كان يفتخر ويستكبر على الناس بما أوتي من الأموال والكنوز والأتباع، ويحسب أنه يدفع العذاب الموعود في هذه الدنيا بذلك عن نفسه. أو يظن أنه لما أوتي ذلك لا يعذب كظن أُولَئِكَ الكفرة حيث قالوا: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)؛ فجائز أن كان من قارون من الإعجاب بالكثرة والجمع ما ذكر بأُولَئِكَ، فقال عند ذلك: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا)، ثم لم يتهيأ لهم دفع ما نزل بهم من العذاب؛ فعلى ذلك أنت يا قارون، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ): اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسألون عن ذنوبهم؛ كقوله: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسأل هذه الأمة عن صنيع مجرمي الأمم الخالية. وجائز ألا يسأل عن ذنوبهم؛ لأنهم لا يرون ما يعملون من الأعمال ذنوبًا، ولكن إنما يسألون عن الدليل الذي به لا يرون تلك الأعمال ذنبًا، واللَّه أعلم.

(79)

وقوله: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) قال عامة أهل التأويل: إنه خرج على بغال شهب، ومعه كذا كذا من الجواري على كذا كذا بغال شهب عليهن من الثياب كذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه خرج على براذين كذا بيض مع كذا كذا غلمان وجواري، ونحو ما ذكروا. لكنا لا ندري على أي زينة خرج؟ ولكنا نعلم أنه خرج على الزينة التي يخرج أمثاله من الملوك، ولا نفسر أنه كذا على كذا، وكذلك لا نفسر العلم؛ ذكر أنه أوتي له من المال والكنز أنه كان عنده كذا من العلم، واللَّه أعلم بذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة. وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) أي: أوتوا منافع العلم: لأنه قد يؤتى العلم ربما، ولا يؤتى من الانتفاع له به ما أوتي هَؤُلَاءِ؛ حيث قالوا لأُولَئِكَ: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) لم يكن من أُولَئِكَ إلا التمني أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون، ثم نهاهم الذين أوتوا منافع العلم والانتفاع به عن ذلك التمني، فدل ذلك أن التمني لا يسع الاشتغال به والطلب؛ حيث قالوا لهم: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ). اختلف في قوله: (وَلَا يُلَقَّاهَا) كيف ذكره بالتأنيث، وإنما تقدم له ذكر الثواب، فألا قال: (وما يلقاه)؛ لكن اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا يُلَقَّاهَا) كناية عن تلك المقالة التي كانت من أُولَئِكَ الذين أوتوا العلم لأُولَئِكَ الذين يريدون الحياة الدنيا، أي: لا يلقى تلك المقالة التي قالوها لأُولَئِكَ إلا الصابرون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن ذلك كناية عن الأعمال، أي: ولا يلقى تلك الأعمال ولا يوفق إليها إلا الصابرون. قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (وَلَا يُلَقَّاهَا) أي: لا يوفق، ويقال: لا يرزق. (الصَّابِرُونَ) يحتمل: المؤمنين أنفسهم؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: آمنوا. ويحتمل: الصابرون: الذين صبروا أنفسهم وحبسوها على أداء ما افترض اللَّه عليهم،

ولم يؤتوا أنفسهم شهواتهم وهواها، واللَّه أعلم. ثم كان في قوم موسى خصال ثلاث لم تكن تلك ومثلها في غيرهم من الأمم. أحدها: ما ذكر من صلابة الذين أوتوا العلم، ويقينهم، وطمأنينتهم فيما وعدوا في الآخرة من الثواب، وصبرهم على أداء ما افترض اللَّه عليهم، وحبسوا أنفسهم عن مُنَاهم وشهواتهم، ولصلابتهم وقوتهم في الذين ما وعظوا قارون، حيث قالوا له: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ. . .) إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وهو كان يومئذ ملكا، ولما قالوا لأُولَئِكَ الذين يريدون الحياة الدنيا: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا). والثاني: ما ذكر سحرة فرعون حين أوعدهم بالقطع والصلب والقتل بإيمانهم الذي آمنوا فقالوا: (لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ)، وقالوا: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)، وأمثال ذلك مما لم يبالوا حلول ما أوعدهم وخوفهم من أنواع العذاب. والثالث: ما ذكر من الذي كان يكتم إيمانه؛ حيث قال: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)، وإنما أظهر ذلك حين قال فرعون: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)، كأنه همَّ أن يقتله؛ ألا ترى أن ذلك الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه قال لهم: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) لم يبال هلاك نفسه بإظهاره الإيمان بعد أن أعان به اللَّه موسى، ونفع له بما قال، واستقبل فرعون وقومه بما استقبل. فهذه خصال لم تذكر عن قوم قط من سوى قوم موسى مثلها. ولذلك وصفهم ونعتهم بفضل الهداية والعدالة، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ). وهكذا الواجب على كل مؤمن إذا أريد منه أخذ الإيمان، أو خاف على دينه أن يذهب به، أو أن يدخل فيه النقصان ألَّا يبذل ذلك، وإن خاف على نفسه تلفها وهلاكها وتعذيبها بأشد ما يكون من العذاب؛ ألا ترى أن اللَّه مدح أصحاب الأخدود بما احتملوا أشد العذاب وأسوأ القتل، ولم يتركوا الإيمان، ولم يعطوا أُولَئِكَ الكفرة ما أرادوا منهم، فهكذا الاختيار على كل مسلم أن يختار ما اختار أُولَئِكَ. وهكذا الواجب على كل من يأتي الأمراء والسلاطين ويحضر مجالسهم من العلماء أن يعظوهم، ويأمروهم بكل ما يؤتى، وينهوهم عن كل محذور، ويدلوهم على كل خير وكل ما هو طاعة لله، كما فعل قوم قارون بقارون، وإلا لم يحضروا مجالسهم ولا أتوا

(81)

طائعين، فلو فعلوا فإنهم يكونون شركاءهم. وذكر عن بعض السلف أنه قال: في عيسى وقارون عبرة لمن اعتبر؛ إن عيسى - صلوات اللَّه عليه - زهد في الدنيا زهدًا، حتى لم يتخذ لنفسه مسكنًا يسكنه، ولا مقرّا يقر فيه، ولا اتخذ لنفسه ما يتعيش به، ولا اشتغل بشيء منها، فرفعه اللَّه إلى السماء، فجعل عيشه ومقره فيها في كرامة اللَّه وجواره. وقارون كان يرغب في هذه الدنيا رغبة، وجهد في طلبها طاقته ووسعه، وركن إليها ركونًا، حتى خسفه اللَّه في الأرض، وأدخله فيها مع كنوزه وأتباعه، فيكون فيها إلى يوم القيامة؛ ففي ذلك عبرة وآية لكل راغب وزاهد، فيرغب الزاهد في الزهد فيها، وينزجر الراغب عن الرغبة فيها، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ... (81) بالبغي الذي بغى عليهم؛ أعني: على موسى وأصحابه. وقوله: (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كأنه كان يفتخر بالمال والحواشي، ويتقوى بذلك في دفع عذاب اللَّه ونقمته؛ لذلك قال: (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، أي: لم يغن في دفع عذاب اللَّه عنه أتباعه وحواشيه، وهو كظنّ أُولَئِكَ: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، وكان ظنهم ذلك وقولهم إنما كان بوجهين: أنهم ظنوا أن أموالهم وأتباعهم تدفع عنهم عذاب اللَّه ونقمئه كما تدفع نقمة بعضهم عن بعض فيما بينهم؛ كقول ذلك الرجل: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ). والثاني: ظنوا أنهم إنما أعطوا هذه الأموال والأتباع في هذه الدنيا لكرامة لهم عند اللَّه؛ فلا يعذبون أبدًا. وقوله: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) كانوا تمنوا أن يعطوا مثل ما أعطي قارون (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ. . . وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) قال بعض أهل الأدب: (وَيْ) صلة، وإنما هو (كَأَنَّ) و (كَأَنَّهُ). وقال مقاتل: (وَيْكَأَنَّهُ) أي: لكنه وَيْكَأَنَّ. قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ) أي: اعلموا أن اللَّه يبسط الرزق لمن يشاء،

(83)

واعلموا أنه لا يفلح الكافرون، لكن اللَّه يبسط الرزق لمن يشاء، ولكنه لا يفلح الكافرون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ألم تر أن اللَّه يبسط الرزق، وألم تر أنه لا يفلح كذا. وقال الزجاج: " وي " مقطوعة من (كأن) وهو حرف يفتتح به التندم، ثم ابتدأ بقوله: كأنه لا يفلح الكافرون. ثم في الآية دلالة نقض قول المعتزلة في وجوب الأصلح على اللَّه؛ لأنهم ذكروا مِنَّة اللَّه في منعه إياهم ما تمنوا بالأمس مما أوتي قارون، فلو كان ما أعطي قارون أصلح له في دينه لم يكن في منعه عن هَؤُلَاءِ منة؛ دل أن ما أعطى قارون لم يكن أصلح له، بل المنع أصلح له، وأن ليس على اللَّه حفظ الأصلح للعباد في الدِّين. وقوله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) في ظاهرها: أن كل من لا يريد العلو في هذه الدنيا ولا الفساد فيها يكون من أهل نعمة اللَّه، وكذلك ما ذكر من الدار الآخرة، وجهنم هي من دار الآخرة أيضًا، لكن الآية تخرج على وجهين: أحدهما: كأنها نزلت في رؤساء الكفرة وكبرائهم من الذين كانت همتهم في التكبر والتجبر على الرسل، والفساد فيها، في صرف الناس عن دين اللَّه واتباع الرسل، فقال - واللَّه أعلم -: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) - أي: الجنة - ليست لهَؤُلَاءِ، ولكن لمن تواضع للرسل، ودعا الناس إلى دين اللَّه واتباع الرسل. والثاني: تكون الآية في الذين كانوا يعملون بالخيرات والطاعات منهم في نحو صلة الأرحام والصدقة على الفقراء والإنفاق في ذلك، فأخبر أنهم وإن كانوا يعملون بتلك الأعمال فإنما يعملون للدنيا والعلو فيها لا للآخرة، فتلك الدار الآخرة ليست لهم، إنما هي للذين يعملون ويريدون بها الدار الآخرة. وقوله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ): كأنه يقول: تلك الدار التي دعوا إليها ليست لمن ذكر، وهي الدار التي قال اللَّه فيها: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)، فالدار الآخرة هي الدار التي دعوا إليها وهي الجنة؛ الدار الآخرة على الإطلاق: الجنة؛ كالكتاب المطلق كتاب اللَّه، والدِّين المطلق: دين اللَّه، ونحوه. وقوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي: تلك الدار الآخرة للمتقين. وقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ... (84) يخرج على وجوه:

(85)

أحدها: ما قال أهل التأويل على التقديم والتأخير: فله منها خير، ومعناه: أن ما يكون له في الآخرة من الخير؛ إنما يكون بتلك الحسنة التي جاء بها في الدنيا وهي التوحيد. والثاني: قوله: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) أي: ما أعطوا في الآخرة من الخير والثواب خير مما يعطون في الدنيا بصبرهم، وحبسهم أنفسهم عن شهواتها وأمانيها. والثالث: (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) أي: ثواب اللَّه وما أكرموا به خير مما عملوا في الدنيا. مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ والرابع: أن توفيقه إياهم وإرشاده خير مما عملوا. أو أن يكون ذكر اللَّه وحمده خير مما ذكر؛ كقوله: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ). وقوله: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ): قالوا جميعًا: السيئة: هي الشرك، (فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)، هو التخليد في النار أبدًا، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ): فيما يجزون بها بل ظلموا أنفسهم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) وقوله: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ): اختلف في قوله: (فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَرَضَ) أي: نزل عليك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فرض عليك العمل بالقرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فرض تبليغ ما أنزل عليك من القرآن والرسالة إلى الناس. واختلف أيضًا في قوله: (لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: إلى مكة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعاد: هو البعث والساعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعاد: الجنة، ويقال: الموت؛ وكله البعث، والمعاد هو البعث في الظاهر.

(86)

وجائِز أن تسمى مكة: معادا؛ لما يعود الناس إليها مرة بعد مرة، كما تسمى: مثابة؛ لما يثوب الناس إليها مرة بعد مرة. لكن من يقول بأن المعاد هو مكة يقول: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما أمر بالهجرة إلى المدينة فهاجر إليها اشتاق إلى بلده ومولده ومولد آبائه، فنزل جبريل عليه بهذه الآية بشارة في العود إليها ظاهرًا عليهم، قاهرًا، فاتحًا له مكة؛ هذا تأويل من يقول بأن المعاد هو مكة. وجائز أن يكون على غير هذا، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: كأنه حزن على الفراق منهم إشفاقًا على هلاكهم لإخراجهم الرسول من بين أظهرهم؛ لأن الأمم السالفة إذا خرج من بينهم الرسل نزل بهم العذاب؛ فخاف أنهم لما أخرجوا من بين أظهرهم وأبوا إجابته أن يهلكوا أو يعذبوا؛ كقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، فبشر بهذا أن ترد إليها وستعود إليهم، فيتبعونك ويؤمنون بك، وهم لا يهلكون إهلاك استئصال وتعذيب كسائر الأمم. والثاني: يذكر على الامتنان عليه؛ يقول: إن الذي أنزل عليك القرآن وألقاه عليك بعد ما لم تكن ترجو إلقاءه عليك وانزاله، ولكن برحمته ومنته ألقاه إليك وأنزله عليك حيث قال: (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)؛ فعلى ذلك يردك إلى مكة بعدما لم تكن ترجو ردك وعودك إليها. وإِن كان المعاد: هو البعث؛ فهو يخرج على وجهين: أحدهما: على البشارة؛ كأنه يقول: إن الذي فرض عليك القرآن يردك ويبعثك بمن كذبك وبمن صدقك، فينتقم من مكذبيك جزاء التكذيب، ويجزي من يصدقك جزاء التصديق. والثاني: يذكره ويخاطبه، وانما يريد به قومه، أي: سيبعثون وسيعودون إليها، فيكون كالآيات التي يخاطب بها رسوله والمراد بها: قومه؛ فهو يخرج على الوعيد لهم، ألا ترى أنه قال: (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: ربي أعلم بمن جاء بالهدى فيجزيه جزاء الهدى، ومن هو في ضلال مبين فيجزيه جزاء ضلاله. ويخرج ذكر هذا عند دعاء أُولَئِكَ الكفرة: أنهم على الحق والهدى، وأن آباءهم كانوا على الحق والهدى، وأنتم على ضلال، فيقول: (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) نحن أوأنتم؟! فهو على التحاكم إلى اللَّه أن يحكم بينهم، فيجزي كلا بما جاء به، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) فهو يخرج على

(87)

وجهين: أحدهما: وما كنت ترجو - وإن كنت مطيعًا أي: خاضعًا - أن يلقى إليك الكتاب وينزل عليك وتصير رسولا، أي: لم تكن تطمع ذلك، ولكن اللَّه بفضله ورحمته جعلك رسولا نبيًّا. والثاني: ما كنت ترجو أن تكون في قومك وقبيلتك رسالة فضلا أن ترجو وتطمع في نفسك؛ لأنهم ليسوا من بني إسرائيل ولا من أهل الكتاب، والرسالة من قبل كانت لا تكون إلا في بني إسرائيل، ولكن اللَّه جعل الرسالة في العرب، وفي نفسك برحمته وفضله، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ): هذا يخرج على وجوه: أحدها: على النهي، أي: لا تكن ظهيرا وإن كان لا يكون للعصمة التي عصمه اللَّه؛ لأن العصمة لا تمنع النهي والأمر، بل منفعة العصمة إنما تكون عند النهي والأمر. والثاني: على الأمن له والإياس أن يكون ظهيرًا لهم، كأنه يخاف لعله أن يكون ظهيرًا لهم في وقت من الأوقات، فأمنه اللَّه عن ذلك فقال: لا تخف فإنك لا تكون ظهيرًا لهم، وهو ما ذكرنا في قوله: (وَلَا تَحْزَن عَلَيهِم)، وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، على رفع الحزن والحسرة بتركهم الإيمان؛ فعلى ذلك الأول. والثالث: أن الخطاب وإن كان له في الظاهر فالمراد منه غيره، على ما ذكرنا في غير آي من القرآن: أنه خاطب به رسوله والمراد به غيره؛ وكذلك بهذا. وفي قوله: (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) في هذا ما في الأول من الوجوه التي ذكرنا؛ وكذلك: هذا في قوله: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). وقوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ... (88) قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (كُلُّ شَيْءٍ) يرجى منفعته وشفاعته من دون اللَّه باطل، إلا ما ابتغي منه وعمل له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل شيء هالك وزائل إلا هو؛ فإنه حي لا يموت دائم لا يزول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل أمر وجهة يتوجه إليها ويعمل به هالك إلا الجهة والوجه الذي أمر هو بالتوجيه إليه والعمل به، وهو قريب بالأول، واللَّه أعلم. * * *

سورة العنكبوت

سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ كلها مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الم): قد ذكرناه في غير موضع. وقوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ ... (2) قوله: (أَحَسِبَ): هو وإن كان في الظاهر استفهامًا فهو على الإيجاب لا الاستخبار؛ إذ حقيقة الاستفهام والاستخبار إنما تكون ممن يجهل الأمور فيستخبر ويستفهم ليعرف ذلك، فاللَّه سبحانه يتعالى عن أن يخفى عليه شيء، فهو على التقرير والإيجاب منه لذلك. ثم يخرج قوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ) على أحد وجهين؛ أحدهما، أي: قد حسب الناس. والثاني: أي: لا يحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا: آمنا. وقوله: (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا): ذكر الإيمان ولم يذكره بمن؟ باللَّه أو بغيره؟ وليس أحد من الخلائق إلا وهو يؤمن بأحد ويكفر بغيره، وليس في الآية بيان الإيمان به أو بمن؟ إلا أن اللَّه تعالى سخر الخلق على الفهم من الإيمان المطلق المرسل: الإيمان باللَّه وبرسله، وسخرهم حتى فهموا من الكتاب المطلق: كتاب اللَّه، والدار الآخرة: الجنة، وأمثال ذلك ما فهموا من الكتاب المطلق: كتاب اللَّه، وفهموا ما ذكرنا من الإيمان المطلق: الإيمان باللَّه وبرسله، وفهموا أيضًا من الدِّين المطلق: دين اللَّه؛ فيكون قوله: (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) باللَّه أو برسله. وقوله: (وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) أي: لا يبتلون، والفتنة: هي الابتلاء الذي فيه الشدة، يمتحن اللَّه عباده باختلاف الأحوال: مرة بالضيق والشدة، ومرة بالسعة والرخاء وأنواع العبادات؛ ليكون ذلك علما للخلق في صدق الإيمان به والكذب به والكذب فيه، فيعرفوا صدق كل مخبر عن نفسه الإيمان باللَّه تعالى وكذبه؛ إذ قد يجوز أن يكون فيما يخبر

(3)

ويقول: آمنت - كاذبًا، فجعل اللَّه تعالى للعلم في صدقهم وكذبهم أعمالا يظهر بها عنده صدقهم ما لو كان الابتلاء والامتحان بجهة لعله لا يظهر ذلك، وهو ما أخبر عن المنافقين فقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ. . .) الآية، هذا يدل أن الفتنة هي المحنة التي فيها الشدة والبلاء، وهو ما قال: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، فإنما يظهر صدق الرجل في إيمانه بما يصيبه من الشدة، فأما السعة والرخاء فهو ما يوافق طبعه وهوى نفسه، فلا يظهر صدقه بما يوافق طبعه، وإنَّمَا يظهر ذلك بما يخالف طبعه ويثقل عليه تحمل ذلك. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية في قوم أظهروا الإيمان باللسان، وأضمروا الخلاف والكذب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في قوم آمنوا باللَّه وبرسوله حقيقة، ثم عذبوا بأنواع العذاب؛ فتركوا الإيمان وكفروا به؛ وفيهم نزل: (فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)، فكيفما كان ففيه أن من أقر بالإيمان وقبله، يمتحن بأنواع المحن بموافقة الطبع ومخالفته؛ ليظهر صدقه عند الناس فيعاملونه على ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) ذكرنا فيما تقدم أنه يعلم ظاهرًا كائنا ما قد علمه غير كائن أنه يكون، وليعلمه موجودًا ما قد علمه غير موجود أنه يوجد، واللَّه أعلم. وقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) هذا أيضًا يخرج على وجهين: أحدهما: قد حسب الذين. . . ما ذكر. والثاني: لا يحسب؛ على النهي. وقوله: (أَنْ يَسْبِقُونَا): لا أحد يقدر أن يسبق اللَّه في عذابه ونقمته، لكنهم إذا رأوا الكافر والمسلم في هذه الدنيا على السواء في نعيمها وسعتها، ورأوا أيضًا عند الموت أنه لم ينزل على الكافر عذاب كالمسلم - ظنوا أن لا بعث وما ينبئهم باطلا ذلك ظن الذين كفروا حملهم ذلك على إنكار البعث؛ كقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا)، حين خلقهما إذا لم يكن بعث باطلا، وهم قد علموا أن خلقه إياهما ليس بباطل، ولكن صير خلقهما إذا لم يكن بعث باطلا، فإذا أنكروا البعث ظنوا أن لا عذاب ولا جزاء، واللَّه أعلم. وقوله: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) أضاف اللقاء إلى نفسه، وكذلك ما ذكر من المصير إليه لقوله: (وَإليهِ الْمَصِيرُ)، وقوله: (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)، وقوله: (وَبَرَزُوا لِلََّهِ جمَيعًا)، ونحوه، هذا كله لأن خلق الدنيا وخلق العالم فيها لا لها، ولكن المقصود بخلقها وخلق العالم فيها الآخرة، فإنما صار خلق هذه الأشياء فيها حكمة بالآخرة؛ إذ لو لم يكن آخرة، كان خلق ما ذكر في هذه الدنيا لعبًا باطلا؛ كقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)

(6)

صير خلقهم لا للرجوع إليه لعبًا باطلا. وقوله: (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ): بما يقولون ويظهرون، والعليم بما يضمرون ويسرون؛ لأن القصة قصة المنافقين. أو السميع المجيب العليم بحوائجهم وأمورهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ... (6) وكذلك قوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)، وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) أي: فعليها. ففي هذا: أن اللَّه إنما امتحن الخلائق لا لحاجة له فيما امتحنهم من دفع مضرة أوْ جر نفع، لكن إنما امتحنهم لحاجة أنفسهم في دفع المضار وجر المنافع؛ وكذلك إنما أنشأ الدنيا وهذا العالم فيها لا لحاجة له في إنشاء ذلك، ولكن لحوائج أنفسهم، وكذلك ما أنشأ من الخلائق سوى البشر إنما أنشأ البشر وله سخر جميع ذلك، وجعل البشر بحيث يقدر على استعمال جميع ذلك لمنافع أنفسهم وحاجتهم، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن حيث قال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)، وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، ونحو ذلك؛ فعلى ذلك امتحن هذا العالم لحاجة أنفسهم في دفع مضار وجر نفع؛ لذلك قال: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي: لحاجة نفسه ومنفعة نفسه، لا لمنفعة أو لحاجة لله تعالى. (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ): هذا تفسير ما ذكر. ثم المجاهدة تكون مرة مع الشيطان والجن، ومرة مع أعدائه من الإنس، ومرة مع هوى النفس، ومرة في أمر الدنيا، كل ذلك مجاهدة في اللَّه؛ قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ): كأن ما عملوا من الحسنات والصالحات يكفر بها سيئاتهم. وقوله: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: أن جزاءهم الذي يجزون بتلك الأعمال أحسن من أعمالهم التي عملوا؛ لأن قدر ذلك الجزاء عندهم أعظم وأحسن من قدر أما علموا، من أعمالهم؛ إذ ليس لأعمالهم

(8)

عندهم كبير قيمة وقدر؛ إذ منهم من يحيي ليله بدرهم وبما يسد به حاجتهم في يوم أو ليلة. والثاني: أن الأعمال التي يعملها المرء تكون على وجوه سيئات تكفر بالتوبة أو بما كان يعاقبون عليها، وحسنات يجزون بها الثواب الجزيل، وإباحات يعملون لحوائج أنفسهم مما لا يعاقبون عليه ولا يثابون، فيقول - واللَّه أعلم -: لنجزينهم أحسن الذي عملوا وهو الحسنات والخيرات عملوها لله. أو أن يكون قوله: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) أن نكفر سيئاتهم بنوع من الحسنات ولثابون على أحسنها، وهو ما قال: (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وقرئ أيضا: (إحسانا) قال الزجاج: قوله:، (حُسنًا) أجمع وأقرب؛ لأنه يرجع إلى حسن الشيء في نفسه، وإلى حسنه عند ذلك الإنسان؛ يقال: حسن كذا إذا كادْ في نفسه حسنا، والإحسان: هو ما يحسن عند ذلك المعمول له، أو كلام نحو هذا. قال الشيخ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لكن الإحسان هو اسم ما حسن أيضًا في تفسه، يقال: أحسن، فإذا أحسن، فقد حسن، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ): إن كان هذا الخطاب لأهل الإيمان فيكون تأويل الآية: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي: بأن له لئمريكًا، أي: تعلم بأن ليس له شريك فلا تشرك به؛ وهو كقوله: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)، أي: يعلم بخلاف ما يقولون؛ فعلى ذلك قوله يحتمل (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) بأن له شريكا، أي: لك العلم بخلافه: بأن ليس له شريك. وإن كان الخطاب لأهل الكفر يقولون على اللَّه ما ليس لهم به علم. وقوله: (فَلَا تُطِعْهُمَا): أمر بالبرّ للوالدين والإحسان إليهما والطاعة لهما ما لم يكن في طاعتهما معصية الربّ؛ ليعلم أن لشى يجب طاعتهما في كل شيء وفي كل ما كان عندهما إحسانا، ولكن فيما كان في ذلك طاعة الخالق. وقوله: (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): وعيد لتكونوا أبدًا على حذر في أعمالكم لا تعملون بما فيه معصية الرب. وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) كأنه قال: والذين آمنوا

(10)

وعملوا الصالحات ولهم سيئات، لنكفرن عنهم تلك السيئات بأعمالهم الصالحات، ثم لندخلنهم في الصالحين الذين لا سيئة لهم وهم الأنبياء، إذ أكثر ما ذكر في الكتاب الصالحين إنما أريد بهم الأنبياء - صلوات اللَّه عليهم - وهو ما ذكرنا - واللَّه أعلم - على تكفير السيئات عنهم على ما ذكر فيما تقدم، وهو ما قال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ). أو أن يكون قوله: (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي: لنجعلنهم من الصالحين. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله: (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) وهم قد عملوا الصالحات؟ قيل: معناه ما ذكرنا بدءًا: أنهم قد عملوا الصالحات إلا أن لهم سيئات يكفرها بالصالحات، ثم ليجعلنهم في الصالحين الذين لا سيئة لهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ): قال بعض أهل التأويل: ناس مؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم وأموالهم افتتنوا، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب اللَّه في الآخرة. ثم قال: (وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ): وذلك عَلَمُ المنافق. ومنهم من يقول: نزلت الآية فيمن حقق الإيمان سرًّا وعلانية، إلا أنه عذب لأجل إيمانه باللَّه وبرسوله؛ فترك الإيمان وكفر؛ فعلى تأويل هذا يحتمل قوله: (وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ. . .) إلى آخر ما ذكر على القطع من الأول والابتداء منه من صنيع المنافقين وخبرهم، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) أي: جعل فتنة الناس وتعذيبهم إياه في إعطاء ما سألوه - وهو الكفر - كعذاب اللَّه في إعطاء ما سأل من أهل الكفر وهو الإيمان؛ لأن أهل الكفر إذا نزل بهم عذاب اللَّه أو اشتد بهم خوف نزوله عليهم أعطوا الله ما سألهم من الإيمان والتوحيد، وهو ما قال: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ

(11)

الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ). ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن جعل فتنة الناس في ترك الإيمان كعذاب اللَّه في ذلك، أي: جعل العذاب الذي من الناس كأنه من اللَّه جاء فترك الإيمان. وقوله: (أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ): فإن كانت الآية فيمن حقق الإيمان باللَّه سرا وعلانية، فيخرج هذا على التعيير له في ترك الإيمان بما عذب به؛ لأنه كان يقدر أن يظهر الكفر لهم باللسان؛ فيدفع العذاب عن نفسه، ويكون في الحقيقة في السر مؤمنًا على ما ذكر: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ). وإن كانت الآية في المنافقين، فيقول: كيف أسررتم الكفر والخلاف له في القلب، وأنتم تعلمون أن اللَّه عالم بما في صدور العالمين؟! فيخبر رسوله بما أضمروا وأسروا من الخلاف، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) قد ذكرنا تأويل هذا: أن يعلم كائنًا ما قد علم أنه سيكون، ويعلم موجودًا ظاهرًا ما قد علم أنه يوجد ويظهر. وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) كأنهم قالوا ذلك لهم بعدما عجزوا عن الطعن في الحجج والآيات ما يوجب شبهة فيما عند الناس، وبعدما انقطعوا عن اللجاج فيها والاحتجاج عليها، فلما عجزوا عن ذلك كله فعند ذلك اشتغلوا بما ذكر وقالوا للمؤمنين ما ذكر. (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا) أي: ديننا، (وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ) يقولون - واللَّه أعلم -: اتبعوا سبيلنا فإنه صواب، فإن أصابكم خطأ أو أخطاتم في الاتباع له فإنا نحمل خطاياكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا، وإن كان عليكم شيء فهو علينا؛ وهو قريب من الأول. أو أن يقولوا لهم: اتبعوا سبيلنا؛ فإن اللَّه أمرنا به، فإن أخطاتم في ذلك فإنا نحمل خطاياكم أو نحوه، فهذا القول منهم متناقض؛ لأنهم ذكروا أنهم كانوا يخطئون في الاتباع لهم دينهم، إلا أن يريدوا بذلك ما ذكرنا. والثاني: إنما كانوا يضمنون ويحملون خطاياهم لا بإذن من له الطلب في الخطايا، ولكن بإذن من عليه ذلك، وذلك لا يصلح الضمان بإذن من عليه. ثم أخبر أنهم لا يحملون ذلك حيث قال: (وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). يحتمل قوله: (إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) فيما يذكرون من حمل خطاياهم، أي: لا يقدرون على

(13)

حملها. أو كاذبون في الدعاء إلى اتباع سبيلهم. أو كاذبون أن اللَّه أمرهم بذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ (13) يحملون أوزارهم بضلال أنفسهم، وأثقالا بإضلال غيرهم ودعائهم إليه، كقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، وذكر في خبر أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما من داع دعا إلى هدى فاتبع عليه إلا كان له مثل أجور من اتبعه، ولا ينقص من أجورهم شيء ". وقوله: (وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: افتراؤهم: اتخاذهم الأصنام آلهة؛ إذ يكون الافتراء في الفعل والقول جميعًا. وجائز أن يكون افتراؤهم ما ذكروا من حمل خطئهم أو ما قالوا: إن اللَّه أمرهم بذلك، أو تسميتهم الأصنام التي عبدوها آلهة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا): يذكر هذا النبأ لوجهين: أحدهما: يصبر رسوله على أذى قومه؛ لأنه ذكر أن نوحًا لبث في قومه ألف عام غير خمسين عاما، كان يدعوهم إلى توحيد اللَّه، فلم يجبه إلا نفر من أهله؛ فلم يمنعه من الدعاء إلى دين اللَّه ما أوعدوه من المواعيد حيث قالوا: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)، ونحو ذلك من المواعيد، فذلك لم يمنعه عن الدعاء؛ ولذلك قال: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).

(15)

والثاني: ينقض على المتقشفة مذهبهم؛ لأنهم يقولون: إن الموعظة إنما لا تنجع في الموعوظين لتفريط الواعظ وترك استعمال نفسه ذلك، فيقال: إن نوحًا قد دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، فلم يجبه إلا نفر؛ فلا يحتمل أن يكون منه تقصير أو تفريط؛ فدل أنها لا تنجع ربما لشقاوة الموعوظ. وقوله: (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هو المطر الشديد. وجائز أن يكون الطوفان كل بلاء فيه الهلاك. والطوفان هو ما أرسل عليهم من الماء فأغرقهم، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ ... (15) أي: نوحًا، (وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ) أي: من دخل السفينة، (وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) وقَالَ بَعْضُهُمْ: جعلها آية: هو أن هلكت كل سفينة كانت، وهي ياقية اليوم على ما هي عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَجَعَلْنَاهَا آيَةً) لمن بعدهم، فتمنعهم عن تكذيب الرسل والعناد معهم. قال الزجاج: الاستثناء يخرج على تأكيد ما تقدم من الكلام؛ كذكر الكل على أثر ما تقدم من الكلام، أو كلام نحوه. وقلنا نحن. إن كان ما تقدم من الذكر كافيًا تاما، فيخرج الثنيا على أثره مخرج التأكيد لما تقدم؛ نحو قوله: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ)، قوله: (إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) كافٍ تام مفهوم ألا يدخل فيه آل لوط حيث ذكر المجرم؛ إذ آله غير مجرمين، فهو كاف مفهوم لا يحتاج إلى ذكر آل لوط، لكنه ذكر على التأكيد له. وكذلك قوله: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) و (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ)؛ إذا قال: محصنين: يفهم أنهن غير مسافحات ولا متخذات أخدان، لكنه ذكر على التأكيد. وإذا كان ما تقدم من الكلام محتملا مرسلا، فيخرج ذكر الثنيا مخرج تحصيل المراد منه على إضمار حرف " مِن " فيه؛ كقوله: (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) كأنه قال: فلبث فيهم من ألف سنة تسعمائة وخمسين؛ وكذلك قول الناس لفلان: عليَّ عشرة دراهم إلا كذا، كأنه قال: لفلان علي من عشرة دراهم كذا، فهو على التحصيل يخرج ذكره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطوفان كل ماء طافٍ فاشٍ من سبيل أو غيره؛ وكذلك أن موت الجارف يسمى الطوفان وماء الطوفان، وهو ما ذكر في سورة الأعراف.

(16)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الغرق، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) هو نسق على قوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)، وأرسلنا إبراهيم أيضًا إلى قومه. أو أن يكون نسقًا على قوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ)، وأنجينا إبراهيم أيضًا حين ألقي في النار. أو يقال: اذكر إبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا اللَّه. وقوله: (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ): يحتمل في حق الاعتقاد، أي: وحدوا اللَّه. وقوله: (وَاتَّقُوهُ): الشرك. ويحتمل قوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ) في حق المعاملة، أي: إليه اصرفوا العبادة، (وَاتَّقُوهُ) أي: اتقوا عبادة من تعبدون من الأوثان؛ يكون قوله: اتقوا في موضع النهي، أي: اعبدوا اللَّه ووحدوه ولا تعبدوا غيره؛ يكون فيه نهي عن مخالفة ما تقدم من الأمر: افعلوا كذا، واتقوا ما يضاده ويخالفه، واللَّه أعلم. وقوله: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي: عبادة اللَّه خير لكم. وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يحتمل قوله: (إِن) إذا كنتم تعلمون: أن ذلك خير لكم، وجائز ذكر (إن) مكان (إذ) في اللغة. أو يكون صلة قوله: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وقوله: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) أي: تخلقون كذبا في تسميتكم الأوثان آلهة معبودين، أي: ليسوا بآلهة ولا معبودين. أو يقال: (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا)، أي: كذبًا في صرف عبادتكم إليها واستحقاق العبادة، أي: لا يستحقون العبادة، إنما المستحق للعبادة دون من تعبدون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: جعلتم كذبًا من الآلهة لا حقًّا؛ وهو قريب مما ذكرنا. ثم بئيئ سفههم في صرف العبادة إلى الأصنام وعجزها عمن يعبدها حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا): يقول - واللَّه أعلم -: إن في الشاهد لا يخدم أحد أحدًا إلا لما يأمل من النفع له بالخدمة، أو لسابقة إحسان كان منه إليه، فالأصنام التي تعبدونها لا يملكون أن يرزقوكم ولا ينفعوكم، ولا كان منها إليكم سابقة صنع، فكيف تعبدونها؟!

(18)

وقوله: (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) أي: اعبدوا اللَّه الذي يرزقكم وينفعكم ويملك ذلك لكم، واتركوا عبادة من لا يملك ذلك. (وَاعْبُدُوهُ): يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما فيما تقدم: التوحيد، والعبادة. وقوله: (وَاشْكُرُوا لَهُ) أي: اشكروا له فيما أنعم عليكم. (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). وقوله: (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: وإن يكذبوك فيما تخبر من نبأ إبراهيم، فقد كذب أمم من قبلك رسلهم فيما أخبروا عن إبراهيم بعد انتساب كل فريق منهم إليه، وادعائه نحلته ومذهبه. والثاني: وإن يكذبوك فيما تبلغ إليهم من الرسالة، فقد كذب أمم من قبلك رسلهم في تبليغ الرسالة، وما على الرسول إلا البلاع المبين، يبين لهم أنها رسالة ربهم بالحجج والبراهين والآيات، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ): إنهم قد رأوا أن كيف أنشأ اللَّه الخلق في الابتداء، وإن عجزوا عن الأسباب التي خلقهم، ولا احتمل وسعهم ذلك، فعلى ذلك يعيدهم على ما أبدأهم، وإن عجز وسعهم عن احتمال ذلك وإدراكه؛ إذ الأعجوبة في الإعادة ليست بأكثر من الأعجوبة في البداية، بل الأعجوبة في ابتداء الإنشاء أكثر من الإعادة؛ لما الإعادة عندكم أيسر وأهون من الابتداء، فمن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر. (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ): الابتداء والإعادة جميعًا لا يعجزه شيء؛ إذ هو قادر بذاته. وقوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) كان الأمر بالسير في الأرض والنظر ليس هو سيرًا بالأقدام فيها، ولكن أمر بإرسال الفكر فيها من الخلائق، والنظر في بدء ما فيها من الخلق متقنًا محكمًا بالتدبير والعلم والحكمة بلا أسباب؛ ليعلموا أن المدير في ابتداء الإنشاء والإعادة بالخارج عن احتمال وسعهم وقوامهم - خطأ، وأنه الذي قدر على إنشاء الخلق وابتدائه بلا سبب ولا شيء، وإن لم يحتمل وسعهم وبنيتهم وقواهم

(21)

ذلك؛ فعلى ذلك الإعادة والنشأة الأخرى، وإن كانت خارجة عن احتمال وسعهم وقواهم - قادر عليها. أو أن يقال: انظروا واعتبروا أن بدء الخلق والنشأة من الحكم العالم الذاتي بلا إعادة ورجوع ليس بحكمة في العقل والحكمة جميعًا؛ لأن في الحكمة والعقل: التفريق بين الولي والعدو، وبين الشاكر والكافر، وبين المطيع والعاصي؛ إذ قد سوى بينهم في الدنيا وأشركهم فيها، حتى جعل للكافر ما للشاكر، وكذلك الولي والعدو والمطيع والعاصي؛ فلا بد من الإعادة في دار يفرق بينهم ليخرج بدء إنشائهم وخلقه الخلق على الحكمة والتدبير والعلم لا على السفه والعبث، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): في النشأة الأولى والآخرة جميعًا لا يعجزه شيء؛ إذ هو قادر بذاته. وقوله: (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) يحتمل هذا في الدنيا: يعذب من يشاء في الدنيا، أي: يمتحنه ويبتليه بالشدة والضيق، ويرحم من يشاء، أي: يمتحنه بالسعة والرخاء؛ فيكون التعذيب كناية عن الشدة والضيق، والرحمة: كناية عن السعة والرخاء؛ وهو كقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)؛ فعلى ذلك قوله: (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي: ترجعون. ويحتمل التعذيب في الآخرة والرحمة فيها، أي: يعذب من يشاء في الآخرة من كان في الدنيا أهلا له مستوجبًا، ويرحم من يشاء من كان في الدنيا أهلا لها مطيعًا لها. وقوله: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) أي: ما أنتم بمعجزين اللَّه في السماء، وعلى قول المعتزلة: يكونون معجزين اللَّه في الأرض على ظاهر مذهبهم؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه قد أراد إبقاء الأخيار وأهل الصلاح، ثم يجيء كافر فيقتلهم قبل أجلهم الذي أراد اللَّه إبقاءهم إلى وقت. وكذلك يقولون: أراد اللَّه أن يرزفهم الحلال، وأراد أن يكون أولادهم من رشد ونكاح، لكنهم يطلبون الرزق من حرام ويزنون، فيخلق أولادهم من زنى شاء أو أبي، لا يقدر التخلص عما يريدون هم، فأي إعجاز يكون أشد من هذا، فنعوذ باللَّه من السرف في القول. وقوله: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) هم يعلمون - أعني: الكفرة - أنهم لا يعجزون اللَّه ولا يقدرون على إعجازه، لكنه يذكر؛ لأنهم كانوا يعملون عمل من هو معجز فائت عن عذاب اللَّه ونقمته؛ وهو كقوله: (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ)

(23)

هم يعلمون أنهم لا يقدرون أن يسعوا في آياته معاجزين، لكنهم يسعون في دفع آياته والإنكار لها سعي معاجز لها لا سعي خاضع قابل؛ فعلى ذلك الأول. وقوله: (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) أي: ما لكم من دون اللَّه مما طمعتم من النصر لكم والشفاعة وليس لكم ذلك؛ لأنهم عبدوا تلك الأصنام لما طمعوا شفاعتها عند اللَّه لهم والزلفى حيث قال: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا). وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، ومَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ونحوه فيقول: ما لكم مما طمعتم بعبادتكم تلك الأصنام من ولي ولا نصير. وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) وقوله: (كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ): يحتمل آيات اللَّه: الآيات التي جاءت بها الرسل في إثبات الرسالة لهم، ويحتمل آياته: الآيات التي جعلها لوحدانيته وألوهيته ولقائه، أي: كفروا بالبعث، وقد ذكرنا فيما سقدم وجه تسمية البعث: لقاءه. وقال الحسن: آيات اللَّه: دين اللَّه، وكذلك يقول: كل آية في القرآن: الدِّين. وقوله: (أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي): قال بعض أهل التأويل: (مِنْ رَحْمَتِي) أي: من جنتي وتأويل هذا؛ لأنهم قد كفروا بالبعث، فإذا كفروا به زعموا أن لا ثواب ولا جزاء. وجائز أن يكون قوله: (مِنْ رَحْمَتِي) أي: من رسلي وكتبي؛ لأن اللَّه سمى رسله وكتبه: رحمة في غير آي من القرآن، أيسوا منهم، حيث كذبوهم وكفروا بهم، أيسوا أن يرسل الرسل أو ينزل الكتب. ويحتمل قوله: (أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أُولَئِكَ عليهم الإياس من رحمتي لما كفروا بآياته ورسله، (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). * * * قوله تعالى: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وقوله: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ). قوله: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) إلا كذا: ليس في جميع الأوقات وجميع المشاهد، ولكن جائز أن يكون هذا: ما كان جواب قومه في مشهد إلا كذا.

(25)

أو أن يكون: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: اقتلوه أو حرقوه. وإلا لم يحتمل ألا يكون منهم إلا ما ذكر من الجواب قد كان جوابات وأجوبة سواء. لكن يحتمل ما ذكرنا: أن ما كان جواب قومه في مشهد إلا أن قالوا: اقتلوه أو حرقوه. أو ما كان آخر جواب قومه إلا قالوا: اقتلوه أو حرقوه، وهو ما ذكرنا في قوله: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ)، لا يحتمل أنه لم يكن منهم إلا هذا ولكن ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ): حين ألقوه فيها، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ): ذكر الآيات في ذلك، فجائز أن يكون ما ذكر في هذه السورة من أولها إلى آخرها - لآيات لمن ذكر. وجائز أن يكون فيما ذكر هنا خاصة، لكن ليس من شيء إلا وفيه آيات من وجوه: آية الوحدانية، وآية الألوهية، وآية علمه وحكمته وتدبيره وبعثه؛ فهو آيات. وقوله: (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ذكر الآيات للمؤمنين يحتمل وجهين: أحدهما: ذكر الآيات لهم؛ لأنهم هم المنتفعون بها دون من كفر. والثاني: الآيات لهم على المكذبين بها والكافرين، أي: حجة لهم عليهم؛ كقوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)، واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا) كذا هو صلة قصة إبراهيم وإليه يرجع، وهو ما تقدم من دعائه إياهم حيث قال: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ. . .) الآية. وقوله: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) يقول - واللَّه أعلم -: ما اتخذتم من دون اللَّه معبودات سميتموها: آلهة، فهي ليست بآلهة ولا معبود، إنما هي أوثان (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، يقول - واللَّه أعلم: هذه الأصنام معبودات واجتماعكم عليها إنما هي مودة حياة الدنيا، لا مودة لها عاقبة أو تدوم، بل تصير في العاقبة عداوة وبغضًا، وهو ما ذكر. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، قال بعضهم: يتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا؛ كقوله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: يتبرأ المتبوع من الأتباع؛ كقوله: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ)، وقوله: (سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)، ونحوه. ثم أخبر: أن مأوى الكل النار، وما لهم من ناصر ينصرهم من عذاب اللَّه، أو يدفع

(26)

عنهم العذاب. ثم اختلف في قوله: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا قول إبراهيم لقومه؛ كقوله: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ)؛ وكقوله: (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا قول الرسول لقومه الذين عبدوا الأصنام، واللَّه أعلم. وقوله: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) قوله: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) يحتمل وجهين: أحدهما: قوله: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي: أظهر له لوط الإيمان من بين غيرهم، وقد كان لوط مؤمنا من قبل ليس أنه أحدث له الإيمان في ذلك الوقت، ولم يكن مؤمنًا قبل ذلك، ولكن ما ذكرنا أنه أظهر له الإيمان من بين غيرهم. والثاني: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) فيما دعاه إليه وهو الهجرة، أي: فيما أخبر أنه أمر بالهجرة فاستصحبه فيها. وقوله: (مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي): قال أهل التأويل: هذا قول إبراهيم كقوله: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي). وجائز أن يكون قوله: (إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي) قول لوط. ثم لم يفهم من قوله: (إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي)، وقوله: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي)، انتقاله أو المكان أو شيء مما يوجب التشبيه مما يفهم من الخلق، فكيف يفهم من قوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ)، وقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، و (اسْتَوَى)، وأمثاله - ما يفهم من مجيء الخلق وإتيانهم واستوائهم؛ إذ لا فرق بين مجيء آخر إليه وبين مجيئه إلى آخر؛ هذا في الشاهد سواء، فكيف فهم في الغائب في أحدهما ما لم يفهم من الآخر، وهما سيان في الشاهد؟! فدل أنه لا يجوز أن يفهم منه شيء من ذلك ما يفهم من الخلق؛ إذ أخبر أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وقوله: (وَوَهَبْنَا لَهُ ... (27) يعني: لإبراهيم، (إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ): ذكر أنه وهب له إسحاق ويعقوب؛ ليعلم أن الولد هبة اللَّه، وكذلك ولد الولد؛ لأن يعقوب كان ولد ولده، حيث قال: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)، فكلهم هبة اللَّه إياه، قال:

(يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ). وقوله: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ): لم تزل النبوة في ذرية إبراهيم من لدنه إلى هذا الوقت، كان جميع أنبياء بني إسرائيل من ولد إسحاق، ونبينا مُحَمَّد - صلوات الله عليه - كان من ولد إسماعيل، عليه السلام. وقوله: (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا): اختلف في الأجر الذي أخبر أنه آتاه إبراهيم في الدنيا: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما وهب له من الولد في الكبر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما سخر له الألسن بأجمعها على الثناء الحسن عليه؛ حيث نسب جميع أهل الأديان على اختلاف أديانهم ومذاهبهم أنهم على دينه وسنته وسيرته وتولى كل به. وجائز أن يكون قوله: (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا): ما أخبر أنه آتى جميع المؤمنين وأعطاهم، وهو ما قال: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ)، وما ذكر من ثواب الدنيا، فما من مؤمن إلا وقد آتاه اللَّه في الدنيا أجرا وثوابا، فذلك الذي أتى إبراهيم. أو لا نفسر ما ذلك الأجر الذي ذكر أنه آتاه اللَّه؟ واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ): هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أنه لو لم يكرمه اللَّه بالنبوة والرسالة لكان هو أيضًا في الآخرة من الصالحين. والثاني: ذكر الصلاح له لحقيقة صلاحه، أي: يكون هو ممن حقق الصلاح؛ وكذلك ما ذكر في موسى وهارون حيث قال: (إِنَّهُمَا مَن عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)، أي: من عبادنا الذين حققوا الإيمان، وغيرهم من المؤمنين لم يحققوا. أو أن يكون ما ذكرنا، أي: لو لم يكن الإكرام الذي أكرمه اللَّه - وهو النبوة - لكان من المؤمنين أيضًا، وإلا ليس في ذكر الإيمان والصلاح لهم كبير منقبة وفضيلة عند الناس؛ إذ يسمى بهذين كل مؤمن ومصلح، واللَّه أعلم. وعن ابن عياس في قوله: (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا) قال: عمله ما جزي في الآخرة. وقتادة يقول: آتاه اللَّه عاقبة وعملا صالحًا وثناء حسنًا، وقال: فلست تلقى أحدًا

(28)

من أهل الملل إلا يرضى بإبراهيم، واللَّه أعلم بذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما ذكرنا: أنه أعطى الولد الطيب في كبر سنه. * * * قوله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وقوله: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ): كأنه يقول - واللَّه أعلم -: اذكر لوطًا إذ قال لقومه. ثم ذكره إياه يخرج على وجهين: أحدهما: أن اذكر نبأ لوط وخبره؛ ليكون لك آية على رسالتك ونبوتك؛ إذ يعلمون أنك لم تشاهده ولا شهدت زمنه، فأخبرت على ما في كتبهم ليعرفوا أنك إنما عرفت ذلك باللَّه. والثاني: اذكره: أن كيف صبر على أذى قومه، وكيف عامل قومه مع سوء صنيعهم من ارتكاب الفواحش والمناكير وسوء معاملتهم إياه، فاصبر أنت على أذى قومك وسوء معاملتهم إياك. هذا - واللَّه أعلم - يشبه أن يكون معنى ذكر لوط إياه، وعلى هذا يخرج قوله: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ)، أي: أذكر إبراهيم ونبأه: أن كيف عامل قومه؛ وماذا قال لهم؛ وكيف صبر على أذاهم؛ فتعامل أنت قومك مثله، واصبر على أذاهم كما صبر أُولَئِكَ، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ): قال لهم: (مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ)، ثم لم يتهيأ لهم أن يعارضوا لقوله: (مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ)، بل قد كان سبقنا بذلك أحد، فكان في ذلك وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك آية لرسالته، وأنه إنما علم باللَّه: أنه لم يسبقهم بها أحد كما

(29)

ذكر. والثاني: أنهم يعبدون الأصنام ويرتكبون فواحش، ويقولونا (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)، وإن اللَّه أمرهم بذلك، ليعلم أنهم كذبة في قولهم: إن آباءهم على ذلك، حيث أخبر أنهم لم يسبقهم بها من أحد، ولو كان آباؤهم على ذلك لذكروه وعارضوه، فإذا لم يفعلوا ولم يشتغلوا بشيء من ذلك، علم أنهم كذبة فيما يقولون، والله أعلم. وقوله: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ ... (29) هو ما ذكرنا: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ). وقوله: (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تعترضون الطريق لمن مر بكم لعملكم الخبيث؛ لأنه ذكر أنهم إنما كانوا يعملون ذلك بالغرباء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي: تقطعون السبيل على الناس؛ من قطع الطريق. (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي: وثعملون في مجلسكم المنكر. اختلف في هذا: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تعملون في مجلسكم اللواطة أيضًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حذف بالحصى ورمي بالبندق وأمثاله. لكنه يخبر عن سوء صنيعهم في كل حال وكل وقت، يقول: إنكم تعملون بالفواحش والمناكير في كل حال: في الطريق، وفي المجلس، وفي المنزل، ما سبقكم بذلك كله من أحد من العالمين، واللَّه أعلم. ثم قال: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ)، وقال في موضع آخر: (إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ)، وقال في موضع آخر:

(30)

(لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، هذه الآيات في الظاهر بعضها مخالف لبعض؛ لأنه يقول في بعضها: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ)، وفي بعضها: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ)، وفي بعضها: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) - فهو يخرج على وجوه: أحدها: أن يكون قوله: (إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ)، و (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ)، إنما ذلك فيما بينهم يقول بعضهم لبعض: أخرجوهم، وقوله: (ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ) إنما قالوا ذلك للوط، فإذا كان كذلك فليس في الظاهر فيه خلاف. والثاني: فما كان جواب قومه في مشهد وفي وقت إلا كذا، وقد كان منهم له أجوبة أخر سواها في غير ذلك المشهد وفي غير ذلك الوقت. أو أن يكون قوله: فما كان آخر جواب قومه إلا أن قالوا: (ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) بنزول العذاب علينا، إنما قالوا ذلك له استهزاء وتكذيبًا. ثم دعا لوط ربه فقال: (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) فأجيب. وقوله: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) يحتمل البشرى: بشارة بالولد في كبر سنه وسن زوجته ما لم يطمع من أمثالهما الولد إذا بلغوا ذلك الوقت، وهو ما ذكر: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ). ويحتمل غيره. (قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ). وقال في آية أخرى: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)، ولم يذكروا فيه بم أرسلوا؟ وبين في هذا، ثم قال إبراهيم: (إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ... (32) ففي الآية الدليل من وجهين: أحدهما: يخرج الخطاب على العموم والمراد منه الخصوص؛ لأن الملائكة قالوا عامًّا: (إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ)، ولم يكن الأمر بإهلاك كل أهل القرية، ثم استثنوا لوطًا وأهله بعدما قال إبراهيم: (إِنَّ فِيهَا لُوطًا) حيث قالوا: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ). والثاني: فيه جواز تأخير البيان حيث لم يبينوا إلا بعد سؤال إبراهيم إياهم. وفيه وجه آخر في امتحان الملائكة بمختلف الأشياء؛ لأن هَؤُلَاءِ أمروا بالبشارة، وأمروا بإهلاك قوم لوط؛ ليعلم أنهم يمتحنون بمختلف الأشياء، واللَّه أعلم. وقوله: (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ): روي عن أم هانئ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في قوله: (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قال: " كانوا يحذفون أهل الأرض ويسخرون

(33)

منهم "، فإن ثبت هذا كان تفسيرًا له لا يحتاج إلى غيره. والنادي: قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المجلس، وأندية جماعة؛ وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ. قال أبو معاذ: الندي والنادي لغتان، فجمع النادي: أندية، وجمع الندي: نُدى وندي؛ كقراءة بعض الناس في سورة مريم: (وَأَحْسَنُ نُديا)، أي: مجالس، وقراءة العامة: (نَدِيًّا) مجلسا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ ... (33) ظاهر هذا أنه سيء بالواقع من الفعل بهم، لكن ساء ظنه أنهم يفعلون بهم لما يعلم من قومه الخبيث من العمل. (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) هذه كلمة تتكلم بها العرب عند انقطاع جميع الحيل، فلوط إنما قال ذلك لما لم ير لنفسه حيلة يدفع بها شرهم، وما قصدوا بهم؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ). (وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) هذا يدل على أنهم قد قصدوا هم لوطًا بالهلاك؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ)، دل هذا أنهم قد قصدوه بالهلاك حتى قالوا: (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) أنهم إنما أرادوا بالإخراج بقولهم؛ (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، إخراج قتل؛ إذ لو كان إخراجًا من القرية لا بقتل، لكان لا يكون له النجاة منهم والأمن، واللَّه أعلم. وقوله: (إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) وفي بعض الآيات: (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ)، والغبور فعلها، ثم أخبر أنه فدر ذلك؛ دل أن أفعال العباد مخلوقة لله مقدرة له، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) أي: عذابًا، والرجز: اسم كل عذاب فيه شدة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (هَذَا يَومٌ عَصِيب)، أي: شديد. ثم ذكر أنه ينزل من السماء، فإن ثبت ما ذكر أن جبريل أدخل إحدى جناحيه تحت الأرض فرفع بها قريات لوط إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياحهم وضجتهم، ثم أرسلها - فهو نزول العذاب من السماء، وأن قوله: (حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)، أن السجيل لو كان مكانًا منه ينزل فهو في السماء؛ على ما يقول بعض الناس إنه مكان.

(35)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو اسم ذلك الحجر، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) آية بينة لمن عقل وعرف السبب الذي أهلك قريات لوط؛ كقوله: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138). لماذا أهلكوا؟ أي: تعقلون هذه الأنباء والقصص التي ذكرها اللَّه - تعالى - في القرآن الكريم، وكررها، وأعادها مرة بعد مرة؛ لأن الأنباء والقصص إنما تذكر للحجاج على الكفرة، فتكرر وتعاد؛ ليحتج بها عليهم، وأمّا الأحكام فإنما هي لأهل الإسلام خاصة، فهم يطلبون ما عليهم من الأحكام؛ فلا تقع الحاجة إلى التكرار والإعادة. ثم الكفرة كانوا على أصناف ثلاثة، منها: أهل العناد والمكابرة، وأهل شك وحيرة، وأهل استرشاد. ومن كان همته الاسترشاد يؤمن بها بالبداهة، وفي أول ما وقع في مسامعهم؛ فلا تقع الحاجة إلى التكرار والإعادة. وأمَّا أهل العناد والمكابرة فإنها تكرر عليهم لعلها تنجع فيهم فيؤمنوا بها، وهذه الآيات كانت آيات وحججًا للتوحيد، والبعث، والرسالة، وعلى ذلك جاءت الرسل بالدعاء إلى التوحيد، وإلى الإقرار بالبعث والإيمان به، وإلى الإيمان بالرسل؛ فشعيب - عليه السلام - جمع هذه الخصال الثلاث في قوله: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، دعاهم إلى التوحيد بقوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ) وفيه نهي عن عبادة من دونه، ودعاهم إلى الإيمان بالبعث بقوله: (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) أي: خافوا عذاب ذلك اليوم، ونهى عن جميع المعاصي بقوله: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) قد ذكرنا هذا. * * * قوله تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا

(36)

وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) وقوله: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا (36) أي: أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبًا، ومدين: قال بعضهم: اسم رجل نسبوا إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اسم موضع، وقد ذكرناه فيما تقدم. وقوله: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ ... (38) أن الرسل - صلوات الله عليهم - قد خوفوا الكفرة بعذاب ينزل بهم في الآخرة بتكذيبهم إياهم وعنادهم، فلم يمجع ذلك فيهم، ولم يرتدعوا عما هم فيه، حتى أوعدوهم بعذاب ينزل بهم في الدنيا، فلم ينجع ذلك ولم يمتنعوا عن ذلك، حتى أوعدوهم بنزول ما قد شاهدوا وعاينوا من آثار من قد أهلكهم بتكذيبهم الرسل وردهم إجابتهم، وهو ما قال: (وَعَادًا وَثَمُودَ) أي: أهلكنا عاذا وثمود (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ) أي: قد تبين لكم من مساكنهم ما تعرفون أنهم إنما أهلكوا بالذي أنتم عليه، وهو التكذيب، والرد بأخبار تصدّقونها، وبآثار تشاهدونها، وهو كما قال: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). واللَّه أعلم. وقوله: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي: زين لهم الشيطان أعمالهم كما زين لكم، وصدهم عن السبيل كما صدكم. (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: وكانوا يحسبون أنهم على هدى وحق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي: كانوا عالمين بأن العذاب ينزل بهم بما شاهدوا وعاينوا من آثار من تقدمهم، وعلمهم بأنهم إنما أهلكوا بالذي هم عليه، لكنهم عاندوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي: هالكين في الضلالة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي: كانوا بصراء علماء في أنفسهم، يعرفون الحق من الباطل، ليس كغيرهم من الأمم؛ ألا ترى أنهم قد طلبوا من رسلهم الحجة، والآية على ما يدعون إليه حيث قالوا: (يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) وقال قوم صالح: (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ونحوه. وقال قتادة: (مُسْتَبْصِرِينَ) أي: معجبين بضلالتهم. وقوله: (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) أي: أهلكنا قارون وفرعون وهامان بتكذيبهم

(40)

موسى، فتهلكون أنتم يا أهل مكة بتكذيبكم محمدًا. وقوله: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ) أي: كذبوا بعدما جاءهم موسى بالبينات على نبوته ورسالته كما جاءكم مُحَمَّد. وقوله: (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) جائز أن يكونوا استكبروا، وأبوا أن يخضعوا لموسى. أو (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) أي: سعوا في الأرض بالفساد تكبرًا واستكبارًا (وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ) أي: فائتين من عذاب اللَّه. وقوله: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) أي: الحجارة، وهم قوم لوط، وقوم هود أهلكوا بالريح العاصف؛ حيث قال: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ. مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ). قال أبو معاذ: الحاصب عند العرب: الريح التي فيها الزنانير، وهي صغار من الحصى (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم قوم صالح وقوم شعيب وهَؤُلَاءِ (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ) قارون وأصحابه (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا) قوم نوح وفرعون. يذكر إهلاك هذه الأمم والجبابرة لأهل مكة ولغيرهم من الكفرة، وقد تواترت عليهم بذلك الأخبار، وظهرت الأعلام والآثار ليرتدعوا عما هم عليه، ولئلا يعاملوا رسولهم كما عامل أُولَئِكَ رسلهم فيعذبون كما عذب أُولَئِكَ. وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) في تعذيبه إياهم (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث كذبوا الرسل، وكابروا آيات اللَّه وحججه وبراهينه وعاندوها، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (سِيءَ) أي: اغتم من ذلك؛ يقال: سئت بفلان أساء سوءًا؛ فأنا مسوء. وقوله: (جَاثِمِينَ) أي: لزقوا بالأرض. (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي: قد علموا، والمستبصر: العالم. وقوله: (أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) أي: صيح بهم فماتوا. * * * قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ

(42)

الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) والعنكبوت: هذه التي تغزل، وهي دويبة كثيرة القوائم، وعناكب: جمع. وقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) يشبه أن يكون ضرب مثل الذين اتخذوا من دون اللَّه أولياء ببيت العنكبوت هم الرؤساء منهم والمتبوعون. يقول - واللَّه أعلم -: مثل اتخاذكم أُولَئِكَ أولياء من دون اللَّه وما تأملون منهم كمثل بيت العنكبوت، لا ينفع ولا يغني ما يؤمل من البيت من دفع الحرّ والبرد وغيره، فعلى ذلك اتخاذكم واتباعكم هَؤُلَاءِ أولياء من دون اللَّه مثل ما ذكر، لا ينفع ولا يغني ولا يدفع عنكم ما ينزل بكم، وهو ما قال: (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ. .) الآية. ظاهر ما ذكر من الأولياء أن يكون المتبوعون منهم. وجائِز أن تكون الأصنام التي اتخذوها آلهة، ضرب مثل عبادتهم الأصنام واتخاذهم إياها آلهة ببيت العنكبوت، وذلك أن العنكبوت اتخذت البيت رجاء أن تنتفع به كما ينتفع بالبيوت في دفع الحر والبرد، والستر والحجاب، فلما أن وقعت الحاجة إليه لم تنتفع ما كان تأمل منه في شيء مما كانت تأمل، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الذين اتخذوا الأصنام آلهة ومعبودًا؛ رجاء أن ينفعهم ذلك يومًا، فلما أن وقعت لهم الحاجة لم يجدوا ما كانوا يأملون من عبادتهم إياها واتخاذهم آلهة؛ بل في بيت العنكبوت للعنكبوت شيء من المنفعة، وليس لأولياء العبدة لتلك الأصنام شيء مما كانوا يأملون، فهي دون بيت العنكبوت في المنفعة، لكنه - واللَّه أعلم - ضرب مثلها ببيت العنكبوت؛ لما لا شيء أوهن وأضعف عند الخلق من بيتها، وهو ما شبه أعمال الكفرة برماد اشتدت به الريح، وبسراب بقيعة؛ لما ليس شيء أضيع ولا أبعد في الوجود والقدرة عليه في الوهم مما ذكر؛ فيشبه أعمالهم به، فعلى ذلك تشبيه اتخاذ أُولَئِكَ الأصنام آلهة وأولياء من دون الله ببيت العنكبوت، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) أي: أضعف وأبعد من المنفعة بيت العنكبوت، فعلى ذلك عبادتهم الأصنام واتخاذهم إياها معبودًا أوهن وأبعد مما يأملون (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي: إن كانوا يعلمون ضعفها وعجزها، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) هو - واللَّه أعلم -: أن اللَّه لم يزل عالمًا بما يكون منهم من اتخاذهم الأصنام معبودًا، وأنه عن علم أنشأ لهم ذلك لا عن

(43)

غفلة وسهو، لكن أنشأهم لمنافع أنفسهم ولحاجة لهم لا لحاجة ومنفعة له في إنشائه إياها، وهو ما قال: (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)، وقال هاهنا: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز: قيل: إنه المنيع. وقيل: إنه الذي يذل كل شيء دونه. لكن العزيز عندنا: هو الذي لا يعلو سلطانه شيء، ولا يقهر ملكه شيء، ويعلو سلطانه وإرادته على جميع الأشياء ويقهرها. والحكيم: قيل: الذي له الحكم. وقيل: هو المصيب. وقيل: هو الذي يضع كل شيء موضعه. والحكيم عندنا: هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، واللَّه أعلم. وقوله: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) فَإِنْ قِيلَ: ذكر أنه لا يعقلها إلا العالمون، والعقل يسبق العلم بالشيء؛ إذ بالعقل يعلم ما يعلم، فكيف ذكر أنه لا يعقل إلا العالمون، ولم يقل: وما يعلمها إلا العاقلون؛ فهو - واللَّه أعلم - لوجوه: أحدها: أن الأمثال إنما تضرب لتقريب ما يبعد عن الأوهام، ولكشف ما استتر من الأشياء على الأفهام وتجليها عما خفيت فلا يعقل الأمثال أنها لماذا ضربت؟ - إلا العالم. والثاني: أن العقول تعرف أسباب الأشياء ودلائلها، فإما أن تعرف حقائق الأشياء وأنفسها فلا، من نحو المسالك والطرق إلى البلد التي تعرف مسالكها وطرقها التي بها يوصل إليها، فأما أعينها فلا، وكذا المراقي التي بها يعلو ويرتفع، فأمّا عين العلو فلا، وأما العلم فإنه يوصل إلى معرفة حقائق الأشياء وأنفسها وصورها؛ لذلك كان ما ذكر. والثالث: أن يكون قوله: (وَمَا يَعْقِلُهَا) أي: وما ينتفع بما ذكر إلا العالمون، وهو كما قال: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، نفى عنهم هذه الحواس وإن كانت لهم أنفس تلك الحواس لما لم يستعملوها فيما جعلمط وأنشئت، ولم ينتفعوا بها، فنفى عنهم تلك؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) أي: ما ينتفع بما يعقل إلا العالم، فأما من لم ينتفع فلا يعقل، واللَّه أعلم. وقوله: (خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) يحتمل قوله: (بِالْحَقِّ) أي: لعاقبة، وهو البعث؛ لأنه لم يخلقهما لأنفسهما، وكذلك لم يخلق الدنيا للدنيا، ولكن إنما خلقها للآخرة؛ إذ بالآخرة يصير خلقها حكمة وحقا؛ لأنه لو لم يكن خلقها لعاقبة كان خلقها

(45)

عبثًا باطلا، وهو ما قال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) لا كافر يظن أنه خلقهما باطلا، ولكن تركوا الإيمان بالبعث وأنكروا البعث؛ كأنهم ظنوا أنه خلقهما باطلا؛ إذ لولا البعث كان خلقهما باطلا عبثًا فإنما صار خلقهما حقا وحكمة بالبعث، فإذا أنكروا ما به صار خلقه إياهما حكمة وحقًا - فقد ظنوا الباطل بخلقهما، فنسأل اللَّه التوفيق والصواب. ويحتمل قوله: إنه خلقهما؛ لتدلا على الحق؛ لأنهما تدلان على وحدانية اللَّه وربوبيته وتعاليه عن الأشباه والشركاء وجميع الآفات. أو أن يكون بالحق الذي لله عليهم. أو بالحق الذي لبعضهم على بعض، واللَّه أعلم. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) صير آية لمن أقر بها وآمن؛ إذ هو المنتفع بها، فأمَّا من أنكر وجحد وكذبها فهو آية عليه لا له، واللَّه أعلم. وقوله: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) جائز أن يكون قوله: اتل ما أوحي إليك من الكتاب، وأقم به الصلاة أي: بالكتاب الذي أوحي إليك. ويحتمل: اتل ما أوحي إليك من الكتاب عليهم، وأقم بهم الصلاة؛ فالخطاب وإن كان لرسول اللَّه فهو لكل أحد؛ على ما ذكرنا في سائر المخاطبات، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على الامتنان. والثاني: على الإلزام. فأما وجه الامتنان: فهو أن جعل لكم الصلاة لتمنعكم عن الفحشاء والمنكر ما لو لم يجعلها لكم لا شيء يمنعكم عن الفحشاء والمنكر؛ فيمنُّ عليهم بجعل الصلاة لهم؛ لما تمنعهم عما ذكر. وأما وجه الإلزام: فإنه يخرج على وجهين: أحدهما: أن الصلاة لو كان موهومًا منها النطق والنهي، لكانت تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ على ما أضاف التغرير والتزيين إلى الحياة الدنيا؛ أي: لو كان هذا الذي كان من الدنيا، كان ممن له التغرير - كان ذلك تغريرًا؛ فعلى ذلك الصلاة لو كان منها حقيقة الأمر والنهي لكانت تنهى عن الفحشاء والمنكر. والثاني: أضيف النهي إلى الصلاة؛ لما بها يعرف ذلك، فقد تضاف الأشياء إلى الأسباب وإن لم يكن منها حقيقة ما أضيف إليها؛ نحو ما يضاف الأمر والنهي إلى الكتاب

والسنة ونحوه؛ يقال: أمرنا الكتاب بكذا، والسنة بكذا، ونهانا عن كذا، وإن لم يكن منهما أمر حقيقة ولا نهي؛ لما بهما يعرف الأمر والنهي، وهما سببا ذلك؛ فعلى ذلك جائز إضافة النهي إلى الصلاة أن يكون على هذا السبيل. وقوله: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر اللَّهِ أَكْبَرُ في العبادات من أنفس تلك العبادات. ووجه هذا - واللَّه أعلم -: أن العبادات إنما تكون بجوارح تغلب وتقهر وتستعمل؛ فلا تعرف تلك أنها لله إلا بتأويل. وأمَّا ذكر اللَّه إنما يكون باللسان والقلب، وهما لا يغلبان، ولا يستعملان ولا يقهران، فهو يعرف أن ذلك لله حقيقة، فهو أكبر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) من سائر الأذكار التي ليست لله؛ فهذا ليس فيه كبير حكمة؛ لأن ذلك يعرفه كل أحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر اللَّهِ أَكْبَرُ في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر اللَّه إياكم أكبر من ذكركم إياه؛ لأن ذكره إياكم رحمة ومغفرة، وذلك مما لا يعدله ولا يوازيه شيء، وأما العبد فإنه يذكر ربه بأدنى شيء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ): أي: ما وفق اللَّه العبد من ذكره إياه وطاعته له أكبر من نفس ذلك الذكر ونفس تلك العبادة. وذكر في حرف ابن مسعود وأبي وحفصة: (إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر). وعن الحسن يحدث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من اللَّه إلا بُعْدًا، ولم يزدد بها عند اللَّه إلا مقتًا ". وعن سلمان الفارسي قال: ذكر اللَّه إياكم أكبر من ذكركم إياه. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لهذا وجهان:

(46)

أحدهما: يقول: ذكر اللَّهِ أَكْبَرُ مما سواه من أعمال البر. والآخر: يقول: ذكر اللَّه إياكم أكبر من ذكركم إياه. والضحاك يقول: العبد يذكر اللَّه عند ما أحل له وحرم عليه، فيأخذ بما أحل ويجتنب ما حرم عليه. وقتادة يقول: لا شيء أكبر من ذكر اللَّه. وأصله ما ذكرنا من الوجوه التي تقدم ذكرها. وقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: تنهى وتمنع ما دام فيها لا يعمل بالفحشاء والمنكر. والثاني: أن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر؛ أي: لو كانت لها النطق والأمر والنهي لكانت تنهى عما ذكر. والوجه فيه ما ذكرنا بدءًا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) وعيد؛ ليكونوا أبدًا على حذر ويقظة. * * * قوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وقوله: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) الآية تخرج على وجوه ثلاثة: أحدها: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إلا الذين ظلموا منهم فلا تجادلوهم بالتي هي أحسن ولا غيره، وهم الذين لا يقبلون الحجة، ولا يؤمنون إذا لزمتهم الحجة، وهم أهل عناد ومكابرة، والأولون يقبلون الحجة، ويؤمنون بها. والثاني: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)؛ فقوله: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ليس على الثنيا من الأوّل، ولكن على الابتداء؛ كأنه قال: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) قولوا: (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا. . .) إلى آخر ما ذكر؛ أي: قولوا لهم هذا، ولا

(47)

تجادلوهم؛ فإنكم وإن جادلتم إياهم فلا يؤمنون، وهو كقوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي)، قوله: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ) ليس على الثنيا من الأول، ولكن ابتداء نهي؛ أي: لا تخشوهم واخشوني، فعلى ذلك يحتمل الأول مثله. والثالث: جائز أن يكون قوله: (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ. . .) إلى آخر ما ذكر: هي المجادلة الحسنة التي أمروا بها؛ لأن تلك مما يقبلها العقل والطبع، وبها جاءت الكتب والرسل؛ فلا سبيل إلى ردّ ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي: جادلوا الذين يصدقون منهم ولا يكتمون نعت مُحَمَّد وما في كتبهم من الحق، فأمَّا الذين تعلمون أنهم يكتمون ولا يصدقون فلا تجادلوهم، وهو كقوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) والأوّل كقوله: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. . .) الآية. والمجادلة الحسنة هي التي جاء بها الكتاب ويوجبها العقل. ثم فيه دلالة جواز المناظرة والمجادلة مع الكفرة في الدِّين، وكذلك - قوله تعالى -: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ليس كما يقول بعض الناس: إنه لا يجوز معهم المناظرة، وذلك لجهلهم بحجج الإسلام وبراهينه؛ على ما ينهون عن المجادلة والمناظرة معهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من لا عهد معهم فجادلهم بالسيوف، ومن كان معه عهد وكتاب فجادلهم بالحجج. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو منسوخ بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .) الآية. ومنهم من يقول: من أدَّى إليكم الجزية فلا تغلظوا له القول وقولا لهم قولا حسنًا، ومن لم يؤدّ فأغلظوا لهم وجادلوهم بالسيوف، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) أي: كما أخبرناك في الكتاب، فقل لهم، أو جادلهم. وقوله: (فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) يخرج على وجهين: أحدهما: الذين آتيناهم الكتاب فيتلونه حق تلاوته، فهم يؤمنون به؛ على ما ذكرنا في آية أخرى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، فتكون

(48)

هذه الآية تعريفًا للأولى، وأمّا من لم يتله حق تلاوته فلا يؤمنون به. والثاني: فالذين آتيناهم الكتاب وانتفعوا به؛ أي: يؤمنون بالذي أوتوا من الكتاب. (وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) يحتمل قوله: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ) أي: من أهل مكة من يؤمن به، وقد آمن كثير منهم. وجائز أن يكون ذلك إلى قوم كانوا بحضرته، فقال: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ)، والله أعلم. (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ) قال قتادة: لا يكون الجحد إلا بعد معرفة أن اليهود والنصارى عرقوه كما عرفوا أبناءهم، لكنهم جحدوه، وكل من أنكر شيئًا فقد جحده؛ عرفه أو لم يعرفه. وقوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) تأويله - واللَّه أعلم -: أي: ما كنت تتلو من قبله - أي: من قبل هذا الكتاب - من كتاب، ولو كنت تتلو لارتاب المبطلون فيقولون: إن ما أنبأتهم من الأنباء المتقدمة أو كلام الحكمة إنما تلقفت وأخذت من تلك الكتب المتقدمة أو كتب الحكماء، ولو كنت تخطه بيمينك يقولون: إن ذلك من تأليفك ووصفك؛ لأن القرآن حجة عليهم من وجهين: أحدهما: ما ذكر فيه من الأنباء المتقدمة المترجمة بغير لسان المتقدم ما علموا بأجمعهم أن رسول اللَّه - صلوات اللَّه عليه - كان لا يعرفها بمترجم ولا شهدها هو، ثم أنبأهم على ما كان، فعلموا أنه باللَّه عرفها. والثاني: هو آية معجزة نظمًا ووصفًا ما يعملون أنه ليس من نظم البشر ولا وصفه، فيقول: ما كنت تتلو من قبله كتابًا فيه تلك الأنباء والحكمة ولا تخطه بيمينك؛ فيقولون: هو من تأليفك أو من نظمك، فلو كنت كذلك إذن لارتاب المبطلون بما ذكرنا على عناد منهم ومكابرة، ولا يرتاب المحقون، وإن كان كما ذكر؛ لما عرفوا صدقه بأشياء وبآيات كانت فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ) ويقول: قبل القرآن (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي: لا تكتبه بيدك، ولو كنت تقرأ كتابًا من قبله أو كنت تكتب بيدك إذن لارتاب المبطلون؛ يقول: لاتهموك؛ هذا قد ذكرناه، ولكن نقول في قوله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بل هو اليقين أنك لا تقرؤه، أو لا تكتبه عند الذين أوتوا العلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب من نحو عبد اللَّه بن سلام وأصحابه. وقوله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) يحتمل القرآن؛ إذ فيه آيات

(50)

وحدانية اللَّه وحججه، وآيات البعث وحججه وآياته. ويحتمل قوله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان من أول ما نشأ إلى آخر أمره آية؛ لما ذكر من النور في وجه أبيه ما دام في صلبه، ثم في وجه أمه؛ إذا وقع في رحمها، ثم من ضياء الليلة التي ولد فيها، ثم من ظل السحاب الذي أظله وقت ما خرج من وطنه، وأمثال ذلك كثير ما لا يقدر إحصاؤه، واللَّه أعلم. فذلك كله يدل على رسالته ونبوته، لا يرتاب فيه إلا المبطل المعاند المكابر. وقوله: (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) جائز أن يكون قوله: (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي: أوتوا منافع العلم، أي: هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا منافع العلم، فأما من لم يؤت منافع العلم فلا. وقوله: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) يحتمل: الظلم: ظلم الآيات، لم يضعوها في موضعها. ويحتمل: الظالمون: الكافرون. * * * قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) وقوله: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ) وفي بعض القراءات: (ءاية من ربه) على الوحدان؛ فكأنهم سألوه مرة آية؛ كقوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَ)، وإنما ينزل إذا شاء بعد السؤال، ومرة سألوه آيات؛ كقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا)، وكقولهم: (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا. . .) الآية، ونحوها من الآيات التي سألوها، فمرة سألوه آيات، ومرة سألوه آية، فقول من قال: أختار قراءة (آيَاتٌ) على قراءة (ءاية) محال إذا ثبت أنه قراءة، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - على ما كان منهم، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ) أي: من عنده تجيء الآيات؛ فكأنهم سألوه آيات

(51)

قاهرة تقهرهم وتضطرهم على القبول والإقبال إليه الآيات يكون في ذلك وجه الاختيار، لكن سؤال عناد ومكابرة، لا سؤال استرشاد واستهداء فقال: إن اللَّه قد عفا عن هذه الأمة عن إنزال ما به هلاكهم على أثر سؤال العناد والمكابرة، وإن كان في غيرها من الأمم السالفة ينزل عليهم الهلاك والعذاب على إثر سؤال العناد، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: وإنما أنا نذير من اللَّه مبين: أن اللَّه أمرني بذلك وأرسلني إليكم. والثاني: (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي: ليس عليَّ إلا الإنذار لكم أبين النذارة، فأما غير ذلك فليس عليَّ؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. . .) الآية، ونحوه. وقوله: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) هذا يدل أنهم إنما سألوا سؤال عناد واستهزاء، لا سؤال استرشاد؛ حيث قال: إن فيما أنزل عليهم من الكتاب كفاية لمن كانت همته الاسترشاد والإنصاف، فأما من كانت همته العناد والمكابرة فلا. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً) أي: فيما أنزل من الكتاب عليك لرحمة، أي: رشد (وَذِكْرَى): عظة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). وقوله: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) هذا يقال لوجهين: أحدهما: عند الإياس من قبول الحجج والآيات يقول: [(كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا)] أي: حاكما (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أينا على الحق؟ وأينا على الضلال نحن أو أنتم؟!. والثاني: [(كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا)]: عالمًا في تبليغ ما أمرت بتبليغه إليكم وإتيان ما آتيتكم به من الآيات والحجج (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). وقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) كان استعجالهم وسؤالهم الآيات على علم منهم أنه لا ينزل ولا يأتيهم - يخرج مخرج الاستهزاء بالرسل والتمويه والتلبيس على الأتباع والضعفاء؛ لأنهم يعلمون أن اللَّه لا يعذب ولا يهلك هذه الأمة إهلاك استئصال وانتقام كما أهلك الأمم المتقدمة بالعناد والاستهزاء بالرسل؛ إذ قد أمهلهم إلى وقت، فإن علموا ذلك من الإمهال والتأخير سألوا الرسول العذاب الذي أوعدهم والآيات القاهرة، ووعدوا الإيمان لو جاءهم، وأقسموا على ذلك بقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ. . .) الآية؛ تمويهًا وتلبيسًا على أتباعهم وضعفائهم يرونهم أنهم على حق في

(54)

الإيمان فيما يدعوهم الرسول، وأنه لو أتى بآية وحجة يؤمنون به ويتبعونه، وهم فيما يسألون من الآيات والعذاب عالمون أنهم معاندون كذبة متمردون ملبسون مموهون على الأتباع والسفلة؛ لما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً. . .) الآية. فإن قال لنا ملحد: إنه حيث أخر عنهم العذاب وأمهلهم علم منهم أنهم يستعجلون، أو لم يعلم ذلك، فإن قلت: على غير علم منهم فقد أثبت الجهل له، وإن قلت: على علم منهم ذلك فكيف أمهل ذلك وقد علم ما يكون منهم؟ قيل: إمهاله العذاب عنهم وضرب الأجل رحمة منه لهم وفضل؛ كأنه قال: ولولا رحمته التي جعل لهم على نفسه لجاءهم العذاب كما جاء الأمم الخالية عند سؤالهم الرسل العذاب والآيات بالعناد والاستهزاء، وهو كقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) حيث لم يستأصلهم كما استأصل أُولَئِكَ. وقوله: (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يحتمل قوله: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ) أي: عذاب جهنم محيط يومئدٍ بالكافرين، أو النار محيطة بالكافرين. وجائز أن يكون: أي: يستعجلونك بالعذاب، وإن أعمال أهل جهنم وأسبابها التي توجب لهم جهنم محيطة بهم؛ كقوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)، أي: ما أصبرهم على الأعمال والأسباب التي توجب لهم النار، وإلا لا أحد يصبر على النار؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) أي: أسباب جهنم وأعمالهم التي توجب لهم جهنم والنار محيطة بهم، واللَّه أعلم. وقوله: (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) كقوله: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) - ظاهر. * * * قوله تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وقوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) في الآية بشارة ونذارة: أما البشارة فقوله: (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) وعد لهم السعة في المكان المنتقل إليه والمتحول كما كان لهم في مقامهم. والنذارة والتحذير: هو قوله: (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) فلا تقيموا في أرضكم.

ثم الأمر بالخروج والهجرة عن أرضهم إلى أخرى يخرج على وجهين: أحدهما: لما لا يقدرون على إظهار دين اللَّه؛ خوفًا على أنفسهم من أُولَئِكَ الكفرة، فأمروا بالخروج والهجرة عنها إلى أرض يقدرون على إظهاره والقيام به. والثاني: أن كانوا يقدرون على إظهار دينهم، لكنهم لا يقدرون القيام على تغيير المناكير عليهم والأمر بالمعروف، فأمروا بالخروج منها إلى أرض ليس بها مناكير، أو إن كانت بها فيقدرون على تغييرها والأمر بالمعروف فيها، فبمثل هذا جائز أن يؤمر الناس بالتحول من أرض إلى أخرى إذا لم يقدروا على تغيير المنكر ودفعه وليس كالرسل؛ لأن سائر الناس إذا كثر سماعهم المنكر يَخِفّ ذلك على قلوبهم وتميل إليه القلوب وتسكن وتطمئن، فيؤمرون بالخروج عنها والتحول إلى أخرى؛ لئلا تميل ولا تسكن إليه قلوبهم. وأما الرسل وإن كثر سماعهم المنكر فإن قلوبهم لا تميل ولا تلين ولا تسكن إليه أبدًا؛ بل يزداد لهم شدة وصلابة في ذلك وبعدًا عن قلوبهم؛ لذلك اختلف أمر الرسل وغيرهم. أو أن يكون لا يؤمرون بالخروج ولا يؤذن لهم؛ لما هم إنما بعثوا إلى أهل الكفر والمنكر ليدعوهم إلى دين اللَّه؛ فلا يحتمل أن يؤذن لهم بالخروج والهجرة إلى أخرى وهم إليهم بعثوا؛ ليدعوهم إلى دين اللَّه، فقوله: (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) هو ما ذكرنا: أمروا بالهجرة ليسلم لهم دينهم، ولا يمنعهم عن ذلك خوف ضيق العيش في غيره؛ لما يعتزلون عن أموالهم، وحرفهم، وأهل قرابتهم ومعونتهم؛ لما وعد - عَزَّ وَجَلَّ - التوسيع عليهم لو خرجوا وهربوا؛ إشفاقًا على دينهم، وكذلك روي عن الحسن عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَن فَرَّ بدينه من أرض إلى أرض أخرى وإن كانت شبرًا، وجبت له الجنة، ويبعث مع أبيه إبراهيم ونبيه مُحَمَّد " أو نحوه من الكلام. وعلى مثل ذلك جاءت الآثار عن السلف في تأويل الآية: إذا دعيتم إلى المعاعمي فاهربوا في الأرض، فإن أرض اللَّه واسعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاهربوا إلى أخرى؛ فإن أرضي واسعة، وهو ما ذكروا: أمروا بالهجرة؛ ليسلم لهم دينهم، ووعد لهم السعة والحسنة في الدنيا، وفي الآخرة أعظم منها، وهي ما قال: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، وقال في هذه الآية: (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي: إن أرضي واسعة، فإن منعتم عن عبادتي في

(57)

أرض فاخرجوا منها إلى أخرى فاعبدوني ولا تعبدوا غيري؛ فإن أرضي واسعة؛ فلا عذر لكم بالمقام في أرض تمنعون فيها عن عبادتي وإظهار ديني، إلا المستضعفين الذين استثناهم في آية أخرى؛ حيث قال: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا)، عذرهم بما فيهم من الضعف لترك الخروج والمقام بين أظهرهم، وكتمان الإيمان والعبادة له سرًّا، وإن لم يقدروا على إظهاره، فأما من كانت له حيلة الخروج فلم يعذره. وقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) ذكر هذا - واللَّه أعلم - على إثر ما ذكر؛ لئلا يمنعهم عن الخروج والهجرة خوف ضيق العيش؛ يقول - واللَّه أعلم -: كل نفس تذوق الموت إذا استوفت رزقها لا محالة، ولا تذوق قبل استيفائها رزقها؛ فلا يمنعكم خوف ضيق العيش فإنها تذوق ذلك لا محالة، خرجت أو لم تخرج إذا استوفت رزقها، وهو ما قال: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)، أي: لو كان المكتوب عليه القتل يبرز لا محالة حتى يقتل؛ فعلى ذلك المكتوب عليه الموت يذوقه لا محالة، أخرج، أو أقام، واللَّه أعلم (ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ). وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ... (58) أي: لنهيئنهم (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا) يقال: بوا: أنزل وهيأ، و " لَنُثْوِيَنَّهُمْ " من الثواء، وهو الإقامة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: هو من ثويت بالمقام: إذا أقمت به، وبالباء (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ): أي: لننزلنهم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: لننزلنهم منها منزلا يقيمون فيه، والثواء: الإقامة. وقال أبو معاذ: بوأها: هيأها، والمثوى: المنزل، والثاوي: المفيف خَالِدِينَ يهَأ نِعْمَ أَتجرُ آلعملِدٍ) أي: ثوابهم وجزاؤهم. وقوله: (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) يحتمل قوله: (الَّذِينَ صَبَرُوا) أي: خرجوا، وهاجروا، وصبروا على الهجرة، وعلى ربهم توكلوا في الخروج والرزق، والذين صبروا على الطاعات وأداء الفرائض. أو أن يكون الصبر كناية وعبارة عن الإيمان؛ أي: الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون وبه يثقون ويفوضون؛ كقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي: لكل مؤمن. ومُحَمَّد بن إسحاق يقول: أنزلت الآية بمكة في ضعفاء مسلمي مكة؛ يقول: إن كنتم

(60)

في ضيق بمكة من إظهار الإيمان بها فإن أرض المدينة واسعة فإياي فاعبدون بها علانية، ثم خوف بالموت؛ ليهاجروا، فقال: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) في الآخرة، ثم نعتهم فقال: الذين صبروا على الهجرة وباللَّه يثقون في هجرتهم، وذلك أن أحدهم كان يقول بمكة: كيف أهاجر إلى المدينة وليس لي بها مال ولا معيشة، فوعظهم بما ذكر. وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) من الناس من يجعل الآية صلة قوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) أنهم أمروا بالهجرة من بلدتهم والخروج من مقامهم؛ ليسلم لهم دينهم؛ فاشتد ذلك عليهم، وضاق بذلك ذرعهم؛ لضيق العيش هناك لما لم يتهيأ لهم ولا يتأدى لهم حمل أموالهم، والمكاسب التي بها يتعيشون في بلدهم ويتسعون بها، فأخبر أن له خلائق يرزقهم حيثما توجهوا وحيثما كانوا لا يحملون معهم شيئا من الرزق؛ بل يرزقهم حيثما كانوا ابتداء؛ فعلى ذلك هو يرزقكم حيثما كنتم حملتم مع أنفسكم شيئًا من الأموال والمكاسب أو لم تحملوا، فلا يضيقن صدركم بترككم الأموال والمكاسب في بلدكم. وجائز أن يكون لا على الصلة بما تقدم، ولكن على ابتداء تذكير وتنبيه للبشر وبغير سبب؛ إذ قد يرزق ويبسط من ليس له من الأسباب شيء نحو ما ذكر من رزقه الطير والدوأب، وغير ذلك من البشر الذين يرزقون بلا أسباب ومكاسب؛ ولذلك ذكر - والله أعلم - على إثر ذلك (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) يبسط لمن يشاء وإن لم يكن له سبب ويقدر على من يشاء، وإن كان معه سبب؛ لئلا يعلقوا قلوبهم في الرزق في الأسباب والمكاسب. وعلى قول المعتزلة: إن اللَّه لا يقدر أن يبسط الرزق لمن يشاء؛ لأنهم لا يجعلون لله في الأسباب والمكاسب صنعًا، وإنما يجعلون منه خلق أصول الأشياء من الإنبات والإخراج من الأرض، وأما غير ذلك فهو كله للخلق على قولهم، فذلك النبات والخارج منها للكل ليس بعضهم بذلك أولى من بعض، فتذهب فائدة ما ذكر من البسط والتوسيع والتقتير على قولهم. وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) على إثر ما ذكر يخرج على وجوه: أحدها: المجيب لكل ما يدعون ويسألون، العليم بحوائجهم؛ حيث كانوا وأين كانوا. أو السميع لقولهم: إنا لا نجد ما ننفق ونتعيش، العليم بما أضمروا ونحوه. * * * قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ

(61)

نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) إنهم أعطوا جميعًا بألسنتهم: أن الذي خلق السماوات والأرض، وما سخر لهم من الشمس والقمر، وما نزل من السماء من الماء، وما أحيا به الأرض - هو اللَّه لا غيره، فيخرج قوله: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) على أثر ما أعطوا بألسنتهم ونطقوا به على وجهين: أحدهما: أنى يصرفون عما أعطوا بألسنتهم ونطقوا به إلى صرف الشكر والعبادة إلى الأصنام التي يعلمون أنها لبم تخلق شيئًا مما أعطوا بألسنتهم. والثاني: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي: في تسميتهم الأصنام: آلهة على علم منهم أنها ليست بآلهة، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ... (63) على أثر ما ذكر يخرج على وجوه: أحدها: أمره أن يحمد ربه فيما لم يبل بما بلي به أُولَئِكَ من التكذيب والعناد والكفر بربهم. والثاني: أمره أن يحمد ربّه؛ لما في ذلك إظهار سفههم؛ حيث أعطوا باللسان أن ذلك كله من اللَّه، واللَّه خالق ذلك كله، ثم صرفوا ذلك إلى غيره. والثالث: يقول بعضهم: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إقرارهم بذلك أنه خلق لله، وأن ذلك كله منه، واللَّه أعلم. وقوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) يحتمل قوله: (لَا يَعْقِلُونَ) أي: لا ينتفعون بعقولهم؛ نفى عنهم العقول؛ لما لم ينتفعوا بها، كما نفى عنهم السمع والبصر واللسان لما لم ينتفعوا بقلك الحواس؛ فعلى ذلك هذا. والثاني: لم يعقلوا لما تركوا النظر والتفكر في الأسباب التي بها تعقل الأشياء، والله أعلم. وقوله: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) وقوله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لو كان الأمر على ظاهر ما نطق به الكتاب دون معان تودع فيه وحكمة تجعل فيه على ما يحمله بعض الناس - لكان لأهل الإلحاد في ذلك مطعن؛ لأنه يقول: ما الحياة إلا لهو ولعب وهو خلقها، فيقولون: لِمَ خلقها لهوًا ولعبًا وهو خلقها؛ ولهم دعوى التناقصْ فيه؛ حيث قال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا) ووقال في آية أخرى: (وَمَا

خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)، فلو جمع بين هذا وبين الأول فهو في الظاهر متناقض؛ إن يذكر في بعضها: أنه لم يخلقهما وما بينهما باطلا لعبًا، ويذكر في بعضها: أن الحياة الدنيا لهو ولعب، وهو خلقهما. لكن تأويل قوله: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) على ما تقدرون أنتم وعلى ما عندكم (إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ)، فأما عند أهل التوحيد وما في تقديرهم فهي حكمة وحق. ثم ما ذكر من اللهو واللعب عندهم يخرج على وجهين: أحدهما: أنهم رأوا أنه خلق الإنسان وجعل بدأه من نطفة، ثم حولها إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى الإنسان الذي صور. . . إلى آخر ما حوله؛ فلا يحتمل أن يخلقه ويحوله من حال إلى الأحوال التي ذكر، ثم يفنيه بلا عاقبة تجعل لهم، ولا منفعة؛ فيكون كما ذكر: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)، صيَّر نقضها الغزل من بعد إحكامها إياه بلا انتفاع به لهوًا ولعبًا؛ فعلى ذلك خَلْقُ الحياة الدنيا، وخلق ما فيها من العالم بعد إحكامه وتحويله حالا بعد حال، وتحويلا بعد تحويل، وإحكامًا بعد إحكام للفناء خاصة على ما يقدر أُولَئِكَ الكفرة بلا عاقبة تجعل لهم أو منفعة - لَهْو ولعب وسفه وباطل؛ على ما ظن أُولَئِكَ وقدروه، فأما في تقدير أهل التوحيد وأهل الإيمان من العاقبة لهم فهو حكمة وحق. والثاني: معنى اللهو: اللعب الذي ذكر على ما عندهم هو أن الجمع والتسوية بين العدو والولي وبين العاصي والمطيع وبين المخالف والموافق - سفه باطل، وقد سوى بينهم في هذه الدنيا، وأشركهم جميعًا في نعيمها وسعتها وشدتها، وخيرها وشرها، يتمتع الولي فيها كما يتمتع العدو، ويبتلى فيها المطيع كما يبتلى العاصي، فلو لم يكن دار أخرى فيها يفرق بين الولي والعدو، وبين المطيع والعاصي لكان خلقه إياهم في الحياة الدنيا سفهًا وباطلا؛ إذ سوى بينهم وأشركهم جميعًا في هذه. أو أن تكون الحياة الدنيا - عدى ما اتخذوها هم وعملوا فيها - لهوًا ولعبًا. أو أن يقال: الحياة الدنيا بحياة الآخرة لهو ولعب؛ لأنها خلقت فانية منقطعة، وخلقت حياة الآخرة باقية دائمة، فهو كما قال: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ)، أي: متاع الدنيا قليل عند متاع الآخرة، لأن متاع الدنيا فانٍ منقطع، ومتاع الآخرة دائم باقي. وقوله: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) أي: هي دار الحياة، لا موت فيها، ولا انقطاع، ولا فناء (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أن الدار الآخرة هي الدار التي لا موت فيها، واللَّه أعلم.

(65)

قوله تعالى (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) وقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الآية، على المعتزلة في قولهم: إن على اللَّه الأصلح لهم في الدِّين؛ لأنه أخبر أنهم أخلصوا الدِّين لله إذا ركبوا في الفلك، ولا شك أن ذلك أصلح في الدِّين، فلما لم يبقهم على تلك الحال ليكونوا على ذلك الإخلاص؛ بل أخرجهم منها فعادوا إلى ما كانوا فدل ذلك أن ليس عليه حفظ الأصلح لهم في الدِّين. وقوله: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) وقوله: (لِيَكفُرُوا) أي: أنجاهم ليكونوا على ما علم منهم أنهم يكونون، وقد علم أنه يكون منهم الكفر، فأنجاهم إلى البر؛ ليكون منهم ما قد علم أنه يكون ويختارون، كأن إخلاص الدعاء في الفلك لم يكن إخلاص اختيار، ولكن إخلاص دفع البلاء عن أنفسهم؛ إذ لو كان ذلك إخلاص اختيار، لا دفع البلاء لكانوا لا يتركون ذلك في الأحوال كلها، فهذه الآية وإن كانت في أهل الكفر، ففي ذلك - أيضًا - توبيخ لأهل الإسلام؛ لأنهم لا يقومون بالشكر لله وإخلاص العبادة له في حال السعة والنعمة كما يكونون في حال الضيق والشدة، فينبههم ليكونوا في الأحوال كلها مخلصين العمل لله شاكرين له؛ لئلا يكون عملهم على حرف وجهة كعمل أهل النفاق، وكعمل أُولَئِكَ الكفرة، والله أعلم. وقوله: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) قيل: يكذبون. وقيل: يعدلون. وقيل: يؤفكون: يؤفنون ويحمقون، والمافون: الأحمق، وا لأفن: الحمق. وقوله: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي: سوف يعلمون صدقي في قولي، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه كما عادوا إلى ما كانوا عليه إذ أنجاهم من الأهوال التي ابتلوا بها؛ أي: سوف يعلمون ما أوعدهم الرسل.

(67)

وفي قولهم: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) وجه آخر: وهو أن يقال: ما هذه المحاسن والأعمال التي تعملون وتعدون محاسن وصلاحًا في هذه الدنيا إلا لهو ولعب؛ لما لا تبقى ولا تنتفعون بها إلا ما ابتغي بها وجه اللَّه والدار الآخرة، وهو ما قال: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) أي: هي الباقية الدائمة (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) قد ذكرنا في غير موضع: أن الاستفهام من الله يخرج مخرج الإلزام والإيجاب، أو يخرج مخرج الخبر، لا على حقيقة الاستفهام؛ لأنه عالم بذاته، يعلم ما في باطنهم وظاهرهم، وما يسرون وما يعلنون، بما كان ويكون، لا يستفهم عباده شيئًا، ولكنه يخرج على ما ذكرنا على الخبر، أو على الإلزام والإيجاب؛ فالخبر كأنه يقول: قد رأوا وعلموا أن اللَّه جعل الحرم مأمنًا لهم يأمنون فيه، وكان الناس حولهم يتخطفون ويخافون، والإلزام والإيجاب أن يقول لهم: اعلموا أن اللَّه جعل لكم الحرم مأمنًا تأمنون فيه والناس من حولكم على خوف يسلبون ويُسْبَوْنَ ويقتلون. ثم يخرج تذكيره إياهم هذا على وجهين: أحدهما: أن اللَّه قد جعل لكم الحرم مأمنًا تأمنون فيه؛ لتعظيمكم حرم اللَّه وبيته، والناس حولكم على خوف، وأنتم تشاركون من حولكم في الدِّين، فكيف تخافون الاختطاف والاستلاب إذا دنتم بدينه واتبعتم رسوله، فإذا آمنكم بكونكم في حرم الله وتعظيمكم بيته، ودفع عنكم الاستلاب والاختطاف، فكيف تخافون ذلك إذا دنتم بدينه واتبعتم أمره؟! بل الأمن والسعة إذا دنتم بدينه واتبعتم أمره أكثر وأحق؛ فكأنهم إنما تركوا اتباع دينه خوفا من الاختطاف؛ كقولهم: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) فقال لهم: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ). أو يذكر هذا لهم: أنه قد أمنكم وصرف عنكم مع عبادتكم الأصنام وصرفكم الشكر إليها عند كل مكروه وسوء بكونكم في مجاورة بيته وحرمه، فإذا صرفتم العبادة إليه وشكرتم نعمه - أحق أن يؤمنكم ويوسع عليكم نعمه ويدفع عنكم ما لم يدفع عمن حولكم، وأنتم شركاؤهم في عبادة الأصنام واتخاذهم إياها آلهة. على هذا يخرج، واللَّه أعلم. وقوله: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) يحتمل قوله: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي: بما أوحى إليكم إبليس من الباطل تؤمنون، وهو ما أوحى إليهم: أن هَؤُلَاءِ شفعاؤكم عند اللَّه وعبادتكم إياها تقربكم إلى اللَّه زلفى؛ كقوله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ. . .) الآية.

(68)

وقوله: (وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) أي: بما أوحى إليكم مُحَمَّد من اللَّه تكفرون. أو أن يكون قوله: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي: بالشرك يؤمنون (وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) أي: بتوحيد اللَّه يكفرون. أو أن تكون النعمة - هاهنا - هي أن قرآن، أو ما ذكرنا، وهو مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) قد ذكرنا أن حرف الاستفهام من اللَّه يخرج على وجهين: على الخبر مرة، وعلى الإيجاب تارة والإلزام: أي: اعلموا أن ليس أحد من المفترين أظلم ممن افترى على اللَّه. وعلى الخبر: أي: قد علمتم أن ليس أحد من المفترين أظلم ممن افترى على اللَّه؛ إذ قد عرفتم بعقولكم قبح الافتراء والكذب فيما بينكم، فلا كذب ولا افتراء أوحش أو أقبح من الافتراء على اللَّه، فكيف افتريتم عليه وهو أوحش وأقبح؟!. وقوله: (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ) يحتمل: (كَذَّبَ بِالْحَقِّ) برسول اللَّه، أو بالقرآن الذي عجزوا عن إتيان مثله، أو بالتوحيد، أو كذب بالحق الذي ظهر حقه وصدقه لما جاءه. وقوله: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) كأنه يقول: اعلم أن جهنم مثوى للكافرين؛ يذكره على التصبر على أذاهم، والتسلي له بما كان يضيق صدره لمكان تركهم الإيمان والإياس منهم. وقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) يشبه أن يكون هذا صلة قوله: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي: ليس من أجهد نفسه في طلب الدنيا والعمل لها إلا لهوًا ولعبًا، وأما من أجهد نفسه لله وطلب مرضاته فهو حق وله دار الحياة التي لا موت فيها ولا انقطاع. ويشبه أن يكون على الابتداء لا على الصلة بالأول؛ يقول والذين جاهدوا أنفسهم في هواها وشهواتها وأمانيها حقيقة ابتغاء مرضات اللَّه وطلب الهداية والدِّين وسبيله (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) ذكر السبل - هاهنا - لما سبق ذكر الجماعة، يقول: الذين جاهدوا فينا لنهدينهم كلا سبيلا فيكون سبلا للكل، وأما قوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أن السبل على الإطلاق على غير تقدم ذكر من الهدى، أو شيء من الإضافة إلى اللَّه - هي سبل الشيطان، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) يحتمل قوله: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) في التوفيق لهم في الإحسان والأعمال الصالحة. أو مع المحسنين في النصر لهم والمعونة لهم مع أعدائهم. أو مع المحسنين يحفظهم ويتولاهم.

ثم لم يفهم أحد من الخلق من قوله: (لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) و (مَعَ الْمُتَّقِينَ) ما يفهم من الخلق وذوي الأجسام والجثات، فكيف فهم بعض الناس من قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، (وَجَاءَ رَبُّكَ)، و (يَأتِيَهُمُ اللَّهُ)، في كذا ما يفهم من استواء الخلق ومجيئهم وإتيانهم؟! ليعلم أن فهم ذلك على ما يفهم من الخلق بعيدٌ محال، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة الروم

سُورَةُ الرُّومِ كلها مَكِّيَّة وهي ستون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) وفي بعض القراءات: (غَلَبَتِ الرُّومُ) بفتح الغين على المستقبل. يذكر أهل التأويل: أنه إنما يذكر هذا؛ لأن المشركين كانوا يجادلون وهم بمكة، يقولون: إن الروم أهل الكتاب وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل على نبيكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم، فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية: (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ. . .) الآية، لكن يذكر في آخره: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ)؛ فلا يحتمل فرح المؤمنين بغلبة الروم على فارس، ويسمى ذلك: نصر اللَّه وهم كفار، وغلبتهم عليهم معصية، اللهم إلا أن يكون فرحهم بما يظهر الإيمان بكتب اللَّه وتصديقها والعمل بها، وهم كانوا أهل كتاب، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان بعث مصدقًا بكتب اللَّه وبرسله أجمع، ففرحوا بذلك، فإن كان كذلك فجائز الفرح بذلك وتسميته نصر اللَّه. وأما على الوجه الذي يقولون هم فلا. وعندنا: أن في ذلك آية عظيمة في إثبات رسالة نبينا مُحَمَّد - صلوات اللَّه عليه - ونبوته وصدقه ما لم يجد الكفار فيه مطعنا، ولا النسبة إلى الكذب والافتراء، على ما قالوا وطعنوا في سائر الآيات والأنباء، كقولهم: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، ونحو ذلك من المطاعن التي طعنوا في القرآن والأنباء المتقدمة؛ حيث قالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، مثلها لم يجدوا فيما أخبر من غلبة الروم على فارس؛ لأنه أخبر عن غلبة ستكون وستحدث لا عن غلبة قد كانت،

ومثل هذا لا يدركه البشر ولا يستفاد منهم؛ إذ لا يبلغه علم البشر ولا يدرك بالقياس بالسابق من الأمور، فإذا كان على ما أخبر دل أنه باللَّه علم ذلك، وبوحي منه إليه عرف ذلك. وهم جائز أن يستدلوا بما كان من قبل من غلبة فارس على الروم أن يقولوا: تغلب فارس على الروم بما شاهدوه مرة أو بوجوه أخر يستدلون بذلك؛ من نحو أن يقولوا: إنهم أهل كتاب وعبادة يكونون مشاغيل بالنظر فيها والعمل ببعض ما فيها لا يتفرغون للقتال والحرب. أو أن يقولوا: إنهم نصارى - أعني: أهل الروم - وليس في سنتهم ومذهبهم القتال والحرب، فيستدلون بمثل هذه الوجوه على أن لا غلبة تكون لهم ولا ظفر. وأمَّا أهل الإسلام ليس لهم شيء من تلك الوجوه ولا بغيرها وجه الاستدلال بغلبة أُولَئِكَ، فما قالوا ذلك إلا وحيًا من اللَّه إليه وإعلامًا منه إياه، فكان في ذلك أعظم آية لصدق رسوله وأكبرها فيكون فرح المؤمنين وذكر نصر اللَّه بإظهار تلك الآية في تصديق رسوله؛ إذ نصر رسوله حيث أظهر صدقه ورسالته. وقوله: (غُلِبَتِ) و (غَلَبَت): (غُلِبَتِ) على الماضي؛ لما كان من غلبة فارس على الروم، و (غَلَبَت) بالفتح على المستقبل؛ أي: تغلب الروم على فارس، وهو كقوله: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، على الأمر في المستقبل، (بَاعَدَ بين أسفارنا) على الخبر، فعلى ذلك الأول. وقوله: (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) قيل: أقرب إلى أرض فارس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَدْنَى الْأَرْضِ) أي: أدنى أرض الشام. وقيل: الأرض التي تلي فارس، واللَّه أعلم. وفي قوله: (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) وفي قوله: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) وجوه على المعتزلة: أحدها: يقال لهم: وعد أن يغلب الروم على فارس، وقد أراد أن يخرج ما وعد حقًا صدقًا أم لا؟ فإن قالوا: لا، فقد أعظموا القول وأفحشوه؛ حيث زعموا أنه أراد ألا يفي بما وعد أنه يكون. وإن قالوا: نعم، قيل: دل أنه أراد ما فعلوا، وإن كان الفعل منهم فعل معصية

وخلاف؛ إذ محاربة كل فريق أصحابهم معصية؛ إذ لم يؤمروا بذلك، وانما أمروا بالإسلام، فدل أن اللَّه مريد لما يعلم أنه يكون منهم، وإن كان ما يكون منهم معصية. والثاني: ما أخبر بفرح المؤمنين بغلبة هَؤُلَاءِ على أُولَئِكَ أيّ جهة كان فرحهم لإثبات آية عظيمة على رسالة نبيهم ونبوته؛ على ما ذكرنا أولا أنهم كانوا أهل كتب اللَّه ودراستها أحبوا غلبتهم عليهم، وفرحوا بذلك، ولا يحتمل أن يفرحوا بذلك ولم يأمرهم بذلك، ولا أراد منهم ذلك دل أنهم إنما فرحوا بذلك لما أراد ذلك. والثالث: في قوله: (بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ) دلالة: أن لله في فعل العباد صنعًا وتدبيرًا حيث ذكر فعل بعضهم على بعض، ثم سمّى: نصر اللَّه؛ دل أن له في ذلك تدبيرًا. وقوله: (فِي بِضْعِ سِنِينَ) قيل: البضع: سبع. وقيل: ما دون العشر فهو بضع، وكذلك ذكر في الخبر أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما خاطر المشركين وبايعهم في ذلك بخطر في سنين ذكرها، فمضت تلك المدة ولم تغلب الروم على فارس، فقال رسول اللَّه على لأبي بكر: " أما علمت أن ما دون العشر بضع كله، فزد في الأجل، وزد في الخطر "، ففعل ذلك، فلم تمض تلك السنون حتى ظهرت الروم على فارس. وفي بعض الحديث قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لم تكونوا أن تؤجلوا أجلا دون العشر؛ فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر، فزيدوهم ومادوهم في الأجل " ففعلوا حتى ظهرت الروم على فارس. . . فذكر الحديث. ثم المسألة في المخاطرة التي كانت بين أبي بكر وبين أُولَئِكَ الكفرة: أحدها: أن مكة كانت يومئذ دار حرب؛ دليله: قوله: (وَإِذْ يَمكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الآية، وذلك كان قبل الهجرة، وما أمر بالهجرة -أيضًا- إلى المدينة، ونحوه كثير، وذلك كان كله قبل غلبة الروم على فارس، فإذا كانت مكة يومئذ دار حرب

(5)

جازت المخاطرة في العقول في دار الحرب فيما بينهم وبين أهل الحرب، وإن كان مثلها في دار الإسلام غير جائز، وهذا يدل لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - في إجازته عقد الربا في دار الحرب فيما بينهم وبين أهل الإسلام، وإن كان مثله في دار الإسلام غير جائز. والثاني: جاز ذلك يومئذ وإن كانت فيه جهالة أسنان الإبل، والجهالة في العقود إنما تبطل العقود، لخوف وقوع التنازع بينهم في الدِّين، فأما في الأموال فقلما يقع؛ لما ذكرنا. ومنهم من يقول: كان جائزا ذلك في الجاهلية، فأمَّا اليوم فقد جاء النهي عن القمار فنسخه، وإنما عرف النهي عن الميسر، والميسر هو القمار؛ فيكون النهي عن الشيء نهيًا عما هو في معناه، واللَّه أعلم. وقوله: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ) غلبة فارس الروم (وَمِنْ بَعْدُ) غلبة الروم فارس. ويقال: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ) وحين ظهرت فارس على الروم (وَمِنْ بَعْدُ) ما ظهرت الروم على فارس. وجائز أن يكون قوله: (لِلَّهِ الْأَمْرُ) في خلقه؛ أي: التدبير فيه، وله الأمر فيهم؛ أي: ليس لأحد في الخلق أمر ولا تدبير، وإنما ذلك له؛ كقوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ): له التدبير فيهم والأمر. وفي قراءة من قرأ (غَلَبَتِ الرُّومُ) بالنصب يكون قوله: (وهم من بعد غلبهم سَيُغْلَبُونَ) حين تظاهر عليهم المسلمون في آخر الزمان حين تفتح قسطنطينية. وفي حرف ابن مسعود وحفصة: (في بعض سنين قريبًا). وقوله: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ ... (5) فَرَحُ المؤمنين بنصر اللَّه حيث نصر رسوله بإظهار ألاية له في إثبات الرسالة والنبوة وصدقه، وذلك النصر له، وما يقول بعض أهل التأويل: نصر الروم على فارس - بعيد؛ لأن ما كان الفعل فعل معصية لا يقال: نصر اللَّه، وإنما يقال ذلك فيما كان الفعل فعل طاعة، والوجه فيه ما ذكرنا: أنه نصر رسوله بما ذكرنا. وقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ذكر العزيز على إثر ما سبق؛ لأنه عزيز بذاته، فهلاك من هلك من عبيده لا يوجب وهنًا ولا نقصًا في ملكه وسلطانه، ليس كهلاك بعض عبيد

(6)

ملوك الأرض وأتباعه وحشمه؛ لأن ملوك الأرض أعزاء بهم، فإذا هلك ذلك ذهب عزهم، فأمَّا اللَّه - سبحانه وتعالى - إذ هو عزيز بذاته لا بشيء، فهلاك من هلك من عبيده لا يوجب نقصًا لذلك فيه. وقوله: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) إنما يكون خلف الوعد في الشاهد لإحدى خصال ثلاث: إما لندامة استقبلته فيما وعد فتمنعه تلك الندامة عن إنجاز ما وعد، وحفظ الوفاء له. وإما لحاجة وقعت له فيما وعد فتمنعه تلك الحاجة عن وفاء ما وعد وإنجاز ما يطمع. وإما لعجز يكون به لا يقدر على إنجاز ما وعد، فيحمله عجزه عن وفاء ما وعد وإنجازه، فإذا كان اللَّه - سبحانه - يتعالى عن الوجوه التي ذكرنا فإن ما وعد لم يحتمل الخلف منه، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) يحتمل قوله: (لَا يعْلَمُونَ) لما لم ينظروا ولم يتفكروا في الأسباب التي هي أسباب العلم بعدما أعطاهم أسباب العلم، لكنهم إذا تركوا النظر في الأسباب والتفكر فيها لم يعلموا، فلم يعذروا بذلك لتركهم النظر والتفكر فيها. ويحتمل قوله: (لَا يَعْلَمُونَ) أي: لا ينتفعون بما علموا، فنفى عنهم العلم؛ لما لم ينتفعوا بهذه الحواس وإن كانت لهم هذه الحواس. وقوله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) يحتمل قوله: ظاهر الأشياء في المنافع، ولا يعلمون باطن المنافع بم؟ وكيف؟ نحو ما يعلم أن الماء به حياة الأشياء، ويعلمون أن بالطعام قوام الأبدان، ولكن لا يعلمون قدر منفعته وكيفيته وما في سرية ذلك من المنافع، وكذلك السمع والبصر واللسان لا يعلم حقيقة ذلك وكيفيته، وإن كان يعلم أنه بها يسمع ويبصر ويتكلم ويفهم. وجائز أن يكون قوله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا): منافع الحياة الدنيا، وعن منافع الآخرة هم غافلون، وإنَّمَا أنشئت منافع الدنيا لا لتكون لها، ولكن ليعلموا بها منافع الآخرة. وابن عَبَّاسٍ والكلبي وهَؤُلَاءِ يقولون: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) قالوا: يعلمون معايشهم، وتجاراتهم، وحرفهم، وجميع الأسباب والمكاسب والحيل التي بها تقوم أمور دنياهم (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) أي: لا يؤمنون بها، واللَّه أعلم.

(8)

قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) وقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) قد ذكرنا في غير موضع أن كل استفهام من اللَّه وسؤال يخرج على الإيجاب والإلزام؛ ثم الإيجاب يخرج على وجوه: أحدها: أن قد تفكروا ونظروا واعتبروا وعرفوا أنه ما خلق اللَّه السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، لكنهم عاندوا، وكابروا، ولم ينقادوا، ولم يقروا. والثاني: يخرج على الأمر؛ أي: تفكروا وانظروا واعتبروا؛ لتعلموا أنه ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق. والثالث: على الخبر أنهم لم يتفكروا، ولم ينظروا، ولم يعتبروا، ولو تفكروا واعتبروا لعلموا أنه ما خلق اللَّه السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، لكنهم لم يتفكروا، ولم ينظروا بعدما أعطوا أسباب العلم به، فلم يعذروا بترك التفكر والنظر والاعتبار. وعلى هذه الوجوه الثلاثة يخرج قوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ونظروا، وعلموا ما حل بالمكذبين بالتكذيب، وما صار عاقبة أمرهم. أو سيروا في الأرض على الأمر؛ لتعرفوا ما أصاب أُولَئِكَ بالتكذيب. أولم يسيروا في الأرض - على ما ذكرنا - لئلا يعلموا عاقبة أُولَئِكَ. ثم قوله: (إِلَّا بِالْحَقِّ) قيل فيه بوجوه: أحدها: أن ما خلق اللَّه السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الذي عليهم من الشكر له فيما أنعم عليهم، والتعظيم له والتجيل. والثاني: (إِلَّا بِالْحَقِّ) الذي لله عليهم من الشكر له فيما عليهم؛ أي: ما يحمد بفعله

(9)

عاقبة ما لولا تلك العاقبة لكان لا يحمد؛ إذ في الحكمة التفريق بين الولي والعدو، وقد أشركهم جميعًا في هذه الدنيا بين الولي والعدو، ولو لم يجعل دارًا أخرى يفرق فيها بينهما لكان لا يحمد فيما أشركهم فيها. والثالث: (إِلَّا بِالْحَقِّ) أي: بالبعث؛ لأنه لو لم يكن البعث لكان خلقه السماوات والأرض وما بينهما لعبًا باطلا لا حقًّا، كقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا). وقوله: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) سمى البعث: لقاء الرب، والمصير إليه والرجوع إليه، والبروز إليه، والخروج، وإن كانوا في الأوقات كلها بارزين له، خارجين، صائرين إليه، راجعين؛ لأن خلقه إياهم إنما صار حكمة لذلك البعث، والمقصود بخلقهم ذلك البعث؛ لذلك سمي البعث بما ذكرنا. وقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) هو يخرج على الوجوه التي ذكرنا في قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ). وقوله: (كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) يذكر أهل مكة ويوبخهم في تكذيبهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسوء معاملتهم إياه بما ذكر من القرون الماضيهَ أنهم مع شدتهم، وقوتهم، وبطشهم، وكثرة أتباعهم وحواشيهم وأموالهم، وطول أعمارهم وبنيانهم - لم يتهيأ لهم الانتصار والامتناع عن عذاب اللَّه إذا حل بهم بتكذيبهم الرسل؛ فأنتم يا أهل مكة دونهم في القسوة والبطش والحواشي والأتباع، فكيف يتهيأ لكم الانتصار والامتناع من عذاب اللَّه إذا كذبتم الرسول، واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وجائز أن يكون على التقديم والتأخير، (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى) مقدمًا على قوله: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) يقول: ما حل بهم من العذاب وعذبوا في هذه الدنيا بتكذيبهم، لم يظلمهم اللَّه، ولكن ظلموا أنفسهم بما أساءوا. ويحتمل أن يكون قوله: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) في تعذيبهم في الدنيا (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ثم يكون قوله: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى) في الدنيا (السُّوأَى) في الآخرة في النار، فيكون في الدنيا ما عذبوا في الدنيا عذاب عناد ومكابرة، وما يعذبون في الآخرة تعذيب كفر وتكذيب، وهو ما قال: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ) أي: كربوا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها

(10)

قومك يا مُحَمَّد؛ أي: بقوا فيها أكثر مما بقي فيها الذين أرسلت إليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عاشوا يعمرون الأرض أكثر مما عمرها أهل مكة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عمروها: عملوا بها أكثر مما عمل هَؤُلَاءِ. وبعضه قريب من بعض. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ) أي: حرثوها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أثاروا: أي: قلبوها للزراعة، ويقال للبقرة: المثيرة، وقال اللَّه - تعالى -: (لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ). وقوله: (أَسَاءُوا السُّوأَى) أي: جهنم. وكذلك قال الكسائي: (السُّوأَى): هي النار؛ كقوله: (وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) أي: كان عاقبتهم النار بما كذبوا بآيات الله واستهزءوا بها. وقوله: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ (10) يحتمل قوله: أساءوا إلى الرسل بالتكذيب وأنواع الأذى. ويحتمل: أساءوا إلى أنفسهم؛ حيث أهلكوها وأوقعوها في النار. و (السُّوأَى): اسم من أسماء النار: كالعسرى، والهاوية، ونحوهما، واليسرى والحسنى اسمان من أسماء الجنة. وقوله: (أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) يذكر أهل مكة ويخوفهم أن ما حل بأُولَئِكَ القرون الماضية من الإهلاك والاستئصال إنما كان بتكذيب الآيات والاسثهزا - بها في هذه الدنيا، فأنتم يا أهل مكة إذا كذبتم الآيات والحجج واستهزأتم بها يصيبكم ما أصاب أُولَئِكَ بالتكذيب. والآيات: يحتمل: حجج التوحيد وحجج الرسل في إثبات الرسالة أو آيات البعث. وقوله: (وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ) يحتمل بالآيات التي ذكرنا، أو ما أوعدهم الرسل من العذاب والإهلاك، فاستهزءوا بذلك. وقوله: (اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) هذا في الظاهر دعوى، لكنه قد بين فيما تقدم من الآيات ما يلزمهم الإعادة والإحياء من (¬1) ¬

_ (¬1) في نهاية هذه الصفحة يوجد مقطع مكرر في بداية الصفحة التالية تم حذفه. (مصحح النسخة الإلكترونية).

(12)

بعد الموت؛ حيث قال: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ. . .) الآية. وفي قوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) وغيرها من الآيات ما ألزمهم من الآيات أنه لو لم يكن له إعادة وبعث كان خلقهم عبثًا باطلا، خارجًا عن الحكمة، والقدرة في ابتداء الإنشاء، إن لم تكن أكثر لا تكون دون الإعادة، فمن ملك وقدر على الابتداء كان على الإعادة أقدر؛ إذ إعادة الشيء عندكم أهون وأيسر من ابتداء إنشائه، على ما ذكر في قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ). وقوله: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ذكر الإعادة والإحياء بعد الموت والرجوع إليه؛ لما ذكرنا أن المقصود في خلقهم في هذه الدنيا الإعادة والإحياء؛ لذلك سمى الإعادة: الرجوع إليه والمصير والبروز له، وإن كانوا في جميع الأحوال صائرين إليه، راجعين، بارزين له، خارجين. وقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) قَالَ بَعْضُهُمْ: الإبلاس: هو الإياس. مبلسون: أي: يائسون في الآخرة عما كانوا يطمعون بعبادتهم تلك الأصنام والأوئان في هذه الدنيا؛ حيمث قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤنَا عَندَ اللَّهِ) ونحوه؛ يقول: يائسون في الآخرة عما طمعوا بعبادتهم في الدنيا حين شهدوا عليهم، وكفروا بهم، وجعلوا يلعنون عليهم، ويتبرءون منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يائسون من كل خير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإبلاس: هو الفضيحة أي: يفتضحون بما عملوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المبلس: كل منقطع رجاؤه ساكت كالمتحير في أمره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أن مبلس: كل آيس حزين. وقوله - تعالى -: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ ... (13) هو ما ذكرنا: أن الأصنام التي عبدوها وسموها: آلهة لا تشفع لهم (وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ) يحتمل هذا وجهين: أي: الأصنام بهم كافرون. أو هم يكفرون بالأصنام إذا لم يشفعوا لهم وصاروا شهداء عليهم. أو كل يكفر بصاحبه؛ كقوله: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ

(14)

بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) سمى اللَّه - تعالى - ذلك اليوم: يوم الجمع بقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ)، وسمي: يوم الافتراق، فهو يوم الجمع في أول ما يبعثون ويحشرون، ثم يفرق بينهم تفريقًا لا اجتماع بينهم أبدًا؛ كقوله: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، فهو يوم الجمع في حال ووقت، ويوم الافتراق في حال ووقت آخر، وبعض أهل التأويل يقولون: قوله: (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) العابد والمعبود، والتابع والمتبوع، بعدما كانوا مجتمعين في الدنيا، وهو ما ذكر في آية أخرى: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ. . .) الآية؛ فهذا تفرقهم على قول بعضهم، والوجه فيه ما ذكرنا بدءًا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) آمنوا بكل ما أمروا أن يؤمنوا به، وعملوا بكل ما أمروا أن يعملوا (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) والروضة كأنها اسم من أسماء الجنان. وقوله: (يُحْبَرُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يكرمون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحبرون: يسرون، والحبرة: السرور، ومنه يقال: " كل حبرة يتبعها عبرة ". والزجاج يقول: يحبرون: يتنعمون، والحبرة: النعمة الحسنة، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) أي: جحدوا توحيد اللَّه وأنكروه (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) يحتمل: (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): آيات التوحيد، وآيات الرسالة، وآيات البعث (فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) أي: يحضر الأتباع والمتبوع جميعًا في النار ويجمع بينهم، كقوله: قوله تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا. . .) الآية، وقوله: (فَبِئْسَ الْقَرِينُ)، و (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ). * * * قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ

(17)

آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) قوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ) فهمت الأمة من قوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ): الصلاة؛ أي: صلوا لله، ولو كانت أفهام أهل زماننا هذا لكانوا لا يفهمون سوى التسبيح المذكور. ثم يحتمل ثسميتهم التسبيح: صلاة، وفهمهم منه ذلك لوجهين: أحدهما: لما في الصلاة تسبيح، فسموها بذلك؛ لما فيها ذلك. أو لما أن التسبيح تنزيه، والصلاة من أولها إلى آخرها تنزيه الربّ؛ لأن فيها إظهار الحاجات إليه والعجز والضعف، وفيها تعظيم الرب وإجلاله، ووصفه بالجلال والرفعة، فقهموا من التسيح الصلاة؛ لما ذكرنا؛ لما هي تنزيه للرب من أولها إلى آخرها. ثم منهم من قال: إن الصلوات الخمس ذكرت في هذه الآية بقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ): صلوات المغرب والعشاء الآخرة (وَحِينَ تُصْبِحُونَ): صلاة الفجر (وَعَشِيًّا) صلاة العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر. ومنهم من يقول: لا؛ بل ذكرت فيها أربع صدوات: حِينَ تُمْسُونَ): المغرب (وَحِينَ تُصْبِحُونَ): الفجر (وَعَشِيًّا): العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ): الظهر، وأمَّا العشاء الآخرة ففي قوله: (وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يحتمل قوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ) على التقديم والتأخير يقول: سُبْحَانَ اللَّهِ وله الحمد؛ فيكون الحمد كناية عن الصلاة كالتسبيح. أو لما فيها من التحميد. أو يقول له يحمد أهل السماوات والأرض، واللَّه أعلم. وقوله: (حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أي: إذا دخلوا في المساء والعشاء والصبح والظهر. وقوله: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) يخبر عن قدرته في إنشاء الأشياء مبتدئًا، لا من أصل؛ لأنه قال: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) والميت ليس فيه الحياة، وكذلك

(20)

الميت من الحي، وليس في الحي موت، ولكنه يخرج هذا من هذا على ابتداء الحياة فيه، وابتداء الموت فيه من غير أن كان فيه ما ذكر. ثم اختلف فيه أهل التأويل: قَالَ بَعْضُهُمْ: يخرج الناس والدواب والطير من النطف، (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ) يعني: النطف (مِنَ الْحَيِّ) من الناس والدواب والطير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي: المسلم من الكافر (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي: الكافر من المسلم. ولكن يجيء على هذا أن يقول: يخرج من المسلم ما يكون كافرًا، ومن الكافر ما يصير مسلمًا؛ لأن ما يخرج لا يوصف بالإسلام، ولا بالكفر، ولا ينسب إلى واحد منهما وقت الخروج حتى يبلغ فيكون منه فعل الكفر أو فعل الإسلام، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وفي الآيات التي تقدم ذكرها؛ من نحو قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ. . .) الآية، وقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، وأمثال ذلك مما يذكر ويخبر أُولَئِكَ الكفرة عن قدرته وسلطانه، وألزمهم ذلك. وفي الآية نقض قول المعتزلة؛ لأنهم لا يملكون القدرة على فعل بعوضة، فلا يكون لهم الاحتجاج على أُولَئِكَ الكفرة في القدرة على الإعادة والإنشاء بعد ما صاروا رمادًا، أو كلام نحو هذا. وقوله: (وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) أي: كذلك تبعثون وتحيون، كما أخرج الحيّ من الميت والميت من الحيّ، من غير أن كانت الحياة في الميت والموت في الحي، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) يحتمل: آيات وحدانيته وربوبيته وحججه، وآيات بعثه وإحيائه، وآيات رسالة الرسل، ونحوه. وقوله: (أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) ويخرخ على وجوه: أحدها: نسب خلقنا إلى التراب؛ لأنا إنما خلقنا من أصل، خلق ذلك الأصل من التراب، وهو آدم، وإن لم تكن أنفسنا مخلوقة من تراب حقيقة، كما نسب خلقنا إلى النطفة وإن لم يخلق أنفسنا كما هي من النطفة، لكنه أضاف ذلك ونسب إلى النطفة؛ لما هي أصل ما خلقنا منها. والثاني: نسبنا إلى التراب؛ لما جعل أغذيتنا وما به قوام أنفسنا وأبداننا في الخارج من

(21)

التراب، فإنما هو إخبار عما به قوام أنفسنا وأبداننا، وإن لم نخلق من التراب من الأصل، فيخبر - واللَّه أعلم -: أنكم لا تصورون خلق الجسم إن لم تشاهدوا تلك الطينة التي منها تتكون الأجسام بعد مشاهدة طينتها، ومعاينتكم إياها، ورأيتم القدرة له على خلقها قبل أن تشاهدوا طينتها. والثالث: نسب خلقنا إلى التراب، وهو آدم؛ على ما ذكرنا، إلا أن قوله: (خَلَقَكُمْ) أي: قدركم من ذلك الأصل، والتخليق: هو التقدير في اللغة، وذلك جائز في اللغة، وإنما قدرنا على تقدير ذلك الأصل، وذلك جائز نسبتنا وإضافتنا إلى التراب، إن صح ما ذكر في بعض الأخبار ذكر: " أن ملكًا يأتي بكف من تراب، فيذره في تلك النطفة في رحم المرأة، فيخلق منه حينئذ الولد "، فإن صح هذا فيكون خلق جميع الناس وأصلهم من تراب. وقوله: (ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي: ثم إذا أنتم ذريته من بعده بشر تنبسطون؛ كقوله: (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ)، أي: يبسط. أو (تَنْتَشِرُونَ)، أي: تتفرقون في حوائجكم، وفي طلب أغذيتكم، وما به قوام أنفسكم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) أي: من أجناسكم وأشكالكم (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) يقول: إنما جعل ما تسكنون إليه وتتألفون من جنسكم وشكلكم ما تعرفون، لم يجعل في غير جنسكم وشكلكم ما تعرفون؛ كقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)، أي: من جنسكم وشكلكم من تعرفون صدقه وثقته وأمانته ما لو كان من غير جنسكم وشكلكم لا تعرفونه؛ فعلى ذلك جائز قوله: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) أي: من جنسكم ما تسكنون إليها، وتستأنسون بها ما لو كانوا من غير جنسهم لا يكون ذلك؛ إذ يستأنس كل ذي شكل بشكله وجنسه. والثاني: ما ذكرنا أنه أراد آدم وحواء؛ أي: خلق زوجته حؤاء من نفسه، فجعلها له سكنًا يسكن إليها، وششأنس بها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) أي: بينكم وبين الأزواج (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) يحتمل قوله: (مَوَدَّةً) وجهين: أحدهما: يودها؛ لما جعل له موضعًا لقضاء شهوته وحاجته، وكذلك هي توده

(22)

لذلك، (وَرَحْمَةً) أي: يرحم بعضهم بعضًا، ويتحنن إليه، إذا نزل بواحد منهما ما يمنع قضاء الشهوة والحاجة. والثاني: يود بعضهم بعضًا ويرحم بالطبع والخلقة؛ إذ كل ذي طبع يود شكله وجنسه إذا كان في حال السعة والرخاء والسرور، ويرحمه إذا نزل به البلاء والشدة؛ هذا معروف عند الناس أن يتراحم بعضهم على بعض في حال نزول البلاء والشدة، وتوادهم في حال السعة والسرور. وقال الحسن: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً) أي: الجماع (وَرَحْمَةً) أي: الولد. فكيفما كان فهو يخبر عن لطفه ومنته؛ حيث جعل بين الزوج والزوجة المودة والرحمة على عدم القرابة والرحم، وبعد ما بينهما؛ فصارا لما ذكرنا في المودة والرحمة كالقريبين وذَوَي الرحمين وأقرب القريب، وذلك على المعتزلة؛ لأنه أخبر أنه (جَعَلَ): بينهم مودة ورحمة، وذلك فعل الزوجين في الظاهر، ثم أضاف ذلك إلى نفسه، وأخبر أنه (جَعَلَ) دل أن له صنعًا في ذلك؛ فيبطل قولهم: إن ليس لله صنع في فعل العباد، ويبطل اللطف الذي ذكر أنه جعل بينهم. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ) لما ذكرنا من آيات وحدانيته وربوبيته، وآيات البعث والنشور، أو آيات الرسالة والنبوة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لقوم ينتفعون، وهم المؤمنون، أو (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ويتدبرون ويعتبرون، فيعرفون، فأما من لا يتفكر ولا يتدبر فلا ينتفع به، فهو ليس بآيات له، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) آيات وحداتيته وربوبيته وألوهيته، وآيات بعثه. وقوله: (خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) في خلق السماوات ورفعها في الهواء وإقرارها فيه آية؛ لأنه غير موهوم مثله من فعل الخلق وقدرتهم، وهكذا خلق الأرض وبسطها وإقرارها على الماء، أو على الريح خارج عن فعل الخلق ومن قدرتهم، غير موهوم ذلك في أوهامهم وعقولهم من غير الواحد العالم القادر بذاته، فإذا كان ما ذكر غير موهوم في أوهامهم وعقولهم من غير اللَّه فهم إنما أنكروا البعث لما لم يعاينوا ذلك ولا شاهدوا في أوهامهم، فكيف أنكروا البعث وإن كان غير موهوم ذلك في أوهامهم، بعد أن كان ذلك موهومًا من اللَّه، مشاهدًا، معاينا لمثل هذا؟! واللَّه أعلم بذكر هذا.

(23)

وقوله: (وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) كأنه يقول: وفي خلق اختلاف ألسنتكم آياته أيضًا؛ لأن الألسن بحيث خلقة الألسن غير مختلفة، ولكن إنما تختلف بحيث النطق والتكلم حتى لا يقع في التكلم بها والنطق والصوت تشابه بحال، وخروجه عما يقدرون من الكلام، وإن كانت بحيث خلقتها واحدة غير مختلفة. وهذا على المعتزلة؛ لقولهم: إن أقوال العباد غير مخلوقة، لا صنع لله فيها، فلو لم يكن له فيما يتكلمون وينطقون على اختلاف ذلك صنع؛ فلا آية تكون له في ذلك، فدل أنه صار آية له؛ لما له صنع في ذلك، وكذلك فيما تختلف الألوان بفعل يكون من الخلق وتتغير عند الغضب والسرور والفرح، ثم أخبر أن ذلك آياته دل أنه خالق لأفعالهم وأقوالهم حتى كان آية له واللَّه أعلم. وأهل التأويل يقولون: (وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ): عربي، وعجميّ، ونبطي، وتركي، ونحوه (وَأَلْوَانِكُمْ): أبيض، وأحمر، وأسود، ونحوه، وأصله ما ذكرنا أن في ذلك لآيات للْعَالِمِينَ؛ جائز أن يكون آيات لمن انتفع به من الْعَالِمِينَ، أو آية لمن تفكر وتدبر من الْعَالِمِينَ؛ لأنه إذا تفكر وتدبر عرف وجه الآية في ذلك. وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) لأن النوم يأخذهم من غير أن يعرفوا أنه من أين مأتاه ومأخذه، ثم يأخذ منهم جميع منافع الأحياء: من السمع، والنطق، والفهم، والرؤية، وجميع ما تنتفع به قبل ذلك، ثم يرد ذلك إليهم من غير أن عرفوا بذلك فيعودون إلى ما كانوا من المنافع والأكساب؛ ليعلم أن من قدر على مثل هذا يقدر على أخذ الروح ونفسه ورده إليه، فهو أخو الموت؛ قال اللَّه - تعالى -: (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)، سمى النوم: الوفاة، وهو مثله؛ لما ذكرنا أن جميع منافع الأحياء ترتفع وتزول بالنوم ثم ترد إليهم من غير أن يشعروا بذلك، فمن قدر على هذا يقدر على الإحياء بعد الموت. وقوله: (وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) جهة الآية فيما ينتفعون من فضله هو خلقه تلك المكاسب والتجارات والحرف التي يبتغون بها الرزق؛ أخبر أنه خلق ذلك منهم؛ ففيه دلالة خلق أفعال العباد؛ فهو على المعتزلة؛ لإنكارهم خلق أفعالهم. أو أن تكون جهة الآية فيه ما عرفهم تلك المكاسب والتجارات والحرف، وعلمهم إياها وأحوجهم إليها؛ ليصلوا إلى منافعهم، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) يحتمل قوله: (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي: ينتفعون بسمعهم، أو لقوم يجيبون.

(24)

والسمع يجوز أن يعبّر به عن الإجابة؛ كقوله: " سمع اللَّه لمن حمده "؛ أي: أجاب اللَّه لمن دعاه. أو أن يكون قوله: (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي: يعقلون، ويجوز العبارة به عنه؛ كقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي: يعقلون، ويقال: (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) المواعظ فيقبلونها فينتفعون بها. وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) قيل فيه بوجهين: أحدهما: يريكم البرق للخوف والطمع: تخافون سلطانه وقدرته أن يصيبكم ذلك البرق فيذهب بأبصاركم، وطمعًا ترجون رحمته بصرفه عنكم. والثاني: (خَوْفًا وَطَمَعًا) أي: يريكم البرق فتخافون وتطمعون؛ يخاف المسافر قطع مسيره ومنعه عنه، وتطمعون، أي: يكلمع المقيم رحمته ما يكثر به أنزاله ومعاشه. والثاني: تخافون الصواعق، وتطمعون المطر، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) هو ظاهر، قد ذكرناه (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) هو يحتمل ما ذكرنا (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ): ينتفعون بعقولهم، أو (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لو تدبروا وتفكروا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) هو ما ذكرنا أنه قامتا على شيء غير موهوم ذلك في أوهام الخلق قيام شيء من أفعالهم على مثله، وهو الهواء والماء والريح، فكيف حمدهم خروج شيء من أوهامهم على إنكاره وتكذيبه، وهو البعث والإحياء بعد الموت، فمن قدر على أحدهما قدر على الآخر. وقوله: (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير، أي: ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض، والدعوة هو النفخة الآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما ذكر: الدعوة تكون من الأرض من صخرة بيت المقدس، من هنالك يسمعون الذعوة. ثم اختلف في الدعوة، والصيحة، والنفخة، والصور، ونحو ما ذكر: فمنهم من يقول: على حقيقة الدعوة، والصيحة، والنفخة، والصور، على ما ذكر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن ذلك إخبار عن سرعة نفاذ الأمر، وعبارة عن خفة ذلك وهونه؛ كقوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، وقوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، ليس أن كان منه (كافٌ) أو (نونٌ)، لكنه ذكر بأخف حروف يفهم منه المعنى فعلى ذلك ذكر الصيحة والنفخة والدعوة والصور، واللَّه أعلم. وفي قوله؛ (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) دلالة وإخبار أنه قادر على الإنشاء والإحياء بلا سبب؛ لأنه أخبر أنه دعاكم دعوة ثم تخرجون، والدعوة ليست هي سببا للإحياء والإنشاء بل أخبر أنه يخرجهم إخراجًا ثبت أنه ما ذكرنا، وقد ذكرنا في اختلاف الألسن لو لم يكن ما يسمع منهم وما ينطقون يخلق في الحقيقة فإذن آياته عبث؛ لأن الحروف شهد خلقه، ولا جسمه، ولا سمعه، وبما احتج، فيكون بمعنى من يقول: لله آيات في الكلام احتج بها على عبادة الذين لم يطلعهم عليه، ولا سبيل لهم إلى التطلع عليها، وذلك بعيد من العقول، فثبت أن اللَّه قد خلق كل نطق على ما عليه يعرفه المتفكر بما يرى من عجز المتفوه به على التفوه به على التقطيع الذي يقدره في نفسه، وعلى الحد الذي يجب أن يكون عليه دون أن يقع في ذلك تفاوت واختلاف فيعلم أن ذلك كان الآية على ما كان عليه؛ بل باللَّه جل وعلا، ولا قوة إلا باللَّه. وما ذكر من اختلاف فإنا نجده يتغير بالعباد؛ نحو ما يظهر عند شدة الشرور بالشيء غير الذي يظهر عند شدة الغضب متولدًا عن فعلهم وبه قول المعتزلة أو عامتهم أن المتولد هو فعل الخلق، فعلى ذلك القول يكون اللون فعلا لهم بتخليق اللَّه، وأمَّا النوم في اللون فوضع، فالاعتبار إنما هو بابتغائهم من فضله؛ أي: ذلك بما ركب فيهم من الحاجة وأنشأ لهم من الفاقة فيما ذكر من الأغذية بأن ابتغاءها فعلا للخلق، وقد احتج اللَّه - سبحانه وتعالى - على العباد، فأخبر أنه من آياته، ومحال أن يكون حجته ما يخلق غيره دون الذي يخلقه بل يدل خلق كل على منشئه من طريق الخلقة والتدبير، فثبت أن الابتغاء مخلوق يخلقه، واللَّه الموفق. * * * قوله تعالى: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ

(26)

النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (26) حرف " من " إنما يتكلم به ويعبر عمن له الملك والتدبير والتمييز، وحرف " ما " عن ملك الأشياء نفسها، فإذا كان من له الملك في الشيء والتدبير والأمر له فالأملاك أحق أن تكون له. يخبر - واللَّه أعلم - عن غناه وسلطانه وقدرته، أي: من له ما ذكر في السماوات والأرض لا يحتمل أن يمتحنهم ويأمرهم بأنواع العبادات والطاعة لحاجة نفسه؛ إذ هو غني عن ذلك، ولكنه إنما يمتحن ويأمرهم بأنواع العبادة وأنواع المحن لمنافع أنفسهم وحاجاتهم ومصالحهم، فإذا كان له ما ذكر من الملك لا يحتمل أن يعجزه شيء أيضًا. وقوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: القنوت: القيام، والقانت: القائم، فإن كان هذا فتأويله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) أي: قائم بتدبيره وأمره في الوجود والعدم، والابتداء والإعادة، وفي كل حال: إن أوجد وجد، وإن أعدم صار معدومًا، وإن أحياه حيي، ونحوه، في كل حال يقوم بتدبيره وأمره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) أي: مطيعون، فإن كان على هذا ونحوه فهو في كل حال يقوم بتدبيره وأمره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) أي: مطيعون، فإن كان على هذا فهو على طاعة الخلقة له، والشهادة لله بالوحدانية والربوبية، والتدبير له، والعلم في ذلك؛ لأن اللَّه جعل في خلقة كل أحد، وكل شيء، وفي صورته ما يشهد له بالوحدانية والربوبية، ويدل على تدبيره وعلمه وحكمته، فكل له قانت ومطيع بالخلقة والصنعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) أي: خاضعون، فهو يرجع إلى حال دون حال، وهو حال الخوف والضرورة، يخضع له كل كافر ومشرك في تلك الحال، وهو ما أخبر عنهم من الخضوع له إذا ركبوا الفلك؛ حيث قال: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، وقولهم: (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، ونحو ذلك من الأحوال التي كانوا يخضعون له ويطيعون، واللَّه أعلم. وقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ... (27) لا يحتمل أن يخلقهم وينشئهم لحاجة نفسه، أو لمصلحته؛ لأنه غني بذاته، أو يمتحنهم لمنفعة نفسه، أو يأمره لذلك، ولكن

إنما يبدئ ويعيد لحاجة أنفسهم. أو يخبر أن من قدر على ابتداء الشيء يملك إعادته. (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) اختلف فيه: قيل: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) و (هَيِّنٌ) ابتداؤه وإعادته؛ كقوله: (وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، وقوله: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، ويجوز العبارة بأفعل عن فعيل؛ نحو ما يقال: الله أكبر؛ أي: كبير، وأعظم بمعنى: عظيم، ونحوه كثير؛ فعلى ذلك قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي: عليه هَيِّنٌ؛ إذ ليس شيء أصعب على اللَّه من شيء، أو شيء أهون عليه من شيء؛ بل الأشياء كلها بمحل واحد داخل تحت قوله: (كُنْ) وإنما يقال: أهون وأيسر، لمن كان فعله بسبب، فيهون عليه إذا كثرت الأسباب، ويصعب عليه ذلك إذا قلت وضعفت، فأمّا اللَّه - سبحانه وتعالى - فهو الفاعل للأشياء، وصانعها، والقادر عليها بسبب وبلا سبب، فلا جائز أن يقال شيء أهون من شيء، وإنما يجوز ذلك فيمن كان فعله لا يكون إلا بسبب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) في عقولكم، وتدبيركم، وتقديركم؛ أي: إعادة الشيء في عقولكم وتدبيركم أهون من ابتدائه؛ لأن الخلق لا يملكون تصوير ما لم يسبق له المثال والتصور ابتداء، وقد يملكون تصوير الأشياء وتمثيلها إذا سبق لهم مثال رأوه وشاهدوه؛ فثبت أن إعادة الشيء في عقولكم وتدبيركم أهون من ابتدائه، فإذا عاينتم وأقررتم: أنه قادر على ابتدائه فهو على إعادته أملك وأقدر، ولا قوة إلا باللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) يعني: على ذلك الشيء؛ أي: إعادة ذلك الشيء أهون على ذلك الشيء من ابتدائه؛ لأنه في الابتداء ينقله ويحوّله من حال النطفة إلى حال العلقة، ثم من حال العلقة إلى حال المضغة، ثم من حال المضغة إلى حال التصوير والنسمة إلى ما ينتهي إليه، حتى يصير خلقًا وصورة، فيخبر أن إعادته ليس على هذا التقدير والتحويل من حال إلى حال، ولكن كما ذكر: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، وقوله: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) وقوله: (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً)، ونفخة ودعوة وما ذكر، فالإعادة لذلك الشيء أهون على ذلك الشيء من الابتداء. وقوله: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: له الصفات العالية، ثم هو يخرج على وجوه:

أحدها: أن كل موصوف بالعلو والرفعة من دونه فهو الموصوف به في الحقيقة؛ على ما ذكرنا أن كل من حمد دونه؛ فذلك الحمد له في الحقيقة راجع إليه، ذلك كقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ. . .) الآية. والثانى: له الصفة العالية مما يخالف صفات الخلق وشبههم كقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ): لا تشبه صفاته صفات المخلوقين، ولا اشتبهت صفات الخلق صفاته، وهو ما قاله بعض أهل التأويل: الذي لا مثل له ولا شبه، لا إله إلا هو، واحد لا شريك له. والثالث: وله الصفات العالية مما لا يضاد بعضها بعضًا: عالم لا جهل فيه، قادر لا عجز فيه، عزيز لا ذل فيه، وأمثال ذلك مما لا يدخل في ذلك نقصان أو عيب بوجه من الوجوه، ليس كالخلق أنهم يوصفون بالعلم بجهة وبشيء وبالجهل بجهة أخرى وبشيء آخر وبالقدرة بجهة أخرى وبشيء آخر، وبالعجز بجهة أخرى وبشيء آخر، وبالعز بجهة أخرى وبشيء آخر، وبالذل بجهة أخرى وبشيء آخر. فاللَّه - سبحانه وتعالى - موصوف بصفات لا يضاد بعضها بعضًا ولا يدخل في ذلك نقصان بجهة من الجهات، وفي حال من الأحوال؛ لأنه بذاته موصوف بذلك لا بغيره ولا بسبب، وأما غيره فإنما يوصفون بذلك بأسباب وباعتبار يكون لهم؛ لذلك كان ما ذكر، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): الذي لا يلحقه الذل والضرر بمخالفة خلقه إياه وعصيانهم له، ليس كملوك الأرض إذا خالفهم أتباعهم وحواشيهم ورعيتهم يذلون ويلحقهم الضرر بإعراضهم عنهم؛ لأن عزهم كان بهم، فبإعراضهم عنهم ومخالفتهم إياهم يذلون، فأما اللَّه - سبحانه - فهو عزيز بذاته، لا يلحقه الضرر والذل بمخالفة الخلق إياه. أو أن يكون قوله: (الْعَزِيزُ) المنتقم عمن يخالف أمره ويعصيه أو يشرك غيره في ألوهيته وربوبيته. والحكيم: هوالذي لا يلحقه الخطأ في التدبير. يخبر - واللَّه أعلم -: أني وإن خلقتهم وأنشأتهم على علم مني أنهم يخالفونني ويعصونني، وأعنتهم بكل أنواع المعونة، على علم مني بذلك منهم؛ فإن فعله ليس بخارج عن الحكمة كما يكون في الشاهد أن من أعان عدوه بأنواع المعونة، وهو يعلم أن معونته إياه تزيد له قوة في معاداته وعصيانه ومخالفته - هو موصوف بالسفه غير موصوف

(28)

بالحكمة؛ لأنه يسبق في إهلاك نسفه، ويعينه على ذلك بمعونته إياه، ومن يسعى في إهلاك نفسه، فهو غير حكيم. فأما اللَّه - سبحانه - حيث خلقهم وأنشأهم وأعانهم بكل أنواع المعونة على علم منه بما يكون من الخلاف له والعصيان والمعاداة غير خارج فعله عن الحكمة؛ لما ذكرنا أنه لا يلحقه الضرر ولا النقصان بما علم ويكون منهم من الخلاف له والعصيان والمعاداة، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) قَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب لكم مثلًا. من مثل خلقكم، يقول - واللَّه أعلم -: يبين لكم مثلا من أنفسكم: ما لو تفكرتم وتأملتم، لظهر لكم سفهكم بعبادتكم الأصنام دون اللَّه، أو تسميتكم الأصنام باللَّه. ثم يخرج ضرب المثل بما ذكر على وجوه: أحدها: قوله: (هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ)، أي: لم تسووا أنتم أنفسكم بالذي ملكت أيمانكم فيما رزقتم حتى تكونوا أنتم وهم سواء في ذلك؛ فكيف زعمتم أن اللَّه قد سوى نفسه وما ملك من خلقه في ملكه وألوهيته؟! والثاني يقول: هل ترضون أن يكون ما ملكت أيمانكم شركاءكم فيما تملكون من الأموال؟! فإذا لم ترضوا به، فكيف زعمتم أن اللَّه يرضى أن يشرك مماليكه في ملكه وسلطانه؟!. أو يقول: فإن لم ترضوا لأنفسكم إشراك ما ملكت أيمانكم في ملككم، ولم تسووا مماليككم بأنفسكم في - ذلك، فكيف رضيتم ذلك لله، وسويتم نفسه ومماليكه، وعدلتم به من دونه؟! واللَّه أعلم. وقوله: (تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ). أي: تخافون مماليككم كما تخافون أحرارا أمثالكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تخافون لائمتهم كما يخاف الرجل لائمة أبيه وأخيه وأقاربه. وبعضهم يقولون: تخافون عبيدكم أن يرثوكم بعد الموت، كما تخافون أن يرثكم الأحرار من أوليائكم، وهو قول مقاتل لكن الميراث ليس من الآية في شيء، والأول أشبه.

وفي قوله: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ) دلالة أن العبد لا يكون له حقيقة الملك في الأشياء كالأحرار؛ لأنه أخبر أنهم ليسوا هم بسواء في الشرك فيما رزق السادات وملكوا، على العلم أنهم يشتركون جميعًا في المنافع؛ دل أنهم يملكون منافع الأشياء ويشتركون مع الأحرار فيها، ولا يملكون حقيقة الإملاك، وكذلك يدل قوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. . .)، أنه لما نفى عنه القدرة على شيء - واللَّه أعلم - يكون تأويل قوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي: يغنهم اللَّه من فضله بالمنافع، لا بحقيقة ملك الأشياء، واللَّه أعلم. وقوله: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). أي نبينها. (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). أي: لقوم ينتفعون بعقولهم. والثاني: قوله: (نُفَصِّلُ الْآيَاتِ)، أي: نفرق واحدة بعد واحدة، على ما ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع من قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ) كذا، (وَمِنْ آيَاتِهِ) كذا، والتفصيل يخرج على وجهين: أحد هما: التبيين. والثاني: التفريق في الذكر، فصلت آياته: بينت، وفصلت: فرقت واحدة بعد واحدة، فإن قال لنا قائل في هذه الآيات التي ذكرت: ما يدل على إيجاب البعث؟ قيل: في هذه الآيات، التي ذكرت دفع الشبه التي لها أنكروا البعث؛ لأنهم رأوا البعث ممتنعًا بالشبهة التي اعترضت لهم؛ ففي هذه الآيات دفع تلك الشبهة التي لها رأوا البعث ممتنعًا، حيث أراهم بدء خلقهم وقيام السماء والأرض بالذي ذكر. ثم إيجاب البعث يكون بالأخبار الصادقة، وهي أخبار الرسل الذين ظهر صدقهم، أو بما ذكرنا: أن خلق الخلق بلا عاقبة تجعل لهم للفناء خاصة خارج عن الحكمة؛ لوجوه: أحدها: ما ذكرنا أن بناء البناء في الشاهد للنقض والإفناء خاصة بلا منفعة تتأمل في العاقبة سفه خارج عن الحكمة؛ فعلى ذلك خلق الخلق للفناء خاصة بلا عاقبة يكون خارجًا عن الحكمة. والثاني: أنه لو لم يجعل البعث ودارًا أخرى؛ ليفرق بين العدو والولي مع ما قد سوى بينهما في هذه الدار، وفي الحكمة أن يفرق ولا يسوي بينهما؛ فلو لم يكن دار أخرى فيها

(29)

يفرق لكان ذلك خارجًا عن الحكمة. والثالث: في الحكمة أن يجزي المحسن لإحسانه والمسيء في إساءته، وقد يكونان في هذه الدنيا ويخرجان منها لا يصيب المحسن جزاء إحسانه، ولا المسيء جزاء إساءته؛ فلا بد من دار أخرى؛ ليجزى فيها كل بعمله، وفيما ذكرنا إيجاب البعث، واللَّه أعلم. وقوله: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) يحتمل قوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: ظلموا أنفسهم؛ حيث لم يستعملوها فيما أمروا بالاستعمال فيه؛ بل صرفوها إلى غير ما أمروا بالاستعمال فيه. أو ظلموا حجج اللَّه وآياته وبراهينه؛ حيث لم يتبعوها ولم يضعوها موضعها حيث وضعت. وقوله: (أَهْوَآءَهُم) في عبادتهم الأصنام، وصرفها عن اللَّه إلى من لا يستحق العبادة والشكر؛ وذلك لهواهم؛ لأنه ليس معهم حجة ولا برهان؛ كقوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) أي: حجة وبرهانا. وقوله: (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ). أي: أحد سوى اللَّه يهدي من أضله اللَّه؟ أي من يؤثر الضلال واختاره أضله اللَّه، لا يهديه سواه. (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ). ينصرونهم في دفع عذاب اللَّه عن أنفسهم. أو (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)، أي: من مانعين يمنعونهم عن عذاب اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا الخطاب لرسول اللَّه؛ لأنه ذكر الآيات فيما تقدم؛ حيث قال: (وَمِنْ آيَاتِهِ) كذا وكذا، ثم ذكر الذين اتبعوا أهواءهم بغير علم، ثم قال لرسول اللَّه: أقم وجهك أنت للدِّين حنيفًا. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: وعندنا أن الخطاب به وبمثله لكل أحد؛ كقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)؛ كأنه يخاطب كل من انتهى إليه هذا أن قل: هو اللَّه أحد، و: يَا أَيُّهَا الكافرون؛ فعلى ذلك قوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) هو لكل أحد. ثم الإقامة تحتمل وجهين: أحدهما: أقم: أي: داوم جهدك وقصدك.

والثاني: أقم: أتمم. (فَأَقِمْ) ما ذكرنا (لِلدِّينِ حَنِيفًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: الحنيف: هو من حنف القوم وميله، ومعناه: كن مائلا إلى الدِّين في كل حال وكل وقت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الإخلاص والإسلام له. وقوله: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا). ثم فسر ذلك فقال: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا): هذا يحتمل وجوهًا: (فِطْرَتَ اللَّهِ)، أي: معرفة اللَّه التي جبل الناس عليها أن يكون اللَّه يجعل في كل صغير وطفل من المعرفة ما يعرف وحدانية ربه وربوبيته؛ على ما جعل لهم من أن معرفة ما فيه غذاؤهم وقوامهم من أخذ ثدي أمهاتهم في حال صغرهم وطفولتهم؛ ولذلك يخرج قوله: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه "؛ على ما جعل في الجبال من معرفة التسبيح لربها والتحميد، لكن أبواه يشبهان ذلك عليه، ويصرفانه. والثاني: فطرهم وجبلهم ما لو تركوا وعقولهم لكانوا على ما جبلوا وفطروا؛ إذ فطر كل منهم وجعل في خلقة كل دلالة وحدانية اللَّه وربوبيته. وكذلك قوله: " كل مولود يولد على الفطرة "، أي: على الخلقة التي تدل وتشهد على وحدانية اللَّه وربوبيته ما لو تركوا وخلي بينهم وبين عقولهم لأدركوا. والثالث: فطرهم على ما يحتملون الامتحان. وقوله: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ).

(31)

قال عامة أهل التأويل: لا تبديل لدين اللَّه، سماه: خلقا. وعلى قول المعتزلة: له تبديل؛ لأنهم يقولون بأن فعل العبد ليس بمخلوق، ويحتالون في قوله (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)، أي: لا تبديل لما به يقع الدعاء إليه، أو كلام نحو هذا. فيقال: إن الدِّين هو ما يدين المرء وهو فعله، مأخوذ من دان، يدين، ثم أخبر أنه خلق اللَّه؛ فدل أنه مخلوق. وجائز أن يكون قوله: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)، أي: لما فيه دلالة وحدانية اللَّه وشهادة ربوبيته؛ كقوله: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ). أو لا تفاوت فيما فيه دلالة الوحدانية والشهادة له، واللَّه أعلم. وقوله: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ). أخبر أن ذلك الدِّين القيم بالحجج والبراهين ليس كدين أُولَئِكَ الكفرة أتباع الهوى. أو أن يكون الدِّين القيم، أي: المستقيم على ما وصفه اللَّه أنه الدِّين الحنيف. وقوله: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) هو صلة قوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)، فهذا يدل على أن الخطاب بقوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) للكل؛ حيث قال: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)، أي: أقبلوا إليه وأنيبوا له. ثم الإنابة تقع فيما يفع به الأمر، كأنه يقول - واللَّه أعلم -: أنيبوا إلى اللَّه بما يأمركم به. (وَاتَّقُوهُ). عما نهاكم عنه، والتقوى من الإنابة كهي من البر، كقوله - تعالى -: (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا)، بما يأمركم به، وتتقوه عما نهاكم عنه. وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ). هو يحتمل وجوهًا. (أَقِيمُوا) أي: الزموا وداوموا فعلها إلى آخر ما تنتهون إليه، ليس على أن يقع الأمر بها مرة واحدة. والثاني: (أَقِيمُوا) أي: أتموها بركوعها وسجودها والقراءة وغير ذلك. والثالث: (أَقِيمُوا)، أي: وفوا إقامتها بأسبابها التي جعلت لها. وفي الصلاة أحوال ثلاث:

(32)

أحدها: الجواز. والثاني: التمام والكمال. والثالث: التزيين والتحسين. ثم الجواز بحق الأركان، والتمام: بحق الشعوب، والتزيين بحق الحواشي. ويجب على كل مصلٍّ خصال ثلاث: صدق النية، وحق الإخلاص له، وحق الخشوع. وقوله: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). يحتمل: أي: لا تكونوا من المشركين غير اللَّه في الصلاة والعبادة، أي: لا تصلوا لغير اللَّه، ولا تعبدوا من دونه. أو لا تكونوا من المشركين من دونه في تسمية الألوهية والإلهية؛ لأنهم كانوا يسمون الأصنام التي يعبدونها: آلهة. أو أن يكون صلة قوله: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)، أي: كونوا منيبين إليه، موحدين، مقبلين على طاعته، مخلصين، ولا تكونوا من المشركين له غيره. وقوله: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) قَالَ بَعْضُهُمْ: لا تكونوا من المشركين، ولا تكونوا من الذين فارقوا دينهم. ثم قوله: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ)، وقرئ: (فارقوا)؛ فهو يحتمل وجهين: أحدهما: فارقوا دينهم الذي جاءتهم الرسل. أو فارقوا دينهم الذي فطروا عليه، وهو ما جعل فيهم من شهادة التوحيد له والربوبية. وقوله: (وَكَانُوا شِيَعًا) يحتمل: صاروا شيعًا، أي: فرقا وأحزابًا بعدما كانوا على ما فطروا، أو على ما جاءتهم الرسل. أو كانوا شيعًا ما يشيع ويتبع بعضهم بعضا؛ لأن الشيعة هم الذين يرجعون إلى أصل وإحد وأمر وأحد، واللَّه أعلم. وقوله: (فَرَّقُوا دِينَهُمْ)، أي: قطعوا دينهم، وجعلوه قطغا وفرقًا وأديانا، من نحو اليهودية، والمجوسية، والنصر انية وغيرها. (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). يقول - واللَّه أعلم -: كل أهل دين وملة بما عندهم من الدِّين راضون به، فرحون. وجائز أن يكون قوله: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ): في الذي فطرتم عليه، وهو ما

(33)

جعل في خلقة كل واحد شهادة الوحدانية لله والدلالة، يقول: لا تكونوا من المشركين في ذلك، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) وقوله: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ). قال قائلون: منيبين: مخلصين؛ كقوله: (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). وقال قائلون: مطيعين. وقال قائلون: موحدين. وأصل الإنابة: الرجوع، أي: راجعين إليه عما كانوا فيه من الشرك؛ فالإنابة هي التوحيد، وإن كان الإنابة الإخلاص، فهو رجوع عن الإشراك في العبادة، وإن كان عن العصيان فهو الطاعة، وأصله: الرجوع عما كانوا فيه؛ ففيه وجوه من الاحتجاج على أُولَئِكَ، وتنبيه وعظة للمؤمنين. أما الاحتجاج عليهم: فإنه معلوم؛ لأنهم كانوا لا يركبون السفن والبحار مع المؤمنين، ولكن كانوا يركبون بأنفسهم، ثم أخبر عما أخلصوا له والدعاء له والتضرع، دل أنه بالله عرف ذلك؛ فذلك يدل على رسالته. والثاني: فيه دلالة أنهم قد عرفوا وحدانية اللَّه وألوهيته؛ حيث فزعوا عند الشدائد والبلايا إلى اللَّه، وأخلصوا له الدِّين، ثبت أنهم قد عرفوا سفه أنفسهم في عبادتهم الأصنام وتركهم عبادة اللَّه، تعالى. والثالث: تصديقًا لقوله (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)؛ لأنهم كانوا يسألون الرد إلى الدنيا ليؤمنوا به؛ كقولهم: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا) فأخبر أنهم يعودون إلى ما كانوا؛ كما عادوا إذا كشف عنهم الضر. وأما العظة والتنبيه للمؤمنين: فهو أن يكونوا في الأحوال كلها على حال واحد في حال

(34)

الرخاء والشدة، ذاكرين له شاكرين؛ لأنهم في حال الشدة والبلايا أكثر ذكرًا له وإنابة من حال السعة والرخاء، فينبههم ليكونوا في كل حال ذاكرين له منيبين إليه راجعين. وفيه دلالة: شدة سفه أُولَئِكَ الكفرة؛ حيث أنابوا إليه وأخلصوا له الدِّين عندما يصيبهم الشدة والبلاء، ويعرضون عنه ويشركون في ألوهيته عند السعة. وفي طباع الخلق في الشاهد خلاف ذلك: أن من ضيق على آخر أمره وشدده فهو يعرض عنه ويبغضه، ومن أنعم عليه من ملوك الأرض وأحسن - أطاعه وأحبه؛ فهم لشدة سفههم عكس طباعهم، وخالفوا طباع الناس جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله: (ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً). أي: السعة والرخاء. (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ). فَإِنْ قِيلَ: ما فائدة ذكر هذه الآيات وأمثالها، وهم كانوا لا يؤمنون بها، ولا ينظرون فيها. قيل: قد يحتج عليهم بما لا يقرون ولا ينظرون فيه. أو أن ينظر في ذلك فريق جمنهم ويعرفونه، واللَّه أعلم. وقوله: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير؛ يقول: إذا أذاقهم منه رحمة؛ لئلا يكفروا، وإنما أذاقهم رحمة لئلا يكفروا، لكنهم كفروا، إلى هذا ذهب مقاتل. وعندنا ما ذكرنا: هو أذاقهم منه رحمة؛ ليكون منهم ما قد علم أنهم يختارون، ويكون منهم، وهو الكفر، ولا جائز أن يذيقهم الرحمة؛ لئلا يكفروا، ويعلم منهم أنهم يختارون الكفر ويكون منهم ذلك؛ فدل أنه ما ذكرنا. ثم في الآية دلالة نقض قول المعتزلة في قولهم: إن على اللَّه الأصلح للعباد لهم في الدِّين، وقولهم: إذا علم من أحد منهم الإيمان في وقت من الأوقات ليس له أن يخترمه؛ ولكن عليه أن يبقيه إلى ذلك الوقت؛ لأنه لو اخترمه قبل ذلك الوقت لكان هو المانع إيمانه. فيقال: إن أُولَئِكَ الكفرة لما أخلصوا دينهم لله في حال الشدة وخوف الهلاك لم يبقهم اللَّه على ذلك الإخلاص والحال التي كانوا يخلصون الأمر له والدِّين، بل وسع عليهم، وحولهم من تلك الحال، حتى عادوا إلى ما كانوا؛ دل أن ليس على اللَّه حفظ الأصلح

(35)

للخلق في الدِّين. وقد أمر نبيه بمقاتلة الكفرة مطلقًا، ولعلهم يسلمون في وقت لو تركوا أو بعض منهم؛ دل أن ليس ذلك عليه. وقوله: (فَتَمَتَّعُوا) وهو في الظاهر أمر، ولكنه يخرج على الوعيد؛ كقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)، وقد ذكر في آية أخرلمحما: (وَلِيَتَمَتَّعُوا)؛ فهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَمْ أَنْزَلْنَا): بل أنزلنا عليهم سلطانًا وحججًا، فهو يتكلم بما كانوا به يشركون، أي: يبين، ويعلمهم أن الذي هم عليه شرك ليس بتوحيد؛ لأنهم كانوا يقولون: إنا على التوحيد، وإنما نعبد هذه الأصنام (لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، و (هَؤُلَآءِ شُفَعَاؤنَا عِندَ اللَّهِ)، ونحوه؛ فيقول: بل أنزلنا عليهم ما يبين ويعلم أن ذلك شرك وليس بتوحيد. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن قوله: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا)، أي: ما أنزلنا عليهم سلطانًا فيأمرهم بما كانوا به يشركون أو يأذن لهم بذلك؛ كقوله: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى)؛ فعلى ذلك قوله: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا) أي: لم ننزل عليهم سلطانًا يأمرهم بما كانوا به يشركون، أو كانوا يدعون بذلك أمر اللَّه؛ كقولهم: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) ففيه وجهان على أُولَئِكَ الكفرة: أحدهما: ما ذكرنا أنهم كانوا يدعون بذلك الأمر من اللَّه، فيخبر أنهم كذبة في قولهم بان اللَّه أمرهم بذلك؛ بل لم يأمرهم بذلك، ولا أنزل عليهم الكتاب أو السلطان في إباحة ذلك. والثاني: يذكر سفههم في عبادتهم الأصنام؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويسمونها: آلهة، بلا سلطان ولا حجة كانوا يطلبون على ذلك، ثم كانوا يطلبون من الرسول آيات تقهرهم وتضطرهم على رسالته وما يوعدهم، بعدما آتاهم من الآية ما أعلمهم وأنباهم أنه رسول؛ فالعبادة أعظم وأكبر للمعبود من الرسالة؛ فإذا لم تطلبوا لأنفسكم الحجة والآية القاهرة في إباحة ما تعبدون من دون اللَّه فكيف تطلبون من الرسول الآية القاهرة في إثبات الرسالة؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا): كتابًا فيه عذر لهم، فهو يشهد بما كانوا به يشركون. وقوله: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ

(36)

يَقْنَطُونَ (36) إذا أريد أن يسوي بين هذه الآية والآية التي قبلها، وهو قوله: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ. . .) إلى آخره، ويجمع بينهما يكون قوله: (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) من الأصنام التي يعبدونها؛ لأنه يقول في هذه الآية: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)، وفي الأولى يقول: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)؛ فوجه الجمع بينهما ما ذكرنا: أن يكون القنوط من الأصنام، واللَّه أعلم؛ كقوله: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ). أو أن يكون قوله: (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ): عندما امتد بهم الضر والشدة؛ حينئذ ييئسون من رحمة اللَّه، والأول في ابتداء ما أصابهم من الضر فزعوا إليه وأنابوا له. أو أن يكون إحدى الآيتين في قوم، والأخرى في قوم آخرين؛ لأنهم كانوا فرقًا وأحزابًا في الكفر والشرك: منهم من كان يشرك في الأحوال كلها: في حال الضيق والسعة، ومنهم من كان يشرك في حال الضيق، ويؤمن في حال السعة، كقوله: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)، وكقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ). ومنهم من كان يخلص الدِّين في حال الضر والشدة، ويعاند ويتمرد في حال السعة والرخاء؛ كقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)، ونحوه؛ فكانوا فرقا وأحزابا على ما ذكرنا؛ فجائز أن يكون إحدى الآيتين في فريق وقوم، والآية الأخرى في قوم آخرين. أو ما ذكرنا من اختلاف الأحوال: يقنطون عندما امتد بهم الضر والشدة، وينيبون إليه عندما لم يمتد بهم ذلك ولم يتطاول. أو ما ذكرنا من القنوط من الأصنام والإنابة إلى اللَّه؛ كقوله: (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ). وإلا الآيتان في الظاهر متناقضتان، ولكن الوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) يحتمل قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) على الكافرين؛ كقوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ). ثم وجه الآيات لهم على كفار مكة من وجوه في إثبات الرسالة، وفي البعث، وفي

إظهار سفههم في عبادة الأصنام وإشراكهم إياها في عبادة اللَّه؛ لأن أهل مكة كانوا ينكرون الرسالة والبعث، ويرون عبادة غير اللَّه؛ فالاحتجاج عليهم بهذه الآية على الوجوه التي ذكرنا. فأما الاحتجاج في إثبات الرسالة فهو من وجوه ثلاثة: أحدها: أنهم كانوا ينكرون الرسالة؛ لأنه بشر، ولا يرون للبشر بعضهم على بعض فضلا؛ كقوله: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)؛ فيريهم الفضل لبعضهم على بعض في الرزق: موسعا على بعض مضيقا مقترا على بعض؛ فإن ثبت عندهم، وظهر الفضل لبعض على بعض فيما ذكرنا يجوز الفضل على بعض في الرسالة. والثاني: ذكر مقابلا لقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)؛ يخبر أن الأمر ليس إليهم؛ إنما ذلك إلى اللَّه تعالى، يختار من يشاء لما يشاء من الرسالة والنبوة وغيرهما، كما يختار التوسيع على من يشاء والتضييق والتقتير على من يشاء، وإن كانوا جميعًا يتمنون السعة ويحبونها، ويهربون من الضيق والتقتير، ولكن الأمر في ذلك إلى اللَّه تعالى كله. والثالث: وسع على بعض وضيق على بعض؛ فالجهة التي وسع على بعض غير الجهة التي ضيق على بعض؛ فلا بد من رسول يخبر عن ذلك، ويعلم ما على هذا وما على هذا، وما جهة التفريق بينهم والتفضيل في الرزق، واللَّه أعلم. وأما الاحتجاج عليهم في البعث بها فمن وجوه أيضًا: أحدها: أنه جمع في هذه الدنيا بين العدو والولي، وسوى بينهما في التوسيع والتضييق؛ إذ وسع على العدو والولي جميعًا، وضيق على الولي ووسع على العدو، وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما لا الجمع والتسوية، وقد سوى بينهما في هذه الدنيا وجمع؛ فلا بد من دار أخرى فيها يفرق بينهما؛ فيلزمهم البعث، واللَّه الموفق. والثاني: أنه وسع الرزق على من هو في تقديرهم وعقولهم لا يوجب التوسيع عليه، وهو السفيه الجاهل الذي في تقدير كل ذي عقل ولب أن يكون محروما مضيقا، وضيق على من هو في تقدير كل أحد وعقله أن يكون موسعا عليه مرزوقا، وهو العاقل العارف بجميع أسباب السعة والغناء، وفي التقدير على خلاف هذا؛ فلا بد من مكان فيه يظهر التفضيل للعقول والمعارف، والرغبة فيها، والرغبة عن أضدادها، ومن هو أهل التوسيع ومن هو أهل الحرمان؛ إذ قد اشتركوا في هذه. والثالث: أن يعتبروا وينظروا بأن من قدر على توسيع الرزق وبسطه وتضييق الرزق

(38)

وحرمانه، بالأسباب الخارجة عن تقديرهم وتدييرهم وبغير أسباب لقادر على إحياء الأشياء الخارجة عن تقدير قدرتهم وتدبيرهم، واللَّه أعلم. وأما وجه الاحتجاج عليهم بعبادتهم غير اللَّه، فهو أن في ذلك تناقض، وذلك أنهم قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، وكانت لا تشفع لهم في الدنيا، ولا تقربهم الزلفى فيها في التوسيع والبسط ودفع الضيق، وفي الآخرة لا يحتمل؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون، فهو متناقض وسفه وسرف في القول. وهذه الآية وغيرها من الآيات تنقض على المعتزلة؛ لأنهم لا يجعلون لله في مكاسب الخلق وحرفهم وتجاراتهم وجميع أسبابهم التي بها يرتزقون ويتعيشون صنعا، وإنَّمَا يجعلون ذلك في الخارج من الأرض وغيرها، فالناس في ذلك، وتضيق إذا لم يكن له في تلك الأسباب والمكاسب صنع؛ فدل أن له في ذلك صنعًا حتى يقع منه البسط والتوسيع والتضييق والتقتير، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذكرنا: يكون للمؤمنين في ذلك آيات على الكفار. والثاني: لقوم ينتفعون بإيمانهم، والمؤمنون هم المنتفعون بها، فأما من كفر بها فلا ينتفع. وجائز أن يكون في ذلك العبرة من وجه آخر لقوم يؤمنون، وهو ألا يعلقوا قلوبهم في الرزق بالأسباب التي يكتسبون بها ولكن يرون الرزق من اللَّه أنه يرزق بأسباب وبغير أسباب. أو يذكر هذا لهم على أن من رفع الحاجة إلى آخر، فلم يقضها: أن يرى حرمانها من اللَّه، لا من ذلك الرجل. وقوله: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) يحتمل قوله: (حَقَّهُ) أي: حاجته، لا على حق كان له، كقوله: (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ)، أي: من حاجة؛ إذ معلوم أنه لم يكن لهم في بناته حق، ولكن أرادوا بالحق الحاجة، فعلى ذلك الأول، وكذلك قوله: (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ): أي: سد المسكين حاجته ومسكنته، وكذلك ابن السبيل. ويحتمل قوله: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ): الحق الذي كان لهم، لكن لم يبين ذلك الحق

(39)

في هذه الآية، وبين في آية أخرى؛ كقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)، وما ذكر من المواريث قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. . .) الآية، ونحو ذلك من الحقوق. وحق المسكين وابن السبيل: ما ذكر من الصدقات والزكاة، واللَّه أعلم. وقوله: (ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ). يحتمل قوله: (ذَلِكَ خَيْرٌ)، أي: الإيتاء للأقربين والمساكين والفقراء خير من الأبعدين والأغنياء وغيرهم. أو أن يكون قوله: (ذَلِكَ خَيْرٌ)، أي: ذلك الإيتاء إذا أريد به وجه اللَّه - خير مما لا يراد به. وقوله: (وَابْنَ السَّبِيلِ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو المنقطع عن ماله يعان حتى يصل إلى ماله. وقيل: الضيف ينزل فيحسن إليه إلى أن يرجع ويرتحل. وجائِز أن يكون قوله: (ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ)، أي: آت من ليست له عندك نعمة؛ فيكون ذلك ليس مكافأة لتلك النعمة، ولكن على إرادة وجه اللَّه، واللَّه أعلم. (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). قد ذكرنا أن الفلاح هو البقاء، وقيل: النجاة. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (القَيِّمُ) المستقيم، (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)، أي: تائبين، (يَقْنَطُونَ): ببنسون. وقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) قال عامة أهل التأويل: هذا في العطايا التي يعطي بعضهم بعضا ويهدون؛ ليصيبوا أكثر مما أعطوا وأهدوا مجازاة ومكافأة لذلك؛ كأنه يقول: وما آتيتم من عطية وهدية؛ ليربو في أموال الناس لتزدادوا من أموال الناس، ولتلتمسوا الفضل من أموالهم، يقولون: هذا ربا حلال لا وزر فيه ولا أجر؛ فهو مباح للناس عامة لا بأس به. وأما قوله: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)، فهو للنبي خاصة، يقول: لا تعطه لتعطَى أكثر منه؛ ابتغاء الثواب في الدنيا، ولكن أعط ابتغاء ثواب الآخرة. ويستدلون بإباحة ذلك بقوله: (فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ)، يقول: لا يزداد ولا يتضاعف ذلك

عند اللَّه، ولم يقل ما قال في الربا المحرم المحظور؛ حيث قال: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ): ذكر المحق وهاهنا ذكر: (فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ)، أي: لا يزداد ولا يتضاعف. لكن لو قيل: إنها في الربا المحظور كان جائزا محتملا، ويكون قوله: (فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) كقوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ): إنها إذا لم تربح خسرت؛ ألا ترى أنه قال: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)؛ دل أنها إذا لم تربح خسرت؛ فعلى ذلك قوله: (فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ): إذا لم يرب عنده محقه وخسروا، فهو - واللَّه أعلم - لولا صرف أهل التأويل التأويل إلى الهدايا والعطايا التي يبتغى بها الثواب في الدنيا والمكافأة فيها أكثر مما أعطوا؛ وإلا جاز صرفه إلى الربا المعروف بين الناس في العقود وكذلك روي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الهدية يبتغى بها وجه الرسول، وقضاء الحاجة والصدقة يبتغى بها وجه اللَّه والدار الآخرة ". ثم بين ما الذي يربو عند اللَّه، وهو ما قال. (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ). ثم اختلف فيه: منهم من قال: هو ما يزكون من زكاة المال؛ يريدون به وجه اللَّه؛ فهو الذي يقبله اللَّه ويضاعف عليه. ومنهم من قال: كل صدقة أعطاها؛ أراد وجه اللَّه، لم يرد بها الثواب في الدنيا - فهي التي تتضاعف وتزداد عند اللَّه. (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ). وكان يجيء أن يقال: فأُولَئِكَ هم المضعفون بنصب العين؛ لأنه هو يضاعف لهم، لكن الزجاج يقول: هو كما يقال: الموسر - هو الذي له يسار، والمقوي - هو الذي له القوة ونحوه؛ فعلى ذلك: المضعف هو الذي له الضعف. وعندنا: هم المضعفون؛ لأنهم هم الذين جعلوا الآحاد عشرات والأضعاف المضاعفة، بتصدقهم ابتغاء وجه اللَّه؛ فهم المضعفون لأنفسهم ذلك. ثم يجوز أن يستدل بهذه الآية على إباحة هذه المعاملات التي تجري فيما بين الناس؛

(40)

لأنه أجاز الهدية والعطية على فصد الفضل والزيادة. وإن كان على شرط الزيادة لا يجوز؛ فعلى ذلك المعاملة تجوز على قصد الزيادة، والفضل، وإن كان على قصد أُولَئِكَ طلب الفضل لا محالة، بل يكافئون مرة الأكثر، ولا يكافئون بعضًا ويحرمون بعضًا؛ فلا يكره، وأما المعاملة فلا تكون إلا على قصد ذلك الفضل؛ فلا يرضون منهم إلا حفظ المقصود فيها، وأهل العطايا والهدايا قد يرضون بالثناء الحسن والشكر لهم، وأهل المعاملة لا، روي في بعض الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من أسدي إليه؛ فليجازه وإلا فليشكره وليثْنِ عليه "، أو كلام نحو هذا. والثاني: أن أهل المعاملة يثشرطون قبل المعاملة الزيادة، وإن كانوا يشترطون في عقد المعاملة، ولا كذلك أهل العطايا والهدايا؛ بل يتعرضون تعريضًا؛ لذلك افترقا، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ). ولم تكونوا شيئًا، وأنتم تعلمون ذلك. (ثُمَّ رَزَقَكُمْ). وأنتم تعلمون ذلك أن لا يقدر الأرزاق لكم غيره. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ). وأنتم تعلمون ألا يملك أحد غيره ذلك؛ فعلى ذلك يملك إحياءكم ولا يملك أحد ممن تعبدون دونه من اللأصنام ذلك؛ فكيف تعبدون دونه. وقوله: (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: هَؤُلَاءِ الذين تعبدون شركاؤكم فيما ذكر من الخلق والرزق فكيف تعبدون وتتخذون آلهة دونه؟! والثاني: هل من شركائكم الذين أشركتموها في عبادة اللَّه وألوهيته تملك ما ذكر،

(41)

يقول: لا تملك شيئًا مما ذكر، على علم منكم أنها لا تملك ذلك، فيقول: فكيف تشركونها في ألوهيته؟ ثم نزه نفسه وبرأَها عن جميع العيوب التي وصفه الملحدون، فقال: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). لأن حرف (سُبْحَانَ) حرف تنزيه عن جميع العيوب، والتعالي: هو وصف وتبرئة عن أن يغلبه شيء أو يقهره؛ هو من العلو، متعال عن أن يغلبه شيء أو يقهره. وقوله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قوله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، وهو الشرك والكفر، (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) من الأمور التي كانوا يتعاطون من قطع الطريق، والسرق، والظلم، وأنواع أعمال السوء التي يتعاطونها، ذدك هو سبب شعركهم وكفرهم باللَّه، وبذلك كان شعركهم وكفرهم ذلك كان يغطي قلوبهم؛ حتى لا تتجلى قلوبهم للإيمان؛ كقوله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وكقوله: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ. . .) الآية، ونحوه؛ فإن كان هذا فهو على حقيقة تقديم الأيدي والكسب. والثاني: أن يكون (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) هو القحط وقلة الأمطار والأنزال والضيق، وقوله: (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) هو شركهم وكفرهم وتعاطيهم ما لا يحل، أي: ذلك القحط والضيق وقلة الأنزال والشدائد لهم؛ لشركهم وكفرهم وأعمالهم التي اختاروها، ويكون ذكر كسب الأيدي على المجاز لا على الحقيقة؛ ولكن لما باليد يكتسب وباليد يقدم، ذكر اليد؛ كقوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ)، ولعله لم يقدم شيئًا، لكنه ذكر أنه ظهر الشرك والكفر بحقيقة كسب الأيدي من أعمال السوء التي ذكرنا، ذلك كان يينعهم عن الإيمان وكشف الغطاء عن قلوبهم. وفي التأويل الآخر: الفساد الذي ظهر هو القحط وقلة الأمطار والأنزال والضيق؛ (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ): هو الشرْك والكفر وتعاطي ما لا يحل، لا على حقيقة كسب الأيدي؛ ولكن لما ذكرنا. ثم اختلف في قوله: (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: البر: هو المفاوز التي لا ماء فيها، والبحر: القرى والأمصار.

(42)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أما البر فأهل العمود، والبحر: هم أهل القرى والريف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البر: قتل ابن آدم أخاه، والبحر: (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا). وجائز أن يكون لا على حقيقة إرادة البر والبحر؛ ولكن على إرادة الأحوال نفسها، على ما ذكرنا من القحط والضيق وقلة الأنزال؛ بما كسبت أيدي الناس من الثرك والكفر. (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا). وهو الشرك، هذا أشبه. وعن الحسن قال: (أفسدهم اللَّه في بر الأرض وبحرها بأعمالهم الخبيثة؛ لعلهم يرجع من كان بعدهم ويتعظون بهم). وقتادة يقول: لعل راجعًا يرجع، لعل تائبًا يتوب، لعل مستغيثًا يستغيث، وأصله: لكي يلزمهم الرجوع والتوبة عما عملوا، وينبههم عن ذلك كله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، أي: أجدب البر وانقطعت مادة البحر؛ بذنوب الناس. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الربا من الربو مثل ما يصنع أصحاب الربا، (لِيَرْبُوَ)، أي: ليزيد ويكثر؛ يقال: ربا ماله، أي: كثر. والْقُتَبِيّ يقول: أي: يزيدكم من أموال الناس من زكاة وصدقة. وقوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) قد ذكرنا في غير موضع: أنه ليس على حقيقة الأمر بالسير في الأرض؛ ولكن كأنه يقول: لو سرتم في الأرض ونظرتم لرأيتم عاقبة من كان قبلكم من المشركين، وهكذا في الرسل وما حل بهم؛ فينبهكم ويمنعكم عن تكذيب الرسل والشرك باللَّه. أو أن يكون هو على الأمر بالفكر والنظر والاعتبار؛ كأنه يقول: تفكروا واعتبروا فيما سرتم في الأرض، وانظروا إلى ماذا صار عاقبة مكذبي الرسل من قبل؛ فينزل بكم بالتكذيب ما نزل بأُولَئِكَ؛ واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)

(44)

قد ذكرناه فيما تقدم في قوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا). وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ). قال بعض أهل التأويل: لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم من اللَّه. ثم هو يخرج على وجهين: أحدهما: لا مرد له من اللَّه، أي: لا يردون من ذلك اليوم إلى ابتداء المحنة؛ كقولهم: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ) الآية، وقولهم: (أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، ثم أخبر عنهم فقال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ)، أي: لا يردون إلى ما يسألون الرد. والثاني: (لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ)، أي: لا إقالة لهم من اللَّه ولا عفو ولا توبة إذا أتاهم ذلك اليوم؛ كقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا. . .) الآية. وقوله: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ). أي: يتفرقون؛ كقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ)، هو يوم الافتراق، ويوم الجمع، ويوم الفصل على اختلاف الأحوال والأوقات، واللَّه أعلم. وقوله: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) أي: من كفر فعليه كفره وعليه ضرر كفره، ومن آمن وعمل صالحًا، فله ثواب إيمانه، وله منفعة عمله؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - إنما امتحنهم بأنواع ما امتحن لمنافع أنفسهم ولحاجتهم، لا لحاجة أو لمنفعة له، وكذلك قوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)، وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) الآية، وهو ما ذكرنا أنه إنما أمرهم ونهاهم وامتحنهم؛ لمنافع أنفسهم ولحاجتهم، لا لحاجة أو لمنفعة لنفسه؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله: (يَمْهَدُونَ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: يفترشون. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: فلأنفسهم يعملون ويوطئون، وهو من المهاد، والمهاد في الأصل: الفراش. وقوله: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) هذا يدل أن الثواب والجزاء سبيل وجوبه الفضل في الحكمة؛ لما سبق من اللَّه إليهم نعم ما لم يتهيأ لهم القيام بشكر واحدة منها، فضلا أن يقوموا للكل؛ فإذا كان كذلك صار

(46)

الثواب والجزاء وجوبه الفضل لا الاستحقاق والاستيجاب وأما العقوبات فوجوبها الاستحقاق؛ إذ في الحكمة وجوبها؛ لذلك افترقا. وجائز أن يكون قوله: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: يجزيهم في الآخرة بالخيرات التي عملوها في الدنيا، وذلك من فضله به نالوا ذلك وبفضله، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ). إن في الرياح آيات في نفسها، وفيها بشارات. أما الآيات: فهي آيات سلطانه وتدبيره من وجوه: أنه أنشأ هذه الرياح في الهواء وفي الأرض وفي الجبال وفي السماء، تصيب الخلائق وتميتهم وتؤذيهم وتصرعهم وتضرهم، من غير أن يروها أو يقع عليها البصر، ومن غير أن يدركوها أو يدركوا كيفيتها، أو ما يتهيأ؛ ليعلم أن من الأجسام ما هي غير مدركة ولا أخذ البصر عليها. وترى منها طيبة لينة، وخبيثة وشديدة كاسرة عاصفة، يعذب بها قوم، وينصر بها قوم؛ على ما ذكر في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " نُصِرتُ بالصَّبا، وأهِلكَ عادٌ بالدَّبور ".

(47)

ومن بشارتها: ما تلقح الأشجار والنخيل، وتشق الأرض وينبت النبات منها، وتجمع السحاب وتأتي بالمطر، وتجري بهم السفن والفلك في البحار في الماء الراكد والفلك لولا الريح، فذلك كله من البشارة وأنواع المنافع التي جعل فيها، يعلم كل بالأعلام والآثار أنها نافعة أو ضارة مهلكة؛ ثم سماها: مبشرات؛ ليعلم أن البشارة قد تكون بدون النطق والكلام: من نحو الكتاب والإشارة أو الرسالة؛ إذ ليس للريح نطق ولا كلام، ثم سماها: مبشرة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ). هذا يدل أن هذه البشارة والمنافع التي جعل لهم كان من رحمته وفضلا، لا استيجابا ولا استحقاقا، وسمى ذلك كله: رحمة؛ لأنه برحمته يكون، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ). قوله: (بِأَمْرِهِ) ويحتمل بتدبيره، أي: بتدبيره تجري السفن في البحار، على ما ذكرنا. أو أن يريد بأمره: تكوينه، كقوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، وكقوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). وقوله: (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ). هذا يدل على أن ما يصل إليهم من المنافع إنما يصل من فضله ورحمته، لا يصل إليهم بتلك الأسباب والمكاسب؛ لئلا يروا ذلك من تلك الأسباب، ولكن يرون ذلك من فضل اللَّه ورحمته. وقوله: (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). أي: لكي يلزمهم الشكر لله على ذلك كله، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) في هذه الآية لي يصبر رسول اللَّه على أذى الكفرة؛ حيث قال: (أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ). وفيه أيضًا بشارة للمؤمنين، ونذارة لأُولَئِكَ الكفرة. أما النذارة لهم فقوله: (فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا)، أخبر أن أُولَئِكَ لما كذبوا الرسل، وعاملوهم بما تعاملون أنتم يا أهل مكة رسول اللَّه؛ فانتقمنا منهم جزاء معاملتهم؛ فعلى ذلك ينتقم منكم كما انتقم من أُولَئِكَ. وأما البشارة للمؤمنين فقوله: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، أخبر أن عاقبة الأمور تكون للمؤمنين.

(48)

وفيه أن الرسل الذين كانوا من قبل كانوا من البشر؛ فكيف تنكرون رسالة مُحَمَّد إذ كان من البشر. وفيه: أنه قد أتى قومه بالبينات كما أتى أُولَئِكَ الرسل قومهم بالبينات. وقوله: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). هو يخرج على وجهين: أحدهما: أي: كان حقّا علينا جعل العاقبة للمؤمنين، لا أن يكون عليه حقًا نصر المؤمنين في الدنيا؛ ولكن جعل العاقبة للمؤمنين حقًا؛ كقوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). والثاني: كان حقًّا علينا نصر المؤمنين بالحجج التي أعطاهم، أي: كان حقا إعطاء الحجج لهم والنصر والمعونة بالحجج، أي: إعطاء الحجج لهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نصره إياهم: أنه أنجاهم مع الرسل، وأهلك أُولَئِكَ، واللَّه أعلم. وقوله: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) كأنه يخبر عن قدرته وسلطانه؛ حيث أنشأ الرياح بحيث يجمع السحاب ويفرقه، ويبسطه ويجعله قطعًا: يمطر في مكان، ولا يمطر في مكان، يقول - واللَّه أعلم -: إن من قدر أن يسلط الرياح في جمع السحاب، وتفريقه - يملك تسليط الرياح على تعذيبكم، ويقول: إن المعبود المستحق للعبادة هو الذي يرسل الرياح لما ذكر والأمطار، لا الأصنام التي تعبدون؛ إذ تعلمون أنها لا تملك شيئًا مما ذكر. أو يذكر نعمه التي عليهم؛ ليتأدى بها شكرها، أو يطمعهم إيمان بعض منهم بعدما كانوا آيسين عن إيمانهم، كما أطمعهم المطر والسعة بعد ما قحطوا وكانوا آيسين عنه؛ ألا ترى أنه قال: (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَتُثِيرُ سَحَابًا)، أي: ترفعه. وقال أبو عبيدة: تجمعه؛ كما يستثير الرجل العلم فيجمعه. وقوله: (وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: قطعًا قطعًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يضم بعضه إلى بعض، ويحمل بعضه على بعض. وقوله: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ).

(49)

أي: المطر يخرج من خلال السحاب، أي: من بين السحاب، ويقرأ (خَللهِ)، ومعناه: نقبه. وقوله: (لَمُبْلِسِينَ (49) آيسين، والإبلاس: الإياس؛ ولذلك سمى إبليس: إبليس لأنه أُوِيس من رحمة اللَّه. وقوله: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) يحتمل أن يكون قوله: (إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ)، أي: المطر، أراد بالرحمة: المطر، سمى المطر: رحمة؛ لأنه يكون برحمته. أو أن يكون الآثار هو المطر نفسه، جعله من آثار رحمته وأعلامه. ثم الأمر بالنظر والاعتبار بآثار رحمته يحتمل وجوهًا: أحدها: أمرهم بالنظر إلى ذلك؛ ليعلموا أنه رحيم؛ كي يرغبوا فيما رغبهم ويرجوا فيما أطمعهم ودعاهم إليه؛ إذ قد ظهر آثار رحمته؛ فكل رحيم يرغب فيما رغب وأطمع. أو أن يكون الأمر بالنظر إلى آثار رحمته؛ إذ ذلك راجع إلى منافع أبدانهم وأنفسهم وما به قوامهم؛ ليتأدى بذلك شكره، وفي ذلك يقع الحاجة إلى من يعرفهم تلك النعم ويعرف شكرها؛ فيكون في ذلك الترغيب في قبول الرسالة وإثباتها. أو أن يكون سمى المطر: رحمة؛ لما يرجع ذلك إلى منافع أبدانهم وما به قوام أنفسهم؛ ليعرفوا الرحمة هي راجعة إلى منافع دينهم وآخرتهم، وهو رسول اللَّه؛ إذ سماه في غير موضع: رحمة بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ). أو أن يأمر بالنظر إلى ذلك المطر، وأنه كيف يحي هذه الأرضين الموات، وينبت فيها من ألوان النبات؟! وهذه الأشجار اليابسة كيف تخضر بعد يبوستها بهذه الأمطار؟! ليعرفوا أن من ملك هذا، وقدر على ذلك، وهو خارج عن وسعهم وتقديرهم لقادر على إحياء الموتى وبعثهم بعد الممات، وإن كان خارجًا عن تقديرهم ووسعهم، وهو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء. وقوله: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) يعني به: الزرع والنبات الذي أخرج من الأرض بالمطر. قَالَ بَعْضُهُمْ: رأوه يابسًا إذا أصابته الريح الباردة. (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ).

(52)

أي: لأقاموا على كفرهم إذا أصابهم ما ذكر، وهو كقوله: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)؛ فعلى ذلك قوله: (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي: يقنطون من رحمته، واللَّه أعلم. وقوله: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) جائز أن يكون (لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى)، يريد بالموتى: أنفسهم، (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ) الصم: أنفسهم أيضا، يقول: لا تسمع الكفار والضلال إذا ولوا مدبرين. أو أن يكون قوله: (لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) كناية عن الكفار، وكذلك الصم والعمي، وقد سمى اللَّه الكفار: موتى وصما وعميا في غير موضع من القرآن. ثم في قوله: (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) حكمة، وهو ألا يقدر أن يسمع الأصم الدعاء إذا ولى مدبرا، ولكن يقدر أن يفهم الأصم إذا أقبل، وأما إذا أدبر فلا يقدر أن يسمعه، وكذلك الحكمة في قوله: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) أي: لا تقدر أن تهدي العمي عن ضلالتهم، وهو الذي يعمى عن ضلالته ويظن أنه على الهدى وغيره على الضلال، فأما من كان مقرّا بالضلال فإنك تقدر أن تهديه، يخبر عن شدة سفههم وتعنتهم وعماهم في ضلالتهم، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا). أي: ما تسمع إلا من يؤمن بآياتنا، هذا يدل على أن قوله: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ)، وقوله: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ) هي المواعظ لا نفس الهدى؛ حيث قال: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ). ثم يحتمل قوله: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا) كقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي: إنما ينتفع بإنذارك من اتبع الهدى. أو أن الذي يقبل النذارة من اتبع الهدى، فأما من لم يتبع الهدى فلا ينتفع؛ فعلى ذلك يحتمل قوله: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا)، أي: ما ينتفع أو لا يسمع المواعظ إلا من يؤمن بذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ)، أي: من النطفة، وهو ما قال في آية أخرى:

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)، أي: ضعيف. ثم قوله: (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً)، أي: إنسانًا يقوى على أمور وعلى أشياء. (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) أي: شيخًا فانيًا؛ كقوله - تعالى -: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا). وجائز أن يكون قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ)، أي: أطفالا على الخلقة التي أنتم عليها اليوم، ضعفاء لا تقوون على أشياء وأمور، ولا يقوى شيء منكم على شيء، ثم جعلكم من بعد ذلك الضعف أقوياء تقوون على أشياء وأمور، ثم يجعلكم من بعد تلك القوة والقدرة ضعفاء شيوخًا لا تقدرون على شيء، على ما يكون؛ يحتمل هذين الوجهين. ثم فيه وجهان من الدلالة: أحدهما: على البعث؛ والثاني: على القدرة على إنشاء الخلق والأشياء لا من أصول. أما الدلالة على البعث؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث وإنشاء الشيء لا من أصل؛ لخروج ذلك عن قواهم وتقديرهم؛ فيخبر أن النطفة تصير علقة، وليس فيها من العلقة ولا من آثارها شيء، وكذلك العلقة تصير مضغة، وليس فيها من آثار المضغة شيء، وكذلك المضغة تصير إنسانا فيه عظم وجلد وشعر ولحم، وليس شيء من ذلك فيها؛ فمن قدر على ما ذكر لقادر على خلق الشيء لا من أصل، وقادر على البعث؛ إذ كل ما ذكر أقروا به، وهو خارج عن قواهم وعن تقديرهم؛ فلزمهم الإقرار بالبعث والإنشاء لا عن أصل وألا يقدروا قدرتهم وقواهم بقدرة اللَّه وقوته، على ما شاهدوا أشياء خارجة محن قواهم ومحن تقديرهم، بقوته وقدرته. والثاني: أن ما ذكر من تحويل النطفة إلى العلقة، والعلقة إلى المضغة، والمضغة إلى الصورة والإنسان - لم يخلقهم ولم ينقلهم؛ ليكون كما ذكر بلا عاقبة تكون لهم ولا بعث؛ فلو لم يكن بعث لكان ما ذكر من تحويل حال إلى حال عبثًا باطلا، على ما ذكر، وكذلك فيما أحدث في الأطفال من القوة والقدرة، بعد ما كانوا ضعفاء لا يقوون ولا يقدرون على شيء أنه إنما أحدث ذلك فيهم؛ ليمتحنوا، ويجعل لهم ما يثابون ويعاقبون، إذ لو لم يكن بعث ولا عاقبة لكان فعل ذلك عبثًا باطلا. وفيه القدرة على إنشاء الشيء وإحداثه لا من شيء؛ إذ كان التركيب موجودا على التمام ولا قوة بهم، ثم حدث القوة ولا أصل لها ولا أثر من آثارها؛ دل أن تقدير قوى الخلق وقدرتهم، بقوى اللَّه وقدرته محال، واللَّه الموفق. وقوله: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ).

(55)

بأحوالهم، والقدير على إنشاء الأشياء لا من أشياء، وعلى البعث بعد الموت، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) وقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ). قال بعض أهل التأويل: يقسم المجرمون: إنهم لم يلبثوا في قبورهم غير ساعة، وكذلك يقولون: في قوله: (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. . .) الآية. لكن الأشبه أن يكون قوله: (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ): الدنيا في المحنة، لا في القبور، استقصروا مقامهم في الدنيا؛ تكذيبًا لما ادعى عليهم من الزلل والمعاصي أنواع الكفر؛ يقولون: إنا لبثنا في الدنيا وقتا لا يكون منا في مثل ذلك الوقت وتلك المدة الزلل والمعاصي؛ ألا ترى أنهم قد كذبوا في إنكارهم طول المقام فيها؛ حيث قال: (كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ)، أي: كذلك كانوا يكذبون في الدنيا أن لا بعث ولا حياة بعد الموت ولا حساب، ولولا هذا التكذيب لهم على أثر قولهم: (مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ)، وإلا كان الظاهر أنهم قد استقصروا المقام في الدنيا؛ لطول المقام في الآخرة وشدة العذاب في ذلك وهوله، لكنه - واللَّه أعلم - ما ذكرنا أنهم يقسمون: إنهم ما لبثوا غير ساعة في الدنيا؛ إنكارا وجحودًا لما ادعى عليهم من الزلل والمعاصي، يقولون: إنا لم نلبث في الدنيا إلا ساعة، فكيف عملنا فيها هذا الزلل وأنواع الشرك والكفر؛ فأخبر أنهم (كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ)، أي: كذلك كانوا يكذبون في الدنيا ويقسمون؛ حيث قال: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ)، فذلك القسم منهم أنهم ما لبثوا غير ساعة كذب وإنكار للمقام، كما كذبوا وأنكروا الشرك؛ حيث قالوا (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ).

(56)

وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير؛ كأنه: قال الذين أوتوا العلم في كتاب اللَّه، أي: أوتوا العلم بكتاب اللَّه والإيمان به: لقد لبثتم إلى يوم البعث فهذا يوم البعث. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قال الذين أوتوا العلم والإيمان: لقد لبثتم في علم اللَّه في الدنيا إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث. وبعضهم يقول: وقال الذين أوتوا العلم والإيمان: لقد لبثتم فيما كتب اللَّه لكم من الآجال إلى انقضاء آجالكم وفنائها. وقوله: (فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي كنتم تنكرونه وتكذبونه. (وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على حقيقة نفي العلم عنهم، لكنهم لا يعذرون لجهلهم بذلك؛ لما أعطوا أسباب العلم لو تفكروا وتأملوا لعلموا. والثاني: على نفي الانتفاع بعلمهم؛ على ما نُفي عنهم حواس كانت لهم؛ لما لم ينتفعوا بها؛ فعلى ذلك جائز نفي العلم عنهم بذلك لما لم ينتفعوا بما علموا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) ليس على أن يكون لهم عذر فلا ينفعهم ذلك، ولكن لا عذر لهم ألبتَّة. أو أن يكون معذرتهم ما ذكروا: (مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) فذلك معذرتهم؛ فلا ينفعهم ذلك؛ لأنهم كذبة في ذلك. وقوله: (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). الاستعتاب: هو الاسترجاع عما كانوا فيه، فهم لا يطلب منهم. الرجوع عما كانوا عليه في ذلك الوقت، والعتاب في الشاهد: أن يعاتب؛ ليترك ما هو عليه ويرجع عما كان منه فيما مضى، وذلك لا ينفع للكفرة في ذلك اليوم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا). أي: رأوا ذلك الزرع والنبات مصفرا، أي: يابسًا؛ لما أصابه من الريح والبرد. (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ).

(58)

قيل: لأقاموا، وقيل: لصاروا، وقيل: لمالوا، وكله يرجع إلى معنى واحد، وهو ما تقدم ذكره من القنوط، أي: يقنطون وييئسون من رحمته، ويكفرون رب هذه النعم. وفي حرف ابن مسعود: (إنك لا تسمع الموتى إنك لا تبعث الموتى). وقوله: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) جائز أن يكون ما ذكر من ضرب المثل للكفار خاصة، يقول: قد بينا لهم ما يعظهم ويزجرهم عما هم فيه، ويدعوهم إلى الإيمان والتوحيد، لكنهم اعتقدوا العناد والمكابرة. وقوله: (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ). أي: لو جئتهم بالآية التي سألوك -أيضًا- فلا يصدقوك ولا يقبلوا الهدى، ويقولون ما ذكر: (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ). ويشبه أن يكون ما ذكر من ضرب المثل للفريقين جميعًا للمؤمن والكافر، ويكون التأويل - واللَّه أعلم -: ولقد ضربنا وبينا للناس لأفعالهم وأحوالهم من القبيح والحسن مثلا وشبها ما يعرفون به قبح كل قبيح، وحسن كل حسن، وما بين لهم الحق من الباطل، والعدل من الجور؛ لأن أُولَئِكَ الكفرة لم يعتبروا ولم يتأملوا، ثم رجع إلى وصف أُولَئِكَ الكفرة، فقال: (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ)، أي: بزيادة في البيان والوضوح، (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ)، واللَّه أعلم. وقوله: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) قد ذكرنا في غير موضع أن قوله: (لَا يَعْلَمُونَ) يخرج على وجهين: أحدهما: لم يعلموا؛ لما لم يتأملوا ولم ينظروا في أسباب العلم لكي يعلموا، ولا عذر لهم في جهلهم ذلك؛ لما أعطوا أسباب العلم، لكنهم لم يستعملوها فمنهم جاء ذلك؛ فلم يعذروا. والثاني: نفى عنهم العلم على وجوده لهم وكونه؛ لما لم ينتفعوا بما علموا، على ما ذكرنا من نفي الحواس عنهم، مع وجود تلك الحواس وكونها لهم؛ لما لم ينتفعوا بها ولم يستعملوها فيما جعلت تلك وأنشئتا لها؛ فعلى ذلك العلم، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) قَالَ بَعْضُهُمْ: فاصبر على تكذيبهم إياك بالعذاب الذي وعدت لهم؛ إن وعد اللَّه حق

في العذاب بأنه نازل بهم. وجائز أن يكون قوله: (فَاصْبِرْ)، أي: اصبر على أذاهم الذي يؤذونك؛ إن وعد الله حق في النصر لك والمعونة. وقوله: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ). كأنه يقول: لا يحملنك أذاهم إياك حتى تدعو عليهم بالعذاب والهلاك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ)، أي: لا يستفزوك، ويقول: لا يستجهلنك، وأصله ما ذكرنا: ألا يحملنك أُولَئِكَ الكفرة على الخفة والعجلة والجهل؛ حتى تدعو عليهم بإنزال العذاب والهلاك لهم، وهو - واللَّه أعلم - كأنه من الاستخفاف. * * *

سورة لقمان

سُورَةُ لُقْمَانَ كلها مَكِّيَّة إلا آيتين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الم). قد ذكرنا تأويله في غير موضع فيما تقدم وما ذكر فيه. وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) قَالَ بَعْضُهُمْ: (تِلْكَ) إشارة إلى ما بشر به الرسل المتقدمة أقوامهم من بشارات، يقول: تلك البشارة هي آيات. (الْكِتَابِ). أي: هذا القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تلك الآيات التي في السماء هذا الكتاب. ومنهم من قال: تلك الآيات التي أنزلت متفرقة، فجمعت؛ فصارت قرآنا، واللَّه أعلم. وقوله: (الْكِتَابِ الْحَكِيمِ). سمى الكتاب: حكيمًا كريمًا مجيدًا ونحوه؛ فيحتمل تسميته: حكيمًا وجوهًا: أحدها: لإحكامه وإتقانه، أي: محكم متقن لا يبذل ولا يغير، وهو كما وضعه - عز وجل - (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ). والثاني: سماه: حكيمًا؛ لأن من تمسك به، وعمل بما فيه يصير حكيمًا مجيدًا كريمًا. والثالث: سماه حكيمًا؛ لأنه منزل من عند حكيم؛ كقوله: (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

(3)

وقوله: (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) قوله: (هُدًى)، أي: توفيقًا وعصمة ومعونة للمحسنين، وكذلك هو رحمة لهم في دفع العذاب عنهم. وأما ما يقول أهل التأويل: (هُدًى)، أي: بيانًا للمحسنين فهو بيان للكل ليس لبعض دون بعض؛ فلا يحتمل الهدى البيان في هذا الموضع؛ ولكن ما ذكرنا من المعونة والتوفيق والعصمة. والمحسن - هاهنا - جائز أن يكون المؤمن؛ كقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ): الصبار: هو المؤمن، والشكور: هو المؤمن، سمى المؤمن: صبارا مرة وشكورا مرة ومحسنا مرة؛ لأنه يعتقد بالإيمان كل ما ذكر من الصبر والشكر والإحسان وكل خير، واللَّه أعلم. وقوله: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) قد ذكرنا تأويله فيما تقدم في غير موضع. وقوله: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) تأويلِ الهدى ما ذكرنا في هذا الموضع من التوفيق والعصمة والمعونة. (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). قد ذكرناه أيضًا. وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) اختلف في قوله: (مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس على حقيقة الاشتراء نفسه؛ ولكن على الإيثار والاختيار؛ لأن الاشتراء هو مبادلة أخذ وإعطاء، ولكن آثروا واختاروا الضلال مع قبحه عندهم على الهدى مع حسنه؛ فعلى ذلك آثروا لهو الحديث واختاروه على الحق وحكمة الحديث، واختاروا الفاني على الباقي؛ فسماه: شراء لذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على حقيقة الاشتراء. لكنهم اختلفوا: فمنهم من يقول: إنه على

(7)

اشتراء المغنية والمغني كانوا يشترونهم؛ ليتلهوا بهم ويلعبوا. ومنهم من قال: كان أحدهم يشتري ويكتب عن لهو الحديث وباطله من حديث الأعاجم، فيحدث بها قريشًا، ويقول: إن محمدا يحدثكم بأحاديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بأحاديث فارس والروم؛ فذلك اشتراؤه لهو الحديث وإضلاله الناس عن سبيل اللَّه فأعرضوا عن القرآد والإيمان بمحيد. (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا). وكان إذا سمع شيئًا من القرآن اتخذها هزوا، هكذا عادة الكفرة وأهل النفاق: كانوا يستهزئون بالقرآن وبرسول اللَّه وأصحابه. ثم أوعدهم الوعيد الشديد؛ حيث قال: (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ). وابن مسعود وابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - يقولان في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ): هو شراء المغنية والغناء، وقد روي مرفوعًا عن أبي القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تبيعوا المغنيات ولا تشتروهن، ولا تعلموهن ولا خير في التجارة فيهن، وثمنهن حرام ". وفي مثله أنزلت هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ. . .) الآية، فإن ثبت هذا فهو تفسير لهو الحديث الذي ذكر في الآية. وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) أي: أعرض متعظمًا متجبرًا. قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا): يحتمل قوله: (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)، و (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) على التقرير. ويحتمل: على نفي الحقيقة. فإن كان على التقرير فهو على ترك الاستماع. وإن كان على حقيقة النفي فقد ذكر في كثير من الآي ذلك كقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، وذلك يحتمل وجهين - واللَّه أعلم - ثم أوعده العذاب الشديد؛ حيث

(8)

قال: (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ). وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) قوله: (آمَنُوا) بجميع ما أمروا بالإيمان به، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) بما تعبدوا من العمل بالطاعات والصالحات. (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ). كل الجنان التي وعد للمؤمنين نعيم يتنعمون فيها خالدين فيها. (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ... (9) أي: ما وعد للمؤمنين من جنات النعيم هو حق كائن لا محالة، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). * * * قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وقوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: خلق السماوات بعمد لا ترونها. وقيل: لعل لها عمدا لكن لا ترونها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلقها بلا عمد، لكن الأعجوبة فيما خلقها بعمد لا ترونها ليست بدون الأعجوبة في خلقها بلا عمد؛ لأن رفع مثلها بعمد لا ترى أعظم في اللطف والقدرة من رفعها بلا عمد؛ إذ العمد لو كانت مقدار الريشة أو الشعرة ترى، فرفعها مع ثقلها وعظمها وغلظها على عمد لا ترى هو ألطف من ذلك وأعظم في الأعجوبة مما ذكرنا، فأيهما كان ففيه دلالة ألا يجوز تقدير قوى الخلق بقوى اللَّه - تعالى - ولا قدرة الخلق بقدرته، ولا سلطان الخلق بسلطانه؛ بل هو القادر على الأشياء كلها بما شاء وكيف شاء، لا يعجزه شيء. وقوله: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ).

(11)

وقال في آية أخرى: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ)، والرواسي: هن الثوابت، أي: أثبت الأرض بالجبال؛ كقوله: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) أي: أثبتها. وقوله: (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)، أي: لئلا تميد بكم، ذكر الميد - وهو الميل والاضطراب - وليس من طبع الأرض الميل والاضطراب؛ وإنما طبعها التسرب والتسفل والانحدار؛ فلا يدري أن كيف حالها في الابتداء؛ وما في سريتها مما يحملها على الاضطراب والميد؛ حتى أثبتها وأرساها بالجبال، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: بث: خلق، وقيل: بث: فرق، وفيه أنه جعل الأرض مكانا ومعدنا لكل أنواع الدواب الممتحن وغير الممتحن، والمميز وغير المميز، والسماء لم تجعل إلا لنوع من الخلق أهل العبادة. وقوله: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ). أي: أنبتنا فيها من كل لون يتلذذ به الناظر إليه، كريم ينال منه كل ما أراده وتمناه؛ إذ الكريم هو ما يطمع منه نيل كل ما عنده وأريد منه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكريم: الحسن، أي: أنبتنا فيها من كل لون حسن ما يستحسنه الناظر ويتلذذ به، على ما ذكر في آية أخرى: (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ): ما يبهج ويسر به كل ناظر إليه، واللَّه أعلم. وقوله: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ ... (11) يقول: ما ذكر من خلق السماوات والأرض وما بث من الدواب، وما أنبت من كل زوج كريم. وقوله: (فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ). يذكر سفههم، يقول: إنكم تعلمون أن ما ذكر من السماوات والأرض، وجميع ما فيهما - هو كله خلق اللَّه، وأنه هو خالق ذلك كله، وأن الأصنام التي تعبدونها من دونه لم تخلق شيئًا من ذلك، ولا تملك خلق شيء؛ فكيف تعبدونها من دونه، وسميتموها: آلهة، وصرفتم العبادة والألوهية عن الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض وما فيهما؟! وإنما يستحق الألوهية والربوبية لخلقه ما ذكر؛ فالأصنام: إذا لم يكن منها خلق؛ فكيف سميتموها: آلهة وعبدتموها دون اللَّه؟! هذا - واللَّه أعلم - تأويل قوله: (فَأَرُونِي مَاذَا

(12)

خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)، أي: لم يخلق، يخبر عن سفههم وقلة معرفتهم، وسرفهم في القول والفعل، واللَّه أعلم. وقوله: (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). يحتمل (الظَّالِمُونَ) وجو هًا: أحدها: ظلموا أنفسهم؛ حيث وضعوها في غير موضعها الذي أمرهم اللَّه أن يضعوها، وهو وضعهم إياها في عبادة الأصنام. أو ظالمو حدود اللَّه التي حدها لهم، لم يحفظوها على تلك الحدود؛ بل جاوزوها. أو سماهم: ظلمة؛ لما ظلموا نعم اللَّه، ولم يشكروها، واللَّه أعلم. وقوله: (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، أي: في حيرة بينة، أو هلاك بين. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة هي الإصابة في القول والفعل من غير نبوة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أعطي الفهم واللب، وقيل: الفهم والفقه في الدِّين، وقيل: العلم؛ كأنه يقول: أعطيناه العلم والفهم بالكتب المتقدمة. والفقه: هو معرفة الشيء بنظيره الدال على غيره، أو معرفة ما غاب بما شهد، أو معرفة الخفي الباطن. بالظاهر، ونحوه. والفلاسفة يقولون: الحكمة هي المعرفة مع العمل، والحكيم: هو الذي له المعرفة

(13)

والعلم والعمل جميعًا؛ فحينئذ يسمى: حكيمًا. وقوله: (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ). كأنه قال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) يحتمل الوجوه التي ذكرنا - وقلنا له: أن اشكر لله فيما أعطاك من الحكمة، وغير ذلك من النعمة، وهذا يدل أن لله فيما يكتسب المؤمن الحكمة والعلم صنعًا؛ إذ لو لم يكن له ألما كان، لقوله: (آتَيْنَا) معنى؛ إذ هو للعبد وكسبه ألا ترى أنه أمره أن يشكر له على ذلك، ولو لم يكن له صنع في ذلك لكان لا يأمره بالشكر له على ما لا صنع له فيه؛ إذ يخرج ذلك مخرج طلب الحمد والشكر على ما لم يفعل، وقد ذم من أحب أن يحمد بما لم يفعل؛ فلا يحتمل أن يأمر هو بالحمد والشكر على ما لم يفعل ولا صنع له في ذلك؛ دل أن له فيه صنعًا، وهو ينقض على المعتزلة في قولهم: أن ليس لله في فعل العبد صنع، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ). هذا يدل أن ما يأمر عباده وينهاهم، وفيما امتحنهم إنما يمتحنهم ويأمرهم وينهاهم؛ لمنافع أنفسهم وحاجتهم، لا لمنفعة نفسه أو لحاجته؛ حيث قال: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)؛ حيث يتم تلك النعمة ويديمها له؛ فهو بالشكر ينفع نفسه. ومن كفر فإنما ضرر كفره يلحقه دون اللَّه؛ ألا ترى أنه قال: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي: غني عن شكره وحمده، حميد وإن لم يحمده أحد من خلقه؛ لأنه غني بذاته، حميد بصنائعه وآلائه وإن لم يحمد هو ولم يشكر على ذلك، لا ينفعه شكر أحد ولا حمده، ولا يضره كفران أحد ولا ترك الشكر له والحمد، وباللَّه الحول والقوة. وقوله: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) يحتمل قوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وجوهًا: أحدها: ظلموا أنفسهم؛ حيث وضعوها في غير موضعها، وأوقعوها في المهالك، بعدما صورها أحسن تصوير ومثلها أحسن تمثيل، وأعظم الظلم من عمل وسعى في هلاك أو (لَظُلْمٌ عَظِيمٌ): ظلموا نعم اللَّه؛ حيث صرفوا شكرها إلى غير منعمها. أو ظلموا ظلمًا عظيمًا؛ حيث لم يقبلوا شهادة وحدانية اللَّه وألوهيته فيما جعلها في خلقتهم وبنيتهم؛ إذ جعل في خلقة كل أحد الشهادة على وحدانيته وربوبيته، وذلك أعظم الظلم وأفحشه.

(14)

وقوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) ولم يذكر هاهنا بماذا وصاه، فجائز الوصية بما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)، و (إِحْسَانًا)، والإحسان: هو اسم ما حسن من فعل. وقوله: (حُسْنًا): هو اسم ما حسن مما كان يفعله، وهما واحد في الأصل. وقوله: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ). أي: ضعفا على ضعف، أي: كلما مضى عليها وقت ازداد فيها ضعف على ضعف ووجع على وجع، أمر بالإحسان إليهما جميعًا، ثم ذكر ما حملت الأم من المشقة والشدة، ولم يذكر من الأب شيئًا، وقد كان للأب وقت احتمال الأم المشقة - اللذة والسرور والفرح؛ فجائز أن يقال: إن كان من الأب بإزاء تلك المشقة التي احتملت الأم معنى ما يؤمر أن يشكو له ويحسن إليه - وهو ما يتحمل من الإنفاق عليها وعليه في حال الرضاع، وهو ما ذكر (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وقوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، أو ما جعله مطعونًا في الناس بحيث لم يعرف له نسب ينسب إليه؛ بل جعله معروف النسب غير مطعون في الخلق ونحوه. ثم ذكر الفصال ولم يذكر الرضاع والمشقة في الإرضاع لا في الفصال، لكنه ذكر تمام الرضاع وكماله؛ إذ بالفصال يتم ذلك ويكمل، وفي ذكر التمام له والكمال ذكر الرضاع، وليس في ذكر الرضاع نفسه ذكر تمامه؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ). أمر بالشكر له ولوالديه، وحاصل الشكر راجع إليه دون من يشكر له؛ إذ كل من صنع إلى آخر ما يستوجب به الشكر والثناء - فباللَّه صنع ذلك إليه وبنعمه كان منه ذلك؛ فكل من حمد دونه أو شكر - فراجع إليه في الحقيقة ذلك. ثم يخرج قوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) على وجهين: أحدهما: اشكر لي فيما تشكر والديك بإحسانهما إليك؛ فإنهما ما أحسنا إليك إلا بفضلي ورحمتي؛ كقوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ)، أي: اذكروا اللَّه فيما تذكرون آباءكم بصنعهم؛ فإنهم إنما فعلوا ذلك بفضل اللَّه. أو أن يكون قوله: (اشْكُرْ لِي) فيما أنعصت عليك، (وَلِوَالِدَيْكَ): فيما أحسنا إليك وربياك، واللَّه أعلم. وقوله: (إِلَيَّ الْمَصِيرُ): قد ذكرنا أنه خص ذلك المصير إليه، وإن كانوا في جميع الأوقات صائرين إليه راجعين بارزين له؛ لما المقصود من إنشائهم في هذا ذاك، وصار

(15)

إنشاؤهم وخلقهم في الدنيا حكمة بذاك، ما لولا ذلك لكان عبثًا باطلا، على ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) أمر في الآية الأولى بالإحسان إليهما وبالبر لهما والطاعة، ثم بين أن لا في كل أمر يطاعان، ولا في جميع ما يأمران ويسألان يجابان؛ إنما يطاعان ويجابان فيما يؤذن لهما ويباح لهما، لا فيما لا يؤذن ولا يباح بحال؛ بل يؤمر بالخلاف لهما واعتقاد المعاداة، فضلا أن يطاعا ويجابا إلى ما يدعوان أو يأمران، وكذلك ذكر في الخبر: " أن لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق ". وإنما أمر بحسن المصاحبة لهما والمعروف: فيما لم يكن في ذلك معصية الخالق؛ حيث قال: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا). وقوله: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ). قَالَ بَعْضُهُمْ: اتبع دين من أقبل إلى ورجج إلى طاعتي وهو النبي. أو أن يكون قوله: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)، أي: اتبع سبيلي وديني؛ كقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ)، فعلى ذلك الأول جائز أن يكون تأويله: اتبع سبيلي وديني، ولا تتبع غيري، واتبع سبيل من أناب ورجع إلي، ولا تتبع سبيل من لم ينب ولم يرجع إلي. ثم أخبر برجوع الكل إليه: من رجع وأناب إليه، ومن لم يرجع ولم ينب إليه؛ على الوعيد حيث قال: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ. . .) الآية، وهو كقوله: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ. . .)، إلى قوله: (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا)، أي: من استنكف ومن لم يستنكف يحشر إليه جميعًا؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) لا يحتمل أن يكون هذا الكلام والقول من لقمان كان لابنه ابتداء من غير سؤال كان في ذلك؛ فيعلم أنه كان ذلك منه عن سؤال، لكن لا نعلم ما كان السؤال؟ وعم كان؟ فإما أن كان السؤال عن علمه، فأخبره بما ذكر من حبة مستترة التي ذكر، مكنونة في أخفى الأمكنة عن الخلق، فيما لا يطلع أحد منهم ولا يبلغه علم الخلائق (يَأْتِ بِهَا اللَّهُ)، أي: يعلمها اللَّه؛ فإن كان على هذا الذي، ذكر فيلزمهم أن يكونوا أبدًا مراقبين أعمالهم وأحوالهم في جميع حالاتهم وأوقاتهم وجميع أمورهم؛ لما لا يخفى عليه شيء. أو أن يكون السؤال عن قدرة اللَّه وسلطانه؛ فأخبر أن اللَّه - تعالى - قادر على

استخراج تلك الحبة التي استترت واحتجبت عن الخلق بالحجب التي ذكر: ما يعجز الخلائق عن استخراج مثلها من مثل تلك الحجب والأمكنة؛ فيخافون قدرة اللَّه، ويهابون سلطانه في الانتقام منهم في مخالفة أمره ونهيه. أو أن يكون السؤال عن الرزق؛ فيخبر بهذا أن الشيء وإن كان في مكان لا يبلغه وسع البشر وحيلهم في استخراج ذلك منه والوصول إليه بحال - فاللَّه سبحانه؛ بلطفه يرزق الخلق بأشياء خارجة عن وسعهم وحيلهم ما لا يقع لهم الطمع في ذلك؛ ليكونوا أبدًا في كل حال مطمئنين في الرزق لا يؤيسهم عجزهم ولا تعذر حيلهم عن ذلك، وألا يعلقوا قلوبهم في الرزق بالأسباب التي بها يكتسبون؛ وكذلك قال: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ). أو أن يكون السؤال عن جزاء ما يعمل المرء من قليل أو كثير ومما عظم ولطف، فيخبر أنه يجزي بقليل العمل وكثيره، وكذلك يقول بعض أهل التأويل ذلك: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ): من خير أو شر، (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ): في جبل، (أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ)، أي: يجازيها اللَّه؛ فيكون على هذا التأويل كقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)، فأي شيء كان، ففي ذلك: دلالة وحدانية اللَّه، ودلالة علمه وتدبيره، ودلالة قدرته وسلطانه، ودلالة الثقة به، والتوكل عليه في الرزف، والتفويض في الأمر في كل ما خرج عن وسع الخلق، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ). قال عامة أهل التأويل: إن اللَّه لطيف في استخراج تلك الحبة، خبير بمكانها، وتأويل هذا الكلام: أي: يستخرج تلك الحبة من الحجب التي ذكر والأستار التي بين استخراجا لا يشعر بها أحد، ولا علم كيفية الاستخراج منها ولا ماهيته. واللطيف: هو البار. ثم يخرج هو على وجهين: أحدهما: فيما أرسل من الرسول، وما أنزل من الكتب؛ ليدلهم إلى ما يهتدون وإِلَى ما به نجاتهم، خبير بحوائجهم. والثاني: تأويل اللطيف يحتمل وجهين: أحدهما: البار على ما ذكرنا.

(17)

والثاني: في استخراج أمور لا يبلغها وسع الخلق ولا علمهم وحيلهم، واللَّه أعلم. وقوله: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) يحتمل الأمر بإقامة الصلاة وجهين: أحدهما: الصلاة التي عرفتها العرب، وهي المسألة والدعاء والثناء على اللَّه والتحميد له والتمجيد؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ. . .) الآية. وهذه الصلاة المذكورة في هذه الآية هي الدعاء والاستغفار والرحمة له والمغفرة؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون الأمر بإقامة الصلاة هو الأمر بمسألة الرب حوائجه ومغفرته ورحمته؛ ليكون أبدًا في كل حال متضرعًا إلى اللَّه، مظهرًا حاجته إليه ومثنيا عليه، واصفًا عظمته وجلاله وبريائه. والثاني: أراد به الصلاة المعروفة المعهودة على شرائطها التي جعلت وشرعت؛ فإن كان هذا ففيها -أيضًا- ما في الأول من الدعاء والثناء على اللَّه - تعالى - والوصف له بالعظمة والجلال؛ لأنها جعلت من أولها إلى آخرها ذلك. وإن كان أراد بالصلاة: الصلاة المعروفة ففيه أن الصلاة التي شرعت لنا كانت للأمم المتقدمة، وعلى ذلك يخرج قول إبراهيم حيث قال: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ)، وقول عيسى حيث قال: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ). المعروف: اسم كل بر وخير وكل مستحسن في العقل والطبع. والمنكر: اسم كل شر وسوء مستقبح في العقل والطبع. ثم يخرج قوله: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) على وجوه: أحدها: المعروف الذي جاءت به الرسل عن اللَّه، وشرعوه للخلق، ودعوا إليه الخلق. والمنكر -أيضًا-: هو الذي أنكرته الرسل، ونهت الخلق عنه. أو أن يكون المعروف هو الذي يقبله كل عقل صحيح، ويستحسنه كل طبع سليم. والمنكر: هو الذي ينكره كل عقل صحيح ولا يقبله، ويستقبحه كل طبع سليم، يعرف بالبداهة قبحه وحسنه. أو يعرف أنه معروف أو منكر عند التأمل والتفكر؛ فكله يرجع إلى واحد: إلى ما ذكرنا بدءًا، لكنه يختلف فيما ذكرنا من السبب. وقوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ).

(18)

من الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أهل السفه منهم والفسق؛ فلا بد من أن يصيب الأذى من تولى ذلك، وهذا يدل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اللوازم: لا يسع تركه، وإن أصابه الأذى في ذلك. وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: إن ذلك من حزم الأمور، والحزم: من إحكام الشيء وإتقانه؛ كأنه يقول: إن ذلك من محكم الأمور ومتقنها؛ لأن الشيء إذا حزم وشدد يؤمن عن سقوطه وذهابه؛ فعلى ذلك ما ذكر. وقال: العزم: هو القطع والثبات على شيء، تقول: عزمت على كذا وعلى أمر كذا: إذا قطع تدبيره ورأيه واضطرابه، وجعله بحيث لا يرجع ولا يتحول عنه للدنيا، أو لأمر من أمورها؛ ولكن ثبت على ما عزم وقطع " فهو العزم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) قوله: [(ولا تصاعر] و (وَلَا تُصَعِّرْ)، بالألف وبغير الألف، كلاهما لغتان. ثم أهل التأويل أو أكثرهم يقولون: قوله: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)، أي: لا تعرض وجهك عن الناس؛ تعظمًا وتجبرًا وتكبرًا، وكذلك في قوله: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا): بطرا فرحا بالمعصية في الخيلاء والعظمة، مستكبرًا جبارًا، عامتهم يفسرونه بالإعراض للتكبر والتجبر، وكذلك يقول الحسن: إنه قال: هو الإعراض عن الناس من الكبر؛ استحقارا لهم واستخفافا بهم. والزجاج يقول: الصعر: هو داء يأخذ البعير؛ فيلوي عنقه؛ فعلى تأويله يكون قوله: (وَلَا تُصَعِّرْ)، أي: لا تلو عنقك عن الناس. وأَبُو عَوْسَجَةَ يقول قريبًا من ذلك؛ يقول: (وَلَا تُصَعِّرْ)، أي: لا تتجبر، وهو أن تلوي عنقك؛ فلا تنظر إليهم كبرًا. ويقول: الصعر: هو اعوجاج في العنق؛ يقال: رجل أصعر، وبعير أصعر، وبه صعر، ويقال في الكلام: فلان صعر خده؛ إذا لوى رأسه عن الناس؛ فلم ينظر إليهم؛ كبرا منه. وقال - كما قال الزجاج -: إن الصعر داء يأخذ البعير؛ فيلوي عنقه، وأصله: الإعراض؛ على ما ذكره أهل التأويل وأهل الأدب.

(19)

ثم هو يخرج على وجهين: أحدهما: ما ذكر أهل التأويل من حقيقة الإعراض؛ تكبرًا وتعظيمًا لأنفسهم، واستخفافا بالناس واستحقارا لهم؛ لما لم يروا الناس أمثالا لأنفسهم؛ وعلى ذلك يخرج قوله: (وَلَا تمَشِ فِي الْأَرْضِ) على حقيقة المشي على التكبر والتجبر، على ما ذكرنا. والثاني: ليس على حقيقة الإعراض بالوجه عنهم، ولا على حقيقة المشي بالأقدام؛ ولكنه كناية عن الامتناع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترك لذلك، لا على التكبر والتجبر عليهم والاستخفاف بهم، ولكن على الحذر والخوف منهم. فإن كان الامتناع والإعراض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - فلم يعذروا في ترك ذلك؛ لما يحذرون ويخافون منهم. وكذلك يخرج قوله: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ (19) على الوجهين اللذين ذكرناهما: أحدهما: على الأمر بقصد المشي وخفض الصوت: حقيقة المشي وحقيقة الصوت. والثاني: على الكناية عن كيفية المعاملة وماهيتها فيما بين الناس. فإن كان على حقيقة المشي والصوت، فكأنه يقول: أي اقصد في المشي في الناس، ولا تمش متكبرا مستخفا بهم؛ لتؤذيهم، (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ)، أي: لا ترفع صوتك فوق أصواتهم فتؤذيهم بالصوت، ولكن لينهم بالقول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: امش هينًا لينا، ناكس الرأس، ناظرًا حيث تمشي، غير ناظر إلى ما لا يحل ولا يسع، ولا رافع صوتك على الناس فتؤذيهم؛ فيكون صوتك عندهم كصوت الحمير الذي ذكر؛ فينكرونه كما ينكر صوت الحمير. وإن كان على الكناية عن الأحوال في المعاملة فيما بين الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تطلبوا لأنفسكم في ذلك العلو والرفعة ونفاذ القول وقبوله؛ ولكن كونوا في ذلك عادلين قاصدين غير طالبين العلو والرفعة ونفاذ القول وقبوله. وقوله: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذكرنا، أي: لا ترفع صوتك على الناس فتؤذيهم كما يؤذي الحمار؛ فيكون صوتك عليهم كصوت الحمار. أو يذكر هذا؛ لأن الحمار إنما يصيح لحاجة لنفسه وشهوته، وسائر الأشياء إذا صاحوا

(20)

إنما يصيحون لحاجة أهلها؛ فيذكر أنكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر لا تفعلوا لمنفعة أنفسكم أو لحاجتكم؛ ولكن قوموا لله في ذلك أو لما ذكرنا. أو خصَّ صوت الحمير؛ لأنه ليس من صوت إلا وفيه لذة ومعونة، غير صوت الحمير؛ فإنه ليس فيه لذة ولا منفعة. أو ذكر؛ لما قيل: إن أوله زفير وآخره شهيق؛ فيشبه زفير أهل النار وشهيقهم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). قال: المختال: المتكبر البطر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المختال: الخداع الغدار، والفخور: يحتمل الذي يفتخر بكثرة المال؛ أو لما لا يرى أحدًا شكلا لنفسه. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وقوله: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). قوله: (أَلَمْ تَرَوْا): قد ذكرنا أنه يخرج على وجهين: أحدهما: على الخبر: أن قد رأوا وعلموا أنه سخر لهم ما ذكر. والثاني: على الأمر، أي: انظروا وروا: أنه سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض؛ لينتفعوا بجميع ما يحتاجون إليه، ويصلوا إلى مرادهم وحاجتهم وإلى قضاء وطرهم كيف شاءوا بما شاءوا. أو أن يذكر قدرته وسلطانه: أن من ملك تسخير ما ذكر لنا ومكنا وأقدرنا على تدبير استعمال ما سخر لنا والانتفاع به - لقادر على البعث والإحياء بعد الموت، وأنه لا يعجزه شيء. أو أن يذكر حكمته وعلمه: أن مثل هذا التسخير لا يكون إلا بحكمته، ولو لم يكن هنالك بعث وعاقبة، لكان خلق الخلق وتسخير ما ذكر لعبا باطلا، على ما ذكرنا في غير موضع. وقوله: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ): المسخر ما في السماوات يحتمل: المطر والسحاب

(21)

والشَّمس والقمر، ونحوه مما جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض؛ حتى لا تقوم منافع الأرض إلا بمنافع السماء. أو الملائكة؛ لأنهم قد امتحنوا ببعض ما يقع بمنافع البشر، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً). ذكر عن ابن عَبَّاسٍ أنه قال: سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول اللَّه، ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة؛ قال: " أما ما ظهر - يا ابن عَبَّاسٍ - فالإسلام، وما سوى من خلقك، وما أسبغ عليكم من الرزق، وأما ما بطن: ستر مساوي عملك فلم يفضحك بها. "، فإن ثبت الخبر فلا تقع الحاجة إلى غيره؛ فهو تأويل الآية، وإلى هذا ذهب عامة أهل التأويل. وجائز أن يكون النعمة الظاهرة هو ما ظهر من الحسن والطهارة. وأما النعمة الباطنة: ما ستر من الأنجاس والعيوب والأقذار ما لو ظهر ذلك لم يدن مكه أحد، لخبثه ونجاسته. وبعضهم يقولون: الظاهرة باللسان، والباطنة بالقلب. وقال مجاهد: الظاهرة: الإسلام والرزق، والباطنة: ما ستر من الذنوب والعيوب، وهو قريب مما ذكر في الخبر المرفوع واللَّه أعلم. وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ). المجادلة في اللَّه: يحتمل في توحيد اللَّه، أو في الرسالة أنه أرسل أو لم يرسل؛ أو في البعث: أيبعث أو لا يبعث؛ ونحوه، أو يجادل في كتابه. وقوله: (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ). أسباب العلم ثلاثة: العقل، والسنة، والكتاب: يتفكر وينظر بالعقل؛ فيعرف، وبيان السنة والكتاب يبيق؛ فلم يكن مع الذين يجادلون رسول اللَّه في الشيء من ذلك وخاصة أهل مكة: كانوا لا يؤمنون بالرسل والكتب؛ فكأنه يقول: ومن الناس من يجادل في اللَّه وهم يعلمون أنه ليس معه معقول ولا بيان من السنة والكتاب، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)

وقال في اية أخرى: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) ، وقال في آية أخرى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)؛ كأنه يقول لرسول اللَّه: أن قل لهم: تتبعون آباءكم وتقلدونهم، وإن ظهر لكم وتبين أن الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير، وأنهم من أصحاب السعير، وتتبعون آثارهم مقتدين بهم وإن ظهر لكم وتبين أن الذي أدعوكم أنا إليه وجئتكم أهدى مما عليه آباؤكم؛ إذ تتبعون آباءكم وإن ظهر وتبين أن آباءكم كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟! حتى إن قالوا: نعم، نتبعهم وإن كانوا كما ذكرت - فإنه يظهر ويبين عنادهم ومكابرتهم عند اتباعهم؛ حيث ظهر الحق لهم فلم يتبعوا، بل اتبعوا أهواءهم ويظهر كذبهم في قولهم: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، أو في قولهم: إن آباءهم على ما هم عليه؛ بل في آبائهم من هو على خلاف ما هم عليه ونحوه. وإن قالوا: لا نتبعهم إذا كانوا على ما ذكرت؛ فعند ذلك يقترن ويثبت عندهم بالحجج والبرهان. وفيه دلالة: أن أهل الفترة يعذبون ويؤاخذون بتركهم الدِّين والشرائع؛ لأن هَؤُلَاءِ الذين أخبر أنهم من أصحاب السعير هم أهل الفترة ما بين عيسى وبين مُحَمَّد. وأهل التأويل يقولون: أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير. ومُحَمَّد بن إسحاق يقول: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)، أي: لا تعرض بوجهك عن فقراء الناس، أي: إذا كلموك و (مَرَحًا)، أي: فخرا بالخيلاء والعظمة، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، أي: بطر ومرح، فخور في نعم اللَّه لا يأخذ بالشكر، (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ): رويدًا، لا تختل في مشيك ولا تنظر حيث لا يحل، (وَاغْضُضْ)، أي: اخفض (مِنْ صَوْتِكَ)، أي: من كلامك، يأمر لقمان ابنه بالاقتصاد في المشي والمنطق، ثم ضرب للصوت الرفيع مثلا فقال: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) لشدة صوتهم. وقوله: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ): يعني: الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح، (وَمَا فِي الْأَرْضِ)، أي: الجبال والأنهار والبحار فيها السفن والأشجار والنبت عاما بعام، (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً): تسوية الخلق والرزق والإسلام، (وَبَاطِنَةً)، أي: ما ستر من الذنوب من ابن آدم فلم يعلم بها أحد ولم يعاقب فيها، فهذا كله من النعم؛ فالحمد لله على ذلك حمدًا كئيزا كما أصله. وقال في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ): في زعمه أن لله البنات، أي: الملائكة، (وَلَا هُدًى)، أي: لا بيان معه من اللَّه بما يقول، (وَلَا كِتَابٍ): له فيه

(22)

وأصله ما ذكرنا: (يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) من الوجوه التي ذكرنا: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) من جهة العقل، (وَلَا هُدًى) أي: ولا بيان من جهة السنة، (وَلَا كِتَابٍ) من اللَّه فيه حجة له، وأسباب العلم هذه، فلم يكن له شيء مما ذكر، وباللَّه العصمة. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المرح: النشاط، وهذا لا يكون إلا من الكبر؛ لأنه يتبختر، (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ)، أي: امش مشيًا رفيقًا، (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي: ارفق لا تصوت صوتًا شديدًا، وهذا -أيضًا- من التبختر، (وَأَسْبغَ)، أي: أوسع، والسابغ: الواسع التام الطويل العريض. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الأصعر: مُعْرِض الوجه، وأنكر الأصوات: أقبحها، عرفه قبح رفع الصوت في المخاطبة. وقوله: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) يحتمل قوله: (وَجْهَهُ)، أي: نفسه؛ كأنه قال: ومن يسلم نفسه لله، وجعلها سالمة له لم يجعل لأحد فيها شركا. (وَهُوَ مُحْسِنٌ). في عمله إلى نفسه، أي: لا يستعملها إلا في طاعة اللَّه، وفيما أمر به، فإذا فعل ذلك، (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)، أي: فقد استمسك باوثق العرا وأثبتها؛ على ما ذكر في آية أخرى: (لَا انْفِصَامَ لَهَا)، أي: فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انقطاع ولا زوال؛ لأنها ثبتت بالحجج والبراهين، لا بالهوى؛ فكل شيء ثبت بالحجة والبرهان - فهو ثابت - أبدا لا زوال له ولا انقطاع، وكل شيء ثبت بالهوى؛ فهو يزول وينقطع عن قريب؛ لزوال الهوى. وجائز أن يكون قوله: (وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ)، أي: يسلم وجه أمره لله؛ فالوجه عبارة وكناية عن أمره، أي: يسلم أمره إلى اللَّه ويفوضه إليه. أو يكون كناية عن نفسه؛ فتأويله ما ذكر بدءًا. وأهل التأويل يقولون: (يُسْلِمْ وَجْهَهُ)، أي: دينه لله، أي: يخلص دينه لله، كقوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) أي: لكل أهل دين ومذهب، واللَّه أعلم. وقوله: (وَهُوَ مُحْسِنٌ) يحتمل وجوهًا:

(23)

أحدها: ما ذكرنا: وهو محسن إلى نفسه في عمله: لا يستعملها إلا فيما أمر بالاستعمال فيه، وهو طاعة اللَّه لا يوقعها في المهالك. أو هو محسن إلى الناس بالمعروف والبر. أو محسن، أي: عالم؛ كما يقال: أحسن، أي: علم. وبعض أهل التأويل يقول: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ)، أي: أخلص عمله لله، (وَهُوَ مُحْسِنٌ)، أي: مؤمن؛ كقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، وهو قول ابن عَبَّاسٍ ومقاتل، يقول: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ)، أي: يخلص دينه لله، (وَهُوَ مُحْسِنٌ): في عمله، (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ). وقوله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى): هو ما ذكرنا: أنه استصسك بأوثق العرا وأثبتها؛ لأنه إنما ثبت بالحجة والبرهان لا بالهوى والتمني، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). هذا يخرج على وجوه: أحدها: وإلى اللَّه تدبير عاقبة الأمور وتقديرها، لا إلى الخلق. والثاني: إلى من له التدبير والتقدير يرجع عاقبة الأمور. أو أن يخص رجوع عاقبة الأمور والمصير والرجوع إليه والبروز له والخروج، وإن كانوا في جميع الأوقات كذلك؛ لما ذكرنا - أن المقصود من خلق هذا العالم - العالم الثاني، والمقصود من خلق الدنيا: الآخرة؛ إذ به يصير حكمة وحقا؛ فخص ذلك له وأضافه إليه لذلك. أو لذكر ذلك؛ لما لا ينازع في ذلك اليوم وقد نوزع في هذه؛ ولذلك قال: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). وقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ... (23) حزنا تتلف وتهلك فيه، كقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)؛ فيخرج قوله: (فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) على التخفيف عليه والتسلي، ليس على النهي، وكذلك قوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، على التخفيف عليه والتيسير، ليس على ترك الإشفاق والحزن عليهم؛ لأن رسول اللَّه كادت نفسه تهلك؛ إشفاقًا عليهم وحزنًا على كفرهم؛ فيخرج ذلك على التخفيف عليه والتسلي. والثاني: قوله: (فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ): لا يحزنك تكذيبه إياك؛ فذكر كفره؛ لأنه

(24)

بتكذيبه ما يصير كافرا وهو سبب كفره؛ كقوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. . .) والآية: كان رسول اللَّه يحزن ويهتم بتكذيبهم إياه فيما يقول ويخبر عن اللَّه، فيقول: لا يحزنك تكذيبهم إياك؛ فإنهم إلينا يرجعون فنجزيهم ونكافئهم جزاء التكذيب. والثالث: (فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ)، أي: فإن ضرر ذلك الكفر عليهم لا عليك؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. . .) الآية، ونحوه من الآيات، يخبر رسوله ألا يحزن على كفر من كفر؛ فإن ضرر ذلك يلحقه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا). هذا وعيد، أي: إلينا مرجعهم فننبئهم عما غفلوا عنه واختاروه في الدنيا، فيحفظونه ويتذكرون ما عملوا. أو أن يكون قوله: (فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا)، أي: نجزيهم ونكافئهم جزاء أعمالهم ومكافأتهم. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). أي: عالم بما كان منهم وما جزاؤهم، واللَّه أعلم. وقوله: (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ... (24) أي: في الدنيا؛ لأن متاع الدنيا قليل، على ما وصفه: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ)، أي: يتمتعون ويعمرون بذلك القليل. (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ). يذكر هذا مقابل ما ذكر لأهل الجنة؛ حيث قال: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)، فيخبر أن أهل النار يضطرون ويدفعون إلى النار، لا أنهم يدخلونها اختيارا؛ كقوله: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا). وقوله: (غَلِيظٍ) جائز أن يكون كناية عن امتداده وطوله. وجائز أن يكون كناية عن شدته وألمه أو جراحته؛ كقوله: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ. . .) الآية. وقيل: يغلظ عليهم العذاب لونًا بعد لون، واللَّه أعلم.

(25)

قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) وقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ). أخبر رسوله أنك لو سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون ذلك ويجيبونك: الله خلقهم. ثم يخرج قوله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على أثر إقرارهم له بالتوحيد له والتفرد بالخلق على وجهين: أحدهما: أمر رسوله بالحمد له؛ لما لا يحتاج إلى إقامة الحجة على وحدانية الله وربوبيته سوى إقرارهم؛ إذ قد أقروا له بالوحدانية فيما ذكر؛ فعلى ذلك يلزمهم ذلك في كل شيء، دق أو جلَّ؛ فيقع الأمر بالحمد على ذلك. أو يأمر رسوله بالحمد له؛ لما أنجاه وخلصه وسلمه عما ابتلوا هم وفتنوا من التكذيب وعبادة الأصنام بعد إقرارهم بالوحدانية له والألوهية؛ فحمده على إفضاله عليه ورحمته وعصمته له بين أُولَئِكَ الكفرة. على هذين الوجهين يخرج تأويل أمر الحمد على أثر ما ذكر، واللَّه أعلم. ويكون قوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) مقطوعًا مفصولا من قوله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ)؛ إذ لو لم يجعل مفصولا منه، لخرج الأمر بالحمد له في الظاهر على ما لا يعلم أُولَئِكَ، وذلك لا يصلح. ثم قوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) على وجوه: أحدها: ما ذكرنا: أنه نفى عنهم العلم؛ لما لم ينتفعوا به من نحو البصر والسمع واللسان ونحوه؛ فعلى ذلك العلم. والثاني: لا يعلمون؛ لما تركوا النظو والتفكر في أسباب العلم. أو أن يكون قوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): أن عبادتهم الأصنام لا تقربهم إلى اللَّه زلفى ولا تشفع لهم؛ لأنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تزلفهم إلى اللَّه، ورجاء أن يكونوا لهم شفعاء عند اللَّه بقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، و (لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).

(26)

أو أن يكونوا لم يعلموا بجزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا - في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) كأنه يخبرهم ويذكرهم: أن ما يأمرهم به وينهاهم عنه، وما يمتحنهم من جميع أنواع المحن لا لحاجة نفسه أو لدفع المضرة عن نفسه؛ ولكن لحاجة أنفس الممتحنين ولمنفعتهم ولدفع المضرة عنهم؛ إذ من بلغ ملكه وغناه وسلطانه المبلغ الذي ذكر حتى كان له جميع ما في السماوات والأرض - لا يحتمل أن يأمر الخلق وينهى أو يمتحن لحاجة نفسه؛ ولكن لحاجة الخلق في جر المنفعة ولدفع المضرة. أو يذكرهم نعمه عليهم؛ ليتأدى به شكره، حيث سخر لهم ما ذكر من السماوات والأرض وما فيهما، وحقيقة ملك ذلك كله له. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ): الغني بذاته لا يعجزه شيء، أو غني عمن استغنى عنه، (الْحَمِيدُ)، قيل: أهل أن يحمد ويشكر بذاته. وقيل: حميد في فعاله وصنائعه، ويكون الحميد بمعنى: الحامد، ويكون بمعنى: المحمود، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) لا يحتمل أن يكون ذكر هذا الكلام ابتداء من غير أمر أو سؤال أو خطاب سبق من القوم حتى ذكر هذا، لكنا ما نعلم ما سبب ذلك؛ وما قصته؛ وما أمره؛ حتى أنزل هذا، لكن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: إن اليهود - أعداء اللَّه - سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الروح وما هو؛ فنزل: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي: من علم ربي، لا علم لي به، وتلا قوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) أي: يسيرًا في علم اللَّه، فلما قرأ عليهم هذه الآية قالوا: كيف تزعم هذا وأنت تزعم أن من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا؛ فكيف يجتمع هذا: علم قليل وخير كثير؟! قال: فنزل (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ)، يقول: تبرى الشجرة أقلامًا، والبحر يمده سبعة أبحر؛ فتكون كلها مدادًا يكتب بها علم اللَّه لانكسرت الأقلام، ولنفذ المداد ولم ينفذ علم اللَّه، فما أعطاكم من العلم قليل فيما عنده من العلم كثير فيما عندكم، إلى هذا يذهب أكثرهم.

(28)

ولكن غير هذا كأنه أشبه بسبب نزوله وذكره، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: ما ذكرنا في قوله: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أنه بلغ ملكه وسلطانه ما لو صار ما ذكر من الأشجار كلها أقلاما والبحار كلها مدادا، فكتب بها أسماء خلقه وملكه وسلطانه [لنفد] ذلك كله، [ولم ينفد] خلقه ولم يبلغوا غاية ذلك. أو ذكر هذا لهذا القرآن؛ لقول كان من الكفرة في قلته في نفسه وصغر ما كتب هو فيه أن يقولوا: كيف يسع في هذا المقدار علم الكتب السالفة المتقدمة، وهي أوقار وهو جزء؟! فيخبر - واللَّه أعلم -: أنه جمع في هذا من المعاني والعلم والحكمة ما لو فسره وبين ما أودع فيه وضمنه، ما لو جعل ما في الأرض من الشجر أقلامًا والبحار مدادًا، فكتب ما أودع فيه وضمنه - لنفدَ ذلك كله ولم ينفدْ ما جمع فيه وضمنه، هذا - والله أعلم -: يشبه أن يكون تأويله وسبب نزوله، واللَّه أعلم بذلك. (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). وقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر هذا؛ لأن نفرًا من قريش قالوا للنبي: إن اللَّه خلقنا أطوارا: نطفة، علقة، مضغة، عظما، لحمًا، ثم تزعم أنا نبعث خلقًا جديدًا في ساعة واحدة؟! فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ) أيها الناس جميعًا على اللَّه في القدرة إلا كبعث نفس واحدة. (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ)، القولهم الذي قالوه: إنا لا نبعث، (بَصِيرٌ)، بأمر الخلق والبعث. وجائز أن يكون قال هذا، لما قد أقروا ببعث نفس واحدة لما انتهى إليهم من الأخبار عما كان في الأمم السالفة من الإحياء بعد الممات وتواترت على ذلك، من ذلك قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)، وكقولهم - حيث قالوا -: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. . .) الآية، وكقوله: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ)، وقوله: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)، فكأنهم أقروا ببعث هَؤُلَاءِ لما تواترت عليهم الأخبار بذلك، وأنكروا بعث سائرهم؛ فقال: ما خلقكم ولا بعثكم جميعًا إلا كبعث نفس واحدة: إذا ثبت لواحد ففي الكل كذلك. أو أن يذكر هذا؛ لأن الأسباب إنما تختلف في الأمور على الخلق وتعسر لخصال ثلاث: إما لعجز، أو لجهل، أو لشغل، فإذا كان اللَّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن أن يعجزه شيء، أو يخفى عليه شيء، أو يشغله شيء؛ فصار خلق الكل عليه وبعث الكل كخلق نفس واحدة وكبعث نفس واحدة.

(29)

أو أن يذكر هذا؛ لأن الواحد والكل والقليل والكثير وما كان وما يكون تحت قوله: (كُن فَيَكُونُ)، معبر بكن مترجم به من غير أن كان منه (كاف) أو (نون)، لكنه ذكر (كُن)؛ لأنه أوجز حرف في كلام العرب وأقصر كلام يترجم به من غير أن كان منه (كاف) أو (نون)، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ): كأنه قد كان من أُولَئِكَ من قول أو كلام في ذلك؛ حتى قال: (سَمِيعٌ) لذلك، (بَصِيرٌ) عالم لذلك. أو بصير بأحوال الخلق وبأمورهم. وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) يذكرهم قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره، وفيه دلالة البعث. أما قدرته: فلما أدخل الليل في النهار والنهار في الليل، ثم حفظهما على حد واحد وعلى ميزان واحد، على غير تفاوت يقع في ذلك ولا تغير؛ فمن قدر على ذلك لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء، وكذلك ما ذكر: من تسخير الشمس والقمر، وما يقطعان في يوم واحد وليلة واحدة - مسيرة خمسمائة عام ما لا يتصور ذلك في أوهام الخلق ولا في تقديرهم قطع ذلك المقدار من المسير في مثل تلك المدة. ودل إنشاء أحدهما وإحداثه بعدما ذهب الآخر برمته وكليته حتى لا يبقى له أثر - على أنه قادر على الإحياء بعد الموت وبعدما ذهب أثره؛ ففي ذلك دلائل من وجوه: أحدها: دلالة قدرته؛ حيث أدخل أحدهما في الآخر، وحفظهما كذلك على حد واحد وتقدير واحد، على غير تغيير وتفاوت يقع في ذلك؛ دل ذلك على قدرته وعلمه وتدبيره. ودل إنشاء كل واحد منهما بعدما ذهب الآخر على القدرة على البعث. وقوله: (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى). إلى الوقت الذي جعل له، لا يتقدم ولا يتأخر. (وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ): ظاهرًا وباطنًا هذا وعيد؛ ليكونوا أبدًا خائفين حذرين متيقظين، واللَّه أعلم. وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أي: ذلك الذي ذكر من خلق الخلق وإنشاء ما ذكر وتسخيره لمن ذلك، وصنعه في الليل والنهار والشمس والقمر وجميع ما ذكر هو صنع الإله الحق المستحق لتسمية

(31)

الألوهية والعبادة. (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ)، من الأصنام مبطلون غير مستحقين تسمية الألوهية والعبادة. أو هو الحق؛ لأنه هو الذي يسوق إليكم هذه النعم والمنافع، (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ): لا ينفعكم عبادتكم إياها. (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ). * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ). وقال في موضع آخر: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)، قوله: (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) هي النعمة التي ذكر في هذه الآية. وقوله: (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) - يحتمل وجهين: أحدهما: لما جعل لهم الفلك بحيث تجري على وجه الماء مع أحمال ثقيلة، ومن طبعها التسرب في الماء والانحدار فيه، فجعلها بحيث تستمسك على وجه الماء وتجري؛ ليصلوا إلى حوائجهم ومنافعهم في أمكنة متباعدة ممتنعة: ما لولا السفن لم يصلوا إلى ذلك بحال. والثاني: ما ذكر فيه من الريح الطيبة التي بها تجري السفن في البحار، وماؤها راكد ساكن؛ فتعمل تلك الريح الطيبة عمل جريان الماء وسكونه، وذلك نعمته، والله أعلم. وقوله: (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ). يحتمل آيات وحدانيته وآيات قدرته وسلطانه، وآيات نعمته: أما آيات نعمته، فما ذكر، وآيات قدرته وسلطانه: ما ذكرنا: أنه من قدرته وسلطانه أن جعل الفلك والسفن في البحار بحيث تستمسك وتحتبس، ولا تتسرب ولا تنحدر مع أحمال ثقيلة، ومن طبع ذلك

(32)

كله التسرب والانحدار، وما ذكر من إجرائها بالريح الطيبة، ولو كان فِعْلَ عدد لا فعل واحد لكان يمنع عن جريها، دل أنه تدبير واحد لا عدد. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). جائز أن يكون الصبار هو المؤمن، والشكور كذلك، الصبر كناية عن الإيمان، والشكر كناية عن الإيمان؛ كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، ذكر الصبر مكان قوله: (آمَنُوا)؛ لأنه ذكر في آية أخرى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، والشكر كناية عن الإيمان؛ كقوله: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)، وقوله: (تَشْكُرُوا)، أي: تؤمنوا. ويحتمل: (صَبَّارٍ) على بلاياه، و (شَكُورٍ) على نعمائه. أو جعل الآيات لمن ذكر؛ لأنه هو المنتفع بها دون غيرهم. أو (صَبَّارٍ) فيما أصابهم في البحر من الشدائد والأهوال، و (شَكُورٍ) فيما دفع عنهم وأنجاهم من تلك الأهوال، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) قَالَ بَعْضُهُمْ: (كَالظُّلَلِ)، أي: كالظلل: هو سواد من كثرة الماء ومعظمه. وقيل: يصير الموج كالظلمة فوق السفينة. وجائز أن يكون الظلل التي ذكر على التمثيل لا على التحقيق؛ كناية عن حيرتهم في الدِّين، كقوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا)، وهو على المثال لا على التحقيق، يخبر عن حيرتهم في الدِّين وتيههم فيه؛ فعلى ذلك الأول. ثم يذكر أهل التأويل أن الآية في أهل الكفر: كانوا يخلصون الدعاء لله والدِّين له: عندما اشتد بهم الخوف على الهلاك عند معاينتهم الأهوال والشدائد في البحار؛ لأن أهل الإسلام يخلصون له الدعاء والدِّين في الأحوال كلها فهي فيهم. وقوله: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (نُقئَصِد)، أي: حسن القول بلسانه كافر بقلبه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)، أي: عدل، أي: بقي على الإيمان والإخلاص

(33)

الذي كان منه في تلك الأهوال لم يعد إلى الكفر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ): الوسط. العدل، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ). قيل: الختار: الغدار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الختار. هو الذي بلغ في الغدر غايته ونهايته. وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) العلي يتوجه وجهين: أحدهما: العلو: القهر والغلبة؛ كقوله: (إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ)، أي: غلب وقهر، وقوله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ)؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون قوله: (الْعَلِيُّ) أي: القاهر الغالب. والثاني: أن يكون العلو: الارتفاع؛ فإن كان الارتفاع، فهو يرتفع ويتعالى عن أن يحتمل ما يحتمل الخلق من التغير والزوال وغير ذلك مما يحتمل الخلق، ارتفع وتعالى عن احتمال ما يحتمل الخلق. والكبير، أي: تكبر من أن يلحقه شيء مما يلحق الخلق، واللَّه أعلم. وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) يحتمل: (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) في الجهة التي له عليكم، وأوفوا له ذلك. أو اتقوا مخالفة ربكم ومعصيته. أو اتقوا نقمة ربكم وعذابه. لكنه يختلف الأمر بالاتقاء في المؤمن والكافر: يكون للكافر: اتقوا الشرك وعبادة غير اللَّه، وفي المؤمن: اتقوا مخالفة اللَّه في جميع ما يأمركم وينهاكم، واتقوا عبادة غير الله أو الشرك في حادث الوقت. وقوله: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا). يذكر هذا على الإياس وقطع طمع بعضهم عن بعض؛ بالوصلة التي كانت بينهم في الدنيا، والمنافع التي كان ينفع بعضهم بعضا في الدنيا، يخبر أن ذلك كله منقطع في الآخرة؛ لهول ذلك اليوم، واشتغال كل بنفسه؛ حتى لا ينفع أحد صاحبه، وخاصة ما ذكر

من الولد لوالده والوالد لولده، مما لا يحتمل قلب واحد منهما أن يلحق المكروه بالآخر، ولا يصبر ألا يدفع ذلك عنه بكل ما به وسعه وطاقته؛ للشفقة والمحبة التي جعلت فيهم. ثم أخبر ألا ينفع أحدهما صاحبه؛ لاشتغاله بنفسه، وعلى ذلك روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كل نسب وسبب فهو منقطع، إلا نسبي وسبببي "، ونسبه: دينه الذي دعانا إليه وعلمناه، وسببه: شفاعته يوم القيامة، فذلك كله منقطع إلا هذين؛ فإنه من تمسك بدينه فإنه يشفع له يوم القيامة فيما قصر وفرط، فأما من لم يقبل دينه، ولم يجبه إلى ما دعاه - فإنه ليس له واحد من هذين من الأسباب والأنساب، منقطع؛ كقوله: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ)، قال: هذه الآية في الكفار؛ فأما المؤمنون فينفع الوالد ولده والولد والده في الآخرة: يدفع إلى ابنه بفضل عمله، وكذلك الولد إلى أبيه؛ كقوله: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ). فيما ذكر من الإياس وقطع طمع بعضهم من بعض، أو ما ذكر من قيام الساعة وكونها أنها تكون لا محالة، أو في الثواب والعقاب. وقوله: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). هذا يحتمل وجهين على التحقيق والتمثيل. أما التحقيق: ألا تشغلنكم الحياة الدنيا ولذاتها، ولا تلهينكم عن ذكر اللَّه وعن الآخرة، ولا تغتروا بها؛ فإنها لعب ولهو، على ما ذكر أنها لعب ولهو على ما هي عندكم؛ لأنها عندهم أنها إنما أنشئت وخلقت لها لا للآخرة، فالدنيا - على ما هي عندهم - لعب ولهو، وأما على ما هي عندنا هي حق ليس بباطل؛ لأنها أنشئت للآخرة وبلغة إليها. وأما التمثيل: أضاف التغرير إليها؛ لأن ما كان منها من التزيين والتحسين في الظاهر وإظهار بهجتها وسرورها ولذاتها لو كان ممن له التمييز والعقل والفهم وحقيقة التزيين والتحسين كان تغريرا؛ فعلى ذلك ما كان منها على الظاهر فهو تغرير على التمثيل.

(34)

أو أن يكون ما ذكر: ألا تغتروا بالحياة الدنيا وما فيها من لذاتها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ). قيل: الغرور: الشيطان، لا يغرنكم، ولقول: إن اللَّه كريم رحيم جواد ولا يعذبكم. أو يقول: إن اللَّه غني قادر لا يأمركم بأمر ولا ينهاكم؛ إذ إنما يأمر وينهى في الشاهد من كان محتاجًا، فأما الغني فلا يأمر، أو نحوه، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) ذكر في بعض الأخبار عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا اللَّه "، وعدّ هذه الخمسة التي ذكرت في هذه الآية. وكذلك روي أبو هريرة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " خمس لا يعلمهن إلا اللَّه؛ ثم تلا، قوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى آخر الآية ". فإن ثبت هذا فهو ما ذكر، ويرجع ذلك إلى معرفة حقيقة ما ذكر؛ وإلا جائز أن يقال: إنه يعلم بعض هذه الأشياء بأعلام؛ من نحو المطر أنه متى يمطر، أو ما في الأرحام: أنه ولد وأنه ذكر أو أنثى، وإن لم يعلم ماهية ما في الأرحام؛ نحو ما يعلم المنجمة بذلك بالحساب وبأعلام، يخرج ذلك على الصدق مما أخبروا ربما؛ ألا ترى أن إبراهيم - صلوات اللَّه عليه - قال: (إِنِّي سَقِيمٌ)، لما نظر في النجوم، أي: سأسقم. وروي أن أبا بكر الصديق - رضي اللَّه عنه - قال: إني ألقي إليَّ أن ذا بطن بنت خارجة جارية، وكان كما ذكر؛ فلا يحتمل أبو بكر يعلم ذلك لما ألقي إليه، ورسول اللَّه لا يعلم الساعة؛ فإنه لا يطلع عليها أحد، إلا أن يقال بأن رسول اللَّه لم يؤذن له بالتكلم والقول بشيء إلا من جهة الوحي من السماء، فأما الاشتغال بمثله فلا؛ لأن الاشتغال بمثله تضييع لكثير مما امتحن، وترك لبعض ما يؤمر وينهى، أو لما يخرج ذلك مخرج التطير والتفاؤل واكتساب الرزق على غير الجهة التي جعل وأبيح لهم؛ فكان المنع لذلك، واللَّه أعلم.

ثم قوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) يحتمل قوله: (عِلْمُ السَّاعَةِ) أي: وقت الساعة، كقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا. إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا): أخبر أنه لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا، وذكر لرسول اللَّه: إنك (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا)، فأما ما سوى ذلك فليس إليك. أو أن يكون قوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)، أي: عنده علم بماهية الساعة وأهوالها، ولم يذكر ماهيتها وحدها وقدرها؛ فأخبر أنه يعلم هو ذلك. وقوله: (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ). سمى المطر: غيثًا، فيشبه أن يكون سماه: غيثًا؛ لما به يكون للناس غياث فيما به قوام أنفسهم ودنياهم، وسماه في موضع: رحمة، وفي موضع: مباركًا، فتسميته: رحمة؛ لما به نجاة أنفسهم وأبدانهم وذلك صورة الرحمة، وسماه: مباركًا؛ لما به ينمو ويزداد كل شيء؛ إذ البركة هي اسم كل خير ينمو ويزاد بلا اكتساب. وقوله: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ). من انتقال النطفة إلى العلقة، وانتقال العلقة إلى المضغة، وتحوله من حال إلى حال أخرى، وقدر زيادة ما فيه في كل وقت وفي كل ساعة، ونحو ذلك لا يعلمه إلا اللَّه. وأما العلم بأن فيه ولدا وأنه ذكر أو أنثى - فجائز أن يعلم ذلك غيره أيضًا. وقوله: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ). جائز أن يكون كتم ذلك وأخفاه؛ ليكونوا في كل حال على حذر وخوف وعلى يقظة؛ إذ لو كان أطلعهم على ذلك - لكانوا آمنين إلى ذلك الوقت؛ فيعملون بكل ما يريدون ويشاءون؛ فيكون في ذلك ارتفاع المحنة، فلبس ذلك عليهم؛ ليكونوا أبدًا في كل وقت وكل حال - على حأ ر وخوت ويقظة، واللَّه أعلم. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). وذكر بعض أهل التأويل أن رجلا من أهل البادية يقال له: الوارث بن عمرو بن حارثة ابن محارب جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أرضنا أجدبت، فمتى الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى؛ فماذا تلد؟ وقد علمتُ أنِّي ولدت؛ ففي أي أرض أموت؟ وقد علمت ما عملت اليوم؛ فماذا أعمل غدًا؟ ومتى الساعة؟ فأنزل اللَّه - تعالى - في مسألة المحاربي: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ): لا يعلمها غيره، (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ): من ذكر أو أنثى، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ) برة أو فاجزة (مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا): من خير أو شر، (وَمَا تَدْرِي

نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ): في سهل أو حمل، أو بر أو بحر (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) بهذا الذي ذكر كله فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أين السائل عن الساعة؟ " فقال المحاربي: هاهنا؛ فقرأ النبي صلوات اللَّه عليه هذه الآية. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله (كَالظُّلَلِ)، أي: ما استظللت به، والظلة: السحاب. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (كَالظُّلَلِ): جمع ظلة، يريد: أن بعضه فوق بعض؛ فله سواد من كثرته، والبحر ذو ظلال لأمواجه. والختار: الغدار، والختر: أقبح الغدر وأشده. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الختار: الكذاب الغدار؛ يقال: ختر، يختر، خترا؛ فهو خاتر. وقوله: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي)، أي: لا يغني؛ تقول جزى يجزي؛ فهو جاز، أي: أغنى، وأجزى يجزي مثله، وأجزأني عن كذا وكذا، أي: كفاني، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ. وقال: الغرور - بنصب الغين -: الشيطان، والغرور - بضم الغين -: الباطل. * * *

سورة السجدة

سُورَةُ الْسَّجْدَةِ مَكِّيَّة إلا ثلاث آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الم (1) قد ذكرنا تأويله في صدر الكتاب. وقوله: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ ... (2) الكتاب المطلق: كتاب اللَّه، والدِّين المطلق: دين اللَّه، والسبيل المطلق والطريق المطلق: سبيل اللَّه وطريقه. وقوله: (لَا رَيْبَ فِيهِ). أنه منزل من اللَّه؛ لأنه أنزل على أيدي الأمناء البررة: لم يغيروه ولا بدلوه ولا حرفوه. أو يقول: (لَا رَيْبَ فِيهِ) أنه ليس بمخترق ولا مخترع ولا مفتري من عند الرسول؛ بل منزل من عند رب العالمين. أو (لَا رَيْبَ فِيهِ): لا شك؛ على ما يقول الناس لكل محكم من الأمر مبين، واللَّه أعلم. (مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ). العالم: هو اسم جنس من الخلق وجوهر منه، (الْعَالَمِينَ): جمعه؛ فيدخل في ذلك الأولون والآخرون الذين يكونون إلى آخر ما يكونون؛ ففيه أنه يوصف - جل وعلا - أنه رب لكل ما كان ويكون، ومالك ما كان وما يكون؛ كقوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ): أخبر أنه مالكه، وهو بعد ما لم يكن، أعني: ذلك اليوم. وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

(4)

قوله: (أَمْ يَقُولُونَ) هو استفهام وشك في الظاهر، لكنه من اللَّه يخرج على تحقيق إلزام وإيجاب أو تحقيق نفي، على ما لو كان ذلك من مستفهم ومسترشد: كيف يجاب له ويقال فيه؛ فإنما يقال للمستفهم: لا أو بلى؛ فعلى ذلك هو من اللَّه على تحقيق إثبات وإيجاب، أو تحقيق نفي؛ إذ لا يحتمل الاستفهام والسؤال؛ كقوله: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى)؛ كأنه قال: ليس للإنسان ما تمنى؛ فعلى ذلك كأنه قال - هاهنا -: بل يقولون: (افْتَرَاهُ)، ثم رد ما قالوا: إنه افتراه؛ فقال: (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ). يحتمل قوله: (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ): ليس بمخترع ولا مخترق ولا مفتري من مُحَمَّد؛ بل منزل من عند اللَّه، على ما ذكرنا في قوله: (لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ). أو هو الحق من ربك، ليس بكلام البشر ولا في وسعهم إتيان مثله؛ فهو الحق منه (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. . .) الآية. وقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا). أي: لتنذر بالكتاب الذي أنزل قومًا. (مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: على الجحد، أي: لتنذر قومًا لم يأتهم نذير، وهم أهل الفترة الذين كانوا بين عيسى ومُحَمَّد، عليهما الصلاة والسلام. والثاني: لتنذر قومًا: الذين قد أتاهم من نذير من قبلك، وهم آباؤهم وأجدادهم الذين كانوا من قبله، الذين قد أتاهم نذير من قبله، واللَّه أعلم. وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ). هذا -أيضًا- يحتمل وجهين: أحدهما: لتنذر قومًا؛ لكي تلزمهم به حجة الاهتداء. والثاني: لتنذر قومًا؛ على رجاء وطمع أن يهتدوا، واللَّه أعلم. وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) هذا -أيضًا- قد ذكرناه فيما تقدم. وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ). وفي هذا -أيضًا- قد ذكرنا فيما تقدم تأويلات كثيرة، لكنا نذكر فيه حرفًا لم نذكره

(5)

فيما تقدم من الذكر؛ وكأنه أصوب وأقرب إلى الحق، وهو أن ذلك حرف وكلام لم يجعل اللَّه - تعالى - في العقول والأفهام سبيل الدرك له والمعرفة - أعني: لقوله (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) - لأنه ذكر ذلك الحرف في موضع آخر، وأمره أن يسأل به خبيرًا؛ حيث قال: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)، ولو كان ذلك الحرف مما لعقول البشر وأفهامهم سبيل الوصول إلى معرفته ودركه لأدركه عقل رسول رب العالمين وفهمه من غير أن يسأل به الخبير من كان: اللَّه أو جبريل، فإذا أمره بالسؤال عنه دل أنه بالعقل والفهم لا يدرك ولا يعرف؛ ولكن بالسمع عن اللَّه. ولم يذكر عن الرسول أنه فسر ذلك أو قال فيه أو سأله أحد عنه، واللَّه أعلم. وقوله: (مَا لَكُم مِنْ دُونهِ مِن وَليٍّ وَلَا شفيع). يقول أهل التأويل: ما لكم من دونه من ولي ينفعكم في الآخرة، ولا شفيع يدفع عنكم عذابه. أو أن يكون قوله: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ)، أي: رب وإله يلي أمركم سواه، (وَلَا شَفِيعٍ): لا هو ولا غيره، وأما للمؤمنين فإنه وليهم؛ كقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ). وقوله: (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ). فيما ذكر من صنعه؛ فتوحدونه، واللَّه أعلم. وقوله: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) قال أهل التأويل: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)، أي: هو يقضي القضاء وحده من السماء والأرض. وعندنا أنه يخرج على وجهين: أحدهما: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)، أي: هو يكون الأمر ويدبره. أو هو يجعل الخلق بحيث يقبلون الأمر والنهي ويحتملون المحنة. أو هو يخرج الأمر كله على الحكمة والتدبير. والثاني: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)، أي: يولي من يدبر الأمر من السماء إلى الأرض؛ نحو ما ولى ملك الموت قبض أرواح الخلق، ونحو ما ولى بعض ملائكته أمر الأمطار والنبات وغير ذلك؛ فجائز أن يكون الأول يولي ملائكته أمر ما بين السماء والأرض. فإن كان الأول فليس ذكر السماء والأرض حدّا ولا تقديرًا؛ يدبر ما سوى ذلك، لكن ذكر هذا؛ لما إلى ذلك ينتهي تدبير البشر وعلمهم، وأما ما سوى ذلك فلا. وإن كان الثاني فهو على التحديد، واللَّه أعلم.

(6)

وقوله: (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُ). قال بعض أهل التأويل: (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)، يقول: يصعد الملك إليه في يوم واحد من أيام الدنيا، كان مقدار ذلك اليوم، (أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)، أنتم؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام؛ فينزل مسيرة خمسمائة عام، ويصعد خمسمائة عام، وذلك مقدار مسيرة ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. وذكر في موضع آخر: (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)؛ فجائز أن يكون ذلك وصف يوم القيامة؛ فيخرج ذلك لا على التحديد والتقدير؛ ولكن على التعظيم لذلك اليوم، والوصف له بما يعظم في قلوب الخلق، وهو ما وصفه بالعظمة؛ كقوله: (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ). أو أن يكون التحديدان والتقديران كانا حقيقة؛ لاختلاف أحواله وأوقاته، على اختلاف الأمور، يكون ألف سنة كما ذكر في حال ووقت لأمر، وخمسين ألف سنة بحال أخرى لأمور أخر؛ على ما سمى ذلك اليوم مرة: يوم الجمع، ومرة: يوم التفريق، ويوم الفصل، ويوم الحساب، ويوم البعث، ونحوه، ومعلوم أن ذلك اليوم من أوله إلى آخره ليس بيوم الجمع، ولا بيوم الافتراق، ولا يوم الحساب ولا يوم البعث؛ ولكن أسماه، بجميع ذلك كله؛ لاختلاف الأحوال والأوقات لأمور مختلفة؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون الأول كذلك، واللَّه أعلم. ويكون قوله: (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)، أي: يصير إليه ذلك؛ كقوله: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)، ونحوه. وقوله: (يَعْرُجُ إِلَيْهِ)، أي: يصعد في قول الْقُتَبِيّ وأبي عَوْسَجَةَ، ويعرج: أي: احتبس. وقوله: (ذَلِكَ ... (6) أي: هذا الذي صنع ما ذكر من هذه الأشياء. (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). يحتمل هذا وجوهًا: عالم ما غاب عن الخلق والشهادة: وعالم ما يشهدون ويعلنون. أو عالم ما يكون ويحدث، والشهادة: ما قد كان ومضى.

(7)

أو عالم ما يغيب بعض من بعض، والشهادة ما يشهدون ويظهرون. أو عالم ما يغيب عن الخلق كيفية لمنافع الأشياء الظاهرة وماهيتها، نحو ما غاب عنهم المعنى المضر المودع في الطعام والشراب والأغذية جميعًا، الذي به حياة أنفسهم وقوامهم، وكذلك السمع والبصر والفهم والعقل: لا بدرك المعنى الذي به يسمع ويبصر ويفهم ويدرك وما به تحيا أنفسهم به، واللَّه أعلم. وقوله: (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). العزيز في هذا الموضع: المنتقم من أعدائه، الرحيم على أوليائه. أو العزيز: الذي لا يعجزه شيء، الرحيم: الذي له رحمة يسع الخلائق في رحمته. أو العزيز: الذي به يعز من عز، والرحيم: الذي برحمته يرحم من يرحم. ومنهم من يقول في قوله: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)، وقوله: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ)، قال: من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره فوق السماوات، مقدار ذلك خمسون ألف سنة، ويوم كان مقداره ألف سنة: ذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة. لكن قوله: من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى أمره فوق السماوات كذا - فاسد؛ لأنه لا يجوز أن يكون لأمره أو لملكه نهاية أو حد، والوجه فيه ما ذكرنا. وقوله: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ... (7) بالجزم والتحريك جميعًا، كلاهما لغتان. ثم يحتمل قوله: (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي: علم كل شيء خلقه: أن كيف يخلق من غير أن يعلمه أحد أو أعانه عليه أحد. وفي الشاهد لا يقدر أحد، ولا يمكن له صنع شيء إلا بمعلم يعلمه ذلك أو بمعين يعين على ذلك، يخبر عن جهلهم وسفههم بتقديرهم قدرة الله وقوته بقوى أنفسهم وقدرتهم في إنكارهم البعث؛ لخروجه عن تقدير الخلق وامتناعه عن وسعهم، يقول: لا تقدروا قدرة اللَّه بقدرة أنفسكم وقواكم، كما لم تقدروا علمه بعلمكم؛ إذ يعلم هو بذاته بلا معلم، وأنتم لا تعلمون إلا بعلم؛ فعلى ذلك هو قادر بذاته لا يعجزه شيء وأنتم لا تقدرون إلا بغير أو بسبب. ويحتمل هذا الوجه وجهًا آخر، وهو أن قوله: (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)، أي: أعلم كل شيء من خلقه: ما به مصالحهم وفسادهم، وما يؤتى وما يتقى. والثاني: (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)، أي: أحكم كل شيء خلقه وأتقنه.

ثم يخرج هذا على وجهين: أحدهما: أتقن وأحكم فيما به من المصالح والمعاني، وفي كل شيء من التسوية والتفرد وفي الجمع والتصوير. والثاني: أحسن، أي: أتقن وأحكم كل شيء خلقه في الشهادة على وحدانية الله وألوهيته، أي: جعل في كل أثر وحدانيته يشهد على وحدانيته وربوبيته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) لم يخلق الإنسان في خلق البهائم وصورتها ولا البهائم في خلق الإنسان. وقتادة يقول: كل شيء من خلقه حسن على ما خلق وعلم كيف يخلقه، وهو قريب مما ذكرنا بدءًا. ثم من قرأه: (خَلْقَهُ): بالجزم يكون معناه - واللَّه أعلم - أي: أحسن خلق كل شيء ومن قرأه (خَلَقَهُ) بالتحريك، أي: أحسن كل شيء منه وخلقه. ثم للمعتزلة في هذه الآية أدنى تعلق يقولون: أخبر أنه أحسن كل شيء خلقه، والكفر وشتم رب العالمين ونحوه - كله قبيح وسفه؛ دل أنه لم يخلقه، وأنه ليس بخالق لذلك. يقال لهم: إخوانكم الزنادقة يعارضونكم ويقولون: إن الخنزير والنجاسات، وجميع السباع الضارة والمؤذية، وجميع الخبائث كلها قبيحة، اللَّه ليس بخالق لها؛ فبم تدعون قولهم وسؤالهم في ذلك؟ فإن زعمتم في الأول في الكفر والشتم وجميع فعل الشرور: أنه ليس بخلق له؛ لأنه قبيح ضار مؤذ - يلزمكم مذهب الزنادقة فيما يقولون ويذكرون في إثبات خالق سراه؛ لأف قبيح ضار مؤذ. ويقال لهم: إن اللَّه - جل وعلا - سمى إبليس: باطلا؛ فهو إذن لم يخلقه؛ لأنه أخبر أنه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا. ثم يقال لهم: إنا نقول: إنه خلق فعل الكفر من الكفرة قبيحًا، وخلق فعل الكفر والشتم من الشرير والشاتم قبيحًا، خلق فعل الشر على ما هو وعلى ما عرفه؛ فلا عيب يلحقه في جعل ما هو قبيح قبيحًا؛ كمن يعلم الكفر ليعلمه قبيحًا على ما هو، وكذلك جميع الشرور؛ فعلى ذلك ليس في خلق ما هو قبيح في نفسه قبيحًا - عيب؛ على ما لم

(8)

يكن في تكلف معرفة القبيح ليعرفه قبيحًا على ما هو حقيقة - عيب، هذا إذا كان التأويل على ما يذهبون هم إليه. فأما إذا كان ما ذكرنا في قوله: (أَحْسَنَ)، أي: علم أو أعلم، فليس يدخل في ذلك شيء مما ذكروا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ). قال عامتهم: يعني: آدم. وقوله: (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) أي: نسل آدم. (نَسْلَهُ): أي: ولده. وقال: السلالة: الخالص من كل شيء. (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) أي: آدم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا؛ ولكن ذلك نعت ولده وذريته؛ لأن الأعجوبة في خلق ولده في الأرحام في ثلاث ظلمات من النطفة إن لم تكن أكثر من خلق آدم من طين لا تكون أقل؛ لأن صنع الأشياء الظاهرة البادية وتسويتها في الشاهد أيسر وأدون من صنعها وتسويتها إذا كانت غائبة مستكنة. وظاهره: أن يكون قوله: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ): آدم، (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ): ذريته؛ لأن النسل هو الولد والذرية. وقوله: (مِنْ سُلَالَةٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: السلالة: هو الصفوة من الماء، والخالص من كل شيء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السلالة: هي من السل: سل السيف، أي: أخرجه ونزعه؛ فعلى ذلك قوله: (مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ)، أي: استخرج من الظهر وسل منه ونزع. والمهين: هو الضعيف؛ يقال منه: مهن يمهن مهانة، فهو مهين، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ. وقوله: (ثُمَّ سَوَّاهُ). أي: جمعه وقومه وركب بعضه ببعض. (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ).

(10)

وهو من الريح، وبالنفخ يتفرق في الجسد! لذلك ذكر، واللَّه أعلم. وقوله: (ثُمَّ سَوَّاهُ) هو يحتمل ما ذكرنا من تركيب الجوارح والأعضاء. أو سواه وجعله بحيث يحتمل المحنة والأمر والنهي. (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)، أي: جعل فيه الروح، وذكر النفخ لما ذكرنا على تحقيق النفخ فيه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ). ذكر - جل وعلا - جميع ما يوصل إلى العلوم الغائبة والحاضرة جميعًا، ويدرك ويوجد السبيل إليها وهو السمع والبصر والقلب في الإنسان؛ لأنه بالسمع يوصل إلى ما غاب عنهم من العلم: يسمعون ما عند غيرهم، وكذلك بالبصر يرى ويبصر ما عند غيره، وبالقلب يفهم ويحفظ ويميز بين ما يؤتى ويتقى، يبين أنه قد أعطاهم ما به يدركون ويصلون إلى ما غاب عنهم ويفهمون ويميزون، وهو ما ذكر من الحواس. ثم قال: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ). قال أهل التأويل قوله: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)، أي: لا تشكرون قط؛ لأنهم يقولون: إنما خاطب به أهل مكة. أو أن يقال: إنهم يشكرون قليلا، لكنهم يفسدون وينقضون ما يشكرون بكفرانهم من وأما أهل الإسلام وإن كان شكرهم لما ذكر من هذه الحواس قليلا فإنهم قد اعتقدوا - في أصل العقد - الشكر له في جميع نعمه، والكافر اعتقد الكفران له؛ وإلا يجيء أن يكون قوله: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) للمؤمنين ولهم يقال ذلك لا للكفرة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) وقوله: (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). هذا القول منهم في الظاهر يخرج على الاستفهام والسؤال: أئنا نبعث ونخلق خلقًا

(11)

جديدًا؛ وعلى الإيجاب والتحقيق: إنا نبعث لا محالة؛ فلا يلحقهم بذلك لائمة ولا تعيير لو كان على ظاهر المخرج منهم، لكنهم إنما قالوا ذلك؛ استهزاء وإنكارًا للبعث؛ دليله ما قال على أثره: (بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)؛ وإلا ظاهر ذلك القول منهم على أحد الوجهين اللذين ذكرناهما: استفهامًا، أو إيجابًا، وهو ما أخبر عن المنافقين؛ حيث قال: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ): هذا القول منهم حق وصدق، لكنهم لما أضمروا خلاف ذلك لم ينفع ذلك لهم؛ حيث قال: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)؛ فعلى ذلك القول منهم في الظاهر ما ذكرنا، لكنهم إنما قالوا ذلك؛ استهزاء وإنكارًا للبعث وجحودًا. وقوله: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) هذا الحرف في الظاهر ليس هو بصلة للأول؛ لأنه إنما يقال عن سؤال سابق في توفي الخلق وقبض أرواحهم: أنه من؟ فيقال عند ذلك: يتوفاكم ذلك ملك الموت. وجائز أن يكون على الصلة بالأول؛ لأنهم أنكروا البعث وإحياءه إياهم من التراب؛ لما لا يرون لله القدرة على ذلك؛ فيذكر أنه مكن وأقدر عبدا من عبيده على قبض أرواح جميع الخلائق من المشرق إلى المغرب، من غير أن يعلمه أحد أن كيف يقبض؟ وكيف يمكن له ذلك؟ فيخبر أن من قدر على هذا يقدر على إحياء الخلق بعدما صاروا ترابًا ورمادً بل قادر على ما شاء، كيف شاء، متى شاء، لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء. ثم قوله: (يَتَوَفَّاكُمْ) يحتمل من توفى العدد: يجعلهم وفاء لعدِّها؛ كقوله: (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا). وجائز أن يكون التوفي من الاستيفاء ووفاء التمام، أي: يستوفى الروح كله؛ حتى لا يبقى في الجسد منه شيء. ثم في الآية دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه أخبر أن ملك الموت يتوفاهم ويميتهم، وقد أخبر أنه خلق الموت والحياة؛ فدل أن جميع ما يفعل العباد هو خلق. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ)، أي: بطلنا وصرنا ترابًا. وقال غيره: هلكنا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ضَلَلْنَا) [بالضاد]: إذا صرنا في القبور وبلينا فيها. ويقال: (ضَلِلْنَا) بالكسر من الضلال، ويقال: ضللت شيء كذا وكذا: إذا لم تدر أين ذهب؟ ويقال:

(12)

صللنا -[بالصَّاد]-: وهو من صَلَّ اللحمُ، أي: أنتن. وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) يقول - واللَّه أعلم -: لو ترى - يا مُحَمَّد - ما نزل بالمجرمين يومئذ من العذاب، وما هم فيه من الحال الشديدة والهوان؛ بالتكذيب الذي كان منهم وإساءتهم إليك - لرحمتهم ولم تتكلف مكافأة إساءتهم وتكذيبهم؛ لعظم ما نزل بهم من العذاب والشدائد. (نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)؛ ندامة وحسرة و - ش نًا على ما كان منهم، على مثل هذا يخرج التأويل؛ وإلا ليس في ظاهر الآية جواب قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)؛ فجوابه ما ذكرنا، أو نحوه، واللَّه أعلم. وقوله: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا). هذا يخرج على وجهين: أحدهما: قوله: (أَبْصَرْنَا): بالحجج والبراهين عيانًا بعدما كنا أبصرناها في الأولى بالدلالة، (وَسَمِعْنَا)، أي: قبلنا وأَجبنا؛ (فَارْجِعْنَا) إلى الأولى أو المحنة، (نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ). والثاني: ربنا أبصرنا صدق الرسل، وأيقنا بما وعدنا في الدنيا وسمعنا سماع إيقان وعيان، فارجعنا نعمل صالحًا إنا موقنون، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) أي: لو شئنا لآتينا كل نفس ما عندنا من اللطف: الذي لو كان منهم الاختيار لذلك لاهتدوا، لكن لم نعطهم ذلك اللطف؛ لما لم نعلم منهم كون ذلك الاختيار. وعلى قول المعتزلة: شاء أن يعطي كل نفس ما به اهتدت، وقد أعطاها لكنها لم تهتد؛ فقولهم مخالف للآية؛ لأنهم يقولون: شاء أن تهتدي كل نفس، وآتى كل نفس ما به تهتدي، لكنها لم تهتد، ولكنهم يقولون: المشيئة - هاهنا - مشيئة الجبر والقسر. فيقال لهم: زعمتم أنه قد شاء أن يهتدوا، وآتاهم ما به يهتدون فلم يهتدوا ولم تنفذ مشيئته؛ فأنى يقدر ويملك أن يشاء مشيئة تقهرهم وتجبرهم حتى يهتدوا؟! وكيف يؤمن على ذلك؟! فذلك بعيد على قولكم؛ فيقال لهم -أيضًا-: إن الإيمان والتوحيد في حال القهر والقسر لا يكون إيمانا؛ لأن القهر والجبر يرفع الفعل عن فاعله ويحوله عنه، فكيف تأويلكم على هذا؟! وقوله: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ). أي: لكن وجب القول مني بما علمت أنه يكون منهم ويحدث ما يستوجبون به جهنم،

(14)

وهو ما علم أنهم يختارون الرد والتكذيب. وقوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). في هذه الآية دلالة: أنه عصم ملائكته عن عمد ما يستوجبون به جهنم بعد قوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ): خص الإنسان والجن فيما يملأ بهما جهنم. فَإِنْ قِيلَ: إنه قال في آية أخرى: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً). قيل: هم أصحاب النار في تعذيب غيرهم، وليسوا هم بأصحابها فيما ينتهي إليهم العذاب، ولله أن يجعل ويمتحن من يشاء على تعذيب من شاء، واللَّه أعلم. وقوله: (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) النسيان الذي ذكر منهم ليس هو نسيان غفلة وسهو؛ لأنه لا كلفة تلزم في حال السهو والغفلة. ثم هو يخرج على وجوه: أحدها: تضييع وترك تصديق الرسل بما أوعدوهم به، وتكذيبهم ورد الحجج والآيات لذلك. والثاني: (نَسِيتُمْ)، أي: جعلتم ذلك كالمنسي المتروك الذي لا يكترث إليه. والثالث: (إِنَّا نَسِينَاكُمْ)، أي: نجزيكم جزاء نسيانكم وترككم، أي: يجعلكم كالمنسي عن رحمته وفضله لا يكترث ولا يعبأ بكم؛ كما جعلتم أنتم آياته وحججه وما دعاكم إليه كالمنسمي المتروك الذي لا يكترث إليه. والرابع: وتضييعكم، ويجوز تسمية الجزاء باسم أصله وأوله، وإن لم يكن الثاني في الحقيقة سيئة ولا اعتداء؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). أي: ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون وتعتقدون المذهب للخلود والأبد؛ لأن كل ذي مذهب ودين إنما يعتقد المذهب ويختاره للأبد؛ فعلى ذلك جعل تعذيبهم في النار للأبد، وأما من يرتكب المآثم والزلات من المؤمنين، فإنما يرتكب عند شدة الحاجة وغلبة الشهوة في وقت ارتكابه لا للأبد؛ لذلك افترقا. * * * قوله تعالى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)

(15)

وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وقوله: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا ... (15) يخرج قوله: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ)، أي: يحقق الإيمان باللَّه وبآياته (الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا) أن لله حقيقة. ثم يحتمل (خَرُّوا سُجَّدًا) حقيقة السجود عند تلاوة الآيات التي فيها ذكر السجود. والثاني: يكون ذكر خرور الوجه والسجود كناية عن الخضوع لها، والانقياد والاستسلام والقبول لها؛ فأحدهما على حقيقة السجود عند تذكير الآيات لهم والتلاوة عليهم، والثاني: على الكناية على القبول لها والاستسلام، وإلا ليس من ذي مذهب من أهل الكفر من عبدة الأصنام وغيرهم إلا وهو يدعي الإيمان باللَّه وبآياته، ويزعم أن الذي هو عليه هو الإيمان به والمؤتمر بأمره؛ ألا ترى أنه كيف أخبر عنهم؛ حيث قال: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا): كانوا يدعون في جميع ما يعملون أن اللَّه - تعالى - أمرهم بذلك، وأنهم مؤمنون به مؤتمرون بأمره؛ فأخبر أنه إنما يحقق الإيمان باللَّه وبالآيات الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا لا أُولَئِكَ الذين يدعون ذلك وليسوا هم كذلك. وقوله: (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ). التسبيح: هو تنزيه الرب وتبرئة له عن جميع ما قالت الملاحدة فيه ونسبوه إليه، مما لا يليق به. يقول: (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، أي: ذكروه بمحاسنه ومحامده وبرءوه ونزهوه عن جميع ما وصفه أُولَئِكَ ونسبوه إليه، هذا - واللَّه أعلم - هو التسبيح بحمده. وقوله: (وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ). لا أحد يخطر بباله أن يستكبر على اللَّه أو على أمره، ولكن كانوا يستكبرون على رسله؛ لما لا يرونهم أهلا لذلك، أو أن يكونوا يستكبرون على ما يدعون إليه ولا يجيبون لذلك. وقوله: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) روي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها نزلت في أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لكن اختلفت عنه الروايات: ذكر في بعضها: أنها نزلت في نفر من عمال أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا يعملون

بالنهار، فإذا جن عليهم الليل اضطجعوا بين المغرب والعشاء، فناموا؛ فلما نزل هذا اجتنبوا عن ذلك. وذكر عنه: أنهم كانوا يصلون بين المغرب والعشاء؛ فنزلت الآية فيهم. فإن كان هذا فنزول الآية لذلك يخرج مخرج المدح لهم والثناء الحسن. وإن كان الأول فهو على النهي والتوبيخ لذلك. ثم اختلف أهل التأويل في تأوللها: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو التيقظ والصلاة فيما بين المغرب والعشاء الآخرة. ومنهم من يقول: هو التجافي عن المضاجع لصلاة العشاء والفجر يصليهما. ومنهم من يقول: تتجافى جنوبهم بذكر اللَّه: كلما استيقظوا ذكروا اللَّه: إما صلاة، وإما قياما، وإما قعودًا، لا يزالون يذكرون اللَّه. ومنهم من يقول: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ): قيام الليل والصلاة فيه، وهذا أشبه التأويلات؛ لأنه قال: (عَنِ الْمَضَاجِعِ)، والتجافي عن المضاجع إنما يكون في الوقت الذي يضطجع فيه، وفيه يقع الامتداح والثناء الحسن؛ لأنه وقت أن غفلة والنوم فيه، وأفا سائر الأوقات فليس كذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا). يحتمل قوله: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)، أي: يعبدون ربهم، ويحتمل حقيقة الدعاء. ثم قوله: (خَوْفًا وَطَمَعًا)، قَالَ بَعْضُهُمْ: خوفًا من عذاب اللَّه، وطمعًا في رحمته. أو أن يكون قوله: (خَوْفًا)، أي: يخافون التقصير في العبادة، (وَطَمَعًا)، أي: يطمعون إحسانه، وإحسانه في العفو والتجاوز، وهكذا عمل المؤمن من بين الخوف والطمع يخاف التقصير فيه، ويطمع إحسانه. روى الحسن عن النبي عجم قال: " قال ربكم - عَزَّ وَجَلَّ -: وعزتي وجلالي، لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع أمنين فإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة "، ثم قرأ قوله: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا. . .) الآية.

(17)

وقوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ). يحتمل الزكاة المفروضة. ويحتمل ينفقون صدقهَ التطوع. وجائز أن يكون قوله: ومما رزقناهم من الأسباب السليمة ينفقون، أي: يعملون، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) ذكر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " قال ربكم: أعددت لعبادي الصالحين: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " هذا علم النفس أنها لا تعلم إلا مثال ما أحست وعاينت وشاهدت، فأما العقل فإنه جائز أن يعلم ويخطر ما لم ير ويحس ولم ير له مثالا، واللَّه أعلم. وعلى قول المعتزلة: يدعون ربهم أمنا وإياسا لا على الخوف والطمع على ما ذكر؛ لأنهم لا يخلو إما أن يكونوا أصحاب الصغائر، أو أصحاب الكبائر؛ فإن كانوا أصحاب الصغائر فهم آمنون على قولهم؛ لأنه لا يسع له أن يعذب على الصغيرة على قولهم، أو أصحاب الكبائر فهم آيسون من رحمته؛ إذ لا يسع له أن يغفر الكبائر على قولهم؛ فقولهم مخالف لظاهر الآية. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ)، أي: لا يضعونها بالأرض؛ يقال: تجافى جنبي: إذا لم يضطجع لم ينم، وجافيت جنبي، أي: لم ألزقه بالأرض. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (تَتَجَافَى)، أي: ترتفع عن الأرض. ونزلا من النزل، والنزل: ما يجعل للرجل يأكله وينفقه. وقوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) إن أهل التأويل يقولون: نزلت الآية في شأن علي بن أبي طالب، والوليد بن عقبة بن أبي معيط: كان بينه وبين علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كلام وتنازع، حتى قال له علي: إنك فاسق وأنا مؤمن، فنزلت الآية فيهم، لكن الآية في جميع المؤمنين والفاسقين، يخبر أن ليس بينهم استواء.

ثم جائز أن يكون ذكر هذا ونزل؛ لقولٍ كان من أُولَئِكَ الكفرة الفسقة للمؤمنين: إن منزلتنا ومنزلتكم وقدرنا في الآخرة عند اللَّه - سواء؛ فنزلت الآية لذلك أنهما ليسا بسواء؛ فبيِّن منزلة المؤمن عند اللَّه وقدره، وما ذكر من الثواب له والكرامة، ومنزلة الفاسق ما ذكر من الخلود في النار أبدًا، كقوله: (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ)، وكقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ. . .) الآية. أو يذكر ذلك على الابتداء: إنكم تعرفون في عقولكم أنْ ليس المؤمن المصدق في الشاهد في المنزلة والقدر عنده كالخارج عن أمره وكالمكذب له، فكيف تطمعون الاستواء عند اللَّه وأنتم الفسقة الخارجون عن أمر اللَّه، وأُولَئِكَ هم الصادقون له؟! واللَّه أعلم بذلك. ثم الخوارج والمعتزلة يقولون: لو كان الفاسق مؤمنًا على ما تقولون لم يكن لما ذكر معنًى؛ فدل أن الفاسق لا يكون مؤمنًا؛ حيث ذكر أنهما لا يستويان وأن المؤمن مأواه في الجنة والخلود له فيها، والفاسق مقامه في النار، خالدين فيها على ما ذكر، فلو كان على ما تقولون لكانا يستويان، أو كلام نحو هذا. فيقال لهم: إنا وأنتم نتفق أن هذا الفاسق المذكور في الآية ليس بمؤمن، وأنه لا يستوِي هو والمؤمن؛ لأنه ذكر الفسق مقابل الإيمان، دليله آخر الآية؛ حيث قال: (ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ذكر التكذيب، والتكذيب هو مقابل الإيمان والتصديق، وكل فسق كان مذكورًا مقابل الإيمان فهو كفر وتكذيب؛ فهو لا يكون مؤمنًا، ولكن هاتوا فاسقًا ذكر لا مقابل الإيمان، ولكن مقابل غيره من العصيان والمساوي، ويكون له هذا الوعيد الذي ذكر في هذا؛ ألا يُرى أن السؤال المذكور مقابل الإيمان كفر، كقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ)؟! فعلى ذلك الفسق المذكور مقابل الإيمان كفر لا يقع فيه استواء بحال، وأما الفسق المذكور لا مقابل الإيمان فجائز أن يقع فيهما استواء، وهو أن يغفر له ذنبه ويكفر عنه سيئته، ويدخل الجنة؛ حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، وقال في آية أخرى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا. . .)، وقال في آية أخرى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) الآية. هو في مشيئة اللَّه إن شاء عذبه وإن شاء تجاوز عنه، وأصحاب الحديث يقولون: إن جميع الطاعات إيمان بهذه الآية؛ لأنه قال: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا)، ثم فسر

(19)

ذلك المؤمن فقال: (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وعد لهم الجنات بالإيمان وعمل الصالحات، فيقال: إن الوعد المطلق هو لمن آمن وعمل الصالحات، فأما من آمن ولم يعمل من الصالحات شيئًا، لا نقول بأن له ذلك الوعد المطلق، ولكن له الوعد الذي ذكرنا. وفي الآية دلالة أَنْ قد يعمل المؤمن غير الصالحات وهو مؤمن؛ لأنه لو لم يكن منه غير عمل الصالحات لم يكن لشرط العمل الصالح له معنى، دل أنه يكون من المؤمن غير العمل الصالح، وذلك على المعتزلة والخوارج. (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) اختلف في العذاب الأدنى: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو القتل يوم بدر. ومنهم من يقول: هو الجوع في السنين التي كانت لهم فيها، والضيق والشدة. ومنهم من يقول: هو المصائب التي تصيبهم. وأمثال ذلك كثير، لكن ذلك العذاب ليس هو عذاب الكفر؛ لأن عذاب الكفر يكون في الآخرة أبدًا دائمًا لا زوال ولا انقطاع، فأما عذاب الدنيا لهم عذاب عنادهم وما يكون منهم من الجنايات في حال كفرهم يعذبون في الدنيا؛ ليذكرهم ذلك العذاب في الآخرة العذاب الدائم ليمنعهم عما به يعذبون في الدنيا عن عذاب الآخرة، وكذلك ما أعطى لهم من اللذات والنعيم في الدنيا - وإن كان منقطعًا - ليذكرهم ذلك النعيم وتلك اللذاتُ لذات الآخرة ونعمها الدائمة؛ ولذلك رغب اللَّه خلقه إلى طلب الآخرة، وأخبر أن لهم فيها من اللذات كذا في غير آي من القرآن؛ حيث قال: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ. . .) الآية، ونحوه كثير. والعذاب الأكبر هو عذاب الآخرة، وهو عذاب الكفر والتكذيب. وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لكي يلزمهم حجة الرجوع عما هم فيه من التكذيب؛ لئلا يقولوا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ) أي: هل أحد أظلم ممن ذكر (بِآيَاتِ رَبِّهِ) وقع له المعرفة والعلم أنها آيات ربه، (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) بعدما عرفها، وعلم بها - ليس أحد أظلم من ذلك. التذكير بآياته: ما ذكرنا أنهم يذكرون لتقع لهم بأنها آياته، ثم يحتمل آيات وحدانيته وآيات الرسالة، أو آيات البعث، أو آيات القرآن، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) جرمهم هاهنا جرم كفر، ينتقم منهم انتقام الكفر

(23)

والتكذيب. قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) أي: من أن تلقاه يوم القيامة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فلا تكن في مرية من لقاء موسى التوراة؛ فإن اللَّه ألقى الكتاب عليه - أي: التوراة - حقًّا، فلقيها عيانًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فلا تكن في مرية من لقائه ليلة أسري به، قد روي مثل هذا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد أسري وأعرج إلى السماء، فقال له موسى كذا وكذا - أشياء ذكرت في أمر الصلوات وغيره - فلا ندري أيثبت ذلك أم لا، أو إن ثبت كيف كان ذلك: أنه أوحي له فقال ما ذكر، أو رأى ذلك في المنام - ورؤيا الأنبياء حق - أو كيف كان لأمر اللَّه، والله أعلم. وقوله: (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: جعلنا موسى هدًى لبني إسرائيل؛ يجعل الهاء كناية عن موسى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَجَعَلْنَاهُ) أي: الكتاب الذي آتى موسى - (هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)، ثم يحتمل قوله: (هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) وجهين: أحدهما: البيان، أي: جعلناه بيانًا لهم يبين ما لهم وما عليهم وما لله عليهم. والثاني: (هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: دعاء لبني إسرائيل يدعون الخلق به إلى توحيد الله وألوهيته. الهدى المضاف إلى الخلق يخرج على هذين الوجهين: على البيان، والدعاء. والهدى المضاف إلى اللَّه يخرج على وجوه: على البيان، وعلى الدعاء - الذي ذكرنا أيضًا - وعلى وجهين آخرين: أحدهما: التوفيق والمعونة. والثاني: على خلق فعل الاهتداء منهم. على هذه الوجوه الأربعة يخرج إضافة الهدى إلى اللَّه وإلى الخلق على الوجهين اللذين ذكرناهما. فَإِنْ قِيلَ: كيف خص موسى أنه جعله هدى لمن ذكر، وذلك قد يكون في غيره، وهو

(24)

ما جعل في خِلْقة كل أحد شهادة وحدانيته وألوهيته قبل ذلك إنما يدرك بالنظر والتفكر، وأما فيما ذكر يدرك بالبديهة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) أي: قادة في الخير: يحتمل قوله: (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) أي: يدعون الناس بما أمرهم، وهو التوحيد، أو (يَهْدونَ)، أي: يبينون لهم بالذي أمرنا: ما لهم وما عليهم. وقوله: (لَمَّا صَبَرُوا): ْقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: بما صبروا على البلاء وتعذيب فرعون إياهم وأذاه إياهم، أي: آمنوا ودعوا غيرهم إلى ذلك على الخوف، كقوله: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَمَا صَبَرُوا) على الطاعات. وقد قرئ: (لَمَّا صَبَرُوا): بالتشديد، ومعناه - واللَّه أعلم - أي: بما يهدون؛ لما كان منهم الصبر على ذلك، أي: بالصبر الذي كان منهم هدوا أُولَئِكَ. وقوله: (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ). أنها من اللَّه، وأنها آياته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَمَّا صَبَرُوا)، أي: لم يركنوا إلى الدنيا، ولا اشتغلوا بها، ولكن صبروا على أمره؛ إذ كلفوا، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) إن أهل الأديان جميعًا، والمذاهب على اختلاف أديانهم ومذاهبهم اتفقوا أن الدِّين الذي جاء من اللَّه واحد، وأن الدِّين الذي أمر اللَّه أن يدينوا به واحد، لكن كلا منهم ادّعى أن الذي هو عليه دين اللَّه، وأن الأمر به من اللَّه وقع على ما يدين هو به، وغيره على باطل على غير دين اللَّه الذي أمر بالديانة به، وكذلك قالوا: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً. . .) الآية، فأخبر أنه يفصل بينهم ويبين الدِّين الذي أمر أن يدينوا به في الدنيا بيان الاحتجاج عليهم؛ وإلا قد أبان لهم وأظهر الذين الذي أمرهم أن يدينوا به بالحجج والآيات، وعرفوا ذلك، لكنهم كابروا وعاندوا، وكتموا ذلك ولبسوا على الناس والأتباع؛ فيبين ما كتموا في الدنيا ولبسوا في الآخرة، فيظهر عنادهم ومكابرتهم؛ احتجاجًا عليهم،

(26)

وإن كان الحق قد بأن لهم وظهر في الدنيا، هذا - واللَّه أعلم - يشبه أن يكون تأويل الآية. * * * قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) وقوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) يقول - واللَّه أعلم -: أولم يبين لأهل مكة، ولم يكفهم من الهداية والبيان ما أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم، فيرون ما حل بهم، ومن أهلك ومن نجا منهم؛ فيقع الاعتبار لهم بمن ذكر من وجهين: أحدهما: زعموا أن آباءهم على ما هم عليه، وأنهم يقلدونهم في ذلك، وأنهم أمروا بذلك، فيخبر أنكم أولاد من نجا منهم، لا أولاد من أهلكوا؛ لأنهم استؤصلوا؛ فلا يحتمل أن تكونوا أولاد من استؤصلوا؛ فدل أنهم أولاد من نجا منهم، وإنما نجا منهم المصدق لا المكذب، فيخبر أن كيف لا اتبعتم آباءكم الذين نجوا منهم وهم المصدقون، دون الذين أهلكوا بالتكذيب والعناد؟! والثاني: يعتبرون فيعلمون أن إهلاكهم واستئصالهم كان؛ للتكذيب والعناد مع الرسل والخلاف لهم؛ فيمنعهم ما حل بهم بالتكذيب والخلاف للرسل عن تكذيب رسول الله ومجادلتهم إياه. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أفلا يبصرون ذلك حيث يمشون في مساكن أُولَئِكَ، ويمرون فيها؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: أفلا يسمعون ما يحدث لهم عن أُولَئِكَ، وما حل بهم، وبم نزل ذلك بهم؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَفَلَا يَسْمَعُونَ): أفلا يعقلون لماذا أهلكوا أو استؤصلوا؛ فيمتنعون عن ذلك؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: أفلا يستمعون الوعيد الذي أوعد لهم. وقيل: أفلا يستمعون التوحيد، واللَّه أعلم. وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا ... (27) إلى آخر ما ذكر.

(28)

هذه الآية ذكرت في الاحتجاج عليهم لإنكارهم البعث، والأولى ذكرت لإنكارهم نزول العذاب بالتكذيب والخلاف للرسل، فيخبرهم أن من قدر على سوق الماء إلى الأرض الميتة اليابسة وإحيائها، لقادر على إحيائكم بعد الموت؛ إذ الأعجوبة والقدرة في إحياء الأرض الميتة اليابسة إن لم يكن أكثر فلا تكون دون ما أنكروا؛ فكيف أنكرتم القدرة على إحياء الموتى، وقد عاينتم ما هو أكثر أو مثله؟!. والأرض الجرز: قال أَبُو عَوْسَجَةَ: هي التي لا نبت فيها، وأرضون أجراز، وأرض أجراز، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: الأرض الجرز: اليابسة: التي لا نبت فيها، وجمعها أجراز، ويقال: سنون أجراز: إذا كانت سني جدب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأرض الجرز: التي تأكل نباتها، أي: يحترق فيها، يقال: امرأة جرزاء: إذا كانت أكولة، أو كلام نحوه. (تَأْكُلُ مِنْهُ)، من الزرع الذي ذكر أنه يخرج من الأرض اليابسة بالماء. (أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ)، قدرته في إخراج ما ذكر مما فيه غذاؤكم وغذاء ما سخر لكم من الأنعام. أو يذكر نعمه، يقول: أفلا تبصرون نعمه؛ فكيف تكفرونه، وتعبدون غيره، وتصرفون الشكر إلى غيره؟! وذكر عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " الأرض الجرز التي لا نبات فيها ". وقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا يقولون ويتحدثون: إن لنا يومًا أوشك أن نستريح فيه ونتنعم فيه - يعنون: يوم القيامة - فقال كفار مكة: متى هذا الفتح؛ وهو القضاء. (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): بأنه كائن، فإن كان البعث والقيامة حقا - صدّقنا يومئذ وآمنا؛ فأنزل اللَّه - تعالى -، (قُلْ ... (29) يا مُحَمَّد لهم: (يَوْمَ الْفَتْحِ): يوم القضاء، (لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ). بالبعث؛ لقولهم: لو كان البعث الذي يقولون حقًّا صدقناه يومئذ. (وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ): يقول: لا ينظر بهم بالعذاب حين يعذبون.

(30)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا يتذاكرون - وهم بمكة - فتح مكة لهم؛ فكان ناس من أهل مكة إذا سمعوا ذلك منهم هزءوا بهم وسخروا ويقولون لهم: متى فتحكم الذي تزعمون؟ فنزل: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ) يا أصحاب مُحَمَّد، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنها تفتح عليكم. لكن هذا بعيد؛ لأنه يقول على أئره: (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ)، ولو كان فتح مكة، لكان ينفعهم إيمانهم، ولهم نظرة وإنظار؛ دل أنه يبعد صرفه إلى فتح مكة، والأول أشبه أن يكون؛ لما ذكر من ترك قبول الإيمان والإنظار، وفي الدنيا يقبل ذلك كله؛ فظهر أن الأول أشبه: كان السؤال عن الساعة أو عن المحاكمة، إلا أن يثبت ما ذكر في الخبر: أنه لما فتح مكة أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه ذلك اليوم وانهزم المشركون؛ فخرجوا من مكة، وأقام من أقام بها؛ فأمنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأدلج خالد بن الوليد تلك الليلة دلجة في سبعمائة رجل ومعه أبو قتادة الأنصاري، فأسروا في أسفل مكة حتى سقطوا من وراء الحرم، فوجدوا الذين كانوا يهزءون بأصحاب مُحَمَّد، ويقولون: متى فتحكم هذا؛ فوق جبل قد تحصنوا فيه، فلما رأوا خالد بن الوليد قالوا: هذا خالد بن الوليد وإحنته، وقد كان بينه وبينهم في الجاهلية إحنة، فقال لهم خالد بن الوليد: ما لكم؟ قانوا: قد أسلمنا، قال: إن كنتم قد أسلمتم فأنزلوا، فنظر بعضهم إلى بعض، فقال رجل منهم: أطيعوني ولا تنزلوا إليه؛ فواللَّه لئن نزلتم إليه ليهلكنكم، إنه لخالد بن الوليد وإحنته، قالوا: واللَّه ما علينا سبيل؛ لقد أسلمنا، ثم نزلوا ووضع عليهم خالد بن الوليد السلاح، واعتزل أبو قتادة، فقال: معاذ اللَّه أن أعين على شيء مما هاهنا، فبلغ ذلك النبي؛ فبعث إليهم علي بن أبي طالب بالدية من غنائم خيبر، فوداهم إليه بالدية حتى بعث إليهم بردعة الخيل حين راعوهم، ومساقي الكلاب كانوا كسروها فوداهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كل شيء لهم، فذلك قوله: (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ). (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ... (30) يا مُحَمَّد إلى مدة لهم، (وَانْتَظِرْ)، بهم العذاب، أي: القتل وهلاكهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) هلاككم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ): إلى ذلك اليوم، (وَانْتَظِرْ): بهم فتح مكة، (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ): هلاكك. أو أن يكون قوله: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)، أي: لا تكافئهم لأذاهم إياك، (وَانْتَظِرْ): مكافأتنا إياهم، (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ): ذلك، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة الأحزاب

سُورَةُ الْأَحْزَابِ ذكر أن سورة الأحزاب نزلت بالمدينة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) قوله - عزَّ وجلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ). جائز أن يكون ظاهر الخطاب وإن كان لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: فهو للناس عاما؛ ألا ترى أنه قال على أثره: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) خاطب به الجماعة، وقد خاطب رسوله في غير آي من القرآن، والمراد به غيره؛ فعلى ذلك جائز أن يكون هذا كذلك. ويشبه أن يكون المراد بالخطاب -أيضًا- خاصة، لكن إن كان ما خاطب به مما يشترك فيه غيره - دخل في ذلك الخطاب وفي ذلك النهي، وإن كان مما يتفرد به من نحو: تبليغ الرسالة إليهم، وما تضمنته الرسل، وإن خاف على نفسه القتل والهلاك فإن عليه ذلك لا محالة، كقوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. . .) الآية. وأما أهل التأويل فمما اختلفوا فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية، وذلك أن نفرا من أهل مكة - أبو سفيان بن حرب، وعكرمة ابن أبي جهل، وأبو الأعور السلمي، وهَؤُلَاءِ - قدموا المدينة، فدخلوا على عبد اللَّه بن أُبي رئيس المنافقين بعد قتلى أحد، وقد أعطاهم النبي الأمان على أن يكلموه، فقالوا للنبي وعنده عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومنات، وندعك وربك؛ فشق ذلك على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية: (اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ)، وفيهم نزل: (وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ). وفي بعض الروايات: قالوا ذلك - وعنده عمر بن الخطاب - فقال: يا رسول اللَّه، ائذن لي في قتلهم؛ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إني قد أعطيتهم الأمان "، فإن كان على هذا فالنهي: عن نقض العهد والأمان.

(2)

وإن كان على الأول: فالنهي عن اتباع ما طلبوا منه من رفض آلهتهم والعبادة لها. وبعضهم يقولون: إن أهل مكة نحو: شيبة بن ربيعة وهَؤُلَاءِ قالوا له: إنا نعطيك يا مُحَمَّد كذا كذا من المال، ونزوجك كذا كذا امرأة كثيرة المال؛ فارفضنا وآلهتنا؛ وإلا قتلك المنافقون: فلان وفلان، عذوا نفرًا؛ فأنزل اللَّه - تعالى - الآية في ذلك بالنهي عن اتباع ما طلبوا منه ودعوه إليه، وأمره بالتوكل على اللَّه في ترك الاتباع لهم. وأصله ما ذكرنا: أن النهي - وإن كان له خاصة - فيما ذكر فهو - وإن كان معصومًا - فالعصمة لا تمنع الأمر والنهي؛ بل العصمة إنما تنفع إذا كان ثمة نهي وأمر؛ إذ لولا النهي والأمر لكان لا معنى للعصمة ولا منفعة لها، واللَّه أعلم. وقوله: (اتَّقِ اللَّهَ): في ترك تبليغ الرسالة إليهم، (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) في اتباع ما دعوك إليه وطلبوا منك، أو في غيره. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا). (عَلِيمًا) وبما كان ويكون منهم، أي: على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد عليك بعثك، لا على جهل، (حَكِيمًا): في ذلك، أي: بعثه إياك إليهم، على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد، لا يخرجه عن الحكمة، ليس كملوك الأرض: إذا أرسل بعضهم إلى بعض رسالات وهدايا، على علم من المرسل أن المبعوث إليه يرد الرسالة والهدية يكون سفهًا؛ لأنهم يبعثون ويرسلون لحاجة أنفسهم، أعني: أنفس المرسلين، فإذا أرسلوا على علم منهم بالرد والتكذيب كان ذلك سفهًا خارجًا عن الحكمة. فأما اللَّه - سبحانه - إنما يرسل الرسل ويبعثهم لمنفعة أنفسهم وحاجتهم، فعلمه بالرد والتكذيب لا يخرجه عن الحكمة. وقوله - تعالى -: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) هذا يحتمل الخصوص له على ما ذكرنا، ويحتمل العموم على ما ذكرنا في آية أخرى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يدل على ذلك قوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا): خاطب به الكل - واللَّه أعلم - وهو ما ذكرنا أنه على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد. وقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) أي: اعتمد على اللَّه في تبليغ الرسالة، ولا تخف أذاهم.

(4)

(وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا). أي: حافظا يحفظك ويمنعهم عنك، كقوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). * * * قوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وقوله: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ). يقول بعض أهل التأويل كذلك: إنها نزلت في رجل يقال له: أبو معمر، وكان من أحفظ الناس وأوعاهم؛ فقالوا: إن له قلبين: قلب يسمع، وقلب يحفظ ويعي؛ فنزل: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ). ويقول بعضهم كذلك: إنها نزلت في أبي معمر، وكان يسمى: ذا قلبين؛ لحفظه الحديث، حتى إذا كان يومُ بدر، وهُزم المشركون - وفيهم أبو معمر - يلقاه أبو سفيان بن حرب، وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله؛ فقال: يا أبا معمر، ما فعل الناس؟ قال: انهزموا، فقال: ما بال نعلك في يدك والأخرى في رجلك؟ فقال: ما شعرت إلا أنهما جميعًا في رجلي؛ فعرفوا يومئذ أنْ لو كان له قلبان ما نسي نعله في يده. ونحوه قد قيل، ولكن لا ندري ما سبب نزول هذا. وروي عن ابن عَبَّاسٍ: أنه سئل عن هذه الآية؛ فقال: كان نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصلي يومًا، فخطر خطرة - أي: وقع في قلبه - فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين: قلبا معكم، وقلبا معهم؛ فأنزلت هذه الآية.

وهذا يشبه أن يكون سبب نزول الآية، أو أن يكون نزولها في المنافقين، وذلك أنهم كانوا يصلون مع النبي والمؤمنين، ويرون الموافقة لهم من أنفسهم، ويقولون: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ)، ثم يرجعون إلى أُولَئِكَ فيقولون: (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)، ونحوه؛ فذكر هذا: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)، أي: دينين في جوفه: أن إيمان والنفالتي، أو (قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ): قلبا لهذا، وقلبا للآخر. أو نزلت في المشركين الذين يقرون بالوحدانية لله، وأنه هو الخالق؛ كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، ويعبدون الأصنام مع هذا؛ فيقول - واللَّه أعلم -: لم يجعل لرجل قلبين في جوفه: قلبًا للشرك، وقلبًا للإيمان والتوحيد؛ ولكن جعل قلبًا واحدًا لأحد هذين، أي: قلبًا لقبول الشرك، وقلبا لقبول الإيمان. وبعضهم يقول: هو على التمثيل، أي: كما لم يجعل لرجل واحد قلبين؛ فكذلك لا يكون المظاهر من امرأته: لا تكون امرأته أمه في الحرمة، ولا يكون دَعِيُّ الرجل ابنه، يقول: نزلت في النبي وزيد بن حارثة، كان النبي تبناه، وكانوا يسمونه زيد بن مُحَمَّد، فجاء النهي عن ذلك؛ فقال: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ)، إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل. وبعضهم يقول: تأويل قوله: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ). أي: لم يجعل للرجل نسبين ينسب إليهما. وأصله عندنا: أن قوله: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ): ما ذكرنا، ولم يجعل أزواجكم اللائي تستمتعون بهن بالتشبيه بالأمهات كالأمهات، أي: لم يحل لكم ذلك ولم يبح ولم يشرع. (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ)، أي: لم يجعل سبب ذلك ولم يشرع، وإن كان قد يكون في النسب الفاسد، نحو الجارية بين اثنين إذا ولدت فادعياه جميعًا، ونحو النكاح الفاسد، والملك الفاسد، لم يجعل كذا، أي: لم يحل ولم يشرع؛ كقوله: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ)، أي: لم يشرع ولم يحل ذلك، وإن كان يكون لو فعلوا؛ فعلى ذلك قوله: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ)، أي: لم يشرع ذلك السبب، ولم يحل ذلك في الإسلام ما كان في الجاهلية، لا أنه لا يكون ذلك فيما لم يشرع في الفاسد من السبب، على ما ذكرنا: أن النسب ثبت في النكاح الفاسد، وإن لم يشرع. والحسن يقول في قوله: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) قال: كان الرجل

يقول: إن نفسا تأمرني بكذا ونفسا تأمرني بكذا؛ فنزل ذلك. والحكمة فيما لم يجعل لواحد قلبين، وجعل له سمعين وبصرين؛ لأن الإدراك بالسمع والبصر إنما يكون بالمشاهدة، فيخرج ذلك مخرج معاونة بعضهم بعضًا، وما يدرك بالقلب إنما يدرك بالاجتهاد، وقد يختلف القلبان فيما يجتهدان في شيء، فيناقض أحدهما صاحبه؛ إذ يجوز أن يرى أحدهما خلاف ما يراه الآخر، وأما السمعان والبصران لا يكون كذلك. وقوله: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ): جائز أن يكون سبب ذلك ما ذكر من ادعاء مسيلمة الكذاب الرسالة لنفسه وتواطؤ أصحابه على ذلك، يقول - واللَّه أعلم -: ما جعل اللَّه أن يرسل رجلين رسولا إلى خلقه مختلفي الدِّينين متضادي الشرائع، يدعو كل واحد إلى دين غير الآخر، وإلى شريعة يضاد بعضها بعضًا: محمدا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ومسيلمة الكذاب. وقوله: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ): يحتمل هذا وجهين: أحدهما: على النهي الذي ذكرنا، أي: لا تشبهوا أزواجكم بظهور الأمهات، ولا تحرموهن على أنفسكم كحرمة الأمهات؛ ولذلك قال: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا). والثاني: أن لم يجعل اللَّه لكم أزواجكم حرامًا أبدًا كالأمهات، وإن جعلتم أنتم؛ ولكن جعلهن لكم بحيث تصلون إليهن بالاستمتاع على ما تصلون إليهن وتستمتعون بهن، بعد هذا القول؛ يذكر هذا على المنة والنعمة؛ ليتأدى به شكره؛ لما أبقى لهم الاستمتاع بهن بعد هذا، ولم يجعلهن لهم كالأمهات، على ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ)، أي: ما جعل أدعياءكم أبناءكم في الحقوق إلى الآباء، وهو ما ذكر في بعض القصة: أنه إذا ادعى الرجل منهم ورثة منهم مع أولاده - وهو شيء كانوا يفعلونه في الجاهلية - دعي إليه ونسب، يقول - واللَّه أعلم -: ما جعل ما كنتم تدعون الأبناء في الجاهلية للعون والنصرة أبناءكم في الإسلام فيما جعلوا. والثاني: ما جعل أدعياكم أبناءكم في حق النسبة، كما ذكر أنهم كانوا يقولون لزيد بن حارثة: زيد بن مُحَمَّد. (ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ):

(5)

إنما هو قول تقولونه بألسنتكم فيما بينكم. (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ): إنهم ليسوا بأبنائكِم. أو أن قوله: (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ)، تأويله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ (5): أعدل عند اللَّه، أي: انسبوهم إليهم إن علمتموهم. (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ). قال بعض أهل التأويل: فانسبوهم إلى أبيهم من أسماء مواليكم أو إخوانكم أو ابن عمكم، مثل عبد اللَّه وعبيد اللَّه، وعبد الرحمن، وأشباه ذلك الأسماء وأسماء مواليكم. أو أن يقول: قوله: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)، أي: سموهم: إخوانا، وذلك أعظم في القلوب وآخَذُ من التسمية بالآباء والنسبة إليهم؛ وذلك أن الحاجة إلى معرفة الآباء والنسبة إليهم إنما تكون عند الكتابة والشهادة وعند الغيبة، فأما عند الحضرة فلا. وقوله: (وَمَوَالِيكُمْ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: نزل هذا في شأن زيد بن حارثة، وهو كان مولى رسول اللَّه، وكانوا يسمونه: زيد بن مُحَمَّد؛ فنهوا عن ذلك، فيقول: فإن لم تعلموا آباءهم فانسبوهم إلى مواليهم. وجائز أن يكون قوله: (وَمَوَالِيكُمْ) من الولاية، كقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ). وقوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ). يقول - واللَّه أعلم -: ليس عليكم جناح بالنسبة إلى غير الآباء إذا كنتم مخطئين غير عارفين للآباء؛ إنما الجناح والحرج عليكم إذا كنتم عامدين لذلك عارفين لهم آباء؛ كأنه أباح التبني والتآخي فيما بينهم، ولم يبح النسبة إلى غير الآباء وإيجاب الحقوق فيما بينهم. وكذلك روي في بعض الخبر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يؤاخي بين الرجلين، وإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله، فكان الزبير أخا عبد اللَّه بن مسعود، فمكثوا بذلك ما شاء اللَّه أن يمكثوا، حتى نزلت الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ)، يقول: إذا دعوت الرجل

(6)

لغير أبيه، وأنت ترى أنه كذلك. (وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ). يقول: لا تدعوه لغير أبيه متعمدًا، فأما الخطأ فإن اللَّه يقول: لا يؤاخذكم به، ولكن ما أردتم به العمد، وهو مثل الأول. وذكر أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمع رجلا يقول: اللهم اغفر لي خَطَايَ؛ فقال له عمر: " استغفر اللَّه العمد؛ فأمَّا الخطأ فقد تجوز لك عنه "، وكان يقول: " ما أخاف عليكم الخطأ؛ ولكن أخاف عليكم العمد، وما أخاف عليكم العائلة؛ ولكن أخاف عليكم التكاثر، وما أخاف عليكم أن تزدروا أعمالكم؛ ولكن أخاف عليكم أن تستكثروها ". وذكر أن ثلاثًا لا يُمْلك عليها ابن آدم: الخطأ والنسيان والاستكراه، وكذلك روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخطأ - هاهنا - هو ما جرى على اللسان من غير قصد، والعمد ما يجري على قصد، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا). لما فعلوا. وقوله: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) قَالَ بَعْضُهُمْ: النبي أولى بهم من بعضهم ببعض؛ كقوله: (وَلَا تَقتُلُوا أَنفُسَكُم)، أي: لا يقتل بعضكم بعضا؛ إذ لا أحد يقتل نفسه، (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: يسلم بعضكم على بعض، ليس أنه يسلم الرجل على نفسه؛ ولكن ما ذكرنا؛ فعلى ذلك قوله: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، أي: بعضهم من بعض. ثم يحتمل هو أولى بهم من أنفسهم من الطاعة له والاحترام له والتعظيم، أي: هو أولى أن يعظم ويحترم ويطاع من غيره. أو أن يكون أولى بهم في الرحمة والشفقة لهم، أي: أرحم بهم وأشفق من أنفسهم، وهو على ما وصفه من الرحمة والرأفة؛ حيث قال: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وليس أحد من الناس يعز عليه ما يفعله من المآثم. أو أن يجوز أولى بهم:، أي: أَحبَّ إليهم من أنفسهم وأولادهم، محبة الاختيار والإيثار، ليست محبة الميل: ميل القلب؛ لأن ميل القلب يكون بالطبع.

وذكر في الخبر أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ليس بمؤمن حتى أكون أنا أحب إليه من نفسه وولده وأهله " أو كلام نحو هذا. أو أن يكون [(أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ)]، في الآخرة بالشفاعة لهم، يشفع فينجون من النار به لا بأعمالهم، واللَّه أعلم. وذكر في بعض الحروف: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم): وهو حرف أبي وابن مسعود وابن عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنهم. قوله: (وهو أب لهم) في الرحمة والشفقة، أو فيما يلزم من الطاعة والتعظيم والاحترام ونحوه. وقوله: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ). قال أهل التأويل: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ): في الحرمة؛ أي: لا يحل لهم أن يتزوجوهن أبدًا كالأمهات، ولكن يجب أن يكون ذلك بعد وفاته، فأمَّا في حياته إذا طلقهن فيجب أن يحللن لغيره؛ لأنه قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. . .) الآية، ولو لم يحللن لغيره، لم يكن لما ذكر لهن من التمتيع والتسريح معنى، وهذه الحرمة يجب أن تكون بعد الموت، وهو ما قال: (وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا): إنما شرط هذا بعده؛ ليكن أزواجه في الآخرة. أو أن يكون قوله: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، أي: حرمة أزواجه من بعده ومنزلتهن كمنزلة أمهاتهم؛ يستوجبن ذلك لحرمة رسول اللَّه ومنزلته قبلهم. وأما الباطنية فإنهم يقولون: في قوله: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) دلالة أنه ليس يريد به أزواج النبي؛ ألا ترى أنه يحل للناس نكاح أولادهن، ولو كن أمهات لم تحل؛ لأنهم يصيرون إخوة وأخوات؛ فإذا حل ذلك دل أنه ما ذكرنا، هذا قولهم. لكن الجواب لذلك ما ذكرنا: أنه جائز أنه سمَّاهن: أمهات، أي: منزلتهن وحرمتهن كمنزلة الأمهات؛ لحرمة رسول اللَّه ومنزلته؛ وذلك جائز لأنه ذكر الشهداء أحياء عنده، وإن كانوا في الحقيقة موتى؛ لفضل الكرامة لهم والمنزلة عند اللَّه، فعلى ذلك ذِكرُ

الأمهات لأزواجه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (فِي كِتَابِ اللَّهِ): في حكم اللَّه؛ كقوله: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)، أي: حكم اللَّه عليكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فِي كِتَابِ اللَّهِ): فيما أنزل من الكتاب، وهو الذي ذكر، وكذلك: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. . .)، إلى آخر ما ذكر: المكتوب عليهم: الذي ذكر على أثره. ثم اختلف في تأويل قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: إن المواريث في بدء الأمر لم تكن تجري إلا فيما بين المؤمنين المهاجرين من القرابات والأرحام، فإن كان مؤمنًا لم يهاجر لم يرث ابنه ولا أباه ولا أخاه المهاجر ولا سائر قراباته إذا مات أحدهما، إلا أن يكونا مؤمنين مهاجرين؛ فعند ذلك يتوارثون؛ فعلى ذلك التأويل يكون تأويل قوله: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا): الذين لم يهاجروا من المؤمنين أن تُوصوا لهم شيئًا، فيقول قائل هذا التأويل: إن هذا نسخ بالآية التي ذكر في سورة الأنفال، وهو قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ. . .). ولم يذكر فيها الهجرة إذا كانوا مسلمين. وأمَّا الكافر فإنه لا يرث المسلم، وعلى ذلك روي في الخبر أنه قال: " لا يرث، المسلم الكافر ولا الكافر المسلم "، وقال: " لا يتوارث أهل ملتين ".

وقَالَ بَعْضُهُمْ: تأويل قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) من الأقربين منهم، أي: أولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين الأقرب فالأقرب منهم، (بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) من الأبعدين في المواريث أي: الأقرب منهم بعضهم أولى ببعض من الأبعدين. (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا). على هذا التأويل يكون قوله: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ): الأبعدين (مَعْرُوفًا): وصية أو شيئا، فذلك معروف فصارت المواريث للقرابات الأدنى فالأدنى من المؤمنين دون الأبعدين؛ فيكون الآية التي في الأنفال وهذه سواء على هذا التأويل، بل يكون الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى أولى بالمواريث من غيرهم. وبعضهم يقول: إن الآية نزلت ناسخة لما كان منهم من التوارث بالمؤاخاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يؤاخي بين رجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته، حتى نسخ ذلك بالآية التي ذكر؛ فعلى ذلك يكون قوله: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا) هو أن يصنعوا إلى الذين آخى بينهم النبي معروفًا. ثم اختلف في أولي الأوحام المذكورين في الآية: قَالَ بَعْضُهُمْ: هم الذين ذكرهم في قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. . .)، إلى آخر ما ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليسوا هم؛ وإنَّمَا الذي ذكر في ذلك هم الذين بيّن لهم حد مواريثهم، فأما غيرهم فإنما هم في قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) فإنما يرث الأقرب فالأقرب منهم، وكذلك يقول أبو حنيفة - وحمه اللَّه -: إن أولي الأرحام إنما يرث الأقرب فالأقرب منهم، ليس كالعصبات؛ لأن الابنة لا شك أنها أقرب من ابن العم، ثم يكون النصف للابنة والبقية لابن العم. وقوله: (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: في اللوح المحفوظ بأن المؤمنين بعضهم أولى ببعض في المواريث

(7)

من الذين كانوا يتوارثون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فِي الْكِتَابِ)، أي: في التوراة مكتوبًا: أن يصنع بنو إسرائيل إلى بني لؤي بن يعقوب معروفًا؛ ليعود الغني على الفقير، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: خصّ هَؤُلَاءِ؛ لأن أهل الشرع من الرسل هم هَؤُلَاءِ؛ كقوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا. . .) الآية، لكنه قد ذكر في آية أخرى ما يدل أن غير هَؤُلَاءِ كان لهم أيضًا شرع؛ كقوله: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ. .) الآية. وجائز أن يكون تخصيص هَؤُلَاءِ بأخذ الميثاق؛ لأنهم هم أولو العزم من الرسل؛ حيث قال: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أو يكون لا على تخصيص لمن ذكر؛ ولكن على إرادة الكل، واللَّه أعلم. ثم اختلف في أخذ الميثاق: قَالَ بَعْضُهُمْ: أخذ ميثاقهم على أن يبشر بعضهم ببعض: يبشر نوح بإبراهيم، وإبراهيم بموسى، وموسى بعيسى، وعيسى بمُحَمَّد، عليهم الصلاة والسلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أخذ ميثاقهم؛ ليصدق بعضهم بعضا، وأن يدعوا إلى عبادة اللَّه، وأن ينصحوا لقومهم. وجائز أن يكون ما ذكر من أخذ الميثاق منهم لما ذكر على أثره: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ): أخذ منهم الميثاق في تبليغ الرسالة إلى قومهم؛ ليسألهم عن صدقهم أنهم قد بلغوا. (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا). لأن تبليغ الرسالة إلى الفراعنة منهم وأعداء اللَّه صعب شديد، مخاطرة، فيه هلاك النفس وفوات الروح، وهو ما قال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. . .) الآية. وقوله: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)

(9)

الصدق أكثره إنما ينفع في الإنباء والإخبار، كقوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ): وهو ما أخبرهم وأنبأهم من القرآن وغيره. وقال في آية أخرى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا)، صدقًا في نبيه، وعدلا في حكمه، ثم صدقه في النبأ، وعدله في الحكم، سميّ القرآن: مرة صدقًا، ومرة عدلا، ومرة حقا، فالحق يجمع الأمرين: النبأ والحكم جميعًا، والصدق يكون في النبأ خاصة، والحكم في العدل. ثم يحتمل سؤاله الصادقين، وهم الرسل، عن صدقهم وجهين: أحدهما: يسألهم عن تبليغ ما أمرهم بالتبليغ إلى قومهم، وعن إنباء ما ولاهم الإنباء أن نبئوا أُولَئِكَ: هل بلغتم وهل أنبأتم أُولَئِكَ؟ والثاني: يسألهم عن إجابة أُولَئِكَ لهم: هل أجابوكم إلى ما دعوتم؛ لأن منهم من أجابهم وصدقهم، ومنهم من لم يجب ولم يصدّق؛ فيخرج السؤال عمن أجاب على التقرير، ومن لم يجب على التنبيه والتوبيخ، وهو يسأل الفريقين جميعًا: الرسل عن التبليغ، والمرسل إليهم: عن الإجابة؛ كقوله: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) [(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا)] اشكروا ما أنعم اللَّه عليكم وأحسنوا صحبة نعمه في النصر لكم والدفع عنكم، ثم الأمر في تذكير ما أنعم عليهم وجوه من الحكمة والدلالة: أحدها: تذكير لنا في مقاساة أُولَئِكَ السلف من أصحابه في الدِّين، وعظيم ما امتحنوا في أمر الدِّين، حتى بلغوا الدِّين إلينا؛ لكيلا نضيعه نحن، بل يلزمنا أن نحفظه ونتمسك به، ونتحمل فيه، كما تحمل أُولَئِكَ. والثاني: فيه آية لهم وذلك أنهم كانوا جميعًا هم وأعداؤهم، فجاءتهم الريح والملائكة فأهلكتهم دون المؤمنين، وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " نصرتُ بالصَّبَا، وأهلِكَ عاد بالدبُور "، وذلك آية عظيمة.

(10)

والثالث: يذكرهم ما أتاهم من الغوث عند إياسهم من أنفسهم وشرفهم على الهلاك وخروج أنفسهم من أيديهم؛ لأن العدو قد أحاطوا بهم؛ حيث قال: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)، وبلغ أمرهم وحالهم ما ذكر، حيث قال: (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. . .) الآية. أو أن يذكر لما كان منهم من العهد والميثاق ألا يولوا الأدبار، ولا يهربوا كقوله: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ. . .) الآية: يذكرهم عظيم نعمه التي كانت عليهم في النصر لهم على عدوهم والدفع عنهم، وحالهم ما ذكر في الآية، وذلك كان يوم الخندق تحزبوا المؤمنين في ثلاثة أمكنة يقاتلونهم من كل وجه شهرًا، فبعث اللَّه عليهم بالليل ريحًا باردة، وبعث الملائكة فغلبتهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا). يذكر أنه لا عن غفلة وسهو ترككم هنالك حتى أحاط بكم العدو؛ ولكن أراد أن يمتحنكم محنة عظيمة. أو يقول: إنه بصير عليم فيجزيكم جزاء عملكم وصبركم على ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) قَالَ بَعْضُهُمْ: من فوق الوادي ومن أسفل منه. وقيل: أحاطوا بهم من النواحي جميعًا. وجائز أن يكون ذلك كناية عن الخوف، أي: أحاطوا بهم حتى خافوا على أنفسهم الهلاك؛ وعلى ذلك يخرج قوله: (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ). وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: هذا وصف المنافقين (زَاغَتِ الْأَبْصَارُ)، أي: شخصت، (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)؛ لشدة خوفهم، كقوله: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)، وأمثال هذا قد وصفهم في غير آي من القرآن ما وصف هاهنا، وهذا يشبه أن يكون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا وصف حال المؤمنين: شخصت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر؛ لفا اشتد بهم الخوف؛ لما أحاطوا بهم من فوق ومن أسفل. ثم جائز أن يكون ذلك على التمثيل، أي: كادت أن تكون هكذا. وجائز أن يكون على التحقيق، وهي أن تزول عن أمكنتها، وبلغت ما ذكر، والله

(11)

أعلم. وقوله: (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: ظن ناس من المنافقين ظنونا مختلفة، يقولون: هلك محمد وأصحابه، ونحوه من الظنون الفاسدة السوء، وكقوله: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)، ونحوه. وجائز أن يكون ذلك الظن من المؤمنين: ظنوا باللَّه ظنونًا لتقصير أو تفريط كان منهم نحو قوله: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)، وكقوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ. . .) الآية. ثم قال: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ... (11) بالقتال وأنواع الشدائد (وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا): قيل: جهدوا جهدًا شديدًا، وقيل: حركوا تحريكًا شديدًا. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) وقوله: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). يحتمل أن يكون قوله: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): هما واحد، وهم

(13)

المنافقون. وجائز أن يكون المنافقون هم الذين أضمروا الخلاف له، وأظهروا الوفاق، على إبانة الحق لهم وظهوره، (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): هم الذين كانوا مرتابين في ذلك، لم يبن لهم ذلك، ولم ينجل قالوا هذا: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا): قال عامة أهل التأويل: الذي وعد لهم فتوح البلدان، قالوا لما أحاط بهم - أعني: بالمؤمنين - الكفار قال ذلك المنافقون. وقوله: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) قيل: (يَثْرِبَ): المدينة، ويقال: (يَا أَهْلَ يَثْرِبَ): يا أهل المدينة، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من قال للمدينة: يثرب، فليستغفر اللَّه ثلاثًا؛ هي طابة هي طابة " ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: إن قوله: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) إنما قاله أهل النقاق لبعضهم: (لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا). ثم يحتمل قوله (لَا مُقَامَ لَكُمْ) وجهين: أحإهما: ما قالوا: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ) ومن الفمَح والنصر (إِلَّا غُرُورًا). والثاني: (لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)؛ لما لم يقع عندهم أنهم يصلون إلى ما كانوا يطمعون ويأملون؛ لأنهم كانوا يخرجون رغبة في الأموال وطمعًا فيها، وهو ما وصفهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ. . .) الآية. وجائز أن يكون هذا القول من المؤمنين لأهل النفاق؛ فإن كان من المؤمنين لأُولَئِكَ فالوجه فيه: أنهم أرادوا أن يطردوهم؛ لفشلهم ولجبنهم؛ لئلا يهزموا جنود المؤمنين بانهزامهم؛ لأنهم قوم همتهم الانهزام فإذا انهزموا هم انهزم غيرهم؛ فالمعنى: إذا كان ذلك من المؤمنين لهم غير المعنى إذا كان من أهل النفاق بعضهم لبعض، واللَّه أعلم.

(14)

وقوله: (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ). بالرجوع إلى المدينة، كقوله: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ). وقوله: (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ). قال بعض أهل التأويل: (بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ): خالية من الناس، ليس فيها أحد، فنخاف السرق عليها والأخذ والمكابرة. ويحتمل أن يكونوا أرادوا بالعورة دخول العدو عليها إذا كانوا هم في الجند، العورة، أي: يدخل علينا مكروه ما يحزننا ويهمُّنا، أو كلام نحو هذا، فأكذبهم اللَّه في قولهم، وقال: (وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ)، بل اللَّه يحفظها على ما وعد، حتى لا يدخل عليهم مكروه لما يخافون ولا يصيبهم. وقوله: (إِنْ يُرِيدُونَ)، أي: ما يريدون (إِلَّا فِرَارًا) من القتال. وقوله: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) هذا يحتمل وجهين: أحدهما، أي: لو دخلوا عليهم من أطراف المدينة ونواحيها، ثم دعوا إلى الشرك لأجابوهم، (وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا)، أي: لم يمتنعوا عن إجابتهم، بل لأجابوهم به كما دعوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم لو كانوا في بيوتهم، فدخلوا عليهم من نواحيها، ثم سئلوا الأموال وما تحويه أيديهم (لَآتَوْهَا)، أي: لأعطوها. (وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا). يخبر عن نفاقهم وخلافهم له في السر أنهم يعطون لأُولَئِكَ ما يريدون من الأموال أو الدِّين، ويوافقونهم ولا يوافقونكم ألبتَّة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قَالَ بَعْضُهُمْ: كان أناس غابوا وقعة بدر وما أعطى اللَّه أصحاب بدر من الفضيلة والكرامة؛ فقالوا: لئن شهدنا قتالا لنقاتلنَّ؛ فساق اللَّه ذلك إليهم حتى كان في ناحية المدينة.

(16)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ)، وذلك أنهم كانوا عاهدوا الرسول على عهدهم بمكة على العقبة بمنى، واشترط عليهم لربه ولنفسه: أما لربِّه: أن يعبدوه وألا يشركوا به شيئًا، واشترط لنفسه أن ينصروه ويعزروه ويعينوه ويمنعوه ما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأولادهم؛ فقالوا: فإذا فعلنا ذلك؛ فما لنا يا نبي اللَّه؟ قال: لكم النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة؛ قالوا: قد فعلنا؛ فذلك قوله: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) ليلة العقبة حين شرطوا للنبي المنعة: ألا يولوا الأدبار منهزمين. (وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا). أي: يسأل من نقض العهد في الآخرة ومن وفي. وجائز أن يكون قوله: (وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا) مجزيا نقضًا أو وفاءً، يجزون على وفاء العهد ونقضه. وقوله: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قال أهل التأويل: إن قضي عليكم الموت أو القتل؛ فلن ينفعكم الفرار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن جعل انقضاء آجالكم الموت أو القتل لن ينفعكم الفرار؛ بل تنقضي. وأصله: إن كان المكتوب عليكم الموت أو القتل لن ينفعكم الفرار منه؛ بل يأتي لا محالة؛ كقوله: (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) الآية. أي: لا محالة المكتوب عليهم القتل - وإن كانوا في بيوتهم - لبرزوا؛ فيقتلون. (وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما الدنيا قليل إلى آجالكم. وجائز أن يكون معناه: ولئن نفعكم الفرار عنه (لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا)؛ كقوله: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ) الآية. قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: أدعياءكم: من تبنيتموه واتخذتموه ولدا، ما جعلتم بمنزلة الصلب وكانوا يورثون من ادعوا. (ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ). إن قولكم على التشبيه والمجاز، ليس على التحقيق.

(17)

(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ). وقوله: (أَقْسَطُ): أعدل. (وَإِذْ زَاغَتِ): عدلت ومالت (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)، أي: كادت تبلغ الحلقوم من الخوف، والحناجر جماعة الحنجرة، وهي المذبح. وقوله: (وَزُلْزِلُوا)، أي: شددوا عليهم وهؤلوا، والزلزال: الشدائد، وأصلها من التحريك و (اللَّائِي تُظَاهِرُونَ) و (اللَّاتي) مآلهما واحد، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً (17) ذكر هذا على أثر قوله: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) يقول - واللَّه أعلم -: إنكم، وإن فررتم من الموت أو القتل، فإن اللَّه إن أراد بكم سوءًا أو هلاكًا لا يملك أحد دفعه عنكم، أو إن أراد بكم رحمة ونجاة وخيرًا لا يملك أحد منعه عنكم، وقد تعلمون أنكم لا تجدون من دون اللَّه وليا ينفعكم ولا نصيرًا ينصركم ويمنعكم عن حلول ذلك عليكم، واللَّه أعلم. وقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ... (18) هم المانعون منكم، (وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هم اليهود أرسلوا إلى المنافقين، وقالوا: من ذا الذي يحملكم على قتل أنفسكم بايدي أبي سفيان ومن معه من أصحابه؟! فإنهم إن قدروا عليكم هذه المرة ما استبقوا منكم أحدا، فإنا نشفق عليكم؛ فإنما أنتم إخواننا ونحن جيرانكم، (هَلُمَّ إِلَيْنَا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم المنافقون، عوق بعضهم بعضا ومنع عن الخروج مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى قتال العدو. وفيه أمران: أحدهما: دلالة على إثبات الرسالة؛ لأنهم كانوا يسرون هذا ويخفون فيما بينهم، ثم أخبرهم بذلك؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك باللَّه تعالى. والثاني: أن يكونوا أبدا على حذر مما يضمرون من الخلاف له؛ كقوله: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ. . .) الآية. وقوله: (وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا). أي: لا يأتون القتال والحرب إلا مراءاة وسمعة، هذا - واللَّه أعلم - يشبه أن يريد بالقليل: أنهم لا يأتون إتيان من يريد القتال والقيام معهم؛ ولكن مراءاة وسمعة وإظهارًا

(19)

للوفاق لهم، واللَّه أعلم. وقوله: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) قال عامة أهل التأويل: أي: بخلاء على الإنفاق عليكم، أي: لا ينفقون عليكم ولا على سبيل الخير، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشح -أيضًا-: هو الحرص، يقول: (أَشِحَّةً)، أي: حراصًا على قسمة الغنيمة، يخبر عن معرضهم في الدنيا وركونهم إليها وميلهم فيها، ثم أخبر عن جبنهم وفشلهم وشدة خوفهم، وهو ما قال: (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)، يخبر أنهم لجبنهم وفشلهم يصيرون كالمغشي عليه من الموت. (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ). يخبر عن شدة حرصهم في قسمة الغنيمة ورغبتهم فيها - أنهم أشح قوم وأسوؤهم مقاسمة، يقولون: أعطونا، أعطونا؛ إنا قد شهدنا معكم؛ كقوله: (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ)، ونحوه. وقوله: (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا قولهم، أي: إنا أشح منكم على رسول اللَّه وعلى دينه، وأضن منكم على الخير، أي: نحن أحرص عليه منكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ)، أي: حراصًا على الغنيمة والنيل منها. ثم أخبر عنهم، وعن خلافهم له؛ حيث قال: (أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ). التي عملوها في الظاهر، (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا): أي: صنعهم الذي صنعوا على اللَّه، (يَسِيرًا)، أي: لا يضره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حبط أعمالهم، وتعذيبه إياهم مع كثرة أتباعهم وأعوانهم على الله يسير، أي: لا يشتد عليه ولا يصعب، واللَّه أعلم. وقوله: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) أي: يحسب هَؤُلَاءِ المنافقين أن الأحزاب لم يذهبوا؛ من الفرق والجبن والفشل الذي فيهم يوم الخندق. (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ)، أي: يقبل الأحزاب، (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ)،

(21)

أي: بألسنتهم كانوا بمنزلة البداء؛ وأنهم تركوا أوطانهم وديارهم. (يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ): كانت همتهم التخلف والفرار من القتال وطلب أخبار المؤمنين: أنهم ما فعل بهم؟ نحو ما قال: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)، هكذا كانت عادتهم، ثم ابتلاهم اللَّه بما كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين ويضمرون الخلاف لهم؛ والعداوة بفضل فشل وجبن ما لم يكن ذلك في غيرهم؛ ففي ذلك تحذير للمؤمنين وزجر عن مثل هذا الصنيع ومثل هذه المعاملة؛ لئلا يبتلوا بمثل ما ابتلي أُولَئِكَ. وفيه أنه يعامل بعضهم بعضا على الظاهر الذي ظهر دون حقيقة ما يكون؛ وعلى ذلك يجري الحكم على ما عامل رسول اللَّه وأصحابه أهل النفاق، وحكمه على ما أظهروا دون ما أضمروا في الأنكحة والصهر وغير ذلك من الأحكام، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا)، أي: إلا فيما يدفعون عن أنفسهم لو قصدوا، فأما الدفع عن المؤمنين ودينهم فلا. وجائز أن يكون المراد بالقليل، أي: لا يقاتلون ألبتَّة حقيقة القتال، وهو ما ذكر عنهم؛ حيث قال: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا)، أي: فسادا في أمركم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) وقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك حيث كان يباشر القتال بنفسه، فباشروا معه القتال فمن باشر معه القتال أساه بأسوة حسنة، ومن لم يفعل فلم يواسه.

(22)

وابن عَبَّاسٍ يقول: (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، أي: سنة صالحة أو نحوه. مثل هذا إنما يذكر عن زلات تكون إما من المنافقين أو من المؤمنين، فيقول: لكم في التأسي برسول اللَّه الاقتداء والقدوة به، فهو يخرج على وجوه: أحدها: أي: لقد كان لكم في رسول اللَّه قبل أن يبعث رسولا، وقبل أن يوحى إليه فيما عرفتموه من حسن خلقه وكرمه وشرفه وأمانته - أسوة حسنة؛ فكيف تركتم اتباعه إذا بعث رسولا؟! والثاني: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ)، أي: صار لكم (فِي رَسُولِ اللَّهِ) إذا بعث رسولا (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ): فيما أنزل إليه وأوحي إليه، وفيما شاهدتموه من حسن خلقه وكرمه؛ فالواجب عليكم أن تتاسوا به. والثالث: لقد كان لكم بالمؤمنين أسوة استوائهم لو اتبعتم ما شرع لكم رسول الله وسن. أو الأسوة: هي الاستواء؛ كقول الناس: " فلان أسوة غرمائه "، أي: يكون المال بينهم على الاستواء، هذا - واللَّه أعلم - يشبه أن يكون تأويل الآية. وقوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يكون في رسول اللَّه أسوة لمن خاف اللَّه وآمن باليوم الآخر وبجزاء الأعمال، فأما المنافق والذي لا يؤمن بالبعث، فلا يكون فيه أسوة له. وجائز أن يكون قوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ)، أي: لقد كان لكم أسوة حسنة، ولمن كان يرجو اللَّه واليوم الآخر. أو أن يكون لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة، وفيمن كان يرجو اللَّه واليوم الآخر، والله أعلم. وقوله: (وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). ذكر اللَّه يحتمل في نعمته وإحسانه، يذكر بالشكر له وحسن الثناء، أو يذكر سلطانه وملكه أو جلاله وعظمته وكبرياءه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) حيث أخبرهم أنكم ستلقون كذا في قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ): قالوا لما عاينوا ما وعد لهم وأخبرهم: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) فيما أخبرنا من الوحي قبل أن يكون وقبل أن نلقاه.

(23)

(وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا). أي: ما زادهم إلا إيمانًا ما رأوا وعاينوا، فيما وعد وأخبر، إلا إيمانًا وتصديقًا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في وعده وخبره. وقال قائلون: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد وعد لهم وأخبر: أن يوم الخندق تكون من الأحزاب كذا والجنود كذا، وإنكم ستلقون يومئذ كذا، فلما رأوا ذلك وعاينوه قالوا عند ذلك: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا) وتصديقًا لرسول اللَّه؛ لأن ذلك آية وحجة لرسالته؛ فهو يزيدهم تصديقًا له. وقوله: (وَتَسْلِيمًا)، أي: تسليمًا لأمر اللَّه وتفويضًا له. وقيل: وما زادهم بما أصابهم يوم الخندق إلا إيمانًا وتصديقًا إلى تصديقهم الأول، ويقينا إلى يقينهم الأول، وتسليمًا لأمر اللَّه؛ لأن ذلك الأمر كان قضي عليهم أن يصيبهم، فسلموا لله أمره؛ فصبروا عليه، وأصله ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يخرج على وجهين: أحدهما: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) - الذين هم عندكم مؤمنون - (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)، ورجال لم يصدقوا وهم المنافقون؛ لأن ظاهر هذا الكلام يدل على أن من المؤمنين الذين هم في الظاهر عندهم مؤمنون لم يصدقوا، فأما من كان في الحقيقة مؤمنًا فقد صدق عهده. والثاني: ذكر (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؛ خص بعض المؤمنين بصدق ما عاهدوا وهم الذين خرجوا لذلك: لم يكن بهم عذر فوفوا ذلك العهد؛ وتخلف بعض من المؤمنين؛ للعذر؛ فلم يتهيأ لهم وفاء ذلك العهد لهم وصدقه؛ وكذلك يخرج قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ)، أي: وفَّى بعهده. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ). بالوفاء أن يرتفع عنه العذر؛ فبقي ذلك، واللَّه أعلم. ثم قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ): وفاءه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ)، أي: هلك عليه، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) ذلك، أي على شرف الهلاك. وقوله: (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).

(24)

هذا يقوي التأويل الذي ذكرنا: أخبر في قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ): أن الذين خلفهم العذر فلم يوفوا عهده، والذين لا عذر بهم، فخرجوا فوفوا كلهم لم يبدلوا عهد اللَّه تبديلا؛ لأنه إنما خلفهم العذر؛ فلم يكن في ذلك تبديل. وقوله: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ (24) على ما وفوا، (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ): هذا يدل أن من المنافقين من قد يتوب؛ حيث قال: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، ويعذب الذي مات على نفاقه. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)، أي: لم يزل غفورًا رحيمًا، حيث رحمهم، ولم يأخذهم وقت ارتكابهم الجرم، ولكن أمهلهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) أي: ردّ كفار مكة يوم الخندق، (لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: غنيمة، أي: ردهم بغيظهم، لم يصيبوا شيئًا من الغنيمة؛ فإن كان المراد من الخير: الغنيمة؛ فجائز أن يستدل على تملك أهل الحرب أموال المسلمين إذا أحرزوها، حيث قال: (لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا)، أي: مالا. وجائز أن يكون قوله: (لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا)، أي: سرورا بما كانوا يأملون ويطمعون هلاك المؤمنين على أيديهم، لما أحاطوا بهم وضيقوا عليهم الأمر؛ حتى احتاجوا إلى الخندق؛ فكانوا في أيديهم. يقول: إنهم لم ينالوا ذلك السرور الذي كانوا يأملونه ويرجونه، والله أعلم. وقوله: (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ). حبث بعث عليهم الريح وسلط عليهم الملائكة؛ حتى هزموهم حتى كفوا القتال والحرب معهم. (وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا). أي: كان اللَّه لم يزل قَوِيًّا عَزِيزًا؛ لأنه قوي بذاته عزيز بذاته لا يلحقه ذل، وإن لحق أولياءه الذل والضعف، ليس كملوك الأرض إذا ذهب أصحابهم أو دخل فيهم ذل وضعف؛ ذل ملكهم؛ لأنه عزيز بجنده وحشمه، فأمّا اللَّه - سبحانه - فهو، قوي بذاته، عزيز بذاته، لا يلحقه ذل ولا ضعف بذهاب أوليائه. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ): كان رجال فاتهم يوم بدر؛ فقالوا: لئن حضرنا قتالا، لنفعلن ولنفعلن، فلما كان يوم الأحزاب قاتلوا؛ فذلك قوله

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ)، أي: مات على ما عاهد اللَّه عليه، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ): يوما آخر يكون فيه قتال؛ فيقاتل على ما عاهد اللَّه عليه، (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). وفي حرف أبي: (ومنهم من بدل)؛ فيرجع ذلك إلى المنافقين الذين ذكرنا بدءًا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ قوله: (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)، أي: خالية، وأصل العورة: ما ذهب عنه الستر والحفظ؛ فكأن الرجال ستر وحفظ للبيوت؛ فإذا ذهبوا، أعْوَرَتِ البيوت؛ تقول الرب: أعور المنزل، أي: ذهب ستره، أو سقط جداره، وأعور الفارس: إذا بدا فيه موضع خلل للضرب بالسيف. يقول اللَّه - تعالى - (وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ)؛ لأن اللَّه حافظها، ولكن يريدون الفرار. وقوله: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا)، أي: من جوانبها، (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ)، أي: الكفر، (لَآتَوْهَا)، أي: أعطوها من أرادها، (وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا)، أي: بالمدينة. ومن قرأها: (لَآتَوْهَا) - بغير مدّ - أراد: لصاروا إليها. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: قولهم: (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ): من ناحية العدو، والعورة: الموضع الذي يخاف منه. وقوله: (أَقْطَارِهَا)، أي: من نواحيها، الواحد: قطر، (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ)، أي: عرضت عليهم، وهو الكفر. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ)، يقول: آذوكم بالكلام، يقال: خطيب مِسْلَق وسلاق. وفيه لغة أخرى: (صلقوكم) بالصاد: وهو الضرب. أَبُو عَوْسَجَةَ يقول قريبًا منه: (سَلَقُوكُمْ)، أي: كلموكم وضربوكم (بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ)، أي: طوال، والسلق: الضرب، والخاطب: السلاق والمسلاق من هذا، وهو طول اللسان والجرأة على الكلام. وقوله: (لَا مَقَامَ لَكُمْ) بنصب الميم لا يكون إلا من القيام، و (لَا مُقَامَ لَكُمْ) برفع الميم يكون من الإقامة، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ. وأبو عبيدة يقول: (لَا مُقَامَ لَكُمْ)، أي: ليس لكم مقام تقومون فيه، و (لَا مُقَامَ)، أي: لا إقامة لكم.

(26)

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المقامة: المجلس، ومقامات - جمع المقام -: موضع القدمين، والمقام: الموضع الذي يقيم فيه الرجل. وقال: (الْمُعَوِّقِينَ)، قال: المتعوق: المحتبس، والمعوق: الذي يعوق غيره، أي: يحبس. وقوله: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ)، أي: حراضا على ما نالكم من الشر، الواحد: شحيح، يقال: شح يشح شحًّا؛ فهو شحيح، أي: حرص يحرص حرصا؛ فهو حريص. وقال غيره: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ)، أي: بخلاء، لا ينفقون عليكم أو في سبيل اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا)؛ من شدة الفرق؛ فهم هَؤُلَاءِ المعوقون: اليهود أو المنافقون، (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ): والأحزاب: هم الفرق أعداء رسول الله وأصحابه، (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ)، يقول: خارجون في الأعراب من الرهبة، (يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ): يسألون عن خبر المؤمنين ساعة بعد ساعة؛ جزعًا ورهبة، يقول اللَّه للمؤمنين: (وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ) أي: معكم عند القتال هَؤُلَاءِ الذين تقدم ذكرهم (مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) رميا بالحجارة؛ من ضعفهم وفرقهم، أو ما ذكرنا؛ دفعًا عن أنفسهم، وأمَّا غيره فلا. وقوله: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) ذكر في القصة: أن اليهود: يهود بني قريظة ظاهروا أبا سفيان وأصحابه على رسول الله وعلى المؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فلما انهزم المشركون تحصن بنو قريظة في حصونهم، ورجع النبي إلى المدينة، فجاءه جبريل، فقال له: " يا مُحَمَّد، والله ما وضع أهل السماء أسلحتهم، وقد وضعتم أنتم أسلحتكم، اخرج إلى بني قريظة؛ فقال له النبي: " فكيف أصنع بهم وهم في حصنهم؟ " قال: اخرج إليهم؛ فواللَّه لأدقنهم بالخيل والرجال كما تدق البيضة على الصفا، ولأخرجنهم من حصنهم؛ فنادى رسول اللَّه، في الناس، وأمر بالخروج إلى بني قريظة؛ فخرجوا فحاصروهم كذا كذا ليلة؛ حتى صالحهم على حكم سعد بن معاذ؛ فنزلوا على حكمه؛ فحكم سعد؛ أن يقتل مقاتلتهم، ويُسبى ذراريهم ونساؤهم، فقيل: إن رسول اللَّه قال يومئذ: " يا سعد، لقد حكمت بحكم اللَّه "؛ فأخرجت المقاتلة فقتلوا، وسبوا ذراريهم، وقسم أرضهم بين المهاجرين؛ فقال قومه والأنصار: آثرت المهاجرين بالعقار دوننا، فقال: " إنكم ذوو عقار وإن القوم لا عقار لهم "، أو كلام نحو هذا، فذلك قوله: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)، يعني:

(27)

الذين ظاهروا أبا سفيان والمشركين جميعًا على رسول اللَّه وأصحابه، (مِنْ صَيَاصِيهِمْ)، أي: من حصونهم. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ)، وهم المقاتلة، (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا)، وهم النساء والذراري. (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) أي: لم تملكوها، اختلف في قوله: (وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: هي أرض مكة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي أرض الشام وقراها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي أه ض خيبر، أي: سيورثكم اللَّه إياها: فأما أرض مكة فقد فتحها وتركها في أيدي أهلها، وكذلك بلاد الشام وقراها. وعن الحسن: هي أرض الروم وفارس وما فتح اللَّه عليكم. وأما خيبر فقد فتحها وقسمها بين من ذكرنا وجعلها فيئًا؛ فهو أشبه من غيره؛ ففيه أن من يخلف في ملك غيره وصفا ملكه للآخر وانتقل إليه يسمى: وارثًا بموت أو بغيره؛ حيث قال: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ. . .) الآية، وكذلك ما قال: (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ. . .) إلى كذا، وقوله: (يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ)، أي: يبعثون فيها، ونحوه، وكقوله: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أي: يبقى له ملك السماوات والأرض، أي: لا ينازع فيه. وكذلك يخرج قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ)، أي: نبقى فيها، والخلائق يفنون. ثم الفائدة في ذكر هذا وأمثاله لنا، إذ هم قد شاهدوها وعاينوها، يخرج على وجوه: أحدها: تعريف لآخر هذه الأمة أن أوائلهم ما قاسوا وما تحملوا من الشدائد والبلايا في أمر هذا الدِّين، حتى بلغ هذا المبلغ؛ فنجتهد نحن كما اجتهد أُولَئِكَ في حفظ هذا الدِّين وفي أمره. والثاني: أمرهم بالتأهب مع العدوّ حتى أمروا بالخندق والتحصن بأشياء، ثم جاءهم الغوث من اللَّه بغير الذي أمروا؛ ليكونوا أبدًا متأهبين مستعدين لذلك، ولا يرجون النصر

والظفر من ذلك الوجه، وذلك بفضل اللَّه ونصره، على ما أخبر عنهم: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا. . .) الآية. والثالث: ألا يؤيسهم خروج أنفسهم من أيديهم، وإحاطة العدو بهم، وكونهم في أيديهم من روح اللَّه ورحمته وغوثه إياهم؛ لأن الخوف قد بلغ بهم المبلغ الذي ذكر؛ حيث قال: (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. . .) إلى قوله: (وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا). وفيه دلالة إثبات الرسالة لرسول اللَّه؛ لأنه وعد لهم النصر، فكان على ما وعد؛ ليعرفوا أصدقه، في كل ما يخبر ويعد. (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)، أراد: من فتح، أو نصر، أو غيره، (قَدِيرًا). وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (قَضَى نَحْبَهُ)، أي: قتل، وقضى أجله، وأصل النحب: النذر؛ كأن قومًا نذروا: إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح اللَّه، فقتلوا. وقوله: (مِن صَيَاصِيهِمْ): حصونهم، وأصل الصياصي: قرون البقر؛ لأنها تمتنع بها، وتدفع عن أنفسها، فقيل للحصون: صياصي؛ لأنها تمنع، والواحدة: صِيصِيَة، وصيصية الديك: عرفه، والصيصية: خف صغير يحوك به الحائك، ويجمع هذا كله: صياصي. والأحزاب: الفرق، واحدها: حزب، ويقال: حزبت القوم، أي: جمعتهم، وحزبتهم، أي: فرقتهم، وتحزب القوم: إذا اجتمعوا وصاروا حزبًا حزبًا، وتقول: هَؤُلَاءِ حزبي، أي: أصحابي وشيعتي، وتقول: حازبني محازبة، أي: صاحبني مصاحبة. وقوله: (بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ)، أي: أن يكونوا في البادية مع الأعراب، رجل باد: قد نزل البادية، (يَوَدُّوا)، أن يكونوا في البادية مع الأعراب. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا): هو ما يظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ

(28)

بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ... (28) قال بعض أهل التأويل: إنهن جلسن، فجعلن يخترن الأزواج في حياة رسول اللَّه، فنزلت الآية توبيخًا لهن وتعييرًا على ذلك. لكن هذا بعيد محال: لا يحتمل أن يكون أزواجه يخترن الأزواج، وهن تحته في حياته؛ فذلك سوء الظن بهن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهن طلبن النفقة منه؛ فنزل ما ذكر. وقيل: إنهن تحدثن بشيء من الدنيا وركنَّ إليها؛ فنزل ما ذكر عتابًا لهن وتعييرًا، ونحو ذلك قد قالوا. وجائز أن يكون اللَّه يمتحن رسوله وأزواجه بالتخيير واختيار الفراق منه - ابتداء امتحان من غير أن يكون منهن شيء مما ذكروا ولا سبب؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: " لما أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتخيير أزواجه؛ بدأ بي فقال: " يا عائشة، إني ذاكر لك أمرًا، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك "، قالت: وقد علم اللَّه أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: " إن اللَّه يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. . .) إلى قوله: (أَجْرًا عَظِيمًا)؛ فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟! فإني أريد اللَّه ورسوله والدار الآخرة. وفعل سائر أزواجه مثل ما فعلت ". وفي بعض الأخبار أنها قالت: بل أختار اللَّه ورسوله والدار الآخرة؛ فدل قولها: " لما أمر رسول اللَّه بتخيير أزواجه ": أن ذلك من اللَّه ابتداء امتحان، من غير أن كان منهن ما ذكروا من الركون إلى الدنيا والتحدث بما ذكر.

وفيه وجوه من الدلالة: أحدها: إباحة طلب الدنيا وزينتها من وجه يحل ويجمل، حيث قال: (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)؛ لأنه لو لم يكن يحل ذلك لهن، وكن منهيات عن ذلك، لكان رسول اللَّه لا يفارقهن؛ حتى لا يخترن المنهي من الأمر، وقد كان يملك حبسهن في ملكه؛ حتى لا يخترن ما ذكره من المنهي؛ دل ذلك - واللَّه أعلم - أن ذلك كان على وجه يحل ويجمل. وفيه أن رسول اللَّه لم يكن عنده ما ذكر من الدنيا والزينة وما يستمتع بها؛ إذ لو كان عنده ذلك، لم يحتمل أن يخيرهن بالفراق منه لما ذكر وعنده ذلك، ولا هن يخترن الفراق منه وعنده ذلك؛ دل أنه لم يكن عنده ما ذكر، ويبطل قول من يقول: إنه كان عنده الدنيا ويفضل الغناء على الفقر بذلك. وفيه دلالة: أن أزواجه كن يحللن لغيره في حياته إذا فارقنه؛ لأنهن إذا لم يحللن لغيره لم يكن لقوله: (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) معنى؛ لأنهن إذا لم يحللن لغيره، وعندهن ما ذكر من الدنيا، يحملهن ذلك على الفجور؛ فدل أنهن كن يحللن لغيره في حياته إذا فارقهن، وإنما لم يحللن لغيره إذا مات؛ فيكون له حكم الحياة كأنه حيٌّ في حق أزواجه. ويخرج قوله: (خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ): في الآخرة لا تحل لغيره؛ فتكون زوجته في الجنة. ثم اختلف الصحابة - رضي اللَّه عنهم - فيمن خير امرأته فاختارت: قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا خيرها فهو تطليقة رجعية، وإذا اختارت فهي بائنة، وهو قول عليَّ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا اختارت نفسها فهي ثلاث، وإذا اختارت زوجها فلا شيء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا اختارت زوجها، فهي تطليقة رجعية، وإن اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة. وعندنا: أن التخيير نفسه لا يكون طلاقًا، فإن اختارت زوجها، لا شيء، وإذا اختارت نفسها؛ فهي بائن. أما قولنا: إذا اختارت زوجها لا شيء؛ لما روي عن عائشة قالت: " خيرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فاخترناه " فلم يعد ذلك طلاقا.

(29)

وأما قوله: إذا اختارت نفسها فيكون بائنا؛ لأنه خيرها بين أن تختار نفسها لنفسها وبين أن تختار نفسها لزوجها؛ فإن اختارت نفسها ألنفسها، فهي بائن؛ لأنا لو جعلناه رجعيّا لم يكن اختيارها نفسها لنفسها، ولكن لزوجها؛ إذ لزوجها أن يراجعها شاءت أو أبت، وكان التخيير بين النفسين، على ما ذكرنا. وأما قول من يقول بأن نفس التخيير طلاق فهو باطل؛ لما ذكرنا من تخيير رسول الله أزواجه؛ فلم يكن ذلك طلاقًا. وأما من قال بالثلاث إذا اختارت نفسها فهو كذلك عندنا إذا ذكر في التخيير الثلاث. وأما قول من قال بالرجعي، فهو إذا صرح بالتطليق؛ فهو كذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا): الإرادة هاهنا: إرادة الاختيار والإيثار حياة الدنيا وزينتها، لا ميل القلب والرضاء به، وكذلك قوله: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ). هو إرادة الاختيار والإيثار، وهو ما يراد ويختار فعلا، لا ميل القلب والرضاء به؛ لأن كل ممكن فيه الشهوة مجعول فيه هذه الحاجة يميل قلبه، ويركن إلى ما يتمتع بحياة الدنيا ولذاتها، ويرضاه ويحبه؛ فدل أنه أراد إرادة الفعل والاختيار لا إرادة القلب ورضاه. ثم فيه ما ذكرنا من حلهن لغير رسول اللَّه إذا اخترن الفراق منه؛ لما ذكر أنه يمتعهن ومعلوم أنهن لا يكتسبن بأنفسهن حتى يتمتعن بذلك، ولم يكن عندهن ما يستمتعن؛ فدل أنه إنما يمتعهن بأموال أزواجهن؛ فدل على حلهن لغيره في حياته إذا فارقنه واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) معلوم أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها لا يحتمل ألا يردن اللَّه، لكن إضافة ذلك إلى اللَّه لاختيارهن المقام عند رسوله؛ فيدل ذلك أن كل ما أضيف إلى اللَّه ورسوله كان المراد به رسوله؛ نحو ما قال: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)، وقوله: (قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، وأمثال ذلك. ثم الزهد في الدنيا يكون بوجهين: أحدهما: ترك المكاسب التي توسع الدنيا، ويكون بها السعة في الدنيا، ويؤثرها لغيرها على نفسه، واختيار حال الضيق من غير تحريم ما أحل وطيب له. والثاني: بذل ما عنده لغيره وإيثاره على نفسه وجعله أولى به منه، لا في تحريم المحللات والطيبات. وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا).

(30)

يحتمل قوله: (أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا)، أي: إذا اخترن المقام عند رسول اللَّه يصرن محسنات بذلك؛ فأعدّ لهن ما ذكر؛ فيكون ذلك الاختيار منهن: الإحسان؛ فاستوجبن ما ذكر: ويحتمل: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، ودمتن على ذلك واكتسبتن الأعمال الصالحات والإحسان حتى ختمتن على ذلك، فأعد لكن ذلك لا بنفس اختيار مقامكن معه، واللَّه أعلم. وقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) قَالَ بَعْضُهُمْ: الفاحشة المبينة هي النشوز البين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، بل الفاحشة المبينة هي الزنا الظاهر، ويقال: مبينة بشهادة أربعة عدول، ومبينة بالكسر، أي: مبينة ظاهرة. (يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ): الجلد والرجم في الدنيا، ولكن كيف يعرف ضعف الرجم في الدنيا من لا يعرف حد رجم واحد إذا كان ذلك في عذاب الدنيا، وإن كان ذلك في عذاب الآخرة؛ فكيف ذكر فاحشة مينة، وذلك عند اللَّه ظاهر بين؟ وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا فَمِثْلَي حدود النساء، وأما في الآخرة فضعفي ما يعذب سائر النساء، فجائز أن يكون هذا صلة قوله: (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) إذا اخترن الدنيا؛ فمتى أتين بفاحشة ضوعف لهن من العذاب ما ذكر وإذا اخترن المقام عند رسول اللَّه والدار الآخرة آتاهن الأجر مرتين. أو أن يكون إذا اخترن المقام عند رسول اللَّه والدار الآخرة، ثم أتين بفاحشة ضوعف لهن ما ذكر من العذاب؛ لئلا يحسبن أنهن إذا اخترن اللَّه ورسوله والدار الآخرة، ثم ارتكبن ما ذكر لم يعاقبن، فذكر: أنهن إذا اخترن اللَّه ورسوله والدار الآخرة، ثم ارتكبن ما ذكر عوقبن ضعف ما عوقب به غيرهن، وإذا أطعن اللَّه ورسوله، ضوعف لهن الأجر مرتين، واللَّه أعلم. والأشبه أن يكون ما ذكر من ضعف العذاب في الآخرة على ما يقول بعض أهل التأويل؛ ألا ترعى أنه ذكر لهن الأجر كفلين، ومعلوم أن ذلك في الآخرة؛ فعلى ذلك العذاب. وأما قوله: (مُبَيِّنَةٍ): عند الخلق، وإن كانت عند اللَّه مبينة ظاهرة، وذلك جائز في

(31)

اللغة. وقوله: (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أي: عذابهن على اللَّه يسيرًا هينا لا يثقل عليه ولا يشتد لمكان رسول اللَّه؛ بل على اللَّه يسير هين. والثاني: أن إتيانكن الفاحشة ومعصيتكن على اللَّه يسير، أي: لا يلحقه ضرر ولا تبعة، ليس كمعصية خواص الملك له في الدنيا: يلحقه الضرر والذل إذا عصوه وأعرضوا عنه، فأمَّا اللَّه - سبحانه - عزيز بذاته غني لا يضره عصيان عبده؛ بل ضروا أنفسهم. وقوله: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) أي: من يطع منكن لله ورسوله، (وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ). في الآية دلالة بيان فضيلة أزواج رسول اللَّه؛ لمكان رسول اللَّه وعظيم قدره، حيث خاطبهن من بين غيرهن من النساء كما خاطب مريم بقوله: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ). ثم يحتج الشافعي بقوله: (نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ) لتأويله في قوله: الطلاق مرتان بقولة، يقول: قوله: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ)، أي: تطليقتان في دفعة واحدة من غير إحداث التطليق والفعل فيما بينهما؛ ويستدل على ذلك بقوله: (نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ)، أي: أجرين من غير إحداث فعل فيما بينهما ولكن بفعل واحد، وقوله: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)، أي: أجرين. لكن عندنا يجوز الإيتاء بمعنى الإيجاب، أي: يوجب لها الأجر مرتين؛ نحو قوله: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ)، أي: أوجب لهم ثواب الدنيا وثواب الآخرة؛ فعلى ذلك ما ذكر ونحوه كثير، واللَّه أعلم. وقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) قال بعض أهل الأدب: (أحد) أجيع في الكلام من (واحد)؛ لأنه يرجع إلى واحد وإلى جماعة، وقوله: (واحد) إنما يرجع إلى الفرد خاصة، وإنما يخاطب به الواحد. وقوله: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ). يحتمل قوله: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) اختيار الدنيا وزينتها، واتقيتن أيضًا نقض اختيار رسول الله والدار الآخرة. وجائز أن يكون على الابتداء: إن اتقيتن مخالفة اللَّه ومخالفة رسوله.

وقوله: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)؛ فإنكن معشر أزواج رسول اللَّه تنظرن إلى الوحي، وتصحبن رسول اللَّه بالليل والنهار، وترين أفعاله وصنيعه؛ فإنكن أحق الناس بالتقوى وترك الميل إلى الدنيا والركون إليها ممن لا ينظر إليه ولا يصحبه إلا في الأوقات مرة. أو أن يكون قوله: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) في الفضيلة على غيرهن من النساء؛ لأنهن يكن أزواج رسول اللَّه في الآخرة، ويرتفعن إلى درجات رسول اللَّه ويكن معه؛ فإنكن لستن كغيركن من النساء في الفضيلة والدرجة إن اتقيتن ما ذكرنا: من مخالفة رسول اللَّه واختيار الحياة الدنيا وزينتها، والميل إليها والركون فيها، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ)، قيل: فلا تلنّ في القول. (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: فجور وزنًا. (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا)، أي: خشنًا شديدًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)، أي: نفاق، وهذا أولى؛ لأن أصحاب رسول اللَّه لا يحتمل أن يكون أحد منهم يطمع في أزواج رسول اللَّه نكاحًا بحال أو رغبة فيهن، بعد علمنا منهم أنهم إذا علموا من رسول اللَّه رغبة في أزواجهم طلقوهن؛ ليتزوجهن رسول اللَّه؛ فلا يحتمل بعدما عرف منهم هذا أن يطمع أحد منهم ويرغب في أزواجه نكاحًا، فضلا أن يرغب فجورا، ولكن إن كان ذلك فهو من أهل النفاق. وجائِز أن يرغبوا - فيهن نكاحًا؛ لأنهن أعظم الناس نسبًا وحسبًا، وأكرمهم جمالا وحسنًا؛ فجائز وقوع الرغبة فيهن من أهل النفاق؛ لما ذكرنا، وأما من أهل الإيمان فلا يحتمل ذلك؛ لما ذكرنا، ويدل على ذلك قوله: (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)؛ دل هذا أنهن بحيث يرغب فيهن ويطمع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ)، يقول: فلا ترمين بقول يقارب الفاحشة، فيطمع الذي في قلبه مرض. (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا). يعني: قولا حسنًا يعرف، لا يقارب الفاحشة.

(33)

لكن هذا بعيد، وأصله: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي: لا تقلن قولا يعرف به الرغبة في الرجال، والميل إلى الدنيا، والركون فيها (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا): ما يكون فيه تغيير المنكر والأمر بالمعروف، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ... (33) قد قرئ بكسر القاف وفتحها، فمن قرأ بالكسر فهو من الوقار، ومن قرأ بالفتح: (وَقَرْنَ) جعله من القرار والسكون فيها. وقوله: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى). قَالَ بَعْضُهُمْ: تبرج الجاهلية الأولى قبل أن يبعث رسول اللَّه؛ كان يخرج نساؤهم متبرجات بزينة مظهرات، فأمر اللَّه أزواج رسوله بالستر والحجاب عليهن، وإدناء الجلباب عليهن، وهو ما قال: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) قال. الجاهلية التي ولد فيها إبراهيم، أعطوا أموالا كثيرة، وكن يتبرجن في ذلك الزمان تبرجًا شديدًا؛ فأمر أزواجه بالعفة والترك لذلك، فلسنا ندري ما أراد بالجاهلية، ومن أراد بذلك: الذين كانوا بقرب خروج رسول اللَّه وبعثه، أو الذين كانوا من قبل في الأمم السالفة؟ والتبرج كأنه هو الخروج بالزينة على إظهار لها؛ أعني: إظهار أن زينة. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي: لا تلنّ به. وقوله: (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) أي: صحيحًا. وقوله: (وَقِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) بالكسر من الوقار، ويقال: وقر في منزله يقر وقورًا، (وَقَرْنَ) بفتح القاف من القرار، وكأنه من: قر يقر أراد أقررن في بيوتكن، فحذف الراء الأولى وحول فتحها إلى القاف، كما يقال: ظلن في موضع كذا، من اظللن؛ قال اللَّه - تعالى -: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ)، ولم نسمع قَرَّ يَقِزُ إلا في موضع قرة العين، فأما في الاستقرار فإنما هو قَزَ يَقَرُّ. وقوله: (وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَا) يحتمل أن يكون الأمر لهن بإيتاء الزكاة من حليهن؛ لأنهن لا يملكن شيئًا سوى ذلك ما يجب في مثله الزكاة؛ ألا ترى أنه وعد لهن التمتيع والسراح الجميل إذا أردن الحياة الدنيا وزينتها، فلو كان عندهن شيء من فضول الأموال كن ينفقن ويتمتعن، وإن لم يكن عند رسول اللَّه ما يمتعهن ولا يطلبن ذلك من

غيره، فدل ذلك أنهن لا يملكن شيئا من ذلك، فيجوز أن يستدل بظاهر هذه الآية في إيجاب الزكاة فِي الحلي، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقوله: (وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أمرهن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة لله ورسوله؛ لئلا يغتررن بما اخترن المقام مع رسول اللَّه وإيثارهن إياه على أن ذلك كاف لهن في الآخرة، ولا شيء عليهن سوى ذلك من العبادات؛ بل أخبر أنكن وإن اخترتن المقام معه وآثرتن إياه على الدنيا وزينتها لا يغنيكن ذلك عما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) قال بعضهم: إن هذه الآية مقطوعة عن الأولى؛ لأن الأولى في أزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهذه في أهل بيته، وهو قول الروافض، ويستدلون بقطعها عن الأولى بوجوه: أحدها: ما روي عن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنها قالت: عنى بذلك عليًّا وفاطمة والحسن والحسين، وقالت: لما نزلت هذه الآية، أخذ النبي ثوبًا، فجعله على هَؤُلَاءِ، ثم تلا الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) فقالت أم سلمة من جانب البيت: يا رسول اللَّه، ألست من أهل البيت؟ قال: " بلى إن شاء اللَّه ". وعن الحسن بن علي أنه خطب الناس بالكوفة وهو يقول: يا أهل الكوفة، اتقوا الله فينا فإنا أمراؤكم، وإنا ضيفانكم، ونحن أهل البيت الذي قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ). ويقولون -أيضًا-: إن الآية الأولى ذكرها بالتأنيث حيث قال: (وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وهذه ذكرها بالتذكير دل أنها مقطوعة عن الأولى. ويقولون -أيضًا-: إنه وعد أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرًا وعدًا مطلقًا غير مقيد، وذلك الرجس الذي ذكر مما يحتمل أزواجه ممكن ذلك فيهن غير ممكن في أهل بيته ومن ذكره. ويقولون -أيضًا- ما روي عنه أنه قال: " تركت فيكم بعدي الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما ليردان بكم الحوض " أو كلام نحو هذا، ففسر

العترة بأهل البيت، ونحو ذلك من الوجوه. وأما عندنا فهي غير مقطوعة من الأولى: إما أن يكون على الاشتراك بينهن وبين من ذكروا من أولاده؛ إذ اسم أهل البيت مما يجمع ذلك كله في العرف. أو تكون الآية لهن على الانفراد، فأمَّا أن يخرج أزواجه عن أهل بيته والبيت يجمعهم، فلا يحتمل ذلك. وأما قولهم: إنه ذكر هذه الآية بالتذكير والأولى بالتأنيث فعند الاختلاط كذلك يذكر باسم التذكير. وأمَّا قولهم: إن وعده لهم منه خرج مطلقًا غير مقيد، فكذلك كن أزواج رسول اللَّه لم يأت منهن ما يجوز أن ينسبن إلى الرجس والقذر إلا فيما غلبن على رأيهن وتدبيرهن بالحيل، فأخرجن فيما أخرجن. وأما قولهم في الثقلين اللذين تركهما فينا بعده: الكتاب والعترة، فعترته: سنته؛ على ما قيل، وقوله: " أهل بيتي " كأنه قال: تركت الثقلين كتاب اللَّه وسنتي بأهل بيتي، وذلك جائز في اللغة. وأما ما روي عن أم سلمة فإنه في الخبر بيان على أن أزواجه دخلن حيث قالت له أم سلمة: ألست من أهل البيت؟ قال: " بلى إن شاء اللَّه ". وفي هذه الآية دلالة نقض قول المعتزلة من وجوه: أحدها: ما يقولون: إن اللَّه قد أراد أن يطهر الخلق كلهم: الكافر والمسلم، وأراد أن يذهب الرجس عنهم جميعًا، لكن الكافر حيث أراد ألا يطهر نفسه ولا يذهب عنه الرجس لم يطهر، فلو كان على ما يقولون لم يكن لتخصيص هَؤُلَاءِ بالتطهر ودفع الرجس عنهم فائدة ولا منة - دل أنما يطهر من علم منه اختيار الطهارة وترك الرجس، وأما من علم منه اختيار الرجس فلا يحتمل أن يذهب عنه الرجس، أو يريد منه غير ما يعلم أنه يختار، وأن التطهير لمن يكون إنما يكون باللَّه، لا بما تقوله المعتزلة؛ حيث قال: (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)؛ إذ على قولهم لا يملك هو تطهير من أراد تطهيره؛ إذ لم يبق عنده ما يطهرهم، فذلك كله ينقض عليهم أقوالهم ومذهبهم.

(34)

وقوله: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: قوله: (وَاذْكُرْنَ) أي: اتلون ما يتلى في بيوتكن من آيات اللَّه والحكمة، وجعل بيوتكن موضعًا لنزول الوحي. والثاني: اذكرن على حقيقة الذكر؛ أي: اذكرن ما من اللَّه عليكن، وجعلكن من أهل بيت يتلى فيه آيات اللَّه والحكمة، وجعل بيوتكن موضعًا لنزول الوحي فيها، وخصكن بذلك، ما لم يجعل في بيت أحد ذلك، يذكرهن عظيم ما أنعم ومن عليهن؛ ليتأذى به شكره؛ ليعرفن منن اللَّه ونعمه عليهن. وقوله: (مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) يحتمل آيات القرآن. ويحتمل حججه وبراهينه. والحكمة: قالت الفلاسفة: الحكيم: هو الذي يجمع العلم والعمل جميعًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكيم: المصيب، والحكمة: هي الإصابة. وقيل: هي وضع الشيء موضعه، وهي نقيض السفه. وأصل الحكمة في الحقيقة كأنه هي الإصابة في كل شيء، والحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في الحكم ولا الغلط. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة - هاهنا - هي السنة. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) اللطيف: هو البار؛ يقال: فلان لطيف: إذا كان بارًّا. والثاني: اللطيف: هو الذي يستخرج الأشياء الخفية الكامنة مما لا يتوهمها العقول استخراجها من مثلها. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وقوله: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. . .) إلى آخر ما ذكر. إن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وامرأة يقال لها: نسيبة بنت كعب، [أتيتا] رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

فقالتا: يا رسول اللَّه، ما بال ربنا يذكر الرجال في القرآن بالخير، ولا يذكر النساء في شيء؛ فنزل: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ. . .). ثم قوله: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) يدل أن الإسلام والإيمان هما في الحقيقة واحد - أعني: في الحقيقة المعنى واحد - وإن كانا مختلفين بجهة؛ لأن الإسلام هو أن يجعل كل شيء لله سالمًا خالصًا، لا يجعل لغيره فيه شركًا ولا حقا، والإيمان هو التصديق لله بشهادة كل شيء له بالوحدانية والربوبية والألوهية، فمن جعل الأشياء كلها لله، خالصة سالمة له، والذي صدق اللَّه بشهادة كلية الأشياء له بالوحدانية والربوبية واحد؛ لأن المخلص هو الذي يرى كل شيء لله خالصًا، والموحد هو الذي يرى الوحدانية له والربوبية في كل شيء؛ فهما في حقيقة المعنى واحد، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ) القنوت: هو القيام في اللغة؛ روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أفضل الصلاة؟ فقال: " طول القنوت "، وفي بعضه: " طول القيام "، فسر القنوت بالقيام؛ فثبت أن القنوت هو القيام، فيكون تأويله - واللَّه أعلم -: القائمين والقائمات بجميع أوامر اللَّه ومناهيه. وكذلك يخرج تأويل أهل التأويل: القائمين: المطيعين والمطيعات لله؛ لأن كل قائم بأمر آخر فهو مطيع له، هذا كأنه يقول: يكون في الاعتقاد، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ. . .) إلى أَخره؛ يكون في المعاملة في تصديق ما اعتقدوا وقبلوا، يصدقون ويوفون بالأعمال فيما اعتقدوا وقبلوا. وقوله: (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ) الصبر: هو كف النفس وحبسها عن التعاطي في جميع المحرمات المحظورات، وعلى ذلك يخرج قول أهل التأويل: الصابرين على أمر الله وطاعاته، وعلى الأذى والمصائب، يكفون عن جميع ما لا يحل فيه، ويرون ذلك من تقديره.

وقوله: (وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الخاشع: المتواضع. وأصل الخشوع: هو الخوف اللازم في القلب؛ وهو قول الحسن: يخافون اللَّه في كل حال، لا يخافون غيره، ويرجون اللَّه، ولا يرجون غيره؛ هكذا عمل المؤمن: يكون حقيقة خوفه ورجائه منه. وأمَّا الكافر فإنه لا يخاف ربه، ولا يرجو منه؛ لأنه لا يعرفه ولا يخضع له، وعلى ذلك المعتزلة إنما خوفهم من أعمالهم السيئة ورجاؤهم منها - أعني: من أعمالهم الحسنة - لا من اللَّه حقيقة، وكذلك على قولهم: لا يكون لأحد رجاء في شفاعة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما رجاؤه في أعماله؛ لقولهم: أن ليس لله في أفعال العباد شيء من تدبيره ولا تقديره. وقوله: (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ) أي: المنفقين في طاعة اللَّه (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ) قد ذكر أن هذا راجع إلى حقيقة الفعل في الصيام، والصدقة، والصدق في القول والمعاملة، والخشوع منه. وجائز أن يكون في القبول والاعتقاد؛ على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ) فيما لا يحل؛ كقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ). وقوله: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: المصلون لله الصلوات الخمس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الذاكرين اللَّه كثيرًا والذاكرات باللسان على كل حال، لكن غيره كأنه أولى بذلك؛ أي: الذاكرين حق اللَّه الذي عليهم كثيرًا والذاكرات (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا). * * * قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)

(36)

وقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ... (36) قال جعفر بن حرب المعتزلي: دلت هذه الآية على أن الكفر مما لم يقضه اللَّه؛ لأنه لو كان مما قضاه اللَّه لكان لا يكون لهم الخيرة والتخيير، فإذا قال: إنه إذا قضى اللَّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة، دل أنه مما لم يقضه اللَّه، لكن يقول: إن القضاء - هاهنا - ليس هو قضاء الخلق؛ على ما فهم هو، ولكن القضاء - هاهنا - الأمر أو الحكم؛ كقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، أي: أمر ربّك وأوجب ألا تعبدوا إلا إياه. أو أن يكون الحكم؛ كقوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ)، أي: مما حكمت؛ فإذا كان القضاء يحتمل الأمر والحكم؛ على ما ذكرنا، فيكون كأنه قال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا)، أي: إذا أمر اللَّه ورسوله أمرًا، وإذا حكم اللَّه ورسوله أمرًا أن يكون له الخيرة من أمرهم، وهكذا يكون فيما أمر اللَّه ورسوله بأمر أو حكم يحكم ألا يكون لأحد التخيير في ذلك. ومما يدل -أيضًا- على أن القضاء أيضًا - هاهنا - ليس هو القضاء الذي فهم المعتزلة؛ حيث أضاف ذلك إلى رسوله -أيضًا- حيث قال: (إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا)، ولا شك أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يملك القضاء الذي هو قضاء خلق؛ دل أن المعتزلة أخطأت وغلطت في فهم ذلك، وقصرت عقولهم عن درك ذلك، وأن التأويل ما ذكرنا نحن. ثم أجمع أهل التأويل على أن قوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) إنما نزل في زينب بنت جحش؛ يذكرون أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان أعتق زيد بن حارثة وتبناه، وكان مولى له، فخطب له زينب بنت جحش، فقالت زينب: إني لا أرضاه لنفسي وأنا من أتم نساء قريش - وكانت ابنة عمة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أميمة بنت عبد المطلب - فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قد رضيته لك، فزوجي نفسك منه " فأبت ذلك؛ فنزل قوله فيها: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)، لكن إذا كان على ما يذكرون من الخطبة لها؛ فلا يحتمل أن يجبرها على

النكاح، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ليس للولي مع الثيب أمر "، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " البكر تستأمر في نفسها، والثيب تشاور "، ثم تجيء الآية في جبرها على النكاح ممن لا ترضاه إلا أن يكون على الأمر من اللَّه - تعالى - ومن رسوله، فعند ذلك لا يكون لها التخير في ذلك؛ لأن اللَّه له أن يأمر من شاء على النكاح ممن شاء، وله الحكم بالنكاح لمن شاء على من شاء، وليس لهم الخيرة في ذلك، فأما بالخطبة نفسها دون الأمر والحكم من اللَّه لا جبر في ذلك؛ ألا ترى أنه ذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما خطب أم سلمة، فقالت: إن أوليائي غيب، فقال: " ليس أحد من أوليائك لا يرضى بي " أو كلام نحوه خطبها، ولم يجبرها على ذلك؛ فعلى ذلك زينب؛ إلا أن يكون على الأمر أو الحكم؛ على ما ذكرنا. أو أن يكون سبب نزول الآية - فيما ذكر أهل التأويل - في خطبة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - زينب

(37)

بنت جحش، ويكون الوعيد الذي ذكر فيه في غيره: فيما فيه أمر من اللَّه أو حكم؛ نحو ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى الفجر، فرأى رجلين جالسين، فقال لهما: " ما بالكما لم تصليا معنا؟ " فقالا: إنا قد صلينا في رحالنا، فقال: " إذا صليتما، ثم أتيتما المسجد، فصليا معهم؛ فتكون لكما سبحة "، وإنما قال: " فصليا معهم " لا في صلاة الفجر، ولكن في الصلوات التي يتطوع بعدها. وقوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا): إن كان هذا في المؤمنين فيكون الضلال هو الخطأ؛ كأنه قال: فقد أخطأ خطأ بينا، ويجوز هذا في اللغة، نحو قول إخوة يوسف لأبيهم في تفضيله يوسف عليهم؛ حيث قالوا: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: في خطأ بيِّنٍ؛ حيث يفضل من لا منفعة له منه على من له منه منفعة؛ فعلى ذلك هذا. وإن كان في المنافقين فهم في ضلال بين، فالضلال من المؤمن لا يفهم منه ما يفهم من الكافر والمنافق؛ ألا ترى أن الظلم من المؤمن لا يفهم منه ما يفهم من المنافق أو الكافر؛ ألا ترى أن آدم وحواء لما ارتكبا وقربا تلك الشجرة قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) لم يريدا ظلم كفر، وعلى ذلك قوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، فعلى ذلك المفهوم من ضلال المؤمن غير المفهوم من ضلال المنافق والكافر، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) قال أهل التأويل: أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالإعتاق؛ حيث أعتقه؛ لأنه ذكر أن زيدًا كان عربيّا من أهل الكتاب، أصابه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من سبي أهل الجاهلية، فأعتقه وتبنَّاه، فأنعم اللَّه عليه حيث أعطاه الإسلام، ووفقه الهدى، وأنعم عليه الرسول حيث أعتقه. ويحتمل إنعام اللَّه عليه -أيضًا- في الإعتاق؛ حيث وفق رسوله للعتاق، أو في خلق فعل الإعتاق من رسوله وإجرائه إليه، وعلى قول المعتزلة: ليس لله على زيد ولا على جميع المسلمين في الإسلام إنعام ولا إفضال؛ لوجوه: أحدها: أنهم يقولون: قد أعطى كل سبب ما يلزمهم الإسلام وهو القوة؛ فهم إنما

يسلمون لا بصنع من اللَّه في ذلك؛ فعلى قولهم: كان من اللَّه سبب لزوم الإسلام، فأما في الإسلام نفسه فلا صنع له فيه، فإذا كان كذلك فلا منة تكون منه عليهم ولا إنعام. والثاني: يقولون: أن ليس لله أن يفعل بالخلق إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين، ولا شك أن الإسلام لهم أصلح؛ فعليه أن يفعل ذلك بهم، فهو فعل ما عليه أن يفعل، ولا يجوز أن يفعل غيره، ومن أدى حقا عليه لا يكون في فعله منعمًا ولا مفضلا؛ إنما هو مؤدي حق عليه. والثالث: يقولون: أن ليس من اللَّه إلى الأنبياء والمؤمنين جميعًا شيء إلا وقد كان ذلك منه إلى إبليس وأتباعه وإلى جميع الفراعنة، فإذا كان قولهم ومذهبهم ما ذكرنا - لم يكن لله على أحد من أهل الإسلام في إسلامهم إنعام ولا إفضال، واللَّه أخبر أن له عليهم في ذلك نعمة ومنة، وكذلك فهم منه ذلك في قوله: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا. . .) إلى (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ). وقوله: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ). ذكر بعض أهل التأويل: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد أبصر امرأة زيد فأعجبته وودَّها، ففهم زيد ذلك منه؛ فقال: يا رسول اللَّه، إني أريد أن أطلق فلانة، وإن فيها كبرا تتعاظم عليَّ وتؤذيني بكذا؛ فعند ذلك قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) في طلاقها، ولا تطلقها، لكن لا نقول نحن شيئًا من ذلك إلا بخبر ثبت من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخبر أنه كان ذلك. وجائز أن يكون زيد استأذن رسول اللَّه في طلاقها، على ما يطلق الرجل امرأته؛ لما يمل منها بلا سبب يكون؛ فقال له عند ذلك: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ)، ولا تطلق زوجك بلا سبب يستوجب به الطلاق؛ لأنه لا يسع للرجل أن يطلق زوجته بلا سبب يحمله على الطلاق من تضييع حدود اللَّه، وترك إقامتها، أو معنى نحوه، فأما بلا سبب يكون في ذلك فلا يسع. أو أن يكون قوله: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)، أي: تزوجها واتق اللَّه في ترك تزوجها؛ فيكون هو مأمورًا بنكاحها، كما كانت هي مأمورة بتزويجها نفسها منه، فيقول: اتق الله في ترك الأمر للنبي ذلك في ترك ما ندبت إليه وأمرت به، واللَّه أعلم. وقوله: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ).

قال عامة أهل التأويل: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ) حُبَّها وإعجابها، (مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ)، أي: ما اللَّه مظهره في القرآن، أي: حبها وتزوجها. وقال قائلون: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ) يا مُحَمَّد: ليت أنه طلقها، (مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ)، أي: مظهره عليك، حتى ينزل به قرآنا. لكن هذا بعيد محال؛ لا يحتمل أن يكون النبي يقول لزيد: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ)، ثم يخفي هو في نفسه: ليت أنه يطلقها؛ حتى يتزوجها هو. وجائز أن يكون قوله: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ) هذا القول نفسه، هو الإبداء؛ حيث جعله آية تتلى بعد ما أخفى رسول اللَّه شيئًا في نفسه: ما لولا ذكر اللَّه إياه ذلك لم يعلم الخلق أنه أخفى شيئًا، ولا ندري ما الذي أخفاه كذا وكذا إلا بخبر يجيء عنه، فيقول: إني أخفيت في نفسي كذا؛ فعند ذلك يسع، فأما على الوهم فلا نقول به. وقوله: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَتَخْشَى النَّاسَ)، أي: تستحي قالة الناس: " إنه تزوج امرأة ابنه "؛ وتترك نكاحها، واللَّه أحق أن تستحي منه في ترك أمره إياك بالنكاح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَتَخْشَى النَّاسَ)، أي: تتقي قالة الناس؛ تستحي منهم في أمر زينب وما أعجبت هي إليك حسنها وحبها، (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) على الابتداء على غير إلحاف بالأول في كل أمر وكل شيء؛ كقوله: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي)، والله أعلم. وقوله: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا). قال أهل التأويل: (قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا) أي: حاجة، أي: جماعًا؛ فإن كان الجماع - ففائدة ذكر الجماع فيه؛ ليعلم أن حليلة ابن التبني تحل للرجل، وأن الوطر هو عقد النكاح والجماع جميعًا، وإن كان كل واحد منهما سبب الحظر والمنع في نكاح حليلة ابن الصلب. وجائز أن يكون قوله: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا)، أي: قضى همة نفسه، وبلغ غاية ما همت نفسه منها؛ فعند ذلك زوجناكها. ذكر أن زينب بنت جحش كانت تفتخر على سائر أزواج النبي، فتقول: " زوجكن

آباؤكن رسول اللَّه، واللَّه زوجني بنبيه فوق سبع سماوات؛ ففيه دلالة رسالته؛ لأنه أخفى في نفسه ما كان يخشى قالة الناس في ذلك واستحى منهم، وفي العرف أن من أخفى شيئًا يستحي من الناس إن ظهر عندهم أن يكتم ذلك من الناس ولا يظهره، فإذا كان رسول اللَّه أظهر ما كان يخشى قالة الناس فيه، ولم يكتمه منهم؛ دل أنه رسول؛ إذ لو كان غير رسول، لكتمه وأخفاه ولم يظهره؛ لما ذكرنا من العرف في الناس من كتمان ما يستحيون منهم إذا ظهر. وكذلك روي عن عمر وعائشة أنهما قالا: " لو كان رسول اللَّه كاتمًا شيئًا من القرآن، لكتم هذه الآية ". وقوله: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرً). في الآية دلالة لزوم الاتباع لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في كل ما يخبر ويأمر به، وفي كل فعل يفعله في نفسه، إلا فيما ظهرت الخصوصية، فأما فيما لم تظهر فعلى الناس اتباعه فيما يخبر ويفعل؛ لأنه قال: تزوج امرأة دعته، ثم قال: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ)، ولو كان يخبرهم بذلك خبرا لحل لهم ذلك؛ فعلى ذلك: هو ذلك أخبر أن ذلك؛ لكيلا يكون على المؤمنين حرج في مثل فعله، واللَّه أعلم. وفيه وجه آخر. وقوله: (إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرً)، ذكر قضاء الوطر منهن؛ لأن من النساء من لا يحرمن على بعض هَؤُلَاءِ بالعقد، ولكن إنما يحرمن بقضاء الوطر، ومنهن من يحرمن بالعقد نفسه دون قضاء الوطر؛ فأخبر أن أزواج الأدعياء - وإن قضوا منهن الوطر - فإنهن لا يحرمن عليهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا). أي: ما كان بأمر اللَّه مفعولا، وكذلك ما قيل: الصلاة أمر اللَّه؛ أي: بأمر اللَّه تكون؛ وإلا الصلاة هي فعل العباد؛ فلا تكون أمر اللَّه، ولكن بأمر اللَّه، فعلى ذلك قوله: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)، أي: ما يكون بأمر اللَّه مفعولا، وكذا قوله: (حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ)، أي: جاء ما يكون بأمر اللَّه، وهو العذاب الذي أوعدوا؛ لأن أمر اللَّه لا يجيء.

(38)

ثم يحتمل ذلك وجهين: أحدهما: التكوين: يكونه؛ فيكون مكونًا؛ كقوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). والثاني: على الإيجاب واللزوم، أي: ما يكون بأمر اللَّه يكون واجبًا لازمًا؛ إذا أراد به الإيجاب والإلزام، واللَّه أعلم. وقوله: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: (فَرَضَ اللَّهُ)، أي: بين اللَّه؛ كقوله: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا)، أي: بيناها. ويحتمل (فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ)، أي: أوجب اللَّه عليه، ويقال: فرض عليه، أي: حرم، وفرض له، أي: أحل له، وكذلك قوله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ)، يحتمل هذا وجهين: أي: بين لكم تحلة أيمانكم. والثاني: أوجب عليكم تحلة أيمانك، واللَّه أعلم. وقوله: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هكذا كان سنة اللَّه فيمن كان قبله من الرسل - مثل داود وسليمان وهَؤُلَاءِ - كثرة النساء، ليس ذلك ببديع في رسول اللَّه مُحَمَّد. وفي كثرة نساء الرسل لهم آية عظيمة؛ لأنهم آثروا الفقر والضيق على السعة والغناء، وكفوا أنفسهم عن جميع لذاتها، وحملوا على أنفسهم الشدائد في العبادات والأمور العظام الثقيلة، وهذه الأشياء كلها أسباب قطع قضاء الشهوات في النساء والحاجة فيهن؛ فإذا لم تقطع تلك الأسباب عنهم؛ دل أنهم باللَّه قووا عليها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سنة اللَّه في الذين قبل مُحَمَّد، يعني: داود النبي حين هوى المرأة التي فتن بها، فجمع اللَّه - تبارك وتعالى - بين داود وتلك المرأة؛ فكذلك يجمع بين محمد وبين امرأة زيد؛ إذ هويها كما فعل بداود، لكن هذا بعيد. وقيل: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ): أنه لا يحرج على أحد فيما لم يحرم. وجائز أن يكون (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) - في حل نكاح أزواج الأدعياء، كان يحل لهم ذلك؛ فعلى ذلك لرسول اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا).

(39)

هو ما ذكرنا في قوله: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) أي: ما كان بأمر اللَّه وتقديره مقدورا. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الدعي: الذي يدعى بعدما يكبر، والادعاء أن يكون الرجل نفى ولده ولم يقبله، ثم ادعاه من بعد ذلك، هذا هو المعروف عندي. قال: وفي موضع آخر: (وَلَهُم مَا يَدَّعُونَ)، أي: ما يتمنون ويشتهون، ويقال: " ظللنا اليوم فيما ادعينا " أي: وجدنا كل ما اشتهينا، يقال من هذا: ادعيت أدعي ادعاء. وقال: الوطر: الحاجة، والأوطار: جميع، والخيرة، أي: صيرت إليهم الخيرة، وهو من قولك أي شيء - تختار؛ (مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)، أي: لم يجعل إليكم الاختيار: إن شئتم فعلتم، وإن شئتم لم تفعلوا، والقنوت في الأصل: القيام؛ على ما ذكرنا. وقوله: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) يقول أهل التأويل: هو مُحَمَّد عر خاصة؛ فمعناه - واللَّه أعلم - إن كان هو المراد به: أنه فيما تزوج حليلة دعيه زيد مبلغ رسالات ربه، حيث قال: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ)، وتبليغ الرسالة يكون مرة بالخبر والقول، ومرة بالفعل، يلزم الناس في اتباعه في فعله كما يلزم في خبره وأمره، إلا فيما ظهرت له الخصوصية في فعل ما. وجائز أن يكون قوله: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ) هم الأنبياء الذين قال: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ)، نعتهم، وقال: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ): فسنة اللَّه في مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كسنة أُولَئِكَ الذين كانوا من قبل فيما ذكر، (وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ)، يقول - واللَّه أعلم -: يخشون اللَّه في ترك تبليغ الرسالة، ولا يخشون أحدًا سواه في التبليغِ، ويكون قوله: (إِلَّا اللَّهَ)، بمعنى: سواه؛ على المبالغة في الأمر، وإلا لو قال: (وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا) كافيًا، أي: لا يخشون أحدًا فيما يبلغون، لكن يحتمل ما ذكرنا: ألا يخشوا أحدًا فيما يبلغون سواه. وجائز أن يكون قوله: (وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) بما يصيبهم من الأذى والبلاء بالتبليغ، يقول: لا يرون ذلك من أُولَئِكَ، ولكن بتقدير من اللَّه إياه؛ وإلا كانوا يخافون من أُولَئِكَ؛ ألا ترى أنهم قالوا: (إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى)، وحيث قال موسى: (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)، و (أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ)، ونحوه. أو أن يكون في الابتداء خافوهم، ثم أمنهم اللَّه؛ فلم يخافوا؛ حيث قال: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا).

(40)

قيل: شهيدًا على تبليغ الرسالة. وقوله: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) معناه - واللَّه أعلم -: ما كان مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أبا أحد أبوة تحرم بها حلائل الأبناء، وإلا كان هو أبا لجميع المؤمنين؛ حيث قال: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) إذا كانت أزواجه أمهاتنا؛ فهو أب لنا على ما ذكرنا. لكن التأويل فيه: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) أبوة تحرم بها حلائل الأبناء؛ ولكن أبوة التعظيم له والتبجيل، وأبوة الشفقة والرحمة، وهو ما قال: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ. . .) الآية. وكذلك قوله: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، يحتمل وجهين: أولى أن يعظم ويكرم ويشرف من أغيرهأ، كقوله: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ). والثاني: (أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ)، أي: أشفق عليهم وأرحم بهم من أنفسهم، وهو ما وصفه - جل وعلا - من رحمته ورأفته؛ حيث قال: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). وقوله: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) يخرج على وجهين: أحدهما: في حق الانتساب إليه، أي: ليس هو أبا أحدكم ينسب إليه ويدعى به؛ لأنه ذكر أنهم يدمحونه ويسمونه: زيد بن مُحَمَّد، أنه يجوز التبني ولا يجوز إليه النسبة ولا التسمية به؛ كقوله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ). والثاني: في حق الحرمة؛ كأنه قال: ليس هو أبا أحدكم في حرمة حلائل الأبناء عليه لا بالتبني، ولا في حق النسبة، وإن كان هو أبا لكم في الشفقة والرحمة والرأفة، على ما ذكرنا بدءًا ولكن رسول اللَّه ما ذكرنا في التعظيم له والتبجيل في المعاملة والمصاحبة، أو في الدعوة به والتسمية. وقوله: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ). أخبر ليس بأبي أحد من رجالكم، على ما ذكرنا، ولكن رسول اللَّه؛ لئلا يعاملوا رسوله معاملة آبائهم، ولا يصاحبوه صحبة غيره؛ ولكن يعاملوه معاملة الرسل في التعظيم له والتبجيل والإكرام؛ لأن أبوته وشفقته دينية، وشفقة الآباء شفقة دنياوية، ولأن الرجل قد يتبسط مع والده في أشياء لا يسع مثله مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ولذا قال: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)، أي: ختم به الرسالة لا نبي بعده.

(41)

وقوله: (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ). جائز أن يكون ذكره وإخباره: أنه خاتم النبيين؛ لما علم - جل وعلا - أنه يسمى غيره بعده نبيا؛ على ما قالته الباطنية: إن قائم الزمان هو نبي؛ فأخبر بهذا أن من ادَّعى ذلك لا يطالب بالحجة والدلالة؛ ولكنه يكذب؛ وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا نبي بعدي " أخبر أنه ختم به النبوة. وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)، أي: لم يزل اللَّه بما كان ويكون وبما به صلاحهم عليما. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا. وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) أما أهل التأويل يقولون: اذكروا اللَّه في كل حال وفي كل وقت، ذكرًا كثيرًا باللسان. وجائز أن يكون تأويل أمره بالذكر له كثيرًا، أي: اذكروا نعمه؛ لتشكروا له، واذكروا أوامره؛ لتأتمروا، ونواهيه ومناهيه؛ لننتهي، ومواعيده؛ لنخاف وعداته؛ لنرغب، واذكروا عظمته وجلاله وكبرياءه؛ ليهاب، (ذِكْرًا كَثِيرًا)، أي: دائمًا يذكرون ما ذكرنا؛ ليكون ما ذكرنا؛ إذ إنما يكون ذلك بالذكر؛ واللَّه أعلم. وقوله: (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) البكرة: هي ختم الليل وابتداء النهار، والأصيل: هو ختم النهار وابتداء الليل؛ فكأنه أمر بالذكر له، والخير في ابتداء كل ليل وختمه، وابتداء كل نهار وانقضائه؛ ليتجاوز عنهم ويعفو ما يكون منهم من الزلات في خلال ذلك؛ وعلى ذلك ما روي في الخبر " أن من صلى العشاء الأخيرة والفجر بالجماعة فكانما أحيا ليلته ". وجائز أن يكون ذلك ليس على إرادة البكرة والأصيل؛ ولكن على إرادة كل وقت وكل

(43)

حال، ليس من وقت ولا من حال إلا ولله على عباده شكر أو صبر: الشكر على نعمائه، والصبر على مصائبه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأمر بالذكر له بالبكرة والأصيل هي الصلوات الخمس: من الظهر إلى آخر الليل أصيل؛ فيدخل فيه صلوات الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي البكرة صلاة الفجر. وقوله: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) أما صلاة اللَّه: هي الرحمة والمغفرة، وصلاة الملائكة: الاستغفار وطلب العصمة والنجاة؛ كقوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا. . .) الآية. وقوله: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ. . .) الآية، وقوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ)، جائز أن يكون المؤمنين خاصة. وجائز أن يكون الكل: الكافر أو المؤمن؛ فإن كان هذا فيكون استغفارهم طلب الأسباب التي بها يستوجبون المغفرة، وهو الهدى؛ كقول هود: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)، وقول نوح: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، لا يحتمل أن يستغفروا وهم كفار؛ ولكن يطلبون منه التوبة عن الكفر؛ ليستوجبوا المغفرة؛ وكذلك استغفار إبراهيم لأبيه لا يحتمل أن يستغفر له وهو كافر؛ ولكن كان يطلب له من اللَّه أن يجعله بحيث يستوجب المغفرة والرحمة، وهو الهدى، واللَّه أعلم. وقوله: (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: رحمهم؛ حيث أخرجهم من أصلاب آبائهم قرنا فقرنا إلى أن بلغوا ما بلغوا. وجائز إخراجه إياهم من ظلمات الكفر إلى نور الهدى بدعاء الملائكة واستغفارهم لهم. (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا). لم يزل اللَّه بالمؤمنين رحيما. وقوله: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) جائز أن يكون تحية الملائكة عليهم: سلام؛ كقوله: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ). أو تحية بعضهم على بعض: سلام لا غير، ليس كتحيتهم في الدنيا: أطال اللَّه بقاءك؛ وكيف حالك؛ ونحو ما يقولون في الدنيا، ويسأل بعضهم بعضا عن أحوالهم، يقول: ليس تحية أهل الجنة ذاك؛ ولكن: سلام؛ كقوله: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا. إِلَّا قِيلًا سَلَامًا

(45)

سَلَامًا). أو أن يكون قوله: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ)، أي: صوابا وسدادا لا غير؛ كقوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) ليس أن يقولوا: سلام عليكم؛ ولكن يقولون قولا صوابا سدادا، لا يقابلونهم بمثل ما خاطبوهم؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قولهم: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ)، أي: صواب من الكلام وسداد. (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)، أي: حسنا. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا. وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا. وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) يحتمل قوله: (شَاهِدًا) على تبليغ الرسالة يشهد لهم بالإجابة له إذا أجابوه، ويشهد عليهم إذا ردوه وخالفوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (شَاهِدًا) على أمتك بالتصديق لهم، وقيل: (شَاهِدًا) عليهم بالبلاغ. وقوله: (وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)، أي: يبلغ إليهم ما يكون لهم البشارة إن أطاعوه، ويبلغ إليهم أيضا ما يستوجبون به النذارة إذا خالفوه، والبشارة هي: إخبار عن الخيرات التي تكون في عواقب الأمور الصالحة، والنذارة: إخبار عن أحزان تكون في عواقب الأمور السيئة، أو نحوه من الكلام. وقوله: (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) يحتمل قوله: (وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ) إلى توحيد اللَّه، وإلى طاعة اللَّه، أو إلى دار السلام؛ كقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)، أو إلى ما يدعو اللَّه إليه. وقوله: (بِإِذْنِهِ)، قيل: بأمره. وقوله: (وَسِرَاجًا مُنِيرًا): اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)، وجعلناك (وَسِرَاجًا مُنِيرًا)؛ فالسراج المنير هو الرسول على هذا التأويل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السراج المنير هو القرآن، يقول: أرسلناك داعيًا إلى اللَّه وإلى السراج المنير، وهو هذا. وقوله: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) فيه دلالة أن البشارة إنما تكون بفضل من اللَّه، لا أنهم يستوجبون بأعمالهم شيئًا من

(48)

ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ... (48) هذا قد ذكرناه في أول السورة. وقوله: (وَدَعْ أَذَاهُمْ). هذا يحتمل: أعرض عنهم، ولا ثكافئهم بما يؤذونك. أو أن يقول: (وَدَعْ أَذَاهُمْ)، أي: اصبر على أذاهم. وقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)، أي: اعتمد باللَّه. (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)، أي: كفى باللَّه معتمدًا. أو أن يقال: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا): حافظًا أو مانعًا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ). ذكر أن رجلا جاء إلى ابن عَبَّاسٍ فقال: كان بيني وبين عمتي كلام، فقلت: يوم أتزوج ابنتك فهي طالق ثلاثًا؛ فقال: تزوجها فهي لك حلال؛ أما تقرأ هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ. . .) الآية. فجعل الطلاق بعد النكاح. وعندنا: أنه إذا حلف: إن تزوجها فهي طالق؛ يكون طلاقًا بعد النكاح، وليس في الآية منع وقوع الطلاق إذا أضافه إلى ما بعد النكاح.

(50)

وقوله: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ)، يحتمل المماسة: الجماع، أي: من قبل أن تجامعوهن. ويحتمل: من قبل أن تدخلوا بهن المكان الذي تماسونهن؛ وإلا لو دخل بها المكان الذي يماسها، ثم طلقها يجب كمال الصداق، وإذا لم يجامعها، ولم يدخل المكان الذي يماسها حتى طلقها - وجب نصف الصداق؛ ويدل على ذلك قول اللَّه حيث قال: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ)، والإفضاء ليس هو الجماع نفسه؛ ولكن الدنو منها والمس باليد أو شبهه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا). هذا يدل على أن العدة من حق الزوج عليها؛ حيث قال: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)، ولا يجوز له أن يجمع بين أختين فيما له من حق؛ فعلى ذلك ليس له أن يجمع بين الأختين في حق العدة التي له قبلها، واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَتِّعُوهُنَّ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه المتعة منسوخة بالآية التي ذكر في سورة البقرة؛ حيث قال: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي التي وهبت نفسها بغير صداق، فإن لم يجب الصداق وجب المتعة. وعندنا: إن كان سمى لها صداقًا، فليس لها إلا نصف الصداق، ولا يجب عليه المتعة وجوب حكم، لكن إن فعل ومتعها فهو أفضل وأحسن، وإن كان لم يفرض لها صداقًا حتى طلقها قبل الدخول بها؛ فهي واجبة على قدر عسره ويسره، واللَّه أعلم. وقوله: (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: السراح الجميل: هو أن يمتعها إذا سرحها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السراح الجميل: هو أن يبذل لها الصداق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السراح الجميل: هو أن يقول: لا تؤذوهن بألسنتكم إذا سرحتموهن، واللَّه أعلم. وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ... (50)

يحتمل هذا وجهين: أحدهما: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، أي: ضمنت أجورهن وقبلت؛ ويكون الإيتاء عبارة عن القبول والضمان؛ وذلك جائز نحو قوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)، هو على القبول، تأويله: فإن تابوا وقبلوا إيتاء الزكاة؛ فخلوا سبيلهم، هو على القبول والضمان ليس على فعل الإيتاء نفسه؛ إذ لا يجب إلا بعد حولان الحول، وكذلك قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .)، إلى قوله: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)، ليس على نفس الإعطاء؛ ولكن حتى يقبلوا الجزية؛ إذ الإعطاء إنما يجب إذا حال الحول؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، أي: قبلت أجورهن وضمنت. والثاني: (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي) هن لك إذا (آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)، أي: قبلت؛ معناه: إنا أحللنا لك إبقاءهن إذا آتيت أجورهن. وفيه دلالة: أن المهر قد يسمى أجرًا؛ فيكون قوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، أي: مهورهن؛ فيكون الاستمتاع بهن استمتاعًا في النكاح؛ فعلى ذلك يجوز أن يكون قوله: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)؛ فيكون الخلوص له بلا أجر لا بلفظة " الهبة "؛ لأنه ذكر على أثر ذكر حل أزواجه بالأجر؛ كأنه قال: إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن، وأحللنا لك -أيضًا- امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها بلا أجر خالصة لك من دون المؤمنين بغير أجر؛ لأن خلوص الشيء إنما يكون إذا خلص له بلا بدل ولا مؤنة، فأما أن يكون الخلوص بلفظة دون لفظة فلا. وبعد فإنه قد ذكر في آخر الآية ما يدل على ما ذكرنا؛ وهو قوله: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ)؛ دل هذا أن خلوص تلك المرأة له بـ " قد. . . "؛ فإن ذكر هذا له خرج مخرج الامتنان عليه؛ فلا منة له عليه في لفظة " الهبة "، ليست تلك في لفظة " التزويج "، يقول مكان قوله: (وَهَبَتْ): " زوجت "؛ دل أن المنة له عليه فيما صارت له بلا مهر، لا في لفظة " الهبة ". أو أن يكون قوله: (خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) في الآخرة، أي: لا تحل لأحد سواك إذا تزوجتها وصارت من أزواجك، فأما أن يفهم من قوله (خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) بلفظة " الهبة " فلا؛ إذ لا فرق بين أن تقول: " وهبت "، وببن أن تقول: " زوجت ".

وبعد: فإن كثيرًا من الصحابة وأهل التأويل، من نحو: عبد اللَّه بن مسعود، وابن عباس وغيرهما - رضي اللَّه عنهم - لم يفهموا من قوله: (خَالِصَةً لَكَ) بلفظة دون لفظة، حتى روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في قوله: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ): " هن الموهوبات "، فما بال الشافعي في فهم ذلك ما ذكر؟! وبعد فإنه ليس من عقد إلا وهو يحتمل الانعقاد بلفظة " الهبة " من البياعات والإجارات وغيرها؛ فعلى ذلك النكاح، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ). أي: قد أحللنا لك ما ملكت يمينك، وأحللنا لك أيضًا، (وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ). ثم جائز أن يكون حل بنات من ذكر من الأعمام والأخوال للناس بهذه الآية؛ لأنهن لم يذكرن في المحرمات في سورة النساء؛ فيكون ذكر حلهن لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذكرًا للناس كافة، كما كان ذكر حل نكاح حليلة زيد بن حارثة له حلا للناس في أزواج حلائل التبني؛ حيث قال: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ)؛ فعلى ذلك الأول. أو أن يكون معرفة حل نكاح بنات الأعمام والعمات ومن ذكر بقوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)، إذ ذكر المحرمات في الآية على إبلاع: ما كان بنسب، وما كان بسبب، ثم قال: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)؛ فيكون ما وراء المذكورات محللات بظاهر الآية، إلا ما كان في معنى المذكورات في الحرمة، واللَّه أعلم. وقوله: (اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ). لم يفهم أحد من قوله: (هَاجَرْنَ مَعَكَ): الهجرة معه حتى لا يتقدمن ولا يتأخرن؛ بل دخل في قوله: (مَعَكَ) من هاجر منهن من قبل ومن بعد، واللَّه أعلم. وقوله: (مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ما فرضنا على الناس، (فِي أَزْوَاجِهِمْ)، وهن أربع نسوة لا تحل الزيادة على الأربع، (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)، وهي الجواري والخدم يجوز الزيادة على ذلك وإِن كثرن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان مما فرض اللَّه ألا يتزوج الرجل إلا بولي ومهر وشهود، إلا النبي خاصة؛ فإنه يجوز له أن تهب المرأة نفسها بغير مهر وبغير ولي، واللَّه أعلم. وقوله: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ)، (فَرَضْنَا): أي بينا ما يجوز وما لا

(51)

يجوز، أي: بين ذلك كله في الأزواج. أو (فَرَضْنَا): أوجبنا عليهم في أزواجهم من الأحكام والحقوق ونحوها، واللَّه أعلم. وقوله: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) اختلف فيه: عن الحسن قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها النبي أو يتزوجها، وإذا ترك خطبتها كان لغيره أن يخطبها، ثم إذا خطبها رسول اللَّه، لم يكن لأحد أن يخطبها بعد ذلك، إلا أن يترك خطبتها، أو كلام نحوه؛ فيصرف تأويل الآية إلى ما ذكرنا. وكذلك يقول قتادة: إن الآية في الخطبة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في قسمة الأيام بينهن كان يسوي بينهن وسممين، فوسع اللَّه عليه في ذلك، فأحل له، فقال: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ)، أي: من نسائه، أي: تترك من تشاء منهن، فلا تأتيها، (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ)، فتأتيها. (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ)، يقول: ممن اخترت من نسائك أن تأتيها فعلت، فقال: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ) على ترك القسم إذا علمن أن اللَّه قد جعل لك ذلك حلالا، وأنزل فيهن الآية، (وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ)، إذا علمن أن الرخصة جاءت من اللَّه - تعالى - له، كان أطيب لأنفسهن، وأقل لحزنهن من ترك ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن أزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اللاتي كن تحته خشين أن يطلقهن؛ فقلن: يا رسول اللَّه، اقسم لنا من نفسك ومالك ما شئت ولا تطلقنا؛ فنزل: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ)، أي: تعتزل من تشاء منهن أن تعتزل بغير طلاق، (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ)، أي: ترد وتضم من تشاء منهن إليك؛ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في ترك نكاح ما أباح له من القرابات من يشاء منهن، وفي الإقدام على نكاح من يشاء منهن؛ لأنه على أثر ذلك ذكر، يقول: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ)، يعني: من بنات العم والعمة والخال والخالة، فلا تزوجها، (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ)، أي: تضم إليك من تشاء منهن فتزوجها. فنقول: خير اللَّه رسوله في نكاح القرابة؛ فذلك قوله: (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) منهن فتزوجها، (مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ)، أي: لا حرج طيك في ذلك؛ (ذَلِكَ أَدْنَى)، يقول. أجدر وأحرى وأقرب (أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ)، أي: النساء اللاتي عندك واخترتهن، (وَلَا يَحْزَنَّ) إذا علمن ألا تتزوج عليهن، ويرضين بما آتيتهن كلهن من النفقة، وكان في نفقتهن قلة. وجائز أن يكون قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ)، ذلك حين خيرهن رسول اللَّه بين اختيار الدنيا وزينتها، وبين اختيار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

(52)

والدار الآخرة؛ فاخترن رسول اللَّه، يقول - واللَّه أعلم -: إذا اخترن المقام عند رسول اللَّه والدار الآخرة، فاخترن رسول اللَّه (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ) عن قلة النفقة والجماع، (وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) من النفقة وغيره. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)، من الحب والرضا، (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا). وقوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) اختلف في قوله: (مِنْ بَعْدُ). قال قائلون: من بعد اختيارهن رسول اللَّه والدار الآخرة؛ لأن اللَّه لما خيرهن بين اختيار الدنيا وزينتها، وبين اختيار رسول اللَّه والدار الآخرة، فاخترن رسول اللَّه والدار الآخرة قصره اللَّه عليهن، فقال: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ) أي: من بعد اختيارهن المقام معك. (وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ): فإن كان على هذا فيخرج الحظر والمنع مخرج الجزاء لهنّ والمكافآت؛ لما اخترنه على الدنيا وما فيها؛ لئلا يشرك غيرهن في قَسمِهِنَّ منه. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: اشترطنا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما اخترناه والدار الآخرة: ألا يتزوج علينا، ولا يبدل بنا من أزواج. ثم استثنى ما ملكت يمينه؛ لأنه لا حظ لهن في القسم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)، أي: من بعد المسلمات: كتابيات لا يهوديات ولا نصرانيات: ألا يتزوج يهودية ولا نصرانية؛ فتكون من أمهات المؤمنين، (إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي: لا بأس أن تشتري اليهودية والنصرانية؛ فإن كان على هذا، ففيه حظر الكتابيات لرسول اللَّه لما ذكر خاصّة، وأمَّا المؤمنون: فإنه أباح لهم نكاح الكتابيات؛ بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)؛ فيكون حل الكتابيات للمؤمنين دون النبي بإزاء الزيادة والفضل الذي كان يحل لرسول اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)، أي: من بعد المذكورات المحللات له في الآية التي قبل هذه الآية من بنات العم والعمات وبنات الخال والخالات؛ يقول: لا يحل لك من النساء سوى من ذكر أن تتزوجهن عليهن، ولا

(53)

تبديلهن، (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ)، واللَّه أعلم. وقوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ) أن تتزوج عليهن بعد اختيارهن لك والدار الآخرة على الدنيا وما فيها من الزينة. أو أن يكون على التحريم نفسه في الحكم، وليس لنا أن نفسر أي تحريم أراد؟ تحريم الحظر والمنع في الخلق، أو تحريم الحكم؛ لأن ذلك كان لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وقد كان عرفه أنه ما أراد بذلك، والاشتغال به فضل. والتبديل بهن يحتمل في التطليق: يطلقهن، فيتزوج غيرهن. ويحتمل بالموت: إذا متن -أيضًا- لم يحل له أن ينكح غيرهن، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ)، أي: تحبس من تشاء منهن ولا تقربها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (تُرْجِي)، أي: تؤخر؛ يقال: أرجيت الأمر، وأرجأته، وكذلك قالوا في قوله: (أَرْجِهْ وَأَخَاهُ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: احسبه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أخِّره. وقوله: (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ)، أي: تضم. وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا)، أي: حفيظًا، وقيل: شاهدًا. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ). يحتمل النهي عن دخول بيوت النبي وجهين: أحدهما: لا تدخلوا بيوت النبي بغير إذن كما يدخل الرجل على - أمه - وإن كن هن كالأمهات لكم - بغير إذن، فيكون النهي عن الدخول في بيته نهيًا عن الدخول بغير إذن؛

كقوله: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا). ويحتمل: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) ضيفًا (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ): إلا أن تدعوا إلى طعام؛ لأن رسول اللَّه كان إذا هيئوا له شيئًا من الطعام دعا أصحابه؛ فيأكلونه، وكان لا يمسك ولا يدخر فضل الطعام لوقت آخر، فإذا نزل به ضيف، ولم يكن عنده ما يقدم إليه استحيا وشق عليه ذلك؛ فنهوا عن الدخول عليه والنزول به ضيفا؛ لما ذكرنا، وأمروا بالانتظار إلى أن يُدْعوا إلى الطعام؛ فعند ذلك يدخلون عليه ويضيفونه. فإن كان الأول: ففيه الأمر بالحجاب والنهي عن الدخول بلا استئذان. وإن كان الثاني: ففيه النهي عن النزول به ضيفا قبل أن يُدْعَوا؛ لما ذكرنا؛ ويكون الأمر بالحجاب في قوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر هذا؛ لأن أناسًا من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله وغداه، فإذا حضر ذلك دخلوا عليه بغير إذن؛ فجلسوا في بيته ينتظرون نضج الطعام وإدراكه " فنهوا عن ذلك، وكانوا إذا أكلوا وفرغوا منه، جلسوا في بيته، ويتحدثون، ويستأنسون؛ فنهوا عن ذلك، وأمروا بالانتشار والخروج من عنده وعند نسائه، ولم يكن يحتجبن قبل ذلك منهم؛ فشق ذلك على النبي، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون الأمر بالانتشار والخروج من عنده؛ لما كان لرسول اللَّه أمور وعبادات يحتاج إلى القيام بها: إما بينه وبين اللَّه، أو بينه وبين غيرهم من الناس، فكانوا يشغلونه عن ذلك؛ فنهوا عن ذلك لذلك. أو لما ذكر بعض أهل التأويل من الحاجة له في أزواجه والخلوة بهن وقت القيلولة، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ). الدخول عليه بغير إذن؛ أو الانتظار لنضج الطعام وإدراكه، أو الجلوس بعد فراغهم من الطعام والحديث، أو ما كان. وقوله: (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ). ورسول اللَّه -أيضًا- كان لا يستحيي من الحق، لكنه يستحيي أن يقول لهم: " اخرجوا من منزلي ولا تدخلوا عليَّ "، ونحوه؛ لما يقبح ذلك في الخلق أن يقول الرجل لآخر: " لا تدخل منزلي " أو " اخرج من منزلي "؛ لما يرجع ذلك إلى دناءة الأخلاق والبخل، فلما

أنزل اللَّه - تعالى - الآية، وأمر أن يقول لهم ما ذكر قال لهم، وأخبرهم بذلك؛ فلم يستح عند ذلك؛ لما صار ذلك من حق الذين فرضا عليه لازما أن يعلمهم الآداب، ويخبر عما يلزمهم من حق الدِّين، وكان قبل ذلك في حق الملك وحق النفس، فلما أنزل اللَّه الآية، وأمر بذلك صار من حق الدِّين؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ)، أي: لا يدع ولا يترك أن يعلمهم الحق والأدب، وقد ذكرنا معناه في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا. . .) الآية. وقوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ). جائز أن يكون المعنى الذي يكون أطهر لقلوب الرجال غير المعنى الذي يكون أطهر لقلوبهن: ذلك المعنى الذي يكون أطهر لقلوبهم: من الفجور والهم لقضاء الشهوة، وما تدعوه النفس إليه، (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ): من العداوة والضغينة، لا الفجور وقضاء الشهوة؛ وذلك أنهن قد عرفن أنهن لا يحللن لغيره نكاحًا؛ لما اخترنه والدار الآخرة على الدنيا وزينتها، وقد أوعدن بارتكاب الفاحشة العذاب ضعفين، على ما ذكر، وذلك يمنعهن ويزجرهن عن ارتكاب ذلك فإذا كان كذلك، فإذا عرفن من الداخلين عليهن والناظرين إليهن نظر الشهوة وقع في قلوبهن لهم العداوة والضغينة؛ فيقول: السؤال من وراء الحجاب أطهر لقلوبكم من الفجور والريبة وأطهر لقلوبهن من العداوة والضغينة، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون ذلك واحدًا، وهو الريبة والفجور؛ لما مكن فيهن من الشهوات، وركب فيهن من فضل الدواعي إلى ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا). قال بعض أهل الْأويل: إن أنساء، الرسول لما احتجبن بعد نزول آية الحجاب، ونهوا عن الدخول عليهن والنظر إليهن - قال رجل: أننهى أن ندخل على بنات عمنا وبنات عماتنا وبنات خالنا وخالاتنا؛ أما - واللَّه - لئن مات لأتزوجن فلانة - ذكر امرأة من نسائه - فنزل (وَمَا كَانَ) أي: لا يحل (لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا)، لكن هذا قبيح؛ لا يحتمل أن أحدا من الصحابة يقول ذلك، أو واحدًا ممن صفا إيمانه به وحسن إسلامه، أن يخطر بباله ذلك إلا أن يكون منافقًا. ويحتمل: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) فيما تتدم ذكره، (وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا

(54)

أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) ابتداء نهي. وجائز أن يكون: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) في نكاح أزواجه؛ فيكون أذاهم رسول اللَّه في نكاح أزواجه من بعده، ولو كان لا يحل أزواجه للناس؛ لما يذكر بعض أهل التأويل: لأنهن أمهات - لم يحتج إلى النهي عن نكاحهن بعده؛ إذ لا أحد يقصد قصد نكاح الأم، ولكن كان يحل لهم ذلك، وكان المعنى في ذلك ما ذكرنا من التعظيم له والاحترام؛ حتى نهاهم عن نكاح أزواجه من بعده، وجعله في حرمة أزواجه على غيره بعد وفاته؛ كأنه حي، وكذلك جعل في حق ماله وملكه في منع الميراث لوارثه؛ كأنه حي لم يرث ماله وارثه، بل جعل باقيًا أبدًا على ملكه، وكذلك أزواجه، وكذلك جعل في حق الرسالة والنبوة؛ كأنه حي، لم تنسخ شريعته بعد وفاته بشريعة أخرى، كما نسخت شريعة الأنبياء الذين كانوا قبله إذا ماتوا بشريعة أخرى؛ بل جعله كأنه حي في إبقاء شريعته إلى يوم القيامة؛ فعلى ذلك جعل في أزواجه كأنه حي في حرمة أزواجه في الآخرة؛ وعلى ذلك يخرج تأويل قوله - عندنا -: (خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي: هي لك خالصة لا تحل لأحد بعدك؛ فتكون زوجته في الجنة، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا). يحتمل كان أذى رسول اللَّه ونكاح أزواجه عند اللَّه عظيما، أو عظيمًا في العقوبة عند اللَّه. وقوله: (إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) أي: تبدوا شيئًا للعباد، أو تخفوه عنهم. (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). أي: ما أبديتم وما أخفيتم؛ (عَلِيمًا) لا يخفى عليه شيء؛ يذكر هذا؛ ليكونوا أبدًا على حذر وخوف، واللَّه أعلم. وقوله: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) أي: لا حرج ولا مأثم على النساء في دخول من ذكر عليهن بلا إذن ولا حجاب من (آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ). ذكر هَؤُلَاءِ، ولم يذكر الأعمام ولا الأخوال؛ فقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما لم يذكر هَؤُلَاءِ، ولم يبح لهم في ذلك؛ لأنهن يحللن بالنكاح لأولاد الأعمام والأخوال، فإذا دخلوا عليهن، فرأوهن متجردات متزينات؛ فيصفوهن لأولادهم، وقد يصف الرجل لولده حسن المرأة وقبحها؛ فينزل وصفهم إياهن لأولادهم منزلة رؤيتهم بأنفسهم؛ فيزيد لهم رغبة فيهن أو

رهبة عنهن، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما لم يذكر الأعمام والأخوال؛ لما في ذكر المذكور من بني الإخوة وبني الأخوات غنى عن ذكر الأعمام والأخوال؛ لأنهم جميعًا من جنس واحد ومن نوع واحد في معنى واحد، وقد يكتفى بذكر طرف من الجنس؛ إذا كان في معنى المذكور، نحو ما ذكر من أجناس المحرمات على الإبلاع، وترك من كل جنس شيئًا لم يذكره؛ إذ الذي لم يذكره هو في معنى المذكور؛ ففي ذكر من ذكر غنى عن الذي لم يذكر؛ فعلى ذلك في ذكر بني الإخوة وبنى الأخوات غنى عن ذكر الأعمام والأخوال؛ إذ هم في معناهم، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون لم يبح الدخول للأعمام والأخوال؛ لأنهم إذا دخلوا عليهن فرأوهن متجردات؛ فلعل بصرهم يقع على فروجهن؛ فينظر إليها بشهوة؛ فيحرمن عيلى أولادهم، وهم إذا تزوجوهن لم يعلموا أنهن محرمات عليهم؛ فمنع دخول الأعمام والأخوال عليهن لذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا نِسَائِهِنَّ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: نساء المسلمات، يقول: خص نساء المسلمات، وأباح لهن الدخول عليهن بلا إذن، وأن يرينهن متزينات، ولم يبح ذلك لليهوديات والنصرانيات وأمثالهن؛ مخافة أن يصفن ذلك لأهل دينهن؛ فيكون ذلك سبب افتتانهم بهن والرغبة فيهن، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نساؤهن: قراباتهن، خص هَؤُلَاءِ من بين غيرهن من الأجنبيات، وذلك يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذكرنا من خوف وصف الأجنبيات لأزواجهن والمتصلين بهن؛ من حسنهن وزينتهن إذا رأينهن متجردات متزينات، ولا يخاف ذلك من قراباتهن. والثاني: خص القرابات؛ لما بهن ابتلاء، وليس بالأجنبيات ذلك، وقد يخفف الحكم ربما فيما فيه الابتلاء، ويغلظ فيما هو أخف منه ودونه؛ إذا لم يكن فيه ابتلاء؛ وعلى ذلك جائز أن يقال: إن الأعمام والأخوال لم يذكروا في الآية والرخصة؛ لأنه ليس بهم ابتلاء، وبمن ذكر ابتلاء، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ). يحتمل الإماء خاصة؛ كقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا

(56)

مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ): لم يفهموا منه سوى الإماء؛ فعلى ذلك جائز أن يكون الممْهوم في قوله: (وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) الإماء، ويحتمل الإماء والعبيد جميعًا؛ فإن كان على الإماء والعبيد جميعًا، فذلك - واللَّه أعلم - إنما أباح الدخول للعبيد على مولياتهم بلا إذن؛ لأنهم إنما يدخلون عليهن عند حاجاتهن إليهم في أوقات معلومة، وهن في تلك الأوقات يكن متأهبات لدخولهم عليهن محجبات عنهم؛ وعلى ذلك يخرج ما روى أن مكاتبًا لعائشة أم المؤمنين - رضي اللَّه عنها - كان يدخل عليها، فلما أدى فعتق منعته من الدخول عليها، وهو لما ذكرنا: أنه كان يدخل عليها لوقت حاجتها إليه، وهي كانت متأهبة لدخوله عليها، وإلا لا يحتمل أن يكون يدخل عليها ويراها متجردة أو متزينة، بعدما أمرن بالاحتجاب؛ فعلى ذلك العبيد لا يحل لهم النظر إلى مولياتهم ولا يكونون محرمًا لهن. أو إن احتمل الآية العبيد؛ فهم بالإذن يدخلون لا بغير إذن؛ فيكون الإذن مضمرا فيه. ثم قال: (وَاتَّقِينَ اللَّهَ). فيما ذكر من إباحة دخول من لم يبح دخوله عليهن والنظر إليهن. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا)، هذا تحذير وتوعيد لهن، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) ذكر في بعض الحديث: أنه لما نزلت هذه الآية، قيل له: يا رسول اللَّه، هذا لك فما لنا؛ فنزل قوله: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. . .) الآية: قد بين ما صلاته وصلاة الملائكة؛ وهو ما ذكر من إخراجهم من الظلمات إلى النور، وهو دعاؤهم إلى الهدى والرشد، وذكر عن كعب بن عجرة قال: لما

(57)

نزل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) قمت إليه، فقلت: يا رسول اللَّه، السلام قد عرفناه؛ فكيف الصلاة عليك يا رسول اللَّه؟ قال: " قل: اللهم صل على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وبارك على مُحَمَّد، وعلى آل مُحَمَّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ". ففي الآية الأمر للمؤمنين أن يصلوا على النبي، ثم لما سئل هو عن كيفية الصلاة عليه وماهيتها؟ قال لهم: أن تقولوا: " اللهم صل على مُحَمَّد "، وهو سؤال أن يتولى الرب الصلاة عليه. وفي ظاهر الآية: هم المأمورون بتولي الصلاة بأنفسهم عليه، لكنه - صلوات الله عليه - لما أمروا بالصلاة عليه، وهي الغاية من الثناء، لم ير في وسعهم وطاقتهم القيام بغاية ما أمروا به من الثناء عليه - أمرهم أن يكلوا ذلك إلى اللَّه ويفوضوا إليه، وأن يسألوه ليتولى ذلك هو دونهم؛ لما لم ير في وسعهم القيام بغاية الثناء عليه، وإلا ليس في ظاهر الآية سؤال الرب أن يصلي هو عليه؛ ولكن فيها الأمر: أن صلوا أنتم عليه، والله أعلم. وقوله: " كما صليت وباركت على إبراهيم وآله ": تخصيص إبراهيم من بين غيره من الرسل يحتمل ما ذكره أهل التأويل: إنه ليس من أهل دين ومذهب إلا وهو يدعي ويزعم أنه على دينه ومذهبه، وأنه يتأسّى به؛ لذلك خضه بالصلاة عليه من بين غيره من الأنبياء وجائز أن يكون لا لهذا؛ ولكنه لمعنى كان فيه وفي ذريته، لا نعرفه نحن؛ فخصه بذلك من بين غيره، واللَّه أعلم. وقوله: " وبارك على مُحَمَّد " البركة كأنها اسم كل خير يكون أبدًا على النماء والزيادة في كل وقت، وقد ذكرنا فيما تقدم ما قيل في صلاة اللَّه عليهم وصلاة الملائكة وصلاة المؤمنين. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت الآية في اليهود؛ حين قالوا: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)، وهو (فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، وفي النصارى؛ حين قالوا: (الْمَسِيحُ

(58)

ابْنُ اللَّهِ)، وإنه (ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)؛ وفي مشركي العرب، حين قالوا: الملائكة بنات اللَّه، والأصنام آلهة، ونحو ذلك، وأذاهم رسول اللَّه حين شجُّوه وكسروا رباعيته، وقالوا: إنه مجنون، أو ساحر، وأمثال ذلك؛ فأنزل اللَّه: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ)، يقول: عذبهم اللَّه (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ): فأما تعذيبه إياهم في الدنيا: قتلهم بالسيف يوم بدر - يعني: مشركي العرب - وأهل الكتاب: بالجزية إلى يوم القيامة. وفي الآخرة: النار. وقَالَ بَعْضُهُمْ قريبًا من ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) هم أصحاب التصاوير والتماثيل؛ فلهم ما ذكر. وقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) أي: يقعون فيهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) هم الذين قذفوا عائشة بصفوان؛ آذوا رسول اللَّه في زوجته عائشة حين قذفوها، وهي بريئة مما قذفوا. وقوله: (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ): صفوان وعائشة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت في علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعلى هذا: عذابهم في الدنيا الجلد، وفي الآخرة: النار. وجائز أن يكون هذا الوعيد في قاذف كل مؤمن ومؤمنة بغير ما اكتسب به، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) إضافة الأذى إلى اللَّه؛ على إرادة رسوله خاصة؛ لأن اللَّه لا يجوز أن يقال: إنه يتأذى بشيء، أو يؤذيه شيء؛ لأن الأذى ضرر يلحق، والله يئعالى عن أن يلحقه ضرر أو نفع؛ بل هو القاهر الغالب القادر الغني بذاته، ويكون المراد بإضافة الأذى إليه: رسوله خاصة، على ما ذكرنا في قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ)؛ أي: يخادعون رسوله، أو يخادعون أولياءه؛ لأن اللَّه - تعالى - لا يخادع، وكقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، أي: إن تنصروا دين اللَّه ينصركم، أو إن تنصروا رسوله وأولياءه ينصركم، وأمثال ذلك كثير في القرآن؛ نسب ذلك إلى نفسه على إرادة أوليائه، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم، وباللَّه العصمة والتوفيق. إلا أن يريد بالأذى - أعني: ما ذكر من أذى اللَّه -: المعصية؛ فهو جائز، وكذلك ما

روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " من آذاني فقد آذى اللَّه "، أي: من عصاني فقد عصى اللَّه. وفي الآية بيان وقوع المراد على الاختلاف والتفاوت من لفظ واحد؛ لأنه ذكر - هاهنا - أذى رسول اللَّه، وعقب الوعيد الشديد من اللعن والعذاب في الدنيا والآخرة، وذكر في الآية التي قبلها، حيث قال: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ)، و (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ)، وما ذكر من الأذى، ثم لا شك أن المفهوم من هذا الأذى المذكور في هذه الآية - غير المفهوم من الأذى المذكور في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، وأن أحدهما من المؤمنين، والآخر من الكفار، وإن كان ظاهر اللفظ في المخرج واحدا، وكذلك المفهوم من الظلم الذي ذكر في قوله: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا)، غير المفهوم من الظلم الذي قال آدم: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا)، والمفهوم من الضلال الذي قال موسى: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ)، غير المفهوم من ضلال فرعون وسائر الكفرة، وكذلك الفسق، ومثل هذا كثير، لا يجب أن نفهم من أمثال هذا شيئًا واحدًا أو معنى واحدا، وإن كان اللفظ لفظا واحدًا؛ ولكن على اختلاف الموقع. وفي الآية دلالة عصمة رسول اللَّه، وألا يكون منه ما يستحق الأذى بحال، وقد يكون من المؤمنين والمؤمنات ما يستوجبون الأذى ويستحقونه؛ حيث ذكر الأذى لرسول الله مطلقًا مرسلا غير مقيد بشيء؛ حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ)، وذكر أذى المؤمنين مقيدًا بشرط الكسب؛ حيث قال: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا)؛ فدل شرط الكسب على أنهم قد يكتسبون ما يستحقون الأذى، ويكون منهم ما يستوجبون ذلك، وأما الرسول فلا يكون منه ما يستحق ذلك أو يوجب له، ولا قوة إلا باللَّه. واللعن: هو الطرد في اللعنة، طردهم عن رحمته، وبعدهم عنها، والبهتان: قيل: هو أن يقال فيه ما ليس فيه؛ فبهت: قيل: تحير وانقطع حجاجه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أُنزل في قوم همتهم الزنا بالإماء، وكانت الحرائر يومئذ يخرجن بالليل على زي الإماء فيتابعونهن، ويطلبون ما يطلبون من الإماء؛ فكان ذلك يؤذيهم ويتأذين بذلك جدًّا؛ فشكوا ذلك إلى

(59)

رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فنزل (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا)، ثم أمرن عند ذلك بإدناء الجلباب وإرخائه عليهن؛ ليعرفن أنهن حرائر، ونهين أن يتشبهن بالإماء؛ لئلا يؤذين، وهو قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزل هذا بالمدينة في نساء المهاجرين؛ وذلك أن المهاجرين قدموا إلى المدينة، وهي مضيقة، ومعهم نساؤهم؛ فنزلوا مع الأنصار في ديارهم؛ فضاق الدور عليهم، فكانت النساء يخرجن بالليل إلى البراز، فيقضين حوائجهن هنالك، فكان المريب يرصد النساء بالليل، فيأتيها فيعرض عليها، وإنَّمَا كانوا يطلبون الولائد والإماء، فلم تعرف الأمة من الحرة بالليل؛ لأن زيهن كان واحدًا يومئذ؛ فذكر نساء المؤمنين ذلك إلى أزواجهن ما يلقين بالليل من أهل الريبة والفجور؛ فذكروا ذلك لرسول اللهءشَعِ فنزل فيهم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ. . .) إلى آخر ما ذكر: أمر الحرائر بإرخاء الجلباب وإسداله عليهن؛ ليكون علما بين الحرائر والإماء. ورُويَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن جارية مرت به متقنعة؛ فضربها بالدرة، وقال: " اكشفي قناعك، ولا تتشبهي بالحرائر "، وأمر الإماء بكشف ما ذكر، والحرائر بستر ذلك. وقد أمر الحرائر في سورة النور بضرب الخمر على الجيوب بقوله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)؛ لئلا يظهر الزينة التي على الجيوب، ونهين أن يظهرن ويبدين زينتهن للأجنبيين إلا ما ظهر منها، وأمرن في هذه الآية على إرخاء الجلباب وإسداله عليهن؛ ليعرفن أنهن حرائر؛ فلا يؤذين بما ذكرنا. ثم اختلف في الجلباب: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الرداء، والجلابيب: الأردية، وهو قول الْقُتَبِيّ: أمرن أن يلبسن الأردية والملاء. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجلابيب: المقانع، الواحد: جلباب، يقال: [تجلبي]، أي تقنعي، وهو الذي يكون فوق الخمار.

(60)

وفي الآية دلالة رخصة خروج الحرأئر للحوائج؛ لأنه لو لم يجز لهن الخروج لم يؤمرن بإرخاء الجلباب على أنفسهن؛ ولكن ينهاهن عن الخروج؛ فدل أنه يجوز لهن الخروج للحاجة، واللَّه أعلم. وقوله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) جائز أن يكون قوله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ) عما سبق ذكره من التعرض للنساء بالزنا والفجور بهنّ؛ وإنهم هم الفاعلون لذلك بهن. وأما المسلمون فلا يحتمل أن يتعرضوا لشيء من ذلك في ذلك الوقت؛ فقال: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ) ومن ذكر، عن ذلك يفعل بهم ما ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن أهل النفاق كانوا يرجفون أخبار العدو ويذيعونها، ويقولون: قد أتاكم عدد وعدة من العدو؛ كقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ): كانوا يجبنونهم ويضعفونهم؛ لئلا يغتروا أُولَئِكَ الكفرة، يسرون النفاق والخلاف لهم، ويظهرون الوفاق ويسرون فيما بينهم، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول؛ فنهوا عن ذلك؛ حيث قال: (فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ)؛ فنهوا عن ذلك؛ فقال هاهنا: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) عن صنيعهم ذلك، (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ)، أي: لنسلطنك عليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لنحملنك عليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لنولعنك بهم. وكأن الإغراء هو التخلية بينه وبينهم؛ حتى يقابلهم بالسيف ويقتلهم، وكان قبلى ذلك يقابلهم باللسان، لم يأمره بالمقابلة بالسيف إلى هذا الوقت، وأخبر أنهم (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا). أي: مطرودون أينما وجدوا؛ لأن اللعن هو الطرد، وأنهم يقتلون تقتيلا، وأنهم لا يجاوروند، إلا قليلا فيما لا تعلم بهم. وقوله: (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هبم الزناة، و (الْمُنَافِقُونَ)، هم

(62)

المنافقون، (وَالْمُرْجِفُونَ): ليسوا بمنافقين؛ ولكنهم قوم كانوا يحبون أن يفشوا الأخبار، ويقال: الإرجاف: هو تشييع الخبر. وجائز أن يكون المنافق هو الذي كان مع الكفرة في السر حقيقة، والذي في قلبه مرض: هو الذي في قلبه ريب واضطراب، لم يكن مع الكفرة لا سرًا ولا ظاهرًا، والذي بين الكافر والمنافق. وقوله: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) قَالَ بَعْضُهُمْ: سنة اللَّه في الأمم السالفة الإهلاك من الكفار. وجائز أن يكون قوله: (سُنَّةَ اللَّهِ) في أهل النفاق من الأمم السالفة - ما ذكر في هَؤُلَاءِ. وقال مقاتل: (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ): أهل بدر حين أسروا وقتلوا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا. إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا. وقوله: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ (63) جائز أن يكون السؤال محنها ما ذكر في آية أخرى حيث قال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا)، وعن قيامها فقال: (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ). ففيه دلالة إثبات رسالة رسوله ع؛ لأنه حين سئل عنها، فوض أمرها وعلمها إلى اللَّه، على ما أمر به، ولو كان غير رسول اللَّه - لكان يجيبهم - علم أو لم يعلم - على ما يفعله طلاب الرياسة، بل قال: (عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ)؛ دل أنه رسول اللَّه، فبلغ إليهم ما أمر بالتبليغ إليهم. وقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا). هذا يخرج على الوعيد والتحذير، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: كأنه يقول: اعلم أن الساعة تكون قريبًا؛ على الإيجاب؛ لأن (لَعَلَّ) من الله واجب؛ فهو وكل ما هو آتٍ فهو كالكائن. والثاني: على الترجي، أي: اعملوا على رجاء أنه قريب، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) لعنهم، أي: طردهم عن رحكمته؛ لما علم أنهم يختارون الكفر على الإيمان ويختمون

(65)

عليه. (وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا). قوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) ينقض على الجهمية قولهم، وعلى أبي الهذيل العلاف. أما على الجهمية؛ لأنهم يزعمون أن الجنة والنار تفنيان ولهما النهاية، وقالوا: لأنا لو لم نجعل لهما النهاية والغاية، لخرجتا عن علم اللَّه؛ لأن الشيء الغير المتناهي خارج عن علمه؛ لكن هذا بعيد، جهل منهم بربهم؛ لأن علمه بالشيء الغير المتناهي: أنه غير متناه، وعلمه بالمتناهي: أنه متناه، ولا يجوز أن يخرج شيء عن علمه متناهيًا كان أو غير متناه، وباللَّه العصمة. وأمَّا العلاف؛ فلأنه يقول: إن أهل الجنة وأهل النار يصيرون بحال في وقت ما حتى إذا أراد اللَّه أن يزيد لأحد منهم لذة أو نعمة أو عذابا - لم يملك عليه، أو كلام نحو هذا؛ فنعوذ باللَّه من السرف في القول على اللَّه. وقوله: (لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا). مما طمعوا في الدنيا ورجوا من كثرة الأسباب والحواشي، أو عبادة الأصنام وغيرها أن ينفعهم ذلك وينصرهم في الآخرة؛ بل ضل عنهم ذلك وحرموا؛ على ما أخبر: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، واللَّه أعلم. وقوله: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ... (66) وقال في آية أخرى: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ)، وأصله ما ذكر في قوله: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ): يفعل بهم في الآخرة على ما كانوا في الدنيا. وقوله: (يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا). لا يزال الكفرة قائلين لهذا القول مترددين له في الآخرة؛ لما رأوا من العذاب حين حل بهم (يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا): الرسول المطلق: رسول اللَّه والسبيل المطلق: هو دين اللَّه، هو المعروف في القرآن. وقوله: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) قَالَ بَعْضُهُمْ السادة: الملوك، والكبراء: العلماء. وجائز أن يكون السادة: القادة، والكبراء: دونهم. و (الرَّسُولَا) و (السَّبِيلَا): أثبتوا الألف فيه عند الوقف، وأما عند الوصل فلا؛ وذلك أن من عادة العرب ألا تقف على الحركة؛ ولكن تزيد لها ألفًا إذا كانت فتحة، وإذا

(68)

كانت كسرة: ياء. وقوله: (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) ظنوا أن يكون لهم بعض التسلي والتفرج؛ إذا رأوا أُولَئِكَ الذين أضلوهم في زيادة من العذاب، على ما يكون للرجل بعض التسلي إذا رأى عدوه في بلاء وشدة، فلما لم يكن لهم من ذلك تسل، بل كان لهم من ذلك زيادة عذاب وشدة؛ فقالوا عند ذلك: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ. . .) الآية. وقوله: (وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا). جائز أن يكون هذا، أي: عذبهم عذابًا كبيرا طويلا. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا). يقول عامة أهل التأويل: إن موسى كان لا يغتسل فيما يراه أحد؛ فقال بنو إسرائيل: إن موسى آدر، ويروون على ذلك عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن بني إسرائيل طعنوا نبي الله موسى بذلك، فذهب ذات يوم يغتسل، فوضع ثيابه على حجر، فسعى الحجر بثوبه؛ فجعل موسى يعدو في إثره ويقول: ثوبي حجر - أي: يا حجر ثوبي - حتى مرَّ به على ملأ بني إسرائيل؛ فعلموا أنه ليس به شيء، فذلك قوله: (فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) "، وكان موسى يتأذى بما كانوا يطعنون؛ فعلى ذلك رسول اللَّه كان يتأذى؛ إذا قالوا: زيد بن مُحَمَّد؛ فأمروا أن يدعوه لأبيه، يقول: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ)، زيد بن حارثة، لكن هذا التأويل بعيد؛ لأن موسى كان يدعوهم إلى ستر العورة، لا يحتمل أن يطمعوا هم منه الاغتسال معهم، وأن يكشف عورته لهم، أو ينظر إلى عورة أحد، هذا وخش من القول أو يسلط حجرًا، فيذهب بثيابه حتى يراه الناس

(70)

متجردًا، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: آذوه؛ لأنه كان خرج بهارون إلى بعض الجبال؛ فمات هارون هناك، فرجع موسى إليهم وحده؛ فقال بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته حسدًا؛ فقال موسى: " ويلكم، أيقتل الرجل أخاه "؛ فآذوه، فذلك قوله: (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا)؛ فجاءت به الملائكة فوضعته بينهم، فقال لهم: لم يقتلني أحد؛ إنما جاء أجلي فمت، فذلك قوله: (فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا). هذا يشبه أن يكون - وغيره - كأنه أقرب وأشبه، وهو ما كان قوم كل رسول نسبوا رسولهم إلى الجنون مرة، وإلى السحر ثانيًا، وأنه كذاب مفتر، ونحوه، على علم منهم أنه رسول اللَّه، ولا شك أنهم كانوا يتأذون بذلك جدا؛ ولذلك قال: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ): لا يحتمل أن يكون هذا في الأول؛ لأنهم لو كانوا علموا أنه ليس به ما ذكروا - لم يؤذوه؛ فدل أن أذاهم إياه فيما ذكرنا، وفي أمثال ذلك، وكذلك ما نهى قوم رسول اللَّه من الأذى له؛ لما نسبوه مرة إلى الجنود، وإلى السحر ثانيًا، وإلى الافتراء والكذب على اللَّه ثالثًا، لا فيما ذكر أُولَئِكَ. (وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا). أي: مكينًا في القدر والمنزلة، واللَّه أعلم. وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) جائز أن يكون قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ)، أي: اتقوا الشرك في حادث الوقت، (وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)، أي: ائتوا بالتوحيد في حادث الوقت؛ لأنه إنما خاطب به المؤمنين: (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ... (71) أي: بالتوحيد؛ لأنه بالتوحيد تصلح الأعمال وتذكر، وبه يغفر ما كان من الذنوب، وبه يكون الفوز العظيم، وباللَّه التوفيق. ويحتمل قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) في الخيانة فيما بينكم وبين الخلق، أي: لا تخونوا الخلق. (وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)، أي: صمدقا وصوابا؛ أي: لا تكذبوا، ولا تقولوا فحشًا ونحوه. ويحتمل (اتَّقُوا اللَّهَ) ولا تعصوه، واعملوا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر (وَقُولُوا قَوْلًا

(72)

سَدِيدًا)، ومروا الناس، وانهوا عن المنكر (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. . .) إلى آخر ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) قد تكلف أهل التأويل تفسير هذه الأمانة المذكورة في الآية: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي كلمة الشهادة والتوحيد. ومنهم من قال: هي جميع الفرائض التي افترض اللَّه على عباده. ومنهم من قال: هي الصلاة، والصيام، والحج، وأمثاله، وجميع ما أمروا به ونهوا عنه. لكن التكلف والاشتغال بالتكلم في ماهية هذه الأمانة المذكورة المعروضة على من ذكر - فضل، لا يجب أن يتكلف تفسيرها: أنها كذا؛ لأنها مبهمة، لا تعلم إلا بالخبر الوارد عن اللَّه - تعالى - أنها كذا، وأن يجعل ذلك من المكتوم، ولا يشتغل بالتفسير، واللَّه أعلم بذلك. ثم اختلف فيما ذكر من عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وما ذكر من إبائها عن احتمالها والإشفاق: فقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ومن ذكر؛ أي: خلقنا خلقة ما ذكر من السماوات والأرض والجبال خلقة لا تحتمل حمل ما ذكر من الأمانة؛ (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا) إباء خلقة؛ أي: لم يخلق خلقتها بحيث تحتمل ذلك، (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ) أي: خلقنا خلقة الإنسان خلقة تحتمل ذلك؛ إلى هذا يذهب بعضهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (عَرَضْنَا) حقيقة العرض، إلا أنه على التخيير بين أن تقبل وتتحمل وتفي بذلك فيكون لها الثواب، أو لا تفي فيكون لها العقاب في الآخرة، وبين ألا تتحمل ولا تقبل؛ فتكون كسائر الموات تفنى بفناء الدنيا: لا ثواب لها في الآخرة ولا عقاب، وإلا لم يحتمل أن يعرض عليهن ما ذكر عرض لزوم وإيجاب، ثم يأبين ذلك ويشفقن منها، وقد وصفهن اللَّه بالطاعة له والخضوع في غير آي من القرآن؛ حيث قال: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، وقال: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ. . .) الآية، وقال في آية: (يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ)

وكذا، ونحوه، ولكن إن كان على حقيقة العرض فهو على التخيير الذي ذكرنا، (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ)، فكان له الثواب إن قام بها، وعليه العقاب إن لم يقم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ)، أي: عرض على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال، فلم يحملوها، إلا الإنسان منهم فإنه حملها. (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) قال الحسن: ظلومًا لنفسه، جهولا لأمر ربه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا)، أي: أبين أن يعصين اللَّه وأشفقن منه! أي: لم يعصوا قط (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ) أي: عصى الإنسان ربه؛ فيجعل الحمل كناية عن العصيان والوزر، يقول: لأنه ما ذكر في القرآن الحمل إلا في الوزر والخطايا؛ كقوله: (وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ)، وقوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ)، وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وقوله: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)، ونحوه كثير. وقوله: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) إلى أي تأويل من هذه التأويلات التي ذكرنا صرف هذا إليه - استقام، واللَّه أعلم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: (الْأَمَانَةَ): العبادة: قال اللَّه - تعالى - للسماوات والأرض والجبال: تأخذن العبادة بما فيها، قلن: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن، (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا)، أي: خفن، وعرضت على الإنسان فقبلها، وهو قول اللَّه لبني آدم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، أما خيانتهم اللَّه ورسوله فمعصيتهما، وأمَّا خيانة الأمانة فتركهم ما افترض اللَّه عليهم من العبادة. وقتادة: يقول: أما واللَّه ما بهن معصية، ولكن قيل لهنَّ: أتحملنها وتؤدين حقها؟ قلن: لا نطيق ذلك، فقيل للإنسان - وهو آدم -: أتحملها وتؤدي حقها؟ قال: نعم (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) عن حقها.

(73)

وفي حرف أُبي وابن مسعود وحفصة [(فأبين)] أي: فلم يطقنها. وقال أبو معاذ: الإباء في كلام العرب على وجهين: أحدهما: هذا، وهو العجز. والآخر: قوله: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى) أي: عصى وترك الأمر. والحسن يقول: عرضت الأمانة على السماوات وما ذكر، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن: يا رب، وما فيها؟ قيل لهن: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن، قلن: لا (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا) لنفسه (جَهُولًا) بربه، وهو مثل الأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان ظلومًا لنفسه في ركوبه المعصية، جهولا بعاقبة ما تحمل. والوجه فيه ما ذكرنا بدءًا أنه لا تُفسر الأمانة أنها ما هي؟ وكيف كان ذلك العرض على من ذكر من السماوات والأرض والجبال، وإباؤهن، وإشفاقهن؛ واللَّه أعلم ما أراد بذلك. وقوله: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ ... (73) على من ذكر؛ أي: ليعذب من علم أنه لا يقوم بوفائها ويضيعها - أعني: الأمانة التي احتملها - وإنما ضيعها من ذكر من المنافقين والمشركين، ويثيب من لم يضيعها وقام بوفائها، وهم المؤمنون. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: السداد: الاستقامة؛ تقول: سددك اللَّه، وأرشدك. وقال أبو عبيدة: السديد: القصد. وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ، والقصد كأنه العدل، واللَّه أعلم. وصلى اللَّه على مُحَمَّد وآله أجمعين. * * *

سورة سبإ

سُورَةُ سَبَإٍ نزلت بمكة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَمْدُ لِلَّهِ). قال أهل التأويل: حمد نفسه بما صنع إلى خلقه. ثم هو يخرج على وجهين: أحدهما: على التعليم لخلقه: الحمد له، والثناء عليه؛ لآلائه وإحسانه إلى خلقه: ما لولا تعليمه إياهم الحمد له والثناء عليه لم يعرفوا ذلك. والثاني: حمد نفسه؛ لما لم ير في وسع الخلق القيام بغاية الحمد له والثناء عليه على آلائه وأياديه، فتولى ذلك بنفسه، وهو ما ذكر في قوله: (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فقالوا: قد عرفنا السلام عليك؛ فكيف الصلاة عليك؟ فقال: " أن تقولوا: اللهم صل على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد. . . " إلى آخره؛ فهذا تفويض الصلاة إلى اللَّه والدعاء له أن يصلي هو عليه دونهم؛ فهو - واللَّه أعلم - كأنه لم ير فيهم وسع القيام بحقيقة الصلاة عليه، ولا بغاية الثناء؛ فأمرهم أن يفوضوا ذلك إليه؛ ليكون هو القاضي لذلك عنهم؛ فعلى ذلك الحمد لله. وأصل الحمد له: هو الثناء عليه بجميع محامده وإحسانه بأسمائه الحسنى، والشكر له على جميع نعمائه وآلائه. وقوله: (الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). كأنه قال - واللَّه أعلم -: الحمد لله له ملك السماوات والأرض، وهو المستحق لذلك، لا الأصنام التي عبدتموها وسميتموها: آلهة. وقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ)، أي: يحمد أهل الجنة إذا دخلوا الجنة؛ كقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)، وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ)، وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)،

(2)

ونحوه؛ يحمده أولياؤه في الآخرة؛ ويحمده أولياؤه في الأولى؛ كقوله: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ). وجائز أن يكون قوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ)، أي: له الحمد في إنشاء الآخرة؛ لأن إنشاء الدنيا وما فيها إنما كان حكمة بإنشاء الآخرة، ولو لم يكن إنشاء الآخرة لكان خلق ذلك كله عبثًا باطلا؛ فأنشأ الآخرة حتى صار إنشاء الدنيا وما فيها من الخلائق حكمة؛ فأخبر أن له الحمد على إنشاء ما صار له إنشاء الدنيا حكمة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ). قد تقدم معنى الحكيم والخبير في غير موضع، وهو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، وهو الواضع كل شيء موضعه. والفلاسفة يقولون: الحكيم: هو الذي يجمع العلم والعمل جميعًا، وهو ما ذكرنا. أو الحكيم؛ لما أحكم كل شيء وأتقنه، حتى شهد على وحدانيته، ودل على إلهيته. وقوله: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) يخبر أن الأرض مع كثافتها وغلظها لا تحجب عنه ما يدخل فيها وما يخرج منها، وكذلك السماء مع صلابتها وشدتها لا تحجب عنه شيئا كما يحجب عن الخلائق. أو يخبر أن كثرة ما يدخل في الأرض ويخرج منها وازدحامه، وكثرة ما ينزل من السماء من الأمطار وما يعرج إليه من الدعوات والملائكة - لا يشغله عن العلم بالآخر، كما يشغل الخلائق؛ لأنه عالم بذاته لا بسبب، والخلق عالمون بأسباب؛ فعلمهم بسبب يشغلهم عن الأسباب الأخر؛ فأما اللَّه - سبحانه - يتعالى عن أن يشغله شيء، أو يحجب عنه شيء، (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ). * * * قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) فْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ

(3)

عَبْدٍ مُنِيبٍ (9). وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم أقسموا باللات والعزى أن لا بعث ولا حياة بعد الموت؛ فأمر الله نبيه أن يقسم باللَّه الواحد على بعث وقيامة بقوله: (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ). وجائز أن يكون على غير هذا وهو ما قال في آية أخرى؛ حيث قال: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا)، هم أقسموا باللَّه: إنه لا يبعث من يموت؛ فأمر رسوله في هذه الآية أن يقسم باللَّه - الذي أقسموا هم: إنه يبعث، وهو قوله: (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)، وكأن قسمه بما أقسم عندهم أصدق من قسمهم؛ لأنهم لم يأخذوا عليه كذبًا قط، ولا اتهموه في شيء؛ يدل على ذلك ما أخبر اللَّه عنهم؛ حيث قال: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)، أخبر أنهم لا يكذبونك في مقالتك؛ ولكن همتهم الجحود بالآيات والإنكار لها؛ فيكون قسمه مقابل قسم أُولَئِكَ في إنكارهم البعث؛ ليعلموا كذب أنفسهم في قسمهم - بقسم رسول اللَّه بما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (عَالِمِ الْغَيْبِ)، بالخفض، وقد قرئ (عَالِمُ الْغَيْبِ): بالرفع، و (عَلَّامُ الْغُيُوبِ): فمن خفضه، جعله صفة ونعتًا لما تقدم من قوله: (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ). ومن رفعه، يجعله على الابتداء، ويجعل الكلام تامًّا بقوله: (وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)، ثم استأنف فقال: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ). ثم قوله: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ). قد قرئ برفع الزاي، وبخفضها: (لَا يَعْزُبُ)، وكلاهما لغتان، والعازب في كلام العرب: الغائب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا يَعْزُبُ)، أي: لا يبعد، وهما واحد. وقوله: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ). وقال في الأولى (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا): جائز أن تكون هذه الآية في جواهر الأشياء وأجناسها المختلفة؛ لأنه أخبر عن

(4)

علمه بما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما يصعد فيها وما ينزل، وذلك علم جواهر الأشياء. وقوله: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ. . .) إلى آخر ما ذكر: في الأفعال والأعمال، يخبر أنه لا يخفى عليه شيء، ولا يغيب عنه شيء من أفعالهم وأعمالهم؛ ليكونوا أبدًا على حذر؛ ألا ترى أنه ذكر على أثر ذلك الجزاء؛ حيث قال: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). أو أن يكونا واحدًا، إلا أنه ذكر في الآية الأولى الداخل في الأرض والخارج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ولم يذكر في ذلك الساكن فيهما والمقيم وما يكون فيهما؛ فذكر ذلك في قوله: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) يخبر عن إحاطة علمه بالأشياء كلها: من الساكنة، والمقيمة، والمتحركة، والمنقلبة فيهما، والله أعلم. وقوله: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) المغفرة: هي التغطية والستر، ثم يكون الستر بوجهين: أحدهما: يستر على أعين الزلات أنفسها ألا تذكر. والثاني: يستر بالجزاء الحسن إذا لم يجز للزلات، هذا للمؤمنين: يستر عليهم الزلات مرة بترك ذكرها، ومرة بترك الجزاء عليها. وأما الكافر فإنه إذا جزي على سيئة فقد أُظْهِرَ وفَشَا، ولم يستر عليه. أو أن يكون قوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ)، أي: ستر وهو أنه إذا أدخلهم الجنة، أنساهم زلاتهم؛ حتى لا يذكروا أبدا؛ لأن ذكر زلاتهم لربهم ينغص عليهم لذاتهم وتنعمهم. وقوله: (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، قيل: الكريم: الحسن. وجائز أن يكون سماه: كريمًا؛ لأن من ناله كرم وشرف، كقوله: (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) يحتمل حقيقة سعيهم في آياته بما ذكر؛ كقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ): ذكر مرورهم عليها والإعراض عنها؛

(6)

فهو سعي. وجائز على التمثيل، أي: يعملون عمل من أعجز الآيات؛ للجحود لها والتمرد والعناد، والمعجز: هو السابق، (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي: سابقين فائتين، أي: لا تعجزونني، ولا تفوتون عني. (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ). الرجز: العذاب الأليم، أي: مؤلم، وذلك جائز في اللغة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الْمُعَاجِز: الهارب؛ يهرب؛ لكي يعجز. وقوله: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) قَالَ بَعْضُهُمْ: الذين أوتوا العلم هم المؤمنون: مؤمنو أهل الكتاب الذين أوتوا العلم على التوراة والإنجيل وغيرهما؛ يقول - واللَّه أعلم - يعلم الذين أوتوا منافع تلك الكتب أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق، بأجمعهم جميعًا الذين أوتوا العلم بتلك الكتب؛ لما يجدون نعته وصفته فيها، يعلمون أنه هو الحق من ربّك، لكن بعضهم عاندوا ولم يؤمنوا به، وبعضهم قد آمنوا به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ): هم أصحاب مُحَمَّد - صلوات الله عليه - أي: الذين أوتوا منافع ما أنزل إليك، هم يعلمون أنه هو الحق من ربك، فأما من لم يؤت منافع العلم فلا يعلم ذلك. وفي حرف ابن مسعود (ويعلم الذين أوتوا الحكمة من قبل الذي أنزل إليك من ربك هو الحق)، يعني: القرآن. وقوله: (وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). قوله (وَيَهْدِي) يحتمل: يدعو، ويحتمل (وَيَهْدِي)، أي: يبين لهم (صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) كان بعضهم يقول لبعض: (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)

(8)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) قوله: (إِذَا مُزِّقْتُمْ) يحتمل أن قالوا: النبي، يقول: إذا تفرقت جوارحكم وأعضاؤكم تكونوا خلقًا جديدًا، فإن كان على هذا فهو - واللَّه أعلم - كان من أهل الدهر ذلك القول؛ لأنهم يقولون بقدم العالم، ولا يقولون بفنائه؛ لأن أهل مكة كانوا فريقين: فرقة تذهب مذهب أهل الدهر، وفرقة يقولون بحدث العالم، ويقرون بفنائه، لكنهم ينكرون إحياءه بعد الفناء. فإن كان ذلك من هَؤُلَاءِ؛ فيكون قوله: (يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)، أي: إذا ذهبت أجسادكم، وفنيت اللحوم والعظام، وكنتم رمادًا ورفاتا (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)، أي تكونون خلقا جديدا، يخرج ذلك منهم على أحد وجهين: إما على استبعاد ذلك في أوهامهم وعقولهم، أي: لا يكون ذلك. أو على التعجب: أن كيف يكون ذلك؟! فقال عند ذلك: (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) يقولون: أفترى مُحَمَّد على اللَّه كذبا أم به جنون؟ إذ لم نسمع ذلك من أحد من قبل، ولا رأينا ذلك أنه كان ما ذكر، فرد اللَّه ذلك عليهم وقال: (بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)، أي: بالبعث والإحياء بعد الموت - هم المفترون على اللَّه، هم (فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ). جزاء قولهم: أم به جنون؟ يقول: بل هم في ضلال بعيد، الضلال البعيد: كأنه هو الذي لا يرجع إلى الهدى أبدًا؛ فتكون الآية في قوم: علم اللَّه أنهم يختمون على الضلال، ولا يؤمنون أبدًا؛ فيكون في ذلك دلالة إثبات الرسالة. وقوله: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) قد ذكرنا قوله: (أَفَلَمْ يَرَوْا)؛ (أَلَمْ تَرَوْا)، ونحوه أنه يخرج على وجهين: أحدهما: قد رأوا على الخبر. والثاني: على الأمر: أن انظروا (إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). ثم يقول بعضهم لبعض: حيثما قدم الإنسان رأى بين يديه من السماء مثل السماء التي يرى خلفه، وكذلك الأرض. وقتادة يقول: لينظروا كيف أحاطت بهم السماء والأرض، وهما واحد. (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ)، كما خسفنا بمن كان قبلهم، (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ).

(10)

أي: عذابًا من السماء؛ كما أنزل على من كان قبلهم بالتكذيب والعناد، يذكر هذا على أثر قولهم: (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ)، أي: لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض؛ لعرفوا أنه رسول اللَّه، وأنه صادق، وأن ما يقول: إنه بعث بعد الموت، وإن العذاب ينزل - يقوله لا عن جنون، ولكن عن علم وعقل ومعرفة؛ لأن من قدر على إنشاء السماء على ما أنشأ من سعتها وغلظها وشدتها، وكذلك الأرض، قدر على البعث وخسف من يشاء أن يخسف؛ وإسقاط السماء على من يشاء أن يسقط. أو يقول: لو نظروا، لعرفوا أنه لم ينشئ ما ذكر من السماء والأرض عبثًا باطلا؛ ولكن أنشأهما على الحكمة، وإنما يصير إنشاؤهما حكمة بالبعث والإحياء بعد الموت ومصيرهم إليه، وأما للفناء خاصة فلا يكون حكمة، واللَّه أعلم ما أراد بذلك. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ). المنيب، قيل: هو المطيع لله، وقيل: هو المقبل على أمر اللَّه. والمنيب كأنه هو المؤمن؛ لأنه هو المصدق بالآيات، فإذا كان المؤمن هو المصدق بالآيات، فيكون هو المنتفع بها؛ فيكون الآية له. وأما المكذب بها فلا ينتفع بها؛ فلا يكون الآية له في الحقيقة. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا). أي: علما، كقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَضْلًا)، أي: نبوة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفضل: هو الملك الذي آتاه اللَّه. وجائز أن يكون ما ذكر من الفضل أنه آتاه - هو ما ذكر على أثره من تسخير الجبال

(11)

والطير والتسبيح معه، وإلانة الحديد له بلا نار ولا شيء؛ حتى اتخذ منه ما شاء أن يتخذ من الدروع وآلات الحروب، وقد أتى اللَّه داود من الفضل ما لو تكلفنا عدَّه وإحصاءه ما قدرنا عليه. وقوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ). قيل: سبحي معه. وقوله: (وَالطَّيْرَ). من نصب الطير جعلها مسخرة له؛ كأنه قال: سخرنا له الطير. ومن رفعها جعله على النداء: يا طير أوبي معه، أي: سبحي معه. ثم اختلف في تسبيح الجبال والطير. قَالَ بَعْضُهُمْ: تسبيح خلقة لا تسبيح قول ونطق؛ لما جعل في خلقة كل شيء الشهادة له بالوحدانية والألوهية، لكن ذكر هاهنا: أن سبحي معه، ولو كان تسبيح خلقة لم يكن لذكر التسبيح مع داود فائدة؛ لأن تسبيح الخلقة يكون كان معه داود أو لم يكن؛ ولكن جائز أن يجعل اللَّه - تعالى - في سرّية الجبال من التسبيح ما يفهم منها داود، ولم يفهم غيره؛ على ما ذكرنا في قول النملة لسائر النمل؛ حيث قال: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ. . .) الآية: جعل اللَّه - تعالى - في سرية النمل معنى ألقى ذلك في مسامع سليمان؛ ففهم منها ذلك، ولم يلق ذلك في مسامع غيره من الجنود؛ فعلى ذلك تسبيح الجبال والطير، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ). جعل له آية لنبوته؛ لما ألان له الحديد بلا نار ولا سبب يلينه؛ حتى كان يعمل منه ما شاء، ولم يجعل في وسع أحد من الخلائق سواه استعمال الحديد إلا بالنار وأسباب أخر؛ ليكون له في ذلك آية. وقوله: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) كأنه قال: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)، وقلنا له: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: السابغات: هي الدروع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي الواسعات.

(12)

وقيل: هي الطوال. فكأنه أمر أن يتخذ من الدروع ما يأخذ من الرأس إلى القدم ما يصلح لحرب العدو. وقوله: (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: كانت الدروع قبل ذلك صفائح مضروبة، فسرد نبي اللَّه حلقها بعضها في بعض، والسرد: المسامير والحلق، يقول: قدر المسامير في الحلق: لا بدق المسامير وتوسع الحلق؛ فتسلسل، ولا تضيق الحلق وتعظم المسامير فتقصم وتكسر؛ ولكن مستويًا لتكون أحكم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ)، أي: في النسج، أي: لا تجعل المسامير دقاقًا؛ فتقلق، ولا غلاظًا؛ فتكسر الحلق؛ ومنه قيل لصانع الدروع: سراد، وزرَّاد؛ كما يقال: صراط وسراط وزراط. والسرد: الحرز أيضًا، وقال غيره: السرد: الخروق في طبق الحلق، وإدخال الحلق بعضها في بعض. وقوله: (وَاعْمَلُوا صَالِحًا). جائز أن يكون قوله: (وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، فيما ذكر من عمل الدروع، ويحتمل في غيره من الأعمال، (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، هو على الوعيد، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) كأنه يقول: سخرنا لسليمان الريح؛ كما ذكرنا في آية أخرى: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ). وقوله: (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ)، أي: تجري به الريح في غدوها مسيرة شهر، وفي رواحها مسيرة شهر، وذلك آية له، فمثلها من الآية كان لرسول اللَّه، حيث أسري في ليلة واحدة مسيرة شهرين من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وما كان لسليمان من الملك بالأعوان من الجن والإنس كان لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بنفسه؛ حيث قال: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين "، فإن لم يكن أعظم مما كان لسليمان فلا يكون دونه. وما كان لأبيه داود من إلانة الحديد له بلا سبب وما ذكر - كان لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - انشقاق القمر له، وذلك أعظم في الآية مما ذكر.

(13)

وما كان لموسى من انفجار العيون من الحجر، كان لمُحَمَّد من أصابعه، حتى ذكر أنهم كانوا ألفًا وأربعمائة نفر شربوا جميعًا منه ورووا؛ فذلك وإن لم يكن أعظم في الآية لا يكون دونه. وما كان لعيسى من إحياء اللَّه الموتى وإجرائه على يديه، كان لمُحَمَّد مقابل ذلك كلام الشاة المصلية المسمومة التي أخبرته: إني مسمومة؛ فلا تتناول مني؛ لما أراد التناول منها، فآياته كثيرة حتى لم تذكر لأحد من الأنبياء والرسل - صلوات اللَّه عليهم - آية إلا ويمكن أن يذكر لمُحَمَّد جميعًا مقابل ذلك مثلها أو أعظم منها. ثم - يحتمل ذكر ملك سليمان وأبيه؛ لئلا يحسدوا محمدًا - صلوات اللَّه عليه - على ما أعطاه اللَّه له من الملك والشرف؛ ليعرفوا أنه ليس هو المخصوص بالملك والشرف، ولكن له في ذلك شركاء وإخوان أعطاهم اللَّه مثل ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ). قيل: النحاس، وقيل: الصفر، قيل: أسيل له يعمل به ما أَحبَّ، كما ألين لأبيه الحديد؛ فيعمل به ما أحبَّ من الدروع وغيرها بلا سبب، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ). قيل: بأمر ربه، أي: سخر اللَّه الجن له، وأمرهم بطاعته في جميع ما يأمرهم فيما أحب، شاءوا أو كرهوا، يخرج قوله: (بِإِذْنِ رَبِّهِ) على وجهين: أحدهما: على التسخير له؛ فيكون الإذن كناية عن التسخير. والثاني: (بِإِذْنِ رَبِّهِ)، أي: بأمر ربه، أي: أمرهم ربهم أن يطيعوه في جميع ما يأمر وينهى. وقوله: (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا)، أي: عصاه فيما أمره به، (نُذِقْهُ)، ما ذكر. يحتمل إضافة أمره إلى نفسه؛ لما بأمره ما يستعملهم فيما يستعملهم، واللَّه أعلم. وقوله: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) قَالَ بَعْضُهُمْ: المحاريب هي المساجد.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي القصور. والمحاريب هي أشرف المواضع، ذكرت كناية عن غيرها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَتَمَاثِيلَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هي التماثيل كهيئة تماثيل الرجال، يصورون في المساجد تماثيل الرجال العُبَّاد الزهاد، والملائكة، والنبيين، والرجال المتواضعين؛ لكي إذا رآهم الناس مصورًا عبدوا عبادتهم، وتشبهوا بهم. أو أن تكون تماثيل لا رأس لها، نحو: الأواني والكيزان ونحوها. أو أن يكون التماثيل يومئذ غير منهي العمل بها، فأما اليوم فقد نهوا عن العمل بها؛ مخافة أن يدعو ذلك إلى عبادة غير اللَّه؛ وكذلك غز إبليس قومًا حتى عبدوا الأصنام؛ وإلا ليس من الأصنام ولا فيها ما يغتر به المرء على عبادته، واللَّه أعلم. وقوله: (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: قصاع كالجواب، كهيئة حياض الإبل؛ حتى يجلس على القصعة الواحدة ألف وزيادة يأكلون منها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ)، أي: كالجوبة من الأرض التي تحفر للماء؛ يصف عظم ذلك؛ ففيه أنهم كانوا يجتمعون في الأكل لا ينفردون به. وقوله: (وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ). أي: كانوا يتخذون له قدورًا عظامًا في الجبال التي لا تحرك من مكان، (رَاسِيَاتٍ)، أي: ثابتات كما ذكر، والجبال الرواسي، أي: الثوابت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ): هي القدور العظام التي أفرغت إفراغا وأكفيت - لعظمها - إكفاء، وهما واحد، واللَّه أعلم. وقوله: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا).

(14)

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: اعملوا لآل داود شكرًا؛ لأنه ذكر أنه ليس من زمان في ليل ونهار إلا ويكون من آل داود صائم بالنهار ومصل بالليل، أو كلام نحوه؛ فأمروا بالشكر لهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كأنه قال: اعملوا يا آل داود شكرًا، لما أعطيتكم من الملك والفضل. (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ). أي: قليل من عبادي المؤمنين، والشكور كناية عن المؤمن؛ على ما ذكرنا في قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي: لكل مؤمن، والله أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ)، أي: أذبنا له عين النحاس، والشكور هو الفعول، والفعول والفعال هما اللذان يكثران الفعل؛ فكأن الشكور هو الذي يعتقد الشكر لربه، ويشكر مع الاعتقاد؛ فيكون منه الاعتقاد والمعاملة جميعًا. وقوله: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) دل هذا على أن موته كان بحضرة أهله وبمشهد منهم؛ حيث ذكر: (مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) ثم يذكر بعض أهل التأويل أنه سأل ربه أن يعمّي على الجن موته؛ حتى يعلم الإنس (أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) - أعني: الجن - (مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ). وبعضهم يقول: سأل ربه أن يعمي على الجن موته؛ حتى يفرغوا من بناء بيت المقدس، فدأبوا حولا يعملون، فلما فرغوا من بنائه خر سليمان ميتا من عصاه، وكان متكئًا عليها. وبعضهم يقول: لما حضره الموت - وكان على فراشه في البيت - لم يكن على عصاه؛ فقال: لا تخبروا الجن بموتي؛ حتى يفرغوا من بناء بيت المقدس - وكان بقي عمل سنة - ففعلوا، فلما فرغوا من بنائه - خرَّ؛ فعند ذلك علمت الجن بموته، والله

أعلم. وقوله: (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ). في حرف ابن مسعود: (فلما قضينا عليه الموت، وهم يدأبون له حولا ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الإنس على أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين)؛ لأنهم كانوا يذعون علم الغيب فابتلوا بذلك. ودل قوله: (مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) على أنهم كانوا لا يدنون منه لأحد وجهين: إما لهيبته وسلطانه على الناس؛ فإن كان ذلك أطاع له كل شيء وخضعوا له: من الجن والطير والوحش وغير ذلك. أو لما كان يكثر العبادة لله والخضوع له يتوحد ويتفرد بنفسه، لم يجترئوا أن يدنوا منه؛ وإلا لو دنوا منه لرأوا فيه آثار الموتى، اللهم إلا أن يكون ما ذكر بعضهم أنه قال لأهله: لا تخبروا أحدًا بموتي، وأمرهم أن يكتموا موته، واللَّه أعلم. وقوله: (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ)، قيل: المنسأة: العصا، سمي: منسأة من المنسأ؛ لأنه كان بها يؤخر ما أراد تأخيره، وبها يدفع ما أراد دفعه. ثم في إمساكه العصا أحد وجهين: لما لضعفة في نفسه؛ كان يتقوى بها في أمور ربه، أو يمسكها؛ لخضوعه لربه وطاعته له. وفيه دلالة: أن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا لا يشغلهم الملك وفضل الدنيا، ولا الحاجة ولا الفقر عن القيام بأمر اللَّه وتبليغ الرسالة إلى الناس، وهما شاغلان لغيرهم، وهم كانوا فريقين: فريق قد وسع عليهم الدنيا نحو سليمان وإبراهيم وغيرهما، وفريق قد اشتدت بهم الحاجة والفقر، وكلاهما مانعان شاغلان عن القيام بأمور اللَّه وتبليغ الرسالة؛ ليعلم أنهم لم يأخذوا من الدنيا ما أخذوا - للدنيا. ولكن أخذوا للخلق، ولله قاموا فيما قاموا لذلك، لم يشغلهم ذلك عن القيام بما ذكرنا، واللَّه أعلم.

(15)

ودل قوله: (مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) أنه كان يأمرهم ويستعملهم في أمور شاقة وأعمال صعبة؛ حيث ذكر لبثهم في ذلك لبثا في العذاب المهين، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) وقوله: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ). يحتمل الآية التي ذكر لهم في مساكنهم: الجنتين اللتين ذكرهما: إحداهما عن اليمين، والأخرى عن الشمال، ويكون لهم فيها عبرة، فتحملهم على الشكر لربهم عليهما، والحمد له، والثناء عليه في تلك النعم. أو يذكرهم قدرة خالقهم وسلطانه وهيبته؛ فيحملهم ذلك على الخوف في العواقب، والعقاب على خلافه، ورجاء الثواب على طاعته، فلم يتذكروا. أو أن يكون الآية التي ذكر لهم في تبديل الجنتين اللتين كان لهم فيهما كل سعة وخصب، وكل ألوان الفواكه والجواهر، على غير مؤنة تلحقهم؛ لأنه قال في غير آي من القرآن: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، فأخبر هاهنا لهم أن لهم في تبديل جنتيهم جنتين آية لو اعتبروا واتعظوا؛ فلا يقع لهم الحاجة إلى النظر في آثار من تقدم منهم، بل العبرة في ذلك لهم أكثر؛ لأنهم عاينوا هذا على ما عاينوا من أنواع النعم، ثم غير ذلك وبدل عليهم، وما تقدم منهم إنما يعرفون ذلك عن خبر يبلغهم؛ لأن أصلهم قد هلكوا، وهذا على المشاهدة والمعاينة. وقوله: (عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ). قيل: عن يمين الوادي وشماله، ويحتمل: عن يمين الطريق وشماله؛ فتكون عن يمينهم وشمالهم. وقوله: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ).

(16)

كأنه قالت لهم الرسل: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ)؛ إذ ذكر أنه بعث فيهم كذا كذا رسولا. ثم وصف بلدة سبأ أنها طيبة؛ حيث قال: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ): يحتمل ما ذكر من طيبها: هو سعتها وكثرة ريعها ومياهها وألوان ثمارها وفواكهها. وقوله: (وَرَبٌّ غَفُورٌ)، أي: إن ربكم إن شكرتم فيما رزقكم وأنعم عليكم رب غفور لذنوبكم. أو يقال: (وَرَبٌّ غَفُورٌ)، أي: ستور، يستر عليكم ذنوبكم، ولا يفضحكم إذا صدقتموه، وأطعتموه، وشكرتم نعمه. ذكر أن المرأة منهم كانت تحمل المكتل على رأسها، والمغزل بيدها، فتدخل البستان؛ فتمتلئ مكتلها من ألوان الفواكه والثمار من غير أن تمس شيئًا بيدها؛ لكثرة ريعها ونزلها، واللَّه أعلم. ثم ذكر سبب تبديل الجنتين اللتين كانت لهم، وبم كان التبديل؟ وهو ما قال: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) قَالَ بَعْضُهُمْ: كان أهل سبأ إذا مطروا يأتيهم السيل من مسيرة شهر أيامًا كثيرة، فعمدوا فسدوا العرم، وهو الوادي ما بين الجنتين، بالصخرة والقبو، وجعلوا عليه الأبواب، فلما: عصوا ربهم، فأعرضوا عنه، وكفروا نعمه؛ فسلط اللَّه عليهم - على ذلك السد الذي بنوا الفأرة؛ فنقبت الردم، فغشي الماء أرضهم؛ فعقر أشجارهم، وأباد أنعامهم، ودفن محاريثهم، وذهب بجناتهم. ومنهم من يقول: (الْعَرِمِ): وهو المسنَّاة، واحدها: عرمة، فذهب السيل الذي أرسل عليهم بالمسناة؛ فيبست جناتهم، وأبدل لهم مكان الثمار والأعناب ما ذكر من الخمط والأثل والسدر؛ حيث قال: (ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ). الأكل القليل هو الثمر، والخمط: الأراك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: شجر العضاة، وهي شجر ذات شوك، والأثل، قيل: هو شبيه

(17)

بالطرفاء إلا أنه أعظم منه، والسدر هو معروف عندهم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ قريبًا من ذلك، قال: الأُكُل: الحمل، والخمط عندي: السدر وحمله، وقال: الخمط: الريح الطيبة، وتقول: هذا شجر له خمطة، أي: ريح طيبة، والخمط: أن تأخذ شيئًا من هنا وثمة، وتخلطه، والأثل: شجر أيضًا لا حمل فيه. والزجاج يقول: الأثل هو الثمرة التي فيها المرارة تذهب تلك المرارة بطعمها، أو كلام نحوه. وقوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) أخبر أنه جزاهم بما كفروا نعمه، ولم يشكروا ربهم عليها. وقوله: (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)، لله في نعمه. وقوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) قيل: متواصلة بعضها ببعض من أرضهم إلى الشام، على كل ميل قرية وسوق وكل شيء فيها. (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) من الجوع والعطش والسباع وكل ما يخاف منه. ثم جائز أن يكون ما ذكر من القرى الظاهرة كان لهم مع الجنان التي ذكرنا بدءًا؛ فيكون هذا موصولا بالأول؛ فلما لم يشكروا ربهم في ذلك كله - أبدل لهم الكل بما ذكر. وجائز أن يكون لا على الصلة بالأول؛ ولكن على ما ذكر بعض أهل التأويل: أنه لما غيّر عليهم ذلك وأبدل - ضاق بهم الأمر؛ فمشوا إلى رسلهم، فقالوا: ادعوا ربكم فليرد علينا ما ذهب عنا، ونعطيكم ميثاقا أن نعبد اللَّه ولا نشرك به شيئًا، فدعوه، فردّ اللَّه عليهم، وجعل لهم ما ذكر من قرى ظاهرة؛ فذكرهم الرسل ما وعدوا ربهم؛ فأبوا؛ فغيّر ذلك. وسبأ: ذكر أن رجلا سأل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه، أخبرني عن سبأ أجبل هو أم أرض؟ قال: فقال له: " لم يكن جبلا ولا أرضًا، ولكن كان رجلا من العرب ولد عشر قبائل: فأما ست فتيامنوا وأما أربع فتشاءموا ".

(19)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان سبأ رجلا اسمه: سبأ، وسبأ هم الذين ذكرهم اللَّه في سورة النمل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو اسم قرية. وفي قوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) دلالة خلق الأفعال؛ لأنه أخبر أنه جعل بينهم وبين القرى المباركة قرى ظاهرة، والقرى: ما اتخذها أهلها، ثم أخبر أنه جعل ذلك، والجعل منه خلق؛ دل أنه خلق أفعال العباد، وأخبر -أيضًا- أنه قدر السير فيها، والسير هو فعل العباد، والتقدير هو الخلق أيضًا؛ دل أنه خلق سيرهم، وخلق اتخاذهم القرى، وذلك على المعتزلة؛ لإنكارهم خلق أفعال العباد. وقوله: (قُرًى ظَاهِرَةً)، قال عامة أهل التأويل: قرى متواصلة بعضها ببعض، يسيرون من قرية: إلى قرية، وينزلون فيها من غير أن تقع لهم الحاجة أو يلحقهم مؤنة. وجائز أن يكَون قوله: (قُرًى ظَاهِرَةً) نعمها بينة. وقوله: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ)، يحتمل قوله: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ)، أي: قدرنا فيها السير؛ لتسيروا فيها. أو على الأمر، أي: قدرنا فيها السير، وقلنا لهم: سيروا فيما أنعم اللَّه عليكم، وتقلبوا فيها ليالي وأيامًا آمنين من الجوع والعدو وكل آفة. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) أي: جعلنا ما بين القرية والقرية مقدارًا واحدًا. وقوله: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) فيه لغات من خمسة أوجه: أحدها: (رَبَّنَا بَاعِدْ). والثاني: (بَعِّدْ)، كلاهما على الدعاء والسؤال. والثالث والرابع: (بَعُدَ) و (بَعَّدَ). قال أبو معاذ: ولولا تغيير الكتابة لكان يجوز " بُوعِدَ ". ومن قرأه (رَبَّنَا بَاعَدَ) على الخبر، وكذلك (بَعَّدَ)، ومن قرأه (بَعُدَ بين أسفارنا). يخرج على الشكاية عما بعد من أسفارهم.

فأمَّا على السؤال والدعاء فهو - واللَّه أعلم - لأنهم سئموا وملوا؛ لكثرة ما أنعم الله عليهم، ورفع عنهم المؤن، وطال مقامهم فيها، سألوا ربهم أن يحول ذلك عنهم؛ سفها منهم وجهلا، وكان كقوم موسى: حين أنزل عليهم المن والسلوى، ورفع عنهم المؤنة سئموا وملوا في ذلك، وقالوا (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا)، وما ذكروا، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ. ومن قرأ (بَعُدَ بين أسفارنا)؛ على الشكاية - شكا إلى ربه لما ذهب عنهم السعة والخصب، وأصابهم الجهد والمؤنة. وأمَّا قوله: (بَاعَد) على الخبر؛ فكأنه كانت فيهم، وذلك كله منهم: فيهم من سأل تحويله، وفيهم من شكا إذا زال ذلك وتحول، وفيهم من أخبر بزواله. وعلى ذلك يخرج قول موسى لفرعون، حيث قال: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ)، لا أنه كان أحدهما؛ فعلى ذلك الأول وما يشبه ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ). أي: أهلكناهم كل إهلاك؛ حتى صاروا عظة وعبرة لمن بعدهم. وقال: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) للناس؛ على حقيقة الحديث، يتحدثون بأمرهم وشأنهم. (وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ). أي: فرقناهم كل تفريق، أي: في كل وجه التفريق؛ حتى وقع بعضهم بمكة، وبعضهم بالمدينة، وبعضهم بالشام، وبعضهم بالبحرين وعمان، ونحوه واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). يحتمل أن يكون الصبار والشكور هو المؤمن؛ كأنه قال: إن في ذلك لعبرًا وعظات لكل مؤمن. أو آيات لكل صبار على طاعة اللَّه وأمره، شكور لنعمه. أو آيات لكل صبار على البلايا والمحارم، شكور لنعم اللَّه. ثم يخرج على وجهين: أحدهما: في الاعتقاد له. والثاني: في المعاملة. يعتقد الصبر لربه على جميع أوامره ونواهيه، والشكر له على جميع نعمائه،

(20)

والمعاملة: أن يرصبر على ذلك، ويشكر له في نعمه. وقوله: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) اختلف في ظنه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ظن بهم ظنا، فوافق ظنه فيهم حين قال: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)، من عصمت مني، وما قال: (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ. . .)، إلى آخر ما ذكر، فقد صدق ما ظن فيهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ)، وذلك أن إبليس خلق من نار السموم، وخلق آدم من طين، ثم قال إبليس: إن النار ستغلب الطين؛ فمن ثمة صدق ظنه؛ فقال: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). يقول اللَّه: (فَاتَّبَعُوهُ). ثم استثني عباده المخلصين فقال: (إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). يعني: عباده المخلصين؛ فإنهم لم يتبعوه، الذين قال: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ). وقال قائلون: (مِن) هاهنا صلة؛ كأنه قال: (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، الذين هم مؤمنون، فرب الحقيقة، فأمّا من كان عندكم من المؤمنين في الظاهر فقد اتبعوه؛ لأنه لا كل مؤمن عندنا هو في الحقيقة مؤمن. أو أن يكون قوله: (فَاتَّبَعُوهُ) فيما دعاهم إليه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قال الحسن: واللَّه ما ضربهم بالسيف، ولا طعنهم بالرمح، ولا أكرههم، على شيء، وما كان منه إلا الغرور أو أماني ووسوسة دعاهم إليها؛ فأجابوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ)، أي: حجة، ليس له حجة عليهم، أي: لم يمكن من الحجة؛ ولكن إنما مكن لهم الوساوس والتمويهات، ثم جعل

(22)

اللَّه للمؤمنين مقابل ذلك حججا يدفعون بها شبهه وتمويهاته. وقوله: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ). هذا يخرج على وجوه: أحدها: ليعلم كائنا ما قد علمه غائبا عنهم. والثالث: يكني بالعلم عن معلومه، أي: ليكون المعلوم، وذلك جائز في اللغة؛ كقوله: (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، أي: الموقن به، وذلك كثير في القرآن. وقوله: (وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ). من الإيمان والشرك وغيره من الأعمال، حفيظ عالم به. * * * قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ). أنهم آلهة: الملائكة والأصنام ومن عبدوهم من دونه: هل يملكون لكم شيئًا من دفع ضر أو جز نفع؟! فيقول: (لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر؛ فكيف تسمونها: آلهة. أو أن يقول: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أنها آلهة؛ فليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم من الجوع وغيره؛ كقوله: (هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)؛ فالجواب لذلك أن يقولوا: لا يملكون مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر؛ فكيف يذكرون ما ذكر؟! يذكر - واللَّه أعلم - سفههم وفرطهم في عبادتهم من يعلمون أنه لا يضر ولا ينفع، وتسميتهم إياها آلهة.

(23)

(وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا). يعني: في خلق السماوات والأرض، وحفظهما، من تعبدون من دونه. (مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ). أي: من عونٍ في ذلك؛ فكيف سميتموها: آلهة وشركاء في العبادة. وقوله: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) يقول - واللَّه أعلم -: لا يملك أحد الشفاعة إلا لمن أذن اللَّه بالشفاعة له، فهو لم يأذن بالشفاعة لأحد من الكفرة؛ فذكر هذا - واللَّه أعلم -: لقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، ولقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). أو يذكر أن كل من ترجون منهم الشفاعة بالمحل الذي ذكرهم من الخوف والفزع؛ فكيف ترجون شفاعتهم؟! كقوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ). أو لا يملكون مثقال ذرة ولا أصغر منه ولا أكبر؛ فكيف يملكون الشفاعة لكم؟! أو نحوه من الكلام، واللَّه أعلم. وقوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ). ليس لهذا الحرف في ذا الموضع صلة يوصل بها، ولا تقدم بعطف عليه، وعلى الابتداء: لا يستقيم؛ فبعض أهل التأويل يقول: كان بين عيسى ومُحَمَّد فترة زمان طويل لا يجري فيها الرسل، فلما بعث اللَّه محمدا، وكلم جبريل بالرسالة إلى مُحَمَّد، سمع الملائكة ذلك؛ فظنوا أنها الساعة قامت؛ فصعقوا مما سمعوا، فلما انحدر جبريل جعل كلما يمر بهم - جلّى عنهم وكشف؛ فقَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ)، أي: الوحي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان الوحي إذا نزل من السماء نزل كأنه سلسلة على صخرة، قال:

(24)

فيفزع الملائكة بذلك؛ فيخرون سجدًا، (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ)، قال: إذا انجلى عن قلوبهم (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ). وقوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ)، قيل: جلّى وكشف الغطاء. قال الكسائي: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ) مشتقة من الفزع؛ كما تقول: هيبه عن قلبه وفرقه وفزع كله واحد. ومن قرأ: (فُرِّغ)، بالراء: أخرج وترك فارغا من الخوف والشغل، وهي قراءة ابن مسعود. قَالَ بَعْضُهُمْ - في قوله: (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ) يقول: يخبرون بالأمر الذي جاءوا به، ولا يقولون إلا الحق، لا يزيدون ولا ينقصون. وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)، أي: لا يملكون إنشاء ذرة في السماوات والأرض، (وَمَا لَهُمْ) في إنشائها (فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ) في إنشاء ذلك من عون؛ فكيف تعبدونهم وتسمونهم آلهة؟!. وجائز أن يكون قوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ). ذلك الفزع مهم وذلك القوك مهم في القيامة؛ فزعوا لقيامهات وقد قرئ (حَتَّى إِذَا فَزَّعَ)، بنصب الفاء، أي: حتى إذا فَزَّع اللَّه، أي: كشف اللَّه عن قلوبهم الفزع، وجلا ذلك عنهم، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) هذا في الظاهر وإن كان استفهامًا فهو على التقرير والإيجاب؛ لأنا قد ذكرنا: أن كل استفهام كان من اللَّه، فهو على التقرير والإيجاب. ثم لو كان ذلك ممن يكون منه الاستفهام، لكان جواب قوله: (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يقولون: اللَّه يرزقنا؛ كقوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. . .)، ثم قال في آخره: (فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ)، فيقول لهم: فإذا علمتم أن اللَّه هو رازقكم، فكيف صرفتم عبادتكم عنه إلى من تعلمون أنه لا يملك شيئًا من رزقكم؟! كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ)؛ إنه لا يملك غيره شيئًا من رزقكم.

(25)

ذكر في حرف ابن مسعود وحفصة: (قل من يرزقكم من السماء والأرض قالوا الله قال إني أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين). وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ) من المطر (وَالْأَرْضِ) النبات؛ فإن أجابوك، فقالوا: اللَّه، وإلا فقل: اللَّه يفعل ذلك بكم؛ فكيف تعبدون غيره. (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى). يقول ذلك رسول اللَّه لأهل مكة: إنا لعلى هدى أو إنكم لعلى هدى، وإنا أو إياكم لفي ضلال مبين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: معناه: وإنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين، ولكن ليس هذا في ظاهر هذا الكلام. وجائز أن يكون هذا على تعريض الشتم لهم بالضلال، والكناية لذلك كما يقول الرجل لآخر في حديث أو خبر يجري بينهما: إن أحدنا لكاذب في ذلك، أي: أنت كاذب في ذلك، لكنه تعريض منه بذلك ليس بتصريح. وقال قتادة: هذا قول مُحَمَّد وأصحابه لأهل الشرك: واللَّه ما نحن وأنتم على أمر واحد، واللَّه إن أحد الفريقين لمهتد، والفريق الآخر في ضلال مبين، فأنتم تعلمون أنا على هدى؛ لما أقمنا من الدلائل والحجج والبراهين على ذلك، وأنتم لا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قال ذلك؛ لأن كفار مكة قالوا للنبي وأصحابه: تعالوا ننظر في معايشنا: من أفضل دينا: أنحن أم أنتم؛ فعلى ذلك يكون في الآخرة؛ فرد اللَّه ذلك عليهم في قوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ. . .) الآية. وقوله: (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قَالَ بَعْضُهُمْ: قال ذلك؛ لأنهم كانوا يعيرون رسول اللَّه ويوبخونه في طعنه الأصنام التي عبدوها، وذكره إياها بالسوء، وما يدعون عليه من الافتراء بأنه رسول اللَّه، فيقول لهم: (لَا تُسْأَلُونَ) أنتم (عَمَّا أَجْرَمْنَا) نحن، (وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، وهو كقوله في سُورَةِ هود: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ). أو أن يكون قوله: (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا)، أي: عما دنَّا من الدِّين. أو عما عملنا من الأعمال، (وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أنتم عما تدينون من الدِّين؛ كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وكقوله: (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ)، وقوله: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) وإنَّمَا يقال هذا بعد ظهور العناد والمكابرة، فأما عند الابتداء فلا، واللَّه أعلم.

(26)

وقوله: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) هذا - واللَّه أعلم - صلة ما تقدم من قوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، وصلة قوله: (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا)؛ كأنهم قالوا لرسول اللَّه وأصحابه: إنا لعلى هدى، وأنتم على ضلال مبين؛ فقال عند ذلك جوابًا لهم: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا)، أي: يجمع بيننا، (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا)، أي: يقضي بيننا بالحق: من منا على الهدى؟ ومن منا على الضلال نحن أو أنتم؟ (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)، أي: وهو الحاكم العليم: ما ظهر وما بطن حقيقة، والمفاتحة هي المحاكمة، يقال: هلم حتى نفاتحك إلى فلان، أي: نحاكمك، وذلك جائز في اللغة. ويحتمل قوله: (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ)، أي: يكشف كل خفي منا وكل ستير وباطن؛ فيجعله ظاهرا بيننا؛ ليظهر الذي من هو على الحق من الباطل؟ والهدى من الضلال؟ (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)، أي: الكاشف المظهر العليم، يعلم الظاهر والباطن جميعًا، والإعلان والإسرار جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) أي: أروني الذين ألحقتم باللَّه شركاء في تسميتكم الأصنام: آلهة. أو أروني الذين ألحقتم به شركاء في العبادة. وجائز أن يكون قال ذلك للذين عبدوا الملائكة وأشركوا فيها؛ كأن فيه إضمارا، يقول: أروني الذين ألحقتم به شركاء: هل خلقوا شيئًا؟ أم هل رزقوا؟ أم هل أحيوا؟ أم هل أماتوا؟ فإذا عرفتم أنهم لم يخلقوا، ولم يرزقوا، ولا يقدرون ذلك، وعلمتم أن الله هو خالق ذلك كله، وهو الرزاق؛ فكيف أشركتم من لا يملك ذلك في ألوهيته؟ (كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). منهم من يقول: (كَلَّا) ردًّا على قولهم: شركاء، أي: ليسوا بشركائي؛ بل هو المتفرد الواحد الحكيم. ومنهم من يقول: هو رد على قوله: هل خلقوا شيئًا؟ أم هل رزقوا شيئًا؟! يقول: (كَلَّا)، أي: لم يخلقوا ولم يرزقوا؛ بل هو اللَّه المتفرد بذلك، واللَّه الموفق. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فُزِّعَ): ذهب. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فُزِّعَ): خفف.

(28)

قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ)، يا مُحَمَّد، (إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا)، بالجنة لمن اتبعه، (وَنَذِيرًا) بالنار لمن خالفه وعصاه. وقوله: (كَافَّةً لِلنَّاسِ)، قَالَ بَعْضُهُمْ، أي: ما أرسلناك إلا جامعًا للناس إلى الهدى داعيا إليه. ومنهم من يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)، أي: ما أرسلناك إلا إلى الناس جميعًا إلى العرب والعجم، وإلى الإنس والجن، ليس كسائر الأنبياء؛ إنما أرسلوا إلى قوم دون قوم، وإلى بلدة دون بلدة. وكذلك روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أعطيت أربعًا لم يعطهن نبي قبلي: أحدها (ما ذكرنا): بعثت إلى الناس جميعًا عامة: إلى الأحمر والأسود، والعرب والعجم، والثاني: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا، وأرعب لنا عدونا مسيرة شهرين، وأحلت لي الغنائم ". وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون). قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يصدقون، ويحتمل لا يعلمون، أي: لا ينتفعون بما يعلمون، ولا يعملون. أو لا يعلمون حقيقة؛ لما لم ينظروا إلى الحجج والآيات التي، قد مكن لهم:

(29)

لو نظروا علموا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) هذا القول منهم إنما يقولون على الاستهزاء والسخرية، ليس على الاسترشاد على أنه لا يكون ذلك، وأنه كذب؛ كقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا): أخبر أن أُولَئِكَ يستعجلون بها؛ لتركهم الإيمان بها استهزاء منه، والذين آمنوا خائفون منها؛ لإيمانهم بها أنها كائنة لا محالة، لكن اللَّه - سبحانه - لم يجبهم بما يجاب المستهزئ؛ ولكن أجابهم بما يجاب المسترشد؛ بلطفه وكرمه وجوده حيث قال: (قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) أي: لكم ميعاد اليوم الذي وعدكم مُحَمَّد أنه كائن لا محالة، وهو يوم (لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ)، وهكذا الواجب على كل مسئول إذا كان سائله سؤال استهزاء أن يجيبه جواب ما يجاب المسترشد، لا ما يجاب المستهزئ، ولا يدع علمه وحكمته لسفه السفيه، ولا لهزأ الهازئ، ولكنه يحفظ حكمته وعلمه وعقله، ولا يشتغل بجواب مثله، وباللَّه العصمة. وقوله: (لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ). فإن كان على طلب التأخير وطلب التقديم، ففيه تعيير وتوبيخ لهم؛ كأنه يقول: ليس لكم من الخطر والقدر والمنزلة ما يؤخر لكم ما تستأخرون أو يقدم لكم ما تستقدمون. وإن كان على تحقيق ترك التأخير وترك التقديم، كأنه يقول: ميعادكم يوم لا تملكون تأخيره إذا جاء، ولا تقديمه عن وقته ولا رفعه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) كأن هذا القول منهم - واللَّه أعلم - خرج عن مخاصمة وقعت بينهم وبين المؤمنين في شأن القرآن أو في شأن مُحَمَّد؛ فتحاكموا إلى أهل الكتاب على اتفاق منهم على ما في كتبهم، فلما خرج ذلك على موافقة قول المؤمنين، ومخالفة قول أُولَئِكَ - قالوا عند ذلك: (لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)، وإلا على الابتداء من غير تنازع وخصومة كان بينهم في ذلك غير مستقيم. ويذكر بعض أهل التأويل - ابن عَبَّاسٍ وغيره -: أن رهطا بعثهم قريش إلى المدينة إلى رؤساء اليهود؛ يسألونهم عن مُحَمَّد وبعثه؛ فأخبروهم أنه كائن وأنه مبعوث، فلما رجعوا إليهم فأخبروهم أنهم قد عرفوه، وهو عندهم في التوراة والإنجيل - فعند ذلك قالوا ما قالوا ثم كأنه اشتد ذلك على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وثقل عليه؛ فقال له على التعزية والتصبير على

(32)

ذلك: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ). أي: محبوسون عند ربهم، أي: على محاسبة ما كان منهم من العناد والمكابرة والتكذيب، أي: لو رأيتهم ما فيهم من الذل والهوان والخضوع لرحمتهم ولأخذتك الرأفة لهم، واللَّه أعلم. وقوله: (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ). أي: يلوم بإضهم بعضا؛ فيقولون ما ذكر. (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)، أي: السفلة والأتباع، (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)، أي: القادة منهم والرؤساء، (لَوْلَا أَنْتُمْ) فيما صرفتمونا عن دين اللَّه وصددتمونا عنه، (لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) به تابعين له؛ لأنهم كانوا يصدرون لآرائهم ويقبلون قولهم؛ لما هم كانوا أهل شرف ومعرفة، والسفلة لا، فيقولون: لولا أنتم لكنا نتبع رأي أنفسنا، فنؤمن به، لكن قلتم لنا: إنه كذب، وإنه افتراء، وإنه سحر؛ فنحن صدقناكم في ذلك. (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) قوله: (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ) هو على التقرير، أي: لم نصدكم، وإن كان ظاهره استفهامًا، ولكن أنتم بأنفسكم تركتم اتباعه؛ لأن الرؤساء منهم كانوا يقولون للأتباع: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ)، أخبروا أنه بشر مثلهم، ثم أخبروهم: أنكم إذا أطعتم بشرًا مثلكم إذًا تكونوا خاسرين، ونحن بشر، فكيف اتبعتمونا وأطعتمونا؟. (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ). في اتباعكم بما اتبعتموه. أو أن يكون قوله: (لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)، أي: لولا تلبيسكم علينا وتمويهكم أن الرسل كذبة، وأنهم سحرة فيما يقولون ويدعون، وأنهم يفترون على اللَّه - وإلا لكنا مؤمنين. والثاني: لولا منعكم إيانا عن النظر والتفكر في أمورهم، والتأمل في الحجج والآيات لكنا مؤمنين؛ هذا قول الأتباع للرؤساء. ثم أجاب لهم الرؤساء فقالوا: (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ)، يقولون - واللَّه أعلم -: إن صددناكم ومنعناكم عن اتباعهم ظاهرًا وعلانية؛ فمتى منعناكم سرا من غير أن نطلع ونعلم نحن بذلك. أو ما ذكرنا من قوله: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ)،

(33)

وقد عرفتم أنا بشر مثلكم فأطعتمونا وتركتم طاعة الرسل؛ لأنهم بشر؛ فأجاب لهم الأتباع فقالوا: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... (33) بل بمكركم إيانا، وقولكم في الليل والنهار: إنهم كذبة سحرة، وخداعكم إيانا، وإنهم بشر مثلكم؛ تركنا اتباعهم؛ (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا). أو يقولون: بل مكركم في الليل والنهار (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ)، أي: من تخويفكم إيانا وتهييبكم لنا من الأخذ على البغتة والغفلة - تركنا اتباعهم في السر إذا ظهر وبلغكم الخبر به. هذه مناظرات أهل الكفر فيما بينهم يومئذ، ورد بعضهم على بعض، ولعن بعضهم على بعض؛ يذكرها في الدنيا، ليلزمهم الحجة، وألا يقولوا يومئذ: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). فَإِنْ قِيلَ: إنهم كانوا لا يؤمنون بهذا القرآن ولا بالبعث؛ فكيف يلزمهم ذلك، وهم لا يستمعون له؟!. قيل: إنهم قد مكنوا من الاستمتاع والنظر فيه؛ فيلزمهم الحجة، وإن لم يستمعوا له، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أسروا الرؤساء الندامة؛ بصرف الأتباع وصرف أنفسهم عن دين الله واتباع الرسل لما رأوا العذاب. وقيل: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ): الأتباع والرؤساء جميعًا. وقوله: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: من الإسرار والإخفاء، أخفى بعضهم من بعض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أخفى الكفرة الندامة عن المؤمنين. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ)، أي: أظهروا، وهو من الأضداد، يقال: أسررت الشيء: أخفيته وأظهرته. وأما غيره من أهل التأويل فإنهم قالوا: هو من الإخفاء. وقوله: (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا). الأغلال: جماعة الغل: وهو ما يجعل في اليد، ثم يشد اليد إلى العنق.

(34)

(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). أي: لا يجزون إلا جزاء عملهم في الدنيا. * * * قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) قَالَ بَعْضُهُمْ: المترف: المتكبر. وقال آخرون: المترف هو الذي يجمع أصناف المال مع العناد والتكبر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المترفون هم الرؤساء منهم. وهذا ينقض على المعتزلة قولهم: إن اللَّه لا يفعل إلا ما هو أصلح له في الدِّين، ولا شك أن هَؤُلَاءِ المترفين إنما قالوا لما قالوا وفعلوا ما فعلوا؛ لسعتهم وبسطهم في المال؛ فلو لم يكن ذلك لهم - ما فعلوا ذلك، دل أن المنع لهم عن ذلك أصلح لهم من البسط، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا)، المترف ما ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المتكبر المتجبر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المترف: الذي يجمع مع الكبر والعناد الأموال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مُتْرَفُوهَا): أغنياؤها، وكله واحد، وهم رؤساؤها. وفيه رد قول المعتزلة في الأصلح، على ما ذكرنا. وقوله: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا ... (35) يخرج قولهم ذلك لوجهين: أحدهما: قالوا ذلك: إنا إذا أوتينا في الدنيا الأموال والأولاد؛ فلا يعذبنا في الآخرة على ما تزعمون. أو أن يقولوا ذلك: إنك لو كنت بعثت رسولا على ما تزعم، فنحن أولى بالرسالة

(36)

منك؛ لأنا أكثر أموالا وأولادًا، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) هذا أيضًا ينقض على المعتزلة ومن يقول بأن اللَّه لا يبسط على أحد الرزق؛ إذا لم يكن في البسط إصلاح له وخير، وكذلك لا يقتر على أحد ذلك إذا لم يكن في التقتير خير له. وعندنا: يبسط الرزق لمن يشاء وإن لم يكن خيرًا له، وكذلك يقتر على من يشاء، وإن كان شرَّا له؛ على ما نطق ظاهر الآية، ليس عليه حفظ الأصلح لهم ولا الخير، والله أعلم. وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). أي: لا ينتفعون بعلمهم، أو لا يعلمون حقيقة؛ لما تركوا النظر والتفكو، في أسباب العلم ليعلموا؛ فلا يعذرون لما مكن لهم العلم به. وقولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) قالوا ذلك؛ لما لم يروا في الحكمة أن يحسن أحد إلى عدوه، والسعة هي من الفضل والإحسان، ثم رأوا لأنفسهم ذلك، ظنوا أنهم أولياء اللَّه، وأن الرسل حيث ضيقت عليهم الدنيا إنما ضيقت عليهم الدنيا؛ لأنهم ليسوا بأولياء اللَّه؛ لذلك قالوا: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ). وهذا القول منهم لإنكارهم البعث: فإن كانوا مقرين به، لكانوا لا يقولون ذلك، ويعلمون أن السعة في الدنيا والضيق فيها بحق الامتحان، وأما إذا كان بعث ودار أخرى للجزاء - ففي الحكمة أن يجزى الولي جزاء الولاية، والمسيء من العدو جزاء الإساءة والعداوة. وأما الدار التي هي دار امتحان وابتلاء فيجوز ذلك بحق الامتحان في الحكمة؛ وكذلك خرج على الجواب لهم؛ حيث قال: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)، أي: يبسط الرزق لا لفضل وقدر له ونعمة عنده، ويقتر على من يشاء لا لعداوة وجناية كانت منه إليه بحق الامتحان؛ ألا ترى أنه قد وسع على بعض المؤمنين، وضيق على بعض أُولَئِكَ؛ فظهر أن التوسيع لأهل السعة ليس لفضل لهم وقدر، أو نعمة كانت لهم عنده حتى يكون ذلك منه مكافأة لذلك، وكذلك التضييق لأهل التضييق: لم يكن لخيانة أو إساءة كانت منهم إليه لما ذكر؛ ولكن لما ذكرنا؛ ألا ترى أنهم إذا رأوا أنه وسع على بعض وقتر على بعض - هلا علموا أنه يملك أن يوسع على من قتر عليه، ويقتر على من وسع عليه، فيكون في ذلك لهم ترغيب في التوحيد واختيار له، وتحذير عن الكفر وعما هم فيه؛ إذ يملك التقتير على من وسبع عليه والتوسيع على من قتر عليه؛ فيبطل هذا كله

(37)

قولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا. . .) الآية، ويبين أن التقتير والتوسيع ليس لفضل ولا لقدر ولا لنعمة ولا لخيانة ولا لذنب؛ ولكن للامتحان، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ... (37) ولكن ما ذكر؛ حيث قال: (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا). أي: ذلك الذي يقرب عندنا زلفى من أتى به، سواء كان له مال وولد أو لم يكن. (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا). من الناس من احتج بتفضيل الغناء على الفقر بهذه الآية، يقول: أخبر أن لهم جزاء الضعف إذا آمنوا وعملوا الصالحات بالأموال التي أعطاهم، وأما الفقير فليس له ذلك؛ إذ ليس له عنده كل ما يضاعف له، أو كلام يشبه هذا. وأما عندنا " أن قوله: (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا) لهم جزاء الضعف للصالحات والحسنات التي عملوها؛ لأن اللَّه وعد أن يجزي لكل من عمل بحسنة أو صالحة - عشر أمثالها، وذلك جزاء الضعف له، وذلك للغني والفقير جميعًا. وذكرنا في غير موضع أن التكلم في فضل الغناء على الفقر والفقر على الغناء كلام لا معنى له؛ لأنهما شيئان لا صنع لأحد في ذلك يمتحنان في تلك الأحوال: أحدهما بالشكر، والآخر بالصبر؛ فمن وفَّى بما امتحن هو في تلك الحال، فهو أفضل ممن لم يَفِ بذلك، وبه يستوجب الفضل إن استوجب، فأمَّا بنفس تلك الحال فلا، لكن من يفضل الغناء على الفقر يذهب إلى أن اللَّه - تعالى - سمى الضيق: بلاء وشرًّا في غير موضع من القرآن، وسمى السعة: خيرًا ونعمة وحسنة في غير موضع، ولا شك أن الخير والحسنة أفضل وأحمد من الشر والسيئة؛ فلو لم يكن هذا شرًّا وسيئة في الحقيقة - لم يسمه بذلك، ولو لم يكن هذا خيرا - لم يسمه. ومن يقول بتفضيل الفقر يذهب إلى أن الغني إذا أعطى وبذل إنما استوجب ذلك الفضل؛ لما يفقر نفسه ويحوج، وأصله ما ذكرنا. وقوله: (وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ). من صاحبه النعمة، ويحزنه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) أي: يسعون في آياتنا سعي من يكون معاجزا، لا سعي من لا يكون، وهو ما قال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ)، أي: يعملون عمل من يحسب أنه يسبق، لا عمل من لا يسبق، وهو كقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ)، لا أحد يقصد قصد

(39)

مخادعة اللَّه؛ لعلمه أنه لا يخادع؛ ولكن كأنه قال: يعملون عمل من يخادع اللَّه، لا عمل من يعلم أنه لا يخادع؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقوله: (فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ): إنما كان سعيهم في الآيات في آيات الوحدانية أو آيات النعمة أو آيات الرسالة؛ ليسقطوا عن أنفسهم مؤنة ذلك، وقبولها، والعمل بها. (أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ). قَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا): لم يرد فيما يرى أهل النظر - والله أعلم - أنهم يجازون عن الواحد بواحد مثله ولا اثنين، وكيف يكون هذا واللَّه يقول: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، و (خَيْرٌ مِنْهَا)؟! ولكنه أراد: (لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ): إنما هو مثله يضم إلى مثل إلى ما بلغ، وكأن الضعف: الزيادة، أي: لهم جزاء الزيادة، ويجوز أن يجعل الضعف في معنى جميع، أي: جزاء الأضعاف، ونحوه: (فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا) أي: جَعَلْتَ مثله. وخبط مضاعف، أي: قد ضم إليه خبط آخر قد قتلا. قال: (زُلفَى) هي الدنوّ، يقال: تزلفت إليه ومنه، أزلفته: أدنيته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: قربة ومنزلة عندنا، وهما واحد، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى) هو ذكر الأموال والأولاد، ثم ذكر (التي) بالتأنيث؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا من مقاديم الكلام؛ كأنه قال: وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم، ولولا ذلك لغلب فعل الآدميين، فعل الأموال. قال أبو معاذ: يجوز أن تجمع الأموال والأولاد، ثم تقول: " التي "؛ لأنك تقول: ذهبت الأموال وهلكت الأولاد؛ كقوله: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا)، و (قَالَتْ رُسُلُهُمْ)، ونحوه كثير من القرآن؛ فعلى ذلك عند الجمع. وقوله: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فَهُوَ يُخْلِفُهُ): في الدنيا والآخرة؛ لأن ما أنفق العبد لو كان اللَّه أخلفه له في الدنيا ما أحصى أحدكم ماله، ولا يجد مكانًا يجعله فيه، أو كلام هذا معناه. وقال آخر: كل نفقة كانت في طاعة اللَّه فإن اللَّه يخلفها في الدنيا، أو يدخرها لوليه في الآخرة. ومجاهد يقول: إذا أصاب أحدكم مالا، فليقصد في النفقة، ولا يتأولنّ قوله: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)؛ فإن الرزق مقسوم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) إذا كانت في غير إسراف ولا تقتير. وهذه التأويلات كلها ضعيفة؛ لأن الآية كانت - واللَّه أعلم - في منع أُولَئِكَ الإنفاق؛ مخافة الفقر وخشية الإملاق؛ لأنها نزلت على أثر قول الرجل: (إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ)، يقول - واللَّه أعلم - تعلمون أن اللَّه هو الباسط لكم والموسع عليكم وعلى الخلق كله الرزق، وهو المقتر أيضًا على من شاء التقتير عليه، فإذا كنتم تعلمون أنه هو الفاعل لذلك؛ فكيف تمتنعون عن الإنفاق خشية الفقر؟! فهو القادر على البسط والخلف لما أنفقتم، وهو القادر على التقتير من غير إنفاق كان منكم. أو أن يذكر هذا؛ ليقطعوا أطماعهم عن الخلق من الناس والبذل لهم، على ما ينفق الرجل من النفتة؛ فيطمع من الناس البر له والمكافأة لما أنفق؛ فيقول: اقطعوا الطمع من الناس فيما تنفقون؛ فإن اللَّه هو المخلف لذلك لا الناس. ويحتمل ما قال ابن عَبَّاسٍ: إنه يخلف في الآخرة؛ إذ لو أعطى لكل رجل أنفق في الدنيا خلفًا - ما أحصى أحدكم ماله، ولا أين يجعله؟ يكون هذا هكذا إذا كان الخلف من نوع ما أنفق وأعطى، فأمَّا إذا جاز أن يكون الخلف من نوع ما أنفق، ومن غير نوعه: من نحو ما يدفع عن المرء وعن المتصلين له من أنواع البلايا والشدائد، ويعطيه من أنواع النعم من السلامة له في نفسه ودينه والصحة وغير ذلك مما لا يحصى، فذلك كله بدل وخلف عما أنفق، وذلك أنه إذا علم في سابق علمه أنه ينفق جعل ذلك في الأصل خلفًا عما أنفق؛ وعلى ذلك يخرج ما روي: " أن صلة الرحم تزيد في العمر ": إذا علم أنه

(40)

يصل رحمه زاد في عمره في الأصل ما لو يعلم أنه لا يصل رحمه، لكان يجعل عمره دون ذلك؛ فعلى ذلك الأول. وروي عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وكل معروف صدقة، وما أنفق المرء على نفسه وأهله، أو وقى به عرضه فهو له صدقة، وكل نفقة أنفقها مؤمن؛ فعلى اللَّه خلفها ضامنا، إلا نفقة في معصية أو نفقة في بنيان "، أي: لا يحتاج إليه. * * * قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا): الملائكة ومن عندهم، ثم نقول للملائكة: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ... (41) لأنه قال لهم: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ). ليس قول الملائكة فيما خاطبهم ربهم لما خوطبوا بقوله: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ)؛ حيث قالوا: (سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)؛ لأنه قال لهم: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ)؛ فجوابهم أن يقولوا: بلى أو لا، فأما أن يكون قولهم: (سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ) أعلم منا - (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ. . .) الآية - جوابًا لذلك؛ فلا يحتمل إلا أن يقال: إن أُولَئِكَ الكفرة ادعوا على الملائكة الأمر لهم بالعبادة إياهم دون اللَّه؛ فهنالك يحتمل أن يقول: أهَؤُلَاءِ عن أمركم عبدوكم؛ فعند ذلك قالو: (سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)، ونحن براء منهم، ما أمرناهم بعبادتنا، وأنت أعلم منا، بل كانوا يعبدون الجن؛ بل كانوا أطاعوا أمر الجن والشياطين في ذلك؛ إذ لو كنا أمرناهم بذلك - لم نكن أولياءك، ولا كنت أنت ولينا من دونه، وهذا كما يقول لعيسى؛ حيث قال اللَّه: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وقد كان علم - جل وعلا - أنه لم يقل ذلك، ولكن كأن أُولَئِكَ ادعوا عليه الأمر والقول لهم في ذلك، فذكر ذلك لعيسى؛ تعييرًا لهم وتوبيخا على صنيعهم، وإظهارًا لكذبهم في دعواهم؛ فعلى ذلك الأول يحتمل أن يخرج على ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ). هم كانوا لا يقصدون عبادة الجن؛ ولكن لما بأمرهم كانوا يعبدون ما يعبدون؛ نسب العبادة إليهم كقوله: (يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ)، وهو كقول

(42)

إبرإهيم: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)، وهم كانوا لا يقصدون بعبادتهم الشيطان، لكنهم لما عبدوا من دونه بأمر الشيطان - نسب العبادة إليه؛ كأنهم عبدوه. وقوله: (فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) أي: لا يملك يوم القيامة ما أملوا أو طمعوا من عبادتهم لأُولَئِكَ من التقريب لهم إلى اللَّه زلفى، والمئمفاعة لهم عنده؛ لقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، يقول: لا يملك بعضكم لبعض ما أملوا أو طمعوا من عبادا تهم لأُولَئِكَ. (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ). أي: كنتم تكذبون الرسل بما أوعدكم بها في الدنيا. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ). قد ذكرنا الإيات والبينات في غير موضع. وقوله: (مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ): كل رسول يريد أن يصد قومه عما كان يعبد آباؤهم من الأصنام والأوثان، لكن هذا القول من أُولَئِكَ الرؤساء إغراء للأتباع على الرسل، يقولون: ألا ترون أن واحدًا قد خالف الآباء وي دينهم، ويريد أن يصذكم عن دين آبائكم. و (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى). أي: ما يدعو مُحَمَّد إلبه ليس إلا إفك مفترى. (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). وقوله: (لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ)، أي: ما جاء للحق وهو القرآن والتوحيد من البيان

(44)

والإيضاح له أنه الحق، وأنه من عند اللَّه جاء، وهو الآيات والبراهين التي جاءت له أنه حق وأنه من عند اللَّه جاء، لا أنه مفترى وإفك وسحر ما تزعمون، ولم تزعموا، ولم يزل طعن أُولَئِكَ الكفرة في الآيات والحجج: بأنها سحر، وأنها إفك، وأنها مفترى، يلبسون بذلك على أُولَئِكَ الأتباع والسفلة، ويموهون عليهم ويغرون؛ لئلا يتبعوه، ويستسلموا لهم، واللَّه أعلم. وقوله (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وهو - واللَّه أعلم - صلة (مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ) وقالوا (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، وقولهم: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، يقول - واللَّه أعلم - جوابًا لقولهم: (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا) فتخبرهم أن ما يقول مُحَمَّد إفك مفترى، ولا أرسلنا إليهم أيضًا من قبله رسولا يخبرهم: أنه كذب مفترى، وظهور الكذب في القول والخبر إنما يكون بأحد هذين الأمرين إما بكتاب أو نبي، وهم لا يؤمنون بكتاب ولا نبي، فكيف يدعون عليه الكذب والافتراء؟! يخبر عن سفههم وقلة عقولهم وعنادهم بعدما خصهم - عَزَّ وَجَلَّ - وفضلهم على غيرهم من البشر؛ حيث بعث الرسول منهم ومن أنفسهم، والكتاب على لسانهم وبلغتهم بعد قسمهم: إنه لو بعث إليهم نذيرًا ورسولا اتبعوه حيث قالوا: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ)، لم يؤمنوا به، ولم يعرفوا منة اللَّه عليهم وخصوصيتهم فيما خصهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... (45) يذكر رسوله ويصبره على تكذيب أُولَئِكَ له، يقول: قد كذب الذين كانوا من قبلهم رسلهم، لست أنت بأول مكذب بل كذب إخوانك من قبل، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ). يقول - واللَّه أعلم -: لم يبلغ هَؤُلَاءِ الذين كذبوك عشر أُولَئِكَ في القوة والغناء والفضل والعلم والأتباع والأعوان وغير ذلك مع ما كانوا كذلك لم يقوموا في دفع العذاب الذي نزل بهم بالتكذيب عن أنفسهم، فقومك الذين هم دون أُولَئِكَ بما ذكروا أحق ألا يقوموا لدفع العذاب عن أنفسهم إذا نزل بهم بالتكذيب. وقوله: (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ). يقول - واللَّه أعلم -: أليس وجدوا عذابي حقا. قال الزجاج: هو " نكيري " بالياء، لكن طرحت الياء؛ لأنه آخر الآية وختمها، فأبقيت

(46)

الكسرة علامة لها أو كلام يشبه هذا. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: نكيري: عقوبتي. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: إنكاري. وقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قَالَ بَعْضُهُمْ: (بِوَاحِدَةٍ) أي: بكلمة الإخلاص والتوحيد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: بطاعة اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِوَاحِدَةٍ) أي: بكلمة واحدة؛ كقول الرجل لصاحبه: أكلمك كلمة واحدة، واسمع مني كلمة. لكن الواحدة التي وعظهم بها عندنا ما ذكر على أثره حيث قال: (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى) جميعًا (وَفُرَادَى) وتتفكروا وتنظروا فيما بينكم: هل رأى أحد منكم به جنونًا قط؟ وقَالَ بَعْضُهُمْ: يريد بالمثنى: أن يتناظر الرجلان في أمر النبي، (وَفُرَادَى)، أي: تفكير واحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يريد بالمثنى: أن يتناظر الرجلان في أمر النبي؛ فإن ذلك ما دل على أن النبي ليس بمجنون، ولا كذاب على ما تزعمون. ثم كان الذي حملهم على أن نسبوه إلى الجنون وجوهًا: أحدها: أنهم رأوه قد خالف الفراعنة والجبابرة الذين كانوا يقتلون من خالفهم على الغضب في أدنى شيء بلا أعوان ولا أتباع له، فقالوا: لا يخاطر بهذا إلا من به جنون؛ فنسبوه إلى الحنون. والثاني: أنهم رأوه قد خالف دينهم ودين آبائهم جملة من بينهم، فقالوا: لا يحتمل أن يصيب دينًا بعقله من بين الكل لا يصيب أحد ذلك، فاتهموه في العقل. والثالث: أنه كان في حال صغره وصباه، لم يروه اشتغل بشيء من اللعب وخالط الصبيان في شيء من أمورهم، بل اعتزلهم من حال صباه إلى آن الوقت الذي بلغ، فقالوا: إن به جنونًا وإلا لم يعتزل الناس كل هذا الاعتزال. ثم أخبر أنكم لو تفكرتم ونظرتم ثم عرفتم أن ليس بصاحبكم جنون: (إِنْ هُوَ) أي:

(47)

ما هو (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) في الآخرة إن عصيتم، أي رسول اللَّه إليكم ونذير مبين، بين يدي عذاب شديد في الآخرة إن عصيتم عوقبتم في الآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) يقول - واللَّه أعلم -: ألا يتفكر الرجل منكم وحده أو مع صاحبه، فينظر أن في خلق السماوات والأرض وما بينهما الذي خلق هذه الأشياء وحده أنه واحد لا شريك له، وأن محمدًا لصادق في قوله بأن اللَّه واحد لا شريك له، وما به جنون إن هو إلا نذير. وقوله: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه سأل، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه سأل قومه أن يودُّوا قرابته وألَّا يؤذوهم؛ كقوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، وما قال في آية أخرى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)، يقول: (مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) يعني: المودة في القربى (فَهُوَ لَكُمْ)، أي: الذي سألتكم هو لكم وهو المودة في القربى واتخاذ السبيل إلى ربي. والثاني: قوله: (مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)، أي: لم أسألكم على تبليغ الرسالة إليكم أجرًا منكم، فيمنعكم ثقل ذلك الأجر وغرمه عليكم عن الإجابة؛ كقوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ). وقوله: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ). أي: ما أجري إلا على اللَّه. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). بأني نذير وما بي جنون. أو هو على كل شيء شهيد بأني لم أسألكم عليه أجرًا. أو على كل شيء من صنيعكم شهيد عالم به، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ... (48) هذا يحتمل وجوهًا: يحتمل: (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ)، أي: يقضي بالحق، أو (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ)، أي: يتكلم بالوحي ويلقيه. وقوله: (عَلَّامُ الْغُيُوبِ). كل شيء غاب عن الخلق، وقد ذكر في غير موضع. وقوله: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ما يبدئ الأوثان والأصنام التي عبدوها (وَمَا يعُيدُ)، أي: لا تخلق

(50)

شيئًا ولا تحييه ولا تميته؛ كقوله: (وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا يُبْدِئُ) الشيطان الخلق فيخلقهم (وَمَا يعُيدُ) خلقهم في الآخرة فيبعثهم بعد الموت، بل اللَّه يفعل ذلك. أو أن يكون قوله: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ) أي: حجج الحق، (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ)، وما أبدأ الباطل، أي: لا يقذف بحجج الحق علام الغيوب: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما ذكر في آية أخرى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ. . .) إلى آخر الآية، قال: يزهق الباطل ويثبت الحق، أي: نقذف بالحق على الباطل فيهلك الباطل، ويثبت الحق، وهو أيضًا ما ذكر: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ). وقوله: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ ... (50) بكسر اللام ونصبها كلاهما لغتان. قال الكسائي: تقول العرب: ضَلَّ يَضَل ضلالة، وضَلَّ يَضِلُّ بالخفض والنصب جميعًا. ثم قوله: (إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي) يخرج على وجهين: أحدهما: إن ضللت فإنما يكون ضرر ضلالي على نفسي، لا يكون على اللَّه من ذلك شيء؛ كقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، وقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا). والثاني: إنا ضللت فإنما يكون ذلك على نفسي، ولا يكون على أنفسكم من ضلالي شيء؛ كقوله: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)، ونحوه. وقوله: (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)، هذا يخرج أيضًا على وجهين: أحدهما: وإن اهتديت إلى طاعة اللَّه وشرائع الدِّين فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي في ذلك، أي: فبوحيه اهتديتا إلى ذلك. والثاني: وإن اهتديت إلى دينه وهدايته فبتوفيقه إياي وعصمته اهتديت، أضاف الهداية إلى اللَّه والضلال إلى نفسه، فهو لما ذكرنا أن كان من اللَّه إليه لطف في ذلك ليس ذلك في الضلال، وعلى قول المعتزلة يجيء أن يكون المعنى فيها واحدًا؛ لأنهم يقولون: إنه لا يكون من اللَّه سوى الأمر، والنهي؛ فلا يكون منه إليه في الهداية إلا كما كان منه إليه في الضلال، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ).

(51)

قَالَ بَعْضُهُمْ: (سَمِيعٌ) أي: مجيب للداعي؛ كقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (سَمِيعٌ) لمقالتكم لمُحَمَّد، حيث قالوا له: لقد ضللت حين تركت دين آبائك، (قَرِيبٌ)، أي: مجيب له. وقيل: (سَمِيعٌ) الدعاء (قَرِيبٌ) الإجابة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: وذلك أنهم بعثوا بعثين قاصدين تخريب الكعبة، فلما بلغوا البيداء خسف أحدهما والآخر ينظر وينفلت منهم مخبر، فيحول وجهه في قفاه فيخبرهم بما لقوا؛ وذلك قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا) من الخسف والعذاب (فَلَا فَوْتَ) عن عذاب الله (وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ). أو من تحت أقدامهم يخسف بهم الأرض؛ وعلى ذلك يخرج قوله: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)، من تخريب الكعبة كما فعل بأشياعهم من قبل، وهم أصحاب الفيل؛ وعلى ذلك روي عن أم سلمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فلا ينفلت منهم إلا واحد يخبر عنهم "، قالت: يا رسول اللَّه، وإن كان فيهم المكرَه؟ قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يبعثون على نياتهم ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ) وهو عند الموت يفزعون منه، ولا فوت لهم عنه، (وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) أي: على المكان: والحسن يقول: (فَزِعُوا) من القبور (فَلَا فَوْتَ) يقول: أخذوا عند ذلك وهو المكان القريب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك عند القيامة يفزعون عند معاينتهم العذاب، وأفزعهم ذلك ولا يفوتون اللَّه.

(52)

(وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ ... (52) وهو كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. . .) الآية؛ وكقول فرعون حين أدركه الغرق: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ)، ونحوه. وقوله: (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) أنهم سألوا الرجعة والرد أن ينالوه من مكان بعيد؛ قالوا: من الآخرة إلى الدنيا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لا سبيل لهم إلى الإيمان في ذلك الوقت، وقد كفروا به من قبل في حال الدعة والرخاء فلم يؤمنوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)، أي: من حيث لا ينال ولا يكون؛ فذلك البعيد؛ كقول اللَّه: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)، أي: من حيث لا يكون أبدًا ليس على إرادة حقيقة المكان. وقتادة يقول: هو عند الموت وعند نزول العذاب بهم، ليس من أحد بلغ ذلك الوقت إلا وهو يؤمن ويتمنى الإيمان لكن لا ينفع، كقوله: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا. . .) الآية، على ما ذكر. وقوله: (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) قَالَ بَعْضُهُمْ: معناه - واللَّه أعلم -: وذلك أنهم كانوا في الدنيا يشكون في الآخرة، ويكفرون بالغيب، ويرجمون بالظن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ)، أي: يتكلمون بالإيمان من مكان تباعد عنهم، فلا يقبل منهم: وقد غاب عنهم الإيمان عند نزول العذاب، فلم يقدروا عليه، (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ... (54) من قبول التوبة والإيمان عند نزول العذاب بهم، أو عند معاينتهم إياه، كما فعل بأشياعهم من قبل، يقول: كما عذب أوائلهم من الأمم الخالية من قبل هَؤُلَاءِ؛ لأنهم كانوا في شك من العذاب أو البعث والقيامة مريب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) من أهل أو مال أو زهرة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ): هو قولهم: هو ساحر هو شاعر كاهن. والتناوش عند عامة أهل التأويل: التناول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرجعة والرد إلى الدنيا. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: التناوش: التناول من موضع بعيد لا يكون من قريب. والْقُتَبِيّ يقول: (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ)، أي: تناول ما أرادوا بلوغه وإدراك ما طلبوا من التوبة من الموضع الذي لا يقبل فيه التوبة. قال أبو معاذ والزجاج: الناش في كلام العرب: الطلب، تقول: ناشت إليه، أي: طلبت منه، لكن هذا ليس من باب التناوش. وقوله: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ). هو ما ذكرنا من اختلافهم: منهم من قال: بين الإيمان والتوبة، ومنهم من قال: بين شهواتهم التي كانت لهم في الدنيا، لكن كأنه على الإيمان والتوبة، فإنما حيل بينهم وبين القبول للإيمان والتوبة، وإلا نفس الفعل قد أتوا به، وإن كان على الشهوات فهو على حقيقة حيلولة الفعل، وكذلك إن كان على تخريب البيت على ما يقوله بعض أهل التأويل، واللَّه أعلم. وقوله: (كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (بِأَشْيَاعِهِمْ): أمثالهم وأشباههم، فهو - واللَّه أعلم - بأشباههم وأمثالهم في التكذيب والجحود. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من شيعة الرجل. وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)، من العذاب بأنه غير نازل بهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا في شك من البعث والإحياء بعد الممات وشكهم وريبهم؛ لما استبعدوا الإحياء بعد الهلاك وبعدما صاروا رمادًا، فمن هذه الحجة أنكروا، ثم لم يروا خلق الشيء للفناء خاصة، لا لعاقبة وحكمة، فارتابوا في ذلك، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة فاطر

سُورَةٍ فَاطِرٍ وهي نزلت بمكة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). ما ذكر في القرآن الحمد لله إلا وذكر على أثره التعظيم لله والإجلال له على ما أنعم به على الخلق؛ ليلزمهم الشكر له والثناء عليه؛ نحو ما ذكر: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ونحو ما قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ... ) الآية، ونحو قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .) الآية، وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ. . .) الآية، وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا. . .) الآية، جميع ما ذكر في القرآن من الحمد له ما ذكر على أثره ما يوجب التعظيم له والتبجيل والثناء عليه والشكر له؛ تعليمًا منه الخلق الثناء على ذلك والشكر له، وباللَّه المعونة والقوة على ذلك. وقوله: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الفاطر: هو المبتدئ والبادئ؛ وهو قول الْقُتَبِيّ من أهل الأدب، وكذلك ذكر عن ابن عَبَّاسٍ أنه قال: " ما أدري ما (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، حتى جاء أعرابيان فاختصما في بئرٍ، فقال أحدهما: أنا فطرتها أنا بدأتها، فعند ذلك عرفت "، أو كلام نحوه. ويجيء أن يكون الفاطر هو الشاق، أي: شق السماوات كلها من واحدة وكذلك الأرضين كقوله: (إذَا السَّمَاءُ انفَطَرَت) أي: انشقت؛ كما قال: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) أي: الشاق. لكن جميع ما أضيف إلى اللَّه من الشق والفطر والجعل وغيره من نحو قوله: (جَاعِلِ

(2)

الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا) كله على اختلاف الألفاظ عبارة عن الخلق، أي: خلاق ذلك كله. وأصل الخلق في اللغة هو التقدير، خلقت، أي: قدرت؛ وكذلك قال الكسائي: إن الفطر في كلام العرب هو الشق، معناه: أنه شق من السماء ست سماوات ومن الأرض مثلهن، ومنه الحديث: " حتى تفطرت قدماه دمًا ". وقوله: (جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا). ففي ظاهر الآية: أنه جعل جميع الملائكة رسلا، فإن كان على ذلك فكأنه ولَّى كل واحد منهم أمرًا من أمور الخلق والعباد، وإن كان على البعض فيكون تأويله: جاعل من الملائكة رسلا أو في الملائكة رسلا. ثم أخبر عن الملائكة: أنهم أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع يطيرون بها، ليس كالطيور التي تطير بجناحين لو زيد لها جناح أو جناحان يمنعها عن الطيران، كالأصبع الزائدة لبني آدم تمنعهم عن بعض العمل، ولا تزيد لهم نفعًا بل تنقص، وأمَّا ما ذكر من عدد الأجنحة للملائكة فذلك لا يمنعهم عن الطيران، بل زيد لهم قوة ومقدرة على ذلك. ثم قال: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: يزيد في الملائكة على أربعة أجنحة ما يشاء (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) من خلق الأجشة في الزيادة (قَدِيرٌ). وذكر أن لإسرافيل ستة أجنحة، ولجبريل ستمائة جناح، ذكر عن ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - يقول: " أري رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جبريل، وله ستمائة جناح ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) أي: الصوت الحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشعر الحسن. فهو فيما ذكروا من الزيادة في الأجنحة أشبه وأقرب. (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): من الزيادة والابتداء، ولا يصعب عليه. وقوله: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) عن ابن عَبَّاسٍ: من عافية. وقال قتادة: أي: من خير. وقال مقاتل وغيره: أي: من رزق؛ كقوله: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ)

أي: من رزق، وكله واحد؛ إذ الخير يشتمل على العافية والرزق، وكذلك كل واحد من ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرحمة والغيث والمطر، وهو ما ذكرنا كله يرجع إلى واحد من ذلك. ثم قوله: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) يخرج على وجهين: أحدهما: على تسفيه أحلام الكفرة في عبادتهم الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه، يقول - واللَّه أعلم -: تعلمون أنتم أنه ليس لكم مما تعبدون من دون اللَّه جر نفع أو خير، ولا كشف ضر عنكم أو سوء فكيف تعبدونها؟! كقوله: (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ. . .) الآية، أي: تعلمون أنهن لا يملكن ذلك، واللَّه هو المالك لذلك كله، فكيف صرفتم العبادة إليها عنه؟! أو يقول: إنكم تعلمون أن ما تعبدون من الأصنام من دون اللَّه لا يرزقونكم ولا منها تبتغون الرزق، ولا كانت منها إليكم سابقة نعمة، فإنما يعبد لإحدى هذه الوجوه من يعبد: ما لسابقة نعمة، أو نيل خير، أو جر نفع، أو كشف ضر، أو دفع سوء، أو طمع في العاقبة، فإذا لم يكن شيء من ذلك من الأصنام ومن اللَّه ذلك كله فكيف صرفتم عبادتكم عنه إليها؟! كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، هذا إذا كان قوله: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) راجعًا إلى الكفرة وإذا كان ذلك راجعًا إلى المؤمنين فهو يخرج على وجهين: أحدهما: فيه قطع الطمع من الخلق والإياس عما في أيديهم، وألا يرجوا من دونه ولا يخافوا غيره، بل فيه الأمر بأن يروا ذلك كله من اللَّه، وأنه هو المالك لذلك دون الخلق. والثاني: قطع طمع الرزق من المكاسب والأسباب التي يكتسبونها والأمر فيها - أعني: المكاسب - أن يرونها تعبدًا، وأن يروا أرزاقهم من فضل اللَّه. وعلى قول المعتزلة إذا فتح اللَّه لأحد رحمة يقدر عبد في أن يمسك ذلك، وإن أمسك هو قدر أن يرسل؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه إذا جعل لأحد أجلا وضمن له الحياة ووفاء الرزق إلى مضي الأجل، يجيء عدو من أعدائه فيقتله قبل انقضاء أجله واستيفاء رزقه؛ فذلك منع - على قولهم - عن وفاء ما ضمن وما جعل له من المدة والأجل.

(3)

وفي حرف ابن مسعود: (ما يفتح اللَّه على الناس من رحمة). وقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): قد ذكرناه في غير موضع. وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) كأنه هو صلة ما تقدم. ثم هو على التقرير والإيجاب وإن خرج مخرج الاستفهام في الظاهر، كأنه يقول - واللَّه أعلم -: إنكم تعلمون أنه هو رازقكم دون من تعبدون. (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). أي: لا إله إلا هو، فما الذي حملكم على إفككم وكذبكم أنها شركاؤه وأنها آلهة، وأنها شفعاؤكم عند اللَّه وأن عبادتكم إياها تقربكم إلى اللَّه زلفى - كتاب أو رسول، وأنتم لا تؤمنون بكتاب ولا رسول فمن أين تؤفكون وتكذبون؟! واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) معلوم أنهم كانوا لا يكذبونه في قوله: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ)، ولا في قوله: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ)؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه ليس من خالق غير اللَّه ولا فاتح رحمة سواه إذا كان هو ممسكها، ولا ممسك لها إذا كان هو مرسلها، ولكن إنما يكون تكذيبهم إياه فيما يخبر أنه رسول اللَّه إليهم، كذبوه في الرسالة أو فيما يخبر أنه أوحي إليه من اللَّه كذا، أو فيما يخبر عن البعث بعد الموت أنه كائن، وأمثال ذلك، فأما فيما ذكرنا فلا، وهو تعزية منه لرسوله ليصبر على تكذيبهم إياه؛ ليعلم أنه ليس بأول مكذب، بل قد كان إخوانه من قبل قد كذبوا من قبل فيما أخبروا قومهم عند اللَّه، فصبروا على ذلك، فاصبر أنت أيضًا؛ كقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. . .) الآية، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). وإلى اللَّه يرجع تدبير الأمور، أي: لا تدبير للخلق في ذلك. أو يقال: إلى اللَّه يرجع الحكم في الأمور هو الحاكم فيها؛ كقوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ

(5)

حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... (5) قال عامة أهل التأويل: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي: البعث أنه كائن لا محالة. وجائز أن يكون قوله: (وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) فيما وعد من الثواب على الطاعات، ووعده حق فيما أوعد من العقاب على السيئات أنه يكون، واللَّه الموفق. وقوله: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). معنى قوله: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) - واللَّه أعلم - أي: لا تشغلنكم الحياة الدنيا عن ذكر الحياة الآخرة، ولا تنسينكم الحياة الدنيا عن حياة الآخرة، وإلا الدنيا لا تغر أحدا في الحقيفة، وكذلك هي ليست بلعب ولا لهو، ولا هي غارَّة، ولكن يُغر أهلها بها لما غفلوا عما جعلت هي وأنشئت، وهو ما ذكرنا: أنها جعلت زادا للآخرة وبلغة إليها، فمن لم يجعلها زادًا ألآخرة ولا بلغة إلى الوصول إلى الآخرة، ولكن جعلها في غير ما جعلت هي وأنشئت وهي الحياة فيها والمقام بها - صارت لعبًا ولهوًا، وصارت غرورًا؛ إذ صيروها كالمنشأة لنفسها لا للآخرة، وهذا كما قال: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، أخبر أن السورة كانت تزيد لأهل الإيمان إيمانا، ولأهل الكفر والنفاق رجسًا وعمى، والسورة لا تزيد رجسًا ولا عمى في الحقيقة؛ لأنه وصف القرآن بأنه نور وأنه هدى ورحمة وبرهان، ولكن صار عمى ورجسًا لمن أعرض عنه وكذب ورده، وأما من تلقاه بالقبول وأقبل عليه، ونظر إليه بالتعظيم والإجلال له والخضوع - فهو له نور وهدى ورحمة؛ فعلى ذلك الدنيا وما فيها من النعم واللذات، إذا جعلها غير ما جعلت هي وأنشئت صارت لعبًا ولهوا وغرورًا، بل لو حمدت هي على ما أنشئت مكان ما ذمت لكان حقًّا وصدقًا؛ لأنها سمي نعيمها: حسنة وخيرًا وصلاحًا ونحوه؛ فلا جائز أن يذم الحسنة والخير، بل حق الذم على أهلها حيث غروا بها وصيروها في غير ما صيرت وجعلت لغفلتهم عما جعلت هي، وصرفهم إياها إلى غير الذي صرفت، وجهلهم بها؛ وعلى ذلك لا يجوز ذم الغناء والسعة والصحة والسلامة؛ لأن ذلك كله نعم من اللَّه أنعمها على الناس؛ فيجب أن ينظروا إلى ما عليهم لله من الشكر فيب ذلك فيؤدوه؛ وكذلك العز والثناء الحسن ونحوه لا يجب أن يذم شيء من ذلك، بل يذم من لم يعرف أن العز فيم؟ إنما العز في طاعة اللَّه والعبادة له لا في

(6)

معاصيه، فهَؤُلَاءِ سموا معصية اللَّه: عزا؛ لجهلهم في العز؛ وكذلك الثناء الحسن يجب أن يحمد ربه ويشكر له فيما يستر على الخلق فضائحه ومساوئه، حتى أثنوا عليه ما لو بدا ذلك منه وأظهر لهربوا منه فضلا أن يثنوا عليه ويحمدوه؛ فيجب أن يشكر ربه ويثني عليه على ستر معاصيه وفضائحه، واللَّه الموفق. وقوله: (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ). الغرور - بفتح الغين - هو الشيطان؛ يقول: لا يغرنكم باللَّه الشيطان. ثم يحتمل قوله: (بِاللَّهِ الْغَرُورُ) وجوهًا: أحدها: (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ) أي: بكرمه وجوده، يقول: إنه كريم وجواد غفور يتجاوز عنكم ويعفو عنكم معاصيكم ومساوئكم. والثاني: (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي: بغناه؛ يقول: إنه غني ما به حاجة إلى عبادتكم إياه، فيما أمركم به ونهاكم عنه. والثالث: أن يكون قوله: (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ) أي: لا يغرنكم عن طاعة اللَّه وعبادته فتعصوه، وذلك جائز في اللغة " الباء " مكان [" مِن "]؛ كقوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) أي: [منها]؛ إذ لا يشرب بالعين وإنما يشرب [منها]، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) يذكر هذا - واللَّه أعلم - لأن ما يدعو الشيطان الخلق إليه في الظاهر يخرج مخرج الشفقة لهم والنصيحة كما يدعو الأولياء؛ لأنه يدعوهم إلى قضاء شهواتهم ولذاتهم وما تهوى به أنفسهم، وإن كان يضمر ويقصد به هلاكهم؛ ألا ترى أنه كيف أظهر لآدم وحواء من الشفقة لهم والنصيحة حيث قال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ. . .) إلى قوله: (لَمِنَ النَّاصِحِينَ)، ونحوه، وكان قصده بذلك ما ذكر: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ. . .) الآية، هذا كان يضمر ويقصد في دعائه إياهما إلى التناول من تلك الشجرة التي نهاهما ربهما عنها؛ فعلى ذلك فيما يدعو الناس به إلى قضاء شهواتهم وحاجاتهم في الظاهر، فهو يقصد بذلك هلاكهم لمخالفتهم المولى لا ما يظهر ويبدي لهم؛ لذلك قال: إنه عدو لكم ليس بولي، (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، أي: كونوا من دعائه وأمره على حذر، كما يحذر المرء دعاء عدوه. (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أهل طاعته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: حزبه: أنصاره، والحزب: الأنصار.

(7)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: جنده. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حزبه: ولاته الذين يتولاهم ويتولونه؛ وكله واحد. ثم يقول: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ) لكنه خص حزبه بالدعاء لهم؛ لما أن حزبه هم المجيبون له والمطيعون، فأما غير حزبه فلا يجيبونه؛ وهو كقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)، وكان يندْر من اتبع الذكر ومن لم يتبع الذكر، لكن خص بإنذار من اتبع الذكر؛ لما أن متبع الذكر هو المنتفع به دون من لم يتبع؛ لذلك خص - واللَّه أعلم - فعلى ذلك ما خصّ بدعائه حزبه؛ لأن حزبه هم المجيبون له والمطيعون. وقوله: (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ). قصد بدعائه إلى ما يدعوهم، ليكونوا من أصحاب السعير، وإلا لو كان أظهر لهم الدعاء إلى أصحاب السعير ما أجابوه ولا أطاعوه، ولكن دعاهم إلى أعمال توجب لهم السعير، أو ليكون لهم عذاب السعير. وقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ... (7) وهو ظاهر. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). قوله: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما عملوا من غير الصالحات بعد إيمانهم، أو مغفرة لذنوبهم في الإيمان، (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) لإيمانهم وأعمالهم الصالحات. وقوله: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) ليس لهذا الحرف في ذا الموضع جواب، فجائز أن يكون جوابه في قوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) على التقديم له، كألْه يقول - واللَّه أعلم -: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا)، (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، فإن اللَّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء. أو أن يكون قوله: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) فلزمه كمن قبح له؛ فانتهى عنه، ليسا بسواء، كقوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ)، ذكر أن قوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) نزل في عمر بن الخطاب، وقوله: (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ) في أبي جهل؛ فعلى ذلك الأول، وأن يكون ما ذكر بدءًا على التقديم والتأخير. وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ): من الضلالة إلى الهدى، يضل من

(9)

علم منه أنه يختار الضلال، ويهدي من علم منه أنه يختار الهدى. وقوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ). هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: قوله: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) أي: لا تضل ولا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ إشفاقًا على ما ينزل بهم بتركهم الإيمان؛ لأن رسول اللَّه كاد أن يهلك نفسه إشفاقًا عليهم فنهاه عن ذلك. والثاني: على تخفيف الحزن عليه ودفعه عنه وتسليته إياه؛ لأنه يشتد به الحزن، لمكان كفرهم وتكذيبهم إياه وتركهم الإيمان به ليس على النهي؛ كقوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)، وقد ذكرنا معناه فيما تقدم مقدار ما حفظنا فيه، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ). هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أن اللَّه تعالى على علم بصنيعهم أنشأهم، لا عن جهل بما يكون منهم. والثاني: عليم بما يصنعون؛ فلا تكافئهم ولا تشغلن بشيء مما يكون منهم، ولكن فوض ذلك إلى اللَّه وأسلم إليه. * * * قوله تعالى: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) وقوله: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ). أي: كذلك يحي الموئى، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. وقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ... (10)

قَالَ بَعْضُهُمْ: من كان يريد القوة والمنعة بعبادة الأصنام ومن عبدوا دونه، فلله العزة جميعًا، أي: فبعبادة اللَّه وطاعته ذلك في الدنيا والآخرة، أي: فمن عنده اطلبوا ذلك عند اللَّه من كان يريد ثواب الدنيا والآخرة، أي: من عنده اطلبوا ذلك في الدنيا والآخرة. وقال بعصْهم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) أي: العزة والتعزيز (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)، أي: فباللَّه يكون عز الدنيا والآخرة لا بالأصنام التي عبدتموها، وقد كان بعبادتهم الأصنام طلب الأمرين: طلب العز؛ كقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) وطلب القوة والمنعة؛ كقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ)، فأخبر أن ذلك إنما يكون باللَّه وبطاعته، فمِن عِنده اطلبوا لا من عند من تعبدون دونه، واللَّه أعلم. وقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ). اختلف فيه: قال قائلون: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) هو الوعد الحسن، (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) هو إنجاز ما وعد، أي: إذا أنجز ما وعد من الوعد الحسن، ووفى ذلك الإنجاز الوعدَ الحسنَ وعدْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) هو كلمة التوحيد وشهادة الإخلاص، (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي؛ إخلاص التوحيد لله يرفع الكلم الطيب الذي تكلم به؛ فعلى هذا التأويل أي: يصعد الكلم الطيب إليه ما لم يخلص ذلك إلا لله. وقال قائلون: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) هي كلمة التوحيد على ما ذكرنا، (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي: يرفع اللَّه العمل الصالح لصاحبه - يعني: لصاحب الكلام الطيب - فعلى هذا التأويل: يصعد الكلم الطيب إليه دون العمل الصالح. وبعض أهل التأويل قال: يرفع الكلام: التوحيد، الطيب: العمل الصالح - إلى اللَّه، وبه يتقبل الأعمال الصالحة. وظاهر الآية أن يكون العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب، لكن الوجه فيه - واللَّه أعلم - ما ذكرنا من الوجوه. وبعضهم يقول: إن العمل الصالح يرفع الكلام الطيب، والوجه فيه ما ذكرنا.

(11)

وقوله: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ). قال عامة أهل التأويل: والذين يعملون السيئات. وجائز أن يكون ما ذكر من مكرهم السيئات هو مكرهم برسول اللَّه وأذاهم إياه؛ كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ. . .) الآية، ويمكر اللَّه بهم في الدنيا بالهلاك والقتل وفي الآخرة بالعذاب الشديد الذي حيث قال: (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ)، أي: هو يهلك؛ من البوار، وهو الهلاك، وهو قتلهم ببدر، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) (خَلَقَكُمْ)، أي: قدركم مع كثرتكم من أول أمركم إلى آخر ما تنتهون إليه من التراب الذي خلق آدم منه؛ إذ الخلق في اللغة: التقدير. وقوله: (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ). أي: قدركم أيضًا مع كثرتكم وعظمكم من تلك النطفة، يخبر عن علمه وتدبيره في تقديره إيانا مع كثرتنا في ذلك التراب وفي تلك النطفة، وإن لم نكن نحن على ما نحن عليه في ذلك التراب والنطفة لا يعجزه شيء. أو أن يكون إضافته إيانا إلى ذلك التراب والماء؛ لأنه كان ذلك أصلنا ومبادئ أمورنا، وكان المقصود بخلق ذلك التراب والماء، والأصل هذا الخلق وهو العاقبة، وقد يذكر ويضاف العواقب إلى المبادئ وتنسب إليها إذا كان المقصود من المبادئ العواقب وله نظائر كثيرة، وقد ذكرناه في غير موضع. وقوله: (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا)، أي: خلقكم من ذلك ذكرًا وأنثى ليسكن بعضه إلى بعض، أو جعلكم أزواجًا أصنافًا. وفي حرف ابن مسعود: (واللَّه الذي خلقكم من نفس واحدة ثم جعلكم أزواجًا)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ). يقول - واللَّه أعلم -: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى) من أول ما تحمل إلى آخر ما تنتهون إليه (إِلَّا بِعِلْمِهِ) السابق، وكذلك لا تضع كل حامل من أول ما تضع إلى آخر ما ينتهون إليه إلا بعلمه السابق: أنها تحمل كذا في وقت كذا من كذا، وأنها تضع كذا في وقت كذا،

(12)

يخبر عن علمه السابق من أول منشئهم إلى آخر ما يكونون وينتهون إليه، أنه كان كله بذلك التقدير الذي كازا منه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي: ما يطول من عمره وإن طال، وما ينقص من عمره، أي: ما نقص وقصر من ذلك ولم يطل (إِلَّا فِي كِتَابٍ)، أي: إلا كان ذلك كله في الكتاب مبينًا هكذا مطولا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي: من كثر عمره وطال أو قل عمره، فهو يعمر إلى أجله الذي كمّب له، ثم قال: (وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) كل يوم وكل ساعة حتى ينتهي إلى آخر أجله (إِلَّا فِي كِتَابٍ): في اللوح المحفوظ المكتوب قبل أن يخلقه. (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) قال صاحب هذا التأويل: إن كتاب الآجال حين كتبه الله في اللوح المحفوظ على اللَّه هين. وقال آخر قريبًا من هذا في قوله: (وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) في جري الليل والنهار والساعات (إِلَّا فِي كِتَابٍ)، وذلك أن اللَّه - تعالى - كتب لكل نسمة عمرا تنتهى إليه، فإذا جرى عليها الليل والنهار نقص ذلك عمرها حتى يبلغ ذلك أجلها، فمن قُضي له أن يعمر حتى يدركه الكبر أو عمر دون ذلك، فهو بالغ ذلك الأجل الذي قضي له، وكان ذلك في كتاب ينتهوذا إليه. (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) يقول قائل هذا: إن حفظ ذلك على اللَّه بغير كتاب يسير هين. وجائز أن يكون قوله: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، أي: أن علم ما ذكر وتقديره من أول ما أنشأهم وتغيير - أحوالهم إلى آخر ما يكونون وينتهون إليه - يسير، أي: لا يخفى عليه. وقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ... (12) فيه وجوه من المعتبر: أحدها: يذكر ألا يستوي في الحكمة الخبيث من الرجال والطيب منهم، كما لا يستوي المالح من الماء الأجاج والعذب منه والسائغ، وقد استوى الطيب من الرجال والخبيث في منافع الدنيا ومأكلاتها، وفي الحكمة التفريق بينهما والتمييز؛ دل أن هنالك دارًا يميز بينهما ويفرق؛ إذ قد يستوي في منافع الدنيا، وحطامها، وفي الحكمة التفريق والتمييز لا الجمع والاستواء، وذلك يدل على البعث. والثاني: فيه أن المنشأ من الأشياء في هذه الدنيا والمخلوق فيها لم ينشئها لحاجة نفسه، ولكن لحوائج الخلق ومنافعهم وما يكون لهم العبرة في ذلك؛ إذ من أنشأ شيئًا

لحاجة نفسه أنشأ ألذ الأشياء وأحلاها وأنفعها له لا مرا مالحًا أجاجًا ما لا ينتفع به، يخبر عن غناه عما أنشاه من الأشياء، ليعلم أنه لم ينشئها لحوائج نفسه، ولكن لما ذكرنا، وهو على المعتزلة في قولهم: إنه لم يخلق شيئًا لا ينتفع به، وأنه لا يفعل بهم إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين؛ لأنه أنشأ ماء أجاجا مالحًا لا ينتفع به؛ ليكون لهم العبرة في ذلك. والثالث: فيه ترغيب في إيمان الخبيث الكافر، ودفع الإياس عن توحيدهم، وقطع الرجاء عن عودهم إليه؛ حيث أخبر عما يأكلون من الماء المالح والأجاج والعذب السائغ جميعًا اللحم الطري مما حق مثله إذا ألقي فيه أو في مثله اللحم الطري أن يفسد من ساعته. ويذكرهم أيضًا عن قدرته أن من قدر على حفظ ما ذكر من اللحم الطري في الماء الذي لا يقدر على الدنو منه والقرب؛ فضلا أن يكون فيه حفظ ما ذكر من الإفساد، فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء. والرابع: يذكر نعمه التي أنعمها عليهم حيث قال: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) يذكر عظم نعمه وقدرته حيث جعل البحار مسخرة مذللة يقدرون على استخراج ما فيها من الحلي والجواهر، والوصول إلى المنافع التي هي وراء البحار، وقطعها بسفن أنشاها لهم، وأجراها في الماء الراكد الساكن برياح تعمل عمل جريان الماء، بل الأعجوبة في إجراء السفن بالرياح في المياه الراكدة الساكنة أعظم وأكثر من جريانها على جرية الماء؛ لأنها في الماء الجاري لا تجري إلا على الوجه الذي يجري الماء، وفي البحار تجري بريح واحدة من الأسفل إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأسفل حيث شاءوا؛ دل أن الأعجوبة في هذا أكثر وأعظم، ومن ملك هذا لا يعجزه شيء. أو أن يكون المثل الذي ذكر في البحرين: أحدهما عذب ماؤه، والآخر أجاج ماؤه يكون للعمل الصالح وهو التوحيد، وللعمل السيئ وهو الكفر يقول: كما لا يستوي في الفضل الماء العذب والماء المالح؛ فعلى ذلك لا يستوي العمل الصالح والعمل السييء. وقوله: (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَوَاخِرَ) تجريان إحداهما مقبلة، والأخرى مدبرة بريح واحدة، وتستقبل إحداهما الأخرى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المواخر: هي التي تشق الماء، وتقطعه؛ من مخر يمخر، وقد ذكرناه

(13)

فيما تقدم. وقوله: (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ). هذا يدل أن ما يصاب بالأسباب والمكاسب إنما هو فضل اللَّه؛ إذ قد تكتسب ولا يكون منه شيء، واللَّه أعلم. وقوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ... (13) يذكر هذا لأهل مكة؛ لإنكارهم الصانع، وإنكارهم البعث، وإنكارهم الرسل؛ لأنهم كانوا فرقًا ثلاثة: منهم من ينكر الصانع والتوحيد، ومنهم من ينكر البعث، ومنهم من ينكر الرسل، ففي الآية دلالة إثبات الصانع وتوحيده، وفيها دلالة البعث والإنشاء بعد الموت، وفيها دلالة إثبات الرسالة: أما دلالة إثبات الصانع والوحدانية له: فاتساق الليل والنهار والشمس والقمر وما ذكر، وجريانهما وجريان الأمور كلها على سنن واحد وميزان واحد وقدر واحد، من أول ما كان إلى آخر ما يكون من غير زيادة أو نقصان يدخل فيه، أو تقديم أو تأخير يكون فيه، يدل على أن لذلك كله صانعًا مدبرًا أنشأ ودبر كل شيء على ما كان وحفظه كله على ميزان واحد؛ إذ لو كان ذلك بنفسه لكان لا يجري على حد واحد، بل يتفاوت ويتفاضل، وكذلك لو كان فعل عدد، لكان يتقدم ويتأخر ويتغير ويمتنع ويذهب رأسًا على ما يكون فعل العدد من الملوك: أن ما أراد هذا إثباته أراد الآخر نفيه ومنعه، وما أراد هذا نفيه وإبطاله أراد الآخر إثباته، وذلك معروف فيهم من مخالفة بعض بعضًا؛ فدل اتساق ما ذكرنا وجريانه، على تدبير واحد: أنه فعل واحد وتدبير واحد لا عدد، وباللَّه القوة. ودل ذهاب الليل وتلفه بكليته حتى لا يبقى له أثر، وكذلك ذهاب ضوء النهار ونوره، وكذلك الشمس والقمر وإتيان الآخر بعد تلفه أنه بعث؛ إذ لو لم يكن بعث كان تدبير ذلك كله وتقديره لعبًا باطلا، وإن من قدر على هذا يقدر على الإحياء بعد الموت، وأنه لا يعجزه شيء. فإن ثبت ما ذكرنا لا يحتمل أن يتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يمتحنهم بأنواع المحن، فلابد من رسول يأمر وينهى ويخبر عما لهم وعليهم. وفيه أن مدبر ذلك كله عليم حكيم، ثم يخبر أن الذي فعل ذلك كله هو ربكم الذي له الملك؛ يقول: الذي فعل هذا كله اللَّه، لا الأصنام التي عبدتم دونه، وسميتموها: آلهة، فكيف صرفتم العبادة إليها والألوهية، وما تعبدون من دونه لا يملكون ما ذكر؟! حيث

(14)

قال: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) يسفه أحلامهم في عبادة من عبدوا دونه على علم منهم أنهم لا يملكون ما ذكر، وصرفهم العبادة عن اللَّه على علم منهم: أن ذلك كله من اللَّه، وهو المالك لذلك. ثم يخبر عن عجز من عبدوه حيث إن تدعوهم على حقيقة الدعاء لا يسمعون دعاءكم حقيقة، ولو سمعوا ما استجابوا لكم، أي. لو سمعوا دعاءكم ما يملكون إجابتكم في دفع ضر وسوء ولا في جر نفع. أو أن يكون قوله: (إِنْ تَدْعُوهُمْ ... (14) أي: تعبدوهم (لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ)، أي: لا يجيبوكم إلى ما تقصدون بعبادتكم إياهم. أو أن يقول: ما قبلوا ذلك عنكم ولا نفعوكم فيه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) ينكرون يوم القيامة أن يكونوا شركاءهم أو أمروهم بذلك؛ كقوله: (سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ. . .) الآية، وقوله: (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)، ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)، أي: لا ينبئك أحد مثل الذي أنبأك الخبير في الصدق والحق. أو أن يكون قوله: (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي: لا يكون نبأ أحد مثل نبأ الخبير، فاعمل به وأقبل عليه، ولا تقبل على نبأ غيره، واللَّه أعلم. وفي قوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) وجهان من اللطف: أحدهما: يتلف حتى يذهب أثره ويأتي بالآخر. أو يزيد في هذا وينقص من الآخر، ويدخل من ساعات هذا في ساعات الآخر. وفيه نقض قول الثنوية في قولهم: إن منشئ الخير غير منشئ الشر، ويقولون: إن النور من منشئ الخير والظلمة من منشئ الشر، فلو كان ما ذكروا لكان إذا ذهب النور وجاءت الظلمة كانت الظلمة هي الغالبة والنور هو المغلوب في يدها؛ وكذلك النور إذا جاء وذهبت الظلمة صارت هي مقهورة مغلوبة في يد النور، والنور هو الغالب عليها، فإذا صار مغلوبًا مقهورًا في يد صاحبه يجيء ألا يقدر على استنقاذ نفسه من يده أبدًا، على ما يكون من عادة الأعداء إذا غلب بعضهم بعضًا وقهر بعضهم بعضًا أن يهلك ولا يتخلص

(15)

منه، فإذ لم يكن، ولكن جاء كل منهما في وقته بعد ذهاب أثره على التقدير الذي ذكرنا؛ دل أنه فعل واحد وتدبير واحد لا تدبير عدد، وباللَّه الحول والقوة. والْقُتَبِيّ يقول: القطمير: هو الفوفة التي يكون فيها النواة. وأَبُو عَوْسَجَةَ يقول: هو القشرة الرقيقة التي تكون بين لحم التمرة وبين نواتها، واحده وجمعه سواء. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). فيه وجوه مر، الدلالة: أحدها: أنه إنما أمركم ونهاكم وامتحنكم بأنواع المحن لحاجتكم وفقركم إليه، لا لحاجة وفقر له في ذلك، فإن ائتمرتموه وأطعتموه، فإلى أنفسكم ترجع منفعة ذلك، وإن عصيتم فعلى أنفسكم يلحق ضرر ذلك؛ كقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا). والثاني: يقول: تعلمون أن فقركم وحاجتكم إلى اللَّه، لا إلى الأصنام التي تعبدونها واتخذتموها آلهة، فكيف صرفتم العبادة والشكر إلى من تعلمون أنكم لا تحتاجون إليه ولا تفتقرون؟! والثالث: يأمرهم بقطع أطماعهم من الخلق؛ لأنه خاطب الكل وأخبر أنكم جميعًا فقراء إلى اللَّه الطامع والمطموع فيه، فاقطعوا طمعكم ورجاءكم عن الخلق، واطمعوا ذلك من اللَّه؛ فإنه الغني الحميد والخلق جميعًا فقراء إليه، يؤيسهم عن الطمع والرجاء

(16)

من الخلق، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) يخبر عن غناه وقدرته، لو شاء أذهبكم لتعلمون أنه لم ينشئكم، ولا أمركم، ولا نهاكم؛ لحاجة نفسه ولا لمنفعة له، ولكن لحاجة أنفسكم. وقوله: (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: لا يعز ولا يثقل عليه ذهابكم وفناؤكم؛ لأنه لم ينشئكم لحاجة نفسه فذهابكم وفناؤكم وبقاؤكم عليه واحد. والثاني: لا يصعب عليه ولا يعز إذهابكم وإحداثكم، ولا يعجزه شيء، يخبر عن قدرته، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) كأن هذا صلة قوله: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ. . .) الآية، يؤيسهم ليقطعوا أطماعهم يومئذ عن تناصر بعضهم بعضًا، وتحمل بعضهم مؤن بعض وشفاعة بعضهم بعضا، على ما كانوا يفعلون في الدنيا كان ينصر بعضهم بعضًا في الدنيا إذا أصابهم شيء؛ ويفدي بعضهم عن بعض، ويشفع بعضهم بعضًا، كانوا يحتالون مثل هذا الحيل في الدنيا؛ ليدفعوا عن المتصلين بهم الضرر، فأخبر أن ليس لهم ذلك في الآخرة؛ كقوله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، وقوله: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، ومثله كثير، يؤيسهم عن أن يكون لهم في الآخرة ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: إنما ينتفع بالإنذار الذين يخشون ربهم بالغيب، فأما من لا يخشى ربه فإنه لا ينتفع به، وإلا كان منذر من اتبع الذكر؛ ومن لم يتبع، ومن خشي ربه ومن لم يخش. والثاني: كأنه يقول: إنك تنذر غير الذي اتبع الذكر وغير الذي خشي، فإنما يتبع إنذارك ويقبله الذي خشي ربه واتغ ذكره، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ)، أي: من عمل خيرًا، فإنما يعمل لنفسه. أو من جاء بالتوحيد والأعمال الصالحة فإنما يصلح أمره وعمله يثاب عليه. (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ).

(19)

قد ذكرنا في غير موضع فائدة تخصيص ذكر المصير إليه والمرجع إليه في ذلك اليوم، وإن كانوا صائرين إليه في كل وقت. وقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ... (22) ضرب هذا المثل يخرج على وجوه: أحدها: شبه الأصنام التي كانوا يعبدونها بالأعمى والظلمة والميتة والحرور حقيقة؛ لأنها كذلك عميان موتى لا نور فيها؛ يقول: واللَّه إنكم تعلمون أن الذين تعبدون من دون اللَّه عميان لا بصر لهم ولا نور ولا حياة ولا شيء من ذلك، وأن اللَّه هو البصير، ومنه يكون كل خير ونفع، فكيف اخترتم عبادة من هذا سبيله على عبادة اللَّه تعالى؟! وبالله الهداية والعصمة. والثاني: شبه أُولَئِكَ الكفرة بالعميان والظلمة والموت وما ذكر، والمؤمن بالبصير والنور والظل والحياة، ليس على إرادة حقيقة البصر والحياة وما ذكر؛ لأن لهم بصرا يبصرون وهم أحياء فيقولون: نحن البصراء والأحياء، وأنتم العميان والأموات، وما ذكر، لكن شبههم بالعميان والموتى؛ لأنه لا حجة لهم ولا برهان على عبادتهم الأصنام، وهم يعلمون أنه لا حجة لهم ولا برهان على ذلك من كتاب أو رسول أو نحوه، إنما هو هوى يهوون ذلك، وللمؤمنين في عبادتهم اللَّه حجة وبرهان، فمن كان له حجة في عبادته فهو بصير حي نور، ومن ليس له ذلك فهو أعمى ميت. والثالث: يذكر هذا دلالة على البعث؛ لأنهم يعلمون أن الخلق ليس كلهم على حدّ واحد وحالة واحدة، بل فيهم العميان والبصراء وفيهم الأحياء والأموات وفيهم ما ذكر، وقد استوو جميعًا في منافع هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهم لا الجمع، فلا بد من دار أخرى سوى هذه يفرق بينهم؛ إذ في الحكمة والعقل التفريق لا الجمع، والله أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ). دل قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ) على أن قوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) إنما أراد به الكافر، ثم أخبر أن رسوله لا يسمع لما لا يقدر على ذلك، وليس عنده ذلك؛ إذ لو كان بيانا مبينا أو دعاء على ما يقوله المعتزلة، لكان يسمع ويبين ويقدر على ذلك، فإذ لم يقدر رسول اللَّه على ذلك دل أن عند اللَّه لطفًا وشيئًا لم يعطهم، فإذا أعطاهم ذلك اهتدوا وآمنوا؛ وكذلك هذا في قوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)، ولو

(23)

كان بيانًا على ما تقوله المعتزلة لهدى من أَحبَّ وقد أحب فلم يهتد؛ دل أن عند اللَّه شيئًا لو أعطى ذلك لاهتدى، ولم يكن ذلك عند رسوله وهو التوفيق والعصمة، وهذا ينقض على المعتزلة قولهم: إن اللَّه قد أعطى كل كافر ما به يهتدي لكنه لم يهتد. ثم لا يحتمل قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ) على القسر والقهر دل أنه لا يحتمل. وقوله: (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: ليس عليك إلا الإنذار باللسان؛ كقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)، وقوله: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ)، وأنت لا تؤاخذ بتركهم قبول الإنذار؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. . .) الآية، وقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ. . .) الآية. ويحتمل الإنذار بالسيف بأمره إياه بالقتال معهم حتى يؤمنوا، وإن كان على هذا فهو يحتمل النسخ؛ يؤمر بالقتال في وقت، ولا يؤمر في وقت، وأمّا النذارة باللسان فهو لا يحتمل النسخ أبدًا. واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) يحتمل قوله: (بِالْحَقِّ) أي: بالتوحيد، أي: أرسلناك لتدعو الناس إلى توحيد اللَّه، أو أرسلناك بالحق، أي: بالحق الذي لله عليهم وما لبعض على بعض. أو (أَزسَلْتَكَ بِالْحَقِّ) أي: للحق وهو البعث الذي هو كائن لا محالة. وقوله: (بَشِيرًا وَنَذِيرًا). أي: بَشِيرًا بالجنة لمن آمن باللَّه وأجابك، ونذيرًا بالنار لمن عصاه وخالف أمره وترك إجابته، هذا يدل على أنه لم يرد في قوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) خاصة ليس ببشير. وقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس من أصناف الخلق وجواهرهم على اختلاف جواهرهم وأصنافهم إلا وقد خلا لهم نذير؛ ليأمر وينهى ويمنع ويبيح؛ كلقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ. . .) الآية، أخبر أن الخلق على اختلاف أصنافهم وجواهرهم أمم أمثالهم البشر، فيتحملون ما يتحمل البشر من الأمر والنهي والنذارة والبشارة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك راجع إلى الجن والإنس خاصة ليس إلى الكل؛ لأنهما هما المخصوصان بالخطاب والنطق والعقل وغير ذلك، وفيهما ظهر بعث الرسل والنذر، ولم

(25)

يظهر ذلك في غيرهما، فكأنه قال: وإن من أمة من هذين من القرون إلا خلا فيها نذير، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) يعزي رسوله ويصبره على تكذيب قومه إياه، يقول: لست أنت بأول مكذب من الرسل، قد كذب إخوانك الذين من قبل بعد ما جاءوا بالبينات والزبر، أي: بالكتب المنيرة إليهم مع ما جاءهم بذلك فكذبوهم، فصبروا على تكذيبهم، فاصبر أنت أيضًا على تكذيب قومك، واللَّه أعلم. وقوله: (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أي: ثم أخذت الذين كذبوا رسلهم بالتكذيب فآخذ قومك على تكذيبهم إليك أيضًا، يذكر هذا له ليصبره على ذلك وينفي حزنه على تكذيبهم إياه. أو يذكره زجرًا لقومه على تكذيبهم إياه؛ فينزل بهم من العذاب ما نزل بأُولَئِكَ بالتكذيب. وقوله: (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: فكيف كان إنكاري، وقَالَ بَعْضُهُمْ: عذابي. ودل قوله: (وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) على قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). أي: منير السماوات بما سمى الكتاب في غير آي من القرآن: نورًا، هو نورٌ بما ينير القلوب والصدور. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا) إلى آخر ما ذكر - فيه فوائد من الحكمة: أحدها: أنه جعل - عَزَّ وَجَلَّ - طبع الماء مما يلائم ويوافق طبع هذه الثمرات على اختلاف جواهرها وألوانها؛ حتى يكون حياة كل شيء منها وقوامه بهذا الماء، وكذلك جعل طبع هذا الماء ملائفا موافقًا طباع جميع الخلائق من البشر والدواب والطير والوحش

وجميع الحيوان، على اختلاف جواهرهم وأصنافهم وغذائهم، حتى صار هو غذاء وحياة لهم وقياما به؛ ليعلم أن من ملك هذا وقدر توفيق هذا - على اختلاف ما ذكرنا من الجواهر والأغذية - وتدبيرَهُ، لا يعجزه إنشاء شيء لا من شيء، ولا يخفى عليه شيء، وفي ذلك دلالة البعث: أن من بلغت قدرته وتدبيره وعلمه هذا المبلغ لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء. والثاني: أنه أنشأ ما ذكر من مختلف الأشياء والجواهر بهذا الماء، وجعله سببا لحياة ما ذكر من البشر والدواب وغيره، من غير أن يكون في ذلك الماء الذي أنشأ ذلك منه، وجعله سببا لحياتهم من أثر ذلك فيه أو من جنسه؛ ليعلم أنه لم يكن أنشأ هذه الأشياء بهذا الماء، ولا جعله سببًا لها على الاستعانة به والتقوية، بل إعلامًا للخلق أسباب مطالب الغذاء والفضل لهم؛ إذ لو كان على الاستعانة وجعله سببًا له في إنشاء ذلك، لكان يكون تلك الأشياء المنشأة مشاكلة للماء مشابهة له؛ دل أنه جعل ذلك سببا للخلق في الوصول إلى ما ذكرنا من الأغذية لهم من غير أن يروا أرزاقهم من تلك الأسباب والمكاسب ولكن من فضل اللَّه. والثالث: أنشأ هذه الفواكه والثمرات مختلفة ألوانها وطعمها؛ لما علم من البشر من الملالة والسآمة من نوع واحد ولون واحد؛ ليتم نعمه عليهم ليتأدى بذلك الشكر عليها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أنشأ الجبال أيضا مختلفة من بيض وحمر وغرابيب، كما أنشأ الثمرات والدواب والحيوان كلها مختلفة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك وصف، وصفها بالسواد للطرق التي أنشأها في الجبال ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كاختلاف الجبال والثمار، وكذلك: (وَغَرَابِيبُ) جمع غربيب، وهو الشديد السواد، يقال: أسود غربيب؛ وهو قول الْقُتَبِيّ وأبي عَوْسَجَةَ، ورجل غربيب الشعر، أي: أسود الشعر، ومأخذه من الغراب لأنه أسود، والجدد: الخطوط والطرائق في الجبال. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجدة: الخطة، والجدد: جميع الخطوط، يقال: جددت،

(28)

أي: خططت، ويقال: ثوب جديد وثياب جدد، (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ) أي: طرائق مختلفة ألوانها بعضها بيض وبعضها غرابيب وهي سود. يذكر قدرته وتذكيره أن الجبال مع غلظها وشدتها وارتفاعها جعلها بحيث يتطرق منها في صعودها وهبوطها، فمن قدر على هذا لا يعجزه ولا يخفى عليه شيء. أو يذكر نعمه عليهم حيث سخرها لهم؛ ليقضوا فيها حوائجهم فيما بعد عنهم وصعب عليهم، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (28) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: أن الذي يحقّ على العالم باللَّه أن يكون هو يخشاه؛ لما يعلم من سلطانه وهيبته وقدرته وجلاله. والثاني: أن العالم بالبعث والمؤمن به هو يخشى مخالفة اللَّه في أوامره ونواهيه؛ لما يعلم من نقمته وعذابه من خالفه وعصى أمره، فأمّا من لم يعلم بالبعث ولم يؤمن به فلا يخافه؛ كقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ)، ونحوه. أو أن يكون قوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) عباده من جملة المؤمنين؛ يقول - واللَّه أعلم -: إنما يخشى اللَّه من عباده المؤمنون به، المصدقون عذابه ونقمته، فأمَّا من لم يؤمم ن به فلا يخافه كما ذكرنا في قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، إن في ذلك لآيات لكل مؤمن، ويكون الصبار والشكور كناية عن المؤمن؛ فعلى ذلك هذا محتمل. وقال أهل التأويل: على التقديم والتأخير، أي: أشد الناس لله خشية أعلمهم باللَّه، والخشية: قال الحسن: هي الخوف الدائم اللازم في القلب غير مفارق له، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: العزيز: المنتقم من أعدائه، والغفور لذنوب المؤمنين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عزيز في ملكه ومن دونه ذليل، غفور، أي: ستور على ذنوب المؤمنين. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) يحتمل ما ذكر من تلاوة الكتاب هاهنا، ما ذكر في آية أخرى قال: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) وأقاموا فيها من الأمر بالصلاة والأمر بالزكاة.

(30)

أو أن يكون قوله: (يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ) أي: يتبعون كتاب اللَّه فيما فيه مما لهم ومما عليهم، يتبعون كله من الإقدام على الحلال والاجتناب على الحرام، والمشفقون بكتاب اللَّه هم الذين اتبعوا ما فيه من إقامة الصلاة وإنفاق ما رزقوا، فأما من تلا ولم يتبع ما فيه فكأنه لم يتل، وهو كما نفى عنهم هذه الحواس من البصر والسمع واللسان وغيره؛ لتركهم الانتفاع بها وإن كانت لهم تلك الحواس حقيقة، وأثبتها للمؤمن لما انتفع بها وإن لم تكن له تلك حقيقة؛ فعلى ذلك يحتمل الأول، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً). يحتمل قوله: (سِرًّا وَعَلَانِيَةً) في كل حال وكل وقت لا يتركون الإنفاق على كل حال؛ كقوله: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)، أي: ينفقون على كل حال. ويحتمل: فلينفقوا مما رزقناهم (سِرًّا وَعَلَانِيَةً)، أي: يتصدقون الصدقة ظاهرًا وباطنًا، أي: ما ظهر للناس وعلموا به، وما خفي عنهم واستتر؛ لما قصدوا بها وجه اللَّه لا مراءاة الخلق، فمن كان قصده بالخيرات وجه اللَّه لا مراءاة الخلق، فعلمهم به وجهلهم سواء، لا يمتنع عن ذلك أبدًا، واللَّه أعلم. وقوله: (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ). سمى ما يبذل العبد لله: تجارة، وإن كان ذلك له في الحقيقة لطفا منه وإحسانًا، وكذلك ما ذكر من إيفاء الأجر لهم على أعمالهم حيث قال: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وذلك ليس في الحقيقة أجرًا لما يستوجبون الأجر قبله بتلك الأعمال؛ لما عليهم من الشكر فيما أنعم عليهم من أنواع النعم، ومتى يفرغون عن شكر ما أنعم عليهم حتى يكون ذلك أجرًا لهم، لكنه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضله وإنعامه وعد لهم الثواب والأجر على حسناتهم وأعمالهم الصالحات؛ إفضالا منه وإنعامًا منه، وسمى ذلك: تجارة كأن ليس ذلك له في الحقيقة؛ ترغيبًا منه الخلق في ذلك وتحريضًا لهم على ذلك، واللَّه أعلم. (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على ذلك أيضًا. وقوله: (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ). يحتمل قوله: (غَفُورٌ) أي: ستور لمساويهم، (شَكُورٌ) أي: مظهر لحسناتهم بإدخاله إياهم الجنة؛ ليعلم أحد أنه كان محسنا لا مسيئًا. أو (غَفُورٌ): يتجاوز عن مساوئهم، (شَكُورٌ): يقبل اليسير من العمل القليل منهم

(31)

ويجزيهم على ذلك الجزيل من الثواب، واللَّه أعلم. وقوله: (لَنْ تَبُورَ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (لَنْ تَبُورَ) أي: لن تفنى أو لن تكسد، يقال: بارت التجارة تبور فهب بائرة: إذا كسدت. (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ): من الإيفاء، يقال: أوفيته حقه، أي: أعطيته حقه كله. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) وقوله: (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ): يا مُحَمَّد، (مِنَ الْكِتَابِ): وهو القرآن، (هُوَ الْحَقُّ): أنه من عند اللَّه، (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي: موافقًا للكتب التي قبله. ثم يكون وفاقه إياها بأحد شيئين: إما في الأخبار والأنباء: أن توافق الأنباء والأخبار التي في القرآن أنباء الكتب المثقدمة وأخبارها ويصدق بعضها بعضا، فكذلك كانت الكتب كلها داعية إلى توحيد اللَّه والعبادة له والطاعة. أو توافق الأحكام، فإن كانت الموافقة في الأحكام ففيها الناسخ والمنسوخ مختلفة؛ ألا ترى أن في القرآن ناسخًا ومنسوخًا، ثم أخبر أنه لو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، ولو كان الناسخ والمنسوخ خلافًا في الحقيقة لكان من عند غير اللَّه على ما أخبر، فدل أن بينهما وفاقًا ليس باختلاف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن محمدًا يصدق ما قبله من الكتب والرسل، وهو ما ذكرنا: أن جميع الكتب والرسل إنما دعوا الخلق إلى توحيد اللَّه وعبادته.

(32)

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ). أي: (لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) بما به مصالحهم، أو (لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)، أي: على علم وبصيرة منه بتكذيب القوم رسلهم بعث الرسل إليهم لا عن جهل منه بذلك، وذلك لا يخرجه عن الحكمة كما قال بعض الملاحدة: إن ليس بحكيم من بعث الرسل إلى من يعلم أنه يكذبه ويرد رسالته، فهذا لو كان بعث الرسل لحاجة المرسل ولمنفعته يكون إرساله وبعثه إلى من يعلم أنه يكذبه ويرد رسالته عبثًا، فأمَّا اللَّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن أن يرسل الرسل لحاجة له أو لمنفعة بل لحاجة المبعوث إليه والمرسل إليه؛ فلم يخرج علمه برده وتكذيبه عن الحكمة، والتوفيق باللَّه. أو أن يكون قوله: (لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) يخرج عن الوعيد، أي: عالم بأحوالهم وأفعالهم؛ ليكونوا أبدًا على حذر ومراقبة، واللَّه أعلم. وقوله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) هو ممن أخبر أنه اصطفاه للهدى من متبعي مُحَمَّد، وهم أصحاب الكبائر في قول بعض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم أصحاب الصغائر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم أصحاب الصغائر والكبائر جميعًا. ومنهم من يقول: هو في الناس جميعًا المتبع له وغير المتبع. ثم اختلف في قوله: (ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هو المنافق الذي أظهر الموافقة لرسوله وأضمر الخلاف له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم اليهود والنصارى، فقد آمنوا قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم المشركون وقد أقسموا أنه لو جاءهم نذير: (لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ). فهَؤُلَاءِ كلهم في النار، وما ذكر من الاصطفاء والاختيار على قول هَؤُلَاءِ يكون لرسول اللَّه؛ حيث بعث إليهم؛ ليدعوهم إلى توحيد اللَّه. والأشبه أن يكون قوله: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) من أمته من متبعي الرسول ما روي في

الخبر عن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن ثبت - قال: " تلا رسول اللَّه هذه الآية فقال: أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا ثم يدخل الجنة؛ أما الظالم لنفسه فيحبس حتى يظن أنه لن ينجو ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة "، ثم قال رسول اللَّه: وهم الذين قالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. . .) الآية. وكذلك روي عن أنس وعائشة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإن ثبت عنه فهو تأويل الآية، وتفسير الظالم من أهل التوحيد والملة. والمقتصد: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الذي يخلط عملا صالحًا بعمل سيئ؛ كقوله: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الذي يقوم بأداء الفرائض والأركان وأما غيره فلا. والسابق يخرج على وجهين: أحدهما: سابق بالخيرات كلها لا تقصير فيه ولا نقصان. أو سابق بالخيرات فيه تقصير ونقصان، وقد ذكرنا هَؤُلَاءِ الفرق الثلاثة في غير موضع: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. . .) الآية، ثم قال: (وَ (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ)، (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ)، فالذين اعترفوا بذنوبهم هم المقتصد، والآخرون هم الظالم لنفسه. وقال في موضع آخر: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). وقال: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ)، إلى آخر ما ذكر، وقال: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ) - ففي ظاهر هذا أن أصحاب الشمال المكذبون؛ حيث ذكر في آخر هذه السورة الفرق الثلاثة حيث قال: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ). ففي ظاهر هذا أن الظالم لنفسه هو المكذب والكافر في قوله: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ)، في ظاهر ما ذكر في سورة التوبة أنه من أهل التوحيد حيث

(33)

قال: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ. . .) الآية، واللَّه أعلم لذلك. وقوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ). يحتمل: بعلم اللَّه، ويحتمل: بمشيئة اللَّه، وقيل: بأمره. وقوله: (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ). يقول - واللَّه أعلم -: هذا الذي أورثناهم من الكتاب هو الفضل الكبير؛ كقوله: (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا). أو يقول: إدخالهم الجنة فضل منه كبير. وروي عن عمر - - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) وقال: ألا إن سابقنا سابقٌ، وإن مقتصدنا ناجٍ، وإن ظالمنا مغفورٌ له ". وقال عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ألا إن سابقنا أهل الجهاد منا، وإن مقتصدنا أهل حضرنا، وإن ظالمنا أهل بدونا ". وابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: " الظالم لنفسه كافر ". وعن الحسن قال: " الظالم لنفسه المنافق وهو هالك، وأما السابق والمقتصد فقد نجيا ". وقوله: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) ذكر التحلي فيها بالذهب واللؤلؤ ولبس الحرير، وليس للرجال رغبة في هذه الدنيا في التحلي بذلك ولا لبس الحرير، اللهم إلا أن يكون للعرب رغبة فيما ذكر، فخرج الوعد لهم بذلك والترغيب في ذلك، وهو ما ذكر من الخيام فيها والقباب والغرفات، وذلك أشياء تستعمل في حال الضرورة في الأسفار، وعند عدم غيره من المنازل والغرف عند ضيق المكان، فأما في حال الاختيار ووجود غيره فلا، لكنه خرج ذلك لهم؛ لما لهم في ذلك من فضل رغبة؛ ألا ترى أنهم قالوا: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) ذكروا ذلك لما لذلك عندهم فضل قدر ومنزلة ورغبة في ذلك. أو يذكر هذا لهم في الجنة - أعني: الذهب والفضة والحرير وما ذكر - ليس على أن

(34)

هذا مما يشابهه لحال أو يماثله في الجوهر على التحقيق سوى موافقة الاسم؛ لما روي في الخبر: " أن فيها - يعني في الجنة - ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر أو بال بشر " على ما ذكر، وما ذكر -أيضًا- أن ما في الجنة لا يشبه ما في الدنيا أو لا يوافقه إلا في الاسم أو كلام نحو هذا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) قَالَ بَعْضُهُمْ. إنما يقول هذا الظالم لنفسه الذي ذكر في قوله: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) وأنهم يحبسون على الصراط حبسًا طويلا، أو يحاسبون حسابًا شديدًا؛ فيطول حزنهم بذلك، ثم يؤذن لهم بالدخول في الجنة، فعند ذلك يقولون ذلك ويحمدون ربهم على إذهاب ذلك الحزن عنهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن يقول هذا كل مسلم إذا دخل الجنة؛ لما يخاف كل مسلم في الدنيا على مساويه؛ لما لا يدري إلى ماذا يكون مصيره ومرجعه؟ وأين مقامه في الآخرة؟ فلما أدخل الجنة أمن ما كان يخافه في الدنيا ويحزن عليه، وسلم من تلك الأخطار، حمد ربه عند ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك الحمد إنما يكون منهم؛ لما ذهب عنهم غمّ العيش والخبر الذي كان لهم في الدنيا؛ إذ كل أحد يهتم لعيشه في الدنيا، فلما دخل الجنة ذهب ذلك عنه، فعند ذلك يحمد ربه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحمدون ربهم؛ لما يأمنون الموت عند ذلك؛ إذ ذكر في الخبر " أنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش، فيذبح بين أيديهم "، فعند ذلك يأمنون الموت، واللَّه أعلم.

(35)

وقوله: (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ). لمساوئهم من غير أن كان منهم ما يستوجبون المغفرة، شكور لحسناتهم حيث قبلها منهم وأعطاهم الثواب. وقال أهل التأويل: غفور لذنوبهم، شكور يعطيهم الجزاء الجزيل بالعمل القليل. وقوله: (الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ ... (35) لما لا يتمنى التحول منها ولا الانتقال، لا يبغون حولا. وقوله: (لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ). ليس من صاحب نعمة في هذه الدنيا وإن عظمت إلا وهو يمل منها ويسأم، ويتمنى التحول منها والانتقال، وكذلك ليس من لذة وإن حلت في هذه الدنيا إلا وهي تعقب آفة وتعبًا، فأخبر أن نعيم الآخرة، ولذاتها مما لا يتمنى ولا يبتغى التحول منها، ولا لذتها تعقب آفة ولا تعبًا ولا إعياء. وجائز أن يكون قوله: (لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) وذلك أن من حل بقرابته وبالمتصلين به شيء في هذه الدنيا من آفاتها يهتم لذلك ويتكلف دفع ذلك عنهم، فأخبر أنهم إذا حلوا في دار المقامة لا يهمهم شيء من ذلك، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ): شكر لهم ما كان منه إليهم، وغفر لهم ما كان منهم من ذنب، وفي حديث رفع إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوله: (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) قال: " شكر اللَّه للمؤمن اليسير من الحسنات، وغفر لهم الذنوب العظام ". والنصب: الأذى، ويقال: الفناء، واللغوب: التعب. وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ... (36) فيستريحوا من عذابها، (وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا). وفي قوله: (وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) نقض قول الجهم وأبي هذيل المعتزلي: أما قول الجهم؛ لأنه يقول: بانقطاع العذاب عن أهل النار، فأخبر أنه لا يخفف عنهم العذاب، فلو كان يحتمل الانقطاع يحتمل التخفيف، فإذا أخبر أنه لا يخفف عنهم دل أنه لا ينقطع، وكذلك قول مالك لهم: (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)، لما طلبوا منه

(37)

التخفيف: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ). وأما على قول أبي الهذيل فإنه يقول: إن العذاب قد يفتر عن أهل النار، ويصير بحال لو أراد اللَّه أن يزيد في عذابهم شيئًا ما قدر عليه، وكذلك يقول في لذات أهل الجنة: إنها تصير بحال وتبلغ مبلغًا لو أراد اللَّه أن يزيد لهم شيئًا منها ما قدر عليه، فظاهر الآية يكذبهم ويرد قولهم حيث قال: (وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا). وقوله: (كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ): لنعمه وجاحد وحدانيته. وقوله: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) قَالَ بَعْضُهُمْ: يصيحون فيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الاصطراخ: الاستغاثة، أي: يستغيثون، واصطراخهم قولهم: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) يفزعون أولا إلى كبرائهم الذين اتبعوهم في الدنيا، يطلبون منهم دفع ما هم فيه من العذاب والتخفيف عنهم؛ حيث قالوا: (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)، فأجابوا لهم: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ)، وقال في آية أخرى: قوله تعالى: (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا. . .) الآية، فلما أيسوا وانقطع رجاؤهم بالفرج من عندهم فزعوا عند ذلك إلى خزنة جهنم حيث قالوا: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ. قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، فلما أيسوا منهم وانقطع رجاؤهم، فزعوا إلى مالك يطلبون منه أن يسأل ربه؛ ليقضي عليهم بالموت حيث قال: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)، فلما أيسوا، سألوا ربهم الإخراج عنها؛ ليعملوا غير الذي عملوا حيث قالوا: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، فاحتج عليهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي: أولم نعمركم فيها من العمر مثل العمر الذي يتعظ به من يتعط، فهلا اتعظتم فيه ما اتعظ من اتعظ فيه، وقد أعمرناكم مثل الذي أعمرنا أُولَئِكَ، أو كلام نحو هذا. (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: جاءكم الرسول وأنذركم هذا فقد كذبتموه.

(38)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي: الشيب، ومعناه - واللَّه أعلم - أي: قد رأيتم وعاينتم تغير الأحوال في أنفسكم من حال إلى حال: من حال الصغر إلى الكبر من الشباب إلى الشيب، ثم الرد إلى أرذل العمر، فهلا اتعظتم به كما اتعظ أُولَئِكَ، (فَذُوقُوا) ما أنذركم به الرسل (فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ). وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على الوعيد والتخويف، أي: هو عالم بالأشياء التي لم يمتحنها بمحن، ولا أمرها بأمور، ولا نهاها بمناه، فالذين امتحنهم بأنواع المحن، وأمرهم بأوامر، ونهى بمناه - أحق أن يكون عالمًا بهم. والثاني: أنه على علم بما يكون من خلق السماوات وأهل الأرض، خلقهم وبعث إليهم الرسل من التكذيب لهم والرد عليهم، لا عن سهو وجهل بما يكون منهم؛ ليعلم أنه إنما بعث إليهم الرسل لحاجة أنفس المبعوث إليهم ولمنفعة لهم في ذلك، لا لحاجة المرسل والباعث ولمنفعة له؛ لذلك خرج البعث إليهم على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد للرسالة على الحكمة وفي الشاهد على السفه؛ لأن في الشاهد إنما يبعث الرسل إلى من يبعث لحاجة نفسه ولمنفعة له في ذلك، فخرج البعث إليه على علم منه بالتكذيب والرد عليه سفها وباطلا، ومن اللَّه حكمة وحقًّا، واللَّه أعلم. وقوله: [(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)]. وكأن ذات الصدور هم البشر، خصهم بعلم ما يكون منهم؛ لأنهم أهل تمييز وبصر وامتحان، فيخرج ذلك مخرج الوعيد لهم والتحذير، وأما غيرهم من الدواب ونحوها فلا محنة عليهم ولا تمييز لهم؛ لذلك خص هَؤُلَاءِ بذلك، وإن كان عالمًا بالكل بذات الصدور وغير ذات الصدور، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ

(39)

أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ... (39) فإن كان المخاطبون به أصحاب رسول اللَّه وأمته، فيخبر أنه جعلهم خلائف من تقدم منهم من القرون والأمم الماضية بعد ما أهلكوا أو استؤصلوا، وإن كان المخاطبون به بني آدم كلهم فيخبر أنكم خلف من تقدمكم من الجن والملائكة، لأنه ذكر أن الجن كانوا سكان الأرض قبل بني آدم، فجعلوا خلائف الجن. ثم وجه الحكمة في جعل بعض خلائف بعض وإنشاء قرن بعد فناء آخر، وإفناء آخر بعد إنشاء آخر وجوه: أحدها: أن يعرفوا أنه إنما أنشأهم لعاقبة تقصد وتتأمل؛ حيث أنشأ قرنًا ثم أفناهم، ثم أنشأ غيرهم، ولو لم يكن في إنشائهم إلا هذا، كان إنشاؤه إياهم للفناء خاصة؛ إذ من بني في الشاهد بناء للنقض والفناء لا لعاقبة تقصد به، كان في بنائه عابثًا سفيها؛ فعلى ذلك إنشاء هَؤُلَاءِ في هذه الدنيا، لو لم يكن لعاقبة كان الإنشاء للفناء، وذلك عبث غير حكمة. والثاني: أن يعرفوا أن الدنيا ليست هي دار القرار والمقام، إنما هي مجعولة زادًا للآخرة، وبلغة إليها، ومسلكًا لها، ومنزلا ينزل فيها؛ ثم يرتحل كالمنازل المجعولة للنزول فيها في الأسفار والتزود منها ثم الارتحال، لا للمقام فيها؛ فعلى ذلك الدنيا جعلت لما ذكرنا؛ لئلا يطمئنوا إليها ولا يركنوا ويعملون عمل من يريد الارتحال عنها لا عمل المقيم فيها. والثالث: أن يعرفوا أن الآلام التي جعلت فيها واللذات ليست بدائمة أبدًا، بل على شرف الزوال والتحول؛ لأن في الحياة لذة وفي الموت ألمًا، فلا دامت اللذة ولا الألم؛ لأنه أحيا قرنًا ثم أفناهم ثم أحيا قرنًا آخر وأفناهم، فلا دامت اللذة ولا الآلام، ولكن انقضيا؛ ليعلموا أنهما لا يدومان أبدًا، ولكن يزولان. والرابع: أن يعتبروا بمن تقدم منهم من القرون: أنه على ماذا يكون الثناء الحسن، ويبقى الأثر والذكر الجميل؟ وبأي عمل ينقطع ويفنى ذلك؛ فمن كان من متبعي الرسل وقادة الخير والتوحيد والطاعة، فبقي له أثر الخير والثناء الحسن والذكر الجميل، ومن كان من أتباع أهل الكفر والشر لم يبق لهم شيء من ذلك؛ ليعملوا بالذي يُبقي لهم الثناء الحسن ويعقب لهم الذكر لا الذي يقطع ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ). أي: عليه ضرر كفره.

(40)

(وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا. . .) الآية. أي: لا يزيد كفرهم باللَّه وبرسوله وعبادتهم الأصنام إلا مقتًا وخسارًا؛ لأنهم كانوا يعبدونها رجاء أن تشفع لهم يوم القيامة، ورجاء أن تقرب عبادتهم إلى اللَّه زلفى؛ يقول - واللَّه أعلم -: لا يزيد ذلك لهم إلا مقتًا من ربهم وخسارًا. أو يكون أعمالهم التي عملوا في هذه الدنيا من صلة الأرحام والقرب التي رجوا منها الربح والنفع في الآخرة لا يزيد ذلك لهم إلا مقتًا وخسارًا، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) ظاهر قوله: (أَرُونِي) أمر، لكنه يخرج على وجهين: أحدهما: على الإعجاز، أي: يعجز ولا يقدر ما تعبدون من دونه خلق السماوات والأرض، ولا إشراكه في خلق السماوات، ولا إنزال كتاب من السماء؛ ليأمرهم بذلك، بل اللَّه هو الخالق لذلك كله وهو القادر عليه، فكيف صرفتم العبادة عنه والألوهية إلى من هو عاجز عن ذلك كله؟! والثاني: على التنبيه والتعيير لهم والتسفيه لأحلامهم؛ يقول - واللَّه أعلم -: إنكم تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها دون اللَّه وتسمونها: آلهة لم يخلقوا شيئًا مما ذكر، ولا لهم شرك في ذلك ولا لكم كتاب يبيح لكم ذلك ويأذن لكم، وتعلمون أن اللَّه هو الفاعل لذلك كله حيث قال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، ولا لهم كتاب في ذلك؛ لأن الكتاب جهة وصوله إليه الرسول، وأنتم لا تؤمنون بالرسول، فكيف عبدتموها وتركتم عبادة من تعلمون أنه الفاعل لذلك والقادر عليه؟! وقوله: (مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ). يحتمل جواهر الأرض نفسها، ويحتمل الخارج منها مما به معاشهم وقوامهم؛ وكذلك قوله: (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) يحتمل في جواهرها، ويحتمل ما ينزل عنها مما به معاشهم وأرزاقهم. وقوله: (فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ) أي: على حجة وبيان منه. وقوله: (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا). يحتمل وعدهم الذي ذكر لبعضهم بعضًا ما قالت القادة منهم والرؤساء للأتباع: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وما لبسوا هم على الأتباع من أمر الكتاب والرسول: هو ساحر كذاب، وأنه مفتر، وأمثال ذلك مما يكثر عدده، فذلك كله منهم تغرير للأتباع.

(41)

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) يحتمل أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)، فإن كان على هذا فيقول: تعلمون أن اللَّه هو رافع السماوات والأرض والممسك لهما والمانع عن أن تزولا عن أمكانهما، لا يقدر أحد على إعادتهما، ولا أمسكهما سواه، فكيف تعبدون من لا يملك ذلك؟! أو أن يكون ذلك قوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ. . .) الآية، كادتا أن يتفطرن ويتشققن حين قالوا: لله ولد، وله شريك، فإذا قالوا: اتخذ اللَّه ولدا كادتا أن تزولا من مكانهما، وتسقطا عليهم تعظيمًا؛ لما قالوا في الله سبحانه. وجائز أن يكون لا على الصلة بشيء مما ذكرنا ولكن على الابتداء، فإن كان على الابتداء فهو يخبر عن قدرته وسلطانه؛ حيث رفع السماء وأمسكها في الهواء مع غلظها وشدتها بلا عمد من تحت ولا شيء من فوق، يمنعها عن الانحدار والزوال عن مكانها والإقرار على ذلك والتقرير، وفي الشاهد أن ليس في وسع أحد من الخلائق إمساك الشيء في الهواء ولا إقامته إلا بأحد هذين السببين: إما من تحت، وإما من فوق، وكذلك الأرض حيث دحاها وبسطها على الماء، ومن طبعها التسرب والتسفل في الماء لا القرار عليه؛ حيث لا يحفر مكان منها إلا ويخرج منه الماء؛ فدل تقرير الأرض على الماء وإمساك السماء في الهواء بلا شيء يقرهما ويمنعهما عن التسفل والانحدار - أنه الواحد القادر بذاته لا يعجزه شيء. وقوله: (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا). قوله تعالى: (حَلِيمًا): حين لم يرسل السماوات عليهم؛ لعظيم فريتهم على اللَّه والقول فيه بما لا يليق به - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرًا - وحيث لم يعجل بعقوبتهم في الدنيا، (غَفُورًا): رحيمًا حيث ستر عليهم ذلك، ولم يفضحهم في الدنيا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ

(42)

بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) هو قسمهم باللَّه، ومعناه - واللَّه أعلم -: أن العرب كانت من عادتهم أنهم كانوا يحلفون بالآباء والطواغيت، لا يحلفون باللَّه إلا فيما عظم أمره، وجل قدره؛ تأكيدا لذلك الأمر؛ لذلك كان قسمهم باللَّه جهد أيمانهم، وقد ذكرنا معنى جهد الأيمان فيما تقدم. وقوله: (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ) قيل: رسول (لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ). قيه دلالة: أنهم قد وقعت لهم الحاجة، ومستهم الضرورة إلى رسول يبين لهم أمر الدِّين ومصالحهم، وما لهم، وما عليهم، حيث أقسموا وعهدوا أنه لو جاءهم نذير لاتبعوه واقتدوا به، ثم تركهم لذلك العهد؛ لما لم يروه أهلا لذلك؛ لما كان هو دونهم في أمر الدنيا؛ استكبارًا منهم عليه؛ ولذلك قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وإن تركوا أتباعهم نقضوا عهدهم لما رأوا مذاهب الناس مختلفة، فظنوا أن الاختلاف يرفع من بينهم به، فإن لم يرتفع تركوا اتباعه، أو لمعنى آخر لا نعلمه، واللَّه أعلم. وقوله: (لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يعنون: اليهود والنصارى. وجائز أن يكونوا أرادوا بذلك الأمم جميعًا، لكنهم لم يروا الحق إلا لواحدة منها، فقالوا: (لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ)، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا): استكبارًا في الأرض لما ذكرنا. وقوله: (وَمَكْرَ السَّيِّئِ ... (43) يحتمل مكرهم: ما مكروا هم برسول اللَّه من أنواع المكر حين هموا بقتله وإخراجه؛ كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ. . .) الآية. ويحتمل أيضًا أنه لما خرج ودعا الناس إلى توحيد اللَّه، أقعدوا على الطرق والمراصد ناسًا يقولون لمن قصد رسول اللَّه: إنه ساحر، وإنه كذاب، وإنه مجنون؛ يصدون الناس بذلك عنه، فذلك كيدهم ومكرهم به، وقد كان منهم برسول اللَّه من أنواع المكر سوى ذلك مما لا يحصى. وقوله: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). هو في الدنيا من أنواع العذاب والقتل الذي نزل بهم، ويحتمل أن يكون ذلك في الآخرة، واللَّه أعلم.

(44)

وقوله: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ما ينظرون إلا سنته في الأولين، وسنته في الأولين الاستئصال والإهلاك عند العناد والمكابرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما ينظرون بإيمانهم إلا سنة الأولين: الإيمان عند معاينتهم العذاب، وإن كان لا يقبل ولا ينفعهم ذلك؛ كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. . .) الآية. وقوله: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا). هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: (لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ): وهي الاستئصال عند العناد والمكابرة (تَحْوِيلًا) وإن اختلفت جهة الهلاك والاستئصال؛ كقوله: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ)، وقوله: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ)، لا شك أن نفس القول منهم مختلف في الكفر وسببه متفرق، ثم أخبر أن قول هَؤُلَاءِ ضاهى قول أُولَئِكَ، وشابهت قلوب بعض بعضا، وإن كان سبب ذلك وجهة الكفر مختلفًا؛ فعلى ذلك سنته لا تحول ولا تبدل وهي الاستئصال، وإن كان جهة ذلك وسببه مختلفًا. والثاني: (فَلَن تَجدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ) التي سن فيهم وحكم مدفعًا ولا رادّا، أي: لن يجدوا إلى دفع ما سن فيهم وحكم من العذاب والهلاك دافعًا، ولا رادًّا؛ كقوله: (وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا). والثالث: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ) وهي إيمانهم الذي يؤمنون عند معاينتهم العذاب وعند نزوله بهم (تَحْوِيلًا) و (تَبْدِيلًا)، أي: يؤمنون لا محالة ولكن لا ينفعهم ذلك في ذلك الوقت. والرابع: أن كل سنة سنها في كل قوم وكل أمة وإن اختلفت، لن تجد لذلك تحويلا ولا تبديلا، واللَّه أعلم. وقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) هذا يخرج على وجوه: أحدها: قد. ساروا في الأرض، ونظروا إلى ما حل بأُولَئِكَ بالتكذيب والعناد، لكن لم يتعظوا بهم، ولم ينفعهم ذلك. والثاني: على الأمر: أن سيروا في الأرض، وانظروا ما الذي نزل بأُولَئِكَ؟ ومم نزل؟ واتعظوا بهم، وامتنعوا عن مثل صنيعهم.

(45)

والثالث: أنهم وإن ساروا في الأرض ونظروا في آثارهم لم ينفعهم ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً). أي: أنهم كانوا أكثر عددًا وأشد قوة وبطشا منكم، ثم لم يكن لهم دفع ما نزل بهم وحل، فأنتم يا أهل مكة مع قلة عددكم وضعفكم لا تقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم. وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ). الإعجاز في الشاهد يكون بوجهين: أحدهما: الامتناع؛ يقول: لا يقدر أحد أن يمتنع عنه ومن عذابه. والثاني: القهر والغلبة؛ يقول: لا يسبق منه بالقهر والغلبة، بل هو القاهر والغالب على خلقه (إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا). وقوله: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا ... (45) من المعاصي والمساوي، (مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)، أي: على ظهر الأرض، ووجهه: اكتفاء بما سبق من ذكر الأرض، وهو قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ). أو علم الناس وفهموا من ذكر الظهر: ظهر الأرض؛ لما على ظهر الأرض يكتسب ما يكتسب. ثم قوله: (مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: المراد بالدابة: الممتحنون المميزون وهم بنو آدم خاصة؛ لأنهم أهل اكتساب واجتراح؛ إذ قد ذكر الإهلاك بما يكتسبون، وهم أهل الاكتساب دون غيرهم من الدواب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل دابة من البشر وغيره؛ لأن غيره من الدواب إنما أنشئت للبشر ولحوائجهم لا لحاجة أنفسها أو لمنفعة لها حيث قال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، وقوله: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)، فإذا كان غيرهم من الأشباء منشأة لهم، فإذا أهلكوا هم أهلك ما كان منشأ لحوائجهم ولمنافعهم، ولا يكون إهلاك ما ذكرنا من الدواب خروجًا عن الحكمة على ما يقول الثنوية؛ إذ ليس من فعل الحكيم الأمر بذبح أسلم الدواب والانتفاع بلحمها. قيل: هكذا إذا كانت تلك منشأة لأنفسها ولمنافعها، فأما إذا كان ما ذكرنا أنها منشأة لنا ولمنافعنا فجائز الانتفاع بها مرة بعينها ومرة بلحمها، ولا يكون فعل ذلك ولا الأمر به غير حكمة. ثم الفرق بين إباحة الانتفاع بلحم أسلم الدواب وحظر لحم الضارة منها والمضرة؛

لأنه جعل حفظ ما ليس بضار ولا مضر إلينا، وعلينا جعل مؤنتها والذب عنها ودفع المضر، فأما الضارة منها والمضرة فهي ممتنعة بنفسها متحملة مؤنتها؛ كذلك كان ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى). أي: لم يؤاخذهم بما كسبوا على ظهرها لما جعل لهم من المدة؛ أحب أن ينقضي ذلك، ويفي به؛ جعل لهم من المدة وما ضرب لهم من الوقت. (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا). أي: عن بصيرة وعلم بكسبهم وصنيعهم، وما يكون منهم ضرب لهم المدة والوقت الذي ينتهون إليه، ويبلغون آجالهم، لا عن جهل، بل لم يزل عالمًا بما يكون منهم، لكن لما كان ضرر ذلك الذي علم أنه يكون منهم راجعًا إليهم أنشأهم وجعل لهم المدة، وقد ذكرنا هذا في غير موضع، واللَّه أعلم. قَالَ الْقُتَبِيُّ: أساور: جمع سوار، وهو الذي تجعله المرأة في معصمها، والنصب: الشدة والتعب، واللغوب: الإعياء، لغبت بنفسي ألغب لغوبا، فأنا لاغب، وألغبت غيري، أي: كلفته حتى أعياه؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ، والاصطراخ، صياح الضجر، والمقت: البغض. * * *

سورة يس

سُورَةُ يس كلها نزلت بمكة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا إنسان، يعني: يا مُحَمَّد أقسم به: يا مُحَمَّد، إن هذا القرآن من عند اللَّه نزل، وهو بلسان الحبشة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وهو بلسان طيئ. وقتادة يقول: قسم، أقسم بالقرآن: إنك لمن المرسلين، ويقول: كل هجاء في القرآن فهو اسم من أسماء القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من فواتح السورة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فواتح يفتتح بها كلامه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اسم من أسماء الرب. وعن معاذ بن جبل وكعب - رضي اللَّه عنهما - قالا: (يس) قسم أقسم اللَّه به يا مُحَمَّد، (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) دل أن الخطاب به على أثر قوله: (يس)

(3)

على أنه هو المراد بقوله: (يس)؛ إذ لا يستقيم الخطاب بقوله: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلا على سبق خطاب له وذكر اسمه. وقال عكرمة: هو حرف من الهجاء الذي افتتح به السور كسائر حروف الهجاء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من حروف الهجاء التي أقسم اللَّه بها، بما يتلو تلك الحروف من القرآن والآيات والكتاب؛ إذ من عادة العرب القسم بكل ما عظم خطره وجل قدره. فَإِنْ قِيلَ: كيف أقسم بالقرآن وهم كانوا ينكرون القرآن أنه من عند اللَّه؟! قيل: إنهم وإن كانوا ينكرونه، فقد عظم قدره وجل خطره عندهم بما عجزوا عن إتمِان مثله بعد قرع أسماعهم بقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ. . .) الآية، ونحوه. والثاني: أقسم به وإن كانوا ينكرونه؛ لما أن قسمه به يحملهم على السؤال عنه؛ إذ كانوا لا يقسمون إلا بما عظم قدره وجل خطره، يقولون: ما هذا القرآن الذي أقسم ربنا به؛ ألا ترى أنه قال: (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)، فكأنه على سؤال خرج على هذا أنه (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)، وأن يكون القسم به وبغيره من الأشياء التي عظم خطرها عندهم، على إضمار القسم برب هذه الأشياء وبإلاهها؛ هذا على قول من يقول بأن القسم باللَّه حقيقة لا بتلك الأشياء - مستقيم، وعلى قول من يجعل القسم بها لا على الإضمار هو ما ذكرنا. وقوله: (الْحَكِيمِ). أي: الْمُحْكَم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه على ما وصف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المحكم بالحلال والحرام، والوعد والوعيد، من غير أن يكون فيه اختلاف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكيم؛ لأن من تمسك به وعمل بما فيه يصير حكيمًا. وقوله: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) ولم يقل: إنك لرسول اللَّه، وكلاهما سواء، غير أن قوله: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين آمنوا بهم من قبل وصدقوا بهم ففيه زيادة، ليس ذلك في قوله: (إنك لرسول)، والله أعلم. وقوله: (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) قَالَ بَعْضُهُمْ: المستقيم: القائم بالحجج والبراهين، ليس بالهوى كسائر الأديان والسبل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المستقيم: المستوي، أي: مستوٍ؛ على أن من يسلكه أفضاه - أي:

(5)

اللَّه - وبلغه إلى دار السلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المستقيم، أي: استقام بالحق والعدل والصدق، لا زيغ فيه، ولا جور، ولا عدول، ولا اعوجاج. ويحتمل أن يكون ذلك وصف النبوة والرسالة التي تقدم ذكرها. ويحتمل وصف الدِّين، وذلك عامة قول أهل التأويل، واللَّه أعلم. وقوله: (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) أي: ذلك القرآن الذي أقسم به (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)، أي: من عنده نزل وأحكم، سمى نفسه: عزيزًا رحيمًا عظيمًا لطيفًا ظاهرًا باطنًا أولا آخرًا، وفي الشاهد من وصف بالعز لا يوصف بالرحمة، ومن وصف بالعظم لا يوصف باللطافة، ومن وصف بالظاهر لا يوصف بأنه باطن، ومن وصف بالأول لا يوصف بالآخر؛ ليعلم أن المعنى الذي وصف به الخلق غير الذي وصف به الرب - تبارك وتعالى - لأن من وصف من الخلق بواحد مما ذكرنا لم يستحق الوصف بالآخر، فدل، أن ما وصف به الرب - تبارك وتعالى - غير ما يوصف به الخلق، تعالى اللَّه علوا كبيرًا. وقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا) مثل الذي أنذر آباؤهم من الآيات التي أقامها، فلم يقبلوها (فَهُمْ غَافِلُونَ) أميون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ)، أي: لتنذر قومًا أميين لم ينذر آباؤهم، يقول قائل: لم تكن النذارة للأميين من قبل، كأنه يقول: لتنذر قومًا أميين لم ينذر آباؤهم الأميون من قبل؛ وكذلك قال: (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ)؛ وهو كقوله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ)، وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ)، أي: لم نرسل إليهم قبلك نذيرًا، وأصله: أنه يخبر أنه لا ينجع في هَؤُلَاءِ النذارة كما لم ينجع في آبائهم، بل هم غافلون. ثم الإنذار يحتمل أن يكون بالنار في الآخرة والتعذيب بها، ويحتمل الآيات التي أقامها في الدنيا والقتل فيها، واللَّه أعلم. وقوله: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) قيل: هو قوله لإبليس حيث قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)، و (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، أي: حق ذلك القول ووجب. ثم يحتمل ذلك في الذي ذكره بعض أهل التأويل: أن نفرًا هموا برسول اللَّه قتله وأذاه،

(8)

فأهلكهم اللَّه يوم كذا إلا واحدا أو اثنين. ويحتمل أن يكون ذلك في جميع مكذبيه ورادِّي رسالته ويتأسى أتباعه، ولا شك أن أكثر من بعث هو إليهم كانوا كذلك لهم في الآخرة أو في قوم خاص علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدا؛ ألا ترى أنه قال على أثر ذلك: (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). ثم في قوله. (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ)، وقوله: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) نقض قول المعتزلة ورده عليهم؛ لأنه وعد - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يملأ جهنم بمن ذكر، فيقال لهم: أراد أن يفي بما وعد أم لا؛ فإن قالوا: لم يرد، فيقال: أراد، إذن أن يخلف ما وعد وذلك [وخش من القول سرف]. وإن قالوا: أراد أن يفي بما وعد، لزمهم أن يقولوا: أراد أفعالهم التي فعلوا فيلزمهم قولنا، وباللَّه العصمة. وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) يحتمل أن يخرج على التمثيل، ويحتمل على التحقيق: فإن كان على التمثيل، فهو وصفه إياهم بالبخل، والكف عن الإنفاق على الفقراء والمساكين وأهل الحاجة من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو كقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ)، نهاه عن البخل والكف عن الإنفاق كمغلول اليد لا يقدر على الإنفاق، ليس على إرادة غل اليد حقيقة ولكن على ترك الإنفاق؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ذلك وصفًا لهم بالبخل وترك الإنفاق عليهم. وإن كان على حقيقة الغل والأعناق، يحتمل ما قاله أهل التأويل: إن أبا جهل - لعنه اللَّه - حلف لئن رأى محمدًا ليدمغنه، فأتاه أبو جهل وهو يصلي ومعه حجر، فرفع الحجر؛ ليدفع له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيبست يده إلى عنقه وألزق الحجر بيده، فلما رجع إلى أصحابه قال رجل: أنا أقتله، فأخذ الحجر، فلما دنا منه طمس اللَّه بصره، فلم ير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وسمع قراءته، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه؛ فذلك قوله: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ... (9) ويحتمل أن يكون ذلك لهم في الآخرة إن كان على التحقيق؛ وهو كقوله: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ)، وقوله: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)، ونحو ذلك مما ذكر؛ فيكون قوله: (جَعَلْنَا)، أي: سنجعل ذلك لهم، وذلك جائز في الكلام؛ كقوله لعيسى حيث قال: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ)، أي: يقول له يوم القيامة، فهو بعيد غير

معقول؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من قوله: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا)، (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا. . .) إلى آخر ما ذكر في الآخرة، أي: سنجعل لهم في الآخرة ذلك. ويحتمل أن يكون فعل ذلك لهم في الدنيا من قصدهم برسول اللَّه ما قصدوا، حتى لم يجدوا السبيل إليه لا من بين يديه ولا من خلفه ولا من جهة من الجهات. أو أن يكون قوله: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) على التمثيل، أي: جعلنا بينهم وبين الحق سدًّا من أمام ومن خلف، فأغشينا أبصارهم فلا يبصرون الحق أبدًا، وذلك في القرآن كثير، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا). إن الغل يكون طرفه في العنق، وطرفه الآخر في اليد؛ فتكون اليد اليمنى مغلولة إلى العنق، وعلى ذلك ذكر في حرف ابن مسعود أنه قرأ: (إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا)، وفي بعض الحروف: (في أيديهم أغلالا). وقوله: (فَهُمْ مُقْمَحُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: رافعو رءوسهم إلى السماء؛ لأنه كذلك يكون إذا غل عنق المرء إلى الذقن لا يستطيع أن ينظر في الأرض، وكذلك قيل للإبل إذا شربت الماء: أقمحت، أي: رفعت رأسها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإقماح: هو غض البصر. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: المقمح: الذي يرفع رأسه ويغض بصره، ويقال: غاض طرفه بعد رفع رأسه، جمعت أيديهم إلى أعناقهم. وقوله: (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ). قد قرئ بالرفع والنصب والخفض جميعًا: فمن قرأها بالرفع فهو على الابتداء، ومن قرأها بالخفض فهو على النعت؛ كقوله: (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)، ومن قرأ بالنصب فعلى القطع؛ لأن الكلام قد تم دونه. وقوله: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ). بالغين والعين جميعًا: فمن قرأ بالغين فهو من الغشاوة، ومن قرأ بالعين فهو من قوله:

(11)

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ)، وهو من الإعراض. وفي قوله: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) وجهان من الاستدلال على المعتزلة لقوله: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ) أضاف إلى نفسه وإن كان منهم صنع، ويجوز أن يستدل بخلق أفعالهم منهم. وقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) ومن لم يتبع، (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ): ومن لم يخش. أو إنما ينتفع بالذكر من أتبع الذكر وخشي الرحمن، فأما من لم يتبع الذكر ولم يخش الرحمن فلا ينتفع. أو أن يكون فيه إخبار بإنذاره من اتبع الذكر، وليس فيه نفي عن إنذار من لم يتبع الذكر ولا تخصيص منه بالإنذار أحد الفريقين دون الآخر، واللَّه أعلم. والذكر يحتمل القرآن، ويحتمل غيره من الذكرى؛ كقوله: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). وقوله: (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ). بالغيب: بالآثار والأخبار التي انتهت إليهم من غير مشاهدة وقعت لهم، أو بالغيب بما رأوه من آثار سلطانه وقدرته هابوه وخشوا عذابه ونقمته، واللَّه أعلم. وقوله: (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ). يحتمل البشارة بالمغفرة عما سلف من الذنوب والإجرام إذا رجعوا عنها، أو عن تقصير كان منهم في الفعل في خلال ذلك، وإن اعتقدوا في الجملة ألا يخالفوا ربهم قي فعل ولا في قول؛ إذ كل مؤمن يعتقد في أصل إيمانه ترك مخالفة الرب في كل الأحوال، وإن تخلل في بعض أحواله تقصيرًا ومخالفة الرب بغلبة شهوة أو طمع في عفوه ورحمته. (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) قيل: حسن، ويحتمل تسميته: كريمًا؛ لما يكرم كل من نال ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) كأنه - واللَّه أعلم - يذكر هذا ليس في موضع الاحتجاج عليهم، ولكن على الإخبار أنه هو محييهم إذا ماتوا. وقوله: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ). قال عامة أهل التأويل: نكتب ما قدموا وآثارهم وما أسلفوا في حياتهم وعملوه،

ونكتب أيضًا آثارهم وهو ما سنوا من سنة من خير أو شر فاقْتُدي بهم من بعد موتهم، على ما ذكر في الخبر: " إن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة، فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء "؛ وهو كقوله أيضًا: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَآثَارَهُمْ) أي: خطاهم التي خطوها في الخير والشر. وقال قتادة: لو كان اللَّه مغفلا شيئًا من شأنك يا ابن آدم، أغفل ما تعفى الرياح من هذه الآثار، وروي على هذا عن ابن عَبَّاسٍ وأبي سعيد الخدري - رضي اللَّه عنهما - قالا: " إن الأنصار كانت منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريبًا من المسجد، فنزل: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن آثاركم تكتب "؛ فلم ينتقلوا، فإن ثبت هذا فهو دليل لمن يقول بالآثار: الخُطَا. وقوله: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ). أي: كل شيء من أعمالهم من خير أو شر محصى محفوظ (فِي إِمَامٍ مُبِينٍ). يحتمل قوله: (فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)، أي: في الكتاب الذي تكتب فيه، أعمالهم في الدنيا؛ كقوله: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)، أي: بكتابهم الذي كتبت أعمالهم فيه؛ ألا ترى أنه قال: [(فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. . .)] الآية. ويحتمل (فِي إِمَامٍ مُبِينٍ): في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)

(13)

قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) يحتمل الأمر لرسوله بضرب مثل أصحاب القرية لقومه وجهين: أحدهما: أن الخبر قد كان بلغ هَؤُلَاءِ، أعني: خبر أصحاب القرية التي بعث إليهم الرسل، وما نزل بهم بتكذيبهم الرسل وسوء معاملتهم إياهم، إلا أنهم قد نسوا ذلك وغفلوا عنه، فأمرهم بالتذكير لهم والتبيين؛ ليحذروا عن مثل صنيعهم وسوء معاملتهم رسولهم. والثاني: يحتمل أن لم يكن بلغهم خبر أُولَئِكَ وما نزل بهم بسوء معاملتهم الرسول، فأمره أن يعلم قومه ذلك ويبين لهم، فيسألون عن ذلك أهل الكتاب، فيخبرونهم بما كان في كتبهم؛ فيعرفون صدق رسول اللَّه فيما يخبرهم، فيكونون على حذر عن مثل صنيعهم ومعاملتهم الرسل؛ وعلى ذلك تخرج هذه الأنباء والقصص المذكورة في الكتاب على هذين الوجهين، واللَّه أعلم. وقوله: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) أي: قوينا بثالث، اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن عيسى ابن مريم كان بعث إليهم أولا رسولا فأتاهم، فدعاهم إلى التوحيد، وأقام على ذلك حججًا وبراهين، فكذبوه وقالوا: ما نعرف ما تقول، ثم بعث من بعده رسولين فقال لهما ذلك الرسول: إنهم سيكذبونكما كما كذبوني قبلكما وسيقولون لكما إذا دعوتماهم إلى التوحيد: ماذا تحسنان؛ فإذا قلتما: نبرئ الأكمه والأبرص، قالوا: فينا من يحسن ذلك، فإن قلتما: نشفي المريض، قالوا: فينا من يحسن ذلك ونحوه، ولكن قولا أنتما: نحيي الموتى، وأنا أقول لهم: إني لا أحسن أنا؛ فهو قوله: (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) أي: قوينا وشددنا بثالث، ففعلوا ذلك فقالوا عند ذلك: قد تواشيتم علينا بهذا الكلام، أو تواطأتم، أو كلام نحوه، فأخذوا وعذبوا وأهلكوا؛ وهو قول ابن عباس، رضي، اللَّه عنه. ومنهم من يقول: بعث أولا رسولان فكذبوهما، فبعث ثالث بعد ذلك (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ)، أي: عززنا الرسولين بثالث، أي: قويناهما.

(15)

وقرأ بعضهم: (عَزَزْنا) بالتخفيف، أي: غلبنا. لكن ذكر أنهم قتلوا جميعًا وأهلكوا - أعني: الرسل - فكيف يكون الغالب مقتولا مهلكًا؟! ويجوز أن يكون المقتول مقويا؛ دل أن قراءة من يقرأ بالتخفيف ضعيف والأول أقوى وأقرب، واللَّه أعلم. وقوله: (فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) وكذلك قول أهل مكة لرسول اللَّه: إنه ساحر وإنه مجنون وإنه مفتر مختلق، وقولهم: (وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ). وقوله: (رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) لما أيسوا من إيمانهم وتصديقهم إياهم، فزعوا إلى اللَّه، وتضرعوا إليه. أو أن يقولوا بأن اللَّه أعلم بما أطلعكم بأنا إليكم لمرسلون بالحجج والآيات. وقوله: (وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) أي: ليس علينا من ترك إجابتكم لنا ورد الرسالة شيء، إنما ذلك عليكم. وقوله: (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) دل هذا القول منهم على أنه قد نزل شيء من العذاب والشدة حتى تشاءموا بهم ذلك ولم يزل عادة الكفرة التطير بالرسل عند نزول البلاء بهم؛ كقوله: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ)، وقوله: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ. . .) الآية. وقوله: (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) يقول - واللَّه أعلم -: شؤمكم معكم حيثما كنتم ما دمتم على ما أنتم عليه من العناد والتكذيب، ويذكر أهل التأويل: أن القرية كانت أنطاكية وأن الذي بعث هَؤُلَاءِ الرسل إليهم عيسى - صلوات اللَّه عليهم أجمعين - ولكن لا نعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة. وقوله: (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: تشاؤمكم معكم أين كنتم وحيثما كنتم، ما دمتم على ما أنتم عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: طائركم معكم إذ ذكرتم فلم تقبلوا التذكير ونحوه.

(20)

ويحتمل وجهًا آخر: أن الذي أصابكم كان مكتوبًا في أعناقكم، أئن وعظتم بالله تطيرتم بنا (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ). * * * قوله تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وقوله: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ). قال عامة أهل التأويل: إن هذا الرجل يسمى: حبيب النجار، وهو من بني إسرائيل، كان في غار يعبد اللَّه، فلما سمع بالرسل، نزل وجاء، فقال ذلك ما قال، لكن لا ندري من كان؟ وليس لنا إلى معرفة اسمه حاجة. ثم يحتمل قوله: (مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) رغبة في الرسل وفي دينهم فدعاهم إلى اتباع الرسل. أو أن يكون كان مؤمنًا مسلمًا مختفيًا، فلما بلغه خبر إهلاك الرسل، جاء يسعى؛ إشفاقًا عليهم؛ لئلا يهلكوا - أعني: الرسل - فقال: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) أي: اتبعوا الهدى، والهدى مما يجب أن يتبع، ولا يسألكم على اتباع الهديَ أجرًا؛ فيمنعكم الأجر عن اتباع الهدى. أو أن يقول: اتبعوا المرسلين، واعلموا أنهم مهتدون حيث لا يسألونكم أجرًا وهم مهتدون في الدنيا ولا العز؛ إذ كل من لا يسأل هذا فهو مهتد، وكل مهتد متبع، وهذا يدل أن طلب الأجر في ذلك مما يجعل صاحبه معذورًا في ترك الاتباع؛ وكذلك قوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)، أي: لا يسألكم أجرًا حتى يمنعكم ثقل الأجر عن إجابتها واتباعه، وهذا ينقض ويبطل قول من يبيح أخذ الأجر على تعليم القرآن

(22)

والعلم؛ لأنه إذا كان له ألا يعلم إلا بالأجر كان له ألا يعلم بكل أجر، ففي ذلك إبطال الدِّين وجعل الرخصة لهم في ترك ذلك، وذلك سمج قبيح، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) يخرج على وجهين: أحدهما: على الاحتجاج عليهم بعد سؤال كان من أُولَئِكَ له في الرجوع إلى عبادة من يعبدونه دون اللَّه وترك عبادة اللَّه، فقال: إنكم تعبدون هذه الأصنام رجاء أن يقربكم ذلك إلى اللَّه زلفى، وما لي لا أعبد الذي ترجون أنتم الزلفى والقربة منه؟! والثاني: على التذكير والتنبيه لهم: أنتم تعلمون أن الذي فطرنا وخلقنا هو المستحق للعبادة لا من لم يفطر ولم يخلق، ثم تعلمون أن اللَّه هو فطرنا وخلقنا لا الأصنام التي تعبدونها، وما لي لا أعبد الذي فطرنا وأترك الذي لم يفطرنا؟! واللَّه أعلم. وقوله: (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) يقول: أأتخذ من دون اللَّه معبودا لو أراد اللَّه بي ضرا لم يملك ذلك المعبود دفع ذلك عني، ولو نزل بي شدة أو بلاء منه، لم يقدر استنقاذي منه، ولو طلبت منه جر نفع لم يقدر على جلبه إليَّ، وأترك عبادة من أعلم أن ذلك كله منه، وهو المالك لذلك كله: من جر نفع، ودفع ضر وبلاء، وفي الحكمة: العبادة لمن يملك ذلك كله لا لمن لا يملك، وباللَّه التوفيق. وقوله: (إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) أي: لو فعلت ذلك فإذن كنت في ضلال مبين، فذكر أنه لما قال لهم ذلك أمر بقتله، فعند ذلك قال: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) يحتمل قوله: (فَاسْمَعُونِ) أي: أجيبوني في قولي: (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَاسْمَعُونِ)، أي: اشهدوا لي. ويحتمل قوله: (فَاسْمَعُونِ) حقيقة السماع، أي: اسمعوا قولي وإيماني، لا يمنعني عنه ما تخوفونني، واللَّه أعلم. وقوله: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ... (26)

(27)

قَالَ بَعْضُهُمْ: أي أوجبت له الجنة وما ذكر للشهداء وأُري الثواب؛ فقال عند ذلك: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي. . .) الآية. ويحتمل دخول الجنة ما ذكر للشهداء: (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ) الآية. أو أن يكون قوله: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) وأن يقال له في الآخرة كقوله لعيسى ابن مريم: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي)، وإنما هو أن يقال له يومئذ؛ فعلى ذلك يحتمل الأول. وقوله: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) قيل: إنه نصحهم حيًّا وميتًا، ولم يترك نصحهم لمكان ما عملوا وفعلوا به من السوء وأنواع التعذيب، ولكن تمنى أن ليت قومي أن يكونوا يعلمون ما أعطي هو بالإيمان بربه والتصديق برسله؛ ليعطوا مثل ما أعطي هو، وهكذا الواجب على كل مؤمن ألا يترك النصيحة لجملة المؤمنين، وإنْ لحقه منهم أذى أو سوء. وقال قتادة: ولا يلقى المؤمن إلا ناصحًا، ولا يلقى غاشًّا؛ لما عاين ما عاين من كرامة اللَّه، قال: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) تمني واللَّه أن يعلم قومه ذلك؛ ليعلموا أن أهل الإيمان ليسوا بأهل غش ولا نذالة لعباده. وقال: قيل لروحه: ادخل الجنة، فتمنى روحه أن يعلموا إلى ما صار هو، ليؤمنوا بالرسل ولا يكذبهم. وقوله: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) أي: من بعد قتل ذلك الرجل (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ): من الملائكة، أي: لم ننزل على قومه في هلاكهم بعد صنيعهم بمكانه وإهلاكهم إياه - جندا من السماء، ولكن أهلكوا بصيحة واحدة، أي: لم نفعل بهم كما يفعل ملوك الأرض إذا قتل رسلهم وأهلك أولياؤهم، يبعثون بجنود في استئصال من فعل ذلك بهم، ولكن أهلكهم بصيحة واحدة. ثم يحتمل قوله: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً ... (29) أي: قدر صيحة واحدة، أي: أهلكوا بقدر صيحة واحدة في سرعتها. ويحتمل الإهلاك بالصيحة، أي: أهلكوا بالصيحة، واللَّه أعلم. وقوله: (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ). قيل: موتى مثل النار إذا خمدت وطفئت، لا يسمع لها صوت.

(30)

وقوله: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ... (30) في تركهم الإيمان باللَّه وتكذيبهم الرسل واستهزائهم بهم، والحسرة: قال بعض أهل الأدب: هي الغاية من الندامة، إذا انتهت الندامة غايتها يقال: حسرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحسرة: الحزن والتحزن والتندم؛ وهو واحد. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ): أي: يا حسرة الرسل على ذلك المؤمن المقتول على الإيمان بهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يا حسرة أُولَئِكَ الكفرة على أنفسهم إذا عاينوا العذاب على ما كان منهم من الاستهزاء على الرسل؛ كقوله: (يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا)، وقوله: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)، واللَّه أعلم. وقوله: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) فَإِنْ قِيلَ: كيف احتج عليهم بالرجوع إليهم وهم كانوا ينكرون البعث والرجوع بعد الموت؟! فهو يخرج على وجوه: أحدها: (أَلَمْ يَرَوْا) أي: قد رأى أهل مكة هلاكهم في الدنيا وأنهم إليهم لا يرجعون أحياء، فيخبرونهم أنهم بم أهلكوا في هذه الدنيا؟ وبماذا عذبوا فيها؟ فهلا يعتبرون وينظرون أنهم إنما أهلكوا بتكذيب الرسل فيرتدعوا عن ذلك. (وَإِنْ كُلٌّ) يعني الأمم كلها، يقول - واللَّه أعلم -: وما كل إلا جميع لدينا محضرون في الآخرة. أو يقول: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ) بالتكذيب للرسل من القرون أنهم إليهم لا يرجعون أبدًا حتى يوم القيامة، وهما واحد. أو أن يكون ذلك يخرج على إبطال قول أهل التناسخ حيث قالوا: إن الأرواح إذا خرجت من أبدان قوم دخلت في أخرى، فيقول - واللَّه أعلم - ردّا عليهم: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ)؛ إذ لم ير روحًا، أخبر أنه خرج من جسد هذا ودخل في آخر. أو أن يكون ذلك يخرج على نقض قول قوم وهو ما ذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنه سئل فقيل: إن ناسًا يقولون: إن عليّا مبعوث قبل يوم القيامة، ثم قال: " بئس القوم نحن إذا كنا نكحنا نساءهم وقسمنا ميراثهم، ثم تلا: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ

(32)

مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ) ". أو أن يكون. على إيجاب البعث أن من كذب الرسل ومن صدقهم ومن عمل ما يحمد عليه وما يذم، قد استووا جميعًا في هذه الدنيا، فلابد من دار أخرى يميز بينهما، بين المصدق وبين المكذب، وبين المحمود والمذموم، يؤيد ذلك قوله: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وقوله: (لَدَيْنَا) و (عِندَنَا) ونحوه من الظروف خصها بذلك الاسم وإن كانوا في جميع الأوقات كذلك؛ لما ذكرنا أن المقصود من إنشاء هذه تلك ومن هذا العالم الفاني ذلك العالم الباقي؛ إذ لو لم يكن تلك ولا ذلك العالم البافي، لم يكن إنشاء هذه حكمة؛ لأنه يحصل الإنشاء والخلق على الإفناء خاصة وإحداث الشيء للإفناء خاصة لا لعاقبة تقصد عبث باطل. * * * قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وقوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا). جائز أن يكون قوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ) أي: آية البعث لهم ما رأوا الأرض ميتة في وقت يابسة لا نبات فيها ولا شيء، ثم رأوها حيّة مخضرة متزينة بأنواع النبات، متلونة بألوان الخارج منها، فيخبر أن من قدر على هذا لقادر على إحياء الموتى بعد ما بليت أجسادهم وصاروا رمادًا، وأن من قدر على هذا لا يعجزه شيء، ولا يصعب عليه شيء، فهذه آية ظاهرة على البعث مشاهدة محسوسة. وفيه آية يحتاج إلى أن تستخرج منها بالحكمة وهو ما ذكر (وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ): أنه لما أخرج من الأرض حبًّا، وجعل غذاءهم فيه من غير أن يستوجبوا ذلك منه؛ دل أنه إنما جعل ذلك؛ ليمتحنهم بأنواع المحن على علم منه أنّ منهم من يشكر ومنهم من يكفر، وقد سوى بينهم في هذه بين الكافر منهم وبين الشاكر، فلابد من دار أخرى فيها يقع التمييز بينهم: الثواب للشاكر، والعقاب للكافر؛ إذ في الحكمة التفريق لا الجمع، وعلى ذلك ما ذكر من جعل الجنان لهم والنخيل والأعناب وتفجير العيون وغيره، وذكر في آخره: (أَفَلَا يَشْكُرُونَ) رَبَّ هذه النعم كلها.

(36)

أو أن يكون وجه الدلالة فيه من وجه آخر: وهو أنه لما أنشاهم وعلم ما يصلح لهم من الغذاء وما لا يصلح لهم ما يكون لهم من غذاء، وما لا يكون قبل أن ينشئهم؛ دل أنه عالم بذاته قادر لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء. أو أن يكون لما أنشأ هذه الأشياء التي ذكر لهم لا يحتمل أن يتركهم سدى، لا يمتحنهم بشيء ولا يأمرهم بشيء ولا ينهى عن شيء، فإن ثبت المحنة ثبت البعث وظهر الثواب والعقاب. وفي قوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا. . .) إلى آخر ما ذكر من أنواع الفواكه والثمار وغيرها - آية الوحدانية له والألوهية، ودلالة الجود والكرم له؛ ليرغبوا فيه ويطمعوا منه، ودلالة العدل له والسلطان ليهابوه، ودلالة البعث؛ لما ذكرنا، ودلالة أن هذه النعم منه؛ ليشكروه حيث قال في آخره: (أَفَلَا يَشْكُرُونَ)، والله أعلم. وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) من الناس من يقول: إن الأزواج هي التي لها مقابل من الأشكال والأضداد مما للخلق فيه فعل ومما لا صنع لهم فيه، حيث قال: (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ)، ويستدل بذلك على خلق أفعال العباد، وهو ما قال: (خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا)، ومن الأزواج ما يكون فعلا لهم، وقد أخبر أنه خلقها كلها دل أنه خالق أفعالهم، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وقوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ). في ذلك آيات من وجوه: أحدها: آية القدرة على البعث والإحياء بعد الموت. والثاني: آية الوحدانية له والألوهية. والثالث: آية العلم الذاتي له والتدبير الأزلي. أما دلالة البعث فهو ما ذكر من جعل ما هو ليل نهارًا، ومن جعل ما هو نهار ليلا بعد ذهاب أثر هذا بكليته حتى لا يبقى منه شيء، ومجيء الآخر وانثزاع هذا من هذا وإدخاله

في الآخر دلالة أنه قادر بذاته، لا يعجزه شيء، وله قدرة ذاتية لا مكتسبة مستفادة، فمن قدر على هذا قادر على الإحياء بعد الموت؛ إذ الإحياء بعد الموت ليس بأبعد مما ذكرنا من جعل الليل نهارًا وجعل النهار ليلًا، والأعجوبة في هذا إن لم تكن أكثر - أعني: في جعل الليل نهارًا، وجعل النهار ليلا وإدخال أحدهما في الآخر - ليست بدون الإحياء بعد الموت، فإذا كان كذلك دل أنه قادر بذاته لا بإقدار من غيره؛ فلا يعجزه شيء، ولا قوة إلا باللَّه. وأما دلالة الوحدانية فهو إنشاء الدهر من أول إنشائه إلى آخر ما ينتهي إليه، وإجراؤه على مجرى واحد وسنن واحد من الليل والنهار وإدخال هذا في هذا، وهذا في هذا - دلالة أنه فعل واحد؛ إذ لو كان فعل عدد، لكان إذا أتى أحدهما بالليل غلب على الآخر، فلا يقدر المغلوب على إتيان النهار بعد ذلك وغلبه صاحبه وقهره، وكذلك منشئ النهار إذا غلب على منشئ الليل لهم به على إتيانه بالآخر وغلبه عليه، ويمنع كل واحد منهما صاحبه عن إدخال شيء مما أنشأه هو فيما أنشأه الآخر، فإذا لم يكن ما ذكرنا دل أنه واحد وهو رد على الثنوية. وأما دلالة العلم الذاتي والتدبير الأزلي هو إجراء الدهر من أول ما أنشأه على تقدير حاجة أهله - أعني: حاجة أهل الدهر - وعلى تقدير منافعهم واتساقه على أمر واحد على غير تغير وتفاوت يقع في ذلك، أو تفاضل إلى ما ينتهي إليه وينتهي حاجتهم ومنافعهم - دل أنه كان لم يزل عالمًا بحوائجهم ومنافعهم حيث أجرى الدهر على تقدير حوائجهم وتدبير منافعهم، وأن له علمًا ذاتيا وتدبيرًا أزليا لا علمًا مكتسبا ومستفادا، وأن له القدرة والسلطان حيث لم يقدر أحد أن يدفع ظلمة الليل عن نفسه إذا احتاج إلى النهار، ولا ملك دفع النهار إذا وقعت الحاجة في الليل، ولا يقدر أحد أن يأتي بأحدهما مكان الآخر بل في وقت آخر؛ بل أظلم الليل والخلائق كلهم، وستر عليهم كل شيء شاءوا أو أبوا، وأضاء لهم النهار على كل مستور عليهم، وإداؤهم على كل مختلف شاءوا أو أبوا - دل أنه بالقدرة الذاتية كان ذلك والسلطان الذاتي لا مكتسب مستفاد؛ إذ ذا علم كل ذاتي لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء في حال من الأحوال، وهذا يبطل قول الفلاسفة: إن العقل دراك بنفسه كالنار حارة بطبعها، محرقة بذاتها، فلو كان يدرك بنفسه، لكان لا جائز أن يكون ولا درك هنالك، أو يشبه عليه شيء بوجه من الوجوه، فإذا حيل بينه وبين الدرك دل أنه دراك بغيره فيدرك على قدر ما تجلى له وانكشف، واللَّه أعلم. وقوله: (نَسْلَخُ) أي: ننزع منه النهار.

وقوله: (فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ). أي: داخلون في الظلمة، يقال: أظلم فلان: إذا دخل في الظلمة. ثم سورة يس نزلت كلها بمكة محاجة أهل مكة في إنكارهم التوحيد، وإنكارهم البعث والقدرة على الإحياء بعد ما صاروا رمادًا، وإنكارهم الرسالة، وهم كانوا طبقات على هذه المذاهب المختلفة: منهم من أنكر التوحيد، ومنهم من أنكر البعث، ومنهم من كان ينكر الرسالة ونحوها، فبين اللَّه - تعالى - في هذه السورة وذكر فيها الحجج على منكري التوحيد وعلى منكري البعث وعلى منكري الرسالة، وهو ما ذكر من الآيات، من ذلك قوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا)، وفيه دلالة القدرة على البعث على ما بينا فيما تقدم. وفي قوله: (وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) دلالة الوحدانية له؛ لأنه أخرج ما ذكر من النبات والجنات والأعناب والنخيل إلى آخر ما ذكر من الأرض لمنافع من السماء تتصل بالأرض؛ فدل اتصال منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما على أن منشئهما ومدبرهما واحد؛ إذ لو كانا فعل عدد لكان فيه تدافع وتمانع على ما ذكرنا فيما تقدم من فعل ذوي العدد من التغالب والتدافع والتمانع في العرف، واللَّه أعلم. وما ذكر أيضا من الليل والنهار على تضادهما واختلافهما في رأي العين وسلخ أحدهما من الآخر وإدخاله في الآخر دلالة الوحدانية، ودلالة البعث، ودلالة العلم الذاتي والتدبير الأزلي: أما دلالة الوحدانية فهو ما جمع في الليل والنهار على تضادهما واختلافهما في منافع الخلق وحوائجهم وأنهما شكلان؛ فدل ذلك على أنهما فعل واحد لا عدد؛ لأنه لو كان فعل عدد، لكان فيه تدافع وتمانع على ما ذكرنا من منع كل واحد منهما الآخر ودفعه عن إنفاذ أمره في ذلك واتساق تدبيره، فدل الدوام على ذلك واتساق الأمر على سنن واحد ومجرى واحد - أنه فعل واحد. وفيه دلالة البعث لما ذكرنا من ذهاب أحدهما وإقرار الآخر بعد ذهاب آثار كل واحد منهما بكليته، ودل إجراؤهما مجرى واحدًا من أول إلى آخر ما ينتهي ذلك وينتهي العالم على تقدير منافعهم وحوائجهم أنه عالم بذاته مدبر بنفسه، وأن له علما ذاتيا وتدبيرًا أزليًّا لا مكتسبًا مستفادًا، وعلى ذلك ما ذكر من جريان الشمس والقمر، وتسخيرهما بمنافع هذا العالم وحوائجهم، وقطعهما في يوم ولينة واحدة مسيرة خمسمائة عام؛ فدل ذلك كله على أنه واحد لا شريك له قادر لا يعجزه شيء، وعالم مدبر لا يخفى عليه شيء، وعلى ذلك ما ذكر في قوله: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)، دلالة الوحدانية والقدرة والعلم والتدبير؛ من حيث جعل أطراف الأرض كلها على تباعد ما بينها

(38)

متصلة بمنافع الخلق وحوائجهم بأسباب أنشأها لهم وأعلمهم بها؛ ليصلوا إلى تلك المنافع والحوارج؛ فدل أنه فعل واحد؛ إذ لو كان فعل عدد لكان في ذلك تمانع على ما ذكرنا، وأنه عارم بذاته مدبر؛ ولذلك قال: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي: ذلك الذي ذكر كله تقدير الذي لا يعجزه شيء، والعليم الذي لا يخفى عليه شيء! وباللَّه القوة. ثم قوله: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ... (38) وفي بعض الحروت: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) فعلى هذا القول أي: تجري أبدًا لا مستقر لها ولا قرار. ومن قرأ: (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا): أي: لنهاية لها وغاية. ثم اختلف في تلك النهاية: فمنهم من يقول: نهايتها وغايتها هو ذهاب هذا العالم وانقضاؤه وتبديل عالم آخر؛ كقوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، وقوله: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ)، قدر نهايتها، ومنهم من يقول: مستقرها: هو نزولها في كل يوم في منزل، لما ذكر أن لها منزلا، تنزل كل يوم في منزل، ثم تطلع من مكان آخر؛ وكذلك قال: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ). ومنهم من يقول: نهايتها ما ذكر في الخبر: " أنها إذا غربت ترفع إلى السماء السابعة، تخر لله - تعالى - ساجدة تحت العرش، ثم يؤذن لها بالطلوع "؛ ذكر في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لما أذن لها بالطلوع والارتفاع يأتيها جبريل بحلة من ضوء الشمس، على مقدار ساعات من النهار في طوله في الصيف وقصره في الشتاء، وما بين ذلك في الخريف والربيع، فتلبس تلك الحلة، كما يلبس أحدكم ثوبه "، وذكر في القمر كذلك من الحبس والسجود لله، إلا أنه ذكر فيه: " أن جبريل يأتيه بحلة من نور العرش "، وفي بعض الأخبار: " بكف من ضوء العرش، وبكف من نوره "، فيلبس تلك الحلة - أي: ذلك النور والضوء - كما يلبس أحدكم ثوبه، فذلك قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا)، ذكر للشمس ضياء، وللقمر نورًا كما ذكر في الخبر.

(39)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا): جريانها في البحر الذي خلق اللَّه دون السماء بحر مكفوف حار، فيه تجري الشمس والقمر، والجوار الكنس. ويحتمل قوله: (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَ) أي: تجري في مكان وتسير فيه، والله أعلم. . وقوله: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). (الْعَزِيزِ): الذي لا يعجزه شيء، ويعز من أن يغلبه شيء، (الْعَلِيمِ): الذي يعز من أن يخفى عليه شيء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْعَزِيزِ): الذي أظهر أثر الذل في غيره، لا ترى أحدًا إلا وأثر الذل والحاجة فيه ظاهرة. وأما دلالة الرسالة: فإن أهل مكة لم يكونوا يعرفون التوحيد، وعرفهم وأتاهم بحججه وبراهينه؛ دل أنه باللَّه عرف ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) أي: قدرناه منازل يزيد ويستوي وينتقص، وكذلك جعل للشمس منازل أيضًا تزداد وتنتقص وتستوي، لكن جعل منازل القمر في تغييره في نفسه يتغير ويزداد ويستوي وينتقص، وأما الشمس فإنه جعل تغييرها في الزيادة والنقصان والاستواء في الأزمنة والأوقات، فأما في نفسها فليس فيها تغيير ولا نقصان ولا زيادة، فهو - واللَّه أعلم - لما ذكر أنه جعل القمر سببًا للوصول إلى معرفة الأوقات والحساب والحجج بقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، وعلى ذلك جعل طلوعه وغروبه مختلفًا في الليل والنهار، وفي كل وقت وكل ساعة، وأما الشمس فإنها في نفسها على حالة واحدة، لا زيادة فيها، ولا نقصان، ولا تغيير، إلا في الوقت الذي تنكسف، وكذلك طلوعها وغروبها في وقت واحد لا يختلف ولا يتغير إلا في أزمنتها وأوقاتها؛ فإنه يأخذ هذا من هذا، وهذا من هذا، ويدخل في هذا هذا، ومن هذا في هذا، وأمّا الأيام فإنه لم يجعل فيها تغيير، فهو - واللَّه أعلم - لما لم يشتد على الناس حفظها ولا جعل سببا لتعريف الأوقات والحساب. وقوله: (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ). قيل: إنه عود الكباسة القديم الذي قد أتى عليه حول، فاستقوس ودق، شبه القمر

(40)

آخر ليلة ليطلع به أو أول ليلة. قَالَ بَعْضُهُمْ: شبه القمر بالعرجون القديم، وهو العذق اليابس المنحني القديم الذي أتى عليه الحول، وهما واحد. وقوله: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) جائز أن يكون ذكر الشمس هاهنا كناية عن النهار نفسه، والقمر كناية عن الليل؛ ألا ترى أنه ذكر الليل والنهار على أثر ذلك حيث قال: (وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) يخبر أنه لا يدرك هذا هذا ولا سابقًا لهذا. وجائز أن يكون ذكرهما كناية عن الليل والنهار، ولكن على بيان حقيقتهما ألا يدرك ضوء هذا هذا، ولا ضوء هذا هذا؛ فيغلبه، ولكن يكون هذا في وقت وهذا في وقت آخر، لا يجتمعان في وقت واحد. أو يذكر أنه لا يغلبه هذا على هذا ما دام في سلطانه، ولا هذا على هذا ما دام سلطانه، فإنما يخبر عن قدرته وعلمه وتدبيره: وأما قدرته: فهو ما ذكر من تقدير الشمس والقمر والليل والنهار، حفظهما حتى لا يغلب أحدهما صاحبه فيذهب به؛ دل حفظه إياهما وما ذكر، وتقديره إياهما على ما قدر أنه إنما كان بقدرة ذاتية، ودل إجراؤه إياهما على مجرى واحد وعلى سنن واحد منذ أنشأهما وقدرهما إلى آخر ما ينتهي إليه هذا العالم: أنه كان بعلم ذاتي وتدبير أزلي، لا مستفاد مكتسب، وهذا ينقض على الثنوية مذهبهم أن منشئ الظلمة غير منشئ النور؛ لأنه لو كان اثنين على ما يقولون لكان إذا غلب هذا على هذا، وجار سلطانه منعه من أن يأتي الآخر، فإذا لم يكن دل أنه فعل واحد لا عدد. وقوله: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). يعني: الشمس والقمر، قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: في دورانه واستدارته يجرون على ما ذكرنا، لا يمنع هذا هذا، ولا هذا هذا؛ وعلى هذا التأويل هو الدوران الذي يدور عليه الشمس والقمم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن تحت السماء في الهواء بحرًا مكفوفًا، فيه تطلع الشمس وفيه تغرب، وكذلك القمر، فإن كان على هذا فيكون قوله: (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) على حقيقة السباحة والعوامة، ويروى في ذلك خبر على ما ذكرنا.

(41)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (نَسْلَخُ)، أي: نخرج، والعُرجون: عرجون النخلة، مثل العنقود من العنب، والعراجين جماعة، (يَسْبَحُونَ): من السباحة. * * * قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) ثم قوله: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ). اختلف في ذلك الفلك: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي السفينة التي حمل فيها نوح وأتباعه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراد به السفن كلها التي يحمل عليها ويركب. والفلك: يقال: هو واحد وجماعة، فإن كان المراد بالفلك السفينة المشار إليها وهي سفينة نوح، كان قوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) غيرها من السفن التي اتخذت للركوب. وإن كان المراد به غيرها من السفن، كان قوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) إنما هي الأنعام التي يركبون عليها في المفاوز والبراري، كقوله: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ)، ونحوه. ثم إن كان المراد بقوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) السفن، كان في ذلك نقض قول المعتزلة في قولهم: أفعال العباد ليست بمخلوقة؛ حيث أخبر أنه خلق السفن، والسفن إنما سميت سفنًا بعد ما اتخذت ونحتت، فأما قبل ذلك، فهي تسمى: خشبًا، واللَّه أعلم. ثم قوله: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ). يحتمل قوله: (حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ) معنيين: أحدهما: أنا حملنا مَنْ أَنْتُم مِنْ ذريتِهم في الفلك المشحون، وهم الذين حملهم مع نوح في سفينته. والثاني: أنا حملنا ذرية قومك في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم في الفلك، نسبهم إليهم لما أنهم أصل لهَؤُلَاءِ؛ كقوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، وإنَّمَا نسبنا إلى آدم؛ لأنه أصلنا وهو المخلوق من التراب فعلى ذلك هذا، لكن الفائدة في التأويل الأول غير الفائدة في التأويل الثاني إن كان المراد بقوله: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا) من أنتم من ذريتهم هذا، ففائدته: أنكم من ذرية من نجا منهم من آبائكم، وهم الذين آمنوا برسولهم

(43)

وصدقوه، لا من كذب به، فكيف لا اتبعتموهم؟! لأن العرب من عادتهم لا يزالون محتجين: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ). وإن كان المراد المعنى الثاني فيقول: إن في آبائكم من قد صدق الرسل، وآمن بهم، ومنهم من كذبهم، فكيف اتبعتم الذين كذبوهم دون الذين صدقوهم؟! ثم جهة الآية في الفلك ما ذكرنا فيما تقدم في غير موضع: إما في تذكير ما أنعم عليهم حيث سخر لهم ما في البحار والبراري حتى يصلوا إلى قضاء حوائجهم ومنافعهم في الأمكنة النائية البعيدة بالسفن التي أنشأها لهم والأنعام التي خلقها لهم. أو يخبر عن قدرته وسلطانه: أن من قدر على تسخير هذا وإيصال هذا بهذا، لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء. أو يخبر عن وحدانيته وربوبيته؛ إذ لو كان ذلك فعل عدد لامتنع ولم يتصل، ولم يصلوا إلى قضاء حوائجهم. أو يخبر عن سفههم بعبادتهم الأصنام التي عبدوها؛ حيث قال: (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ ... (43) يخبر أنا لو شئنا إغراقهم لا يملك الأصنام التي يعبدونها الإغاثة لهم والاستنقاذ من ذلك، بل هو المالك لذلك؛ كقوله: (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، وكقوله: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ). وقوله: (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) يحتمل قوله: (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا)، أي: لو شاء لأهلكهم، واستأصلهم بالعناد والتكذيب للرسول كما فعل بأوائلهم، لكن برحمته أخر عن هَؤُلَاءِ ذلك، وجعل لهم متاعًا إلى حين، وذلك منه رحمة، والذين كانوا من قبل عند رؤيتهم بأس اللَّه، كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. . .) الآية، ثم أخبر أنه لم ينفعهم ذلك حيث قال: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ)، ولكن رحم هَؤُلَاءِ؛ لمكان رسول اللَّه؛ فقبل إيمانهم عند رؤيتهم بأس اللَّه. وفي قوله: (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ. . .) الآية. دلالة نقض قول المعتزلة لقولهم في الأصلح؛ لما لا يخلو: إما أن يكون إغراقه إياهم أصلح لهم في الدِّين، أو إبقاؤه إياهم: فإن كان إغراقه إياهم أصلح لهم في الدِّين، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ

(45)

إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) اختلف في قوله: (مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ): قال قائلون: (مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ): ما كان من عقوبات اللَّه ووقائعه فيمن كان قبلكم من عنادهم في آياته وتكذيبهم رسله، يقول: اتقوا ذلك واحذروا نزوله عليكم، فسمى: بين أيديهم؛ لأنه مضى بين أيديهم، وما خلفهم من أمر الساعة وعذابها سمى: خلفا؛ لأنه بعد ورائهم غير مأتي، يقول: احذروا ذلك. وقال قائلون: (مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) هو عقوبات الآخرة هي بين أيديهم ستأتي بهم وستنزل، (وَمَا خَلْفَكُمْ) ما مضى من العقوبات التي نزلت بمن كان قبلكم؛ فصار ذلك وراءً وخلفا، يقول: احذروا ذلك. وجائز أن يكون على غير هذا يقول - واللَّه أعلم -: احذروا ذنوبكم التي عملتم ومعاصيكم التي عصيتم في الدنيا، واحذروا أيضًا ما تسنون أيضًا لمن بعدكم؛ كقوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ): ما قدمت: ما عمل هو، وما أخرت ما سن لغيره من بعد. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). أي: إذا فعلتم ذلك استوجبتم الرحمة بفضله، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) هذا - واللَّه أعلم - في قوم خاصة اعتادوا العناد والمكابرة في رد الآيات والإعراض عنها؛ لما كان سؤالهم الآيات تعنتًا لا سؤال استرشاد، ولو كان سؤالهم سؤال استرشاد، لكان قد أنزل لهم من الآيات وأتاهم ما يلزمهم قبولها والتمسك بها. ثم الإعراض والعناد يكون بوجهين: أحدهما: يعرض عنها؛ لما لم تقع له؛ لترك التأمل والنظر فيها. والثاني: يعرض عنها إعراض عناد بعد التحقيق والتيقن والعلم بأنها آيات، والله أعلم. وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) يحتمل قوله: (أَنْفِقُوا) أي: صلة الأرحام والقرابات على حقيقة الإنفاق.

(48)

ويحتمل: أن اقبلوا الإنفاق وهو الزكاة بقوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) الآية، أي: لا يقبلون الإيتاء، واللَّه أعلم. وقوله: (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ). بهذا قالت المعتزلة في قولهم: إن اللَّه لا يفعل إلا ما هو أصلح [له] في الدِّين، يقولون: لو كان الإنفاق والرزق أصلح لهم في الدِّين لرزقهم اللَّه على ما رزقنا. فيقال للمعتزلة: أمره إياهم بالإنفاق على من ذكر لا يخلو من أن يكون النفقة لهم والرزق أصلح في الدِّين، ثم لم يرزقهم ولم يوسع عليهم، وإما أن يكون المنع أصلح لهم وترك الإنفاق: فإن كان الأول فقد ترك فعل ما هو أصلح في الدِّين، أو الثاني، فقد أمر هَؤُلَاءِ بفعل ما هو ليس بأصلح، فكيفما كان، ففيه دلالة أن ليس على اللَّه حفظ الأصلح للخلق في الدِّين، إنما عليه فعل ما توجبه الحكمة وحفظ ما يكون حكمة، وهَؤُلَاءِ لم ينظروا إلى ما توجبه الحكمة، وفي الحكمة الامتحان والابتلاء: هذا بالسعة وهذا بالشدة والضيق؛ ثم أوجب على من وسع عليه في فضول ماله حقًّا لهذا الفقير والمضيق عليه، وبين ذلك الحق، وبيِّن قدره وحده، ليتأدى بذلك شكره، وضيق على هذا، يطلب منه الصبر على ذلك إن منع هذا حقه، وإلا لم يسبق ممن وسع عليه ما يستوجب به تلك النعمة والسعة، ولا ممن ضيق عليه ما يستوجب ذلك، ولكن محنة يمتحنهم بها: هذا بالشدة والضيق، وهذا بالسعة والكثرة، هذا مأمور بالشكر وأداء ما أوجب عليه في ماله، وهذا بالصبر على حاجته إن منع حقه؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لوشاءاللَّه لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم، ولوشاء اللَّه لجعلكم فقراء لا يغني عنكم شيئًا، لكنه ابتلى بعضهم ببعض لينظر كيف عطف الغني، وكيف صبر الفقير ". وقوله: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا قول الكفرة للمؤمنين، لم يكتفوا بذلك القول الذي قالوه، ولكن نسبوهم إلى الضلال والجهل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا القول من اللَّه جواب لهم، لقولهم: (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) ليس بصلة على ما تقدم من الكلام، كأنهم خوفوا بترك الإنفاق بالعذاب، فقالوا عند

(49)

ذلك: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). ثم قال: (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) أي: ما ينظرون لإيمانهم إلا ذلك الوقت، يقول - واللَّه أعلم -: إنهم إذا بلغوا ذلك الوقت وعاينوا ذلك، فعند ذلك يؤمنون، لكن لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت؛ لقوله: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ). وقوله: (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ). يخبر عن سرعة قيام الساعة وغفلة أهلها عنها؛ كقوله: (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً). أي: فجأة، وهم لا يشعرون، وعلى ذلك روي في بعض الأخبار عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب، فلا يقومانه حتى تقوم الساعة ". وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) فقال: " تقوم الساعة والناس في أسواقهم يحلبون اللقاح، ويذرعون الثياب، ويتبايعون وهم في حاجاتهم "، وعن الزبير بن العوام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أن الرجلين ليتبايعان إذ نادى مناد: قد قامت الساعة " ونحوه. وقوله: (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً). أي: وصية؛ وكذلك ذكر في حرف حفصة وأبي، أي: فلا يستطيعون وصية. وقوله: (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ). يحتمل ما ذكرنا أن الساعة تقوم وهم على ما كانوا عليه من قبل في البياعات والخصومات والمنازعة وعلى ذلك جاءت. ويحتمل (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي: يختصمون في الساعة والبعث أنها لا تقوم ولا تكون؛ لأنهم كانوا أينكرونها، ودل قوله: (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أن

(51)

استطاعة الفعل تكون مع الفعل لا تتقدم الفعل؛ لأنها لو كانت تتفدم، لكانوا يستطيعون التوصية والرجوع إلى أهلهم إذا قامت بهم؛ دل هذا على أنها لا تتقدم الفعل، لكنها تقارنه وتجامعه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ). قد ذكرنا القول في الصور في غير موضع، واختلافهم في ذلك: قال قائلون: الصور: هو شبه القرن ينفخ فيه، وعلى ذلك روي عن عبد اللَّه بن عمرو قال: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الصور فقال: " قرن ينفخ فيه "، فإن ثبت فقد كفينا مؤنة الاشتغال بغيره. وقال قائلون: هو على التمثيل لا على التحقيق، لكنه ذكر النفخ؛ لسرعة أمرها وقيامها؛ إذ ليس شيء أسرع نفاذًا ولا أخف من النفخ، فهو عبارة عن سرعتها ونفاذها؛ كقوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، وهو قوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ). قال أهل التأويل: ينفخ في الصور ثلاثًا بين كل نفخة مهلة كذا كذا سنة، يقولون: في النفخة الأولى يصعق فيها كل شيء مما خلق اللَّه؛ كقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ)، ثم ينفخ ثانيًا فيحيون بها ويخرجون من قبورهم، وهو قوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ)، وينفخ ثالثا، فيجتمعون عند ربهم، وهو قوله: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ)، واللَّه أعلم بذلك. والنسل: هو سرعة الخروج، أي: يسرعون، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: النسل: هو المشي (يَنسِلُونَ) أي: يمشون، لكنه مشي مع سرعة، وهما واحد.

(52)

وقوله: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) من الناس من ينكر عذاب القبر بهذه الآية يقول: المرقد: موضع الراحة، والراقد هو الذي يكون في راحة، فلو كان لهم عذاب، أو كانوا في عذاب، لم يكونوا في رقدة ولا راحة، دل أنه لا يكون. ومنهم من يقول: يكون في القبر عذاب، إلا أنهم لما عاينوا عذاب الآخرة، صار عذاب القبر لهم كالرقاد عند عذاب الآخرة. ومنهم من يقول: ينامون نومة قبل البعث، ثم يبعثون، ومثل هذا. وجائز أن يكون النفس التي تخرج عند النوم تلك النفس في حال الموت، فتجد تلك ألم ذلك كما تجد النفس التي تخرج من النائم ألم عذاب يصيبه، وتجد لذة أيضًا إذا كانت لذة، وترى في النوم أهوالا وأفزاعًا وذلك معروف؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الكفرة يعذبون بما ذكرنا، فإذا بعثوا قالوا عند ذلك: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)، والمرقد: هو الموضع الذي ينام فيه. أو أن يكونوا في عذاب - أعني: في القبور - لكنهم إذا عاينوا عذاب الآخرة وشاهدوا أهوالها، وإن ذلك العذاب الذي كان لهم في القبر وسهل عند عذاب الآخرة؛ فصار ذلك كالرقاد لهم عند عذاب الآخرة فقالوا عند ذلك: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)، واللَّه أعلم بذلك. وقوله: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا قول الملائكة لهم عن قولهم: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قول المؤمنين لهم عند قولهم الذي قالوا. وجائز أن يكون ذلك أيضا قول أُولَئِكَ الكفرة، يقرون بالبعث عند معاينتهم البعث، يقولون: هذا الذي وعد لنا المرسلون، وقد صدقوا في ذلك، ونحن كذبناهم فيه، لكن لا ينفعهم تصديقهم إياهم بذلك في ذلك الوقت، وهو كإيمانهم عند معاينتهم بأس اللَّه، وهو قوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ، لكن لا ينفعهم. وقوله: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)

(54)

يحتمل على حقيقة الصيحة، يجعل اللَّه تعالى الصيحة علمًا للإحياء والبعث لا أن تكون الصيحة سببًا للإحياء والبعث. ويحتمل لا على حقيقة الصيحة ولكن على قدر الصيحة؛ كأنه يقول - واللَّه أعلم -: ما كانت إلا قدر صيحة واحدة - أي: البعث - لكنه ذكر الصيحة؛ لأن الصيحة أسرع شيء وأيسر على الخلق من غيره على ما ذكرنا في النفخ في الصور؛ كقوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ)، ذكر هذا؛ لأنه أخف شيء على الخلق، وأهونه عليهم؛ فيعبر به عنه ويكني بما ذكر، ليعلموا خفة ذلك على اللَّه، وسهولته وهوانه، وأنه ليس يثقل عليه شيء. وقوله: (فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ). ذكر أن قوله - تعالى -: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) في البعث، فإذا كان ذلك في البعث فعند ذلك إحضارهم عند اللَّه، وأما الأول فإنما هو في الهلاك والموت. وقوله: (فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) الظلم في اللغة: هو وضع الشيء في غير موضعه كأنه يقول - واللَّه أعلم -: اليوم لا توضع نفس في غير موضعها، ولكن توضع على ما وضعها في الدنيا. أو يكون الظلم عبارة عن النقصان، كأنه يقول - واللَّه أعلم -: فاليوم لا تنقص نفس عما استوجبت وتوفى؛ كقوله: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) أي: لم تنقص منه. أو يقول: فاليوم لا يُحمل على نفس ذنب غيرها، ولا يوضع وزر غيرها، بل يَجْزي اللَّه كل نفس جزاء عملها، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) يخبر - واللَّه أعلم -: عن شغل أهل الجنة أنهم وإن كانوا مشغولين في أن نعيم فإن ذلك الشغل يحجبهم عن غيرهم من الأشياء، وكذلك جميع الخلائق أنهم إذا شغلوا في شيء حجبوا عن غيره ومنعوا، فأما اللَّه - سبحانه - فيتعالى عن أن يشغله شيء أو يحجبه شيء عن شيء. ثم الاشتغال في الدنيا مما يضر أهلها ويؤذي، فأخبر أن شغل أهل الجنة مما لا يضرهم ولا يؤذي؛ حيث قال: (فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ)، قيل: ناعمون بما هم فيه، وقيل: معجبون في ذلك.

(56)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَاكِهُونَ): يتفكهون، ويقال للمزاح: فكاهة، وفاكهون: أراد ذوي فكاهة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَاكِهُونَ): من المفاكهة، وفكهون من السرور، والمفاكهة: الممازحة. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: شغلهم في افتضاض العذارى، وقيل: شغلهم في كل نعيم وفي كل كرامة على ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ (56) يخبر أن أهل الجنة وإن كانوا لا يحجبون عن شيء، ولا يمنعون شيئًا، فإنهم إذا كانوا مع أزواجهم لا يقع عليهم بصر غيرهم فينتقض ذلك، وهو كما ذكر: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)، يخبر أنهم إذا كانوا مع أزواجهم لا يطلع عليهم غيرهم، والله أعلم. و (ظِلَالٍ) جمع ظلة. وقوله: (عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ). الاتكاء على الأرائك إنما هو للراحة، فيخبر - واللَّه أعلم - عن غاية راحتهم ونهاية كرامتهم، وإلا ليس في الاتكاء على الأرائك فضل كرامة ومنزلة، ولكن يذكر عن راحتهم وتنعمهم؛ كقوله: (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا). وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (الْأَرَائِكِ): السرر في الحجال، واحدها: أريكة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (الْأَرَائِكِ): الوسائد. وعن الحسن قال: الأريكة: الحجلة، وهي بلغة أهل اليمن يسمون الحجلة: أريكة. قوله تعالى: (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) قيل: الفاكهة هي التي تؤكل على الشهوة لا على الحاجة، يخبر - واللَّه أعلم - أن أهل الجنة إنما يأكلون ما يأكلون على الشهوة لا على الحاجة. وقوله: (وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ). قيل: ما يتمنون، وقيل: ما يسألون. وجائز أن يكون (يَدَّعُونَ) ومن الدعوى، أي: يعطون جميع ما يدعون لأنفسهم ليس

(58)

كالدنيا. وقال أبو معاذ: (وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ) أي: ما يشتهون ويتمنون في الجنة، واللَّه أعلم. وقوله: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: يردون إليهم - أعني: الملائكة - سلام اللَّه بحق التبليغ إليهم سلام اللَّه نحو ما يبلغ بعضهم بعضًا سلام بعض: أقرئ فلانًا مني السلام؛ فعلى ذلك يقولون: إن اللَّه قد أقرأ عليكم السلام. والثاني: أن يسلم عليهم الملائكة بأمر ربهم، يدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم. والثالث: أن يكون القول من اللَّه وعدا بالسلامة لهم فيها من كل آفة وبلاء يكون شي الدنيا؛ كقوله: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)، ونحوه. وفي حرف أبيّ وابن مسعود: (سلامًا قولًا) بالنصب، فهو - واللَّه أعلم - كأنهما يجعلان تمام الكلام في قوله: (يَدَّعُونَ) ثم يقطع (سلامًا قولا) منه، وأمَّا قراءة هَؤُلَاءِ برفع السلام، فمعناها - واللَّه أعلم -: ولهم ما يدعون سلامًا، ثم الكلام قطع (قَولًا) منه. * * * قوله تعالى: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وقوله: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ). كأن أهل الجنة وأهل النار يكونون مختلطين، فيفرق هَؤُلَاءِ؛ لأنهم يكونون في الابتداء مجموعين، وكذلك سمي: يوم الجمع، ويوم الحشر، ثم يفرق بينهم؛ كقوله: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، وسمي: يوم الفصل. وأصل قوله: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ) ليس على الأمر في الحقيقة: أن افترقوا، ولكن على حقيقة التفريق على ما ذكر في آية أخرى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، وأصل الامتياز: الافتراق والاعتزال؛ وبه يقول أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: إن الامتياز هو التفرق والتنحي. وقوله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)

(61)

يخرج على وجوه ثلاثة: أحدها: عهد خلقة وبنية؛ إذ قد جعل اللَّه تعالى في خلقة كل أحد وبنيته ما يشهد على وحدانيته، وجعل العبادة له ويصرفها عمن دونه، فنقضوا ذلك العهد وصرفوا العبادة إلى غيره والألوهية. والثاني: ما أخذ عليهم من العهد على ألسن الرسل والأنبياء من الأمر والنهي. والثالث: ما جعل فيهم من الحاجات والشهوات التي يحملهم قضاؤها من عنده على صرف العبادة إليه والشكر له على نعمائه، وجعل الألوهية له، ويمنعهم صرفها إلى غيره وجعلها لمن دونه، فنقضوا ذلك كله وتركوه. فَإِنْ قِيلَ: ذكر عبادة الشيطان، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان ولا يعبده، بل كل يفر عن عبادته ويهرب منه، لكنه يخرج على وجهين: أحدهما: يحتمل أن يريد بالشيطان: المردة من الكفرة والأئمة منهم الذين صرفوهم عن عبادة اللَّه، سموا شيطانًا؛ لما بعدوا عن رحمة اللَّه؛ شطن، أي: بعد، كقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا). والثاني: نسب تلك العبادة إلى الشيطان وأضافها إليه، وإن كانوا هم لا يقصدون بعبادتهم الشيطان؛ لِمَا بأمره يعبدون ما يعبدون من الأصنام؛ فنسب إليه بالأمر، أو لما كان منه بداية الأمر، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ). عداوته لنا ظاهرة بينة في كل شيء، حتى في المأكل والمشرب والملبس؛ كقوله: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا. . .) الآية؛ إذ هو يريد أن يوقعنا في المهالك فهو عدو لنا. وقوله: (وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) أي: اعبدوني فإن عبادتي هي الصراط المستقيم. وقوله: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) يحتمل قوله: (أَضَلَّ مِنْكُمْ)، أي: أهلك، وهو ما أهلك من القرون المتقدمة نحو عاد وثمود وقرونًا غير ذلك، والإضلال يكون الإهلاك في اللغة. ويحتمل على حقيقة الإضلال عن الهدى. ثم هو يخرج على وجهين:

(63)

أحدهما: أن قد رأيتم وعلمتم أنه قد أهلك اللَّه خلقًا كثيرًا بإبليس بما ضلوا به واستأصلهم لذلك؛ فكونوا أنتم يا معشر أهل مكة على حذر منه؛ لئلا ينزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ بضلالهم به - واللَّه أعلم - (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ): أنه فعل ذلك بهم، يخرج على التعيير والتوبيخ لهم لترك هَؤُلَاءِ النظر في أمر أُولَئِكَ. والثاني: قوله: (جِبِلًّا كَثِيرًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: جموعًا كثيرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلقًا كثيرًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أممًا كثيرة؛ وكله واحد، وأصله من قولك: جبلهم على كذا، أي: طبعهم، ويقرأ: (جُبلًّا) و (جِبِلًّا) برفع الجيم والتشديد وخفضها والنشديد. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجبلة والجبلة: الخلق. وقوله: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) يشبه أن يكونوا لما رأوا جهنم قالوا: ما هذا الذي نراه؟! فعند ذلك قيل لهم: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها، (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) أي: ادخلوها اليوم بما كنتم تكذبون بها، واللَّه أعلم. وقوله: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ... (65) أي: نطبع على أفواههم، فلا يتكلمون (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). كأنهم - واللَّه أعلم - لما أنكروا كفرهم وشركهم وعملهم الذي عملوه في الدنيا؛ كقولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وأمثاله عند ذلك يأذن الله لسائر جوارحهم وأركانهم بالنطق والشهادة عليهم بما عملوا؛ كقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ. . .) الآية، وقوله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ. . .) الآية، ثم أنطق ألسنتهم حتى يعاتبوا الجوارح في شهادتها عليهم بقوله: (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ). وفيه أن النطق والكلام الذي يكون من اللسان لا يكون لأنه لسان أو لنفس اللسان، ولكن للطف يجعل اللَّه ذلك في اللسان فينطق، فحيثما جعل ذلك اللطف والمعنى في أي جارحة ما جعل نطقت وتكلمت، ولو كان النطق والكلام لنفس اللسان، لكان يجب أن ينطق لسان كل ذي لسان لما له اللسان، فإذا لم ينطق دل أنه للطف جعل فيه به ينطق

(66)

ويتكلم، فحيثما جعل ذلك المعنى واللطف نطق وتكلم؛ وكذلك السمع والبصر وكل جارحة منه من اليد والرجل وغيره جعل لطفًا ومعنى به يسمع السمع، وبه يبصر البصر، وبه تأخذ وتقبض اليد، وبه تمسْي وتذهب الرجل، فأينما جعل ذلك اللطف وذلك المعنى كان منه ذلك ما كادْ من السمع والبصر وغيره؛ وكذلك الأطعمة والمياه ليس الغذاء في عينها، ولكن في لطف جعل اللَّه فيها لطفًا ومعنى يصير ذلك غذاء لهم؛ ألا ترى أن عين الطعام تبقى فيرمى به وينتفع بما فيه من الغذاء؟! واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) قال بعض أهل التأويل: لو نشاء لطمسنا أعين الضُّلَّال، فاستبقوا فلم يبصروا الطريق، فأنى يبصرون وقد فقأنا أعينهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو نشاء لحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فلو طمست: أي: حولت عن الكفر - لاستبقوا الصراط، يقول: لأبصروا طريق الهدى، ثم قال: (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) يقول: فمن أين يبصرون الهدى إن لم أعم عليهم طريق الكفرة؟! (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ... (67) أي: لأقعدناهم على أرجلهم لا يتقدمون ولا يتأخرون. ويشبه أن يكون على خلاف هذا على التمثيل؛ يقول - واللَّه أعلم -: لو طمسنا أعينهم وأعميناهم فاستبقوا الطريق (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ)، أي: لا يبصرون الطريق؛ فعلى هذا إذا طمسنا أعين القلوب فأعميناها، فأنى يبصرون الهدى، أي: لا يبصرون. (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ). يقول ذلك - واللَّه أعلم - على التمثيل، أي: لو حولنا ظاهر خلقتهم وصيرناها خنازير وقردة حتى ذهبنا بمنافع أنفسهم ظاهرة، فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون؛ فعلى ذلك إذا مسخنا قلوبهم وحولناها عن مكانها ما انتفعوا بها كما لم ينتفعوا بظواهر جواهرهم، على التمثيل لا على التحقيق. وفي قوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ)، (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ) ودلالة أن لله في ذلك صنعًا؛ إذ لو لم يكن له فيما يختارون من الأفعال والأعمال صنع، لم يكن لتوعدهم على إذهاب ذلك وتحويله عن مكانه معنى، فدل أن له صنعًا في ذلك وفعلا. قال الحسن وقتادة في قوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ) فتركناهم عميا يترددون

(68)

(وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ): أي: لأقعدناهم على أرجلهم على ما ذكر. (فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ). يقول - واللَّه أعلم -: ما استطاعوا أن يتقدموا ويتأخروا. وابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول ما تقدم ذكره، أي: لو شاء غير أعين الضُّلَّال فلم يبصروا الطريق (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي: كيف يبصرون، أو نحوه من الكلام. ومقاتل يقول: لو شاء طمس أعينهم ظاهره (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ)، أي: لا يبصرون، وهو قريب مما ذكر آنفًا. وجائز أن يكون على التضثيل على ما ذكرنا بدءًا. ويحتمل على التحقيق أن من قدر على الطمس أو المسخ وما ذكر من النكس، لا يعجزه شيء من البعث وغيره؛ إذ خلق الإنسان للطمس أو المسخ خاصة لا لعاقبة تقصد ليس بحكمة. أو يذكر أنه لو شاء لطمسهم ولمسخهم، لكنه تركهم فلم يطمسهم ولم يمسخهم؛ ليبقوا في النعمة؛ ليشكروا نعمه. * * * قوله تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) وقوله: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ). أي: من نعمره حتى يدركه الهرم والضعف، يقول: نرده في الخلق الأول لا يعقل فيه كعقله الأول؛ كقوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ). (أَفَلَا يَعْقِلُونَ). أي: من فعل هذا، أو قدر على هذا، لا يعجزه شيء ويتأدى به شكره. قَالَ الْقُتَبِيُّ: المطموس: هو الذي لا يكون بين جفنيه شق، (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) أي: فتجوزوا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ) أي: أعميناهم، والمسخ: هو تغيير

(69)

الصور والأبدان. وقوله: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ). أي: نصيره ضعيفًا بعد أن كان قويًّا. وقوله: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ... (69) نزل هذا - واللَّه أعلم - عند قولهم: إنه شاعر، وإنه كذاب؛ فأخبر أنه لم يعلمه الشعر، وما ينبغي له الشعر، تكذيبًا لهم، وردًّا عليهم: أنه شاعر، وأن هذا القرآن شعر، جعل اللَّه عجز رسوله عن القيام بإنشاد الشعر بعض آياته من آيات رسالته، كما جعل عجزه عن تلاوة الكتاب من قبل وكتابته وخطه بيمينه آية من آيات رسالته؛ ليعلم أُولَئِكَ الذين قذفوه بالشعر والافتراء من نفسه والكذب على اللَّه وبالسحر أنه إنما أخبر عن وحي عن اللَّه، لا ما يقولون هم، وهم على يقين، وعلم: أنه ليس شاعرًا ولا ساحرًا ولا كذابًا؛ لما لم يروه اختلف إلى أحد منهم في تعلم ذلك، ولا كان عنده من كتبهم منها أخذ ذلك أولا أخذ عليه، كذب قط، لكنهم نسبوه إلى ما نسبوه من الشعر والسحر والكذب؛ تعنتًا منهم وعنادًا، يلبسون أمره بذلك على أتباعهم وسفلتهم؛ لئلا تذهب رياستهم ومنفعتهم. وفي قوله: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) دلالة نقض قول المعتزلة؛ حيث أخبر أنه لم يعلمه الشعر، وقد أعطى له جميع أسباب الشعر، وقال في القرآن: (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) و (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)، أنه كان من اللَّه لطف سوى السبب فيما أخبر أنه قد علمه؛ دل أن التعليم له فيما كان منه تعليم له بلطف منه سوى السبب لا بنفس السبب؛ إذ نفس السبب قد كان له في الأمرين جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا يَنْبَغِي لَهُ). أن يشتغل بشيء مما يتلهى به، والشعر في الأصل؛ إنما جعل للتلهي به والتلذذ؛ لذلك حيل بينه وبين طبعه إنشاد الشعر؛ ليكون أبدًا مشتغلا بما هو حكمة وعلم، وفيما هو أمر اللَّه، لا بما فيه التلهي واللهو، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ). (إِن هُوَ) أي: ما هذا القرآن إلا ذكر؛ لما نسوه من أمر اللَّه ووعده ووعيده ومما لهم، ومما عليهم، يذكرهم ما نسوه وتركوه و (مُبِينٌ): يبين لهم ما لهم وما عليهم، أو يبين لهم ما يؤتى وما يتقى، أو يبين لهم أنه من اللَّه جاء ومن عنده نزل لا من عند المخلوقين. أو (ذِكْرٌ) لأهل الكتاب، يذكرهم بما نسوه مما كان في كتبهم من نعته وصفته وما

(70)

عليهم القيام به وما ليس، و (مُبِينٌ) لمشركي العرب أنه رسول وأن هذا القرآن من عنده جاء به، وكل كتب اللَّه ذكر ومبين ورحمة ونور وشفاء على ما أخبر، واللَّه أعلم. وقوله: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) قَالَ بَعْضُهُمْ: من كان عاقلا، يقول: لينذر القرآن من له عقل حن فيؤمن، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) أي: السخطة على الكافرين في علم اللَّه أنهم لا يؤمنون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا)، أي: مؤمنًا؛ لأن اللَّه - تبارك وتعالى - سمى المؤمن: حيا في غير آية، والكافر ميتًا. ويحتمل قوله: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) أي: لتقع النذارة وتنفع من كان حيّا، أي: مؤمنًا على ما ذكرنا، وإن كان ينذر الفريقين جميعًا؛ كقوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)، هو ينذر من اتبع الذكر، ومن لم يتبع الذكر، لكن النذارة إنما تقع وتنفع لمن اتبع الذكر وخشي الرحمن خاصة؛ وكقوله: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، هو يذكر لهم جميعًا لكن المنفعة للمؤمنين فعلى ذلك الأول. ويحتمل قوله: (مَنْ كَانَ) أي: من يطلب بحياته الفانية الحياة الدائمة، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) القول الذي قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع: أن قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا) و (أَلَمْ تَرَ)، ونحوه أنه في الظاهر حرف استفهام، لكنه من اللَّه على الإيجاب والإلزام؛ ثم هو يخرج على وجهين: أحدهما: على الخبر أن قد رأوا ما خلق لهم من الأنعام وما ذكر. والثاني: على الأمر على الرؤية والنظر فيما ذكر، أي: فليروا. فإن كان على الخبر أنهم قد رأوا ما خلق لهم من الأنعام، فهلا تفكروا واعتبروا فيما خلق لهم من الأنعام وغيرها: أنه لم يخلق لهم ذلك عبثًا باطلا ولكن لحكمة، ولو لم يكن بعث على ما يقولون هم كان خلق ذلك عبثًا باطلا؟! أو أن يقول: إن من قدر على تصوير ما ذكر من الأنعام وغيره في الأرحام وتركيب ما ركب فيها من الأعضاء والجوارح في الظلمات، لا يحتمل أن يخفى عليه شيء أو يعجزه، أو يفعل ذلك على التدبير الذي فعل بلا حكمة.

(72)

أو يذكر أنه خلق لهم من الأنعام وذللها لهم وجعل لهم فيها من المنافع ما ذكرنا بلا شكر يلزمهم، يتأدى على ذلك شكر ما أنعم عليهم على جهة ما لو كان على الأمر بالرؤية فيما خلق والنظر، واللَّه أعلم. وقوله: (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا). يحتمل ما عملت أيدي الخلق من الزراعة والغرس وغير ذلك مما يعمله الخلق، نسب ذلك إلى نفسه. ويحتمل (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا)، أي: قوتنا؛ كقوله: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ)، وقوله: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، أي: بقوة ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: قادرون على الانتفاع بها والاستعمال لها، يقول الرجل فيما له فيه حقيقة الملك: أنا غير مالك عليه إذا كان غير قادر على الانتفاع به، ولا مالك على استعماله. وقيل: (مَالِكُونَ)، أي: ضابطون قادرون على إمساكها، يقال: فلان غير ضابط على إبله ودابته وهما واحد، واللَّه أعلم. وقوله: (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ (73) يخبر عن أنواع ما جعل لهم من الأنعام وأنعم عليهم؛ ليتأدى بذلك شكره، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ... (75) يخبر عن سفههم وقلة بصرهم وفهمهم؛ لاتخاذهم الأصنام آلهة وعبادتهم إياها؛ رجاء النصر لهم، وتركهم عبادة اللَّه على وجود المعونة والنصر منه، وجعله كل شيء لهم، ثم يكون رجاؤهم بذلك ما قالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عَندَ اللَّهِ)، و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلفَى)، وذلك في الآخرة. ويحتمل رجاء النصر لهم بعبادتهم الأصنام في الدنيا في دفع ما ينزل بهم من البلايا والشدائد؛ كقوله: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ). ثم أخبر أن الأصنام إلتي يعبدونها وما رجوا منها لا يستطيعون نصرهم وما رجوا من شفاعتهم والنصر لهم، وأخبر أن ما عبدوا دونه يصير أعداء لهم. قال: (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ). في الآخرة؛ كقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)؛ هذا على تأويل بعضهم من أهل التأويل يجعل الأصنام جندًا عليهم وأعداء لهم على ما ذكرنا.

(76)

ويحتمل قوله: (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ)، أي: المشركون جند للآلهة التي يعبدونها، أي: هم يقيضون لها ويقومون في دفع من هم بها فسادًا وإهلاكًا - أعني: أصنامهم التي كانوا يعبدونها - كقوله: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ). ثم اخنلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في الآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) كان من أُولَئِكَ الكفرة لرسول اللَّه أقوال مختلفة: مرة كان منهم ما ذكر: (وَإِذ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ. . .) الآية. ومرة قالوا: إنه ساحر، وإنه كذاب، وإنه شاعر. ومرة قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً). ومرة قالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا). ومرة طعنوا فيه وفيما أقام من الحجج، ولا ندري أي قول كان منهم له فيحزن عليه حتى قال له: (فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)، أي: لا تحزن على قولهم؛ فإنا نعلم ما يسرون وما يعلنون؛ قنحفظ عليهم ذلك ونكافئهم على ذلك. أو نعلم ما يسرون وما يعلنون فننصرك عليهم ونعينك. أو أن يكون حزنه عليهم؛ إشفاقًا عليهم؛ لما كان يعلم نزول العذاب بهم والهلاك لعنادهم ومكابرتهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) وقوله: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ). هذا يخرج على الوجهين: إن كان على الأمر بالرؤية والنظر أي: فلير الإنسان ولينظر أن من قدر على خلق الإنسان مبتدأ من نطفة لقادر على إعادته؛ لأن إعادة الشيء في الشاهد أهون وأيسر من ابتدائه؛ إذ قد يحتذى ويصور بعد ما وقع البصر على الشيء ويرى ولا سبيل إلى احتذاء ما لم يروا، ولا تصوير ما لم يعاينوا، احتج اللَّه عليهم بالشيء الظاهر الذي يعلم كل أنه كذلك من غير تفكر ولا تأمل، وإلا الاحتجاج عليهم بالأشياء

(78)

التي لم يذكر أبلغ وأكثر نحو خلق الإنسان من هذه النطفة على الصورة التي صورها والنسمة التي خلقها فيها ما لو اجتمع حكماء البشر كلهم أن يعرفوا كيفية خلقه منها من تركيب العظم والشعر والعين - البصر - والسمع والعقل وجميع الجوارح - ما قدروا على درك ذلك، أو لو اجتمعوا على أن يعرفوا كيفية غذائهم بالأطعمة والأشربة التي جعلها غذاء لهم، والقوة التي بها يتقوون على كل أمر أن كيف قدر وقسم على السواء في الجوارح كلها؛ والمواد التي ينمون ويزيدون على الاستواء ما لو زاد في بعضها من قوى ذلك الطعام والشراب دون بعض يزداد قوة على بعض، ونحو ذلك من العجائب ما لا سبيل إلى معرفة ذلك ألبتَّة بعد طول التفكر والتأمل، لكنه احتج بالشيء الظاهر؛ ليدركوه بالبديهة ولا يدركون الآخر إلا بعد التأمل والتدبر، واللَّه أعلم. وقوله: (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ). أي: جدل بين. وقوله: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ (78) ما ذكر من ضرب المثل له: (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). وقوله: (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) يحتمل وجوهًا: أحدها: أي: غفل عن القدرة في خلق نفسه ما لو نظر وتفكر لعرف أنه قادر على الإعادة؟! والثاني: غفل عن الحكمة في الإعادة؟. والثالث: غفل عن الحكمة في ابتداء خلقه نفسه، ثم يخرج هذا على وجوه: أحدها: أنه لو نظر وتفكر في حق نفسه أنه خلق من نطفة، ثم حول النطفة علقة، وحول العلقة مضغة، وحول المضغة خلقًا وإنسانًا تأمًّا متقنا، ثم صيره بحيث يأخذ في النقصان بعد ما كان تامًّا، ثم من فعل هذا في الشاهد أن يحكم الشيء ويتقنه ويتمه ثم يهدمه بلا عاقبة تقصد به، كان غير حكيم فعلى ذلك كان ما أحكم اللَّه من الخلق وأتقنه وتممه، ثم جعل ينقض منه ويوهنه، فلو لم يكن إعادته وخلقه ثانيًا، كان خارجًا عن الحكمة، فلو نظر في ابتداء خلق نفسه، لعرف أنه يعيده وينشئه ثانيًا. والثاني: لو نظر وتفكر في ابتداء خلق نفسه: أنه كيف دبره في تلك الظلمات الثلاث، وقدره على أحسن تقدير في ذلك، فلو نظر وتفكر أن من قدر على تدبيره وتقديره في الظلمات الثلاث على ما دبره وقدره - قادر على إعادته؛ وهو كقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، أي: هو أهون في عقولكم وتقديركم

(79)

أهون من ابتدائه، فإذا قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر وأملك؛ إذ ذلك قي عقولكم أهون وأيسر، وإلا ليس في وصف اللَّه تعالى أن شيئا أهون عليه من شيء، بل الأشياء كلها تحت قوله: (كُنْ فَيَكُونُ) من غير أن كان منه كاف أو نون أو شيء من ذلك، لكنه عبر به؛ لأنه أخف حروف على الألسن وأيسره وأقصر كلام وأوجزه يؤدي به المعنى ويفهم منه المراد. والثالث: أنه خلق هذه الأشياء والجواهر كلها سوى البشر للبشر ولمنافعهم، فلو لم يكن بعث ولا نشأة أخرى، كان خلق هذه الأشياء لهم عبثا باطلا. أو أن يكون قوله: (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي: غفل عن بدء خلقه إذ بدأ خلقه، إما أن كان من ماء أو تراب؛ فعلى ذلك إذا أفناه يصير ماء أو ترابًا فيعيده منه على ما أنشأه منه بدءًا. ثم في قوله: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) دلالة نقض قول الباطنية وفساد مذاهبهم؛ حيث قالوا: إن إعادة الخلق وإنشاءه ليس على هذه البنية والصورة التي أنشأها بدءًا، ولكن ينشئ نفسًا روحانية على خلاف ما شاهدوها وعاينوها، فالآية تكذبهم وتنقض قولهم؛ حيث قال: (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) أخبر أنه يحيي العظام التي أنكروا هم إحياءها واستبعدوا ذلك، وعلى ذلك قال: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) احتج عليهم بعلمهم النشأة الأولى؛ لإنكارهم النشأة الأخرى، فلو كان على خلاف ذلك لم يكن للاحتجاج عليهم بذلك معنى؛ فدل أنه ينشئهم ويعيدهم على الهيئة الأولى. والثاني: ينقض عليهم قولهم أيضًا حيث قالوا: يوصل إلى معرفة ذلك من الذي يعلمه الرسول ويخبره دون النظر والتفكر والتدبر، فلو كان على ما يقولون، لم يكن لقوله: (وَنَسِيَ خَلْقَهُ)، ولا لقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)، وقوله: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)، وقوله: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) - معنى؛ فدل أنه قد يوصل إلى معرفة ذلك بالتفكر والنظر، كما يوصل بخبر الرسول الذي قد أظهر صدقه للخلق، فتلزمه الحجة في هذا كما تلزمه في ذلك. وقوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو نوع من الشجر يقال: المرخ، كانوا يوقدون منه النار، ويورون

(81)

منه، وقيل: هو الزيتون الذي يسرج منه. وتأويله: أن الشجر الأخضر خضرته إنما تكون من الماء، والماء يطفئ النار، والنار تأكل الحطب والخشب، فمن قدر على الجمع بين المتضادين وحفظ كل واحد منهما عن صاحبه مما السبيل منها التنافر والتدافع - لقادر على البعث، وأنه لا يعجزه شيء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) هو ما أنشأ لهم من الشجر يتنزهون به ويتلذذون ما دام أخضر، فإذا أدرك وبلغ ينتفعون بثماره وفواكهه، ثم يصير حطبًا يوقدون منه النار ويصطلون، فمن قدر على ما ذكرنا لا يحتمل أن يعجزه شيء، أو من فعل ما ذكر لا يحتمل أن يفعله عبثًا باطلا، فلو كان على ما قاله أُولَئِكَ الكفرة أن لا بعث ولا نشور، كان فعل ذلك عبثًا باطلا، واللَّه أعلم. وقوله: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) يذكر - واللَّه أعلم - أو ليس من قدر على إنشاء السماوات والأرض مبتدأ لا من شيء ولا أصل لا يحتمل أن يعجزه إعادة الخلق وبعثهم. أو يقول: إن من قدر على خلق السماوات والأرض وما فيها قادر على أن يخلق مثلهم، وخلق المثل إعادة؛ لأنه إنما يكون بعد هلاك الذين أنشأهم وبعد إماتتهم، ويخلق مثلهم مع بقائهم سواهم، وفي ذلك ابتداء خلق وإعادة؛ فيلزمهم الإقرار بالبعث والقدرة على الإعادة. ثم أخبر عن قدرته فقال: (بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ). أي: هو خلق كل شيء من جواهر الأشياء وأفعالهم. أو هو الخلاق في الدنيا والآخرة، (الْعَلِيمُ) يحتمل وجوهًا: يحتمل العليم ببعثهم، أو العليم بمصالحهم ومعاشهم وما لا يصلح. أو العليم بأحوالهم وأنفسهم ما ظهر منهم وما بطن وما أسروا وما أعلنوا. وقوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) يحتمل: إنما حاله إذا أراد شيئًا (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، قد ذكرنا معنى هذه الآية فيما تقدم أن كل ما كان ويكون أبدًا لآبدين إنما يكون بـ (كن) الذي كان من غير أن كان منه كاف أو نون أو شيء من ذلك، إنما هو إخبار عن سرعة نفاذ أمره ومشيئته، أو إخبار عن خفة ذلك عليه؛ يقول - واللَّه أعلم -: كما لا يثقل عليكم قول: " كُن "؛ فعلى ذلك لا يثقل على اللَّه ابتداء خلق ولا إعادته ولا شيء من ذلك. ثم نزه نفسه وبرأها وذكر تعاليه عما ظن أُولَئِكَ من البعث في خلق شيء وبطلانه،

(83)

فقال: (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) أي: تعالى وتبرأ عن أن يكون خلقه على ما ظن أُولَئِكَ حيث قال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا)، ذلك ظن الذين كفروا؛ فكان ظنهم أن لا بعث ولا نشور، ثم أخبر أنه لو لم يكن ذلك، لكان خلق ما ذكر عبثًا باطلا، فقال: تعالى عن أن يلحقه في خلق شيء عبث أو فساد، وكذلك قوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا. . .) الآية.، صير خلق الخلق لا للرجوع إليه عبثًا باطلا. أو أن يقول: يتعالى أن يثقل عليه إعادة الخلق أو ابتداؤهم، أو يتعالى عن أن يعجزه شيء، واللَّه أعلم. قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (رَمِيمٌ) أي: بالية، يقال: رم العظم إذا بلي، فهو رميم ورمام؛ كما يقال: رفيت ورفات. وقوله: (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا) قالا: أراد الوقود التي توري بها الأعراب من شجر المرخ والعفارة. * * *

سورة الصافات

سُورَةُ الصَّافَّاتِ مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الصافات هي الطير إذا صفت أجنحتها بين السماء والأرض. وذكر عن ابن مسعود قال: الصافات والزاجرات والتاليات كلهم الملائكة، قال: الملائكة الصافات اصطفت الملائكة صفًّا لعبادة اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وتسبيحه، وكذلك ذكر عن ابن عَبَّاسٍ وغيره إلا أن غيره يفسر الزاجرات والتاليات أي ملائكة هم؟ ولسنا نذكر عن ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ التفسير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الزاجرات): هم الملائكة الذين يزجرون السحاب والأمطار، (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) هم الملائكة يتلون القرآن والوحي على الرسل والأنبياء، عليهم السلام. وقال قتادة: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) أقسم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بخلق ممن خلق، قال: (وَالصَّافَّاتِ): الملائكة صفوف في السماء، (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) ما ذكر اللَّه في القرآن من زواجر عن المعاصي والمساوي، (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) قال: ما يتلى عليكم في القرآن من أخبار الرسل - عليهم السلام - وأنباء الأمم التي كانت قبلكم. وجائز أن يكون (وَالصَّافَّاتِ): هم الملائكة الذي يصلون لله - عَزَّ وَجَلَّ - صفوفًا على ما ذكروا، (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا): هم الملائكة الموكلون بأرزاق الخلق وسوقها إليهم يسوقون إليهم سوقًا، (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا): هم الملائكة الموكلون بالتسبيح والتحميد وجميع الأذكار. ثم وجه القسم بالملائكة الذين ذكر - واللَّه أعلم -: أنه عَزَّ وَجَلَّ قد عظم شأن الملائكة وأمرهم في قلوب أُولَئِكَ الكفرة حتى قالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ

(4)

نَذِيرًا)، وقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ)، وقول فرعون: (أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)، وقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، وما وصفهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: أنهم (لا يعصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ. . .) الآية، (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. . .) الآية، عظم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر الملائكة عليهم وأعظم، شأنهم في قلوب أُولَئِكَ الكفرة وصدقهم عندهم؛ لذلك أقسم بهم على وحدانيته بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) على هذا وقع القسم. ثم أخبر عن صنع ذلك الواحد الذي هو إلهكم وإله الخلق جميعًا، وذكر نعته، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) يخبر عن وحدانيته وتفرده حيث أنشأ السماوات وأنشأ الأرض وما ذكر، وجعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما، ومنافع المشارق متصلة بمنافع المغارب على بعد ما بينهما، ولو كان فعل عدد لمنع اتصال منافع بعض ببعض على ما يكون من فعل ذوي عدد وغلبة بعض على بعض، فإذا لم يمتنع ذلك، بل اتصل بعض ببعض؛ دل أنه فعل واحد لا شريك له. ثم تخصيص ذكر السماوات والأرض وما ذكر دون غيره من الخلائق؛ لما عظم قدر السماء في قلوبهم؛ لنزول ما ينزل منها من الأمطار والبركات وغيرها، والأرض بخروج ما يخرج منها من الأنزال والأرزاق؛ ولذلك يخرج ذكرهما - واللَّه أعلم - فيما ذكر حيث قال فيهما: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)، فلعظم قدرهما في قلوبهم ودوامهما عندهم خرج ذكرهما، وإن كانتا تفنيان ولا تدومان أبدًا، واللَّه أعلم. ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) قال بعض المعتزلة - وهو جعفر بن حرب -: فإن قال لنا قائل من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا): إنه رب أعمالنا وأفعالنا، فنقول له: إن أردت أنه رب أعمالنا وأفعالنا فبلى، ثم قال: فيقال لهم: أتقولون: إنه خالق الكفر وخالق الشر ونحوه، وفي أفعال الخلق الكفر والشر ونحوه؟! قيل له: لا يقال ذلك على الإطلاق: إنه خالق الكفر وخالق شر، وإن كان يقال في الجملة: خالق أفعال الخلق، ورب كل شيء، وخالق كل شيء؛ لأن ذكره على الجملة يخرج على تعظيم ذلك الشيء؛ نحو ما يقال: رب مُحَمَّد، ورب البيت، إنما هو لتعظيم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتعظيم ذلك البيت خاصة؛ فعلى ذلك وصفنا إياه بالجملة أنه خالق أفعال

(6)

العباد وخالق كل شيء يخرج على وصف البيت بالعظمة والجلال، وعلى الإشارة التي تبنى منها، والتخصيص على تعظيم ذلك الشيء خاصة؛ لذلك جاز أن يوصف أنه خالق أفعال العباد جملة؛ لما ذكرنا أنه يخرج على المدح والتعظيم وعلى الإشارة على المنة له في تعظيم ذلك الشيء؛ لذلك افترقا، واللَّه الموفق. ثم يقال لهم: قولكم: إنه مالك لها وليس بخالق هل يقال لأحد: إنه مالك كذا إلا لما ينشئ ذلك أو لتمليك من يملكه، فإذا ثبت أنه مالك الأعمال والأفعال ثبت أنه خالقها؛ إذ لا يقال: مالك كذا إلا للقدرة على ذلك أو لما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَبُّ الْمَشَارِقِ). قال بعض أهل التأويل: إن للشمس ثلاثمائة وستين مشرقا تطلع كل يوم من كوة، وكذلك يقولون في المغارب: إنها تغرب كل يوم من كوة، لكن يشبه أن يكون أراد بالمشارق والمغارب كل شيء يشرق وكل شيء غارب من الشمس والقمر والنجوم والكواكب وغيرها؛ وعلى ذلك يخرج قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ). وأما أهل التأويل فإنهم يقولون: مشرق الشتاء والصيف وكذلك مغربهما. * * * قوله تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ). ليس أن هذه السماء التي نراها ونعاينها هي سماء الدنيا وغيرها سماء الآخرة، ولكن سماها سماء الدنيا لدنوها من أهل الأرض وقربها منهم، وأهل الأرض هم الجن والإنس، ولهما جرى الخطاب في ذلك وفي غيره؛ وعلى ذلك قول أهل التأويل: إنها إنما سميت: سماء الدنيا؛ لدنوها من أهلها، ولقربها منهم، واللَّه أعلم. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) أخبر أنه - عَزَّ وَجَلَّ - زينها بزينة الكواكب، وزينة الكواكب نفسها أضافها إلى نفسها وهي الزينة لها لا غير، فهو - واللَّه أعلم - كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ) وهي الكواكب، أو قال: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ) فسئل ما هي؟ فقال: الكواكب.

(7)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ)، وحفظه إياها ما ذكر في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا)، قال ابن عَبَّاسٍ وغيره: قوله: (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى) كانوا يَشَفَعُون ولَا يَسَّمَّعُونَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا لا يسمعون أخبار الملائكة وحديثهم فيما يتراجعون بينهم من أمر اللَّه وهم الملأ الأعلى. ومن يقول: إنهم كانوا لا يسمعون يذهب إلى ما ذكر في سورة الجن حيث قالوا: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا)، أخبروا أن من يستمع الآن يجد له ما ذكر؛ دل أنهم كانوا يستمعون. فَإِنْ قِيلَ: كيف يوفق بين هذه الآية وبين قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُورًا. . . إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) استئنى الخطفة، وقال هاهنا: (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا. . .)، كذا ثم الخطفة إلا أن يكون على التمثيل، أي: موضع يخطف، أو على حقيقة الخطفة وهي الاستلاب والأخذ على السرعة، والله أعلم. لكن يشبه أن يكون الآية التي قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا). في المؤمنين منهم؛ ألا ترى أنهم قالوا: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ)، وأما ما ذكر في سورة الصافات فهو في الكفار منهم والمردة (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) من الشياطين الذين يستمعون، واللَّه أعلم. ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ. . .) الآية، دلالة إثبات الرسالة لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان يخبرهم أن الجن يصعدون إلى السماء الدنيا ويستمعون من أخبار الملائكة وحديثهم فيما يتراجعون فيما بينهم من أمر اللَّه في الأرض، ثم يخبرون الكهنة بذلك، فيخبر الكهنة أهل الأرض عن ذلك أنه يكون غدًا كذا وفي يوم كذا وكذا وأنه انقطع ذلك بالوحي ويمنعون، فقالت الجن ذلك وأخبرت عن أنفسهم أنهم كذلك كانوا يفعلون، فصدقوه على ما أخبر من صنيعهم. فَإِنْ قِيلَ: كيف صار ذلك آية له، وإنما أخبر عن قول الجن هم، وبه ظهر ذلك

ومنه عرف؟! قيل: هكذا لكن انقطاع الكهنة من بعد وحديثهم يدل على أن ذلك قد كان، ثم انقطع ذلك بالرسالة والوحي، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: فإذا ولوا الملائكة حفظ السماء وحرسها كيف أغفلوا عما ولوا من حفظها وحرسها وامتحنوا حتى أمكن أُولَئِكَ من الاستماع والاختطاف وما ذكر؟ قيل: جائز أن يشتغلوا هم بأعمال ويمتحنون بأمور أخر سوى ذلك، فيمكن ذلك لهم ما ذكر، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: كيف كانت صنعة الشياطين من الاستماع منهم والخطف، وقد رأت وعاينت ما أصاب من فعل ذلك من القذف والرمي والاحتراق؟ قيل: إن الشياطين عادتهم طلب الغفلة في كل وقت، فجائز أن يكونوا فعلوا ذلك لما كانوا يظنون ويقع عندهم أنهم في غفلة وسهو من أمورهم، وإن كانوا يعلمون ما يصيب من فعل ذلك، واللَّه أعلم. ثم جائز أن يستدل بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ. . .) الآية، يقول علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم فلانًا، فناداه من حيث لا يستمع: لا يحنث، وإذا ناداه من حيث يسمع حنث وإن لم يسمع؛ لما ذكر (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ)، ومعلوم أنهم كانوا يقصدون من الأرض إلى الملأ الأعلى، لكن لا يسمعون، ثم لم يذكر ذلك منهم إلا في المكان الذي يسمع؛ دل أنه على ما ذكرنا من الدلالة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى). الأشراف منهم وأهل المنزلة والكرامة، ويحتمل الجماعة؛ لأن الملأ هو اسم للشيئين: للجماعة منهم، واسم لأهل الشرف والمنزلة. ثم لا ندري كيف سماع الجن من الملائكة؛ وما سبب ذلك؛ أن تكون تلك الأخبار وما يريد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إحداثه في الأرض مكتوبًا في كتاب ينظرون فيه فيعلمونه، أو ليتحدث الملائكة فيما بينهم بذلك فيستمع هَؤُلَاءِ منهم ذلك، أو كيف جهة سماعهم ذلك منهم؛ وما يشبه ذلك، واللَّه أعلم. وفيه أن الجن تفهم كلام الملائكة وإن اختلفت جواهرهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)

(11)

أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا ... (11) قيل: هي السماوات والأرض والجبال، وقيل: الملائكة، وأكثرهم قالوا: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا)، أي: السماوات والأرض؛ كقوله - عز وجل -: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ. . .) الآية، يقول - واللَّه أعلم -: سلهم أن خلقهم وإعادتهم أشد وأكبر وأعظم من خلق السماوات والأرض؛ وإذا أقررتم أنتم بقدرته على خلق السماوات والأرض كيف أنكرتم قدرته على إعادتكم بعد ما متم، وكنتم ترابًا ورفاتًا؟! واللَّه أعلم. وقوله: (فَاسْتَفْتِهِمْ) و (سَلْهُم) ونحو ذلك مما أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله أن يسألهم ويستفتيهم يخرج من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على وجوه: أحدها: على التقرير عندهم والتنبيه لهم. أو على التعيير لهم والتوبيخ. أو على التعليم حجة الحجاج والمناظرة فيما بينهم وبين خصومهم، وهكذا كل سؤال واستفتاء كان من خبير عليم لمن دونه يخرج على هذه الوجوه، وكل سؤال واستفتاء كان من الجهّال لخبير عليم يخرج على استرشاد وطلب الصواب. وقوله: (فَاسْتَفْتِهِمْ) و (سَلْهُم) (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ. . .) الآية، و (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ. . .) كذا - هذا كله يخرج على التقرير والتنبيه، وعلى تعليم الكل حجة الحجاج والمناظرة لا على الأمر؛ لأنه لو كان على الأمر، لكان لا يقول ذلك المأمور بالتبليغ: سل، ولا قل، ولا لمميء من ذلك، ولكن يبلغ إليه رسالته وأمره أنه يقول لكم: أن افعلوا كذا ولا تفعلوا؛ فدل أن ذلك الأمر للكل في أمر أنفسهم: أن قولوا لهم، وأن افعلوا بهم كذا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا. . .) الآية.

أمره أن يستفتيهم، ولم يذكر أنهم ما أفتوه؛ ولا أجابوه أو لا؟ ولا قال لهم: إنهم لو أجابوك وأفتوك بكذا فقل لهم كذا أو أجبهم بكذا؛ فجائز أن يكون الجواب ما ذكرنا: أنكم لو لم تشاهدوا خلق ما ذكر من السماوات والأرض وغيرها سوى خلق أنفسكم ثم شاهدتم خلقنا أعني ما ذكرنا من السماوات والأرض والجبال وغيرها - هل تنكرون قدرته على خلق ما شهدتم وعاينتم: أنه لم يخلقها إلا هو، كيف أنكرتم قدرته على إعادتكم وبعثكم؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ). فذكر - واللَّه أعلم - ضعفهم وشدة ما خلق من سواهم أنكم تعلمون ضعف أنفسكم وعجزها، وشدة من سواكم وقوتها وصلابتها، ثم إنها مع شدتها وقوتها وصلابتها أخضع لله وأطوع منكم نحو ما ذكر من طاعتها له وخضوعها؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) ونحو ذلك مما يكثر، واللَّه أعلم. أو أن يذكر لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ) بدء خلقهم وأصله الذي خلقوا هم منه، إنكم إنما عرفتم ابتداء خلقكم وأصلكم الذي منه خلقتم أنه تراب أو طين بإخبار الرسل، ويقول لهم: وأنتم يا أهل مكة ممن لا يؤمنون بالرسل، فكيف صدقتم الرسل بما أخبروا من أصلهم وبدء خلقكم، ولم تصدقوهم بما يخبرونكم من إعادتكم وبعثكم بعد موتكم؟! فإذا صدقتموهم في ذلك لزمكم التصديق لهم في كل ما يخبرون ويقولون، واللَّه أعلم. أو يقول: إنه أنشأ من تلك النفس الواحدة التي خلقها من تراب من الخلق ما لو تركهم جميعًا لم يفنهم ولم يمتهم، لامتلأت الدنيا منها، فمن قدر على إنشاء ما تمتلئ الدنيا منه من نفس واحدة لا يحتمل أن يعجزه شيء من البعث والإعادة وغير ذلك، واللَّه أعلم. أو أن يقول في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ)، أي: قد أنشأ من تلك النفس ومن ذلك الأصل قرنا وقرنا بعد قرن بعد إفناء كل قرن أنشأ قرنًا آخر؛ فلا يحتمل أن يكون المقصود من إنشائهم الإنشاء ثم الإفناء والنقض، خاصة لا عاقبة تقصد بالإنشاء والإفناء؛ إذ في الشاهد من كان مقصوده في البناء الفناء والنقض خاصة كان غير حكيم، فإذا عرفتم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنه حكيم؛ فلا يحتمل أن يكون مراده من إنشائكم وإفنائكم ذلك خاصة لا غير وذلك مزيل الحكمة، ويوجب السفه، تعالى اللَّه عن ذلك وجميع ما يصفه الملاحدة علوًّا كبيرًا.

(12)

أو أن يقول: إنكم عرفتم أنه إنما أنشاكم من تلك النفس التي أنشأها من تراب أو طين على اتفاق منكم، فإذا متم وفنيتم صرتم ترابًا أو طينًا، فكيف أنكرتم إعادته إياكم من تراب أو طين، وقد أقررتم أن أصلكم تراب أو طين - واللَّه أعلم - على الوجوه التي ذكرنا يجوز أن يخرج. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) بالنصب يحتمل وجوهًا: أحدها: عجبتَ منهم إنكارهم ما أنكروا بعد كثرة قيام الآيات والحجج عليهم في ذلك وهم ينكرون ويسخرون. أو يقول: عجبت ويسخرون؛ لما أنك بزعمهم لعظيم ما ينزل بهم من العذاب والشدائد وما يستقبلهم من الأمور المهمة وهم يسخرون، واللَّه أعلم. أو يقول: بل عجبت لما تدعوهم أنت إلى ما به نجاتهم وفلاحهم وهم يسخرون، ونخو ذلك يحتمل، واللَّه أعلم بما كان يعببه. وفي بعض الحروف: (بل عجبتُ) بالرفع، وكذلك ذكر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يقرؤه بالرفع: (بل عجبتُ) فإن ثبت ذلك وصح إضافة العجب إلى الله فهو في الشاهد وإن كان لظهور عظيم مما قالوا خفيا عليهم مستترًا، عند ذلك يقع لهم العجبُ فهو في اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وإن كان لا يحتمل أن يخفى عليه شيء، فذلك لعظيم ما كان منهم من الإنكار من قدرته على الإنشاء والجحود في ذلك؛ فيكون ما ذكر من حرف العجب منه كناية عن الإنكار والدفع لقولهم، وذلك كما أضاف الامتحان إلى نفسه وإن كان في الشاهد لا يستعمل إلا في استظهار ما خفي عليهم واستتر منهم، فهو من الله يخرج على الأمر والنهي - أعني الامتحان - وإن كان في الشاهد بين الخلق لا يكون إلا لما ذكرنا، فعدى ذلك جائز إضافة العجب إلى اللَّه على إرادة الإنكار منه عليهم والدفع لقولهم، واللَّه أعلم. ومن الناس من أنكر هذه القراءة وقال: لا يجوز إضافة التعجب إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لما هو لم يزل عالمًا بما كان ويكون، وهو في الشاهد إنما يكون لظهور عظيم من الأمر قد جهلوه، لكن هذا وإن كان في الخلق ما ذكر فهو من اللَّه على غير ذلك، على ما ذكرنا من إضافة الامتحان إليه والابتلاء وإن كان بين الخلق لما ذكرنا، وقد ظهرت إضافته إليه بقوله: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) وهو يخرج على الإنكار عليهم والرد على تعظيم إنكار ما قالوا وأنكروا، واللَّه أعلم. ومن أن ناس من قال في قوله عَزَّ وَجَلَّ: (بَلْ عَجِبْتَ) فيما أضافه إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -:

(13)

أي عجبت من هذا القرآن حين أعطاك إياه ويسخر منه أُولَئِكَ الكفرة. ويحتمل معنى آخر، وهو أن يقال: إن قوله عَزَّ وَجَلَّ: (بَلْ عَجِبْتَ) أي: جعلت ما أنزلت عليك من القرآن والوحي أمرًا عجبًا، أو أن يقال: كان إنكارهم رسالتك وتكذيبهم الآيات أمرًا عجبًا وهم يسخرون، ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) ابن عَبَّاسٍ يقول: وإذا وُعِظوا لا يتعظون، والموعظة والتذكير واحد. وقتادة يقول: (وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ) أي: لا ينتفعون بالموعظة على ما ذكرنا في قوله: قوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، أي: لا ينتفعون بتلك الحواس، وإن كانت لهم تلك، كمن لا حاسة له. فعلى ذلك قول قتادة. وجائز أن يكون على مرادفة التذكير ما نسوا من الآيات والحجج، يقول: إنهم وإن ذكروا ما نسوا وتركوا وغفلوا عنه لا يتذكرون، واللَّه أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) هذه الآيات وأمثالها ذكرها - واللَّه أعلم - لقوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا، (لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. . .) إلى آخر ما ذكر؛ يخبر عن عنادهم ومكابرتهم. . . الآيات، ويذكر سفههم. ثم في ذكر ما ذكر من عنادهم وسفههم، وجعله آيات من القرآن تتلى أبدًا وجهان من الحكمة: أحدهما: صير ذلك آية لرسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه معلوم أنهم كانوا على ما أخبر عنهم من العناد والسفه وعلى أن ختموا وقبضوا، دل أنه باللَّه عرف ذلك وبوحيه علم، واللَّه أعلم. والثاني: يخبر - واللَّه أعلم - على ما رأى سلفنا من سفه أُولَئِكَ وعنادهم وما قاسوا منهم وما لحق بهم من الأذى والضرر والسوء؛ لئلا يضيق صدرنا في سفه من تسفه علينا من أهل الفساد والفسق، وألا نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لسفه السفيه، ولا لأذى المؤذي ولا سوء يقال، بل يجب علينا أن نتأسى بسلفنا ونقتدي بهم، وإذا أصابنا منهم ما أصاب أُولَئِكَ من الأذى والسفه، وإن عاندوا أو كابروا وظهر منهم كل فسق وسوء على ما فعل أُولَئِكَ، واحتملوا منهم ما كرهوا، فنحمل عن سفهائنا مثله - واللَّه أعلم - وإلا لو لم يكن في ذكر سفههم وعنادهم ما ذكرنا من الحكمة كان لا معنى لذكر سفه أُولَئِكَ وعنادهم. وجائز أن يكون الشيء سفهًا باطلًا في نفسه ويكون حكمة ودليلًا لغيره - واللَّه أعلم - على ما قال بعض الناس: إن الكذب نفسه يجوز أن يكون دليل الصدق، وكلام السفه

(15)

والباطل دليل الصدق والحكمة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) أي: وإذا أنزل عليهم آية على سؤال منهم يستسخرون ويستهزئون، يخبر عن سفههم أنهم وإن سألوا الآيات فإنهم لا يسألون سؤال استرشاد ولكن سؤال عناد وهزء؛ كقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا)، وكقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). وقالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) كان هذا تلقينًا لأُولَئِكَ الكفرة الرؤساء من الشيطان اللعين حتى يموهوا على أتباعهم عندما ظهر، وكثير من الآيات؛ لما كانوا يعلمون أن لا كل أحد يعرف السحر ويتهيأ إتيانه وفعله؛ يلبسون بذلك على أتباعهم ليقع عندهم أنها السحر لا الآية، واللَّه أعلم. ولو كان ذلك سحرًا حقيقة لكان من آيات الرسالة، فكيف إذا كان آية لما كانوا يعلمون أنه لم يختلف إلى أحد ممن له صرفة بالسحر قط؟! فدل أنه بالله عرف ذلك، على ما ذكرنا: أن ما أنبأ وأخبر عن أنباء الأمم الخالية وأخبارهم يدل على رسالته؛ لما علموا أنه لم يختلف إلى أحد ممن له الصرفة بتلك الأنباء والأخبار ولا ينظر في كتبهم ليعرف ذلك، ثم أخبر على ما كان في كتبهم، دل أنه باللَّه عرف ذلك وبوحى منه إليه علم، فعلى ذلك لو كان سحرًا فكيف إذا كانت آية عظيمة معجزة؟! وقال الزجاج: حرف العجب إنما يكون عند ظهور العجب من الأمر وعبرة عظيمة، فأما ما أضيف إلى اللَّه فهو على الإنكار منه والرد على من أنكر عظيمًا من الأمر ظاهرًا، أو كلام نحوه، واللَّه أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ) قيل: دائم؛ كقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا)، أي دائمًا، وقيل: (عَذَابٌ وَاصِبٌ) أي: شديد. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (مِنْ طِينٍ لَازِبٍ) قيل: ملتزق، وقيل ملتصق الذي يلتصق باليد إذا لمس. وقوله: (دُحُورًا) قيل: طردًا، وهو مطرود. وقوله: (شِهَابٌ ثَاقِبٌ) قيل: مضيء، وقيل: هوى بضوئه. ثم قوله: (وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: يسخرون، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَسْتَسْخِرُونَ): يطلبون من أتباعهم السخرية - يعني: القادة - على الآية. واللَّه أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ

(18)

دَاخِرُونَ) قد ذكرنا: أنهم يقولون ذلك وما تقدم على العناد والتعنت وعلم منهم أنهم لا يؤمنون أبدًا وإن بين لهم جهة الإحياء والقدرة عليهم؛ لذلك اكتفى بقوله: (قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) قد ذكرنا أنهم كانوا يقولون ذلك، ولم يذكر شيئًا من الحجاج سوى قوله: (نَعَمْ). وقوله: (وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ). أي: صاغرون ذليلون؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)، واللَّه أعلم. وقوله: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ... (19) يحتمل قدر زجرة واحدة، يخبر عن سرعة قيامها ومرورها. ويحتمل على حقيقة الزجرة، لكن يخبر عن خفة ذلك وهوانه عليه؛ كقوله: (كُن فَيَكُونُ)، من غير أن كان منه كاف ونون أو شيء من ذلك، لكنه أخف كلام على الألسن يؤدي به المعنى، ويفهم به المراد من ذلك؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) إخبارًا عن خفة ذلك عليه وهوانه، من غير أن جعل الزجرة سبب الإحياء أو سببًا من ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ). يحتمل قوله: (يَنْظُرُونَ) إلى ماذا يؤمرون؟ وعن ماذا ينهون؟ لأن الذي أصابهم في الآخرة إنما كان لتركهم الأمر في الدنيا، فإذا عاينوا ما كانوا يوعدون في الدنيا بتركهم الأمر عنه ينظرون إلى ماذا يؤمرون وينهون عنه؟ واللَّه أعلم. أو ينظرون كالمتحيرين؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث ويكذبونه، فإذا عاينوا تحيروا وتاهوا وضجروا، وهكذا الأمر المتعارف في الخلق أن من أنكر شيئًا أو كذبه، ثم أخبر به وأعلم حتى تيقن عنده ما أنكر تحير وضجر؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ لما أنكروا في الدنيا وكذبوه ثم عاينوا ذلك وتيقنوا به - تحيروا وضجروا به، ينظرون نظر المتحير الضجر، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا كلام يقال عند الوقوع في الهلاك. وقوله: (هَذَا يَوْمُ الدِّينِ) أي: يوم الحساب ويوم الجزاء، وكذلك قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). ويحتمل: هذا يوم الذي ينفع كل من معه الدِّين دينه، والدِّين المطلق هو دين اللَّه، وكذلك السبيل المطلق هو سبيل اللَّه، أي: هذا يوم الدِّين الذي ينفع من كان معه دين اللَّه، وكذا السبيل المطلق هو سبيل اللَّه.

(21)

وقوله: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) قوله: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي: يوم القضاء والحكم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي: يقضي بينهم (فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله؛ (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي؛ يفصل ويفرق بينهم، أي: بين الكفار وأهل الإيمان، وبين الخبيث والطيب؛ كقوله - تعالى -: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا. . .) الآية، وقوله: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)، وقوله: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، واللَّه أعلم. وقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) فالزوج: هو اسم لشكله واسم لضده اسم لهما جميعًا. يحتمل قوله: (وَأَزْوَاجَهُمْ) أي: أشكالهم وقرناؤهم من الجن والإنس والشياطين، يأمر الملائكة أن تجمع بين من كانوا يجتمعون في هذه الدنيا ويستحبون الاجتماع معهم أن يجمعوا في عذاب الآخرة، على ما كانوا يستحبون الاجتماع في الملاهي والطرب في هذه الدنيا ويجتمعون على ذلك؛ فعلى ذلك يجمع بين أُولَئِكَ وبين قرنائهم جهنم، ويقرن بعضهم إلى بعض في العذاب؛ كقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)؛ وكقوله: (وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) كقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا)، ونحوه، واللَّه أعلم. وقال قتادة وغيره: (هَذَا يَوْمُ الدِّينِ)، أي: يدان لبعض الناس من بعض في المظالم والحقوق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) يحتمل الوقف للحساب. ويحتمل (مَسْئُولُونَ) أي: محاسبون. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: " إن دون الحساب يوم القيامة كذا كذا موقفًا، في كل موقف يوقفون مقدار كذا عامًا، ثم تلا هذه الآية ". ويحتمل ليس السؤال عما فعلوا، ولكن يسألون لماذا فعلوا؟ ويحتمل الوقوف فتنوا إلى بعضهم بعضًا، والمخاصمة فيما بينهم والمراجعة؛ كقوله: (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ. . .) كذا، (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ. . .)

(25)

كذا؛ على ما أخبر أنه يجري فيما بينهم من الخصومة ومراجعة القول واللائمة. وقوله: (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) أي: ما لكم لا تنصرون؛ أي: ما لكم لا ينصركم الأصنام التي عبدتموها في الدنيا رجاء النصر والشفاعة؛ كقوله: (هَؤُلَاءِ شُفَعاؤنَا عَندَ اللَّهِ)، وقوله: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). فيخبر عن إياسهم من نصر ما عبدوا على رجاء النصر لهم والشفاعة؛ كقوله: (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) أي: خاضعون ذليلون لله، لما علموا ألا يكون النصر والعون إلا منه، فعند ذلك يستسلمون له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يستسلمون في عذابه. * * * قوله تعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) وقوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أقبلت الإنس على الجن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أقبلت الإنس على الشياطين، فقالوا لهم: (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالَ بَعْضُهُمْ: من قبل الخير والطاعة؛ فتسهوننا وتشغلوننا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من قبل الدِّين والتوحيد من حيث يحترس، وهو الأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من قبل الحق ونحوه. فرد عليهم أُولَئِكَ: (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)

(30)

يقولون: إنكم تركتم الإيمان بأنفسكم وباختياركم لا إنا منعناكم منعا عنه. وقالوا: (وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) أي: ما كان لنا عنيكم من حجة أو برهان ألزمناكم به، بل أطعتمونا طوعًا واستجبتم لنا فيما دعوناكم، فهذه المناظرة والمجادلة فيما ينهم كمناظرة إبليس في موضع آخر حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ)، أي: دعوتكم بلا حجة ولا برهان فاستجبتم لي؛ فعلى ذلك يقول هَؤُلَاءِ: (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) باختياركم ترك الإيمان بلا سلطان ولا حجة كان عليكم، وكمناظرة القادة مع الأتباع حيث قال: (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ)، ونحوه، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) أي: من جهة القوة، أي: إنكم على الحق وإنكم مؤمنون ونحو ذلك. ويحتمل لا على حقيقة اليمين، ولكن تأتوننا من كل جهة؛ كقوله: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ. . .) الآية، أي: من كل جهة لا على حقيقة ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقد ذكرنا أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ) أن قوله: (سُلْطَانٍ) أي: لم يكن لاتباعكم إيانا وطاعتكم لنا حجة أو برهان أقمناه عليكم فيما دعوناكم إليه، وإنما كان اتباعًا من غير أن ألزمناكم؛ فلا تلومونا ولكن لوموا أنفسكم. (بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ). أي: بطغيانكم اتبعتمونا لا بما ذكرتم، واللَّه أعلم. ثم قالوا: (فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) يشبه أن يكون هذا قول الأكابر منهم والمتبوعين للأصاغر والأتباع منهم: أن حق علينا قول ربنا؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: وجب علينا وعليكم عذاب ربنا. ويشبه أن يكون القول الذي أخبروا أنه حق عليهم هو قوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). وقوله: (فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)

(33)

يحتمل أن تكون هذه المعاتبة التي ذكرت كانت بين الأتباع والمتبوعين من الإنس؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) كذا، (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا. . .) كذا؛ وكقوله: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ. . .) كذا. ويشبه أن يكون بين الإنس والشياطين. ثم قوله: (فَأَغْوَيْنَاكُمْ). حين اخترتم الغواية والضلال، أو عرفتم أنا لسنا على الهدى ولم نقم عليكم الحجة، فاتبعتمونا على علم منكم أنا على الغواية فأغويناكم حينئذ، والإغواء: الإضلال، والغواية: الضلال. وقوله: (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) أخبر أنهم جميعًا: الأتباع، والمتبوعون يشتركون في العذاب، ليس أن يشتركوا في نوع من العذاب، ولكن يجمعون جميعًا، ثم لهم العذاب على قدر عصيانهم وجرمهم. وقوله: (إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) قال أبو بكر الأصم: المجرم: هو الوثاب في المعصية، القادح فيها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) أي: كانوا إذا قيل لهم: قولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يستكبرون. ثم يحتمل قوله: (يَسْتَكْبِرُونَ) لا على هذه الكلمة، ولكن يستكبرون على اتباع القائلين لهم: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ كقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)؛ وكقولهم: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا)، كانوا يأنفون ويستكبرون على اتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لذلك قالوا ما قالوا. وجائز أن يكون ما ذكر من استكبارهم استكبارًا على هذه الكلمة حقيقة، فيخرج استكبارهم عليها؛ إنكارًا لهذه الكلمة وجحوذا لها بقولهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)، واللَّه أعلم. (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) يشبه أن يكون على الإنكار لها؛ لما ذكر من قولهم على أثر ذلك وهو ما قال: (أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ). ثم جمعوا في هذا متضادين؛ لأن الشاعر هو الذي يبلغ في العلم غايته، والمجنون هو الذي يبلغ في الجهل غايته، ثم جمعوا بينهما في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكذلك قولهم:

(37)

(سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) والساحر هو الذي يبلغ في علم الأشياء غايته، والجنون في الجهل؛ دل أنهم إنما يقولون عن عناد وتعنت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) الحق: قَالَ بَعْضُهُمْ: بالحق الذي لله عليهم وما لبعضهم على بإض، وأصل الحق: أنه كل ما يحمد على فعله، وكل ما يذم عليه فهو باطل. (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ): أخبر أنه صدق إخوانه من المرسلين، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (وَالصَّافَّاتِ): هي الطيور التي صفت بين السماء والأرض، (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) من الزجر يقال: زجرت الإبل زجرا إن صحت بها؛ فهو اسم الصياح، (فَالتَّالِيَاتِ) كما تقول: تلوت القرآن، أي: قرأت، وتلوت: تبعت، والتالي: التابع، والقذف والرمي (وَيُقْذَفُونَ) أي: يرمون، و (دُحُورًا): أي مباعدة؛ دحرته، أي: باعدته وطردته، (وَاصِبٌ)، أي: [دائب]، (خَطِفَ الْخَطْفَةَ) أي: استلب الشيء، والخطفة: الاستلاب السريع، (فَأَتْبَعَهُ)، أي: اتبعه، (شِهَابٌ ثَاقِبٌ): الشهاب: الكوكب، والثاقب: الشديد الضوء والحر؛ يقال: ثقبت النار، أي: التهبت واشتد حرها، وأثقبتها، أي: أوقدتها، سخرت واستسخرت كقولهم: قر واستقر؛ واحد، وسخر به وسخر به بالتشديد وسَخَّرتُ فلانا، أي: استعملته بغير أجر، (مُسْتَسْلِمُونَ)، أي: قد ذلوا وأعطوا بأيديهم؛ يقال: استسلم الرجل إذا أعطى بيده، وأسلمته: تركته لم أعنه ولم أنصره، (وَأَزْوَاجَهُمْ): أشكالهم، تقول العرب: زوجت، أي: إذا قرنت واحدا بآخر، وهم قرناؤهم من الشياطين، (كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ)، أي: تخدعوننا وتمنعوننا عن طاعة اللَّه، واللَّه أعلم. وزوج الشيء: شكله، ويقال لضده؛ فهو اسم لهما جميعًا. وقوله. (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ). يحتمل ما ذكرنا: أنه على الإضمار: أنه إذا قيل لهم: قولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يستكبرون. ويحتمل وجهًا آخر: أنهم إذا قيل لهم: اتركوا عبادة الأصنام، واصرفوا عبادتكم إلى الإله الذي هو في الحقيقة إله، وهو المالك لجر النفع ولدفع الضر، وهو اللَّه جل وعلا؛ ويدل لهذا قولهم: (أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) أي: نترك عبادة آلهتنا لقول شاعر مجنون، واللَّه أعلم. ذكر أن نفرًا من رؤساء قريش أتوا إلى أبي طالب فقالوا: ما يريد منا ابن أخيك مُحَمَّد؟ فدعا به فقال: ما تريد منهم يا ابن أخي؟ فقال له: " يا عم، إنما أريد منهم كلمة يملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم "، وفي بعض القصة أنه قال لهم: " أريد منكم كلمة يدين لكم بها العرب ويؤدي إليكم بها العجم الجزية "، فقالوا: وما هي؟ فقال: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،

(38)

وأني رسول اللَّه "، فقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)، وذكر أنهم قالوا: (أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ). ويحتمل ما ذكرنا فيما تقدم، واللَّه أعلم. والآية فيمن يقر بالصانع ليس فيمن ينكر الصانع رأسًا من نحو الدهرية وغيرها؛ حيث نفى الألوهية لمن دونه وأثبتها لله - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: (لَآ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ولو كان ذلك مع أهل الدهر، لكان لا معنى لنفي الألوهية لغيره، بل يحتاج إلى تثبيتها فحسب؛ فدل أن الآية فيمن يقر بالصانع، لكنه يشرك غيره فيها وهم مشركو العرب وغيرهم، واللَّه أعلم. ثم أخبر عن رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصدقه حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ) وهو كل آياته: من التوحيد، والإسلام، والرسالة، وكل فعل يحمد فاعله عليه ولا يذم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ). الذين كانوا قبله في جميع ما جاءوا به من الحق. (إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) بالتكذيب والرد لذلك كله. (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39). * * * قوله تعالى: (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) ثم استثنى المؤمنين حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ)؛ فإنهم لا يذوقون العذاب الأليم، وإلا لو كانوا مستثنين من قوله: (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، أو لا؛ يكون لهذا حق الاستثناء من الأول، ولكن الابتداء ذلك جائز في اللغة سائغ في اللسان، واللَّه أعلم. ثم بين ما أعد للمخلصين فقال: (أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَإِنْ قِيلَ: كيف يجمع بين قوله: (يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وبين قوله: (لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ)؟! قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: يعني المعلوم حين يشتهونه يؤتون به.

(42)

ويحتمل أن يكون للكثير الذي لا يحسب ولا يعد؛ لكثرته هو في نفسه معلوم محدود. أو أن يريد بالمعلوم: أنه صار ما وعدوا في الدنيا لهم في الآخرة معلومًا معروفًا عند الوصول إليه كان ذلك لهم موعودًا، فإذا وصلوا إليه، صار معلومًا محدودًا. وقوله: (فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) أي: معظمون مشرفون. وقوله: (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) يخبر أن لهم في الجنة ما يستحبون ويختارون في الدنيا من الجلوس على السرر على المواجهة والمقابلة والشرب على ذلك، والكأس: قيل: كل إناء أو قدح فيه شراب فهو كأس. وقوله: (بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ). المعين قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الجاري، وكأنه يخبر أن خمور أهل الجنة تجري في الأنهار؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعين: هو الظاهر الذي يقع البصر عليه؛ كقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)، أي: [ظاهر]. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ). ذكر أن خمورهم في الآخرة بيضاء؛ لأن البياض يظهر كل ما فيه من الأذى والآفة ويرى، فأما في غيره من الألوان فإنه قلما يظهر وقلما يرى إلا بجهد، أو ذكر أنها بيضاء لأن البيضاء من الألوان المستحسن الطباع كلها؛ وهو المختار عندنا. قال الزجاج: إن الخمر لذة للنفس الروحانية لا للجسدانية؛ ألا ترى أن الخمر يشربها الناس وتظهر كراهة ذلك في وجوههم من العبوسة وغيرها، ثم مع هذا يعودون ويشربون دل أنها لذة لا لهذه النفس الجسدانية، ولكن للنفس الروحانية أو كلام نحوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) و (يُنزَفُونَ) بنصب الياء وكسر الزاء، ورفعها ونصب الزاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا فِيهَا غَوْلٌ) أي: لا آفة ولا صد ولا أذى، (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ) من قرأها (يُنْزَفُونَ) برفع الياء ونصب الزاء يقول: لا تنزف الخمر

(48)

عقولهم، أي: لا تذهب بها، أي: لا يسكرون كما يسكر بشرب خمور الدنيا. ومن قرأها (يَنْزِفُونَ) أي يعني شرابهم. وتأويل هذا الكلام: أن أهل الدنيا إذا أخذوا في الشراب لا يتركون شربهم إلا لإحدى الخلتين: إما لذهاب عقولهم وذلك عند شدة سكرهم، وإما لفناء الشراب، لإحدى هاتين الخلتين يتركون شربهم، فيخبر أن أهل الجنة لا يذهب عقولهم الخمر ولا يُفْنون شرابهم، ولا كان فيها آفة ولا ضرر، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: طاهر لا تحرك، ويقال: الجاري، (لَا فِيهَا غَولٌ) أي: سكر ولا ضرر، ولا يكون الاغتيال إلا من الخديعة والقتل في الأولاد، وهي أن ترضع المرأة ولدها وفي بطنها آخر، والغلول: التلوُّن، وكذلك سميت الغول غولا؛ لأنها تتلوَّن، والغيلان: جميع، (يُنْزَفُونَ) قال: النزيف: السكران. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَا فِيهَا غَوْلٌ) أي: لا تغتال عقولهم فيذهب بها، يقال: الخمر غول للحلم، والحرب غول للنفوس، والغول: العدو، (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ) أي: لا يذهب خمرهم وينقطع ولا يذهب عقولهم، والخمر التي جعلها اللَّه لأهل الجنة في الآخرة هي للذي لم يشربها في الدنيا ولم يتناول منها ولا تلذذ بها، واللَّه أعلم. وقيل: (لَا فِيهَا غَوْلٌ)، أي: غائلة لها، أي: الصداع، أي: لا يتجع منها الرأس، (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ) أي: لا يسكرون بنزف عقولهم فتذهب. وفي قوله: (إلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخلَصِينَ) بنصب اللام دلالة: أنه قد كان من اللَّه - جل وعلا - لطف به استوجبوا الإخلاص والخصوصية، وهو ينقض على المعتزلة قولهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) أي: لا ينظرن إلى غير أزواجهن، جبل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - البشر على الغيرة، ولا يستحب الرجال أن ينظر أزواجهم إلى غيرهم، ولا النساء أن ينظر أزواجهن إلى غيرهن، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن أزواجهم في الجنة: أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن؛ حبًّا لأزواجهن وطلبًا لمرضاتهم، واللَّه أعلم. وقوله: (عِينٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: واسعات العيون في الجمال؛ لأن السعة في العين إذا جاوز الحد

(49)

فحش ولا يكون فيه جمال، ولكن يكون فيه قبح، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عِينٌ)، أي: حسان العيون، والعين جماعة: العيناء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) أي: مستور، لا يصيبه مطر ولا ريح ولا غبار ولا شمس ولا شيء مما يصيب في الدنيا؛ كقوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ). أي: قد [خبئ] وكن من الحر والبرد والمطر فلم يتغير؛ وهو مثل الأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بَيْضٌ مَكْنُونٌ): هو كبيض النعام الذي يكنه الريش من الريح وغيره، فهو أبيض إلى الصفرة فكأنه ينزف؛ فذاك المكنون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: شبهن بالبياض الذي يكون بين القشر وبين اللحا وهو أبيض شيء يكون، واللَّه أعلم بذلك، لكن فيه وصفهن بالجمال والبهاء والحب لأزواجهن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البيض المكنون: هو المصون، هو وصفهن بالصون والصيانة؛ كقوله: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52). . .) إلى آخر ما ذكر: في بعض القصة: أن رجلين شريكين كان لهما ثمانون ألف دينار، وذكر أنهما كانا أخوين ورثا ثمانين ألف دينار فاقتسما - وذكر أربعون ألف درهم - فعمد أحدهما إلى ماله فاشترى به قصورًا وبستانًا وفرشًا وجواري ونساء، فأنفقه في أمر الدنيا، وعمد الآخر إلى ماله فأنفقه في طاعة اللَّه، وطلب مرضاته، وطلب [بعمده] الحياة الدائمة في الآخرة، وهذا مؤمن والآخر كافر طاغ، ثم أصاب الذي أنفقه في طاعة اللَّه وطلب مرضاته حاجة شديدة، فقال: لو أتيت صاحبي هذا لعله أن ينال منه بمعروف، فأتاه فسأله، فأبى أن يعطيه شيئًا، وقال له: ما شأنك وما فعلت بمالك؟ فأخبره بما فعله به، فقال له: (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) أي: محاسبون، فرجع فقضى لهما أن توفيا فنزلت فيهما: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ) وهو المؤمن حين أدخله اللَّه الجنة (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بالبعث بعد الموت (أَإِذَا مِتْنَا

(54)

وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)، أي: لمحاسبون (قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) كأنه قال لأصحابه: هل أنتم مطلعون في النار لننظر ما حاله؟ ثم أخبر أنه اطلع (فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) ذكر اطلاعه، ولم يذكر اطلاع أصحابه؛ فجائز أن يكون أخبر عن اطلاع كل واحد منهم في نفسه: أنه اطلع (فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)، أي: وسط الجحيم، وإن كانوا جميعًا مطلعين إليه فيها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ)، و (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)، وإن كان خاطب إنسانًا فإنما خاطب به كل إنسان في نفسه؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) إنما أخبر عن اطلاع كل منهم - واللَّه أعلم - وكانوا جميعًا مطلعين. ثم في الآية شيئان عجيبان: أحدهما: ما ذكر من اطلاع أهل الجنة على أهل النار أنها تكون قريبة من الجنة حتى ينظر بعضهم إلى بعضٍ فيرون. أو تكون بعيدة منها، إلا أن إبصار أهل الجنة يكون أبعد وأبصر مما يكون في الدنيا، فجائز أن يجعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أبصار أهل الآخرة أبصر وأحدّ؛ حتى لا يحجبه ولا يمنعه بعد المسافة والمكان عن النظر والرؤية، واللَّه أعلم. والثاني: أن كيف يعرفه في النار مما يحرقه ويفني وجهه ولونه وجميع أعلامه وسيماه، لكن جائز أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يعرفه بأعلام تجعل له؛ فيعرفه بتلك الأعلام، وذلك على اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يسيرٌ هَيِّنٌ. وأهل التأويل يقولون: يجعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأهل الجنة كوى منها إذا أرادوا أن ينظر أحدهم إلى مَن في النار، فتح اللَّه له كوة ينظر إلى من شاء من مقعده إلى النار، فيزداد بذلك شكرا، وهو قوله: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)، أي: في وسط الجحيم؛ كقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَوَاءَ السَّبِيلِ)، أي: وسطه. فقال: (تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) أي: هممت لتغوين، وكذلك في حرف ابن مسعود: مكان (لَتُرْدِينِ): (لتُغْوِيَن). وقال الكسائي: تاللَّه، وباللَّه، وواللَّه، واللَّه - بغير واو - لغات. يخبر أن باللَّه يكون على الأسف مرجعهما إلى سفاهٍ يقول: لولا أن اللَّه أنعم على الهدى، ولولا أن اللَّه رحمني فهداني؛ المعنى واحد. يقول له: اترك دينك واتبعني، وقال: (لَتُرْدِينِ) أي: لتهلكني، يقال: رديت فلانًا، أي: أهلكته، والردى: الموت

(57)

والهلاك؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ. وقوله: (لَمَدِينُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: لمحاسبون. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: لمجزيون، والدِّين: الجزاء. وقال: (بَيْضٌ مَكْنُونٌ): مستور، لا يصيبه غبار ولا وسخ. وقوله: (إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي: هممت، وأردت أن تهلكني وتغويني لو أجبتك واتبعتك فيما أدعوتني، إليه وسألتني. ثم أخبر أنه (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) معه، وهذا على المعتزلة لقولهم: إن عليه هداية كل أحد ما لو منعه عنه كان جائرا في منع ذلك، وهذا الرجل أخبر أنه بنعمته ورحمته اهتدى ما اهتدى، وأنه لو لم يكن منه إليه نعمة، لكان من المحضرين فيها، فهو أعرف بربه من المعتزلة، وكذلك الشيطان وجميع الكفرة أعرف بنعمة ربهم من المعتزلة؛ لأنهم قالوا: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ)، (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)، ومثله كثير في القرآن: أنهم جميعًا رأوا الهداية لهم من اللَّه نعمة ورحمة ولم يعط الكفرة ذلك، والمعتزلة يقولون: بل هدى كل كافر ومشرك لكنه لم يهتد، وأهل الجنة قالوا أيضًا: (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)، وقالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)، ومثله كثير في القرآن، واللَّه أعلم. وقوله: (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) يحتمل قوله: (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) على الإيجاب والإلزام، ليس على الاستفهام، وسؤال بعضهم بعضًا: ألا نموت فيها ولا نعذب، وإذ لم نمت ولم نعذب فيها، فإذن كان ذلك فوزا عظيمًا؛ ولذلك ذكر أبو معاذ عن الكسائي: أن هذا استفهام تعيين وفي القرآن كثير مثله، وقال: قد يكون الاستفهام على التعجيب، ويكون على التعيين، ويكون على الجهالة، ويكون قوله: (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى) أي: بعد موتتنا الأولى؛ لأنه بعد إذاقتهم الموتة الأولى؛ فإنهم لا يذوقون ثانيًا.

(61)

وقوله: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أي: لمثل هذه العاقبة التي أعطينا نحن وظفرنا بها، فليعمل العاملون، لا لمثل ما فيه صاحبه الذي في النار. * * * قوله تعالى: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) ثم قال: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ). يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا) من النزل والمقام، أي: المقام الذي نزلنا فيه نحن خير أم شجرة الزقوم. ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا) أن يكون من الأنزال، أي: ما لنا من النعم العظام والمأكل والمشرب خير أم شجرة الزقوم؟ قَالَ بَعْضُهُمْ - أعني: بعض الكفار - عندما خوفوا بها: هل تدرون ما الزقوم؟ هو التمر والزبد، فقالوا: هذا الذي يخوفنا به مُحَمَّد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن محمدًا يدعي أن تكون الشجرة في النار، والنار من طبعها أن تحرق الشجر وتأكله، فكيف يكون في النار الشجرة؟! تكذيبًا منهم وإنكارًا لذلك، فأخبرهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن تلك الشجرة وعن حالها فقال: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) أخبر أن تلك الشجرة خرجت من أصل الجحيم وأنشئت منها، والشجرة التي أنشئت من النار لا تأكلها النار ولا تحرقها وإنما تأكل غيرها من الأشجار التي لم تنشأ منها، ومثل هذا جائز أن يكون الشيء الذي يكون نشوءه وبدؤه من كل شيء ألا يهلكه كونه في ذلك؛ كالسمك الذي يكون أصل نشوئه في الماء، لا يهلكه الماء وكذلك جميع دواب البحر وإن كان غيرها من الدواب في البرية يهلك فيه ويتلف؛ فعلى ذلك الشجرة المنشأة منها لا تهلكها النار ولا تحرقها، وإن كان غيرها من الأشجار تأكلها وتحرقها، واللَّه أعلم.

(65)

والجحيم: قيل: هو معظم النار وغلظها، يقال: أجحمت النار، أي: أعظمتها، يقال: نار جحيمة، أي: عظيمة. وقوله: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن نوعًا من الحيَّات يسمين: شياطين، لها رءوس سود قباح، لها عرف كعرف الفرس، وأشبه، طلع تلك الشجرة وثمرتها لقبحها وسوادها برءوس من تلك الحيات، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو نوع من النبات بالبادية يستقبحه الناس أشد الاستقباح، شبه طلع تلك الشجرة وثمرتها بذلك النبات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن جبالا بمكة سود قباح يستقبحها أهل مكة سموها: شياطين، شبه ثمار تلك الشجرة وطلعها برءوس تلك الجبال، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا ولكن حقيقة رءوس الشياطين؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل للشياطين في قلوب أُولَئِكَ الكفرة فضل بغض وقبح والنفار منها وإن لم يروها ولم يعاينوها، فشبه طلع تلك الشجرة برءوس الشياطين؛ لفضل إنكارهم وبغضهم إياها حقيقة، وفي ذلك آية عظيمة لرسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم لم يروا الشياطين ببصرهم ولا عرفوهم معاينة، وإنَّمَا عرفوهم بأخبار الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وبها استنكروها واستقبحوها وهم قوم لا يؤمنون بالرسل - عليهم السلام - فإذا قبلوا أخبار رسل الله فيهم، لزمهم أن يقبلوا قولهم في الرسالة وفي جميع ما أخبروا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ): يحتمل قوله: (فِتْنَةً)، يعني به: الشجرة التي أنشئت من أصل الجحيم، وهي شجرة الزقوم أجعلها، عذابًا للظالمين، يعني به: الشجرة؛ كقوله: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)، أي: يعذبون، (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي: عذابكم، (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ). ويحتمل قوله: (جَعَلْنَاهَا)، أي: تلك الشجرة: الزقوم، (فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) في الدنيا وجهة القصة بها لهم: هو إنكارهم إياها من الجهة التي ذكروا: أن النار تحرق وتأكل

(66)

الشجر، فكيف يكون فيها شجر؟! إنكارًا لها وتكذيبًا بها. والثاني: ما ذكر بعضهم: أن الزقوم هو الزبد والتمر، صار ذلك فتنة لهم؛ لما ذكرنا وسببًا لعذابهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا ... (66) أي: من الشجرة الزقوم، ذكر أنها تخرج من أصل الجحيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ). جائز أن يشدد اللَّه عليهم الجوع حتى يأكلوا منها فيملئون بطونهم منها؛ كقوله - عز وجل -: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ)، وهي الإبل التي تملأ بطونها من المسايم، لا يغني ذلك الشرب وهو الحميم، ولا يدفع عنهم العطش الذي يكون بهم؛ فعلى ذلك ما جعل طعامهم من تلك الشجرة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ. طَعَامُ الْأَثِيمِ. . .) الآية، إنهم وإن ملئوا بطونهم فإن ذلك لا يدفع عنهم الجوع؛ كقوله: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)، واللَّه أعلم. (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا ... (67) وفي حرف عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ). أي: ثم إن لهم على تلك الشجرة التي جعل طعامهم منها خلطًا من حميم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) أي: ثم إن مردهم، أي: ثم إنهم يردون إلى الجحيم لا أنهم يرجعون بأنفسهم، ولكن يردون فيها؛ كقوله: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ)، هم لا يدخلون فيها ولكن يدفعون فيها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)، والجحيم: هو معظم النار على ما ذكرنا، يقال: نار جاحمة، أي: عظيمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) أي: وجدوا آباءهم ضالين. (فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)

(71)

فيه أن ما ذكر من العذاب للأتباع منهم لا للمتبوعين، ولم يذكر عذاب المتبوعين في الآية حيث قال: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يسرعون وهو شبه الهرولة، والإهراع: هو الإسراع؛ وهو قول الْقُتَبِيّ وأبي عَوْسَجَةَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُهْرَعُونَ) أي: يسعون؛ وهما واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) يقول - واللَّه أعلم -: ولقد ضل قبل قومك يا مُحَمَّد من الأولين أكثرهم من الأمم الخالية من لدن آدم فهلم جزا إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى آدم ومن بينهما من النبيين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) أي: لقد أرسلنا في الذين ضلوا قبل قومك منذرين ينذرونهم، ما من قوم إلا بعث إليهم نذير كما أرسلناك إلى قومك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) يقول - واللَّه أعلم -: انظر كيف صنعنا بمن أنذرنا بالعاقبة فلم يؤمن ولم يقبل ولم ينفعه النذارة. (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) استثنى المخلصين منهم، وهم الذين نفعتهم النذارة وقبلوها؛ فنجوا مما ذكر من عذابهم، واللَّه أعلم. ويحتمل: أنه سماهم المخلصين؛ لما اصطفاهم اللَّه وأخلصهم لعبادته. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ. . .) الآية. قَالَ بَعْضُهُمْ: حين دعا ربه فقال - عليه السلام -: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)، فكأنه إنما دعا ربه بالهلاك على قومه، فأجاب اللَّه دعاءه، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ. . .)، إلى آخر ما ذكر.

(76)

ثمة أمران الرسل - عليهم السلام - هم مخصوصون بهما من بين غيرهم من الناس: أحدهما: أن ليس لهم الدعاء على قومهم بالهلاك وسؤال العذاب عليهم إلا بعد مجيء الإذن لهم من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالدعاء عليهم، فنوح - عليه السلام - إنما دعا ربه بإنزال الهلاك عليهم بالإذن من ربه. والثاني: لم يكن لهم الخروج من بين أظهرهم عند نزول العذاب بهم إلا بإذن من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على ذلك؛ ولذلك جاء العتاب ليونس - عليه السلام - والتعيير لما خرج من بينهم عند نزول العذاب بلا إذن كان من ربه حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. . .) الآية، هما خصلتان لهم خاصة صلوات اللَّه عليهم، وأما لغيرهم من أهل الدِّين فلهم أن يدعوا على الفجرة والفسقة منهم باللعن والهلاك، فلهم أن يفروا منهم، وأن يخرجوا من بين أظهرهم؛ لفسقهم وفجورهم، وكان هذا يعد من صالح الأعمال لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ). وهو الرب - تبارك وتعالى - ذكر المجيب على الجماعة: إنا نفعل كذا، وفعلنا كذا، وهو كلام الملوك فيما بينهم، ثم كل فعل يضاف إلى اللَّه - تعالى - يشاركه فيه غيره أو ينسب يزاد فيه شيء يكون فاصلا، وذلك يينه وبين فعل غيره؛ نحو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ - في موضع آخر: (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)، ونحو قوله: (عَالِم)، لا كالعلماء ونحوه مما يكثر ذلك؛ لأنه قادر على وفاء ما وعد وأخبر وإنجاز ذلك لا يعجزه شيء، وغيره من الخلائق لعلهم لا يقدرون على وفاء ذلك والقيام بإنجاز ما وعدوا؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) يحتمل نجاته من الكرب العظيم هو دعاؤه قومه إلى توحيد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - تسعمائة وخمسين سنة، وما قاساه منهم من أنواع الأذى من التكذيب وغيره، فأنجاه اللَّه من كرب ذلك حين أهلكهم. ويحتمل: (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) هو القول الشديد وهو الغرق، أغرق قومه وأنجاه منه، سماه: عظيمًا؛ لشدة ما أصابهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) أي: جعلنا ذرية نوح - عليه السلام - من بين سائر ولد آدم وذريتهم هم الباقين، وأهلكنا غيرهم؛ ولذلك كان بقاء نسله إلى يومنا هذا وهلك نسل غيره، واللَّه أعلم. وقوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)

(79)

يشبه أن يكون ما ذكر أنه ترك في الآخرين ما ذكر على أثره من السلام حيث قال - عز وجل -: (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) أي: أبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين حتى يثنوا عليه جميعًا ويصدقوه ويقولوا فيه خيرًا وحسنًا، واللَّه أعلم. ويحتمل ما قَالَ بَعْضُهُمْ: سلام اللَّه على نوح في العالمين، وسلم إليه جميع العالمين في جميع الأوقات، كما سلم عيسى على نفسه حيث قال: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)، وما سلم على يحيى - عليه السلام - حيث قال: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)، ذكر السلام عليهما في أوقات ثلاثة وفي نوح في الأوقات كلها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) أي: إنا هكذا نجزي كل محسن، فجزاه اللَّه بإحسانه إلينا الحسن في العالمين، رغب الناس في الإحسان: إما إلى الخلق، وإما إلى أنفسهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) وليس في ذكره أنه من المؤمنين كثير منفعة له وهو من أولي العزم من الرسل، لكن يحتمل ذكره إياه أنه من المؤمنين وجوهًا: أحدها: أنه من عبادنا المؤمنين قبل الرسالة وقبل أن يبعث رسولا، أي: لم يصر مؤمنًا وقت الرسالة، ولكن كان لم يزل مؤمنًا قبل الرسالة. والثاني: أنه من عبادنا المؤمنين بك يا مُحَمَّد؛ يذكر هذا ليسر به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويفرح عليه، والرسل - عليهم السلام - جميعًا يؤمن بعضهم ببعض. والثالث: أنه كان من عبادنا المؤمنين المحققين الموفين، أي: وفاء ما اعتقد بلسانه، وهكذا كان الرسل كلهم موفين ما اعتقدوا وأعطوا بلسانهم، وهكذا يعتقد كل مؤمن في أصل إيمانه واعتقاده ألا يعصي ربه، وألا يخالفه في شيء من أموره ونواهيه، لكنه لا يفي ما اعتقده فعلا بل يقع - ربما - في معاصيه وفي مخالفة أمره ونهيه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا

(83)

لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) أي: إبراهيم - عليه السلام - من شيعة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول على دينه ومنهاجه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من شيعة نوح، أي: إبراهيم من شيعة نوح - عليهما السلام - على ما تقدم ذكر نوح - عليه الصلاة والسلام - حيث قال: (نَادَانَا نُوحٌ. . .) إلى آخر ذلك أن إبراهيم من شيعته على دينه ومنهاجه. وقيل: لذكرها (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) عن جميع ما يمنعه من الإجابة لربه فيما دعاه، والصبر على ما امتحنه وابتلاه، واللَّه أعلم. وعلى ذلك سماه اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في كتابه الكريم: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)، جميع ما أمر به وامتحن به، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون ذلك في الآخرة يقول: (جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، أخبر أنه في الآخرة يكون من الصالحين وذلك سلامة قلبه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ) قد اختلف سؤال إبراهيم - صلوات اللَّه عليه - بقوله مرة: قال لهم (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)، ومرة قال: (مَاذَا تَعْبُدُونَ)، ثم ذكر في غير هذا الموضع إجابتهم إياه حيث قالوا: (نَعْبُدُ أَصْنَامًا)، وما قالوا: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ)، ولم يذكر هاهنا شيئًا قالوه له، ثم معلوم أنه لا بهذا اللسان أجابوه بما أجابوه، ثم ذكره على اختلاف الألفاظ والحروف ليعلم أن تغيير الحروف والألفاظ لا يغير المعنى، وكذلك جميع القصص التي ذكرت في الفرآن يذكرها مكررة معادة مختلفة الألفاظ والحروف والقصة واحدة؛ ليدل أن المأخوذ والمقصود من الكلام معناه لا لفظه وحروفه، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) يقول - واللَّه أعلم -: إفكا أي: كذبًا تمسككم بالأصنام التي تعبدونها من دونه، يقول: كذبًا ذلك، ليست بآلهة دون اللَّه وعبادته. أو يقول: إفكا، أي: كذبًا الآلهة التي اتخذتموها آلهة دون اللَّه، يريدون أن

(87)

يتخذوا آلهة وهو قريب من الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) يقول - واللَّه أعلم -: فما ظنكم برب العالمين أن يفعل بكم إذا اتخذتم دونه آلهة، وصرفتم العبادة والشكر عنه إلى من دونه، وقد تعلمون أنه هو المنعم عليكم هذه النعم، وهو أسدى إليكم هذا الإحسان وهو تعالى أداها إليكم. أو يقول: فما ظنكم برب العالمين أنه يرحمكم ويفعل بكم خيرًا في الآخرة بعد تسميتكم الأصنام: آلهة، وعبادتكم إياها دون اللَّه، بعد علمكم: أنه هو خالقكم، وهو سخر لكم جميع ما في الدنيا وهو أنشأها لكم، فما تظنون به أن يفعل بكم: أن يرحمكم ويسوق إليكم خيرًا؟! أي: لا تظنوا به ذلك، ولكن ظنوا جزاء صنيعكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) أي: سأسقم، وذلك جائز في اللغة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) للحال؛ فعلى ذلك قول إبراهيم - عليه السلام -: (إِنِّي سَقِيمٌ) أي: سأسقم. أو يقول: (إِنِّي سَقِيمٌ) وهو صادق؛ إذ ليس من الخلق أحد إلا وبه سقم ومرض وإن قل، فعلى ذلك قول إبراهيم، عليه السلام. وقول من قال: إن إبراهيم - عليه السلام - كذب ثلاثًا: أحدها: هذا (إِنِّي سَقِيمٌ) فذلك [وخش من القول سمج]، لا جائز أن ينسب الكذب إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو من أنبيائه لا يقع قط في وجه من الوجوه، ويذكر أهل التأويل أن قومه أرادوا أن يخرجوا بإبراهيم إلى عيدهم، فنظر إبراهيم نظرة في النجوم فقال: (إِنِّي سَقِيمٌ) ليخلفوه ويتركوه؛ ليكسر أصنامهم التي يعبدونها على ما فعل من الكسر والنحت، ويذكرون أنه إنما نظر في النجوم؛ لأن قومه كانوا يعملون بالنجوم ويستعملونها وعلم النجوم، فإن كان ذلك، فهو - واللَّه أعلم - أراد أن يرى من نفسه الموافقة لهم ليلزمهم الحجة عند ذلك وهو ما ذكر في قوله: (هَذَا رَبِّي)، و (هَذَا أَكْبَرُ)، ونحوه، قال ذلك على إظهار الموافقة لهم من نفسه؛ ليكون إلزام الحجة عليهم والصرف عما هم عليه أهون وأيسر؛ إذ هكذا الأمر بالمعروف في الخلق أن من أراد أن يصرف آخر عن مذهب أو دين أنه إذا أظهر من نفسه الموافقة له كان ذلك أهون عليه.

(91)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَاغَ)، عليهم ضربًا باليمين أي: ضربهم ضربًا باليمين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) أي: فراغ إلى ما اتخذوا هم، وسموها آلهة، ذكرها على ما عندهم وعلى ما اتخذوها هم وإلا لم يكونوا آلهة، وكذلك قول موسى: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا) أي: انظر إلى إلهك الذي هو عندك، وإلا لم يكن هو إلهًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ). كأن طعامًا كان موضوعًا بين يديها؛ لذلك قال: ألا تأكلون؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) بحوائجكم، أو يشبه أن يكون قوله: (مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ): أنه من فعل بها ما فعل؛ كقوله: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، عمن فعل بهم هذا، سفه قومه في عبادتهم الأصنام، وهي لا تأكل ولا تنطق ولا تملك دفع من قصد بها ضررا، فكيف تطمعون شفاعتها لكم في الآخرة وهي لا تملك ما ذكر؟! واللَّه أعلم؛ وهو كقوله: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ). وقوله: (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) أي: مال ورجع عليهم. وقوله: (ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ضربًا مألوفًا ليمينه التي كانت منه حيث قال: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ)، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) بالقوة، وقد يعبر باليمين عن القوة كما يعبر باليد عن القوة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ضَرْبًا بِالْيَمِينِ)، أي: بيده اليمنى نفسها، على ما يعمل المرء أكثر أعماله باليمين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) ظاهر هذا أنهم أقبلوا إليه وقت ما كسرها وفعل بها ما فعل، لكن في آية أخرى ما يدل أن إقبالهم إليه كان بعد ما خرج من عندها وغاب وكان بعد ذلك بزمان؛ ألا ترى أنهم قالوا: (مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) الآية، ولو كانوا أقبلوا إليه مزفين وهو عندها حاضر لم

(95)

يحتاجوا إلى أن يقولوا: (مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا)، بل يقولون: إن إبراهيم فعل ذلك بها، ولا كان لقول إبراهيم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، معنى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَزِفُّونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يمشون إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يسرعون؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ. وأصل التزفيف: كأنه المشي فيه سرعة، على ما يسرع المرء في المشي إذا أصابه شيء أو فعل به أمر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) يسفههم بعبادتهم ما ينحتون بأيديهم ويتخذونها بأنفسهم، على علم منهم أنها لا تملك نفعًا ولا ضرًّا، والذي نحتها أولى بالعبادة له أي: أولى بأن يعبد - إن كان يجوز العبادة لمن دونه - من ذلك المنحوت؛ إذ هو يملك شيئًا من النفع والضر والمنحوت لا، فإذا لم تعبدوا الناحت لها والمتخذ وهو أقرب وأنفع، فكيف تعبدون ذلك المنحوت الذي لا يملك شيئا وتركتم عبادة الذي خلقكم وخلق أعمالكم؟! ثم من أصحابنا من احتج على المعتزلة بهذه الآية في خلق أفعال العباد؛ يقولون: أخبر - عليه السلام - عن خلق أنفسهم وعن خلق أعمالهم حيث قال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) لكنهم يقولون: ليس فيه دلالة خلق أفعالهم؛ ألا ترى أنه قال عليه السلام: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) وهم لا يعبدون النحت إنما يعبدون ذلك المنحوت؛ فعلى ذلك لم يخلق أفعالهم وأعمالهم، ولكن خلق ذلك المعمول نفسه، وانله أعلم. لكن الاحتجاج عليهم من وجه آخر في ذلك كأنه أقرب وأولى وهو أن صير ذلك المعمول خلقا لله تعالى بقوله: (خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)؛ لأنهم إنما يعبدون ذلك المعمول وهو، مخلوق لله دل أن عملهم الذي عملوا به مخلوق؛ لذلك قلنا: إن فيه دلالة خلق أعمالهم، واللَّه أعلم ووهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) إنما صار التواب والمتطهر محبوبًا لحبه التوبة والتطهر، وصار المعتدي غير محبوب لبغضه الاعتداء، فعلى ذلك المعمول صار مخلوقًا بخلقه عمله، واللَّه أعلم.

(97)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) كأنه قَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: ابنوا له بنيانا ليجمع فيه الحطب فتعظم فيه النار فيصير جحيمًا، ثم ألقوا إبراهيم في الجحيم، والجحيم قد ذكرنا أنه معظم النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) أي: هالكين، يقولون: ما تأخر اللَّه بعد ذلك حتى أهلكهم. ويشبه أن يكون ما ذكرنا واللَّه أعلم، فإذا أرادوا إهلاك إبراهيم - عليه السلام - فصاروا من الهالكين، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ذاهب إلى ربي بقلبي وعملي ونيتي وذلك في الآخرة. ويحتمل: ذاهب إلى ما أمرني ربي، أو إلى ما أذن لي، أي: وقد أمر بالهجرة إلى الأم من مكة. أو ذاهب إلى ما فيه رضاء ربي، أو طاعة ربي ونحو ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَهْدِينِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: سينجيني مما رأيت من قومي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سيهديني الطريق، وذلك جائز نحو قول موسى - عليه السلام -: (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)، لما توجه إلى مدين؛ فعلى ذلك جائز قول إبراهيم: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي) أي: ذاهب إلى أمر ربي، أي: متوجه إلى ما أمر ني ربي أن أتوجه سيهديني ذلك الطريق، واللَّه أعلم.

(100)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: سيهديني لدينه وذلك أول ما هاجر من الخلق، أي: ليعلم دينه، وقد ذكر في حرف حفصة: (إني مهاجر إلى ربي سيهدين)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) كأنه قال: رب هب لي غلامًا واجعله من الصالحين، دليل ذلك ما ذكر له من البشارة بالغلام، فدلت البشارة له بالغلام على أثر ذلك على أن سؤاله كان سؤال الغلام. ثم فيه دليل جواز سؤال الولد الذكر ربَّه، لكنه يسأله بشرط الصلاح والطيب كما سأل الأنبياء وسأله إبراهيم - عليه السلام: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، وقال زكريا - عليه السلام -: (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)، وما ذكر وحكي عنهمِ مدحًا لهم وثناء عليهم حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)، يجب على من يسأل ربه الولد أن يسأله على هذه الشرائط التي سالته الأنبياء - عليهم السلام - فيكون سؤالهم الولد على ذلك سؤالا لله - عَزَّ وَجَلَّ - وما يصلح لقيامه لأمره وعبادته، فأما أن يسأله إياه لذة لنفسه وسرورًا له في الدنيا فلا. ثم يحتمل قوله: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ. . .)، إلى آخر ما ذكر وجهين: أحدهما: أي: هب لنا من أزواجنا وذريتنا ما تقر به أعيننا. أو هب لنا من أزواجنا من الولد والذرية ما تقر به أعيننا على ما سأل زكريا - عليه السلام - حيث قال: (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً). ثم فيه دلالة أن الولد هبة اللَّه لهم وعطاء لهم؛ ولذلك قال: (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)، (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم - واللَّه أعلم - نعني: ما صار الولد هبة من اللَّه. وقوله: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) يصير حليمًا إذا بلغ مبلغ الامتحان بالأعمال والأمر والنهي، أي: بشرناه بغلام حليم يحلم فيما امتحن إذا بلغ مبلغًا يمتحن فيه، قال قتادة: " إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يذكر أحدا ولا وصفه بالحلم سوى إبراهيم وولده الذي بشر به "، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ... (102) أي: بلغ بحيث يقدر أن يسعى معه إلى حيث أمر هو أن يسعى ويمشي معه وهي

(103)

الهجرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ)، أي: بلغ بحيث يعمل ويمتحن عندنا. قال له: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى). وترى بالنصب والرفع جميعًا - فيه دلالة أن رؤيا الأنبياء والرسل - عليهم السلام - على حق تخرج كالأمر المصرح؛ ألا ترى أنه لما قال له: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، وقد عرف حرمة ذبع بني آدم وقتلهم قال له ولده: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) ولو لم يكن أمرًا لم يقل: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، ولا قال له إبراهيم: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، وقد عرف حرمة ذبح بني آدم وقتلهم الذي لا يسع الإقدام عليه، واللَّه أعلم. ثم في قوله لأبيه: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) دلالة أن لا كل مأمور بأمر من اللَّه شاء اللَّه أن يفعل ما أمره؛ حيث أخبر أنه سيجده من الصابرين إن شاء اللَّه، وقد ذكرنا أن إبراهيم - عليه السلام - كان مأمورًا بالذبح، فإذا أمر هو بالذبح أمر هذا أن يصبر على الذبح ولا يجزع، ثم أخبر أنه يصبر إن شاء اللَّه دل أن لا كل مأمور لله بأمر شاء منه أن يفعل ذلك، ولكن شاء أن يفعل ذلك ممن علم منه أنه يختار ذلك الفعل ويفعله، ومن علم منه أنه لا يفعل ذلك لا يجوز أن يشاء منه ذلك الفعل؛ وكذلك قول موسى - عليه السلام -: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)، وهذا على المعتزلة لقولهم: إن اللَّه تعالى إذا أمر أحدا بأمر شاء أن يفعل ما أمره به، لكنه تركه لما لم يشأ هو، واللَّه أعلم. وقد بينا فساد قولهم في غير موضع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) يحتمل قوله: (أَسْلَمَا) أي: استسلما لأمر اللَّه فيما أمرهما: هذا بالذبح، وهذا بالبذل والطاعة في ذلك. أو أسلم هذا ابنه وهذا نفسه لله - عَزَّ وَجَلَّ - وأصله: أسلما أنفسهما لأمر الله وإطاعته في ذلك. وقوله: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، أي: صرعه، وكبه على وجهه، فيه أنه لم يضجعه كما يضجع المرء ما يريد أن يذبحه من الشياه وغيرها، ولكنه أضجعه على وجهه، فهو - واللَّه أعلم - لما أراد أن ينفذ أمر اللَّه ويقدر على أداء ما أمر به، فلعله لو أضجعه على ما يضجع غيره من الذبح نظر كل واحد منهما إلى وجه الآخر، فيرحمه هذا بترك ذبحه وهذا ينظر في

(104)

وجهه في جزع ويترك طاعته. أو على ما قال أهل التأويل: إن ولده قال لإبراهيم - عليه السلام -: كذا، ففعل ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ... (105) يجوز أن يحتج بهذه الآية على المعتزلة لقولهم: إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إذا أمر أحدًا بأمر يجوز ذلك الفعل منه وأراد أن يفعل ما أمره به، ونحن نقول: يجوز أن يريد غير الذي أمره به، يريد أن يكون ما علم أنه يكون منه ويختاره حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا)، ولم يكن منه حقيقة ذبح الولد وقد أمره بذبحه، فلو كان في الأمر إرادة كون ما أمره به، لكان لا يصدقه في الوفاء بالرؤيا، ولم يكن ذلك منه حقيقة. لكنهم يقولون: إن الأمر بالذبح لم يكن إلا ما كان منه من ذبح الكبش من ذلك أراد فكان ما أراد، ومذاهبهم الاحتيال لدفع ما ذكرنا. لكن نقول: إن الأمر بالذبح إنما كان بذبح الولد حقيقة لا بذبح الكبش؛ دليله وجوه: أحدها: قول إبراهيم حيث قال: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، وقول ولده - عليهما السلام -: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، لو لم يجعل الأمر من اللَّه له بالذبح أمرًا بالذبح على ذبح الولد حقيقة لكان يجهلهما في قولهما: أمر اللَّه، وفي تسميتهما ما سميا، ولم يجهلهما في ذلك، فدل أن الأمر كان على حقيقة ذبح الولد لا على ذبح الكبش على ما يقولون، واللَّه أعلم. والثاني: أن إبراهيم وولده - عليهما السلام - قد مدحا وأثنى عليهما بالصنيع الذي صنعا: هذا بإضجاعه إياه للذبح، وهذا لبذله نفسه له والطاعة له في ذلك، فلو كان الأمر منه لهما لا غير الإضجاع والبذل لذلك لم يكن لهما في ذلك الصنيع فضل مدح ولا فضل ثناء ومنقبة؛ إذ لكل أحد إضجاع الولد لذلك وللآخر البذل له، فإذا مُدحا وأثني عليهما في صنيعهما الذي صنعا وصار لهما منقبة عظيمة إلى يوم القيامة، حتى سمي هذا: ذبيح اللَّه، وهذا: فداء اللَّه؛ حيث قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)، فلو كان الأمر بالذبح ذبح الكبش لا ذبح الولد لم يكن الكبش فداء منه؛ إذ لا يسمى الفداء إلا بعد إبدال غير عنه وإقامة غير مقامه، دل على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. لكنه إذا أضجعه وتله للجبين على ما ذكر صارا ممنوعين عن ذلك الفعل غير تاركين

(106)

أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على ما ذكر في القصة: أن الشفرة قد انقلبت عن وجهها فلم تقطع، فمن أمر بأمر ثم منع عما أمره به وحيل بينه وبين ما أمر به، لم يصر تاركًا للأمر، ولا كان موصوفًا بالترك له، لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم. ثم يجوز أن يستدل بهذه الآية لمسائل لأصحابنا: إحداها: في المرأة إذا أسلمت نفسها للزوج وهناك ما يمنع الزوج عن الاستمتاع بها والجماع صارت موفية مسلمة ما على نفسها إلى زوجها، فاستوجبت بذلك كمال الصداق ولزمتها العدة؛ إذ لا تملك سوى ما فعلت وإن لم يجامعها زوجها. وفيمن عنده أمانة إذا سلمها إلى صاحبها وصيرها بحال يقدر على أخذها وقبضها يصير مسلمًا إليه مؤديًا خارجًا منها موفيا، وإن لم يقبض الآخر ولم تقع في يده. وفي البائع إذا سلم المبيع إلى المشتري وخلى بينه وبين ذلك يصير مسلمًا إليه خارجًا من ضمان ذلك وعهدته وإن لم يقبضه المشتري، ونحوه من المسائل مما يكثر إحصاؤها؛ إذ ليس في وسعهم إلا ذلك المقدار من الفعل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا). لو كان هذا القول بعد ذبح الكبش، ففيه حجة لقول أصحابنا حيث قال أبو حنيفة - رحمه اللَّه -: إن من أوجب على نفسه ذبح ولده يخرج منه بذبح الكبش؛ لما أخبر أنه قد صدق الرؤيا بذبح الكبش؛ فعلى ذلك يصير هذا موجبًا على نفسه ذبح كبش لا غير، والله أعلم، وإن كان قوله: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) قبل ذبح الكبش بإضجاعه إياه وإسلامه لذلك، ففيه ما ذكرنا أنه بذل تسليمهما نفسه منزلة إتيان عين ذلك؛ إذ منع عن ذلك لا أنه ترك ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) إن الأمر بذبح الولد الذي أمر به إبراهيم محنة عظيمة. ويقول بعض أهل التأويل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ)، أي: النعمة العظيمة، أي: في الفداء الذي فدى لإبراهيم - عليه السلام - نعمة عظيمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وهو الكبش، قال بعض أهل التأويل: سماه: عظيمًا؛ لأنه كان يرعى في الجنة

(108)

أربعين خريفًا. ويقول بعضهم: كان ذلك الكبش في نفسه عظيمًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) قال أهل التأويل: أي: تركنا عليه في الآخرين الثناء الحسن. ويجوز أن يكون قوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) ذلك السلام الذي ذكر على أثره حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) ترك ذلك فينا؛ لنسلم عليه وعلى جميع المرسلين؛ كقوله: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)، قد أمرنا أن نثني ونسلم على جميع الأنبياء والمرسلين؛ وكقوله: " اللهم صلى على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد " ويكون سلام الأنبياء - عليهم السلام - بعضهم إلى بعض كما كان بعضهم من شيعة البعض. أو أن يكون ذلك السلام من اللَّه لهم أمنًا من كل خوف وسلامة عن كل خبث. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) أي: كذلك نجزي كل محسن أن يترك له السلام والثناء الحسن في الآخرين، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) يحتمل هذا وجوهًا: أحدها: أنه كان من عبادنا المؤمنين قبل أن يُوحى إليه وقبل أن يبعث رسولا. ويحتمل أنه من عبادنا المؤمنين الذين حققوا الإيمان في قوله وفعله ووفاء ما عليه. أو أنه كان من عبادنا المؤمنين بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والأنبياء جميعًا بعضهم يصدق بعضا ويؤمن به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) كان سال ربه الولد يقول: (هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فاستجاب اللَّه دعاءه وبشره بما ذكر،

(113)

ثم أخبر أنه نبي من الصالحين. يحتمل قوله - تعالى -: (نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ): نبيا من السلف؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، أي: نبيا نصيره ونجعله من الأنبياء؛ كقوله - عز وجل -: (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى). ويحتمل أن تكون البشارة في الولادة أي: في الولد الذي سأل ربه. ويحتمل أن بشر له بنبوته، أو بشر لهما بهما بالولادة وبالنبوة جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ... (113) البركة هي اسم كل خير لا يزال على الزيادة والنماء. أو يقول: إن البركة شيء من أعطى كان لا تبعة عليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ). (مُحْسِنٌ) أي: مؤمن مصدق (وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ)، أي: كافر، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، فقال إبراهيم - عليه السلام -: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، أخبر أن في ذريته من لا ينال عهده كما ذكر هاهنا: أن في ذريته محسنًا وهو مؤمن وظالم لنفسه مبين، أي: كافر ظاهر مبين. أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُحْسِنٌ) إلى نفسه، أو محسن إلى الناس، وهو إسحاق، وإن ثبت ما روي أن رجلا سأل فقال: يا رسول اللَّه، أي الناس أكرمهم حسبًا؟ قال: " يوسف صديق اللَّه ابن يعقوب إسرائيل اللَّه ابن إسحاق ذبيح اللَّه ابن إبراهيم خليل اللَّه " فهو ذاك، وإلا فلا حاجة لنا إلى معرفة ذلك أنه فلان أو فلان؛ إذ لو كان لنا إلى بيان ذلك حاجة لبين وأزال الإشكال واختلاف الناس في ذلك والتكلم فيه فضل وتكلف؛ إذ لا يحتمل أن يكون بالناس حاجة إلى معرفة ذلك وبيانه، ثم لا يبين لهم ولا يعرف ذلك، فدل ترك التنازع لذلك على أن لا حاجة لهم إلى ذلك، واللَّه أعلم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: الذبح: الكبش واسم ما يذبح، والذبح بنصب الذال مصدر ذبحت؛ هذا قول الْقُتَبِيّ.

(114)

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الذَّبح بالنصب هو الفعل وهما واحد. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: البلاء المبين: الإحسان المبين العظيم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ). يحتمل ما ذكر من المنة عليهما الرسالة والنبوة التي أعطاهما، والآيات والحجج التي أعطاهما وخصهما بهما والذي أبقى لهما الذكر والثناء الحسن عليهم في الآخرين؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ)، وإنما أوجب عليهم ذكر المنن والنعم التي خصهم بها وفضلهم من بين غيرهم، وأما أن يوجب عليهم ذكر كل ما من عليهم وأنعم عليهم، فذلك ليس في وسع أحد القيام بذكر جميع ما من عليهم وأنعم والشكر لها، وإنَّمَا يجب القيام بذكر ما خصوا بها ظاهرًا وإن كان في الجملة أخذ عليهم أن يروا جعل النعم والمنن من اللَّه جل وعز فضلا منه وإنعامًا لا حقا عليه بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) ما خصوا به من الرسالة والنبوة والآيات والحجج التي وقعت لهم الخصوص، فأما في كل ما من عليهم وأنعم فلا على ما ذكرنا: أن ليس في وسع أحد القيام بشكر أحد نعمه في عمره وإن طال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) قال عامة أهل التأويل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)، أي: من الغرق، ولكن جائز أن يكون (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) والذي نجاهم منه ما ذكر من قتل الرجال واستحياء النساء، حيث قال: (يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ. . .) الآية، وما استعبدوهم واستخدموهم، أنجاهم اللَّه من ذلك الذل وأنواع البلايا والشدائد التي كانت عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ. . .)، أخبر أنهم كانوا مستضعفين، فأنجاهم اللَّه من ذلك كله، وهو الكرب العظيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)

(117)

يحتمل قوله: (وَنَصَرْنَاهُمْ) بالحجج والآيات التي أعطاهم. أو (وَنَصَرْنَاهُمْ) حيث أنجاهم وأهلك فرعون والقبط، واللَّه أعلم. وقوله: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) التوراة. ثم يحتمل قوله: (الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ) وجهين: أحدهما: استبان لكل من عقل ونظر أنه من عند اللَّه نزل؛ لأن التوراة نزلت ظاهرًا في الألواح ليست كالقرآن لا يعرف أنه من عند اللَّه نزل إلا بعد التأمل والنظر؛ لأنه نزل في الأوقات الخالية التي لم يطلع عليه أحد سرا عن ظهر القلب. والثاني: أنه استبان لكل من نظر فيها ما لهم وما عليهم وما يؤتى وما يتقى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) يحتمل الصراط الذي من سلكه أفضاه إلى مقصوده، وبلغه إلى الصراط المستقيم؛ لما بالحجج والبراهين قام لا بهوى الأنفس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) هو ما ذكرنا فيما تقدم: أنه أبقى لهما الثناء الحسن في الآخرين، وهو السلام الذي ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) أي: إنا كذلك نبقي ونترك لكل محسن الثناء الحسن في الآخرين كما تركنا لهَؤُلَاءِ، وهو المعروف في الناس: أن كل محسن صالح وإن مات فإنه يذكر بالخير بعده ويثنون عليه بالثناء الحسن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) يحتمل الوجوه التي ذكرنا فيما تقدم: من عبادنا المؤمنين قبل الرسالة. أو من عبادنا المؤمنين بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. أو من عبادنا المؤمنين الذين حققوا الإيمان قولا وفعلا، والقيام بوفاء ما وجب بعقد الإيمان وعهدته، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131)

(123)

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) هذا ينقض على الباطنية مذهبهم؛ لأنهم يقولون: إن الرسل - عليهم السلام - ستة: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومُحَمَّد - صلوات اللَّه عليهم - وما سواهم أئمة، وفي الآية إخبار أن إلياس كان من المرسلين، هذا كله ينقض قولهم ويرد مذهبهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) عبادة غير اللَّه. أو يقول: (أَلَا تَتَّقُونَ): ألا تخشون ولا تخافونه في ترككم عبادته واشتغالكم بعبادة غيره. أو (أَلَا تَتَّقُونَ) نقمة اللَّه في مخالفتكم أمره ونهيه، واللَّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) قال بعض أهل التأويل: البعل هاهنا الرب بلسان قومه، وذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: " أنه سئل عن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا) قال: فقال رجل: من يعرف الآثار، فقال أعرابي: بعلها، أي: ربها، فقال ابن عَبَّاسٍ: كفاني الأعرابي جوابها ". لكن لا يحتمل أن يكون المراد من قوله: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا) أي: رَبًّا، إلا أن يكون ذكر أنه بلسان قومه، في قول: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا): رَبًّا تعلمون أنه لا يضر ولا ينفع، وتذرون عبادة من تعلمون أنه يضر وينفع، أو تختارون عبادة من تعلمون أنه لا يملك الضر ولا النفع على عبادة من تعلمون أنه يملك ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البعل: السيد هاهنا، وكذلك يقول في قوله: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا)، أي: سيدي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البعل: هو اسم الصنم هاهنا، يقول: أتعبدون صنمًا وتذرون أحسن الخالقين، وأصل البعل: الزوج، كأنه يقول لهم: أتدعون من له أزواج وأشكال، وتذرون عبادة من لا زوج له ولا أشكال، واللَّه الموفق. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أول هذه يماني وآخرها مضري وهو قوله:

(126)

(وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) يسمون كل صانع: خالقًا، والخلق: هو التقدير في اللغة يضاف إلى الخلق على المجاز وإن كان حقيقة التقدير لله - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر على ما عندهم لا على حقيقة الخلق، واللَّه أعلم. ثم يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ)، أي: أحكم وأتقن؛ على ما ذكر: وهو (أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)، أي: جعل في كل شيء أثر شهادة وحدانية اللَّه وربوبيته. أو (أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) لما ذكر أنه خلفهم وخلق آباءهم الأولين، وأنه ربهم ورب الخلائق، فقالوا: من أحسن الخالقين؛ فعند ذلك أذكر، ما ذكر ونعته: (اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) ثم أخبر عنهم أنهم كذبوه مع ما ذكر لهم، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) ولم يذكر في ماذا؟ لكن فيه بيان أنهم لمحضرون النار والعذاب؛ لأن أهل اللذات هم المحضرون أنفسهم وأهل العذاب يحضرون كرهًا لا بأنفسهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ)، وقوله: (وَيَصْلَى سَعِيرًا)، ونحوه، ثم استثنى العباد المخلصين منهما أنهم لا يحضرون النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) هو ما ذكرنا أنه أبقى لهم الثناء الحسن ومن أهلك إنما أهلك بتكذيب الرسل وعنادهم، ومن نجا منهم إنما نجا بتصديقهم والإجابة لهم وإياكم وتكذيب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فينزل بكم كما نزل بأُولَئِكَ. * * * قوله تعالى: (وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وقال - عَزَّ وَجَلََّ -: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) أي: على من هلك من مكذبي الرسل بالليل والنهار، فتعلمون أنهم إنما أهلكوا بالتكذيب للرسل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وتعتبرون وتمتنعون عن تكذيبه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى

(139)

مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) وقوله: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) هذا ينقض على الباطنية قولهم حين قالوا: إن الرسل ليس إلا ستة لا يعدون يونس ولوطا - عليهم السلام - منهم فيخالفون ظاهر الآية، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)، وهم يقولون: ليس من المرسلين، وباللَّه العصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) ذكر هاهنا الإباق، وفي سورة الأنبياء الذهاب، وهو قوله: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا). فمن الناس من يجعل هذا غير الأول - يعني: إباقه الذي ذكر وذهابه - لكن جائز أن يكون ذكر الإباق وذكر الذهاب وإن كان في رأى العين في ظاهر اللفظ مختلفًا فهما في المعنى واحد، فيكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَبَقَ) من قومه بدينه؛ ليسلم له، أو أبق لخوف على نفسه من قومه، أو أبق على ما أوعد قومه من نزول العذاب بهم إذا لم يؤمنوا به، وكان الرسل - صلوات اللَّه عليهم - يخرجون من بين أظهر قومهم إذا خافوا نزول العذاب بهم، إلا أن يونس خرج من بينهم قبل أن يأتيه الإذن من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالخروج من بينهم؛ لذلك جاء العتاب له والتعيير، لا لما يقوله عامة أهل التأويل من الخرافات التي يذكرونها وينسبون إليه ما لا يجوز نسبة ذلك إلى أجهل الناس بربه وأخسهم، فضلا أن يجوز نسبة ذلك إلى نبي من أنبيائه ورسول من رسله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) ذكر في القصة أنه - عليه السلام - لما أبق إلى سفينة فركبها أراد أن يعبر البحر، فجعلت تكفو وتقف وكادت أن تغرق، فقال القوم بعضهم لبعض: إن فيكم لرجلاً مذنبًا ذنبًا عظيمًا، وكانوا يعرفون ذلك من عادتها من قبل كانت إذا ركبها مذنب تغرق وتتسرب في الماء، فلم يعرفوا من هو ذلك؟ فاستهموا مرارا فساهم يونس في كل مرة، فلما رأى ذلك يونس - عليه السلام - قال لهم: يا قوم ألقوني في البحر حتى لا تغرقوا جميعًا، فأبوا وقالوا: لا نلقي نبيا من أنبياء اللَّه في البحر، فألقى هو نفسه فيه، فالتقمه الحوت على ما أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - حيث قال: (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ). ثم قوله: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) قال: فكان من المغلوبين في القرعة والاستهام، أي: خرجت القرعة عليه، و (الْمُدْحَضِينَ): هو الذي لا حجة له فيما يريد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي: [مُذْنِبٌ]. ¬

_ (1) في المطبوع هكذا [عجيب] والتصويب من تفاسير عدة. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

(143)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: مليم من الملامة، أي: كان يلوم نفسه فيما صنع من الخروج من بينهم بلا إذن من اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) يحتمل قوله: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) لربه قبل ذلك ومن المصلين له، وإلا للبث في بطنه إلى ما ذكر؛ ولذلك قيل: من عمل لله - تعالى - في حال الرخاء، نفعه اللَّه بذلك في حال الشدة ويرفعه إذا عثر، واللَّه أعلم. قيل في الحكمة: إن العمل الصالح رفع صاحبه إذا عثر وإذا صرع وجد متكئًا، والله أعلم. ويحتمل (كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)، أي: صار من المسبحين في بطن الحوت، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) العراء: قيل: هي الأرض الصحراء التي لا شجر فيها ولا نبت ولا ركز. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: العراء: الأرض التي لا ظل فيها، والمدحض: المغلوب، ومليم: أي: أتى أمرًا يلام عليه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: العراء: هي الأرض التي لا يواري فيها شجر ولا غيره، كأنه من عري الشيء، واللَّه أعلم. البعل: الزوج. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ سَقِيمٌ). ذكر أن الحوت لما نبذه بالعراء لم يكن به شعر ولا جلد ولا ظفر ولا سن سقيم من السقم وهو المرض، أي: مريض لما مسه بطن الحوت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) قَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة الفرع، أنبت عليه ليأكل منها، ويستظل بها. ْوقَالَ بَعْضُهُمْ: كل شجرة تنبسط على وجه الأرض مما يتسع أطرافه إذا مد وأصله واحد، فهو يقطين، من نحو البطيخ والعرجون وغيرهما.

(147)

والأشبه أن تكون شجرة القرع؛ لأنها أسرع الأشجار نبتًا وامتدادًا وارتفاعًا في السماء في مدة لطيفة ووقت قريب، والوصول إلى الانتفاع بها أكلا واستظلالا لها ما لا يكون مثل ذلك في مثل تلك المدة من الأشجار، واللَّه أعلم. وعلى ذلك روي أنه قيل: يا رسول، إنك لتحب القرع؟ قال: " أجل هي شجرة أخي يونس، وهو تزيد في العقل " فهذا يدل إن ثبت: أنها كانت شجرة القرع، واللَّه أعلم. ثم فيه لطف من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: حيث أنبت عليه شجرة في وقت لطيف، لا ينبت مثلها إلا بعد مدة غير لطيفة ووقت مديد، وأبقى عليه الضعف وقتا طويلا مما يرتفع ذلك ويزول في وقت يسير في العرف؛ ليذكره ما أنعم عليه ويقوم بشكره، وهو كما ذكر في قصة: صاحب الحمار حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ)، أبقى طعامه وشرابه وحفظه وقتا طويلا غير متغير مما طبعه التغير في وقت يسير وغير ما طبعه البقاء لطفا منه، فعلى ذلك أنبت على يونس شجرة في وقت لطيف مما لا ينبت مثلها إلا في وقت طويل، وأبقى ذلك الضعف الذي كان به والسقم مما سبيله الزوال والارتفاع في وقت يسير لطفًا منه؛ لتذكير ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: ما ذكرنا أن حرف الاستفهام إذا أضيف إلى اللَّه فهو على التقدير والإيجاب ليس على حقيقة الاستفهام، فعلى ذلك حرف الشك: أي: مائة ألف بل يزيدون، أو يقول: ويزيدون؛ لما يتعالى عن الشك. والثاني: قوله: (أَوْ يَزِيدُونَ) حتى يزيدوا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)، أي: حتى يسلموا. أو كأنه وقت ما بعثه إليهم كانوا مائة ألف، ثم ازدادوا بعد ذلك، واللَّه أعلم. والثالث: يزيدون مائة ألف أو يزيدون عند الناس، فمعناه: أن من نظر إليهم لا يظن دون مائة ألف، ولكن يظن مائة ألف وزيادة، واللَّه أعلم. قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) قيل: آمنوا به فلم يهلكوا، ولكن أخر عنهم إلى وقت موت حتفهم. وقال - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا

(149)

آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ)، أخبر هاهنا أنه لم ينفع قومًا إيمانهم عند معاينتهم العذاب إلا قوم يونس، وكذلك ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: أنه لم ينفع الإيمان عند معاينة العذاب حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)، ثم [لا يُدرَى] أنه إنما يقبل إيمان قوم يونس؛ لأنهم آمنوا عند خروج يونس - عليه السلام - من بين أظهرهم قبل أن يقبل العذاب عليهم، لما كانوا يعلمون أن الرسول متى ما خرج من بينهم بعد ما أوعدهم بالعذاب أن العذاب ينزل بهم لا محالة، فآمنوا به، وإن لم يعاينوا. أو أن يكون العذاب قد أقبل عليهم فعاينوه عند معاينتهم فعند ذلك آمنوا. فإن كان الأول فهو بأنهم إنما آمنوا به عند خروجه منهم فهو مستقيم قبل إيمانهم؛ لأنهم لم يؤمنوا عند معاينتهم العذاب، ولكن إنما آمنوا قبل ذلك. وإن كان الثاني، فجائز أن يكون قبل إيمانهم ونفعهم إيمانهم وإن عاينوا العذاب؛ لما عرف - جل وعلا - أن إيمانهم كان حقا وهم صادقون في ذلك محققون، لم يكونوا دافعين العذاب عن أنفسهم إلا بإيمان حقيقة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وقوله: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ). الاستفتاء والسؤال يخرج على أربعة أوجه: إن كان الاستفتاء والسؤال من عليم خبير لأهل الجهل يكون تقريرًا وتنبيهًا إذا لم يكونوا أهل عناد، وإذا كانوا أهل عناد فهو تسفيه وتوبيخ لهم. وإذا كان الاستفتاء من جاهل مصدق طالب رشد لعليم خبير، يكون استرشادًا وطلب الصواب. وإذا كان من معاند مكابر، فهو يخرج على الاستهزاء به والسخرية؛ كقولهم: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، إنما قالوا ذلك استهزاء به. ثم ما ذكر من الاستفتاء لهَؤُلَاءِ إنما يكون تسفيها منه لهم في قولهم: لله - عَزَّ وَجَلَّ - ولد، والملائكة بنات اللَّه سبحانه ونحوه من الفرية العظيمة التي لا فرية أعظم منها ولا

(151)

كذب أكبر منه؛ لأن درك الأشياء ومعرفتها إنما يكون في الشاهد بأحد وجوه ثلاثة: أحدها: المشاهدة. والثاني: الخبر. والثالث: الاستدلال بما شاهدوا وعاينوا على ما غاب عنهم. ثم معلوم عندهم - أي: عند هَؤُلَاءِ - أنهم لم يشاهدوا اللَّه حتى عرفوا له الولد، ولا كانوا يؤمنون بالرسل حتى يكون عندهم الخبر بما قالوا ونسبوا إليه من الولد وغيره؛ إذ الخبر إنما يوصل إليه بالرسل، وهم لا يؤمنون بهم، ولا كانوا شاهدوا ما يستدلون على ما قالوا فيه ونسبوا إليه حتى دلهم ذلك على ذلك، فسفههم في قولهم الذي قالوا فيه وما نسبوا إليه، وإنهم كَذَبة في ذلك؛ إذ أسباب العلم بالأشياء ما ذكرنا، ولم يكن لهم شيء من ذلك؛ ولذلك قال: (أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) يقول: أأختار لنفسي ما تأنفون أنتم عنه؟ وتنسبون إليه ما تستنكفون أنتم عنه؟ يسفههم في قولهم ونسبتهم إلى اللَّه ما قالوا فيه ونسبوا إليه إلى آخر ما ذكر، واللَّه أعلم. وفيه تصبير رسول اللَّه على أذاهم وتركهم الإيمان به والاتباع؛ لأنه علمهم أنه خالقهم ورازقهم وقديم الإحسان إليهم وقالوا فيه ما قالوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) يحتمل قوله: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، أي: ما لكم تحكمون بلا حجة ولا علم؟ وقوله: (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أن هذا الحكم جور وظلم عظيم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) أي: لكم حجة وبيان على ما تزعمون وتقولون في اللَّه سبحانه. وقوله: (فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) أي: ائتوا بكتاب من عند اللَّه فيه ما تذكرون من الولد وغيره. وقوله: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ... (158) قال عامة أهل التأويل: إن الجنة هم الملائكة؛ لقول أُولَئِكَ الكفرة: إن الملائكة بنات اللَّه، وما قالوا في قوله: (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)، أي: علمت الجن الذي

(159)

وصفوا له بنين إنهم لمحضرون النار وعذاب اللَّه، ويحاسبون، على قول مجاهد وغيره، والذين أُولَئِكَ -أعني الأتباع- أنهم ملائكة اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ). قوله: (سُبْحَانَ اللَّهِ) نزه نفسه عما وصفه الذين تقدم ذكرهم، وتبرأ عن جميع ما قالوا فيه، ثم استثنى عَزَّ وَجَلَّ: (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فلسنا ندري ما موضع الثنيا هاهنا على أثر ما ذكر من التنزيه لنفسه، يحتمل الاستثناء وجهين: أحدهما: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أُولَئِكَ الكفرة من الولد وغيره إلا عبادنا المخلصين. والثاني: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)، أي: من أخلص منهم وآمن فإنه غير بريء مما يصفه؛ لما يجوز أن يسلم منهم نفر فيصفونه بما يليق به؛ لأن المؤمن والمخلص لا يصف ربه إلا بما يليق به، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: " إلا عبادنا المخلصين " استثنى من قوله: (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) للنار (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) فإنهم لا يحضرون النار والعذاب على سبق استثناء هَؤُلَاءِ الذين أخلصوا ممن يحضر فيما تقدم - واللَّه أعلم - وهو على التقديم والتأخير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) يقول - واللَّه أعلم -: إنكم وما تعبدون لا تملكون أن تفتنوهم وأن تضلوهم، إلا من هو في علم اللَّه أنه يختار الضلالة؛ مما يصليه النار، على حق المعونة لهم لا حقيقة الإضلال، وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)، وما أخبر أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ): إلا من كتب عليه في اللوح: أنه يصلى الجحيم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إلا من قضي اللَّه عليه أنه يصلى النار. وأصله ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وما يعبدون: الجنّ الذين عبدوا الجن، أو الملائكة، ويحتمل الأصنام التي عبدت؛ إذ

(162)

قد ينسب إليهن الإضلال؛ لقوله: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) يحتمل هذا منهم -أعني: الملائكة- وجهين: أحدهما: قالوا ذلك لتبرئة أنفسهم عن أن يأمروا بالعبادة لهم، أي: لم نتفرغ نحن بعبادة هَؤُلَاءِ طرفة عين فكيف نأمر هَؤُلَاءِ بعبادتنا؛ كقولهم: (قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)، أي: نحن في طلب ولايتك فكيف نتفرغ لذلك، أو أن يقولوا: إن ولايتك التي واليتنا شغلتنا عن جميع ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) أي ما أنتم بمضلين أحدًا من عبادي بإلهكم هذا الذي تعبدون إلا من تولاكم بعمل أهل النار، وذكر عن عمر بن عبد العزيز وعن الحسن أيضًا أنهما قالا في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) يقول: ما أنتم بمضلين بآلهتكم أحدًا إلا من قدر أنه يصلي الجحيم، وهو قريب مما ذكرنا، واللَّه أعلم. (إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) يحتمل مكان معلوم محدود لا يبرح عنه ولا يفارق. ويحتمل (مَقَامٌ مَعْلُومٌ) أي: عبادة معلومة نحو ما ذكر حكيم بن حزام قال: بينما رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا بما نحن فيه ولكن أمر آخر، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) ثم قوله: (لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) بنصب اللام على ظاهر ما قالوا، يخبر أن يكون من المخلصين بكسر اللام، أي: لو كان كذا، فنحن نخلص له التوحيد والعبادة، لكن المخلص أن يخلصنا اللَّه لو كان كذا، واللَّه أعلم. ثم أخبر أنهم كفروا ما آتاهم البيان وأن أُولَئِكَ المتقدمين إنما أهلكوا لما ذكر مُحَمَّد -

(170)

عليه الصلاة والسلام - لكنهم عاندوه وكابروه وكفروا به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) علم عيان ومشاهدة؛ إذ عرفوا علم خبر بالحجة والآيات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ)، اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الرسل - عليهم السلام - كانوا منصورين لم يغلب رسول قط فإنما قتل: الأنبياء ورسل المرسلين الذين يبلغون رسالة الرسل إلى قومهم ويخبرون عنهم، فأما الرسل أنفسهم فهم لم يقتلوا ولا قتل أحد منهم؛ عصمهم اللَّه تعالى عن الناس وعما هموا بهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم منصورون لما نصر العاقبة لهم؛ إذ لم يكن رسول إلا وقد كانت العاقبة له وإن غلب في الابتداء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) بالحجج والآيات والبراهين أنهم يغلبون بحججهم وآياتهم ويرفعون بها الشبه والتمويهات، واللَّه أعلم. ويستدل صاحب التأويل الأول بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)، وفي بعض القراءات: (قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا)، أخبر أنهم وإن قتلوا فإنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، ثم أخبر أنه آتاهم اللَّه ذلك حيث قال: (فَآتَاهُمُ. . .)، كذا، واللَّه أعلم؛ دل أنه وإن غلبوا وقتلوا فهم المنصورون. ثم قوله: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) ذكر (إِنَّهُمْ لَهُمُ) بحرفين ومعناهما واحد على التأكيد؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ)، وقوله: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ)، وإن كان الواحد كافيًا، كما في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) أي: رسلنا أو أتباعنا وأولياؤنا هم الغالبون على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) يحتمل أي: لا تكافئهم بأذاهم إياك إلى حين أو لا تقاتلهم، فكيفما كان ففيه وجهان من الدليل: أحدهما: دليل على رسالته حيث أخبر أنهم يكونون على الكفر إلى الحين الذي ذكر ويهلكون على ذلك حيث قال: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ).

(175)

والثاني: فيه دليل حفظه إياه وعصمته عما كانوا يهمون به من القتل والإهلاك؛ حيث منعه من مقاتلتهم ونهاه عن التعرض لهم إلى وقت، على المعلوم ما كان منهم من الهم بقتله وإهلاكه لو وجدوا السبيل إليه؛ فدل أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد عصمه وحفظه عنهم حين قال لهم ما قال حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)؛ كقوله: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ). قوله تعالى: [(وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)] وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ). عيانًا ومشاهدة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وأبصرهم العذاب إذا نزل بهم خير فسوف يبصرون وقوعًا. ويحتمل قوله: (وَأَبْصِرْهُمْ) أي: عرفهم أن العذاب ينزل بهم فسوف يعرفون إذا نزل بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) دل هذا أنهم كانوا يستعجلون نزول العذاب بهم - واللَّه أعلم - إنما يستعجلون العذاب استهزاء بالرسول - عليه السلام - وتكذيبًا له فيما يوعدهم أن العذاب ينزل بهم. ثم قوله: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) هو حرف التعجب أن كيف يستعجلون عذابي؟! ألم يعرفوا قدري وسلطاني في إنزال العذاب والإهلاك إذا أردت تعذيب قوم وإهلاكهم؟! أي: قدرت ذلك وملكت عليه. ثم أخبر أنه إذا نزل العذاب بساحتهم يساء صباحهم، حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ) يحتمل النزول بالساحة، أي: بقربهم. ويحتمل النزول بالساحة: النزول بهم والوقوع عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ)، حتى يأتي وعد الله في نزوله بهم - واللَّه أعلم - يحتمل نزوله بساحتهم ما ذكرنا من نزوله بقربهم ووقوعه عليهم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ) ساء صباحهم؛ لأن ذلك العذاب إذا حل بهم صيرهم معذبين في النار أبد الآبدين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)] قد ذكرنا هذا فيما تقدم. وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) ويقول بعضهم: أي: انظر فسوف ينظرون، لكن الوجه فيه ما ذكرنا.

(180)

قوله تعالى: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وهذه الأحرف الثلاثة جميع ما بينه من الحق على الخلق من التوحيد، وجميع ما عليهم من التفويض إليه في الأمور كلها، وجميع ما عليهم من الثناء الحسن، والحمد له فيما أنعم عليهم وما ألزمهم من الثناء الحسن على جميع المرسلين: أما حرف التوحيد فهو قوله: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) نزه نفسه وبرأه عن جميع ما قالت الملاحدة فيه مما لا يليق به من الولد والشريك والصاحبة وغير ذلك، فيرجى أن يثاب قائل هذا ثواب كل واصف لله - عَزَّ وَجَلَّ - بالبراءة له والتنزيه عن ذلك كله. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ الْعِزَّةِ) وصف بالعزة والقوة وتفويض الأمر إليه، فيرجى أن يثاب قائل هذا ثواب كل واصف لله بالعز له والقوة. وأما الثناء الحسن على المرسلين فهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عباده أن يثنوا على المرسلين جملة؛ وعلى ذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إذا سلمتم فسلموا على إخواني المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين ". أما الثناء الحسن على اللَّه بكل ما أنعم عليهم وأحسن إليهم فهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) فيرجى أن يثاب قائل هذا وتاليه على المعرفة به مما فيه ثواب جميع القائلين به والتالين، واللَّه أعلم. وذكر عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "، واللَّه أعلم. ورب العزة: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو رب النعمة والقوة. ويحتمل: رب العزة، أي: به يتعزز كل من يتعزز، وإليه يرجع كل عزيز؛ وكذلك كل من حمد أو أثنى على شيء فحقيقة ذلك الحمد والثناء راجع إليه تعالى، واللَّه أعلم بحقيقة مراده.

سورة (ص)

سُورَةُ (ص) مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (ص) لنا هو اسم تلك السورة التي ذكر، وكذلك قوله: (ق وَالْقُرْآنِ) وكذلك جميع الحروف المقطعات، ولله أن يسمي ما شاء بما شاء وبأي اسم شاء. وقَالَ بَعْضُهُمْ لنا: هو أسماء الرب، تبارك وتعالى. وقَالَ بَعْضُهُمْ لنا: هو فواتح السورة، وقد ذكرنا أنه يفسره ما ذكر على أثره، وقد ذكرنا في غير موضع ما قيل في الحروف المقطعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: صاد، أي: عارض بالقرآن. قال أبو عبيدة: صاد: من المصاداة. وقال الزجاج: صاد بالقرآن، أي: قاتل به، وحارب بالقرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: صاد بالقرآن، أي: ناد بالقرآن. وقيل: أقبل بالقرآن ونحوه، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو قسم أقسم بقوله: (وَالْقُرْآنِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذِي الذِّكْرِ). يحتمل ذي الشرف، سماه: ذكرا؛ لأن كل شريف يذكر في كل ملأ من الخلق، أو سماه: ذكرًا؛ لما يذكرهم كل ما لهم وما عليهم وما يؤتى وما يذر، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذي البيان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)

(3)

ذكر أن أبا طالب كان مريضًا فجاءه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعوده وعند رأسه مقعد رجل، فقام أبو جهل، فجلس فيه وعنده ملأ من قريش، فشكوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى أبي طالب، فقالوا: إنه يقع في آلهتنا، قال: يا ابن أخي، ما تريد منهم؟ قال: " يا عم، إني أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب ويؤدي إليهم بها العجم الجزية "، قال: وما هي؟ قال: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "، فقال أبو جهل: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا، بذلك أخبرهم " العزة " التي ذكر حيث قال: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ). وقوله: (فِي عِزَّةٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: منعة معاندين ممتنعين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فِي عِزَّةٍ) في حمية واعتزاز، والحمية هي التي تحمل على الخلاف والمعصية، واللَّه أعلم. ثم اختلف في موضع القسم هاهنا: قَالَ بَعْضُهُمْ: القسم في قوله: (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) قيل: في قوله: (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) بوجهين: أحدهما: أن هذا في كل كافر ومشرك ينادي عند موته وهلاكه، ويسأل ربه الرجوع والعود إلى الدنيا ليؤمن؛ كقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا. . .)، (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) الآية، ونحوه، لكن لم ينفع ذلك النداء والغوث والسؤال التأخير على ما أخبر أنه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. ومنهم من يقول: هذا في الجملة في الأمم التي أهلكت من قبل واستؤصلت بالتكذيب والعناد، كانوا ينادون عند نزول ذلك بهم ووقوعه عليهم، ويسألون الغوث ويظهرون الإيمان؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت على ما أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأنه إيمان دفع العذاب واضطرار لا إيمان اختيار، يخوف بهذا أهل مكة أن ينزل بهم ما نزل بأُولَئِكَ ويندمون على

(4)

صنيعهم كما ندم أُولَئِكَ، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) وهو في الأصل (ولاه)، فإذا وصل بـ (حين) صارت (ولات) كأنه يمين، أي: واللَّه، وهو قول الكسائي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو (ولا) وليس هنالك تاء وإنما التاء في (حين)، أي: (تحين)، وربما يزاد التاء في (حين) و (لا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ولات) بالتاء، وقد قرئ بالتاء والوقف عليها. وقوله: (حِينَ مَنَاصٍ) ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: " ليس بحين تزور ولا فرار ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس بحين مغاث. وقيل: ليس بحين جزع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ (4)] يحتمل هذا وجهين: أحدهما: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي: من بشر مثلهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ)، وقولهم: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، كانوا ينكرون الرسالة في البشر ويقولون: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ). والثاني: [(وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ)] أي: من دونهم في أمر الدنيا، لما رأوا أنفسهم قد فضلوا في أمر الدنيا دونه، فقالوا: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا)، وقالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، لم يروا من دونهم في أمر الدنيا أهلًا لذلك على ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ). دل هذا القول منهم: أنه قد كان من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه معجزة أتى بها حتى قالوا: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ)، علموا أنه رسول اللَّه، لكنهم عاندوا وأرادوا بقولهم: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ) وأن [يغروا] أتباعهم عليه، كما [أغرى] فرعون قومه على موسى - عليه السلام - حيث قال: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ)، وهو - عليه السلام - لم يرد أن

(5)

يخرجهم من أرضهم، إنما يريد الإسلام منهم؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الرؤساء عرفوا أنه ليس بساحر ولكنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن أرادوا أن [يغروا] قومهم وأتباعهم عليه ولبسوا أمره عليهم؛ لئلا يتبعوه، وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) هذا القول من الرؤساء والمتبوعين منهم [إغراء] عليه لما عرفوا من خبر عبادة الأصنام والأوثان في قلوبهم، فقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ (6) اختلف في قوله: (أَنِ امْشُوا) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الملأ منهم والأتباع، أتوا أبا طالب يشكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يذكر آلهتهم بسوء، فلما كلموه في ذلك لم يلتئم أمرهم فيما طمعوا منه ولم يجبهم إلى ما دعوه إليه وسألوه، فقال الملأ وهم أشرافهم للأتباع: امشوا من عنده واصبروا على عبادة آلهتكم. أو أن يقال: أن قال الملأ للأتباع: (أَنِ امْشُوا) إلى آلهتكم (وَاصْبِرُوا) على عبادتها. أو أن يكون قولهم لهم: (أَنِ امْشُوا) إلى أبي طالب وقولوا له كذا (وَاصْبِرُوا) على كذا. أو يقولون: امشوا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ). لسنا ندري ما أرادوا بقولهم: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)، فجائز أن يكونوا أرادوا بذلك أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإن دعاكم إلى ترك عبادة الأصنام لا يترككم كذلك، ولكن يدعوكم إلى عبادة غيرها، أو يطلب منكم أشياء أحوالا، أو أشياء أرادوا لسنا نعرف ما أرادوا بذلك، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) قَالَ بَعْضُهُمْ: الملة الآخرة: هي ملة عيسى - عليه السلام - قالوا ذلك؛ لأن النصارى اختلفوا في عيسى - عليه السلام - منهم من اتخذه إلهًا، ومنهم من اتخذه ولدًا لله - عَزَّ وَجَلَّ - فيقولون: عبادة الواحد الذي يدعو إليه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الملة الآخرة وهي النصرانية إذ من صيره إلها عنده ومن قال: إنه صيره بحيث يحتمل الشريك؟! فيقولون: ظهرت عبادة العدد في الملة الآخرة فكيف يمنعنا مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - عن عبادة العدد ويدعونا إلى عبادة الواحد؟!

(8)

وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ): هي الحال التي كانوا عليها يقولون: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) التي نحن عليها وكان آباؤنا عليها لا على عبادة الواحد، يقولون: (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ) من عند مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) يدل على أنهم قد رأوا أن من أنزل عليه الذكر من السماء إنما ينزل لفضل وخصوصية، لكن إنما رأوا الفضل والخصوصية لأنفسهم؛ لما لهم الفضل في الدنيا؛ فلم يروا ذلك لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لذلك أنكروا إنزال الذكر عليه دونهم؛ ولذلك قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وقوله: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا). ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم شاكون في ذكره، حيث قال: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي). وتأويل هذا - واللَّه أعلم -: أن الشك هو الذي لا يوجب القطع على شيء بل يوجب الوقف فبطل القطع على شيء، فكيف قطعتم علي الرد والإنكار دون أن تقفوا فيه؟! والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ). ثم يحتمل أن يكون هذا على الإخبار عن الإياس من إيمانهم أنهم لا يؤمنون حتى، يذوقوا العذاب؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ). وقال مقاتل: اللام زائدة كأنه قال: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ) يذكر سفههم في ردهم الذكر وتكذيبهم إياه على الشك منهم، والشك يوجب الوقف في الشيء لا القطع في الرد والتكذيب له. ثم فيه الدلالة على أن الحجج والبراهين قد تلزم من جهلها ولم تتحقق عنده إذا كانت يسهل التحقق منها والوقوف عليها بالتأمل والنظر فيها وإن كانت لم تتحقق عنده بالبديهة وعند قرعها سمعه؛ فهو حجة لقول علمائنا: إن من أسلم في دار الإسلام ولم يعلم أن عليه الشرائع والأحكام كان مأخوذاً بها غير معذور في جهله فيها؛ لأنها يسهل ما يوصل إليها بالسؤال والبحث عنها والفحص منها، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا

(9)

قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ. . .). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) قد ذكرنا فيما تقدم أن حرف الاستفهام من اللَّه تعالى يخرج على الإيجاب والإلزام مما لو كان ذلك من مستفهم حقيقة يتضمن الجواب له، فقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) جواب لقولهم: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) فجوابه لهم ليس عندهم رحمة ربك حتى يختاروا الرسالة والنبوة لأنفسهم أو لمن شاءوا هم؛ كقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، كانوا لا يرون وضع الرسالة إلا [فيمن] كانت له أموال وله سعة في الدنيا وفضل مال، فيذكر أن ليس عندهم خزائن ربك حتى يجعلوا الرسالة والنبوة فيمن شاءوا هم واختاروا لذلك، قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)، أي: لا يملكون قسمة رحمة ربك، بل (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . .) الآية، يخبر أنهم على ما لا يملكون توسيع المعيشة على من ضيق عليه ورفع من وضع؛ فعلى ذلك ليس إليهم اختيار النبوة والرسالة لمن شاءوا واختاروا، بل اختيار ذلك إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فقالوا: أئذا كنا أحق بهذا في الدنيا فنحن أيضًا أحق بالرسالة والنبوة على ما نحن أحق في الدنيا بالسعة والفضل فيها، بل لو عرفوا أن ما نالوا من السعة في الدنيا وفضل الأموال إنما نالوا ذلك برحمة الله وفضله لا بحق كان لهم على اللَّه، فلو عرفوا، كانوا لا ينكرون وضع الرسالة فيمن اختار اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وضعها فيمن شاء، وعلى ذلك قول المعتزلة: إنهم لا يريدون لله أن يفعل بأحد شيئًا إلا ما هو أصلح له في الدِّين، وأنه لو فعل ما ليس بأصلح له في الدِّين، كان جائرًا ظالمًا، فيرون حفظ الأصلح له حقًّا كما رأى أُولَئِكَ الكفرة السعة والأموال حقا على اللَّه، فرأوا أنفسهم أحق أيضاً بالرسالة والنبوة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ثم إن المعتزلة يقولون في ألم الصغار: إن ليس لله أن يؤلمهم إلا بعوض يجعل لهم بإزاء ذلك الألم عوضاً يرضون هم بذلك؛ إذ جعلوا أنفسهم له حقيقة حيث لم يجعلوا لله الإيلام إلا بالعوض، ومن أخذ حقًّا لغير لا يأخذه إلا ببدل وعوض برضاء ذلك الغير، فهذا تناقض في قولهم: إن على اللَّه حفظ الأصلح للخلق في دينهم حيث لم يجعلوا له ذلك إلا بعوض يجعل لهم، واللَّه أعلم. ودل اتفاق القول: إنه وهاب، على أن ما ينال من خير أو سعة أو فضل إنما ينال برحمة وفضل لا بحق عليه؛ لأن من أدى حقا عليه لا يقال: إنه وهاب، ولا يسمى: وهابًا، على ما أعطى من أعطى، إنما أعطاه تفضلا منه ورحمة لا حقًّا كان عليه.

(10)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا (10) هو مثل الأول، أي: لهم ملك السماوات والأرض؛ ليملكوا ما شاءوا من الأمور ويختاروا وضع الرسالة فيمن شاءوا هم، أي: ليس لهم ملك السماوات والأرض؛ فيملكوا ما يذكرون ويختارون ما قالوا، بل نملك ذلك، وإلينا ذلك، فعند ذلك يقال: (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ). ثم اختلف في الأسباب التي ذكر: قَالَ بَعْضُهُمْ: السبب ما بين السماء والأرض، وكذلك ما بين كل سماءين سبب، والأسباب جماعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأسباب: طرق السماء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي الأبواب التي في السماء تفتح للوحي. ومعناه - واللَّه أعلم - أي: فليرتقوا في الأسباب إن كانوا صادقين بأن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كذاب، وأنه ساحر، وأنه اختلقه من تلقاء نفسه، أي: يفتح له أبواب السماء فليستمعوا إلى الوحي حتى يوحي اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لقولهم: (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ). أو أن يكون معناه - واللَّه أعلم -: أن يرتقوا إلى ملك فينزل فيخبر أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كاذب فيما يدعى لقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) قَالَ بَعْضُهُمْ: حرف (مَا هُنَالِكَ) صلة كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: جند بل هنالك مهزوم من الأحزاب. وجائز أن يكون على تحقيق (مَا) فيه، أي: جند ما يهزم هنالك من الأحزاب، لا كل الأجناد، وهو الجند الذين خرجوا عليه بالمباهلة، وهم الذين قالوا: اللهم انصر أينا أوصل رحما وأنفع مالا وأخير للخلق فغلبوا هم وقهروا. وقال عامة أهل التأويل: هو الجند الذي قتل ببدر، واللَّه أعلم. ثم في الآية وجوه ثلاثة من الدلالة:

(12)

أحدها: الأمن له عن أن يصلوا إلى قتله وإهلاكه على الآحاد والأفراد؛ كقوله - عز وجل -: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ). وفيه الأمن له عن أن يصلوا إلى قتله وإهلاكه على الجمع والاجتماع عليه؛ كقوله - عز وجل -: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)، أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم يهزمون جميعًا. وفيه بشارة له أنهم يهزمون في ضعفه وقلة أعوانه وأنصاره مع كثرة أُولَئِكَ وعدتهم. ففي الوجوه الثلاثة التي ذكرنا دلالة رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث أخبر بما ذكر؛ فكان على ما أخبر دل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - باللَّه تعالى عرف ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ). حين تحزبوا عليه قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه ساحر، وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه كذاب، وإنه مفتر، وإنه مجنون على ما تحزبوا عليه، وتفرقت قلوبهم فيه وتلونت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12). . .) إلى قوله: (أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) أي: الفرق. وقوله: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) يذكر هَؤُلَاءِ الأحزاب الذين كادوا لرسول اللَّه، ويخبرهم عن صنيعهم ومعاملتهم الرسل لوجهين: أحدهما: كيفية معاملة الرسل - عليهم السلام - أُولَئِكَ الكفرة مع تكذيبهم إياهم وسوء معاملتهم وصنيعهم مع الرسل وأنواع البلايا التي كانت منهم إليهم أن كيف عاملوهم وصبروا على أذاهم؛ ليعامل هو قومه مثل معاملتهم قومهم، ويصبر على أذاهم كما صبر أُولَئِكَ على أذى قومهم، مثل معاملتهم فومهم وسوء صنيعهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). والثاني: يذكر هذا لأهل مكة ويحذرهم ما نزل بالأمم المتقدمة بتكذيبهم الرسل وعنادهم وتمردهم معهم؛ ليحذروا تكذيبهم محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وألا يعاملوه كما عامل أُولَئِكَ رسلهم، فينزل بهم كما نزل بأُولَئِكَ من العذاب والإهلاك، واللَّه أعلم. (فَحَقَّ عِقَابِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: وجب عليهم عقاب، لكن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَقَّ عِقَابِ) أي: نزل بهم العقاب ووقع عليهم، وإلا كان العذاب واجبًا على الكفار.

(15)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ)]. قَالَ بَعْضُهُمْ: إن فرعون كان إذا غضب على أحد من قومه مده بأوتاد فيعاقبه بها ويعذبه، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: [(وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ)]، أي: ذي البناء المحكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانت له أوتاد وأرسان، أي: جبال وتلاعيب يلاعبون بها، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويؤيسه عن إيمانهم أنهم لا يؤمنون إلا عند وقوع العذاب بهم حتى لا ينفعهم الإيمان؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ). ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) يحتمل أن يكون سمى نفس العذاب: صيحة. وجائز أن يكون ذكر صيحة؛ لما أن العذاب إذا نزل بهم ووقع عليهم يصيحون، فسمى ذلك: صيحة؛ لصياحهم. أو أن يكون ذلك إذا نزل بهم كان فيه صياح، وصوت الشيء الهائل العظيم الشديد إذا هو وقع ومال إلى الأرض، كان فيه صياح وصوت حتى يفزع الناس منه؛ فعلى ذلك الصيحة التي ذكر يحتمل ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ). قال أبو عبيدة: من فتحها أراد: ما لها من راحة ولا إقامة، كأنه ذهب إلى إفاقة المريض من علته. ومن ضمها جعلها من فُواق الناقة وهو ما بين الحلبتين، ويريد (مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ): انتظار ومكث. قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ)، أي: من انقطاع؛ إذ هي دائمة أبدًا لا تنقطع به. وقال الكسائي: الفَواق: بالنصب والرفع لغتان، وهو من فواق الناقة بين الحلبتين

والرضعتين. وقال عامة أهل التأويل: (مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ)، أي: من مرد ومرجع وقرار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو مد البصر، يقول: هي أقرب من ذلك، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، واللَّه أعلم. وأصل الفواق: كأنه من العود والرجوع كعود اللبن إلى الضرع بعد ما حلب مرة، والله أعلم. ذكر عن الحسن في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) يقول: حارث القرآن بقلبك وهو من قول العرب: صادته الدابة إذا كانت امتنعت فأطعمها حتى ذلت ولانت. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ص): هو أشد كلام وهو شبه قسم، والصاد في غير هذا الموضع العطشان، وقوم صادون. ثم اختلف في موضع القسم على ما ذكر: قال الكسائي: من القسم في القرآن ما هو ظاهر لا يخفى، ومنه غامض: فمن ظاهره قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ)، وجوابه قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ). ومن غامضه: (ص) قال بعض الناس: موضع قسمه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)، واللَّه أعلم. لا أراه شيئًا لحال الكلام ولما قص من القصص ما لا يكون ذلك قسمه. ولكن قسمه - واللَّه أعلم - عندي: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)، ثم اعترض: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنَا) القسم هاهنا بـ (كَمْ أَهْلَكْنَا)، ولكن لما اعترض: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) صار قوله ردا عليه وجوابًا له؛ وهو غريب ظريف غامض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذِي الذِّكْرِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ذي الشرف، أي: من أوتيه شرف، وقيل: ذي الشأن، وقيل: ذي الذكر، فيه ذكر ما يؤتى وما يتقى، وذكر من كان قبله من الأمم الخالية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ). قيل: في تكبر وتكذيب، وقيل: في حمية وخلاف، وقيل: في غفلة، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: هربهم في غير وقت الهرب، و (مَنَاصٍ): مهرب، وناص ينوص نوصًا: وهو المنجى والغوث. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) أي: لا حين هرب؛ على ما قال أَبُو عَوْسَجَةَ، وقال: النوص: التأخر في الكلام، والنوص: المتقدم، وأصله ما ذكرنا: أن ذلك الوقت ليس هو وقت المهرب، ولا وقت المنجى ولا وقت الغوث على ما تقدم ذكره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (عُجَابٌ) بلغة قوم: عجب. وقال الكسائي: العُجَاب والعِجَاب والعجيب والعجب كلها لغات واحدة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (عُجَابٌ) هو يكثر للعجب كما يقال: كبار وكبار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ). أي: الأشراف منهم، وقالوا: للأتباع على ما ذكرنا (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ)، قال بعضهم: قوله: (أَنِ امْشُوا) إلى أبي طالب واثبتوا على عبادة آلهتكم (إِنَّ هَذَا): قال بعضهم: بقبول إسلام وذلك كان حين أسلم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بشيء أي لأمر يراد، فمشوا إلى أبي طالب، وقالوا له ما ذكرنا فيما تقدم والقصة طويلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَنِ امْشُوا) أي: امضوا وارجعوا إلى عبادة آلهتكم واصبروا عليها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (أَنِ امْشُوا) من عند مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واصبروا على عبادة آلهتكم (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) يا أهل مكة، واللَّه أعلم. وقوله: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ). يعنون: عبادة إله واحد وترك عبادة آلهة في الملة الآخرة. قال عامة أهل التأويل): (الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ): النصرانية واليهودية كليهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعنون (الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) الملة التي هم عليها، وآثارهم، يقولون: ما سمعنا عبادة إله واحد وترك عبادة الآلهة في الدِّين الذي نحن وآباؤنا عليه (إِنْ هَذَا) أي: ما هذا (إِلَّا اخْتِلَاقٌ) من نفسه، وقالوا: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) يعنون: النبوة

(16)

والكتاب والوحي، وهو أفقرنا وأصغرنا ونحن أكثر سنا وأعظم شرفًا، يقول اللَّه - عز وجل -: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) بأنه لم ينزل عليه (لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ)؛ وهو قول مقاتل، ثم قال: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ)، أي: يحتمل نعمة ربك، أي: بأيديهم مفاتيح الرحمة والنبوة والرسالة فيضعونها حيث شاءوا، أي: ليست تلك بأيديهم ولكنها بيد اللَّه، العزيز في ملكه الوهاب يهب النبوة والرسالة لمن يشاء ويضعها فيمن يشاء. ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)، أي: ليس لهم ذلك، ولكن - عَزَّ وَجَلَّ - يوحي الرسالة إلى من يشاء ويختار لها من يشاء. ثم قال: (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ)، أي: الأبواب التي في السماء إن كانوا صادقين بأن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اختلقه من تلقاء نفسه، أي: فليستمعوا إلى الوحي حين يوحي اللَّه إلى النبي مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقول أُولَئِكَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السبب: ما بين السماء والأرض أصلب من الحديد وأدق من الشعر يعرج به الملائكة وهو المعراج يبصره الميت إذا خرجت روحه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلْيَرْتَقُوا) أي: فليصعدوا في طرقها؛ فيعلموا علم ذلك أنزل عليه الذكر أو لم ينزل؟ واللَّه أعلم. والارتقاء: الصعود. أو أن يقول: ارتقوا أنتم السبب الذي ارتقى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأتوا بمثل الذي أتى به محمد أنه ليس برسول. أو أن يقول: ائتوا أنتم بالذي أتى به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الدِّين والأسباب؛ حتى تختصوا بالنبوة والرسالة كما اختص مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ). قال: وعد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سيهزم جند المشركين، فقال عامة أهل التأويل: جاء تأويلها يوم بدر، وقد ذكرنا تأويله فيما تقدم، واللَّه أعلم. والأحزاب: الذين تحزبوا عليه، أي: تفرقوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)، اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) أي: كتابنا؛ وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يوعدهم أنهم يؤتون كتابهم بشمالهم فيه أعمالهم التي عملوها في الدنيا في الآخرة، فعند ذلك قالوا له: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا)، أي: كتابنا الذي توعدنا أنه يعطى بشمالنا، قالوا ذلك استهزاء به وتكذيبًا له.

(17)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) أي: نصيبنا وحظنا من العذاب الذي توعدنا به وتحذرنا يوم الحساب قبل يوم الحساب، قالوا ذلك استهزاء به وتكذيباً له؛ ولذلك قال له على أثر ذلك: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) يصبره ويعزيه على ما يقولون؛ ليصبر على ذلك، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) ليس على سؤال العذاب والكتاب الذي حمله عامة أهل التأويل عليه، ولكنه سؤال السعة والنصيب في الدنيا، ويكون ذلك في قوم لا يؤمنون بالآخرة سألوا ما وعدوا من النعيم في الآخرة والسعة في الدنيا، وذلك أشبه لأنهم سألوا ربهم أن يعجل ذلك لهم، فلو كان على ما يحمله أهل التأويل من سؤال العذاب والكتاب على الاستهزاء بالرسول والتكذيب له، لسألوا الرسول ذلك، ولم يسألوا ربهم ذلك؛ فدل ذلك على أنه أشبه وأقرب، واللَّه أعلم. ويكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)] على ما تقدم من قولهم: إنه ساحر وإنه كذاب، وإنه اختلق هذا القرآن من ذات نفسه ونحوه، ويؤيد ذلك قول سعيد بن جبير قال: ذكرت لهم الجنة فاشتهوا ما فيها، فقالوا: (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) أي: نصيبنا من الجنة. * * * قوله تعالى: (. . . وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ). يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ - لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ) وجوهًا:

أحدها: أن اذكر نبأ داود، ونبأ من ذكر في هذه السورة من قوله: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ) (وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)، ومن ذكرهم - عليهم السلام - وعلى مُحَمَّد في هذه السورة، أي: اذكر نبأهم الذي لم يكن لتعرفه أنت ولا قومك من قبل هذا، لعلهم يصدقونك ويؤمنون بك؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ). والثاني: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ)، أي: اذكر صبر هَؤُلَاءِ على أذى قومهم وتكذيبهم إياهم؛ لتصبر على أذى قومك وتكذيبهم إياك كما صبر أُولَئِكَ؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). والثالث: اذكر داود ومن ذكر من الأنبياء، أي: اذكر لهم المصدقين وما يكون لهم من الكرامات والثواب، كما ذكرت لهم المكذبين وما نزل بهم من العذاب، لعلهم يرجعون ويصدقونك؛ ليعلموا من هلك منهم بم هلك؟ أو ليعلموا أن في أوائلهم المصدقين له والمؤمنين، فكيف اتبعتم المكذبين منهم دون المصدقين؟! واللَّه أعلم. ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا)، أي: اذكر جهد داود وجهد من ذكر من هَؤُلَاءِ في العبادة والدِّين وأمثال ذلك يحتمل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ). قال عامة أهل التأويل: (ذَا الْأَيْدِ)، أي: القوة على العبادة. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَا الْأَيْدِ) في أمر اللَّه، أو في أمر الدِّين؛ لأنه ألين له الحديد حتى كان يتخذ منه الدروع وغيرها من الأسلحة، وسخر له الطير والجبال حتى كان يسبح معهم بالعشي والإشراق، وحتى كان يستعمل ما اتخذ الحديد فيمن شاء من أمر الدِّين من المحاربة مع الأعداء والدرء عن أهل الإسلام والدفع عنهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ أَوَّابٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَوَّابٌ) مطيع لله، مقبل على طاعته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَوَّابٌ)، أي: مسبح لله، ذكر أنه كان كثير التسبيح؛ وكذلك قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ)، أي: سبحي معه، هذا محتمل. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَّابٌ)، أي: رَجَّاع إلى اللَّه، يرجع إليه في كل

(18)

أمر وإليه يفزع في كل نائبة وحادثة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، أي: ذا الإحسان والعمل الصالح (أَوَّابٌ)، أي: تواب. وقتادة يقول: ذا القوة في العبادة، وذا الفقه في الإسلام، وذا البصر في الدِّين. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (قِطَّنَا)، أي: كتابنا، يقال: قططت -أي: كتبت- أقط قطا، فأنا قاط، والكتاب مقطوط، والقط -أيضًا-: القطع، يقال: قططت أظفاري، والقط: الدهر، ويقال: قطي، أي: حسبي، وقطك أي: حسبك. قَالَ الْقُتَبِيُّ: القط: الصحيفة المكتوبة، وهي الصك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) هو على التقديم والتأخير كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إنا سخرنا الجبال يسبحن)، أخبر أنه سخر الجبال والطير وما ذكر لداود كي يطعنه ويسبحن معه، وفيه لطف من اللَّه - عز وجل -: في هذه الأشياء والخصوصية لداود في ذلك؛ حيث صير الجبال والطير بحيث يقفن وقت تسبيح داود معه على ما أخبر عَزَّ وَجَلَّ. وفيه أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - حيث صير الجبال مع شدتها وصلابتها بحيث تعرف وقت تسبيح داود، وتعرف تسبيحه وتسمعه وتلين له، فجائز أن يجعل قلب الكافر بحيث يلين ويخضع لله بلطفه؛ إذ قلبه ليس أشد قسوة وصلابة من الجبال، فإذا جعل لطفه فيها لانت وخضعت؛ فعلى ذلك إذا جعل ذلك اللطف في قلب الكافر لا يحتمل ألا يلين ولا يخضع؛ إذ هو ليس بأصلب وأشد من الجبال التي ذكرنا، واللَّه أعلم. وأما الخصوصية له: فإن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل بكل من الرسل خصوصية في شيء، لم يجعل مثل تلك الخصوصية لآخر في ذلك الشيء بعينه بلطفه، وخصوصية داود: ما ذكر من تسخير ما ذكر له من الجبال والطير والتسبيح معه، وما ذكر من إلانة الحديد له وغير ذلك من الأشياء، وخصوصية سليمان ما ذكر من تسخير الرياح له وحملها إياه حيث شاء إلى ما شاء مسيرة شهر بغدوة ومسيرة شهر بعشية، حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ)، وما ذكر من فهم نطق الطير والنطق معه وفهمه تسبيحها ونحو ذلك كثير، ومثل هذا ما قد جعل لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث ذكر أنه أخذ أحجارا فسبحن في يده حتى سمع ذلك من حضره، وما ذكر أن أصابعه يسبحن ونحوه كثير، فلكل منهم خصوصية في شيء ليست تلك لغيره، واللَّه أعلم.

(19)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ... (19) أي: مجموعة مسخرة، أي: سخرت له الطير أيضاً. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: كل له مطيع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل له مسبح، فإن كان قوله - عَزَّ وَجَلَّ -. (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ)، أي: مطيع، فهو يحتمل مطيع لداود، وإن كان الأواب هو المسبح، فهو لا يحتمل لداود، لكن لله تبارك وتعالى، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) جائز أن يكون لا على إرادة حقيقة العشي والإشراق، ولكن على إرادة التسبيح معه في كل وقت؛ فيكون العشي كناية عن الليل والإشراق كناية عن النهار، يخبر أنهن يسبحن في كل وقت من الليل والنهار، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون يسبحن في العشيات والغدوات خاصة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ - لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)، واللَّه أعلم. ثم جائز أن يكون ما ذكر من تسبيح هذه الأشياء صلاة (يُسَبِّحْنَ) أي: يصلين لله؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ)، دل أن لها صلاة، واللَّه أعلم. ومن الناس من يقول: تسبيح هذه الأشياء التي ذكر هو تسبيح خلقة لا تسبيح نطق وكلام، لكن لو كان على هذا، لكان لا معنى لذكر تسبيحهن مع داود - عليه السلام - إذ ذا مع داود وغيره في كل وقت؛ دل أنه على تسبيح النطق، وإن كان على الصلاة، فهو ألا يجوز الصلاة لأحد حتى تشرق الشمس وترتفع؛ حيث ذكر إشراق الشمس، واللَّه أعلم. ثم من الناس من حمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْإِشْرَاقِ) على صلاة الضحى، وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - ذكر عنه أنه سأل أم هانئ عن صلاة الضحى: هل كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فعل في بيتها؟ فأخبرته أنه فعل، قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: وقلت: أي: صلاة الإشراق، وهذه صلاة الإشراق، يعني: صلاة الضحى، والله

(20)

أعلم. وسميت صلاة الضحى: صلاة الأوابين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) قال عامة أهل التأويل في قوله: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ): لأنه كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفًا من بني إسرائيل، لكن ليس فيما ذكروا كثير شد الملك وتقويته إنما هو وصف ضعف إلا أن يعنوا بما ذكروا: كثرة أعوانه وأنصاره وفضل أتباعه وحواشيه؛ فعند ذلك يحتمل ما ذكروا، فأما في نفس ما ذكروا من الحرس له والحفظ، فليس فيه كثير شد ولا فضل منقبة. وجائز أن يكون غير هذا أشبه له وأولى بما ذكر ملكه، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: شد ملكه بما ذكر من إلانة الحديد، حتى كان يتخذ منه لباسًا من الدروع وغيرها منه أسباب الحرب والتأهب لها وما يصلح للقتال ما لم يعط مثله لأحد سواه، فينقطع بذلك طمع المنازعين له في ذلك والراغبين في ملكه، ويأمن هو بذلك ذهابه، فهو شد ملكه، واللَّه أعلم. والثاني: شد ملكه بما ذكر من تسخير الجبال له والطير والتسبيح معه، وما ذكر من طاعة هذه الأشياء له والخضوع لأمره، فمن بلغ أمر ملكه هذا المبلغ الذي وصف من طاعة من ذكره والتسخير له وعبادته لله تعالى وطاعته لربه في نفسه حيث قال - عز وجل -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) لم يقصد أحد من ملوك الأرض قصده ولا طمع في زوال ملكه إليه بحال، وهذا أشبه أن يجعل تأويل شد ملكه الذي ذكر - والله أعلم - مما قاله أهل التأويل. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ). قال بعض أهل التأويل: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ) أي: النبوة (وَفَصْلَ الْخِطَابِ)، أي: البية على المدعي، واليمين على المدعى عليه، لكن ليس فيما ذكروا من جعل البينة على المدعي وجعل اليمين على المنكر كثير منقبة وخصوصية؛ إذ قد أعطينا نحن مثله، وقد ذكر على الخصوصية له. ثم جائز أن يكون ما ذكر من الحكمة أنه آتاها له: إحكام أمره فيما بينه وبين ربه: العبادة له -أي: لله تعالى- والطاعة له في كل وقت؛ على ما وصفه حين قال: (ذَا الْأَيْدِ

(21)

إِنَّهُ أَوَّابٌ)، أي: ذا القوة والجهد في العبادة لله والطاعة له فيهم، وإنزال كل منهم منزلة وتأليف قلوب بعضهم من بعض، وجمعهم على دين واحد، ومذهب واحد حتى لم يقع تنازع ولا خلاف في الدِّين، واللَّه أعلم. وعلى ذلك يخرج قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَصْلَ الْخِطَابِ)، أي: قطع الخصومات فيما بينهم على التأليف والتلطف وإيصال كل إلى حقه من غير أن يقع بينهم خشونة أو ضغينة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَصْلَ الْخِطَابِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ما ذكرنا من القضاء بين الخصوم بالبينة على المدعي واليمين على المنكر، وليس في ذلك كثير منقبة ولا خصوصية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو " أما بعد " وهذا أيضًا ليس بشيء، والأصل فيه ما ذكرنا، والله أعلم. والخطاب: هو الخصومة؛ قال أبو معاذ: الخطاب: كالجدال والخصام، تقول: خاطبته خطابًا ومخاطبة وجادلته جدالًا ومجادلة فكل " فاعل " له مصدران: فعال ومفاعلة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الفصل: القضاء، والخطاب: الخصومة، تقول: خاطبت الرجل، أي خاصمته. والإشراق: هو طلوع الشمس ووقوعها في كل ناحية بنورها؛ كقوله - عز وجل -: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) قد ذكرنا في غير موضع أن حرف الاستفهام من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يخرج على الإيجاب، أو على التقرير والتنبيه. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) على وجهين: أحدهما: أي: قد أتاك نبأ الخصم فتفكر فيه كيف ابتلاه اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وفتنه على ما ذكر؟! والثاني: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) أتاك وأرسل إليك نبأه وخبره: أن كيف ابتلاه وفتنه؟! وعلى هذا يجوز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ)، أي: اذكر ما قربه هو، أو اذكر متقربه إياه، أو اذكر خصومة الخصمين إليه، أو

(22)

اذكر ما أعطى هو من الحكمة والحكم وفصل الخطاب. ثم قوله: (نَبَأُ الْخَصْمِ) هو حرف التوحيد والوحدان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ). حرف الجماعة؛ وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ ... (22) ذكره بالجماعة؛ وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) ذكر بحرف الجماعة، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: قوله تعالى: (قَالُوا لَا تَخَفْ)، ثم ذكر بحرف التثنية حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) وذكر بعضه بحرف الوحدان والإفراد وبعضه بحرف التثنية وهي قصة واحدة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أما قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْخَصْمِ) فهو مصدر، والمصدر للجمع والفرد والتثنية واحد، وأما قوله - تعالى -: (تَسَوَّرُوا) و (دَخَلُوا) و (قَالُوا)، ونحوه قد يقال للاثنين ذلك؛ لأن الاثنين جماعة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)، والقلوب جماعة، وإنما هو قلبان، وذلك كثير في القرآن، وذلك جائز في اللغة شائع فيها. وعندنا جائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَسَوَّرُوا) و (دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ) و (قَالُوا لَا تَخَفْ) ونحوه: أن كان مع الخصمين الملكين ملائكة سواهم شهود على دعواهما وخصومتهما تسوروا معهما ودخلوا معهما عليه فلما فزع منهم (قَالُوا لَا تَخَفْ) وإن كان الذي تخاصم بين يديه اثنان؛ لما لا يحتمل أن يقول داود لأحد الخصمين: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ)، ينسبه إلى الظلم ويصفه بالبغي بلا شهود يشهدون، إلا أن يكون من الآخر إقرار على ما يدعي عليه، فإذا كان كذلك فيشبه أن يكون ما ذكرنا أنه كان مع الملكين ملائكة آخرون شهود يشهدون على ذلك، وأن حاصل الخصومة لاثنين منهم، وفيما أضيف الفعل إلى الجماعة كانوا جماعة في التسور والدخول عليه والقول منهم: (لَا تَخَفْ)، وفيما أضيف إلى الاثنين اثنين كانا في الخصومة، واللَّه أعلم. ثم فيه من الكلام والقول حيث قالا: (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ)، و (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ)، وقوله: (أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)، ونحوه من الكلام والقول الذي كان منهما كيف حققا ذلك وقطعاه أنهما خصمان ولم يكونا في الحقيقة خصمين وإن لهذا كذا وكذا نعجة ولهذا واحدة، ولم يكن في الحقيقة ذلك، وأن هذا بغى على هذا ونحو ذلك من الخصومات التي جرت بينهما، ولم يكن ذلك كذلك في الحقيقة، كيف قالا ذلك وحققاه وهم ملائكة والملائكة لا يحتمل أن يكذبوا قط، أو يرسلهم اللَّه ليكذبوا؟! لكنه - واللَّه أعلم - على التقرير والتمثيل، أي: لو كان لأحدهما

كذا كذا نعجة وللآخر واحدة فغلب صاحب النعاج الكثيرة على صاحب النعجة الواحدة فأخذها، أليس يكون ظالمًا أو يكون باغياً؟! ليس على التحقيق، ولكن لما ذكرنا يقرران عنده الزلة ويمثلان به القضية، لا أن كانت له على ما يقوله أهل التأويل ويقررونه، وقد ذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أشياء كثيرة على التمثيل والتقرير على تقرير أشياء غفلوا عنها وسهوا فيها ليتقرر ذلك عندهم؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون خصومة هَؤُلَاءِ الملائكة عند داود - عليه السلام - وما كان منهم من القول والخصومة ليتقرر ما كان منه من الهفوة والزلة ليعرف ذلك ويرجع عنه، واللَّه أعلم. ثم قول أهل التأويل: إن طائرًا وقع بين يديه قريبًا منه فنظر إليه وصار معجباً به، فهم أن يأخذه وارتفع إلى كوة المحراب فصعد ليأخذه فوقع بصره على امرأة فأعجبته، فإن هذا يحتمل أن يكون، وأما قولهم: أدام النظر أما هذا فإنه لا يحتمل أن يكون مثل داود أو نبي من الأنبياء - عليهم السلام - أنه يديم النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، وأما الأول من الذهاب لطلب ذلك الطائر والنظر إليه أنه من أين؟ وإلى ماذا؟ فذلك يحتمل أن يكون، ثم هو يكون معذورًا في الصعود إلى الكوة والارتفاع للنظر إلى الطائر؛ لما كان الطيور حشرت له وسخرت في التسبيح معه والطاعة له، فجائز أن يكون له البحث والفحص عن حال ذلك الطائر على ما أخبر عن سليمان حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ)، فإذا كان ما ذكرنا: هو في الصعود إلى الكوة والارتفاع إلى ذلك معذورًا، لكن وقع بصره عليها بلا قصد منه ولا علم بحالها ومال قلبه إليها لحسنها وجمالها، وذلك ما يكون بلا تكلف ولا صنع، وذلك مما لا يملك دفعه؛ نحو ما كان من ميل قلب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى امرأة زيد ووعد لها نكاحها حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا)، وما ذكر من بعث زوجها إلى القتال ليقتل فهذا أيضاً غير محتمل، لكن يحتمل بعثه إياه ليجاهد أعداء اللَّه وكان ذلك فرضاً عليه، فصار مقتولا فيه من غير أن يتوهم منه أنه قصد قتله وإهلاكه، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: كيف عوتب كل هذا العتاب، حتى بعث إليه الملائكة بالخصومة عنده والتمثيل لما ذكر وتقرير ذلك عنده، ثم أخبر أنه غفر له بعد طول المدة، إن كان معذورًا في ذلك غير مؤاخذ به؟! قيل: إن الأنبياء - صلوات اللَّه عليهم - أجمعين كانوا يؤاخذون بأدنى شيء كان منهم ما لا يؤاخذ غيرهم بذلك، بل يعدّ ذلك منهم من أرفع الخصال وأجلها نحو ما عوتب يونس - عليه السلام - في خروجه من بين قومه؛ ليسلم دينه أو نفسه، لكنه خرج بلا إذن

(23)

كان له من اللَّه؛ فعوتب لذلك؛ فعلى ذلك داود - عليه السلام - إنما فعل بلا إذن من الله عَزَّ وَجَلَّ، واللَّه أعلم. ثم في بعث الملائكة إليه فيما ذكر وجوه من الحكمة وأنواع من الفائدة: أحدها: جواز الحجاب والحرس له، حيث دخلوا عليه من غير الباب. والثاني: رفع الحجاب عن الخصوم لا على وقت حاجة نفسه حيث دخلوا من غير الباب للخصومة بلا إذن منه. والثالث: قدرة الملائكة على التصور بصورة البشر مع كون النفس الكثيفة موجودة معهم، وذلك يرد على الفلاسفة مذهبهم أن النفس الروحانية خلقت منتشرة متحركة في كل حال، لكن الجسد الذي جعل يمنعها عن ذلك، فإذا نام ذلك الجسد أو مات ذهبت تلك النفس حيث شاءت إلى حاجتها؛ ألا ترى أن الملائكة قد تسوروا عليه بصورة البشر، واختصموا إليه خصومة البشر؟! دل على أنه ليس على ما وصفوا هم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: صعدوا، وأصل التسور: هو الدخول من العلو والارتفاع وهو النزول من السور وهو الحائط المشرف المرتفع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفَزِعَ مِنْهُمْ). لما خاف دخول الوهن في ملكه؛ إذ دخلوا بلا إذن من غير الباب. أو خاف؛ لما ظن أنهم لصوص مكابرون. أو لما عرف أنهم ملائكة جاءوا بأمر عظيم ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُشْطِطْ). أي: لا تجر. وقوله: (أَكْفِلْنِيهَا (23) قَالَ بَعْضُهُمْ: أعطينيها. وقَالَ بَعْضُهُمْ يقال: أكفلته، أي: أعطيته؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ضمها إليَّ، واجعلني كافلها؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. وقوله: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: غلبني في الخصومة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ (24)

ثم استثنى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أي: الذين آمنوا، واعتقدوا في إيمانهم الأعمال الصالحات، فإنهم لا يبغون بعضهم على بعض، ثم أخبر أن من آمن واعتقد في إيمانه العمل الصالح، أي: من اتقى من المؤمنين قليل ومن ترك البغي قليل منهم، وهذه الآية شديدة صعبة على ما ذكرنا. وفيه أن المؤمن الذي اعتقد في إيمانه العمل الصالح وترك البغي على غيره - قليل في كل زمان ودهر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ). أي: علم داود وأيقن أن خصومة الملكين عنده فيما اختصما فيه محنة له، هو الممتحن بها، لا أنهما كانا ممتحنين بذلك؛ فاستغفر ربه إذ أيقن بذلك أنه هو الممتحن بذلك لا غيره، واللَّه أعلم. ثم فسر أهل التأويل الظن هاهنا: الإيقان، أي: أيقن، وكأن الإيقان هو علم يستفاد بالأسباب، على ما استفاد داود - عليه السلام - علما بخصومة الملكين عنده؛ ولذلك لا يضاف الإيقان إلى اللَّه أنه أيقن كذا لأنه علم يستفاد بالأسباب، وهو عالم بذاته لا بسبب، وأما العلم فإنه قد يستفاد بسبب وبغير سبب؛ لذلك أضيف إليه حرف العلم ولم يضف حرف الإيقان، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في ذكر زلات الرسل - عليهم السلام - والأصفياء في الكتاب، وهو وصف نفسه أنه غفور وأنه ستور، وقد أمرنا لنستر على من ارتكب شيئًا من ذلك وبالغفران والعفو، فكيف ذكر هو زلات أنبيائه وأصفيائه حتى نقرأ زلاتهم في المساجد والمكاتب بأعلى صوت إلى يوم التناد، وما الحكمة في ذكر ذلك؟! قال الشيخ أبو منصور مُحَمَّد بن مُحَمَّد الفقيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يخرج ذكر زلات الأنبياء - عليهم السلام - في القرآن وترك الستر عليهم على وجوه: أحدها: ذكرها؛ ليكون ذلك آية لرسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن قلوب الخلق وأنفسهم لا يحتمل ذكر مساوئ الآباء والأجداد، وكذلك لا تحتمل قلوبهم ذكر مساوئ أنفسهم، فإذا ذكر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك؛ دل أنه على أمر من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يذكر ذلك؛ ليعلم الناس أنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنه عن أمر منه ذكر ذلك، واللَّه أعلم. والثاني: ذكر زلاتهم امتحاناً منه عباده أن كيف يعاملون رسلهم بعد ما عرفوا منهم الزلات وأظهر عنهم العثرات؟ وكيف ينظرون بعين الرحمة والرأفة؟ يمتحنهم بذلك على ما امتحنهم بسائر أنواع المحن.

(25)

والثالث: ذكر زلاتهم ليعلموا -أعني: الخلق- كيف عاملوا ربهم عند ارتكابهم الزلات والعثرات؟ فيعاملون ربهم عند ارتكابهم ذلك على ما عامله الرسل بالبكاء والتضرع والفزع إليه والتوبة على ذلك، واللَّه أعلم. أو أن يكون ذكرها؛ ليعلم أن ارتكاب الصغائر لا يزيل الولاية ولا يخرجه من الإيمان، وذلك على الخوارج بقولهم: إن من ارتكب صغيرة أو كبيرة خرج من الإيمان. أو أن يكون ذلك؛ ليعلم أن الصغيرة ليست بمغفورة، ولكن له أن يعذب عليها، وليس على ما قالت المعتزلة أن ليس لله أن يعذب أحدًا على الصغيرة، واللَّه أعلم. وزلات الأنبياء - عليهم السلام - في قلوب الناس، فخافوا عليها، فلولا أنهم عرفوا أن لله أن يعذبهم عليها وإلا لم يخافوا منها كل ما ذكر منهم، يذكر عن الحسن أن داود جزأ الدهر أجزاء: يومًا لنسائه، ويومًا لعبادة ربه، ويومًا لقضاء بني إسرائيل، ويومًا لعباد بني إسرائيل: يذكرهم ويذكرونه، ويبكيهم ويبكونه، فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب به ذنبًا؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك، قال: فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه وأمر ألا يدخل عليه أحد، فأكب على الزبور يقرأها فابتلي بما ذكروا، قال: ولذلك سمي: أوَّابًا، واللَّه أعلم. وابن عَبَّاسٍ وهَؤُلَاءِ قالوا: " إنه كان له تسع وتسعون امرأة، فكان يكون عند كل امرأة يومًا فإذا كان رأس المائة يفرغ للعبادة، ففي ذلك اليوم أصابه ما أصابه ". وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) أي: غالبني في الكلام، أراد إذا تكلم أن يكون أبين مني، وإذا دعا ودعوت كان أكثر مني أو ما قلت أن يكون أعرض، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ... (25) أي: زلته التي كانت منه وعثرته، وما يقول أهل التأويل: ربه أوحى إليه: أني قد غفرت لك، لكن لابد أن يتعلق بك أوريَّا في رءوس الخلائق، ثم أستوهبك منه أو عوض كذا - فذلك مما لا نقول به ولا نعلم ذلك، ولا يصح ذلك، ولا يستقيم على ما ذكرنا نحن: أنه لم يكن منه أوريَّا ما يلحقه ما يذكرون، إنما أمره بمجاهدة أعداء اللَّه وكان له أن يأمر، إلا أنه عوتب؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا يعاتبون بأدنى شيء كان منهم، ويعيرون على ذلك؛ لذلك كان ما ذكرنا، وقد عرفنا أنه كان منه شيء عوتب عليه، ثم

(26)

علمنا أن ربه غفر له بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ)، فأما ما سوى ذلك الذي ذكره أهل التأويل فلا نعرفه، فإن صح شيء منه يقال به، وإلَّا الترك أولى به وأسلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ). يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى) في باقي عمره، أي: له في باقي عمره ما يزلفه لدينا، ويقربه عندنا، واللَّه أعلم. أو أن يكون له زلفى عنده في الآخرة، أي: له كرامة ومنزلة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) يحتمل قوله: في جملة أهل الأرض من الرسل والأنبياء والملوك وغيرهم على الشريف والوضيع، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) في الرسل خاصة، وكلا التأويلين يرجعان إلى واحد، إلا أن أحدهما يرجع إلى العامة منهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى). ثم لم ينهه عن هوى النفس، ولكن نهاه عن اتباع هواها أن النفس قد تهوى في الحكم بغير حق حيث قال: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى)؛ لأن النفس أنشئت على الهوى والميل إلى اللذات والشهوات وعلى ذلك طبعت وبنيت؛ فيكون في هواها إلى ما تهوى مدفوعًا غير مالك ولا قادر على دفعه؛ لذلك لم ينه عن هواها ولكن نهاه عن اتباع هواها، ويقدر على منعها بالعقل وردها إلى اتباع الحق؛ لذلك كان ما ذكر، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). ذكر أنه لو اتبع هواها أضله عن سبيله، ولا كل هوى إذا اتبعه المرء، أضله عن سبيله، لكنه إذا اتبعه في شيء بعد شيء يحمله على الإضلال عن سبيله؛ إذ من ضل عن سبيله إنما يضل لاتباعه هواه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ): أخبر أن من اتخذ إلها دونه إنما اتخذه بهواه لا بحجة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ). أي: تركوا الأعمال التي تعمل ليوم الحساب. أو (بِمَا نَسُوا) أي: بما تركوا الإيمان به والإقرار، واللَّه أعلم.

(27)

قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا)، الباطل: هو الفعل الذي يذم عليه فاعله. والحق: هو الفعل الذي يحمد عليه فاعله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا). لم يظن أحد من الكفرة أن اللَّه خلق شيئًا باطلا، لكن يكون خلق ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما من الأهل مخلوقا باطلا على ما عبد أُولَئِكَ الكفرة وفي حسبانهم؛ لأن عندهم أن لا بعث ولا حياة بعد ما ماتوا، فكان خلق ذلك كله لو لم يكن بعث ولا نشور خلقًا باطلا لوجهين: أحدهما: أنه لو لم يكن بعث يحصل إنشاؤه إياهم للفناء خاصة، وإنشاء الشيء وبناؤه للفناء خاصة لا لعاقبة تقصد عبث باطل سفه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا. . .) إلى آخر الآية، صير خلقه إياهم إذا لم يكن رجوع إليه عبثاً؛ لذلك كان ما ذكرنا. والثاني: أنه لو لم يكن بعث، لكان خلقهم غير حكمة؛ لأنه قد جمعهم جميعًا في نعيم هذه الدنيا ولذاتها: الولي، والعدو، وفي الحكمة التفريق والتمييز بينهما، فلو لم يكن دار أخرى ليفرق بينهما، لكان في خلقهم غير حكيم، وعندهم جميعًا أنه حكيم. ثم يقول قتادة في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) إلى قوله: (بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) يقول: لم يذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من شأن داود - عليه السلام - ما ذكر إلا أن يكون داود قضى نحبه من الدنيا على طاعة اللَّه والعمل له والعدل فيما ولاه الله عَزَّ وَجَلَّ، ولكن اللَّه تعالى وعظ نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين موعظة بليغة شافية، ليعلم من ولي من هذا الحكم شيئاً أنه ليس بين اللَّه وبين العباد سبب يعطيهم خيرًا ولا يدفع عنهم به شرًّا إلا بطاعة اللَّه والعمل بما يرضى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ). أي: جعلنا لك الخلافة فيمن ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) هو صلة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا): كان ظنهم أن لا بعث ولا نشور، فيقول - واللَّه أعلم -: إنه لو كان على ما ظن أُولَئِكَ الكفرة: أن لا بعث لكان في ذلك

جعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات في هذه الدنيا كالمفسدين في الأرض وجعل المتقين كالفجار؛ إذ قد سوى بينهم في هذه الدنيا وجمعهم في لذات هذه الدنيا وشهواتها وفي حسناتها وسيئاتها، وفي الحكمة التفريق بينهما والتمييز، وقد سوى بينهما في الدنيا على ما ذكرنا من جمعهم في المحنة بالخير والشر، فلو كان على ما ظن أُولَئِكَ أن لا بعث ولا حياة، لكان ذلك جمع وتسوية بين الولي والعدو، وفي الشاهد من سوى بين من عاداه وبين من والاه، وجمع بينهما في البر والجزاء كان سفيها غير حكيم؛ فعلى ذلك اللَّه - سبحانه - لو لم يجعل دارًا أخرى يفرق بينهما كان غير حكيم؛ إذ قد سوى بينهما وجمع، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. ثم من الناس من يقول: يجب أن يفرق بينهما في الدارين جميعًا في الدنيا والآخرة، وقد فعل حيث سمى هَؤُلَاءِ: ضُلالا وهَؤُلَاءِ مؤمنين، وخذل الكفار، وأذلهم، ووفق المؤمنين وأعزهم؛ وهو قول المعتزلة. ومنهم من يقول: لا يجب ذا في الآخرة؛ لأن الدنيا دار محنة وابتلاء يمتحن الفريقان جميعًا بالخير مرة والشر ثانيًا، وبالحسنة تارة وبالسيئة أخرى على ما أخبر حيث قال - عز وجل -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وما ذكر: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ. . .) الآية، أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يمتحنهم ويبتليهم بالخير والشر وبالسيئة والحسنة، وذلك للفريقين جميعًا على ما ذكرنا من جمعه إياهم جميعًا في الحالين، وأما الآخرة فإنما هي مجعولة للجزاء خاصة، فهنالك يقع التفريق والتمييز بينهما لا فيما فيه المحنة والابتلاء، واللَّه أعلم. وأما قولهم: إنه قد فرق بينهما؛ حيث سمى هَؤُلَاءِ: ضُلالا، وهَؤُلَاءِ: مؤمنين، وخذل هَؤُلَاءِ، ووفق أُولَئِكَ فليس ذلك بتفريق بينهما؛ لأنه إنما سماهم: ضُلالا كفرة بفعلهم الذي اختاروه وصنعوا، أو أمر آثروه على غيره فإنما هو تسمية فعلهم لا جزاء يجزون، والله أعلم. ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) - دلالة لزوم الحجة والوعيد على الظن والجهل، وإن لم يتحقق لهم العلم بذلك إن مكنوا من العلم وجعل لهم سبيل الوصول إلى معرفة ذلك، وإنما لزمهم ذلك الوعيد والحجة بما هم ضيعوا معرفة ذلك والعلم به؛ لأنهم لو تأملوا فيه ونظروا، لوقع لهم علم ذلك، لكنهم تركوا علم ذلك، وضيعوه؛ فلم يعذروا في ذلك، وعلى ذلك نقول في القدرة: إن من منع عنه القدرة، وحيل

(29)

بينه وبينها كان غير مكلف بها ولا مخاطبًا معذورًا، ومن لم تمنع عنه ومكن من ذلك إلا أنه ترك العمل به كان مكلفاً به غير معذور؛ لأنه هو الذي ضيع ذلك وتركه بالاختيار، والأول غير مضيع لها ولا تارك لذلك أمر؛ وذلك على المعتزلة، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) سماه: مباركًا؛ لأن من اتبعه وتمسك به وعمل بما فيه صار شريفًا مذكورًا عند الناس عظيما على أعينهم وقلوبهم، وذلك عمل المبارك أن ينال كل بر وخير يكون أبدًا على الزيادة والنماء، واللَّه اعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ). أخبر أنه أنزله؛ ليدبروا في آياته؛ ليعرفوا ما لهم وما عليهم وما يؤتى وما يتبع، إنما يعرف ذلك بالتأمل والتدبر والتفكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ). أي: ليتذكر وليتعظ أولو الألباب بما فيه من المواعظ والآداب وغير ذلك. * * * قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ. فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). أثنى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على داود وابنه سليمان - عليهما السلام - بالأوبة إليه والرجوع، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ - في داود - عليه السلام -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، وقد فسرنا الأواب. وقال في سليمان - عليه السلام -: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ. . .) إلى آخر ما ذكر. دل ذكر قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) على أثر قوله: (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أنه إنما كان أوابًا بالذي ذكر منه؛ لأن حرف (إِذْ) لا يذكر إلا عن شيء سبق، وسمى - عَزَّ وَجَلَّ - داود - عليه السلام -: أوابًا بما ذكر من تسبيحه بالعشي والإشراق والفزع إليه بما هو به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)

(32)

قيل: الصافنات: هو الخيل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصافنات: هن القائمات على ثلاث قوائم، رافعات إحدى الرجلين، أو إحدى اليدين على طرف الحافر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصافنات: هن القائمات لا غير؛ وعلى ذلك ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من تمنى أن يقوم له الرجال صفوناً -أي: قيامًا- فليتبوأ مقعده من النار " أو كلام نحوه. والجياد: قيل: السراع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) دل ما سبق من ذكر الصافنات الجياد بالعشي على أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) إنما أراد به تواري الشمس بالحجاب؛ إذ ليس شيء يتوارى بالحجاب في ذلك الوقت سوى الشمس. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) حتى شغلني عن ذكر ربي؛ إذ المحبة يجوز أن يكنى بها عن الإيثار، واللَّه أعلم. والثاني: إني أحببت حب الخير حبا حتى شغلني عن ذكر ربي حتى توارت الشمس بالحجاب على التقديم والتأخير، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حُبَّ الْخَيْرِ) يجوز أن يكنى بالخير عن الخيل نفسه؛ على ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة "، سمى الخيل: خيرًا؛ فعلى ذلك قوله - تعالى -: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي)، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: صفونها: قيامها وبسطها قوائمها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) قال عامة أهل التأويل: أي: جعل يعقر سوق الخيل ويضرب أعناقها -والسوق: هو جماعة الساق- لما شغلته عن ذكر ربه وعن صلاة العصر حتى غفل عنها، فجعل

يقطع سوقها ويضرب أعناقها كفارة عما شغل عن ذكر ربه، ثم إن ثبت ما ذكروا من عقر السوق والأعناق أنه على الحقيقة فهو يخرج على وجهين: أحدهما: أنه كان ذلك في شريعته جائزًا، وإن كان في شريعتنا لا يجوز، نحو ما ذكر عنه من تعذيب الهدهد وغيره حين تفقده ولم يجبه حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ. . .) الآية، فمثله لا يجوز تعذيب الطير في شريعتنا؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكروا من عقر الخيل وضرب الأعناق له جائزًا في شريعته وإن كان ذلك لا يجوز عندنا، واللَّه أعلم. أو أن يكون ذلك منه قبل النهي عن القتل، ثم جاء النهي عنه بعد ذلك فحرج عليه ذلك وعلينا جميعًا. وجائز أن يخرج تأويل الآية على غير حقيقة عقر الساق وضرب الأعناق لكن ما ذكر من الأعناق يكون كناية عن الذبح، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ) كناية عن التسليم إلى الناس، أو أن يكون ما ذكر من المسح بالساق والأعناق كناية عن مسح وجهها ورأسها بعدما ردوها عليه، والتسليم إلى الناس من غير أن كان هناك عقر أو ذبح أو كفارة عما غفل عن ذكر ربه. قال الحسن: قال سليمان - عليه السلام -: واللَّه لا يشغلن عن عبادة ربي أحد ما عليك، لكن كشف عراقبها وضرب أعناقها. ثم اختلف في تلك الخيل التي عرضت عليه، فشغلته عن ذكر اللَّه، ففعل ما ذكر: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنها خيول، أخرجها الشياطين من مروج البحر لسليمان - عليه السلام - لها أجنحة تعدو وتطير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن كانت خيلا ورثها من أبيه داود - عليه السلام - وكان دواد - عليه السلام - أصابها من العمالقة، وقال: وما بقي في أيدي الناس من الخيل فمن نسل بقية تلك الخيل، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا، ولكن أهل دمشق من العرب وأهل نصيبين جمعوا جموعًا لسليمان - عليه السلام - فأصاب منهم ألف فرس عراب، فعرض عليه الخيل حتى شغلته عن ذكر ربه، ففعل ما ذكر من قطع العراقيب وضرب الأعناق، واللَّه أعلم. وعن الحسن في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) قال: كسر عراقيبها وضرب أعناقها، فأبدله اللَّه خيرًا منها، وأرسل الريح (تَجْرِي بِأَمْرِهِ. . .) الآية.

(34)

قال أبو معاذ: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) تقول العرب: مسح علاقة السيف مسحا، أي ضربها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَطَفِقَ مَسْحًا)، أي: فأقبل يمسح يضرب سوقها وأعناقها. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَطَفِقَ)، أي: أخذ، وجعل يمسح، أي: يقطع؛ يقال: مسح عنقه، أي: قطعها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) يقال: هي القائمة على ثلاث قوائم وقد قامت الأخرى على طرف الحافر من يد كان أو من رجل، والصافن في كلام العرب: الواقف من الخيل وغيرها على ما ذكر في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " من سره أن يقوم له الرجال صفونًا فليتبوأ مقعده من النار " أي: يديمون له القيام. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجياد من الخيل: السراع والواحد جواد، ورجل جواد، أي: سخي وقوم أجواد، (أَحْبَبْتُ)، أي: آثرت (الْخَيْرِ) أي: المال على ذكر ربي وفي حرف حفصة: أي ألهاني حب الخير عن ذكر ربي، أي: أشغلني. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) اختلف أهل التأويل في سبب فتنة سليمان - عليه السلام - الذي ذكر أنه - عَزَّ وَجَلَّ - فتنه وأنه ألقى على كرسيه جسدًا - اختلافًا كثيرًا بينًا ما يطول الكتاب بذكر كل ما ذكروا، ولا ندري أكان ذلك سبب افتتانه أم لا؟ مع علمنا أن ذلك كله لم يكن سبب فتنة إن كان وإنما كان واحد منها ولا ندري ما هو؟ لذلك تركنا ذكر ما ذكر أُولَئِكَ أنه كان سبب افتتانه. ثم يخرج قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ) على وجهين: أحدهما: أنه امتحن بأمر فكان منه في ذلك زلّة وغفلة، فعوقب بما ذكر وعوتب بنزع ملكه. والثاني: أنه فتنه وامتحنه بنزع ملكه منه لا بزلة منه ولا عثرة، وصرفه إلى غيره لا بسبب كان منه وزلة ويجعله لغيره، ثم إن له أن ينزع الملك منه بأدنى سبب كان منه وزلة فعوقب؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا مخصوصين بالعتاب والتعيير بأدنى شيء يكون منهم ما يعد ذلك الذي كان منهم من أفضل الأعمال على ما ذكرنا فيما تقدم، ثم كان منهم من التوبة والتضرع إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالذي كان منهم لما عرفوا لأنفسهم من الخصوصية لهم من الكرامات والفضائل التي خصوا هم بها، فرأوا على أنفسهم بما

(35)

أكرموا من أنواع الكرامات والفضائل التي خصوا هم بها من التوبة لله وفضل التضرع والابتهال إلى اللَّه؛ لما رأوا ما ارتكبوا كفرانا له فيما أنعم عليهم وأحسن إليهم - فضل تضرع وابتهال ما لا يلزم ذلك غيرهم فيماثل ما كان منهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا). يحتمل أن يكون كرسيه ملكه؛ فيكون ما ذكر كناية عن نزع ملكه. وجائز أن يكون ما ذكر من إلقاء الجسد على كرسيه حقيقة الكرسي ألقى عليه جسدًا يشبه جسد سليمان في الجسمية، لا في العلم والمعرفة والبصر وما كان فيه من الكرامات؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ)، أي: عجلا مجسدا في الجسدية، لا أن جسد العجل الذي اتخذه هو جسد العجل المعروف؛ فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا) أن يشبه جسد سليمان في الظاهر في الجسدانية، لا في أن جسده كجسد سليمان فيما فيه من اللحم والبصر وغير ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَنَابَ). يحتمل وجهين: أحدهما: ثم أناب إلى اللَّه تعالى ورجع إليه بجميع أموره إن كان فيه زلة وعثرة وأناب ورجع وأقبل وتاب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) يحتمل سؤال المغفرة عند سؤاله الملك أمرًا فيما بينه وبين ربه؛ لأن الملك مما يتلذذ به وفيه هوى النفس؛ وعلى ذلك خرج سؤال زكريا - عليه السلام - لما سأل ربه - عز وجل - الولد سأل أمرًا بينه وبين ربه في ذلك وهو ما قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)؛ ولذلك خرج سؤال الأنبياء فيما سألوا مما فيه اللذة وهوى النفس من الولد وغيره فرقوا في ذلك السؤال أمرًا بينهم وبين ربهم، فعلى ذلك سؤال سليمان - عليه السلام - والملك قربة بالمغفرة في ذلك. ثم يحتمل سؤاله المغفرة نفسها عما يكون منه من التقصير في ذلك. أو يكون سؤاله المغفرة سؤال الأسباب التي بها يكون المغفرة لا نفس المغفرة؛ نحو قول نوح - عليه السلام - لقومه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، وقول هود - عليه السلام -: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا)، لا يحتمل أن يأمروا قومهم أن قولوا: نستغفر اللَّه، ولكن أمروهم أن يأتوا بالأسباب التي بها يصيرون أهلا للمغفرة وبها يستوجبون التجاوز، فعلى ذلك يحتمل سؤال المغفرة ما ذكرنا، واللَّه أعلم.

(36)

ثم يحتمل سؤاله الملك - واللَّه أعلم - أنه أراد أن يستسلم له الخلق في الإجابة إلى ما يدعو إليه من وحدانية اللَّه تعالى وجعل العبادة له؛ لما رأى أن إجابة الناس وإقبالهم إلى ما عنده من السعة والغناء أسرع ولقوله أقبل ورغبتهم فيه أكثر، وإذا كان ما ذكرنا وهو متعارف فيما بينهم أن إجابتهم -أعني: إجابة الناس- للملوك ولمن عنده السعة والغنى أسرع لهم وأطوع، فكان في سؤاله الملك له نجاة الخلق كلهم بما يستسلمون له ويجيبون إلى ما يدعوهم إليه، فينجون نجاة لا هلاك بعدها، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) يحتمل وجوهًا: أحدها: أنه سأله ملكًا لا ينزع عنه بعد إذ نزع مرة على ما يقوله أهل التأويل. والثاني: سأل ربه ملكًا لا يكون لأحد ما بقي وهو حي، فيكون له آية لنبوته على ما ذكرنا؛ إذ لو كان مثله لأحد منهم، لم يكن له في ذلك آية لنبوته. والثالث: سأله ملكًا ليبقى له الذكر والثناء الحسن؛ كقول الناس: " اللهم صل على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد كما صليت على إبراهيم " ونحوه، فعلى ذلك جائز أن يكون سليمان - عليه السلام - أراد أن يكون مذكورًا على ألسن الخلق بالثناء الحسن بالملك الذي يناله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) بين ما أعطاه من الملك بما ذكر من تسخير الريح له والجن والشياطين وغير ذلك ما لم يكن لأحد من ملوك الأرض سواه، وهذا يدل على أن تسخير هذه الأشياء التي ذكر أنه سخرها لسليمان - عليه السلام - كان بلطف من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يكون ذلك بالحيل؛ إذ لا يملك أحد من الخلائق تسخير ما ذكر من الخلق لنفسه، ولو كان يملك ذلك بالحيل لكان يبغي لذلك مع العلم أن كل ملك لا يترك لنفسه من الحيل ما يزيد من ملكه ويبقيه إلى ما بقي وهو حي، فإذا لم يكن دل أنه إنما كان لسليمان ذلك باللَّه لطفًا منه؛ ليكون آية من آيات النبوة، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ). وصف تلك الريح باللين والرخوة في هذا الموضع، وقال في آية أخرى: (الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ)، وصفها بالشدة: فجائز أن تكون هي في أصل الخلقة شديدة، لكنها صارت لسليمان - عليه السلام - لينة سهلة. وقال قائلون: هي وقت الحمل شديدة، لكنها تصير بالسير لينة سهلة، واللَّه أعلم.

(37)

أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَاصِفَةً) على أعداء اللَّه رخاء لينة على أوليائه، واللَّه أعلم. ثم فيما ذكر من جرية الريح بأمره حيث أراد وقصد، لطف اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بسليمان حين جعله بحيث تفهم الريح مراده ويفهم هو منها ما أرادت حتى كان يستعملها فيما شاء، وكذلك ما فهم من نطق الطير وكلامه وكلام النمل الذي ذكر وتفهم هي منه، فذلك كله لطف منه به ورحمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) أي: سخرنا له الشياطين حتى يستعملهم فيما شاء: بعضهم في البناء، وبعضهم في الغوص في البحر لاستخراج ما فيه من الأموال؛ ليتفرغ الناس لعبادة اللَّه والخدمة لا يكون لهم شغل في البنيان ولا في مؤنة أنفسهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) وآخرين لم يطيعوه فيما أمرهم من الأعمال في البناء والغوص وغير ذلك من الأعمال جعلهم في الأصفاد -وهي الأغلال تجعل في الأعناق- ليدفع شرهم وسوءهم عن الخلق حيث لم يطيعوه فيما أمرهم بالعمل للخلق ليتفرغوا للعبادة، وهو ما ذكرنا من آية عجيبة لسليمان - عليه السلام - واللطف له حيث مكن له من استعمال ما ذكر من الجن والشياطين والريح وسخر له ذلك؛ ليعلم أنه إنما قدر على ذلك بلطف منه لا بالحيل والأسباب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) قال عامة أهل التأويل: هذا في الشياطين التي ذكر أنه سخرها له في العمل، وآخرين في جعله إياهم في الأصفاد، خيره بين أن يمن على من شاء منهم فيخلي سبيله، وبين أن يمسك من شاء منهم فلا يخلي سبيله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك التخيير في الشياطين وفي جميع ما أعطاه له من الملك يقول: إن شئت تمن فتعطيه من شئت، وإن شئت أمسكت فلا تعط أحدا شيئًا، ولا تبعة عليك في ذلك الإعطاء ولا في الإمساك، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون لا على التخيير، ولكن امتحن بالإعطاء لقوم والمنع عن قوم، فيقول:

(هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ) أي: أعط وابذل لمن أمرت وامتحنت بالإعطاء من كان أهلا لذلك، وأمسك عمن ليس هو بأهل لذلك ومن لم تؤمر بدفعه إليه؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، أن ليس على التخيير، ولكن على تعذيب من هو أهل للعذاب مستحق له، واتخاذ الحسن فيمن كان أهلا على ما بين في ذلك وأظهر في الآية حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ. . .) الآية، (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى)، فعلى ذلك يحتمل الأول، واللَّه أعلم. وقال الحسن: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ويقول: هذا ملكنا الذي أعطيناك يقول: أعط منه ما شئت وامنع منه ما شئت، لا تبعة عليك فيه في الآخرة، وهو قريب مما ذكرنا في أحد التأويلين. وقال قتادة: احبس منهم في وثاقك هذا وعذابك وسرح منهم من شئت لا حساب عليك في ذلك، وهو قريب مما ذكرنا في أحد التأويلين: رجع أحدهما إلى الشياطين خاصة في الحبس في العمل من شاء والتسريح لمن شاء منهم، والآخر إلى كل ما أعطاه من الملك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِغَيْرِ حِسَابٍ). أي: أعطى له من الملك ما لا يحسب من الكثرة والعدد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى ... (40) أي: القربة، (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي: مرجع، هذا يدل على أن ما أعطاه من الملك لم يحطه عن مرتبته ولا نقص من قدره عند اللَّه؛ لأنه إنما سأله الملك - واللَّه أعلم - لما ذكرنا من رغبته في نجاة الخلق؛ لسرعة إجابتهم إياه إلى ما يدعوهم إليه، لا رغبة منه في الدنيا ولذاتها وطلب العز فيها، ولكن لما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى). أي: الأسباب التي تزلفه إلى اللَّه وتقربه من التوفيق والعصمة والمعونة على الطاعة، وذلك يكون في الدنيا والأول يكون في الآخرة، واللَّه أعلم. وهذا من أعظم المنن واللطف حيث أمنه عن جميع أنواع التبعات، يغفر له بغير حساب ويستر له بالزلفى وحسن المرجع، واللَّه أعلم.

ثم اختلف في سبب فتنة سليمان - عليه السلام - وفي ذنبه: قَالَ بَعْضُهُمْ: وذلك أن اللَّه - تعالى - أمره ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل وجعل لها صنما فعبد في بيته كذا كذا يومًا، فابتلاه اللَّه بسلب ملكه عقوبة له على قدر ما عبد من الصنم في بيته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانت فتنة سليمان - عليه السلام - التي ذكر في ناس من أهل الجرادة وكانت الجرادة امرأته وكانت من أحب نسائه إليه، وكان إذا أراد أن يحنث أو يدخل الخلاء أعطاها خاتمه وأن ناسا من أهلها جاءوا يخاصمون قومًا إلى سليمان، قالوا: وكان سليمان أحب أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوتب حين لم يكن هواه فيهم واحدًا؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ. وقد ذكرنا نحن أنه يجوز أن يكون نزع الملك منه وما ذكر فتنة إياه بلا زلة ولا سبب كان منه ابتداء محنة وابتلاء، وذلك جائز، ولله أن يفعل ما يشاء بمن شاء وكيف شاء من نزع الملك وغيره، واللَّه أعلم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (رُخَاءً) أي: رخوة لينة، وهو من اللين، ويقال: رجل رخو، أي: ضعيف في عمله، وقوم رخاء، قال: والرخاء: الساكن، ويقال: استرخى، أي: سكن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ). ومثله قوله: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)، أي: لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثر مما أعطيت. وقال الفراء: سمى العطاء: منا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَيْثُ أَصَابَ). أي: أراد، قال الأصمعي: العرب تقول: أصاب الصواب، فأخطأ الجواب، أي: أراد الصواب، والأصفاد: الأغلال التي يشد بها الأيدي إلى العنق. دل قول سليمان - عليه السلام - ودعاؤه ربه باستيهابه الملك قال: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. . .) على أن الملك الذي أعطاه لم يكن حقًّا عليه؛ إذ لو كان حقا له لكان لا يستوهبه ولا يقول له: (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)، ولكن يقول له: أعطني حقي؛ إذ كل طالب حق له قِبَل آخر لا يوصف إذا أعطاه إياه أنه وهاب، ولكن يؤدي حقًّا عليه. ويدل هذا أيضًا على أن ليس على اللَّه حفظ الأصلح في الدِّين؛ إذ لو كان عليه حفظ

(41)

الأصلح في الدِّين وأعطى الآخر لكان لا يستوهب الملك إذ كان الملك له أصلح في الدِّين، ولكن يقول: أعطني حقي، فدل استيهابه منه الملك على أن ليس عليه حفظ الأصلح في الدِّين ولا إعطاء الأخْيَر، وأن له ألا يعطيه، وأن إعطاءه الملك له فضل منه ورحمة، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: فيه تفضيل الغنى والسعة على الفقر والضيق؛ لما أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل الغنى والسعة آية من آيات النبوة والرسالة، ولم ير الفقر والضيق جعلهما آية من آيات النبوة، فهلا دل جعل الغنى آية من آيات النبوة على أنه أفضل من الفقر؟ يقال لهم: إن الغنى والملك إنما جعله آية لرسالة نبي واحد، وأكثر الأنبياء - عليهم السلام - كانوا فقراء وأهل الحاجة والضيق في أمر الدنيا، فمع ما كانوا ما ذكرنا من الضيق والفقر وقلة أعوانهم وأنصارهم نفذ قولهم وظهر ما دعوا الناس إلى ما دعوهم وهو التوحيد والإسلام، مع وجود رغبة الناس فيمن عنده السعة والغنى، ونفارهم، وقلة رغبتهم فيمن عنده الفقر والضيق؛ فدل اختيار أكثر الأنبياء الحال التي ينفر طباع الناس عنها على الحال التي يرغبون فيها مع حرصهم ورغبتهم في الدِّين - على أن الحال التي اختاروا هم أفضل وأخير من الحال الأخرى، واللَّه أعلم. وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ - لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ)، نهاه أن يمد عينيه إلى ما متعوا هم، على العلم منه أن لو مد عينيه إلى ذلك ويختاره إنما يمد ويختار ليتبعه قومه وأصحابه في أبواب الشرف والخير، وأنه لا يختار ولا يأخذ إلا ما يحل ويطيب؛ فدل النهي عما ذكر على العلم منه ما وصفنا على أن ذلك أفضل من الآخر، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وقولهَ عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ). ثم لا ندري ما الذي كان من اللَّه من تمكين الشيطان عليه حتى أضاف ذلك إلى الشيطان، وليس لنا أن نقول: إنه مكن عليه كذا، وفعل كذا في كذا، وفعل به كذا، إلا أن يثبت عن اللَّه. ثم وجه الحكمة في تمكين الشيطان على أوليائه فيما مكن في أمر الدِّين؛ ليعلم جهة الفضل من جهة العدل وجهة الحكم من جهة الرحمة، وأن له أن يمتحن عباده بما شاء

(42)

وكيف شاء من أنواع الشدائد والبلايا على أيدي من شاء، بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك، وله أن يجتبي إلى من شاء من أنواع الخير والنعم ابتداء بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك؛ فعلى ذلك بلاء أيوب - عليه السلام - والشدائد التي أصابته جائز أن يكون بلا سبب كان منه يستوجب ذلك، ولكن ابتداء امتحانٍ منه إياه بذلك. ثم قوله: (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) إنه وإن أضاف إليه فهو في الحقيقة من اللَّه لما أخبر أنه على يديه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) أخبر أن حقيقة العذاب منه وإن كان على أيديهم يجري ذلك؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ)، أي: ما يمس الإنسان من ضر يكون على يدي آخر ويكون من اللَّه، وله في ذلك صنع وفعل لا على ما يقوله المعتزلة أن لا صنع للَّه، في فعل العباد، وأخبر أنه لو أراد بأحد ضرا ومسه بذلك، فلا كاشف لذلك الضر ولا دافع، وأنه لو أراد خيرا بأحد فلا راد لذلك الفضل غيره، فهو على المعتزلة أيضًا. وقوله: (بِنُصْبٍ)، ونُصُب: واحد وهو تعب؛ وكذلك يقول الْقُتَبِيّ: النُّصب والنَّصب واحد مثل حُزن وحَزن وهو العناء والتعب. وقال أبو عبيدة: النَّصَب: الشر، والنُّصب: الإعياء. ومنهم من يقول: إن أحدهما فيما يصيب ظاهرًا من جسده، والآخر فيما يصيب باطنه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) جائز أن يكون لما قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) دعا عند ذلك أن يكشف عنه البلايا التي مسته، كأنه قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) فاكشف ذلك عني (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ويدلك على ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) دل هذا على أن قد كان منه دعاء وسؤال في كشفه الضر عنه، فاستجاب الله دعاءه، فعند ذلك قال: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) جائز أن يكون لما ضرب برجله الأرض وركضها نبع منها عينان: إحداهما للاغتسال فيها والأخرى للشرب منها، فكانت التي للشرب منها ماؤها بارد على ما يوافق الشرب ويختار ذلك، والأخرى ماؤها ما يوافق الاغتسال وهو دونه في النزول على ما قاله أهل التأويل عامة؛ كقوله - عز وجل -: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)، وإنَّمَا السكون فيما يسكن وهو الليل والابتغاء بالنهار. وجائز أن يكون العين واحدة إلا أنه لما اغتسل منها كان ما يوافق الشرب.

(44)

قال بعض أهل التأويل: كان به البلاء بظاهر الجسد وبباطنه: فما كان بظاهره ذهب بالاغتسال، وما كان بباطنه ذهب بالشرب، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ - لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ). أي: اذكر صبره كيف صبر على البلاء من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بأنواع الشدائد والبلايا، فاصبر أنت إذا ابتليت بشيء من البلايا، وعلى ذلك يخرج جميع ما ذكر في هذه السورة، وأمره أن يذكرهم بالذي ابتلاهم من الشدائد أن كيف صبروا له على ذلك، ومن امتحنهم بالسعة والملك يقول: أن اذكر لهم كيف شكروا ربهم وأطاعوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) اختلف أهل التأويل فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ) أي: أحيا من هلك من أهله وماله، وزاد له على ذلك ضعفهم في الدنيا؛ رحمة منه وفضلا. والحسن يقول بهذا: إنه أحياهم له بأعيانهم وزاده مثلهم معهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قيل له: يا أيوب إن أهلك في الجنة، فإن شئت أتيناك بهم وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم، قال: لا، بل اتركهم في الجنة، فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا، ولله أن يحيي من شاء بعد ما أماته، وله أن يؤجر على ذلك ما شاء؛ ألا ترى أنه قال على أثره: (رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، دل قوله: (رَحْمَةً مِنَّا) على أن كشف الضر عن أيوب وإعطاء ما أعطاه رحمة منه وفضلا ونعمة، كان له ألا يكشف الضر عنه، وألا يرد عليه أهله ولا يزيد له، وهو على المعتزلة؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون ما أعطى وردّ عليه أصلح له، وقد أخبر أنه برحمته كان ذلك له وفضل منه، ولو كان عليه حفظ الأصلح له في الدِّين، كان في تركه ومنعه جائرا عندهم ظالمًا. أو أن يكون منعه ذلك عنه أصلح له فأعطاه وترك الأصلح له؛ فدل أن ليس على الله حفظ الأصلح لأحد في الدِّين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ). أي: ذكرى وعظة لمن ينتفع باللب، ليعلم أن ليس التضييق لمقت منه وسخط على من ضَيَّق عليه ولا في التوسيع رضاء منه، ولكن محنتان: يمتحن من شاء بالشدة والبلاء، ومن شاء بالسعة والرخاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

اختلف في السبب الذي كان من أيوب - عليه السلام - الحلف بضرب امرأته، ولكن لسنا ندري ما السبب الذي حمله على الحلف بضربها، ولا حاجة لنا إلى معرفة ذلك السبب، غير أنا نعلم أنه كان من المحلوف عليه معنى يستوجب بذلك الضرب حيث حلف هو بالضرب وأمره اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالضرب، ثم معلوم أن غضبه وحلفه لا يحتمل أن يكون لمنفعة نفسه ولكن لله عَزَّ وَجَلَّ، ثم الغضب لا يخرج الأنبياء - عليهم السلام - عن أيدي أنفسهم على من كان غضبه لنفسه. ثم اختلف في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: قضبان وأغصان، ونحو ذلك، لأيوب خاصة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو له ولسائر الناس أن من حلف أن يضرب كذا خشبة أو سوطًا، فجمع قضبانا أو أغصانًا فضرب بها، برّ في يمينه، وليس في الآية أنه ضرب به مرة أو مرارًا حتى يخرج به المرء عن يمينه. ثم الأصل عندنا أن من هم بضرب آخر كان بالضارب هيئة وإبداء يعرف أنه يزيد الضرب فيحرز بالمضروب هيئته وأثره وهو السالم، فجائِز أن يكون المراد به تلك الهيئة والأثر الضرب نفسه ليس في يمينه، وأن الأفضل فيها ترك الضرب والكفارة عن الحنث. ثم أثنى اللَّه على أيوب - عليه السلام - فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا). بما ابتلاه اللَّه في نفسه وأهله وماله. (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). أي: راجع إليه - عَزَّ وَجَلَّ - في جميع أحواله: في حال الشدة والبلاء، وفي حال السعة والرخاء، واللَّه أعلم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ)، أي: اضرب بها الأرض، وكذلك ركض دابتك إذا ضربتها برجلك حتى تسرع؛ وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ، قال: والضغث: ملء الكف من الحشيش وغيره ومن كل شيء، وأضغاث جمع. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الضغث: الحزمة من الكلأ أو من العيدان وهو قريب من الأول. وقال: المغتسل: الماء وهو الغسول أيضًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحْنَثْ). من الحِنْث، والحنث في الأصل: الإثم أي: لا يحنث بيمينه إذا صدق فيها ووفى.

(45)

قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ). يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ) من ذكر من الرسل - عليهم السلام - وأهل الصفوة، أي: اذكر هَؤُلَاءِ بما لقوا من أعدائهم، فتستعين به أنت بما تلقى من أعدائك. أو يقول: اذكر صبر هَؤُلَاءِ على قومهم؛ لتصير أنت على أذى قومك؛ وهو قريب من الأول، أي: اذكر خبر هَؤُلَاءِ في العبادة والدِّين ليحببك ذلك ويخرجك على الجهد فيها. أو يقول: اذكر الأسباب التي بها صار هَؤُلَاءِ أهل صفوة اللَّه ومحل إحسانه؛ ليحملك ذلك على طلب تلك الأسباب؛ لتصير من أهل صفوة اللَّه ونحوه يحتمل. أو يقول: اذكر هَؤُلَاءِ الصالحين لتتسلى بذكرهم عن بعض أمورك، وهمومك، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ). قيل: أولي الأيدي، أي: أولي القوة في العبادة والبصر في الدِّين، ثم معلوم أن هَؤُلَاءِ لم يكونوا أهل قوة في أنفسهم، وإنَّمَا كانوا أهل قوة في العبادة في الدِّين، ليعلم أن القوة في الدِّين غير القوة في النفس. وقيل: أولي القوة في طاعة اللَّه والبصر في الحق. وقيل: في الفقه. وقيل: أولي الفهم في كتاب اللَّه، وهو واحد. وفي قوله: (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) دلالة أن قد يفهم بذكر الأيدي غير الجارحة وبذكر البصر غير العين؛ لأنه معلوم أنه لم يرد بذكر الأيدي الجوارح، ولا بذكر الأبصار الأعين ولا فهم منه ذلك، ولكن فهم باليد القوة وبذكر البصر الفهم أو ما فهم؛ فعلى ذلك لا يفهم من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، ونحوه الجارحة على ما يفهم من الخلق، ولكن القوة أو غيرها لكن كنى باليد عن القوة لما باليد يقوى، وكنى بالبصر عن درك الأشياء حقيقة لما بالبصر يدرك الأشياء.

(46)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) أي: شرف الدار وذكرهم صاروا مذكورين مشرفين في الدار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) أي: هم عندنا أهل صفوة اصطفاهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - واختارهم لنفسه ولرسالته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ) اختارهم على علم الرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرْ) وجوهًا على ما ذكرنا: صبر هَؤُلَاءِ على ما لقوا من قومهم، فتستعين أنت على الصبر مما تلقى من قومك. أو يقول: اذكر حسن معاملة هَؤُلَاءِ ربهم وحسن سيرتهم فيما بينهم وبين الخلق؛ لتعامل أنت ربك مثل معاملتهم ومثل سيرتهم. أو يقول: اذكر هَؤُلَاءِ ومن ذكر، أي أكثر عليهم بحسن الثناء واذكرهم بخير ما أثنى عليهم، وأمر الناس أن يثنوا عليهم على ما تقدم ذكره؛ ليكونوا أبدًا أحياء بحسن الثناء والذكر. أو أن يقول: اذكر هَؤُلَاءِ أن كيف عاملهم اللَّه واختارهم لرسالته وما ذكر اللَّه، والله أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْيَسَعَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو إلياس، وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو غيره، وكان ابن عم إلياس، واللَّه أعلم. (وَذَا الْكِفْلِ) اختلف فيه إيضًا: قَالَ بَعْضُهُمْ: كان إلياس في أربعمائة نبي - عليهم السلام - في زمن ملك، فقتل الملك ثلاثمائة منهم فكفل رجل إلياس في مائة نبي فكفلهم وخبأهم عنده يطعمهم ويسقيهم حتى خرجوا من عنده، وكان الكفل بمنزلة من الملك فلذلك سمي: ذا الكفل؛ لأنه خبأهم وكفلهم، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمي: ذا الكفل؛ لأنه كفل لله - عَزَّ وَجَلَّ - خوفًا لله به، فسمي: ذا الكفل. وقال أبو موسى الأشعري: إن ذا الكفل لم يكن نبيًّا، ولكن كان رجلا صالحًا فكفل بعمل رجل صالح عند موته كان يصلي لله - عَزَّ وَجَلَّ - كل يوم مائة صلاة، فأحسن الله عليه لسابق كفالته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن نبيًّا من الأنبياء قال لقومه: أيكم يكفل بتبليغ ما بعثت به إلى الناس بعدي لأضمن له الجنة والدرجة العليا، فقال شاب: إنا نكفل التبليغ على ذلك ووفى ما

(49)

كفل، فسمي: ذا الكفل لذلك، واللَّه أعلم. وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة أنه لماذا؟ وأن اليسع كان فلانًا سوى أن نعرفهم أنهم من الأخيار على ما ذكر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، واللَّه أعلم. وبعد فإن معرفة ذلك بأخبار الآحاد يوجب علم العمل ولا يوجب علم الشهادة، وليس هاهنا سوى الشهادة على اللَّه، والترك أولى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (هَذَا ذِكْرٌ ... (49) يحتمل قوله: (هَذَا ذِكْرٌ)، أي: شرف وذكر للذي تقدم ذكرهم من الأخيار؛ لأنهم يذكرون أبدًا بخير وحسن الثناء عليهم بما كان منهم من حسن السيرة والعمل، فذلك شرفهم حيث صاروا مذكورين على ألسن الناس وهم أموات. أو أن يكون ذكر هَؤُلَاءِ ذكرى وعظة لمن بعدهم. أو ذكرى لك وعظة لتعرف حسن معاملة الرب لهم. أو هذا القرآن ذكر وعظة لمن آمن به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ). جملة الاتقاء: هو أن يتقي المهالك، أي: اتقوا جميع ما يهلككم (لَحُسْنَ مَآبٍ)، أي: مرجع، ثم بين ووصف حسن المرجع الذي يرجعون إليه حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَنَّاتِ عَدْنٍ ... (50). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَنَّاتِ عَدْنٍ). أي: مقام، يقال: عدن في مكان كذا، أي: أقام، كأنه جنات يقام فيها لا يبغون عنها حولا ولا غَيرًا على ما أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَدْنٍ) الذي هو وسط الشيء كأنه ذكر أن جنة عدن كانت وسط الجنان، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ). يحتمل قوله: (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ) أبواب الجنة، يقال له: ادخل أي باب من أبوابها شئت على ما يقوله بعض الناس. وجائز أن يكون أبواب كل أحد منهم في الجنة تكون مفتحة؛ لأن إغلاق الأبواب إنما يكون في الدنيا إما لخوف السرقة أو نظر الناس إلى أهله وحرمه، وخوف نظر أهله إلى الناس؛ لهذا المعنى يتخذ الأبواب في الدنيا والغلق والإغلاق دونهم، وليس ذلك المعنى في الجنة؛ لما أخبر أن أزواجهم يكن قاصرات الطرف لا ينظرن إلى غير أزواجهن ولا

(51)

يكون فيها خوف السرقة؛ لذلك كان ما ذكر. والأشبه ألا يكون فيها أبواب؛ لما ذكرنا أن الأبواب إنما تتخذ لخوف السرقة والنظر في حرمهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) هذا - واللَّه أعلم - كأنه وصف حال اجتماعهم؛ لأنه لذلك يدعى بالفواكه والشراب في الدنيا، وأما في حال الانفراد قلما يدعون بالشراب. ثم فيه إخبار أنهم يدعون في الجنة بالفواكه والشراب جميعًا وفي الدنيا العرف فيهم أن أهل الشراب قلما يجمعون بين الفواكه والشراب لوجهين: إما لخوف الضرر بهم إذا جمع، أو لما لا يوجدان، وليس هذان المعنيان في الجنة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ). كأن ذكر الكثرة كناية عن أنواع الفواكه وألوان مختلفة في كل نوع، ليس بعبارة عن الكثرة من نوع واحد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) أي: طرفهن يقصرنه على أزواجهن، لا ينظرن إلى غير أزواجهن ولا يرون غيرهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتْرَابٌ). قالوا: مستويات الأسنان، أراد أن يكونوا جميعًا الأزواج والزوجات على سن واحد. أو أن يخبر أنهم جميعًا يكونون على حال واحدة لا يتغيرون ولا يهرمون، كما يكون في الدنيا بعضهم أكثر سنًّا من بعض وأضعف حالا من الآخر، ولكن لا يهرمون ولا يكبرون ولا يضعفون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) كأنه يقول لهم الملائكة: هذا ما توعدون أهل الجنة في القرآن، نَا مَا لَهُ مِنْ نَفَا ثم أتاهم من اللَّه بشارة يبقى لهم ذلك أبدًا وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُدٍ (54) أي: انقطاع وذهاب، نفد الشي: إذا فني وذهب، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ

(55)

الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا ... (55) أي: هذا الذي ذكرنا ثواب المتقين وجزاء تقواهم. ثم بين جزاء الطاغين، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ). أي: لبئس المرجع، ثم بَيَّن ما هو فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) أي: بئسما مهدوا لأنفسهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) أي: هذا الذي ذكرنا جزاء الطاغين والطغيان يرجع إلى وجوه إلا أن أصله هو الذي لا يجتنب المهالك ولا يتقي، والمتقي هو الذي يتقي المهالك ويجتنبها حقيقة التقى والطغيان ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ). كان الملاثكة تقول لهم إذا أدخلوا جهنم وألقوا فيها: (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ)، والحميم: هو الشراب الذي قد انتهى حره غايته ونهايته، والغساق: اختلفوا فيه: قال بعضهم: هو ما يسيل من الصديد والقيح واللحم، جعل ذلك شرابهم في النار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغساق: هو الزمهرير، والزمهرير: هو البرد الذي بلغ غايته ونهايته يحرق بشدة برده، كما يحرق الحميم الذي بلغ نهايته وشدة حره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) اتفق أهل التأويل - أو أكثرهم - على أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) وهو العذاب كأنه يقول: وآخر من شكل ما ذكر من العذاب له. ثم اختلفوا في ذلك العذاب الذي قالوا: (مِنْ شَكْلِهِ): قال عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو الزمهرير، وروي عن الحسن: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ): ألوان من العذاب، وقَالَ بَعْضُهُمْ: زوج من العذاب. ويشبه أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) أي: قوم من شكل أُولَئِكَ الذين ذكرهم يقربون إلى أُولَئِكَ؛ فيجمعون في العذاب؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ). أو أن يكون فوج آخر يدخلون من شكل الأولين، وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا فَوْجٌ

(59)

مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ... (59). يقول المتبوعون للأتباع لما أدخلوا النار ورأوهم: (لَا مَرْحَبًا بِهِمْ) أي: لا سعة بهم وهو من الرحب وهو السعة، فأجابهم الأتباع: (بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قالت الخزنة لمن في النار: (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ) فيردون على الخزنة: (لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ) فيرد عليهم القوم الذين اقتحموا النار بعدهم: (بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ). وأصل هذا: أن هذا منهم لعن، يلعن بعضهم بعضًا؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ)، ونحو ذلك من الآيات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) هذا كقوله: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ)، هذا قول الأتباع للقادة والرؤساء منهم، ثم ردت القادة على الأتباع، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) فعلى ذلك هذه المناظرة التي ذكرت هاهنا بين القادة والأتباع. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا)، وقوله: (مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا) أي: أنتم شرعتموه لنا في الدنيا وسننتموه، ولذلك قولهم: (مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا) أي: من شرع لنا هذا وسن الذي كنا عليه وأمرنا به فزده عذابًا في النار وهو كما ذكر في سورة سبأ حيث قالوا: (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا)، واللَّه أعلم. قَالَ الْقُتَبِيُّ: الغساق: ما يسيل من جلود أهل النار ولحومهم من الصديد، يقال: غسقت عنه، أي: سَالت، ويقال: هو البارد المنتن؛ وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ): من مثله، الشكل: المثل، والشكل بنصب الشين الغنج، وشكلت المرأة إذا انغنجت، والتقحم الدخول واقتحمت كلمة واحدة وهو الدخول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا مَرْحَبًا بِهِمْ). أي: لا سعة بهم، والرحيب والرحب: الواسع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) إلى آخر ما

(63)

ذكر، ذكر هذا يقول في الآخرة في النار هذا؛ ليلزمهم الحجة وألا يقولوا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)؛ لأن هذه السورة مكية، نزلت في محاجة أهل مكة في إثبات التوحيد وإثبات الرسالة، ومنهم من ينكر البعث، ذكر الأنباء المتقدمة لإثبات الرسالة فيما تقدم، وذكر حجج البعث في هذه الآيات وحجج التوحيد في آخره، ذكر ذلك كله لهم ليلزمهم الحجة وإن أنكروا ذلك؛ لئلا يقولوا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). ثم في هذه الآية دلالة أن عقوبة اللَّه قد تلزم وإن لم يحقق عنده الحق ولم يعرفه حقيقة؛ حيث أخبر أنهم يقولون في النار ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ)؛ لأنه معلوم أنهم لم يعلموا حقيقة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا على حق وإلا ما تركوا اتباعه ولا سخروا منهم؛ وعلى ذلك يخرج مباهلة أبي جهل يوم بدر حيث قال: " اللهم أينا أوصل رحما وآثر. . . كذا على ما ذكروا - نصر عليه "، ومعلوم أنه لو كان يعلم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على حق لكان لا يجترئ على المباهلة دل أنه لم يعلم حقيقة أنه على حق، فعوقبوا وإن لم يعلموا لما مكن لهم من العلم والمعرفة لو تأملوا وأحسنوا النظر في ذلك، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ) قال أهل التأويل: إنهم ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم في دينهم وهم أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذين كانوا يستهزئون بهم في الدنيا ويسخرون منهم، يقولون: كنا نسخر منهم في الدنيا فأين هم؟ وما لنا لا نراهم (أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) أي: حارت وشغلت أبصارنا فلا نراهم. لكن لا يحتمل أن يكونوا يقولون على هذا الذي يقوله أهل التأويل، ولكن يقولون على التلهف والتندم على ما كان منهم في الدنيا من ترك اتباعهم والسخرية منهم قد ظهر عندهم أن أُولَئِكَ كانوا على حق - أعني: رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - وأنهم على باطل، فلا يحتمل أن يقولوا ذلك على غير التلهف والتندم، وقد عرفوا بماذا عذبوا وجعلوا في النار؟ عرفوا أنهم لا يكونون في النار - يعني: أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذ كانوا على خلاف ما كان أُولَئِكَ الكفرة عليه، واللَّه أعلم. أو أن يقولوا ذلك على الاستغاثة بهم يقولون: أين أُولَئِكَ الذين كانوا اتخذناهم سخريا

(64)

في الدنيا لعلهم يشفعوننا فيعينوننا يطمعون النجاة إذا اتبعوهم في ذلك الوقت أو نحو ذلك؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)، وهذا الذي ذكرنا هو أشبه مما يقوله أهل التأويل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قَالَ بَعْضُهُمْ: القسم بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ص وَالْقُرْآنِ) وقع على هذا على ما ذكرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا على التقديم والتأخير، يقول: إن ذلك الذي ذكره من إحن بعض على بعض حيث قالوا: (بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا)، وقولهم: (رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ)، وما ذكر في سورة الأعراف: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ. . .)، كذا و (أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ)، كذا، أي: ذلك التخاصم الذي ذكر الحق، أي: كائن فيما بينهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ. قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ (65) ليس عليَّ مما حملتم شيء، إنما ذلك عليكم إنما عليَّ الإنذار لكم فقط. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ). يقول - واللَّه أعلم -: ما من إله عندي دونه بإله، إنما الإله هو الواحد القهار الذي تفرد وتوحد بربوبيته وألوهيته، قهر الخلائق كلهم بقدرته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) يخبر عن غنائه وسلطانه يقول - واللَّه أعلم -: تعلمون أنه رب السماوات والأرض ومنشئهما ومنشئ ما بينهما، فلا يحتمل أن ما يأمركم به وينهاكم عنه، إنما يأمركم لحاجة

(67)

نفسه أو لمنفعة له، ولكن إنما يأمر وينهى لمنفعة أنفسكم ولحاجتكم. أو يقول: تعلمون أنه هو ربكم ورب ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما، فكيف تعبدون من تعلمون أنه ليس بربكم ولا إله، وإنما الإله ما ذكر فتتركون عبادته وطاعته؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ). أي: لا يلحقه الذل بذل أوليائه وخدمه؛ لأنه عزيز بذاته لا بأحد ليس كملوك الأرض يذلون إذا ذل أولياؤهم وأتباعهم؛ لأن عزهم بأوليائهم وأتباعهم فإذا ذلوا ذل من كان عزه بهم، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - فعزيز بذاته لا يلحقه الذل بذل أوليائه ولا هلاكهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) له تأويلان: أحدهما: أن هذا القرآن الذي أنزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نبأ عظيم أنتم عن التفكر فيه والنظر معرضون؛ لأن فيه ذكر ما نزل بالمكذبين بالتكذيب والعناد، وفيه ذكر من نجا منهم بم نجا؟ وفيه ذكر ما يؤتى وما يتقى، وفيه ذكر البعث وذكر الجنة والنار ونحوه، وذكر ما لهم وما عليهم، فهم عن التفكر فيه والنظر معرضون ما لو تفكروا فيه وتأملوا، لأدركوا كله ووصلوا إلى معرفة كل ما فيه مما ذكرنا، واللَّه أعلم. والثاني: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي: البعث والحشر هو نبأ عظيم أنتم عن السعي والعمل لذلك معرضون تاركون. فمن جعل تأويله على البعث والحشر يجعل الإعراض عن السعي له والعمل لذلك اليوم، ومن حمل تأويله على القرآن يجعل الإعراض عن التفكر فيه والنظر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ. . .) الآية. اختلف في الملأ الأعلى: قال عامة أهل التأويل: الملأ الأعلى: هم الملائكة الذين تكلموا في آدم - عليه السلام - حين قال لهم الرب - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، فقالوا عند ذلك: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ليس على حقيقة الخصومة، ولكن على التكلم في ذلك؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا)، كأنها ليس على التنازع المعروف عند الناس والخصومة، ولكن على اختلاف الأيدي فعلى ذلك ما ذكر من اختصامهم، واللَّه أعلم. ومعناه: ما كان لي من علم من اختصام الملأ الأعلى وما كان منهم من التكلم إلا أن أوحي إليَّ فعلمت وإنما أنا نذير مبين.

(71)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ما كان اختصامهم في الكفارات وفي الدرجات وفي المنجيات والموثقات حتى علمني اللَّه ذلك بالوحي إليَّ وأعلمني ذلك، ويذكرون أن الكفارات هو إسباغ الوضوء في المكروهات وبذل الطعام عند الضيق والشدائد ونحوها مما يطول ذكره، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي: بالجمع الأعلى وهو جمع يوم القيامة، سماه: الجمع الأعلى؛ لأنه جمع الأولين والآخرين من الفرق جميعًا، أي: ما كان لي من علم بذلك الجمع حتى علمت بالوحي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَخْتَصِمُونَ). في ذلك اليوم تقع الخصومات؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، وهو على حقيقة الخصومة. وجائز أن يكون الملأ الأعلى هم الأشراف من أُولَئِكَ الكفرة والقادة، منهم الذين أهلكوا بالتكذيب ومن نجا منهم بالتصديق؛ يقول: ما كان لي من علم بهم وما نزل بهم أوحي إلَّي فعلمت بالوحي، كأنهم سألوه عن ذلك فأخبر، أي: كنت كواحد منكم في ذلك حتى علمت ذلك بالوحي، ألا إنما أنا نذير مبين أمرني ربي وأوحى إليَّ أن أنذركم بذلك حين أعلم بالوحي، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) ظاهر هذا أن يكون لا على القول منه لهم، ولكن على الخبر أنه كان ما ذكر، واللَّه أعلم. ثم ذكر الذي خلق منه آدم على أوصاف مختلفة: مرة ذكر أنه خلق من طين، ومرة من تراب، ومرة من حمأ مسنون، ومرة كالصلصال، ومرة كالفخار، ومرة لازب وغيره على اختلاف ما ذكر؛ فجائز أن يكون كل وصف من ذلك قد كان وصف عن حال، كان ترابًا، ثم صار طينًا ثم ما ذكر ووصف، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ... (72) إضافة الروح إلى نفسه كإضافة خلق من خلائقه إليه؛ إذ الروح خلق من خلائقه كسائر الخلائق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ). لولا صرف أهل التأويل سجود الملائكة لآدم إلى حقيقة السجود وإلا كنا نصرفه

(73)

لآخر: إلى الخضوع له والاستسلام، كما أحوج الملائكة إلى معرفة هذه الأسماء إلى آدم وبه عرفوها حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ)، لكن صرف أهل التأويل سجود الملائكة إلى حقيقة السجود له جائز؛ لأنهم ممتحنون بالأمر والنهي وقد بينا ذلك فيما تقدم. ثم استثنى إبليس من الملائكة وأخبر أنه استكبر وأبي أن يسجد له حيث قال - عز وجل -: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74). على قول من يقول: إن إبليس كان من الملائكة، فلما أبى السجود، خذله ووكله إلى نفسه صار كافرًا؛ ليعلم أن كل أحد وإن عظم قدره وجلت منزلته يحتمل خلاف ما هو عليه وضده، وأنه متى امتحنه بأمر فترك أمره؛ تكبرًا أو استخفافًا - خذله ووكله إلى أمره ونفسه فصار كافرًا مخذولًا حقيرًا؛ ليكونوا أبدًا على حذر وفزع إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على ما أخبر من عظم قدر الملائكة عند اللَّه وجليل منزلتهم عنده إذا خذلهم ووكلهم إلى أنفسهم صاروا كما صار إبليس، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ). أي: كان في علم اللَّه أنه يكفر. أو كان بمعنى صار من الكافرين إذ أبى السجود واستكبر؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ - لآدم: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، أي: تصيرا من الظالمين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع أن تخصيص إضافة الشيء الواحد إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يخرج مخرج تعظيم ذلك الواحد وذلك الفرد؛ كقوله: بيت اللَّه ومساجد اللَّه ورسول الله وولي اللَّه وأشباه ذلك، وخص هذه الأشياء بالإضافة إليه وإن كانت البقاع كلها والخلق كله له على التعظيم لذلك؛ فعلى ذلك يخرج إضافة خلق آدم إلى نفسه مخرج تعظيم آدم حيث قال: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) وإن كان جميع الخلائق هو خلقهم، ويخرج إضافة كلية الأشياء إلى اللَّه وكلية الخلائق إليه مخرج تعظيم الربّ والمدح له؛ نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، ورزاق، يخلق منشأ العالم ومبدأه، وهو على كل شيء قدير، مالك الملك، وغير ذلك على ما ذكرنا فيما تقدم، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). قد تكلف أهل الكلام والتأويل في تأويل إضافة اليد إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: منهم من قال: القوة، ومنهم من قال: كذا، لكن التكلف في ذلك فضل مع ما قد يضاف اليد إلى

من لا يد له ولا جارحة ولا عضو، نحو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -:، (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) لم يفهم أحد بذكر اليد له ولا الخلف ما يفهم من الخلق ولا ذهابهم، وكذلك ما ذكر من مجيء البرهان حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)، و (قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ)، وأمثال ذلك مما يكثر عده وإحصاؤه، لم يفهم أحد من الخلائق من مجيء هذه الأشياء التي ذكرنا مجيء الخلق ولا فهم من ذكر اليد -لما ذكرنا من الأشياء- جارحة ولا عضو، فكيف يفهم من ذكر اليد ما فهم من الخلق إلا لفساد اعتقادهم لربهم والجهل بتعاليه عن معنى الغير، وإلا لم يخطر بباله بذكر ذلك لله أو إضافته إليه ما يخطر بباله من الخلق ومعنى الخلق. أو أن يكون ذكر ذلك لنفسه وإضافته إليه من اليد وما ذكر؛ لِمَا باليد يكون في الشاهد لو احتمل كون ذلك من الخلق، نحو ما قال: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) وما كسبت يداك، ونحو ذلك مما يعلم في الحقيقة أن ذلك لم يكن يكسب به حقيقة ولا عمله من نحو الكفر وغير ذلك من الأشياء، لكنه ذكر لما باليد يكتسب في الشاهد وبها يعمل أكثر الأعمال والأفعال. أو أضاف ذلك إليها لما ذكرنا وإن لم يكن منها عمل حقيقة؛ فعلى ذلك إضافة اليد إلى اللَّه فيما أضاف على ما كان ذلك من الخلق إنما كان باليد؛ على ذلك يخرج ما ذكر من استوائه على العرش بعد أن ذكرنا فيه ما يليق به ونفينا عنه ما لا يليق، وأصل ذلك أنا عرفنا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - متعاليا عن جميع معاني الغير وعن كل صفات يوصف بها الغير، علي ما ذكر في كتابه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، فإذا كان كذلك فلا حاجة لنا إلى تأويل اليد وما ذكروا أنه ما أراد بها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ). معناه - واللَّه أعلم -: أستكبرت للحال عندما أبيت السجود له، أم كنت في اعتقادك من العالين أي المستكبرين؟ ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ كُنْتَ): أم صرت من العالين، أي: استكبرت وصرت من العالين على ما في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، أي: صار من الكافرين. ثم حرف الشك والاستفهام من اللَّه قد ذكرنا أنه على الإيجاب والقطع كأنه قال: بلى كنت في علم اللَّه أنك تكفر. أو يقول: صرت من العالين، أي: ممن يطلب العلو؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ فِرْعَوْنَ

(76)

عَلَا فِي الْأَرْضِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) ظن إبليس - عليه لعنة اللَّه - أن النار لما كان من طبعها الارتفاع والعلو ومن طبع الطين التسفل والانحدار أن الذي طبعه الارتفاع والعلو خير من الذي طبعه التسفل والانحدار؛ لذلك قال - واللَّه أعلم -: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). أو لما رأى أن إصلاح الأشياء كلها ونضجها بالنار فقال هذا عند ذلك. لكن لو نظر الملعون وحقق النظر، لعلم أن الطين خير من النار؛ لأنه من الأرض، والأرض كالأصل والأم لغيرها؛ لأن الأشياء يكون صلاحها ونضجها بالنار وأول بدئها من الأرض، كالابن من الأم الوالدة على ما ذكرنا، واللَّه الموفق. ثم كفره بإبائه السجود له لما لم ير أمر اللَّه له بسجود من هو خير وأعلى لمن دونه حكمة وحقَّا، فكفر لما رأى أنه وضع الأمر في غير موضع الأمر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: اخرج من الجنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: اخرج من السماء إلى الأرض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: اخرج من الأرض إلى جزيرة البحر، واللَّه أعلم بذلك، وليس لنا أن نتكلف القطع على القول فيه: أن أمره بالخروج من كذا، وقد عرف اللعين أنه بماذا أمره بالخروج منها. ثم ذكر مرة (فَاخْرُجْ مِنْهَا)، ومرة قال: (فَاهْبِطْ مِنْهَا)، ونحو ذلك من الألفاظ المختلفة؛ وكذلك ما ذكر مرة قال: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، وقال فيما وضع آخر: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)، وقال في موضع: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) و (تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)، ونحو ذلك على الألفاظ المختلفة، فذلك كله يدل على أن ليس على الناس حفظ الألفاظ والحروف، وكذلك ما ذكر في القصص على اختلاف الألفاظ مكررة معادة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ). أي: لعين، كأنه قال: فإنك لعين على ألسن الناس، ليس يذكره أحد من أعدائه وأتباعه وأوليائه إلا وقد لعنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) كانت اللعنة عليه إلى يوم الدِّين هي خذلانه وطرده عن رحمته ودينه؛ لما علم أنه لا

(80)

يعود إلى اختيار توحيده وطاعته أبدًا، وإلا كان عليه لعنته في الدنيا والآخرة: فأما في الدنيا ما ذكرنا من خذلانه وتركه في العمر، وأما في الآخرة مطرود عن جنته، واللَّه أعلم. ثم سأل ربه أن ينظره إلى يوم يبعثون فأجاب حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) وإنما أنظره - واللَّه أعلم - لأنه يختار الكفر والخلاف له أبدًا. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) هو يوم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ): هو يوم البعث، إلى ذلك أنظره على ما سبق منه السؤال على النظرة إلى يوم البعث حيث قال: (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ): هو النفخة الأولى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم يبين له ذلك الوقت؛ ولذلك ذكر منه الخوف، وهو ما قال - عز وجل -: (قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، ولو كان بين له الوقت المعلوم لكان لا يخاف دون ذلك الوقت، ولكنه يأمن فدل خوفه أنه لم يبين له ذلك وهو معلوم عند اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) كأنه يقول - واللَّه أعلم -: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان أن تغويهم إلا من كان في علمه أنه يختار الغواية ويؤثر اتباعه؛ فيكون له عليهم سلطان الإغواء، فأما من كان في علم اللَّه أنه يختار الإيمان والتوحيد، فلا سبيل لك عليهم، واللَّه أعلم. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: (الْمُخْلَصِينَ (83) للتوحيد، فإن كان ذلك فيكون قوله تعالى: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) يكون كفرا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْمُخْلَصِينَ) من الهلاك، فإن كان ذلك فيكون قوله: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ)، أي: لأهلكنهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْمُخْلَصِينَ) من كل ذنب وكل معصية، لكن الوجهين الأولين أشبه وأقرب، واللَّه أَعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) قرئ بنصبهما جميعًا: (فَالْحَقَّ وَالْحَقَّ أَقُولُ)، وقد قرئ أيضًا برفع الأول ونصب الثاني: (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ).

(85)

فمن قرأه بالرفع فيكون معناه - واللَّه أعلم - (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) أي: مني يكون الحق على هذا. ومن قرأه على النصب فهو على التأكيد؛ تأكيدًا على ما ذكر على أثره كأنه يقول: أقول الحق الحق، وهو يقول: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85). ثم جائز أن يحتج بهذه الآية على المعتزلة فيقال لهم: أراد اللَّه تعالى أن ينجز ما وعد وأن يصدق خبره الذي أخبر أنه كان يكون، أو لم يرد أن ينجز ما وعد وألا يخرج خبره على الصدق. فإن قالوا: لم يرد، أعظموا القول؛ لأنهم زعموا أنه أراد أن يخلف ما وعد، وأن يكذب في خبره، فذلك عظيم القول حيث وصفوا ربهم بالسفه؛ لأن من أراد أن يخلف وعده وأن يكذب في خبره، فهو سفيه على زعم من قال ذلك. وإن قالوا: أراد أن ينجز ما وعد وأن يصدق خبره، فيقال لهم: أراد أن يتبعوا إبليس، أو أراد أن يؤمنوا ولا يتبعوه؟ فإن قالوا: أراد أن يؤمنوا ولا يتبعوا إبليس، فيقال: أراد أن يجور ويظلم على زعمكم؛ لأنه أراد أن يملأ جهنم ولم يرد ما يستوجبون ذلك؛ فدل على أن اللَّه تعالى علم أنه يكون منهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) وقوله: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ). هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: لا أسألكم على ما أدعوكم من الشرف والذكر في الدنيا والآخرة من أجر، ولا أجد في الشاهد من يبذل للآخر من الشرف أو الذكر ولا يعطيه ذلك إلا بأجر، فكيف تتركون اتباعي ولا تقبلون ذلك مني؟! أو يقول: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر، فيمنعكم ثقل ذلك الأجر وذلك الغرم عن إجابتي؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)، أي: لست تسألهم أجرًا حتى يمنعهم ثقل ذلك الغرم عن الإجابة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ). قال عامة أهل التأويل: وما أنا ممن تكلف ذلك من تلقاء نفسي، ولا أمرتكم بما

(87)

آمركم إلا بالوحي، والمتكلف عند الناس في الظاهر: هو الذي يفعل ويقول بلا إذن. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المتكلف: هو الذي يتكلف ما لا يعنيه ويفعل ما لم يؤمر به. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)، أي: ما أنا من المتحملين مما حملتم إذا خالفتموني، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) أي: ما هذا القرآن وهذا النبأ إلا عظَة وذكر لمن انتفع به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) يحتمل نبأ القرآن. ويحتمل البعث والحساب، أي: يعلمون أن ذلك حق بعد حين. ثم ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في جهنم أنه يملؤها ولم يذكر في الجنة أنه يملؤها، فجائز أن يكون ما ذكر من الملء هو أن يضيقها عليهم، وفي التضييق زيادة في الألم. أو أن يكون في سعة الجنة حكمة ولا يكون ذلك في جهنم؛ لأن السعة تطلب للنزهة والانتشار في البساتين وغير ذلك وليس ذلك في جهنم، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة الزمر

سُورَةُ الزُّمَرِ وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) يقول - واللَّه أعلم -: إن الكتاب الذي يتلوه رسولنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويدعوكم إليه هو تنزيل من عند اللَّه؛ كقوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) على أثر قوله: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ) يخرج - واللَّه أعلم - أنه يدعوكم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى اتباع الكتاب والطاعة، ليس لذل به يطلب بكم العز أو الضعف في التدبير فيطلب بكم الاستعانة فيه؛ لأنه عزيز بذاته حكيم لا يلحقه الخطأ أو الضعف في التدبير، ولكن إنما أمركم بما أمر ونهاكم عما نهى لتكتسبوا لأنفسكم ولتنتفعوا به، فأمَّا اللَّه - سبحانه - عزيز بذاته غني حكيم بنفسه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العزيز هو الذي لا يعجزه شيء، والحكيم هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو العزيز؛ لأن كل عزيز دونه إنما يصير ذليلا عنده وعز من دونه عند عزه ذلا، والحكيم هو المصيب في فعله وتدبيره، وقيل: هو الذي وضع كل شيء موضعه. وقال بعض أهل التأويل: العزيز هو المنيع، وتأويل المنيع: الممتنع عن جميع مكائد الخلق وجميع حيلهم بالضرر له، وقد ذكرنا هذا في غير موضع، واللَّه أعلم.

(2)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِالْحَقِّ) أي: بالحق الذي لله عليكم، وبالحق الذي لبعضكم على بعض، أو كما قال أهل التأويل (بِالْحَقِِّ)، أي: للحق، أي: أنزلناه للحق، لم ننزله عبثًا باطلا لغير شيء، ولكن أنزلناه للحق لحقوق ولأحكام ومحن وأمور، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ). جائز أن يكون ما ذكر من إنزاله الكتاب بالحق ذلك هو ما أمره من العبادة له، أمره بوفاء ذلك الحق له. ثم يحتمل قوله: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) وجهين: أحدهما: أصل في الاعتقاد، أي: اعتقد جعل كل عبادة وطاعة لله خالصًا لا تعتقد لأحد شركًا. والثاني: في المعاملة: أن كل عمل عبادة وطاعة اجعله لله خالصًا لا تجعل لغيره فيه شركاء. واللَّه أعلم. وأما أهل التأويل قالوا: (فَاعْبُدِ اللَّهَ): وحد اللَّه (مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)، وتأويل هذا أن اجعل الوحدانية والألوهية لله في كل شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) أي: ولله شهادة الوحدانية والألوهية في كل شيء. ويحتمل أيضًا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)، أي: دين اللَّه هو الدِّين الخالص؛ لأنه دين قام بالحجج والبراهين، وأما غيره من الأديان فهو دين بهوى النفس وأمانيها لا بالحجج والآيات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). كأن فيه إضمارًا يقول: والذين اتخذوا من دونه أولياء وعبدوها قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقالوا في موضع آخر: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، عرفوا أن ما كانوا يعبدون من الأوثان وغيرها ليسوا بآلهة في الحقيقة ولا لهم الألوهية حقيقة، وأن حقيقة الألوهية لله، لكنهم سموها: آلهة؛ لأنهم كانوا يعبدونها، وكل معبود عند العرب إله؛ لأن الإله هو المعبود، وقدروا تسمية كل معبود: إلها؛ لذلك سموها: آلهة وإن عرفوا أن ليست لهذه الأشياء ألوهية حقيقة، وأن ذلك لله عَزَّ وَجَلَّ.

ثم إن الذي حملهم على عبادة ما عبدوا من دون اللَّه وجهان: أحدهما: لما لم يروا أنفسهم تصلح لعبادة الإله العظيم أو تقدر على القيام بخدمته، فعبدوا هذه الأشياء رجاء أن تقربهم عبادة هَؤُلَاءِ إلى اللَّه زلفى، وأن هَؤُلَاءِ شفعاؤهم عنده، وذلك لما رأوا في ملوك الدنيا أن كل أحد لا يجد السبيل إلى خدمة ملوكها، أو لا يقدر على القيام بين يديه والخدمة له، فيخدم من اتصل بالملك ومن عظم قدره ومنزلته عند الملك؛ ليقربه ذلك المخدوم له إلى الملك إذا بدت له الحاجة أو الشفاعة، وعلى ذلك ما ذكر في قصة فرعون أنه كان اتخذ لقومه أصنامًا يعبدونها من دونه، لما لم يروا كل أحد منهم يصلح لخدمته، وهو ما أغرى قومه على موسى حيث قالوا: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)، ونحو هذا أوجه. والثاني: عبدوهم؛ لما رأوا آباءهم قد عبدوها، وتركوا على ذلك حتى ماتوا، فاستدلوا بتركهم على ذلك على أن اللَّه قد كان رضي بعبادتهم الأصنام وأمرهم بذلك لقولهم إذا فعلوا فاحشة: (قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)؛ ولذلك قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا)، وقولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)، استدلوا بتركه آباءهم على ما عبدوا من الأصنام على ذلك ولم يعاقبهم في الدنيا، وكانوا لا يؤمنون بالآخرة حتى يزجرهم إليها على أن الله قد رضي بذلك، وأنهم عن أمر منه فعلوا ذلك، فرد اللَّه ذلك عليهم فقال: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). يحتمل قوله: (فِي مَا هُم فِيهِ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، في مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال: إنه ساحر، ومنهم من قال: إنه شاعر، وإنه مجنون، وإنه مفتر ونحوه، فيخبر أنه يحكم بينهم؛ ليبين لهم أن ما ذكروا ابتغوا فيه أهواءهم. أو يحكم بينهم أن الأصنام التي عبدوها لا تشفع لهم، وأن عبادتهم لا تقربهم إلى الله زلفى، وقد بين لهم في الدنيا أن محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليس بشاعر ولا ساحر ولا كذاب على ما قالوا؛ لما أنبأهم وأخبرهم بأخبار عرفوا أن الساحر والشاعر لا يعرف مثلها، نحو ما أخبرهم بنصر اللَّه إياه والظفر له عليهم -أعني: على الأعداء- فكان على ما أنبأهم بأنباء وأخبار عرفوا أنه صادق في ذلك ما لا يستفاد مثلها بالسحر وبالكهانة إلا بالوحي من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لكنهم عاندوا وكابروا؛ وكذلك بين لهم أيضًا ما عرفوا أن الأصنام التي عبدوها في الدنيا لا تملك لهم الشفاعة يوم القيامة، حيث ابتلاهم بأهوال وأفزاع بركوب البحار والتضييق عليهم حتى فزعوا إلى اللَّه في كشف ذلك عنهم ودفعه عنهم، لم يفزعوا إلى

الأصنام التي عبدوها، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، ونحو ذلك ما ابتلاهم بالشدائد والبلايا عرفوا أن معبودهم الذي عبدوه لا يملك دفع ذلك عنهم ولا كشفه، وإنما المالك لذلك هو اللَّه المعبود الحق. ثم تناقض قولهم؛ لأنهم كانوا ينكرون رسالة النبيين بقولهم: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، فيرون للخشب والأشجار الألوهية والعبادة، فذلك تناقضٌ ظاهر. قَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) أي: مقربة فيشفعون لنا إلى اللَّه تعالى. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ). قال أبو بكر: لا يهدي أحدا بالضلال والكفر، ولكن إنما يهدي بضد الضلال والكفر، أو كلام نحوه. وقال الجبائي: لا يهدي طريق الجنة في الآخرة، أي: لا يهدي من كان في الدنيا كاذبًا كفارًا في الآخرة طريق الجنة. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) من صِلَة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، كفار لنعمه بصرفهم العبادة إلى غير المنعم. وقال جعفر بن حرب: إن اللَّه لا يهدي إلى الزيادات التي يهدي ويعطي من اختار الهدى؛ لأنه يقول: إن من اختار الهدى واهتدى كان عند اللَّه لطفًا ورحمة يعطي ذلك زيادات وفضل زيادة على ما كان اختاره؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ). هذه التأويلات كلها للمعتزلة، وأما عندنا فإن قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي) من هو في علمه أنه يختار الكفر وقت اختياره الكفر والضلال، أي: لا يوفقه للهدى ولا يعينه وقت اختياره الكفر، ولكنه يخذله؛ وكذلك يقول في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) و (الْكَافِرِينَ) ونحوه أي: لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر والظلم، والله الموفق. والثاني: (لَا يَهْدِي)، أي: لا يخلق فعل من هو فعل كفر فعل هدى، ولكن يخلقه

(4)

فعل كفر وكذلك لا يخلق فعل من هو فعل هدى فعل كفر، ولكن يخلق كل فعل على ما يفعله الفاعل ويختاره: يخلق فعل الكافر كفرًا وفعل المهتدي فعل هدى، يخلق كل فعل على ما يختاره الفاعل ويفعله: إن كان هدى يخلقه هدى، وإن كان كفرا يخلقه كفرا. وقال بعض أهل التأويل: إن اللَّه لا يهدي من كان في علمه أن يختم بالكفر ويخرج به من الدنيا، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) يحتمل وجهين: أحدهما: من هو كاذب كفار على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: كفار أنعم اللَّه، وكاذب في القول، كفار في الفعل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) ظاهر هذا أن إيجاد الولد له من المحتمل والممكن ليس من الممتنع، وكذلك ظاهر قوله: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)، ظاهر هذا الذي ذكر هو من المحتمل والممكن وكان من الممتنع أيضًا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)، دلت هذه الآيات على أن إيجاد الولد من الممتنع والعظيم في العقول والقلوب جميعًا. ثم قوله: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ). أي: لو جاز أو احتمل إيجاد الولد على ما تقولون أنتم وتتوهمون، لاصطفى واختار مما يشاء، هو ما شاء، ليس على ما تختارون أنتم له وتشاءون: أن الملائكة بنات الله على ما تزعمون؛ لأن العرف في الخلق أن من اتخذ لنفسه شيئًا إنما يتخذ من أعز الأشياء وأرفعها وأعظمها قدرًا عندهم، لا من أخس الأشياء وأذلها؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، أي: إلى آلهتهم التي اتخذ أُولَئِكَ آلهة في الحقيقة، ولكن سماها بالذي عندهم، وكذلك قول موسى - عليه السلام -: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا)، أي: انظر إلى الذي اتخذته إلها سماه على ما هو عنده؛ فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ) على ما في ظنونكم وتوهمكم أنه اتخذ الولد لاختار مما ذكر لا مما تقولون أنتم، لو احتمل ذلك على ما في ظنكم وحسبانكم لكان مما ذكر. والثاني: مبنى الاتخاذ راجع إلى البنين إذ كانت الكفرة ينسبون الملائكة إلى أنهم بناته؛ لما عرفوا من كرامتهم على اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وقربتهم عنده، وينسبونه إلى أنهم بناته، وإِلَى أن عيسى ابنه، وإنما يتخذ الأولاد ويتبنى ليستنصروا بهم، فبرأ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نفسه على احتمال الشكل وخوف الغلبة، فقال: (سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).

(5)

وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) دفع ما قالوا فيه وإحالة ذلك؛ لما أخبر أنه واحد في الذات، ولو كان كما ذكر هَؤُلَاءِ من الولد، لم يكن واحدًا في الذات؛ إذ كل محتمل الولد منه هو من شكل الولد، فإذا عرفهم أنه واحد في الذات لم يحتمل الولد وما ذكروا. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْقَهَّارُ) دلالة إحالة ذلك؛ لأنه أخبر أنه قهار، والولد في الشاهد إنما يتخذ لأحد وجوه: إما لوحشة أصابته فيستأنس به. وإمَّا لحاجة تمسه فيدفع بالولد ذلك. وإمَّا لغلبة شهوة فيقضيها فيتولد من ذلك الولد. وإمَّا لوراثة ملكه بعد موته، وهو دائم باق لا يزول ملكه أبدًا. وإمَّا للاستعانة والنصرة على أعدائه. لأحد هذه الوجوه التي ذكرنا يحتاج المرء إلى اتخاذ الولد، واللَّه قادر بذاته قاهر غني لا يحتمل ما ذكروا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) يحتمل قوله: (بِالْحَقِّ)، أي: بالحق الذي لله عليهم، ولما لبعض على بعض من الحق. أو أن يكون قوله: (بِالْحَقِّ) أي: للحق، وهو البعث ما لو لم يكن البعث، لكان خلقهما عبثًا باطلا على ما ذكر في آية أخرى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ). وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ)، أي: بالحكمة، وهو أن جعل في خلقة كل شيء أثر وحدانيته وألوهيته ما يعرف كل أنه فعله وإن لم يشاهد خلقه، وهو على ما يكون ذلك في فعل أحد من الخلائق أثر معرفة فاعله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ)، كما ذكر في آية أخرى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)، يذكر دلالة وحدانيته؛ حيث جعل منافع الليل متصلة بمنافع النهار، ومنافع النهار متصلة بمنافع الليل، على اختلافهما وتناقضهما وتضادهما؛ ليعلم أنهما فعل واحد، وكذلك ما جعل من منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما؛ ليعلم أن منشئهما واحد، إذ لو كان عددًا لامتنع ذلك؛ إذ العدد المعروف من عادة الملوك انفراد كل بملكه وسلطانه، والاستيلاء

(6)

على ما استوى وقبض بَزَّ الآخر ومنع نفاذ أمره في سلطانه، فإذا لم يمتنع ذلك دل أنه فعل واحد، وكذلك ما ذكر من تسخير الشمس والقمر لهم ولمنافعهم وجريهما في يوم واحد مسيرة ألف عام، أو ما ذكر من غير أن يعرف أحد سيرهما أنهما يسيران وقت سيرهما إلا بعد قطعهما ذلك، دل أن لهما منشئًا وأنه واحد، ودل اتساقهما وجريانهما على سير واحد منذ كانا إلى آخر ما يكونان ويدوران على أن منشئهما واحد عالم مدبر عرف حاجة الخلق، إليهما أبد الآبدين ومنافعهما بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى). أي: كل مما ذكر يجري إلى الوقت الذي جعل له لا يتقدم ولا يتأخر ولا ينقطع ما كان بالخلق حاجة إليه، واللَّه اعلم. أو إلى منازل معلومة لا يجاوزانها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ). هو العزيز بذاته لا يتعزز بما ذكروا له من الأولاد ولا بطاعة من أطاعه، الغفار لمن كان له أهلا للمغفرة ما لا يخرج مغفرته إياه عن الحكمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: يدخل أحدهما على الآخر؛ كقوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ) أي: يُغشي أحدهما بالآخر؛ كقوله: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُكَوِّرُ)، أي: يلف هذا بهذا، وهو من يكور العمامة، ومنه قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، أي: جمعت ولفت، وأصل التكوير: اللف والجمع؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) ظاهر هذا أنه خلقنا من تلك النفس قبل خلق زوجه منها؛ لأن حرف (ثُمَّ) إنما هو حرف إتباع وإرداف وحرف ترتيب لا حرف جمع، فإذا كان كذلك فظاهره يوجب ما ذكرنا، لكن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك وتفسيره: ذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في بعض الروايات أنه تأول في ذلك، وقال: -

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) عَزَّ وَجَلَّ - (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أو كلام نحو هذا. وعندنا أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) يخرج على ظاهر ما ذكر؛ لأن الخلق: هو التقدير في اللغة كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أي: قدركم جميعًا على كثرتكم من أول ما أنشأكم إلى آخر ما ينشئكم من تلك النفس الواحدة منها قدرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا). ثم أخرجنا منها -من تلك النفس- زوجها، وإلا كان تقديره إيانا منها كان قبل جعل زوجها منها وهو الظاهر على ظاهر ما خرج الكلام، واللَّه أعلم. ثم كان منه خلق ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ). ظاهر الإنزال هو أن ينزل من علو مرتفع إلى تسفل ومنحدر، لكن اللغة لا تمتنع عن استعمال لفظ الإنزال لا على حقيقة الإنزال من علو إلى سفل، يقال: نزل فلان بأرض أو بمكان كذا وإن لم يكن هناك منه نزول من علو إلى منحدر وسفل، فعلى ذلك هذا، وأصله أن كل حرف من حروف الإنزال وغيره مما أضيف إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مما يستقيم صرفه إلى خلقه أن المراد منه خلقه؛ نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ)، (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)، وغير ذلك مما يكثر ذكره فهو خلقه إياه؛ فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ)، أي: خلق لكم من الأنعام ما ذكر على ما ذكر: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ)، أي: خلق لكم ما ذكر، فعلى ذلك حرف الإنزال، واللَّه أعلم. ثم ظاهر قوله: (مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) يجيء أن يكون على أحد وجوه ثلاثة: إما ألا يسمي الأنعام ولا يكون إلا الثمانية الأزواج التي ذكر أنه خلقها لنا، فإن كان على هذا فيكون حرف (مِن) هاهنا صلة، كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: " وأنزل لكم أنعامًا وهي ثمانية أزواج ". أو أن يسمي كل ما خلق من الدواب: أنعامًا، إلا أنه لم يحل لنا منها إلا الثمانية الأزواج التي ذكر، فإن كان هذا فيكون حرف (مِن) حرف تبعيض وتجزئة. أو أن يسمي كل الدواب: أنعامًا إلا أنه لم يحل لنا كل شيء منها من جميع أنواع الانتفاع بها من الأزواج التي ذكر، فإنه قد أحل لنا كل شيء من هذه الأصناف الثمانية من لحومها وألبانها وأصوافها وكل شيء منها، وأما ما سوى ذلك من الأنعام، فإنه لم يحل لنا

كل شيء منها من اللحوم وغيرها، ولكن أحل لنا الانتفاع بظهورها من نحو الحمير والبغال وغير ذلك مما يشتهى، واللَّه أعلم. ثم الثمانية الأزواج التي ذكر أنها خلقها لنا في هذه الآية هي التي ذكرها في سورة الأنعام وهو قوله: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ. . .)، إلى قوله: (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ. . .)، إلى آخر ما ذكر، فيشبه أن يكون ما ذكر من ثمانية الأزواج أنه أنزل لنا في سورة الزمر التي هي أحل لنا كل شيء منها، وأما ما سوى ذلك فإنه إنما أحل لنا الانتفاع بها لم يحل لنا أكلها؛ لأنه ذكر في سورة الأنعام الأكل، ثم ذكر على أثر هذه الثمانية الأزواج الإبل والبقر والضأن والمعز، حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)، ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ. . .)، إلى آخر ما ذكر، وهذا يدل على أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) إنما هو مما ذكر، أي: لا أجد محرمًا من هذه الأصناف الثمانية إلا ما ذكر من الدم والميتة ولحم الخنزير. ثم يخرج استثناء لحم الخنزير مخرج استثناء غير جنس المذكور على إضمار كون ذلك الغير فيه، وذلك غير جائز في الكلام؛ كقوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، كأنه قال: أحلت لكم بهيمة الأنعام والاصطياد (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ)؛ فعلى ذلك الأول كأنه أضمر فيه استثناء لحم الخنزير منه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ). قال أهل التأويل: تحويله من حال إلى حال من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة حتى يتم خلقًا مستويًا. (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ). قيل: الرحم والبطن والمشيمة، وقيل: الظهر، يخبر عن قدرته وعلمه وتدبيره: أنه حيث قدر على خلق الإنسان وكل خلق في تلك الظلمات الثلاث والتسوية بين كل شيء منه من اليدين والرجلين والعينين والأذنين والسمعين والبصرين وقسمة الأعضاء على السواء حتى لا يزداد إحدى اليدين على الأخرى، وكذلك إحدى الرجلين وإحدى العينين

(7)

وإحدى الشفتين، وكذلك كل شيء منه في تلك النطفة من العينين واليدين والرجلين والبصر وكل الجوارح ما لو اجتمع الحكماء جميعًا حكماء البشر لم يعرفوا كون شيء من الجوارح والنفس وتقديرها من تلك النطفة وتصويرها منها؛ ليعلم أنه قادر على خلق الأشياء من شيء ومن لا شيء وبسبب وبغير سبب وما جعل من الأسباب لبعض الأشياء لم يجعلها استعانة منه بها على إنشاء ذلك، وأن من قدر على تقدير ما ذكر وتصويره في الظلمات التي ذكر على السبيل التي ذكر، فإنه لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه شيء، يحتج عليهم لإنكارهم البعث وإنكارهم بعث الرسل والحجج، يخبر أن من فعل ما ذكر من تغييرهم من حال إلى حال وتحويلهم من صورة إلى صورة أخرى أنه لا يفعل ذلك ليتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يمتحنهم، ثم إذا امتحنهم لا يحتمل ألا يبعثهم؛ ليجزي المسيء منهم والعاصي جزاء الإساءة والعصيان والمحسن منهم والمطيع جزاء الإحسان والطاعة؛ لأنه قد سوى بينهم في هذه الدار وفي الحكمة، والعقل يقتضي التفريق بينهما فلابد من دار أخرى يفرق بينهما فيها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ). يحتمل (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) أي: ذلكم اللَّه الذي ذكر من تقديركم وتصويركم في ظلمات تلك النطفة هو ربكم الذي فعل ذلك. أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي: جميع ما ذكر من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ)، وما ذكر من تسخير الشمس والقمر وجريانهما على سنن واحد وعلى قدر واحد، وما ذكر من خلقنا جميعا من تلك النفس أن واحدة إلى آخر ما ذكر، يقول: ذلكم اللَّه الذي فعل ذلك كله هو ربكم (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي: فأنى تصرفون عبادتكم إلى غيره، أو فأنى تصرفون ألوهيته وربوبيته إلى غيره وتجعلون له شركاء وأعدالا، وقد تعلمون أن الذي فعل ذلك كله هو اللَّه الواحد الذي لا شريك له ولا مثل. أو يذكر أن ما ذكر من النعم التي أعطاكم وأسدى إليكم هو ربكم الذي خلقكم، فكيف تصرفون شكرها إلى غيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي: تكفرون دين اللَّه الإسلام ولم تسلموا فإنه لا يقبل منكم، (وَإِنْ تَشْكُرُوا) أي: وإن تسلموا

(يَرْضَهُ لَكُمْ) أي: يقبل منكم؛ كقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ). وقال غيره: أي: إن تكفروا دينه فإن اللَّه غني عن عبادتكم، (وَإِنْ تَشْكُرُوا)، أي: توحدوه (يَرْضَهُ لَكُمْ) من الأول. وجائز أن يكون قوله: (إِنْ تَكْفُرُوا) النعم التي عدها عليكم فيما تقدم ذكرها من قوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ)، وقوله: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ. . .) إلى آخر ما ذكر من النعم يقول: إن تكفروا هذه النعم التي عدها عليكم فإنه غني عنكم، وإن تشكروا ما عد عليكم من النعم يقبل ذلك منكم، واللَّه أعلم. وأصله أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بين سبيل الهدى ورغبهم إليه، وبين سبيل الضلال وحذرهم عنه، ثم بين أن من سلك سبيل الهدى فله كذا ومن سلك سبيل الضلال فله كذا، وأفضى إلى كذا. أو أن يقول: إن من سلك سبيل الهدى يرضى لنفسه عاقبة السبيل الذي سلك فيه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ. لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ)، ومن سلك سبيل الضلال والكفر يمقت ذلك السبيل في العاقبة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، أخبر أنهم يمقتون أنفسهم إذا نودوا وعرفوا أنهم أخطأوا الطريق، وباللَّه العصمة. وذكر في حرف عبد اللَّه بن مسعود: (واللَّه يكره لعباده الكفر)، وقوله: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)، وكذلك ذكر هذا في حرف أبي وحفصة خاصة. وأصل قوله: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ) إخبار أنه لم يأمركم بما أمركم به ولا نهاكم عما نهاكم عنه لحاجة نفسه أو لمنفعة له في ذلك، ولكن إنما امتحنكم بما امتحنكم لحاجة أنفسكم ولمنفعتكم ولدفع الضرر عنكم؛ وكذلك ما أنشأ من الأشياء لم ينشئها لحاجة نفسه ولا لمنفعة له، ولكن إنما أنشأها لكم ولمنافعكم. وكذلك نقول: لم ينشئها لأنفسها حتى إذا أتلف شيئًا منها عوضها بدلها على ما تقول المعتزلة أن ليس لله أن يتلفها إلا أن يعوضها عوضًا بإزاء ذلك، ولكن إنما أنشأها لكم لليسر ولهم يعزر من أتلف شيئًا منها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). ذكر هذا - واللَّه أعلم - جوابًا لقولهم حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ. . .) الآية، أخبر أن لا أحد يحمل وزر آخر، ولكن يحمل وزر نفسه.

(8)

والثاني: يخبر أن أمر الآخرة على خلاف أمر الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يحمل بعض آثام بعض وأوزار بعض، فأما في الآخرة فإنه لا يحمل أحد وزر آخر ولا آثامه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ. . .) الآية. خص البعث بالرجوع إليه مرة وبالمصير ثانيًا والبروز له، ونحو ذلك، وإن كانوا في جميع الأحوال راجعين إليه صائرين؛ لأن المقصود من إنشائهم في هذه الدنيا ذلك البعث، فخص لذلك رجوعًا إليه، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). قال أهل التأويل: إنه عليم بما في الصدور، وعندنا عليم بكل ما يصدر من الخير والشر، وذكر (بِذَاتِ الصُّدُورِ)؛ لأن أصحاب الصدور هم يصدرون ويظنون في صدورهم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) وقوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ). أخبر اللَّه الخلق ما كان من عادة الكفرة في غير آي من القرآن أنهم كانوا يخلصون الدِّين لله ويتضرعون إليه إذا مسهم بلاء أو شدة، إذا ركبوا البحر، وكان لهم خوف الهلاك في ذلك وفزع؛ كقوله - تعالى -: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. . .) والآية، وغير ذلك من الآيات، وكذلك كل بلاء وشدة أصابتهم، فزعوا إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وتضرعوا إليه، ثم إذا كشف الضر عادوا إلى ما كانوا من قبل. وقوله: (نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) يحتمل قوله: (نَسِيَ) ألا تملك الأصنام التي عبدوها دفع ذلك عنهم ولا كشفه. أو نسي ألا ينفع لثمفاعتهم إياهم ونحوه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، أي: نسوا ما علموا من عجز الأصنام ونحوه. وقوله: (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ). كأن الآية في الرؤساء منهم جعلوا أندادًا ليضل الناس عن سبيله، يدل على ذلك: (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا) في الدنيا (إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)، لما علم أنه يختم على الكفر، والله

(9)

أعلم. ثم الحكمة في ذكر هذا وأمثاله لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يحتمل وجوهًا: أحدها: يصبر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على سوء معاملتهم إياه، كما حكى عن سوء معاملتهم ولم يستأصلهم على أثر ذلك وذلك أعظم في العقل. أو يخبر الأواخر عن سوء معاملتهم ربهم ليحذروا عن مثل معاملتهم ربهم. أو يخبر عن حلمه أن كيف عاملهم فاحلم أنت، واللَّه أعلم. وقرئ: (لِيُضِلَّ) و (لِيَضِلَّ) فيه ثلاث لغات. وقوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه الآية صلة ما تقدم من قوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) يقول: الذي تضرع إلى اللَّه، وأخلص دينه له، نسي ذلك وتركه إذا خول ذلك نعمة، وجعل لله أندادًا ليضل عن سبيله - كالذي هو قانت - أي: مطيع لله - آناء الليل والنهار يحذر عذابه ويرجو رحمته، ليسا بسواء عندكم: الذي أطاع اللَّه في جميع أوقاته حاذر تقصيره في ذلك راجٍ رحمته لطاعته، والذي عصى ربه ولم يطعه، فإذا عرفتم أنهما ليسا بسواء ثم رأيتم أنهما قد استويا في نعم هذه الدار وسعتها وشدائدها وفي الحكمة التفريق بينهما، فلابد من دار أخرى يفرق بينهما فيها يثاب المحسن المطيع جزاء إحسانه وطاعته، ويعاقب الكافر الظالم جزاء كفره وظلمه، واللَّه أعلم. ومنهم من يجعل لهذه الآية مقابل لكنه يقول: مقابلها ليس الأول، ولكن لم يذكر لها مقابل ويقول على ما عرفتم أنه لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، فعلى ذلك لا يستوي الذي أطاع ربه آناء الليل وأجهد نفسه في عبادة اللَّه والذي عصى ربه وكفر فعمه، وقد ظهر الاستواء بينهما في هذه الدنيا فلابد من التفريق بينهما في دار أخرى، ولو لم يكن دار أخرى فيها يفرق ويميز، لكان خلق هذا العالم على ما كان باطلا سفها غير حكمة، والله أعلم. وقوله: (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ). أي: يحذر عذاب الآخرة، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود أنه قرأه: (يحذر عذاب الآخرة).

(10)

وقوله: (وَيَرْجُو رَحْمَةَ) دلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الرجاء والحذر يرجو رحمته لا عمله ويحذر عذابه لتفصيره في عمله. ثم الرجاء إذا جاوز حده يكون أمنا، وقد قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)، والخوف إذا جاوز حده يكون إياسا، وقد قال اللَّه - تعالى -: (لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، ويجب أن يكون المؤمن كما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)، و (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)، لا يجاوز أحدهما. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)، أي: جنته على ما سمى الجنة: رحمة في غير موضع؛ لما برحمته تنال هي، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ). في معرفة نعم اللَّه والقيام بشكره، والحذر عن عصيانه وعذابه. وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ). في كل ذلك، جوابه أن يقال: لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). وقوله: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ). إنما يتذكر بمواعظ اللَّه أولو العقول والبصر والمعرفة، واللَّه أعلم. وقوله: (آنَاءَ اللَّيْلِ) أي: ساعات الليل، و (قَانِتٌ) أي: مطيع، وأصل القنوت هو الطاعة، وقيل: القنوت: القيام، وهو القيام في الطاعة، واللَّه أعلم. وفي قوله: (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) دلالة جواز الإرجاء؛ لأنه لم يقطع على أحدهما دون الآخر؛ وكذلك في قوله تعالى: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)، وفي قوله: (رَغَبًا وَرَهَبًا)، وفي القطع على أحدهما كفر على ما ذكرنا من قوله: (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ)، و (لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)؛ إذ المجاوزة في الخوف إياس، والمجاوزة في حد الرجاء أمن وقد ذكرنا أنه كفر. وقوله: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) يحتمل قوله: (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) وجوهًا: اتقوا سخط ربكم. أو اتقوا نقمة ربكم.

أو اتقوا مخالفة ربكم ونحوه. وأصل التقى: ما تهلكون، أي: اتقوا مهالككم، واللَّه أعلم. وقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ). قال عامة أهل التأويل: للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة لهم في الآخرة. وجائز أن يكون لهم الحسنة في الدنيا وفي الآخرة حسنة؛ كقوله: (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ. . .) الآية؛ وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ). ثم يحتمل الحسنة وجهًا آخر: استغفار الملائكة لهم والأنبياء - عليهم السلام - لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - امتحن ملائكته على استغفار المؤمنين والمؤمنات؛ كقوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ)، وكذلك امتحن رسله بالاستغفار للمؤمنين، وكذلك المؤمنون يستغفر بعضهم لبعض ونحوه. وقوله: (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ). ذكر هذا - واللَّه أعلم - لأن من آمن منهم بمكة كانوا يظهرون الموافقة لأعدائهم ويقيمون فيما بينهم، وكانت لهم أسباب التعيش في بلدهم ولم يكن لهم تلك في بلد غيرهم، فخافوا الضياع إذا هم خرجوا من بلدهم فيهاجروا منها إلى غير بلدهم فيمتنعون عن ذلك، فجاءت الآية على الترجي والإطماع لهم بمثل ذلك التعيش وأسبابه في غير ذلك البلد، وهو ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا)، لم يقدروا في تركهم الهجرة وإظهارهم الموافقة للأعداء، ولهم طاقة ووسع التحول من بلدهم إلى بلد غيرهم، إلا من لم يكن به طاقة الخروج من بينهم وهم الذين استثناهم وهو قوله: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. . .) الآية، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وجوهًا: أحدها: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: بغير تبعة ولا مئونة؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من نوقش الحساب عذب ". أو (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: لا يحاسبون؛ لما ليس وراء تلك الدار الآخرة دار أخرى يحاسبون فيها ما أعطوا في الآخرة ليس كدار الدنيا يحاسب من أوتوا فيها في الآخرة، وأما ما أعطوا في الآخرة فلا يحاسبون في غيرها. وحمل (بِغَيْرِ حِسَابٍ)، أي: غير مقدر بالحساب، ولكن أضعافًا مضاعفة. ويحتمل (بِغَيْرِ حِسَابٍ)، أي: بلا نهاية ولا غاية، واللَّه أعلم. ثم الصبر: هو حبس النفس إما على أداء ما أمر اللَّه به والانتهاء عما نهى اللَّه عنه، أو

(11)

حبسها وكفها في احتمال ما حملت من الشدائد والمصائب والمؤن العظام، احتملوا ذلك ولم يجزعوا، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ. . .) الآية. وقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، ونحوه. * * * قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وقوله: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12). يحتمل أن يكون قال هذا؛ لما أن أهل مكة كانوا يدعون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى دينهم ودين آبائهم، وكانوا يطمعون عوده إليهم، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) ذكر هاهنا أنه أمر أن يعبد اللَّه مخلصًا له الدِّين، وقال في آية أخرى: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. . .) الآية، وقال في آية أخرى: (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا. . .) الآية، أخبر أنه لو اتبع أهواءهم فيما هم فيه يضل وما كان من المهتدين، ذكر في هذه الآيات النهي وترك اتباعه أهواءهم، ولم يذكر الأمر فيها بعبادة اللَّه تعالى مخلصًا له الدِّين. أو أن يقول: إني إذا أمرتكم بعبادة اللَّه أمرت أنا أيضًا في نفسي أن أعبده مخلصًا، لست أنا كمن يأمر غيره شيئًا ولا يأتمر بنفسه، أو هو غير مأمور بذلك وهو ما قال: (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ). أو يقول: لست أنا كالملوك يأمرون أتباعهم بأشياء ويستعملونهم في أمورهم ولا يستعملون في ذلك أنفسهم، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) الخوف هاهنا ليس هو حقيقة الخوف، ولكن العلم كأنه قال: إني أعلم إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، فآيسهم باللَّه بالمدينة عن عوده إلى دينهم، وقطع طمعهم عنه، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ)، فأما ما داموا بمكة فإنهم كانوا طامعين في ذلك راجين فيه، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ). إنه يخرج هذا الحرف منه مخرج التهدد لهم والتوعد، يقول: أما أنا فإنما أعبد الله الحق وله أخلص ديني، فاعبدوا أنتم ما شئتم فإنه يجزيكم جزاء عبادتكم، كقوله تعالى:

(15)

(اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ. . .) الآية، وذلك معروف في كلام الناس، يقول الرجل: اعمل ما شئت أو قل ما شئت فإن لك الجزاء كما تعمل؛ على الوعيد، فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ... (15) واللَّه أعلم. ويحتمل وجهًا آخر لا على الوعيد، ولكن يقول: قد بينت لكم وأوضحت السبيلين جميعًا بالآيات والحجج: سبيل النجاة الذي إذا سلكتموه نجوتم، وهو سبيل اللَّه، وسبيل الهلاك الذي إذا سلكتموه هلكتم، وهو سبيل الشيطان، فإن أردتم النجاة فاسلكوا سبيل كذا، وإن أردتم سبيل الهلاك فاسلكوا سبيل كذا، واللَّه أعلم. ثم قوله: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). كناية لما أمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم النار حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)؛ ليكون لهم أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ويسلم لهم ذلك، وقد مكن لهم ذلك وهلكوا فتركوا ذلك ولم يقوها ولا أهليهم النار، قال عند ذلك: (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) ألا عند ذلك يتبين لهم أنهم خسروا أنفسهم وأهليهم. أو أنهم قد أمروا بالسعي للآخرة والعمل لها، ووعدوا إذا سعوا لها وعملوا النجاة في الآخرة والحياة الدائمة والأهل في الجنة، وإذا لم يسعوا لها ولم يعملوا خسروا أنفسهم والأهل الذين وعدوا فيها إذا سعوا وهلكت أنفسهم، (أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) ألا هنالك يتبين لهم أنهم خسروا خسرانًا بينًا، واللَّه أعلم. وقوله: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ... (16) أن يكون ما كان تحتهم من النار أن يوصف بالمهاد لهم لا بالظلل؛ كقوله تعالى: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ)، وكذلك في حرف ابن مسعود أنه قال: (ولهم من تحتهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ذلك يخوف اللَّه به عباده)، واللَّه أعلم. لكن جائز أن يكون الظلل التي تحتهم هي ظلل لمن تحتهم، وهي لأُولَئِكَ الذين فوقهم مهاد وللذين ليس تحتهم أحد مهاد أيضًا - واللَّه أعلم - لأن النار دركات وأطباق؛ ليكون كل طبقة لمن تحتها ظلل ولمن فوقها مهاد على ما ذكرنا. وقوله: (ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ). أي: ذلك الذي ذكر في القرآن من المواعيد يخوف اللَّه به عباده. (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ). اتقوا سخط اللَّه ونقمته، أو اتقوا مخالفة اللَّه، أو اتقوا المهالك.

(17)

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ. أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) وقوله: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا). اختلف في الطاغوت: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الشيطان، أي: اجتنبوا من أن يأتمروه وأطاعوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الطاغوت هم الكهنة، كانوا يأتون الكهنة فيخبرونهم بأمور فيعملون بقولهم ويصدقونهم، يقول: أي: اجتنبوا من أن تطيعوا الكهنة في أمورهم ونهيهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل معبود دون اللَّه فهو طاغوت، وهو من الطغيان وهو المجاوزة عن الحد. واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ) وأقبلوا ورجعوا إلى ما أمرهم اللَّه به، أو رجعوا إلى ما به طاعته وتركوا ما به مخالفته، وانتهوا عن مناهيه، والإنابة إلى اللَّه هي الرجوع إلى أمر اللَّه وإلى ما به طاعته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمُ الْبُشْرَى). وهو ما ذكر في قوله: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)، فعلى ما ذكر لهَؤُلَاءِ من البشرى لهم في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنهم أولياء اللَّه. وقوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ... (18) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الذين يستمعون كلام الناس من الخير والشر والحسن والقبيح فيتبعون أحسنه، أي: يرون ويحكمون منه ما هو خير وحسن، ويتركون ما هو شر وقبيح. وقال بعضهم: يستمعون القرآن وكلام الناس وأحاديثهم، فيأخذون بالقرآن ويتبعونه ويتركون كلام الناس وأحاديثهم، فهو اتباع الأحسن منه وهو القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يستمعون القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ، فيتبعون أحسنه، أي: ناسخه، ويعملون به ويتركون منسوخه لا يعملون به.

(19)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يستمعون إلى القرآن وفيه الأمر والنهي فيتبعون أمره وينتهون عما نهى عنه، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله: (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)، أي: يتبعون الحسن منه الأحسن، بمعنى: الحسن، واللَّه أعلم. وقال قائلون: فيتبعون أحسن ما في القرآن من الطاعة منه؛ كقوله: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا. . .) الآية، وتأويله ما ذكرنا: أن خذوا ما فيه من الأمر وأتمروا به وانتهوا عما فيه من المناهي، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ). أي: أُولَئِكَ هم المنتفعون بلبهم وعقولهم؛ حيث اختاروا وآثروا هداية اللَّه ونظروا إليها بالتعظيم والإجلال واهتدوا. وقوله: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) ذكر اللَّه - تعالى - في هذه السورة أشياء لا يعرف لها أجوبة في الظاهر إلا بالتأمل والاستدلال على غيره، من ذلك ما ذكر: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) كأنه يقول - واللَّه أعلم -: أفمن حق عليه العذاب كمن له البشرى في الآخرة؛ لأنه ذكر فيما تقدم للمؤمنين البشرى حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى. . .) الآية، على هذا يخرج جوابه: أفمن وجب عليه العذاب كمن وجب له البشرى، لا سواء. أو أن يقول: أفمن حق ووجب عليه العذاب كمن شرح صدره للإسلام، أي: ليس الذي وجب عليه العذاب كالذي شرح صدره للإسلام. أو أن يقول: هذا لنازلة كانت لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لحرصه على إسلام قوم أحب أن يسلموا، فقال هذا له على الإياس من إسلامهم؛ يقول: أفمن وجب عليه العذاب، أفأنت تنقذه وتخلص من النار من قد وجب عليه العذاب، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)؛ وكقوله: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) كان لا يقدر أن يكرههم على الإسلام، لكنه كان يحب ويحرص على إسلامهم ويحزن لتركهم الإسلام؛ كقوله: (وَلَا تَحزَن عَلَيهِمْ)، وقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفسَكَ)، (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، ونحو ذلك، كان يحزن وكادت نفسه تتلف إشفاقًا عليهم، فيقول: أفمن وجب وحق عليه

(20)

العذاب، أتقدر أن تنقذه من النار؟ أي: لا تقدر على ذلك، واللَّه أعلم. ثم بين الذين أنقذوا من النار، وهم الذين اتقوا ربهم، حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20). يحتمل اتقوا مخالفة ربهم، واتقوا سخط ربهم ونقمته. ثم بين ما أُعد لهم في الآخرة، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) ذكر أن لهم غرفًا في الجنة، والغرف على الغرف في الشاهد إنما تتخذ لضيق المكان، لكن ذلك في الجنة ليس لذلك ولكن لما كان عرف من رغبة الناس في الدنيا في الارتفاع والعلو والكراهية للتسفل والانحدار في الأرض رغبهم في الآخرة على ما رغبوا وأحبوا في الدنيا، ولكن لأهل الجنة الدرجات ولأهل النار الدركات. ثم قوله: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). يخبر أن أمر الجنة على خلاف أهل الدنيا؛ إذ في الدنيا كلما ارتفع وعلا من البنيان كان الماء منها أبعد والوصول إليه أصعب، فأخبر أنهم وإن كانوا في الغرف والدرجات فأبصارهم مما تقع على الماء والماء لا يبعد عنهم ولا يصعب، واللَّه أعلم. ثم ذكر في الغرف البناء وذكر في السماء أنه بناها، فلم يفهم من بنائه ما ذكر ما فهم من بناء الخلق، فكيف فهم من مجيئه وغير ذلك ما فهم من مجيء الخلق وإتيانهم لولا ما كان فيهم من فساد اعتقادهم، واللَّه أعلم. ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ)؛ لأن من وعد في الشاهد وعدًا ثم أخلفه إنما يخلفه لحاجته، أو لما يبدو له من البدوات فيرجع عما وعد، واللَّه - سبحانه وتعالى - منزه عن ذلك كله، لا يحتمل خلف الوعد منه. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) وقوله: (أَلَمْ تَرَ) ونحوه يخرج على وجهين: أحدهما: على الخبر (أَلَمْ تَرَ) أي: قد رأيت. والثاني: على الأمر: أن رَهْ.

ثم الخطاب، وإن كان في الظاهر لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو لكل أحد يحتمل النظر والتأمل، ثم جهة الحكمة المودعة فيها ما ذكر من إنزال الماء من السماء، وجعله ينابيع في الأرض، والينابيع هي العيون التي تخرج من الأرض، والآبار التي جعلت فيها؛ ليعلم أنّ المياه الخارجة من الأرض والجارية فيها أصلها من السماء، منزلة منها، وهي طهور؛ على ما أخبر أنه أنزله طهورًا، وإن اختلف طبعه لاختلاف جواهر الأرض ما لم يخالطه شيء من جواهر الأرض من القذر والنجاسة وغيرها من الألوان التي تخرجه عن أن يكون طهورًا وتغيره عن جوهره الذي أنزل من السماء، ثم جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في سِرية ذلك الماء معنى ولطفًا ما يوافق جميع الأشجار والنبات، وكل خارج من الأرض وإن اختلفت جواهرها وألوانها وطعمها؛ ليعلم أن من قدر على جعل ما جعل في الماء من اللطف، والمعنى الذي يوافق كل شيء من النبات والشجر وإن اختلفت جواهرها وألوانها وطعمها، لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، ولا قوة إلا باللَّه. أو أن يقول: إن من تكلف زرع الزراعة في الأرض، ويتحمل المؤن العظام إلى أن بلغ المبلغ الذي ينتفع به وينال منه النفع فتركه لم ينتفع به؛ أليس يوصف بالسفه وبغير الحكمة، فكذلك اللَّه - سبحانه - لما أنشأكم صغارًا طفلا وغذاكم بألوان الأغذية والأطعمة حتى كبرتم وبلغتم مبلغ الانتفاع بكم، ثم أتلفكم بلا عاقبة تقصد في ذلك كان غير حكيم، وقد عرفتموه حكيمًا؛ فدل أن المقصود في ذلك كله حتى يكون إنشاؤه إياكم صغارًا وتربيته إياكم بالوان الأغذية التي جعل لكم حكمة - هو البعث ما لولا ذلك كان سفهًا غير حكمة؛ على ما ذكر من إخراج الزرع من الأرض بالماء الذي أخرج، ثم تركه فيها حتى صار يابسًا لا ينتفع به كان سفيهًا غير حكيم، فعلى ذلك ما كان عند أُولَئِكَ الكفرة أن لا بعث كان ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي: فيما يذكر من إنزال الماء من السماء وإدخاله في الأرض وإخراج ما ذكر منها به وما ذكر - موعظة لأولي الألباب؛ أي: لمن انتفع بلبه وعقله؛ لما ذكرنا، وما ذكر لأهل الجنة من الغرف وغير ذلك. وقوله: (فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ) أي: أدخله فيها وجعله ينابيع؛ أي: عيونًا. وقوله: (ثُمَّ يُخْرِجُ) أي: ييبس. وقوله: (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا) متكسرًا مثل الرفات والفتات، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ، ويقال: هاجت الأرض: إذا ابتدأت في اليبس، حطاما، أي: متكسرا.

(22)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22). قيل: (شَرَحَ اللَّهُ): وسع اللَّه. وقيل: رحب اللَّه. وقيل: لبى اللَّه، ونحوه؛ وكله واحد. ثم يحتمل قوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) فيسلم (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)، أي: يجعل اللَّه في صدره النور؛ أي: يجعل إذا أسلم حتى يبصر الحق وُحججه وبراهينه بصورة الحق أنه حق، والباطل أنه باطل، وأنه تمويه، يبصر كل شيء بذلك النور على ما هو حقيقة أنه حق وباطل، فيأخذ الحق ويعمل به، ويترك الباطل ويجتنبه، واللَّه أعلم. أو أن يكون قوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)، يكون نوره هو إسلامه الذي هداه شرح صدره لنوره حتى أسلم، وهو ما روي في الخبر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل أنه: هل ينشرح الصدر للإسلام؟ وكيف ينشرح؟ فقال نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إذا دخله النور انشرح لذلك الصدر، وانفسح له "؛ أخبر أن النور إذا دخل الصدر انشرح لذلك الصدر، وانفسح له بذلك النور، واللَّه أعلم. وجائز - أيضًا - أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) في الدنيا (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) في الآخرة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ. .) الآية، والذين كفروا طبع اللَّه على قلوبهم فتظلم وتفسق لما تبقى في الظلمة أبدًا، واللَّه أعلم. ومنهم من قال: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ): الإسلام نفسه إذا أسلم (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) كتاب اللَّه، قال: هذا المؤمن به يأخذ، وإليه ينتهي، وما سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: هل لذلك - أي: لانشراح الصدر للإسلام - علامة؟ فقال: " نعم؛ التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل حلول الموت "، فهذا في التحقيق ليس في المعاملة في العمل، ولكن في الاعتقاد؛ أي: يتجافى عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود: يتزود من الدنيا للآخرة. ثم قوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) يحتمل أن يكون على الاستفهام؛ على ما ذكر.

(23)

ويحتمل ألا يكون على الاستفهام، ولكن على الإيجاب، فإن كان على هذا فهو على إسقاط الألف: فمن شرح اللَّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه. . . الآية؛ كقوله في آية أخرى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا)، فعلى ذلك يحتمل أن تكون هذه الآية على هذا، واللَّه أعلم. وإن كان على الاستفهام فلابد أن يكون له مقابل يعرف ذلك بدليل أنه جواب. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: جوابه في قوله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) كأنه يقول: ليس المنشرح صدره للإسلام كالقاسي قلبه بالكفر؛ وهو قول الكسائي. وجائز أن يكون جوابه ومقابله ما تقدم ذكره، وهو قوله: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ. . .) الآية؛ كأنه يقول: أفمن حق عليه العذاب كمن شرح صدره للإسلام؛ أي: ليس من وجب عليه العذاب كمن شرح صدره للإسلام فهو على نور من ربه، واللَّه أعلم. وقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ): أصدقه خبرًا، وأعدله حكمًا، وهو ما ذكر في آية أخرى، ووصفه بالصدق والعدل؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا)، أي: صدقًا فيخبره، وعدلا في حكمه، فعلى ذلك يحتمل قوله: (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) خبرًا، وأعدله حكمًا، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله: (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)، أي: أتقنه وأحكمه، وهو متقن ومحكم، وهو على ما وصفه بالصدق والعدل في آية أخرى قال: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، أخبر أنه لا يأتي القرآن باطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك لإتقانه وإحكامه، واللَّه أعلم. وهو أحسن الحديث؛ لأن من تأمله ونظر فيه وتفكرّ أنار قلبه، وأضاء صدره، وهداه سبيل الخير والحق، ودفع عنه الوساوس والشبهات وكل شر، وأفضاه إلى كل خير وبرّ فهو أحسن الحديث؛ إذ لا حديث يعمل ما يعمل هو؛ لما ذكرنا، وغير ذلك، والله أعلم. وقوله: (كِتَابًا مُتَشَابِهًا) قوله: (مُتَشَابِهًا) أي: ليس بمختلف ولا متناقض، ليس كحديث الناس وكتبهم مما يختلف ويتناقض حديثهم وكتابهم، وخاصة فيما امتد من الأوقات وطال وبعدت مدته، وهو ما ذكر: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. . .)، دل كونه متفقًا، متشابهًا، غير مختلف في طول نزوله، وتفرق أوقاته، وتباعد أيامه في الإنزال - أنه من عند اللَّه نزل، ومنه جاء؛ إذ

لو لم يكن من عنده لخرج مختلفًا متناقضًا على ما يخرج حديث الناس وخبرهم مختلفًا ومتناقضًا، واللَّه أعلم. وقوله: (مَثَانِيَ) قال أهل التأويل: سماه: مَثَانِيَ؛ لما ثنّى فيه أنباؤه وقصصه مرة بعد مرة، وأصله: أنه سماه: مَثَانِيَ؛ لأنه ذكر فيه المواعظ والذكرى وكررها في غير موضع، لما لو لم يكررها غفلوا عنها، وسهوا عنها؛ لأن الحكيم إذا وعظ أحدًا عظة وزجره وسها عنه كررها عليه، وكرر - عَزَّ وَجَلَّ - عليهم المواعظ والزواجر؛ ليكونوا أبدًا متعظين متذكرين لذلك - واللَّه أعلم - لكيلا يغفلوا عنها ولا يسهوا. وقوله: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) قال أهل التأويل: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) عند تلاوة آية الرهبة والخوف، وتلين قلوبهم عند تلاوة آية الرحمة. وجائز أن يكون ذلك لهم بجميع القرآن بما فيه من الرحمة والرهبة جميعًا يكون فيهما الموعظة: تلين قلوبهم وتقشعر جلودهم وتخاف أنفسهم؛ لأن آية الرحمة ليست بأحق بتليين القلوب من آية الرهبة، بل آية الرهبة أحق بذلك. وقتادة يقول: كانت جلودهم تقشعر، وعيونهم تبكي، وقلوبهم تطمئن إليه، ولا تذهب عقولهم، ولا يغشى عليهم، كما رأينا أهل البدع يفعلونه، وإنما ذلك من الشيطان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) قد بين سبيل الهدى والحق، وحججه وبراهينه، وبين سبيل الضلالة والباطل، فمن سلك سبيل الهدى فبتوفيقه سلك، وبمعونته اهتدى، ومن سلك طريق الكفر والباطل فبخذلانه ضل وزاغ. وقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) أخبر أن من أضله اللَّه فلا هادي له، وعلى ما قال في المعيشة والرزق؛ قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ - في الضراء والخير؛ حيث قال: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ)، ذكر في الضلال والهدى ما ذكر في الرزق والضر والخير، ذلك أن لله في فعلهم وصنعهم تدبيرًا، ليس على ما تقوله المعتزلة أن لا تدبير لله في ذلك، وأن من اهتدى إنما يهتدي بنفسه، ومن ضل وزاغ إنما ذلك بنفسه، لا تدبير لله في ذلك، فالآية

(24)

تنقض قولهم ومذهبهم. وقتادة يقول في قوله: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) وإنما يذكر اللَّه أهل الإيمان، فكانت تقشعر بذلك جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم، ولا تذهب عقولهم منه، وأما أن يصرع أحدهم فلم يكن، وإنما كان هذا في أصحاب البدع، وربما هو من الشيطان، ولعمري ما كان في هذه الأمة أحد أعلم من نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومن بعده أصحابه الذين انتخبهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لصحبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإقامة دينه، ولقد سألنا من لقينا من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحاب أصحابه، فحدثوا أن هذا إنما كان في أهل البدع. * * * قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) كأنه لم يذكر مقابل هذا في هذا الموضع، فجائز أن يكون مقابله ما تقدم، وهو قوله: أفمن جعل له الغرف على الغرف تجري من تحتها الأنهار كمن يتقي بوجهه سوء العذاب، ليس هذا كذاك، ولا أحد يتقي بوجهه سوء العذاب، لكن يخرج ذكر ذلك على وجوه: أحدها: كناية عن الشفعاء وأهل النصر، كأنه يقول: لا يكون لهم من يشفع أو يملك دفع العذاب عنهم. أو تكون أيديهم مغلولة إلى أعناقهم بلا يد له يتقي بها سوء العذاب عن وجهه؛ لأن في الشاهد من أصاب شيئًا من العذاب يتقي ذلك العذاب عن وجهه بيده، فيخبر أن لا يد له في الآخرة يتقي العذاب بها عن وجهه؛ بل يصيب العذاب وجهه، فكأنما يتقي به. أو أن يكون ذكر الوجه كناية عن نفسه، وهو ما ذكرنا ألا يكون له من يملك دفع العذاب عنه. أو أن يكون ذكر الوجه كناية عن قلبه أي: يصل وجع ذلك العذاب إلى قلبه، ولا يملك دفعه، واللَّه أعلم.

(25)

وقوله: (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ). يحتمل أي: ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون. أو يقول: ذوقوا ما اخترتم من الكسب، وهذا بما اخترتم؛ لأنه قد بين لهم الكسبين جميعًا، وما يكون لكل كسب في العاقبة، فاختاروا هم الكسب الذي كان عاقبته الذي أصابهم، فكأنهم اختاروا ذلك الذي حل بهم باختيارهم ذلك الكسب، واللَّه أعلم. وقوله: (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) ليخوفهم ويحذرهم ما نزل بالمتقدمين بتكذيب الرسل والعناد بعد ما حذرهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالبعث، وما حل بهم يوم القيامة بذلك؛ فإذ لم يصدقوه فيما يحذرهم يوم القيامة حذرهم بالذي انتهى إليهم الخبر، يعني: رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليحذروا. وقوله: (مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) أي: من حيث لا يأمنون العذاب أنى: ينزل بهم. وقوله: (فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) العذاب الذي نزل بهم في الدنيا ليس هو عذاب الكفر، إنما هو عذاب العناد، والتعنت، وأفعال فعلوها في حال الكفر، فهو في الآخرة أبد الآبدين فيه، خالدين مخلدين فيه؛ ولذلك قال: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) وقوله: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)، أي: بينا للناس في هذا القرآن من كل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم؛ أخبر لهم ما لهم وما عليهم، أو لبعضهم على بعض، وأمثاله، واللَّه أعلم. وقوله: (لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: لكي يلزمهم التذكر والاتعاظ.

(28)

والثاني: لكي يبلغهم ما يتذكرون ويتعظون. وقوله: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) أي: جعلناه قرآنًا عربيًّا؛ كقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)، لكي يفقهوه ويعرفوه؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ. . .) الآية. وقوله: (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) يحتمل وجهين: أحدهما: أنه لا يخالف الكتب السالفة؛ بل يوافقها؛ لأن كتب اللَّه جاءت كلها على الدعاء إلى توحيد اللَّه وربوبيته، فكذلك القرآن، فهو لا يخالف سائر الكتب؛ بل يوافقها. والثاني: لا عوج فيه؛ لما لا يخالف بعضه بعضًا، ولا يناقض؛ بل خرج كله موافقًا بعضه بعضًا مستقيمًا على تباعد نزوله في الأوقات، وباللَّه التوفيق. وأصله: (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي: ليس بمائل ولا زائغ عن الحق. وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي: يتقون المهالك، أو سخط اللَّه ونقمته. وقوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) أي: لا يستويان. يشبه أن يكون ما ذكر من المثل لرجلين من البشر كله: المسلمون والكافرون، ثم يحتمل الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون؛ أي: يتشاكسون في نسبه، يدعي كل نسبه. أو يتشاكسون في الملك فيه، يقول كل: هو لي أو في الملك في قوم يدعي كل أن الملك له فيه. أو يدعي كل أن الملك فيهم، ولا يثبت لواحد منهم النسب فيه لينتسب هو إلى واحد منهم، فيبقى متحيرًا تائهًا؛ ولذلك لا يثبت لواحد منهم الملك الذي يدعي؛ ليطلب هذا منه النفقة، وما يجب على ذي الملك من حقوق الملك، فسعى ضائعًا متحيرًا، وإذا كان الملك لرجل واحد، أو النسب أو الملك سالم له يصل إلى كل حق له، ويكون محفوظًا في نفسه معروفًا، فيكون مثل الذي فيه شركاء متشاكسون، هو الذي يعبد الشيطان أو الأصنام، أو هوى النفس، يدعو كل شيطان إلى غير الذي دعا الآخر، وكذلك الهوى يدعو صاحبه مرة إلى كذا، ومرة إلى غير ذلك، فهو كالذي فيه شركاء متشاكسون يدعي هذا وهذا، والذي يعبد إله الحق الذي يثبت ألوهيته بالحجج والآيات كالرجل السالم الواحد يكون أبدًا على حالة واحدة، مطيعًا لله، خالصًا له. وقوله: (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) أي: هل يستوي الرجل الذي يدعي فيه شركاء متشاكسون والرجل الذي يكون لرجل واحد، فيما ذكرنا؟! أي: لا يستويان.

(30)

وقال أهل التأويل: (هَلْ يَسْتَوِيَانِ) من يعبد آلهة شتى مختلفة، والذي يعبد ربًّا واحدًا، وهو المؤمن، وقد رأوا أنهم قد استووا في هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما، وفيه دلالة البعث، وكذلك في قوله: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا)، وقد استووا في هذه الدنيا دل أن هنالك دارًا أخرى يفرق بينهما فيها؛ إذ في الحكمة والعقل التفريق بينهما، واللَّه أعلم. وقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) ذكر الحمد على أثر ذلك يخرج على وجهين: أحدهما: أن يحمد ربه على ما خصه بالتوحيد من بين الكفار (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) توحيد ربهم. والثاني: أمره أن يحمد ربه على ما جعله سالمًا خالصًا؛ لم يجعل فيه شركاء متشاكسين. قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ) أي: مختلفون، يتنازعون، ويتشاحُّون (وَرَجُلًا سَلَمًا) أي: خالصًا. ومن قرأ (سَلَمًا لِرَجُلٍ) أراد: سلم إليه، فهو سلم. ثم قوله: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) يحتمل الأنبياء منهم والخواص؛ كقوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). وجائز أن يكون أراد جميع المؤمنين، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود: (تقشعر منه جلود الذين يؤمنون بربهم ثم تطمئن جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) وفي حرف حفصة: (ثم يثبت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللَّه). وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ): يقول - والله أعلم -: ليس الضال الذي يتقي النار بوجهه كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه؛ ليسا بسواء؛ على ما ذكرنا. (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) وجه ذكر هذا على أثر ما تقدم من قوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) وقد استووا في هذه الدنيا من أخلص نفسه ودينه لله وللرسول، ومن جعل فيه شركاء ولم يسلم نفسه له، وهو الكافر، ثم تموت أنت ويموتون هم، فلو لم تكن دارٌ أخرى يميز فيها ويفرق بين الذي جعل نفسه

(31)

سلمًا لله، خالصًا له، وبين من لم يفعل ذلك - لكان في ذلك استواء بين من ذكر، وفي الحكمة أن لا استواء بينهما، وقد يموت السالم نفسه لله، ويموت الآخر دل أن في ذلك بعثًا، يثاب هذا، ويعاقب الآخر، واللَّه أعلم. أو أن يذكر هذا؛ لما كانوا يتشاءمون برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويتطيرون فيما يصيبهم من المصائب والشدائد، حتى قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)، أي: لا يخلدون، فعلى ذلك يقول - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) أيضًا، أي: لا يبقون بعد موتك أبدًا، ولكنهم يموتون، ولو كان ما يصيبهم بك أنت على ما يزعمون، [فيجيء ألا يصيبهم بعد موتك؛ نحو هذا يحتمل، واللَّه أعلم. أو أن يقول: إنك ميت فتصل إلى ما وعد لك من الكرامات والثواب، ويموتون هم فيصلون إلى ما أوعدوا من المواعيد والعقوبات، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا لا لعلم ما يفسر هذه الآية، وكنا نقول: من يخاصم؟ فلما وقعت الفتنة بين أصحاب رسول اللَّه، حتى كفح بعضنا وجوه بعض بالسيوف، فعرفت أنها نزلت فينا. وذكر عن الزبير: لما نزلت هذه الآية، فقال: يا رسول اللَّه، أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا، فقال: (نعم)، فقال: إن الأمر إذن لشديد. وروي عن بعض الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - لما نزلت هذه الآية أنهم قالوا: كيف نختصم ونحن إخوان؟! فلما قتل عثمان ظلمًا وعدوانا، علموا أنها لهم وفيهم، واللَّه أعلم. ثم خصومتهم هذه يوم القيامة تحتمل وجهين: أحدهما: في المظالم أو في الحقوق التي كانت لبعض على بعض، أو في الدِّين، أو في أمر الدنيا.

(32)

أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) لما بلغت المحاجة غايتها في الدِّين والدنيا، ولم تنجع فيهم ولا قبلوها أخبر أنهم يختصمون في ذلك يوم القيامة في الوقت الذي يعاينون العذاب، ويظهر لهم الحق، فينقادون لها في ذلك الوقت، فلا ينفعهم ذلك، واللَّه أعلم. وفي حرف ابن مسعود: (إنك مائت وإنهم مائتون) والعرب تقول: مات يمات فهو مائت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) يقول: لا ظلم أعظم ولا أفحش مما يكذب على من يتقلب في إحسانه، ويتصرف في نعمائه، وأنتم تتقلبون في نعم اللَّه وأنواع إحسانه، فلا ظلم أعظم ولا أفحش من الكذب عليه. (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) ولا ظلم أعظم وأفحش من تكذيب خبره ورده؛ إذ لا خبر أصدق من خبره، ولا حديث أحق من حديثه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) كأنه يقول: أليس جهنم كافٍ للكافرين مثوى؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا)، أي: حسبهم جهنم عقوبة لهم بكفرهم وتكذيبهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) اختلف أهل التأويل فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ): جبريل، عليه السلام، (وَصَدَّقَ بِهِ): مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ): مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - (وَصَدَّقَ بِهِ) أبو بكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ) مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - (وَصَدَّقَ بِهِ) أصحابه جميعًا. قلنا: أهل التأويل على اختلافهم اتفقوا أن الذي جاء به جبريل أو مُحَمَّد هو التوحيد، فإن كان التأويل ما ذكر أهل التأويل، فعلى ذلك قوله: (ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحَسِنِينَ) أي: الموحدين، ففيه نقض قول الخوارج والمعتزلة أنَّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، وأنه يخلد

(34)

في النار؛ لأنه قال: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) وكل مرتكب الكبيرة مصدق بالذي جاء به جبريل ومُحَمَّد، ثم أخبر أنهم هم المتقون؛ أي: اتقوا الشرك، وقال لأُولَئِكَ - أيضًا -: إنه يكفر عنهم ما ارتكبوا من المساوي، وهو قوله: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) دل أن لهم مساوي، ثم إن شاء عذب على تلك المساوئ وقتا ثم أعطاهم ما وعد، وإن شاء عفا عنهم وتجاوز وأعطاهم ما ذكر، فكيفما كان، فلهم ما ذكر؛ إذ هم على تصديق بما جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) يحتمل وجهين: أحدهما: صدق بقلبه؛ أي: جاء بالقول وتصديق القلب. والثاني: صدق به في المعاملة في اختيار كل ما يصلح ويوافق الذي جاء به، وعلى ذلك ذكر عن الحسن قال: يا ابن آدم، قلت: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فصدقها. فإن كان التأويل هذا فهو أشد، لكنه وإن لم يعمل الذي يوافق الذي جاء به وهو التوحيد لم يجتنب ما ذكرنا، فإن له ما ذكر إما بعد التوحيد، وإما بعد العفو، واللَّه أعلم. وقوله: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) دل هذا أن ذلك الوعد للجماعة، ليس لواحد ولا اثنين، وهو لجميع المؤمنين. وقوله: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) ذكر نوعين من العمل السيئ والحسن، ثم أخبر أنه يكفر عنهم أسوا الذي عملوا ويجزيهم بأحسن الذي كانوا يعملون، فيحتمل: الأحسن: الحسنات نفسها يجزيها، ويكفر السيئات. ويحتمل أنه يكفر أسوأ السيئات وأعظمها، ويجزي على أحسن الحسنات وأعظمها، فعلى هذا أحسن وأسوأ من نوعها، أحسن الحسنات وأسوأ السيئات، وعلى الأول من غير نوعها أي يكفر السيئات، ويجزي بالحسنات، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى

(36)

فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) و [(عِبَادَهُ)] أيضًا. الآية يحتج بها على إثبات الرسالة، وكذلك قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، وكذلك قوله: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)، ونحو ذلك، وأمثاله كثير؛ لأنه بعثه وحده، لا عون معه، ولا نصر له من البشر رسولا إلى الأعداء، وكان يقرع أسماعهم بهذه الآيات التي ذكرنا، وغير ذلك من قوله: (ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ)، ثم لم يقدروا على إهلاكه؛ بل عصمه من كيدهم ومكرهم؛ على ما قال: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، فبلغ إليهم ما أمر بتبليغه من غير أن قدروا على ما قصدوا به، وفي ذلك لطف من اللَّه عظيم، ودلالة على إثبات الرسالة. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) وإن خرج مخرج الاستفهام في الظاهر فهو -في الحقيقة- على الإيجاب والتقرير؛ لأنهم كانوا يعلمون أن اللَّه - عز وجل - هو الكافي لخلقه، من ذلك أنهم إذا سئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: اللَّه - تعالى - وإذا سئلوا من يرزقكم؟ قالوا: اللَّه - تعالى - ومن أنزل من السماء ماء؟ ومن أخرج من الأرض النبات؟ ونحو ذلك - قالوا: اللَّه، فعلى ذلك قوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) أي: تعلمون أن اللَّه هو الكافي لجميع خلقه في الدفع والذبّ عنهم، والنصر لهم، فإذا عرفتم ذلك فكيف تخوفون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالذي تخوفونه؟ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)، اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: بأهل الأرض جميعًا، يقولون له: إن العرب تفعل بك كذا، ويعملون بك كذا، كانوا يخوفونه بهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا يخوفونه بالأصنام التي كانوا يعبدونها أن يصيبه سوء وأذى من ناحيتها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ)، وكأن هذا أشبه بالآية؛ لأنه ذكر على إثر ذلك وعقبه الأصنام؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) هو هذا يدل أن ما ذكر من تخويفهم إياه إنما كان بالأصنام التي كانوا يعبدونها.

(37)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ... (37) أخبر أنه إذا أراد هداية أحدكم لم يملك أحد إضلاله، وإذا أراد إضلال أحد لم يقدر أحد على هدايته، ذكر في الدِّين أن لا أحد يملك دفع ما أراد من هدى أو ضلال، ولا منعه على ذلك؛ على ما ذكر في الرزق وأسباب العيش، وعلى ما ذكر في الأنفس وحفظها؛ حيث قال: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ)، وقال في الأنفس: (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)، وقد اجتمعوا في ذلك في الرزق والعيش وضرر الأنفس وحفظها أن لا أحد يملك دفع ما أراد هو، فعلى ذلك في الدِّين؛ لأن الذكر خرج في الكل على مخرج واحد، وذلك على المعتزلة لقولهم: إن اللَّه - تعالى - قد أراد هداية كل أحد، ونصر كل ولي، لكن غيره منعه عن ذلك؛ فهو [وخش] من القول سمج، وبالله العصمة والنجاة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) هو على الإيجاب والتقرير؛ أي: يعلمون أنه عزيز ذو انتقام؛ أي: عزيز لا يعجزه شيء، ذو انتقام لأوليائه من أعدائه. وقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قد علموا أن لا خالق سواه، وعرفوا أنه لا يملك أحد سواه كشف ما أراد هو من الضرر بأحد، ولا إمساك ما أراد من الرحمة بأحد؛ ولذلك فزعوا إليه عند نزول البلاء بهم، ولم يفزعوا إلى من عبدوهم من دونه من الأصنام، ولا إلى أحد من الخالقين؛ دل ذلك على أنهم قد عرفوا أن ذلك به ينال من خير أو غيره؛ ولذلك فزعوا إليه عند نزول البلاء بهم، ولم يفزعوا إلى من عبدوهم من دونه من الأصنام، احتج عليهم بما احتج، ولو لم يكونوا علموا بذلك لم يكن ليحتج عليهم بذلك، وهم لذلك منكرون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) في قوله: (حَسْبِيَ اللَّهُ) ما ذكرنا من اللطف والدلالة على إثبات الرسالة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: على الإياس منهم أنهم لا يؤمنون ولا يجيبون إلى ما دعوا إليه بعد ما أقيم عليهم الحجج والبراهين؛ كأنه يقول: اثبتوا أنتم على دينكم واعملوا له، ونثبت نحن على ديننا ونعمل له، فسوف تعلمون أينا على الحق نحن أو أنتم؟ وهو كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، أي: لا أدين أنا بدينكم، ولا أنتم تدينون بديننا، ولكن يلزم كل منا

(40)

دينه الذي عليه، فعلى ذلك الأول. والثاني: على التوبيخ لهم والتعيير؛ يقول: اعملوا على مكانتكم أنتم مما تقدرون من الكيد لي والمكر، وأنا عامل ذلك بمكانتكم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ)، وغير ذلك من الآيات التي فيها ذكر توبيخهم وتعييرهم، والله أعلم. وفي هذه الآية وفيما تقدم من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) إلى هذا الموضع تقرير وتوبيخ ومنابذة وإياس، فأما الإياس فهو في قوله: (يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) والتقرير في قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) والمنابذة في قوله: (حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)، والتوبيخ في قوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ). ثم جائز أن يكون قوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) يخرج على الصلة بقوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) كأنه يقول: من أضله اللَّه حتى لا يعلم أن اللَّه هو كاف عبده، وأن ما يخوفونه به لا يقع به خوف ولا يلحق به ضرر - فلا هادي له، ومن هداه فعرف ذلك، فلا مضل له عن ذلك، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) جائز أن يكون ذلك العذاب الذي يأتيه هو عذاب في الدنيا من نحو القتل والتعذيب بالذي أهلك الأولون المعاندون للرسول (يُخْزِيهِ) أي: يفضحه (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) في الآخرة، وهو عذاب الكفر، وإلى ذلك ذهب بعض أهل التأويل. وجائز أن يكون ذلك كله في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) هذا كأنه - واللَّه أعلم -: إنا أنزلنا عليك الكتاب لتحكم بين الناس بالعدل؛ على ما ذكر في آية أخرى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ)، فعلى ذلك هذا، ويكون قوله: (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) أنشأ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - البشر دراكًا مميزًا بين الخبيث والطيب، وبين الحسن والقبيح، وبين ما لهم وما عليهم، وبين السبيلين جميعًا غاية البيان، وأوضح كل سبيل نهاية الإيضاح، من سلكه أنه إلى ماذا يفضيه وينهيه، ثم امتحنهم في ذلك، ومكن لهم من السلوك في كل واحد من السبيلين بعد البيان منه أنه من سلك سبيل كذا أفضاه إلى كذا، ومن يسلك سبيل كذا أفضاه إلى كذا؛ امتحانًا منه، ثم أخبر أنه

(42)

فيما امتحنهم لم يمتحنهم لمنفعة ترجع إليه، أو لمضرة يدفع عن نفسه، ولكن إنما امتحنهم لمنفعة ترجع إليهم إذا اختاروا ترك سلوك سبيل الباطل، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن، إحداها هذه؛ حيث قال: (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا). والثانية: بما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) أي: فعليها، وغير ذلك من الآيات التي تبين أنه إنما امتحنهم لمنفعة أنفسهم واكتساب الخير الدائم لهم، ولا قوة إلا باللَّه. ثم قوله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) يخبر أن ليس عليك إلا تبليغ ما أرسلت وأمرت بتبليغه إليهم؛ كقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)، وقوله - تعالى -: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، وقوله: (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)، والوكيل: الحفيظ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) إلى آخر ما ذكر. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كل نفس لها سبب تجري فيه؛ فالتي قضي عليها الموت فتجري في الجسد كله. لكن لم يفهم مما ذكر ابن عَبَّاسٍ تأويل الآية. وعن سعيد بن جبير قال: يجمع بين أرواح الأحياء وبين أرواح الأموات فيتعارف ما شاء اللَّه أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجسادها، وبهذا - أيضًا - لم يفهم شيء من تأويل الآية. وقال الكلبي: النائم متوفى حتى يرد اللَّه إليه روحه، فأما التي يتوفاها حين موتها فإنه يقبض الروح والنفس جميعًا ويرسل التي يتوفاها في منامها حتى تبلغ أجلها المسمى، وهو الموت. ويقال: إنما يقبض اللَّه من النائم النفس، والروح في الجسد لم تفارقه، فإذا قبض الله الروح ذهبت النفس مع الروح. وهذا الذي ذكره الكلبي أقرب إلى تأويل الآية من الذي ذكره أُولَئِكَ، وأصله: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل في الأجساد أشياء وأرواحًا يحيي الأجساد في حال نومها على الهيئة التي كانت من قبل، ليس بها أثر الموت، لكنها لا تدرك شيئًا، ولا تسمع، ولا تبصر، ولا تعقل شيئًا، وبها آثار الحياة؛ يدلنا هذا على أنها في حال النوم قد ذهب منها،

وخرج ما به تدرك الأشياء، وبقي منها ما به تحيا، وهو الروح، فإذا خرجت الروح منها، وإن كانت لا تدرك شيئًا على الهيئة التي كانت من قبل، دل ذلك على أن الذي به تدرك الأشياء غير الذي به تحيا؛ واللَّه أعلم؛ ألا ترى أنها في حال النوم تلك الأنفس الدراكة حيث كانت تتألم وتتلذذ، وتقضي الشهوات وهي في أقصى الدنيا، هذا كله يدل على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. ثم على هذا جائز أن يكون ما ذكر من عذاب القبر أنه إنما يكون على تلذذ الأنفس الدراكة، لا على الروح؛ على ما ذكرنا من تألمها وتلذذها بعد خروجها من الأجساد ومفارقتها عنها، واللَّه أعلم. ثم أضاف في هذه الآية التوفي إلى اللَّه، وفي آية أخرى أضافه إلى الرسل؛ حيث قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا. . .) الآية، وأضافه مرة إلى ملك الموت حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ. . .) الآية، ثم يحتمل إضافة التوفي إلى الرسل وإلى ملك الموت وجهين: أحدهما: وإن كان حقيقة التوفي والموت باللَّه؛ لما يخلق فعل قبضهم الروح منها، ويشاء ذلك منهم، وهو كما ذكر من البشرى لهم وطمأنينة القلوب عند بعثه إليهم الملائكة بالإعانة لهم والنصر؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، أخبر أنه جعل لهم بعث الملائكة بشارة النصر، وأن حقيقة النصر ليس إلا من عند اللَّه، فعلى ذلك ما ذكر من إضافة التوفي إلى الرسل؛ لما يخلق فعل قبضهم الروح، وكان حقيقة ذلك لله - عَزَّ وَجَلَّ - واللَّه أعلم. والثاني: أن يكون من اللَّه لطف في ذلك، ومعنى لا يكون ذلك منهم، لكنه لم يبين ما ذلك اللطف وذلك المعنى الذي يكون منه، واللَّه أعلم بذلك. ثم قوله: (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) أي: حين خلق موتها يقبض الروح منها. وقوله: (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) لم يقبض منها الروح ترسل إليها النفس الدراكة إلى الأجل الذي جعل لها، واللَّه أعلم. وقوله: (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) جائز أن يكون من القبض؛ أي: يقبض الأنفس. وجائز أن يكون من العد؛ كقوله: (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا). وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يحتمل قوله: (لَآيَاتٍ): العبر، أو الأعلام، أو الحجج.

(43)

وقوله: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يعلمون أن من قدر على استخراج تلك الأنفس الدراكة من الأجساد، وإبقائها على الهيئة التي كانت إلى الوقت لا تدرك شيئًا، ثم ردها إليها، وإعادتها على ما كانت - قادر بذاته، لا يعجزه شيء. أو من قدر على إنشاء النفس الدراكة في الأجساد حتى تدرك بها، لا يحتمل أن يعجز عن إعادة الأجساد بعد ما بليت وفنيت، وذاك ألطف من هذا وأكبر؛ لأن الناس قد يتكلفون تصوير صور الأنفس الظاهرة ولا أحد يتكلف تصوير نفس دراكة من غيرها، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (48) وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ). على ما ذكرنا فيما تقدم في غير موضع: أن حرف الاستفهام والشك إذا أضيف إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فهو على الإيجاب والإلزام، ثم قال بعض أهل التأريل: إن قوله - عز وجل -: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ) هم الملائكة الذين عبدوها لكنه بعيد؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ - بعد ذلك: (قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ)، والملائكة أهل العقل والعلم، وإنهم يملكون ذلك إذا جعل لهم وملكوا، لكن الآية في الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه؛ على رجاء أن تشفع لهم وتقربهم عبادتهم إياها إلى اللَّه زلفى؛ لقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عَندَ اللَّهِ)، وقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)؛ فهو أشبه بالأصنام التي كانوا يعبدونها من الملائكة، واللَّه أعلم. ثم قوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ) يخرج على وجهين: أحدهما: بل اتخذوا بعبادة من عبدوه من دون اللَّه شفعاء لأنفسهم، ولا يكونون شفعاء لهم، ولا يملكون ذلك ولا يفعلون. والثاني: بل اتخذوا لأنفسهم من دون اللَّه شفعاء، ولا يملك أحد جعل الشفاعة لأحد

(44)

دون اللَّه، إلا من جعل اللَّه له الشفاعة، ولا يجعل اللَّه لأحد الشفاعة إلا من كان له عند اللَّه عهد، أو من ارتضى له الشفاعة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)، وقوله: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)، يدل على هذا قوله؛ حيث قال: (أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ). وقوله: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) هو ما ذكرنا: هو المالك الشفاعة جميعًا، لا يملك أحد سواه إلا من جعل اللَّه له الشفاعة وارتضى له، فأمَّا أن يملك أحد سواه اتخاذ الشفاعة لنفسه، أو جعل الشفاعة لنفسه فلا، واللَّه الموفق. وقوله: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). في البعث، أو يرجعون إلى ما أعد اللَّه لهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قال بعض أهل التأويل: إذا ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - توحيد اللَّه في القرآن (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)، أي: نفرت؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ - في بني إسرائيل: (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا)، وإذا ذكر النبي - عَزَّ وَجَلَّ - الذين عبدوا من دونه الآلهة؛ كقوله في سورة النجم؛ حيث قال: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)، وألقى الشيطان في فمه: " تلك الغرانيق العلا، منها الشفاعة لترتجى "؛ ففرح الكفار حين سمعوا أن لها شفاعة: إلى هذا يذهب مقاتل وغيره، لكنه ليس كذا، وغير هذا كأنه أولى به وأقرب، وهو أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ)، أي: إذا ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - توحيد اللَّه وألوهيته، أو ذكر هذا أهل التوحيد وهذا الألوهية ممن عبدوا دونه (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)، أي: نفرت وأنكرت؛ كقولهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ). وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ): وإذا ذكر أهل الكفر الذين عبدوا من دونه عبادتهم إياها وخلوتهم بها إذا هم يفرحون ويستبشرون، واللَّه أعلم. وقوله: (اشْمَأَزَّتْ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: أبغضت ونفرت.

(46)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (اشْمَأَزَّتْ): أنكرت وذعرت، ويقال في الكلام: ما لي أراك مشمئزا؟ أي: مذعورًا، ويقال: اشمأز المكان، أي: بعد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (اشْمَأَزَّتْ): استكبرت وكفرت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) أمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يقول لهم، وهو كلام التوحيد. وقوله: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يحتمل: مبدئ، ويحتمل: مبدع، أو خالق السموات والأرض، واللَّه أعلم. وقوله: (عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). يحتمل قوله: (عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ما أشهد الخلق بعضهم على بعض، هو عالم ذلك كله. أو الغيب: ما غاب عن الخلق كلهم، والشهادة ما شهده الخلق. أو أن يكون قوله: (عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)، أي: عالم ما يكون أنه يكون، والشهادة: ما قد كان، يعلم ذلك كله: يعلم ما يكون أنه يكون، وما كان يعلمه كائنًا، واللَّه أعلم. وقوله: (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). يوم القيامة؛ كقوله: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .) الآية. أو أن يكون قوله: (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ): في هذه الدنيا، فهو يخرج على وجوه: أحدها: ما جعل اللَّه في خلقتهم إثبات الصانع وشهادة الوحدانية لله - عَزَّ وَجَلَّ - وألوهيته. والثاني: بما أنزل اللَّه من الكتب والرسل، وبين لهم فيها ما لهم وما عليهم. ثم إن كان في الآخرة فجائز ألا يكون يحكم بيننا فيما وسع علينا الحكم في الأمر في الدنيا، ويرتفع المحنة به في الآخرة من نحو الأحكام التي سبيل معرفتها بالاجتهاد، ولا يحكم بيننا بشيء من ذلك، وأما ما كان غير موسع علينا في الدنيا ترك ذلك، وهو مما لا يرتفع المحنة به في الدارين جميعًا: من نحو التوحيد والدِّين فذلك يحكم بيننا في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ

(47)

يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) كأنه - واللَّه أعلم - يذكر لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليصبره على أذاهم إياه، وأن يشفق عليهم بما ينزل بهم في الآخرة؛ لأنه أخبر عن عظيم ما ينزل بهم: أنهم مع بخلهم وضنهم بهذه الدنيا لو كان ما في الأرض من الأموال، وضعف ذلك أيضًا لهم، لافتدوا بذلك كله من سوء ما ينزل بهم من العذاب، وكذلك ما ذكر من قوله: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ويخبر عن سوء معاملتهم ربهم، على علم منه أنهم يؤذون رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأن ذلك يشتد عليه ويشق؛ لينظر أنهم كيف عاملوا ربهم من سوء المعاملة؛ ليصبر هو على سوء معاملتهم إياه ولا يترك الرحمة والشفقة عليهم بما ينزل بهم في الآخرة من سوء العذاب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ). قال بعض أهل التأويل: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ): من شهادة الجوارح عليهم والنطق مالم يكونوا يحتسبون ذلك، ولكن غير هذا كأنه أقرب: بدا لهم من الهوان والعذاب لهم في الآخرة ما لم يكونوا يحتسبون. ثم هو يخرج على وجهين: أحدهما: أنهم كانوا يقولون: حيث فضلنا اللَّه في هذه الدنيا بفضول الأموال والكرامة؛ فعلى ذلك نكون في الآخرة مفضلين عليهم كما كنا في الدنيا؛ ولذلك قالوا: (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)، وقولهم: (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ)، ونحوه؛ فبدا لهم وظهر في الآخرة ما لم يكونوا يحتسبون ما ذكرنا من الهوان لهم والعذاب. والثاني: كانوا ينكرون رسالة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويقولون: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وقالوا: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا. . .) الآية، ونحو ذلك من الكلام؛ كقولهم - أيضًا -: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ): لا يرون الرسالة توضع إلا في العظيم من أمر الدنيا؛ فأخبر أنه يبدو لهم ما لم يكونوا يحتسبون؛ لما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (48) يحتمل قوله: (بَدَا)، أي: ظهر لهم جميع ما صنعوا في الدنيا في الآخرة؛ حتى حفظوا وذكروا ذلك كله. والثاني: بدا لهم ما حسبوا حسنات سيئات، واللَّه أعلم. أو أن يكون ذلك في الجزاء، أي: بدا لهم وظهر جزاء ما كسبوا؛ يدل على ذلك

(49)

قوله: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) وقوله: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا). لا يحتمل أن يكون أراد: كل إنسان يكون على ما وصف وذكر، ولكنه إنسان دون إنسان، ولا يجب أن يشار إلى واحد أنه فلان، وكذلك ما ذكر من مس الضر به لا يشار إلى ضر دون ضر؛ ولكن ما أعلم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه ماذا؟ لأن ذلك يخرج مخرج الشهادة على اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - والامتناع عن الإشارة إليه، والتسمية له أسلم. ثم كانت عادة أُولَئِكَ الكفرة - لعنهم اللَّه - عند نزول البلاء بهم والشدة الفزع إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وإخلاص الدعاء له؛ فبعد الكشف عنهم ذلك يقع العود إلى ما كانوا من قبل، على ما ذكرهم في آي من القرآن. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا)، أي: أعطيناه نعمة، أو ملكناه نعمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ). أي: على حيلة مني أعطيت ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أوتيته على شرف ومنزلة، علمه اللَّه مني. وقال قتادة: على خير علمه اللَّه عندي. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنما آتانيه اللَّه على علم). وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما ذكرنا قال: إنما أوتيته على علم وشرف أعطيت ذلك. قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ردَّا لقوله: (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ). والفتنة هي المحنة التي فيها شدة، أي: بل هي محنة فيها شدة وبلاء، والمحنة من الله

(50)

بأمر وبنهي، أي: فيها أمر ونهي. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). أنه لم يعط لفضل وشرف له أو حيلة منه؛ ولكنه لأمر ونهي، واللَّه أعلم. وقوله: (قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... (50) عين ما قال هذا الرجل؛ حيث قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ)؛ كان من قارون حين قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)، ولم يزل العادة من الكفرة والرؤساء منهم وأهل الثروة قائلين بمثل هذا الكلام والقول، وهو ما أخبر عن قوم فرعون - حين قالوا -: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ)، وما قال أهل مكة: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، وغير ذلك من أمثال هذا، لم يزالوا قائلين هذا. ثم أخبر أن ذلك لم يغنهم حيث قال: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: ما قالوا: إنما أوتينا هذا بحيل من عندنا واكتساب، أخبر أن ذلك لم يغنهم عن دفع عذاب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عنهم إذا نزل بهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ... (51) يوعد أهل مكة ويخوفهم أنه ينزل بهم ويصيبهم بكسبهم الذي يكتسبون كما نزل بأُولَئِكَ الأوائل بمثل كسبهم وصنيعهم. وقوله: (وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ). أي: ما هم بمعجزين عما يريد بهم من الانتقام منهم والتعذيب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ... (52) يذكر هذا أن اللَّه يبسط الرزق لمن يشاء لا لكرامة وفضل عند اللَّه ولا لحق قبله، ويضيق على من يشاء لا لهوان له عنده ولا لجناية؛ ولكن امتحانا لهم بمختلف الأحوال: يمتحن هذا بالسعة؛ ليستأدي به منه الشكر، ويضيق على هذا؛ يطلب منه الصبر على ذلك. أو يمتحن بعضهم بالسعة، وبعضهم بالشدة والضيق؛ ليعلموا أن ذلك كله في يد غيرهم، لا في أيديهم؛ إذ يمتحنهم بمختلف الأحوال ليكونوا -أبدا- فزعين إلى اللَّه في كل وقت وكل ساعة، ولو كان السعة والنعمة لكرامة عند اللَّه وفضل - على ما ظن

(53)

أُولَئِكَ - لكان لا يحتمل ذلك مختلفي المذهب الذي يناقض بعضه بعضا ويضاد بعضه بعضًا: نحو المسلم والكافر، وقد وسع على المسلم ووسع على الكافر، وقد ضيق عليهما جميعًا؛ يدل أن التوسيع ليس للكرامة والمنزلة عند اللَّه أو لحق عليه، ولا التضييق والتقتير لهوان؛ إذ لو كان لذلك لكان لا يجمع بين متضاد المذهب ومختلفهما؛ فإذا جمع دل أنه لمعنى الامتحان، لا لما ظن أُولَئِكَ، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ)، فيما ذكر من التوسيع والبسط والتضييق والتقتير، (لَآيَاتٍ)، أي: لعبرة وعظة، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ): يؤمنون أنه لم يوسع على ما وسع لكرامته عند اللَّه ومنزلته وفضله، ولا ضيق على من ضيق لهوان له عنده ولا جناية، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) وقوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ). قال بعض أهل التأويل: إن الآية نزلت في شأن الوحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب في الجاهلية أنه أراد أن يسلم الوحشي؛ فذكر ما كان منه من قتله حمزة - رضي اللَّه عنه - فظن أنه لا يقبل منه؛ لعظم جنايته؛ فنزلت الآية على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لينبئه، وأخبر أنه لا يقبل منه بعد ذلك، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا؛ ولكن ناسًا قد أصابوا ذنوبًا عظامًا في الجاهلية من نحو القتل والزنا وكبائر؛ فأشفقوا ألا يتاب عليهم؛ فأنزل اللَّه هذه الآية يدعوهم إلى التوبة والإسلام، وأطمع لهم القبول منهم والتجاوز عما كان منهم، وهو كأنه أولى؛ لأن الوحشي من كان

(54)

حتى ينزل اللَّه الآية بشأنه خاصة؟! ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) يحتمل وجهين: أحدهما: يقول - واللَّه أعلم -: (يَا عِبَادِيَ) الذين جنوا على أنفسهم، وأوردوها المهالك بارتكاب ما ارتكبوا من الإسراف والكبائر (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)؛ فإن قنوطكم من رحمة اللَّه وإياسكم منه لا يغفر ولا يجاوز وذلك أعظم وأفظع؛ إذ رجع أحدهما إلى أنفسهم والآخر إلى رحمة اللَّه وفضله. والثاني: يقول: إنكم وإن أسرفتم فيما ارتكبتم من الكبائر والفواحش، وأعرضتم عن أمر اللَّه فلا تقنطوا من رحمة اللَّه بعد إذ تبتم عما كنتم فيه، ورجعتم عما كان منكم وأما في الوقت الذي خرجت أنفسكم من أيديكم؛ فلا يقبل ذلك منكم، وهو وقت نزول العذاب بهم وإشرافه عليهم؛ لأن التوبة في ذلك الوقت توبة اضطرار وتوبة دفع العذاب عن أنفسكم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، ثم أخبر أنه لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت الذي خرجت أنفسهم من أيديهم؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا). لمن يشاء. (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). وذكر عن علي بن أبي طالب - كرم اللَّه وجهه - أنه قال: أرجى آية في القرآن هذه الآية، وذكر أن سورة الزمر كلها نزلت بمكة إلا هذه الآية؛ فإنها نزلت بالمدينة، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) كأنها صلة ما تقدم من قوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) بعد إذ أقبلتم إلى قبول ما دعيتم إليه ورجعتم عما كان منكم، ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أنيبوا بقلوبكم إلى طاعة ربكم، وأخلصوا له تلك الطاعة، ولا تشركوا فيها غيره.

(55)

قيل: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ)، أي: ارجعوا إلى ما أمركم ربكم، (وَأَسْلِمُوا لَهُ)، أي: أخلصوا له التوحيد، أو أن يقول: اجعلوا كل شيء منكم له. وأصل الإنابة: هو الرجوع إلى طاعة اللَّه والنزوع عما كان عليه لأمر اللَّه، يقول - عز وجل -: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) يقول - واللَّه أعلم - على الصلة بالأول: أن أنيبوا له وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب؛ فلا يقبل منكم الإنابة والتوبة؛ إذ أقبل عليكم العذاب. (ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: ثم لا تنصرون بإنابتكم إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في ذلك الوقت الذي أقبل عليكم العذاب فيه، على ما ذكرنا، أي: لا تخافون من ذلك الوقت. والثاني: لا تنصرون بعبادة من عبدتموه من الأصنام والأوثان؛ على رجاء أن يشفع لكم ويدفع عنكم العذاب. أي: أنيبوا إلى عبادة اللَّه الحق قبل نزول العذاب بكم؛ فإنكم إن كنتم على عبادة من تعبدون دونه لا تنصرون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... (55) يحتمل وجوهًا: أحدها: كأنه يقول: اتبعوا ما أمركم ربكم، وانتهوا عما نهاكم ربكم عنه. والثاني: اتبعوا ما في القرآن وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه واجتنبوه، يقول: اعملوا به وبادروا في العمل به من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة. والثالث: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد بين السبيلين جميعًا: سبيل الخير والشر على الإبلاغ؛ فيقول: اتبعوا سبيل الخير منه، ولا تتبعوا سبيل الشر؛ فيكون تأويل هذا كأنه يقول: اتبعوا الحسن منه، ولا تتبعوا غيره، ونحو ذلك، وقد ذكرناه فيما تقدم، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ). كأنه موصول بالأول، يقول: لا يؤخرون الإنابة إليه والتوبة، فإن العذاب لعله سينزل

(56)

بكم في وقت لا تشعرون أنتم به، ولا تقدرون أن ترجعوا إليه وتنيبوا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) هذا وما بعده من الآيات كأنه موصول بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) من قبل (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ. . .) الآية. وقبل أن تقول: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، وقبل أن تقول (حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، كأن كل ذلك صلة ما تقدم من قوله: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ)، (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من قبل أن يقول ما ذكر، في وقت لا ينفعه ذلك القول ولا يغنيه من عذاب اللَّه، ولا يدفعه. ثم قوله: (عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: في ذات اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما فرطت وضيعت من أمر اللَّه، وأمثال ذلك، ولسنا نحتاج إلى تفسير قول ذلك الرجل الذي كان منه حتى قال ذلك، وهو تضييع توحيد اللَّه أو تضييع حد اللَّه، أو ما كان فيه من تكذيب البعث؛ يتأسف على ما كان منه من تضييع ما ذكرنا: من توحيد اللَّه وحدوده، أو كفران نعمه، أو إنكاره ما ذكرنا من البعث، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ): من القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من أهل توحيد اللَّه. قال قتادة: لم يكتف أن ضيع طاعة اللَّه حتى جعل يسخر من أهل طاعته، وقال: هذا قول صنف منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) قول صنف منهم جائز ما قال: إن كل قول من ذلك قول صنف، على ما قال قتادة. وجائز أن يكون كل ذلك من كل كافر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). ذلك الكافر الذي قال هذا القول أعرف بهداية اللَّه من المعتزلة، وكذلك ما قال أُولَئِكَ الكفرة لأتباعهم؛ حيث قالوا: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ)، يقولون: لو وفقنا

(58)

اللَّه للهداية وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه، ولكن حيث علم منّا: اختيار الضلال والغواية، وترك الرغبة إلى الهدى والاستخفاف به - أضلنا وخذلنا ولم يوفقنا. والمعتزلة يقولون: بل هداهم اللَّه وأعطاهم التوفيق، لكنهم لم يهتدوا. فَإِنْ قِيلَ: هذا قول أهل الكفر؛ فلا دلالة فيه لما تذكرون. قيل: وإن كان ذلك قول الكفرة، فذلك القول منهم عند معاينة العذاب؛ فلو كان على خلاف ما ذكروا لكان اللَّه يكذبهم في ذلك؛ كما كذبهم في أشياء قالوها؛ حيث قالوا: (فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا)؛ فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)، ونحوه، واللَّه أعلم. والأصل في الهداية: أن عند اللَّه لطفًا: من أعطى ذلك اهتدى، وهو التوفيق والعصمة، ومن حرم ذلك ولم يعطه، ضل وغوى، ويكون استيجاب العذاب وما ذكر؛ لتركه الرغبة في ذلك، والاستخفاف به، وتضييعه واشتغاله بضده؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ): الشرك أو المهالك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً ... (58) أي: رجوعًا. (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). قيل: من الموحدين. ويحتمل كل إحسان وطاعة، واللَّه أعلم. وقد كذبه - عَزَّ وَجَلَّ - في قوله هذا؛ حيث قال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)، ثم كذبهم في قولهم: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، وفي قولهم: (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)؛ حيث قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59). يقول - واللَّه أعلم -: بلى قد جاءتك آياتي، وبينت لك الهداية من الغواية، وسبيل الحق من الباطل، والخير من الشر، والكذب من الصدق، ومكنت من اختيار الهداية على الغواية، ومكن لهم اختيار الحق على الباطل والصدق على الكذب، لكن تركتم ذلك، وضيعتم واستخففتم به، واشتغلتم بضد ذلك؛ فإنما جاء ذلك التضييع من قبلكم لا من قبل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد أتى بالحجج والآيات والبيان في ذلك غاية ما يجب أن يؤتى ما لم يكن لأحد عذر في الجهل في ذلك والترك، واللَّه أعلم.

(60)

وأكثر القراءات على التذكير في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي. . .) إلى آخره: على إرادة المخاطبة، وقد يقرأ بالتأنيث؛ على إرادة النفس التي تقدم ذكرها والخبر عنها، ويروى في ذلك خبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ بالتأنيث: (بلى قد جاءتْكِ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) كذبهم على اللَّه يحتمل وجوهًا: أحدها: في التوحيد؛ حيث قالوا بالولد والشركاء. ويحتمل ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، وكان اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يأمرهم بذلك، فكذبوا على اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنه أمرهم بذلك. أو ما قالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). أو أن يكون كذبهم على اللَّه هو إنكارهم البعث، وقولهم: إن اللَّه لا يقدر على البعث والإحياء بعد الموت، ونحو ذلك، واللَّه أعلم. والمعتزلة يقولون في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ): هم المجبرة. فيجيء أن يكونوا هم أقرب في كونهم في وعيد هذه الآية من المجبرة؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه لا يأمر أحدًا بشيء إلا بعد أن أعطى جميع ما يعمل ويقتضي به؛ حتى لا يبقى عنده شيء من ذلك، ثم قال ذلك، ثم يسأل ربه المعونة والعصمة؛ فهو بالسؤال كاتم لما أعطاه، وهو كفران النعمة؛ لأنه يسأل ما قد أعطاه ربه، أو أن يكون هازئًا به؛ لأنه يسأل وليس عنده ما يسأل على قولهم على ما ذكرنا من مذهبهم، وكل من يسأل من يعلم أنه ليس عنده ذلك ولا يملك ذلك - فهو يهزأ به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ). على توحيد اللَّه، أو متكبرين على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والمتكبر هو الذي لا يرى لنفسه نظيرًا ولا شكلا؛ ولذلك يوصف اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالكبرياء؛ لأنه لا نظير له ولا شكل، ولا يجوز لغيره؛ لأن غيره ذا أشكال وأمثال، ولا قوة إلا باللَّه. وفي حرف ابن مسعود وحفصة - رضي اللَّه عنهما -: (على ما فرطت من ذكر). وفي حرف ابن مسعود أيضًا في قوله: (بلى قد جاءته آياتنا من قبل فكذب واستكبر وكان من الكافرين)، واللَّه أعلم.

(61)

والمثوى: المقام، (وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا) من ذلك، أي: مقيمًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) كأنه يقول - عَزَّ وَجَلَّ -: لو رأيتهم يا مُحَمَّد يوم القيامة لرحمتهم، وأشفقت عليهم مما هزئوا به، وما نزل بهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ ... (61) و (بِمَفَازَاتِهِمْ) يخرج على وجهين: أحدهما: قوله: (بِمَفَازَتِهِمْ) أي: بالأعمال والأسباب التي فازوا بها على أشكالهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) بعد المفازة والنجاة، وإلا قبل ذلك قد يمسهم السوء (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وهو على الجهمية وعلى أبي الهذيل العلاف إمام المعتزلة: أما على الجهمية: لقولهم: إن الجنة تفنى وينقطع أهلها ولذَّاتها، فإذا كان ما ذكروا مسهم السوء والحزن. وعلى قول أبي الهذيل أيضًا كذلك؛ لأنه يقول: إن أهل الجنة يصيرون بحال حتى إذا أراد اللَّه أن يزيد لهم شيئًا أو لذة لم يملك ذلك، فإن كان ما ذكر هو مسهم السوء والحزن - أيضًا - فالبلاء على قوله: إن السوء والحزن، إنما مس رب العالمين، فنعوذ باللَّه من مقال يعقب كفرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) على إبطال قول أُولَئِكَ، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ). هذه الآية تنقض على المعتزلة قولهم على وجوه: أحدها: أن قولهم: إن شيئية الأشياء لم تزل كائنة؛ إذ من قولهم: إن المعدوم شيء،

(63)

فإذا كان المعدوم شيئًا -على قولهم- كما شيئية الأشياء لم تزل كائنة. ويقولون: إنه لم يكن من اللَّه إلا إيجادها، فإذا كان ما ذكروا لم يكن هو خالق شيء به؛ فضلا عن أن يكون خالق كل شيء -على ما ذكر- ووصف نفسه بخلق كل شيء، فيكون كل شيء قولهم في التحقيق والتحصيل قول الدهرية والثنوية؛ لأن الدهرية يقولون بقدم الطينة، والهيولى، ونحوه، وينكرون كون الشيء من لا شيء. وكذلك الثنوية يقولون بقدم النور والظلمة، ثم كون كل جنس من جنسه، وكون كل شيء من أصله. فعلى ذلك قول المعتزلة: إن المعدوم شيء يرجع في التحقيق إلى ما ذكرنا من أقاويلهما. ثم قوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) يخرج على ذكر الربوبية، والألوهية، والوصف له بالمدح؛ لما ذكرنا أن إضافة كلية الأشياء إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - تخرج مخرج الوصف له بالتعظيم والإجلال له، وإضافة الأشياء المخصوصة إليه تخرج مخرج التعظيم للمضافة إليه. وإذا كان ما ذكر ما كان قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مخصصًا شيئًا دون شيء -على ما يقوله المعتزلة- لم يخرج مخرج الوصف له بالربوبية والألوهية، ولا خرج مخرج المدح له والتعظيم، ثم إنه لا شك أنه لو لم يكن خالقًا لأفعال الخلق لم يكن خالقًا من عشرةٍ ألفَ شيء، فدل أنه خالق الأشياء كلها للأفعال والأجسام والجواهر جميعًا. فَإِنْ قِيلَ: إنكم لا تقولون: خالق الأنجاس والأقذار والخنازير ونحوه، فإنما يرجع قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) إلى خصوص. قيل: إنه لا يقال ولا يوصف بخلق هذه الأشياء على التقييد والتخصيص: يا خالق الأنجاس والأقذار وما ذكر؛ لأنه يخرج الوصف له بذلك مخرج الهجاء والذم، وكان في الجملة يوصف بذلك، ويدخل الأشياء كلها في ذلك؛ لما ذكرنا أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) يخرج مخرج الامتداح والتعظيم له، والوصف بالربوبية له والألوهية؛ ألا ترى أنه لا يقال -على التخصيص-: إنه وكيل؛ وإن كان في الجملة يقال -كما ذكرنا-: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)؛ لأنه في الجملة يخرج مخرج الربوبية له والألوهية، والوصف له بالمدح، وعلى التخصيص والإفراد، يخرج على الهجاء والذم؛ لذلك افترقا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (63) كأنه يقول: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

(64)

قيل: هي المفاتيح، وهي فارسية عربت. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ مَقَالِيدُ) أي: له مفاتيح: جميع البركات والخيرات على أهل السماوات والأرض، يخبر أن ذلك كله بيده، ليس بيد أحد سواه، منه يطلب ذلك، ومنه يستفاد، واللَّه أعلم. ثم لم يفهم مما أضيف إليه من المقاليد ما يفهم من مقاليد الخلق لو أضيف إليهم؛ فكيف فهم مما أضيف إليه: من مجيء، أو استواء، وغير ذلك ما فهم مما أضيف إلى الخلق، واللَّه الموفق؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). كأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل هذه الدنيا وما فيها لأهلها، وبين أحوالهم، يتخيرون بها ويشترون بها الآخرة، ويتزودون لها؛ ولذلك قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ)، فمن لم يتزود لم يجعلها بلغة إلى الآخرة سمي: خاسرًا مغبونًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) دلت هذه الآية على أن سفه أُولَئِكَ الكفرة قد بلغ غايته، وجاوز حده؛ حتى دعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى عبادة من دونه؛ بعد ما عرفوا فضيلة الرسالة والرسول وخصوصيته؛ حتى أنكروا الرسالة في البشر، وبعث البشر رسولا، فلولا ما وقع عندهم من الفضيلة للرسول، والخصوصية له؛ وإلا لم يحتمل أن ينكروا وضعها في البشر وبعث البشر رسولا، ثم قد أتاهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من البيان والحجج ما قد قرر عندهم أنه الرسول إليهم، فمع ما تقرر عندهم ذلك دعوه إلى أن يعبد غير اللَّه دونه، فيكون لهم، فهذا منهم تناقض في القول وسفه؛ حين صيروا المفضل والمخصوص بالرسالة في العبادة من دونه كغير المفضل والمخصوص بها - واللَّه أعلم - ليعلم أنهم لسفههم وتعنتهم كانوا يدعونه إلى عبادة من دون اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ). سماهم: جهلة بما أمروه ودعوه إلى عبادة غير اللَّه، وكذلك قال موسى - عليه السلام - لقومه حين سألوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة؛ فقال: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).

(65)

ثم يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) وجوهًا: أحدها: أيها الجاهلون في التسوية بين المفضل والمخصوص وبين من لم يخص؛ فذلك في عبادة غير اللَّه. أو جاهلون عن هداية اللَّه وخصوصيته. أو جاهلون عن جميع نعمه وإحسانه، حيث لم يذكروه فيها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ... (65) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: كأنه يقول: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك -وقيل: لكل رسول- (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، ذكر هذا؛ ليعلم أن الشرك يحبط العمل، وإن أتى به من قد جل قدره، وعظمت منزلته عنده. والثاني: ولقد أوحي إليك وإلى من كان قبلك: لئن أشركت أنت ليحبطن عملك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) يحتمل وجوهًا: يحتمل: كن من الشاكرين لنعم اللَّه جميعًا. أو الشاكرين للخصوصية التي خصصت بها أو الهداية التي هديت، واللَّه أعلم. وفي حرف ابن مسعود وأبي - رضي اللَّه عنهما -: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: له ملك السماوات والأرض. قال الكسائي: (مَقَالِيدُ): فارسية معربة، وواحد المقاليد: إقليد. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) قال: بلى، والله ليكفينه اللَّه، وبعزه وبنصره كاف عبده، وأصله ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) ذكر أهل التأويل: أن اليهود أتوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا له: إن ربك كذا وكذا، وإن السماوات على كذا منه، والأرض على كذا؛ ذكروه له ووصفوه كما يوصف الخلق؛ فنزل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) قيل: ما عرفوا اللَّه حق معرفته، ولا عظموه حق عظمته. ويذكر أهل الكلام: أن اليهود مشبهة، وكذلك قالوا بالولد؛ حيث قالوا: عزير ابن اللَّه، وقالت النصارى: المسيح ابن اللَّه؛ فلو لم يكونوا عرفوه بما يعرف به الخلق، لم يكونوا يقولون له بالولد كما يقولون للخلق من الولد؛ فدل ما وصفوا له وذكروا له أنهم عرفوه بمعنى الخلق، فتعالى اللَّه عما تقوله الملاحدة علوًّا كبيرًا.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي: ما عرفوا اللَّه حق معرفته. أو ما عظموه حق عظمته ما يحتمل وسع الخلق، وكذلك لم يعرفوه حق معرفته التي يحتمله وسع البشر بينهم، فأما معرفة اللَّه حق معرفته أو تعظيم اللَّه حق عظمته ما لا يحتمله وسع الخلق، وهو لم يكلفهم أن يعرفوه حق معرفته أو يعظموه؛ لأنه لا يحتمل وسع الخلق ذلك وإنما كلفهم ما احتمله وسعهم؛ فالمشبهة -حيث وصفوه كما وصف الخلقُ من يعاينوه- لم يعرفوه المعرفة التي يحتمل وسع الخلق وبنيتهم، ولا عظموه العظمة التي يحتمل وسع الخلق وبنيتهم. ثم إن اللَّه - سبحانه - جعل سبب معرفته الاستدلال بآثار الأفعال، لا بأفعال المحسوسات، فلا تفهم معرفته، ولا تقدر بمعرفة الخلق وتقديرهم مع ما جعل اللَّه - سبحانه وتعالى - الخلق على قسمين: قسم منها مما يحاط به وتدرك حقيقته، وهو المحسوس منه والمدرك. وقسم مما يعرف بآثار الأفعال والاستدلال بها، وهو غير محسوس من العقل، والبصر، والسمع، والروح، وغير ذلك، فإذ لم يدرك من خلقه ولم يحط به مما سبيل الاستدلال عليه بآثار الأفعال بالحس، فالذي أنشأ ذلك وأبدعه أحق ألا يدرك ولا يحاط بمعرفته كما يحاط ويدرك المحسوس معرفته؛ إذ الموصل إلى معرفته الاستدلال بآثار الأفعال لا بالمحسوس، واللَّه أعلم. وكذلك ما أضاف إلى نفسه من الأحرف لا يفهم منه ما لو أضيف ذلك إلى الخلق؛ من نحو الاستواء، والمجيء، والإتيان، ونحو ذلك، ولا يقدر منه ما يقدر من الخلق على ما لم يفهم من مجيء الحق وإتيانه ما فهم من مجيء الخلق ولا إتيانهم؛ فعلى ذلك لا يفهم قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ما يفهم من قبضة الخلق وطيهم ويمينهم؛ بل يفهم من ذلك كله ما يفهم من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، كل ما ذكر من القبضة والطي واليمين في ذلك (كن) دون أن كان منه كاف أو نون أو شيء من ذلك، لكنه ذكر (كن)؛ لأنه أخف كلام على الألسن، وأوجز حرف يفهم منه المعنى ويعرف فيما بين الخلق، واللَّه أعلم. وأصله أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - خاطبهم بما تعارفوا فيما بينهم حقيقة، وإن كان ما تعارفوا فيما بينهم منفي عن اللَّه - تعالى - نحو ما ذكر (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)، وقوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، لما باليد يقدم ويؤخر في الشاهد، وإن لم يكن ما ذكر عمل اليد، وذكر بين يدي ما ذكر، وإن لم يكن بين يديه؛ لما

في الشاهد كذلك يتقدم؛ فعلى ذلك ما أضاف إلى نفسه من أحرف كانت تلك منفية عنه؛ لما في الشاهد بذلك يكون، واللَّه أعلم. وأصل ذلك أن قد بينت بالتنزيل على ما ذكر من إضافة تلك الأحرف إلى اللَّه، وثبت بدليل السمع أن ليس كمثله شيء وفي العقل تعاليه عن الأشباه والشركاء، لزم القول بوقوع تلك الآيات على ما لا تشابه به يقع بينه وبين الخلق في الفعل ولا جهة من جهات الخلق؛ إذ هو متعال عن جميع جهات الخلق في حد الإحداث والخلق، فيلزم الإيمان بها على ما نطق به الكتاب وانتهى به عن المتشابه، وتفويض المراد إلى من جاء عنه ذلك مع ما توجد الإضافة إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - من نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حُدُودُ اللَّهِ)، ونحوه لا يحتمل فهم المضاف منه إلى غيره، فكذلك ما ذكرنا يحتمل على إمكان وجوه فيما ينفى معنى التشابه من ذلك ما يضمن فيها معاني، نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ. . .) الآية، (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)، والمرجع، و (يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ)، و (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، في غير ذلك مما أضيف إلى اللَّه، ولا معنى لتحقيقه في ذلك، فيضمن في ذلك منُّه ووعده ووعيده وغير ذلك من الوجوه مما يطول ذكره ويكثر، فمثله أمر هذه الآيات. والثاني: أن إضافة الأمور في الشاهد إلى الملوك وذكر التولي لهم ليس يخرج مخرج تحقيق كما هو جرى به الذكر، ولكن على الكناية والعبارة عن غيره؛ نحو ما قال: بلدة كذا في يد فلان وقبضته، وأمر كذا في يد فلان؛ إنما يراد بذلك قوته وقدرته؛ فعلى ذلك ما ذكر من قبضته ويده ويمينه إنما هو الوصف له بالقوة، والسلطان، والقدرة على ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) يحتمل تنزيه نفسه عما وصفه المشبهة وشبهوه بالخلق، أو عما أشرك عبدة الأصنام باللَّه في العبادة، وتسميتهم إياها: آلهة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ) هو على التقديم والتأخير؛ كأنه يقول - عَزَّ وَجَلَّ -: الأرض والسماوات جميعًا في قبضته مطويات بيمينه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ

(68)

يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ... (68) اختلف في قوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أهو على حقيقة النفخ أم لا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس هنالك نفخ ولا شيء، وإنما ذكر النفخ عبارة عن خفة الأمر على اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كقوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس نفخًا، إنما هو عبارة عن قدر نفخة: أنه يحيي ويميت على قدر النفخة؛ لأن أسرع شيء في الدنيا هي النفخة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على حقيقة النفخة من غير أن كانت النفخة سببًا للإحياء والإماتة، ولكن على جعل النفخة علمًا وآية للإحياء أو الإماتة، امتحن بذلك الملك الذي كان موكلا به، على ما امتحن ملك الموت بقبض الأرواح في أوقات جعلت له؛ فعلى ذلك ما ذكر من النفخة، واللَّه أعلم. ثم اختلف في الصور أيضًا: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صور الخلق فيها ينفخ، وإلى ذلك ذهب جميع أهل الكلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس هو صور الخلق، ولكن إنما هو قرن؛ لأنه قال: الصور، ولم يقل: صُور بالتثقيل، وإنما ذكره بالتخفيف، وهو القرن، وذكر صور الخلق بالتثقيل صُوَر؛ حيث قال: (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، فلسنا ندري أيهما يقال جميعًا أم لا الصُّور والصُّوَر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) قال عامة أهل التفسير والتأويل: الصعق: هو الموت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصعق: هو الغشيان؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا)

(69)

أي: مغشيًّا عليه؛ ألا ترى أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّآ أَفَاقَ)، وإنما يفاق من الغشيان، ولا يفاق من الموت، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما استثنى الشهادة الذين استشهدوا في الدنيا، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) هو جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى): قَالَ بَعْضُهُمْ: تكون ثلاث نفخات: نفخة تحملهم على الفزع: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، ثم الأخرى يموتون بها، والثالثة يحيون بها، وعلى هذا يروى حديث عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ينفخ ثلاث. . . " ذكر كما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نفختان؛ على ما ذكر في هذه الآية: إحداهما: يموتون، والثانية: يحيون بها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) يحتمل (بِنُورِ): الذي أنشأه اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لها وجعله فيها، ليس أن يكون لذاته نور أو شيء يضيء، ويكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِنُورِ رَبِّهَا) كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِنِعْمَتِ رَبِّكَ): بإحسان ربك، وآلاء ربك، لا يفهم منه سوى النعمة والنشأة والآلاء المجعولة؛ فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِنُورِ رَبِّهَا) لا يفهم منه نور الذات ولا شيء من ذلك. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ) أي: أضاءت، جائز أن يكون اللَّه - عز وجل - ينشئ أرض الآخرة أرضًا مضيئة مشرقة؛ لما أخبر أنه يبدل أرضًا غير هذه؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ. . .) الآية، كانت هذه مظلمة، وتلك مضيئة، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. أو أن يكون إشراقها: ارتفاع سواترها، وظهور الحق لهم، وزوال الاشتباه والالتباس، وكانت أمورهم في الدنيا مشبهة ملتبسة، ويقرون يومئذ جميعًا بالتوحيد له والألوهية

والربوبية، وهو على ما ذكر من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، وقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، ونحو ذلك، ذكر البروز له والرجوع إليه والمصير، وإن كانوا في الأحوال كلها بارزون له، راجعون إليه، صائرون، والملك له في الدارين جميعًا، خص البروز والرجوع إليه والملك له؛ لما يومئذ يظهر المحق لهم من المبطل، ويومئذ أقروا جميعًا بالتوحيد له والملك؛ فعلى ذلك يحتمل إشراق الأرض وإضاءتها لما ترتفع السواتر يومئذ وتزول الشبه، وتظهر الحقائق، واللَّه أعلم. أو أن يكون إشراقها بإظهار لكل ما عمل في الدنيا من خير أو شر، وعرفه يومئذ، وإن كان في الدنيا لم يظهر ولم يعرف مما عمل من خير وشر؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا. . .) الآية، واللَّه أعلم. أو أن تكون أرض الآخرة مضيئة مشرقة لما لا يُعْصى عليها الرب - تعالى عَزَّ وَجَلَّ - وأرض الدنيا مظلمة بعصيان أهلها عليها الربَّ - عَزَّ وَجَلَّ - وذلك كما روي في الخبر أن الحجر الأسود أُنزل من الجنة ككذا، صار أسود لما مسته أيدي الخاطئين العاصين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِنُورِ رَبِّهَا) قَالَ بَعْضُهُمْ: بعدل ربها؛ أي: رضًى بعدل ربها، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) أي: بالعدل، واللَّه أعلم. وجائز ما ذكر بنور أنشأه وجعله فيها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)، فجائز أن يكون الكتاب الذي ذكر أنه وصفه هو ذلك الميزان، فيكونان واحدًا. وجائز أن يكون الكتاب غير الميزان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكتاب هو الحساب بما قد حفظ عليهم ولهم من خير أو شر محذور فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الكتاب الذي يوضع في أيديهم يومئذ، فيه ما عملوا يقرءونه،

(70)

وهو مثل الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ) اختلف في الشهداء: قَالَ بَعْضُهُمْ: الشهداء هم المرسلون، يؤتى بالنبيين والمرسلين يشهدون عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشهداء - هاهنا - هم الملائكة والحفظة الذين يشهدون عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي: بالعدل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أي: لا يحمل على أحد ما لم يعمل، ولكن يحمل عليه ما عمل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ... (70) كافرة (مَا عَمِلَتْ) من سوء، فأما ما عملت من خير فلا، وتوفى كل نفس مسلمة ما عملت من خير لا ينقص منها شيء، وما عملت من سوء جائز أن يتجاوز اللَّه عنها ويبدله حسنات؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ). واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)، أي: عالم بما يفعلون من خير أو شر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ... (71) قيل: أمة أمة، وجماعة جماعة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا. . .) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ)، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) جائز أن يكون لها أبواب يدخلون فيها. وجائز أن تكون الأبواب المذكورة لا على حقيقة الأبواب، ولكن على الجهات والسبل التي كانوا فيها؛ أي: في الدنيا، وعملوا بها يدخلون النار بتلك الجهات والسبل التي كانوا في الدنيا وعملوا بها، كما يقال: فتح على فلان باب كذا، ليس يراد حقيقة الباب، ولكن سبل بابه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ) يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آيَاتِ رَبِّكُمْ) أي: التوحيد وحججه.

(72)

ويحتمل آيات البعث الذي أنكروه. وقال بعض أهل التأويل: آيات القرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُنْذِرُونَكُمْ) بالآيات (لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا بَلَى) قد فعلوا ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) قال أهل التأويل: (وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ) أي: عدة العذاب، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ - ووعد أنه يملأ جهنم منهم، وهو قوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي: حق وعد ذلك عليهم، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون ما ذكر من (كَلِمَةُ الْعَذَابِ): هو كلمة الشرك والكفر؛ أي: حقت كلمة الكفر والشرك الذي علمنا سموا (كَلِمَةُ الْعَذَابِ)، لما كذبوا وعوقبوا، واللَّه أعلم. وقوله: (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) تأويله ظاهر. " والمتكبرين " يحتمل المتكبرين على آياته وحججه، ويحتمل المتكبرين على رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، واللَّه أعلم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (وَأَشْرَقَتِ)، أي: أضاءت وأنارت، و (زُمَرًا) أي: جماعات، والواحد: زمرة، ويقال: تزمر القوم إذا اجتمعوا، زمرتهم، أي: جمعتهم، وأصله: أن يساق كل فريق على ما أحبوا، وكانوا في الدنيا جماعة جماعة وأمة أمة، وعلى ما يجتمعون في هذه الدنيا: أهل الخير على أهل الخير، وأهل الشر على أهل الشر، وسروا بالاجتماع في ذلك، لكن أهل الخير يساقون إلى الجنة على ما كانوا يجتمعون في هذه الدنيا مسرورين، وأهل الكفر يساقون إلى النار على ما كانوا يجتمعون في هذه الدنيا على الشر حزنين مغتمين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) يحتمل: اتقوا الشرك بربهم، أو اتقوا سخط ربهم ونقمته، أو اتقوا المهالك، وقد ذكرناه فيما تقدم واللَّه أعلم. (وَسِيقَ)، وإن كان في الظاهر خبرا عما مضى لكنه يخرج على وجهين: أحدهما: على الاستقبال، وذلك جائز في اللغة استعمال حرف الماضي على إرادة الاستقبال، كأنه قال: يساقون. والثاني: كأنه خبر أمر قد كان مضى، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسِيقَ)؛ ولذلك ذكره بحرف (سِيقَ)، واللَّه أعلم.

(74)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (زُمَرًا) وقد ذكرناه، أي: جماعة جماعة، وأمة: أمة، على ما كانوا في هذه الدنيا، ويجتمعون على ذلك؛ فعلى ذلك يساقون في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا). فتح الأبواب لهم يحتمل حقيقة الأبواب، ويحتمل كناية عن الوجوه والسبل التي يأتونها في الدنيا لا على حقيقة الأبواب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ). بدأ الخزنة بالسلام عليهم، فجائز أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - امتحن الخزنة بالسلام على المؤمنين كما امتحن رسوله ببدئه السلام على من آمن، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. . .) الآية. ثم يحتمل سلام الخزنة عليهم: السلام والبراءة عن جميع العيوب والآفات التي في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ). فقوله: (طِبْتُمْ) أي: صرتم طيبين لا تخبثون أبدًا، وقد برئتم من الآفات والعيوب كلها، واللَّه أعلم. أو يقول: طاب العيش أبدًا من حيثما يأتيكم بلا عناء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) ولا شك أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إذا وعد صدق وعده، لكن معنى قولهم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ)، أي: الحمد لله الذي جعلنا مستحقين وعده؛ إذ وعده لا شك أنه يصدق، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي: الجنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ). يحتمل قوله: (حَيْثُ نَشَاءُ) نرغب فيها، وهم لا يرغبون النزول من منازلهم. أو أن يكون قوله: (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ)، أي: جميع مكان الجنة مختار ليس مما يتخير في الدنيا مكانًا دون مكان؛ لأن جميع أمكنتها ليست بمختارة فيقع فيها الاختيار، فأما الجنة فجميع أمكنتها مختارة فلا يقع هنالك اختيار مكان على مكان، والله أعلم. وإلا ظاهر قوله: (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) ما لهم وما لغيرهم، والوجه فيه ما ذكرناه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) ظاهر.

(75)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) قيل: محدقين حول العرش. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ). قال بعض أهل التأويل: بأمر ربهم، لكن التسبيح بحمد ربهم هو أن يسبحوا بثناء ربهم وحمده ويبرئونه وينزهونه عن جميع معاني الخلق بحمد وثناء يحمدونه ويثنون عليه على ما ذكرنا في غير موضع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ). قيل: بين الأمم والرسل، وقيل: بين الخلائق كعلهم. وجائز أن يكون قوله: (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال الحسن: فتح اللَّه نعمه في الدنيا بالحمد له، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ. . .) الآية، وغير ذلك من الآيات، وختم نعمه في الآخرة بالحمد له حيث قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ): الحمد لله رب العالمين والصلاة والصلام على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه الطاهرين أجمعين. * * *

سورة حم المؤمن

سُورَةُ حم الْمُؤْمِنِ وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم). قَالَ بَعْضُهُمْ: هو هجاء أسماء الرب جل وعلا؛ وهو قول ابن عباس، رضي الله عنهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فواتح السور كلها، وكذلك قال في سائر الحروف المقطعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أصله (حم) أي: قضى، كقول الشاعر: ألست ترى أن الذي حم كائن أي: الذي قضى كائن، إلا أنه ذكره بالهجاء كمن ذكر زيدا بالهجاء. وقد قلنا نحن: إن تفسير الحروف المقطعة ما ذكر على أثرها، وقد ذكرنا أقاويل الناس واختلافهم فيها في غير موضع ما أغنانا عن ذكرها في هذا الموضع، واللَّه أعلم. وقوله: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) قد ذكرنا قوله: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) في سورة الزمر، غير أنه ذكر العزيز الحكيم وهاهنا ذكر العزيز العليم وهما واحد، واللَّه أعلم. وقوله: (غَافِرِ الذَّنْبِ ... (3) يخرج على وجهين: أحدهما: (غَافِرِ الذَّنْبِ) أي: متجاوز الذنب، وهو في حق المؤمنين خاصة. والثاني: (غَافِرِ الذَّنْبِ) أي: ساتر الذنب، وهو يحتمل للكافر والمؤمن جميعًا؛ فإنه يستر كثيرًا على المؤمن والكافر جميعًا الذنب في الدنيا، ولم يفضحهما، ويتجاوز عن المؤمن خاصة في الآخرة، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَابِلِ التَّوْبِ).

(4)

يخبر أنه يقبل التوبة وإن عظمت المعصية، وجلت الذنوب وكثرت، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: التوب: جماعة التوبة. وقوله: (شَدِيدِ الْعِقَابِ). أي: لمن لم يتب. وقوله: (ذِي الطَّوْلِ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: ذي القدرة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: ذي التفضل، يقال: طُلْ عليَّ برحمتك، أي: تفضل. وقيل: ذي السعة والغناء. وقيل: ذي النعم؛ وكله قريب بعضه من بعض. وقوله؛ (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ). وحَّد نفسه، وأخبر أن مصير الخلق إليه في الآخرة فيجزيهم بأعمالهم، واللَّه أعلم. وقوله: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) أي: يجادل في دفع آيات اللَّه والطعن في آيات اللَّه الذين كفروا باللَّه أو كفروا بآيات اللَّه، وكانت مجادلتهم ما ذكر حيث قال: (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي: يبطلوا به الحق، أهل الكفر هم الذين كانوا يجادلون في دفع آيات اللَّه والطعن فيها، فأما أهل الإيمان بها كانوا يفرحون بنزولها ويزدادون بذلك إيمانًا؛ كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ)، وكقوله: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، ونحو ذلك من الآيات، كانوا يستسلمون لها ويقبلونها، ويستقبلون لها بالتعظيم والتبجيل، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ). معلوم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يغره تقلبهم في البلاد، لكنه ذكر الخطاب له، وأراد به غيره؛ لما يحتمل أن يظن قوم أن أهل الكفر لما كانوا فيه من التقلب في البلاد والسعة في عيشهم وأن أهل الإيمان في ضيق وشدة وخوف - أن أُولَئِكَ على الحق وهَؤُلَاءِ على الباطل، فجائز أن يظن ظان ما ذكرنا، فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن الأمن والسعة، ليس بدليل على كون صاحبه على الحق، ولا الضيق والشدة بدليل على كون صاحبه على الباطل، ولكن محنة: امتحنهم مرة بالسعة

(5)

والأمن، ومرة بالضيق والخوف؛ دليل ذلك: وجود الحالين جميعًا في كل فريق مع اختلاف مذاهبهم، وتضاد أقاويلهم. ويحتمل أن يكون المراد منه أهل مكة، أي: لا يغررهم تقلبهم في البلاد وأمنهم وسعتهم بعد ما نزل بأهل الآفاق والنواحي أنهم على الحق، وأن ذلك إنما يدفع عنهم لمكانهم، وإنما يدفع ذلك عنهم، ويكونون على أمن؛ لمكان كونهم بقرب من البيت؛ لحرمته وشرفه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) ذكر هذا لتصبير رسوله على تكذيب قومه إياه بالباطل؛ يقول: لست أنت بأول من كذبه قومه، ولا بأول من جادله قومه بباطل، لم يزل الأمم المتقدمة يكذبون رسلهم، ويجادلونهم بالباطل؛ فصبروا على ذلك؛ فاصبر أنت على تكذيب قومك، ومجادلتهم إياك بالباطل كما صبر أُولَئِكَ كقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، وهو ما ذكر في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) وهمَّت كل أمة برسولهم ما ذكر، لكن اللَّه تعالى بفضله عصم رسله عما همَّ أُولَئِكَ الكفرة بهم من القتل والمجادلة بالباطل، وفي ذلك آية من آيات الرسالة لهم حيث حفظهم عما هموا بهم وكادوا بلا أعوان وأنصار كانوا للرسل مع كثرة أُولَئِكَ الكفرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ). أي: كيف وجدوا عقابي، أليس وجدوه حقا على ما وعد الرسل - عليهم السلام - أنه نازل؟! بهم أو يقول: أليس وجدوه أليمًا شديدًا؛ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) يحتمل قوله: (حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) ما ذكر في قوله: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ. . .) الآية. وقوله: (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ)، يحتمل أن يكون قوله: (حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) ما قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، فذلك الذي حق عليهم من كلمة ربك، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ

(7)

أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ... (7) قد ذكرنا في غير موضع أن التسبيح بحمد ربهم هو الثناء عليه، والحمد له بالتبرئة والتنزيه عن جميع أوصاف الخلق ومعانيهم، وعن جميع ما قال الملاحدة فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا). هذه أرجى آية للمؤمنين، والآيات التي فيها استغفار الرسل للمؤمنين من نحو قول نوح - عليه السلام - حيث قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، وقول إبراهيم - عليه السلام -: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)، وما أمر اللَّه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يستغفر لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات إنما هو في الذنوب التي ليس له أن يعذبهم عليها، وهي الصغائر، وليس له أن يغفر الكبائر، ويستدل على ذلك بقوله: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ)، إنما أمره أن يستغفر للذي تاب، فأما من لم يتب، ولم يأمره بالاستغفار، فيجب القول بما قلنا؛ عملا بالآيتين. لكن نقول نحن: إنه لو كان استغفاره لمن ذكر خاصة لأصحاب الصغائر على ما قالوا، يصير كأنه أمر النبي - عليه السلام - أن يستغفر لهم، ولا يحزن عليهم؛ إذ هم مغفور ذنبهم؛ فيحصل قولهم على ما ذكرنا، وذلك وخش من القول، واللَّه أعلم. ثم يجيء أن يكون المعتزلة والخوارج في الظاهر أبعد الخلائق من المعاصي وأقربهم إلى الطاعات، ونحن أقرب الخلائق إلى المعاصي وأبعدهم عن الطاعات؛ لأنهم لا يرون النجاة إلا بأعمالهم ولا يرون برحمة اللَّه، ولا بشفاعة أحد، ولكن بأعمالهم؛ فيجب أن يكونوا أبداً متكلين ملازمين على الطاعات في كل وقت وساعة، لا يعصون اللَّه طرفة عين، ونحن لم نر النجاة بالأعمال، ولكن إنما نرى ذلك برحمة اللَّه تعالى، وبشفاعة من ارتضى بشفاعته؛ فيجب أن نكون معتمدين على رحمة اللَّه وفضله غير مشتغلين بشيء من الطاعات. ثم في الحقيقة يجب أن يكونوا هم أقرب الخلائق إلى المعاصي وأبعدهم من الطاعات، ونحن ألزم الخلائق بالطاعات وأبعدهم من المعاصي؛ لأنا نرى عند الله

لطائف وفواضل باقية، لم يعطنا ما لو أعطانا لم يصدر منا إلا الخير والطاعات؛ وسلمنا عن المعاصي وأنواع الشرور، وعصمنا؛ فيجب أن نكون متكلين على الطاعات؛ لنصل إلى تلك اللطائف، وهم لا يرون بقي عنده شيء من اللطائف، بل يقولون: قد أعطانا كل شيء حتى لم يبق عنده شيء من مصالح الدِّين؛ فيجب أن يكونوا ما ذكرنا، واللَّه أعلم. ثم قولنا: إن اللَّه تعالى ينجينا برحمته وبشفاعة من جعل له الشفاعة لا بأعمالنا، وعلى ذلك روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة اللَّه "، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟! قال: " ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته "، والمعتزلة يقولون: لا، بل ندخل بأعمالنا، وكذلك قول الخوارج. وأصل قولنا: إن لله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يعذب عباده على جميع المعاصي: على الصغائر والكبائر جميعاً، وله أن يغفر جميع المعاصي سوى الشرك والكفر، على ما ذكرنا من دلائل الآيات وغيرها. وقوله: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا). قوله: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً) فرحمة الدنيا يدخل فيها الكافر والمؤمن جميعًا، فأما رحمة الآخرة، فهي للمؤمنين خاصة، هو كما ذكر في قصة موسى - عليه السلام - حيث قال: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ). . .) إلى قوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. . .) الآية، وكقوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، كأنه يقول: قل هي للذين آمنوا، والذين لم يؤمنوا، ثم هي خالصة للذين آمنوا يوم القيامة؛ فعلى ذلك قوله: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً)، هي رحمة الدنيا: المؤمن والكافر جميعا في تلك، فأما رحمة الآخرة ليست إلا للذين آمنوا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَعِلْمًا) أي: علم ما فيها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) ويحتمل وجوهًا: أحدها: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا) من الشرك، (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي: دينك، وهو الإسلام. والثاني: أي: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا) عن الكبائر والفواحش (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي: طاعتك. والثالث: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا) عن جميع المعاصي صغائر أو كبائر واتبعوا طاعتك،

(8)

واللَّه أعلم. وقوله: (وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) ظاهر. ثم قوله: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا). لا يمكن العمل بها على قول المعتزلة؛ لأن رحمة اللَّه عندهم لا تسع لذنب واحد، فإنه ليس له أن يعفو عنه؛ فإن عندهم أن من ارتكب كبيرة، ليس له أن يرحمه، ولكن يعاقبه -على زعمهم- خالدا مخلدا، وإذا كان هذا قولهم ومذهبهم، فليست رحمته بواسعة بزعمهم. ثم يقولون - أيضاً -: إن اللَّه تعالى قد هدى كل كافر وأعطاه ما يهتدي به، لكنه لم يهتد به، وأنه لم يبق عنده ما يهديه به؛ فعلى هذا القول رحمته لا تتسع لهداية الكافر، فإذن رحمة اللَّه بزعمهم على خلاف ما ذكر اللَّه تعالى ووصفها بالسعة، واللَّه الموفق. وأما عندنا فهو ما ذكرنا من جمع الكل في ذلك؛ لما ذكرنا أن تلك الرحمة هي الرحمة الدنيوية، أو ما ذكرنا من كون اللطائف عنده من أعطاها اهتدى، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) هذا يخرج على وجوه: أحدها: أن الوعد كان منه لجملة المؤمنين، فسألوا أن يدخل قوم على الإشارة والتيقين في جملة ذلك الوعد؛ لاحتمال خصوص في الجملة، واللَّه أعلم. والثاني: سألوه أن يجيبهم على الأسباب والأعمال التي يستوجبون ذلك، واللَّه أعلم. والثالث: يجوز أن يكون الوعد لهم بشرط الذي سألوه، واللَّه تعالى عالم في الأزل: أنه يوجد ذلك الشرط وهو سؤالهم؛ فيكون لهم ذلك الوعد، ومثل ذلك جائز، قال الله تعالى: (كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)، إنما يعذبهم بسؤال هَؤُلَاءِ على ذلك كان: إنما تقديره: أنه لا يعذبهم إذا سألوا، وعلم أنهم سألوا؛ وعلى ذلك الحديث الوارد: أن الصدقة تزيد في العمر، جرى تقديره في الأزل أنه يوجد منه الصدقة، فيكون عمره زائدًا؛ على ما لو علم أنه لا يتصدق، وإنما لا يجوز التعليق بالشرط في حق اللَّه تعالى على نحو ما يكون في حق العباد أن يوجد عند وجود الشرط، ولا يوجد عند عدمه، ولا علم لهم بعاقبة ذلك، واللَّه تعالى عالم بالعواقب، فمتى علق بشرط كان ذلك منه في الأزل حكما على أن يوجد مع ذلك الشرط لا محالة، لما علم وجود ذلك الشرط مع علمه أنه لو لم يكن ذلك الشرط كيف كان، واللَّه الموفق. أما ظاهر الآية أنه إذا وعدها لهم، لأدخلها لا محالة فيها؛ فلا معنى للسؤال في ذلك لما يخرج السؤال في مثله مخرج السؤال في تصديق الوعد والامتناع عن الخلف، ولكن

(9)

الآية تخرج على الوجوه التي ذكرنا. وقوله: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ. . .) الآية. سألوه أيضًا إدخال هَؤُلَاءِ في ذلك الوعد أيضًا على ما ذكرنا. وقوله: (وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ... (9) هذا يحتمل أنهم سألوا أن يقيهم في الآخرة أمورًا تسوءهم من الأهوال والأفزاع، وغير ذلك من العذاب. ويحتمل في الدنيا أمر الشرك وغيره؛ يدل عليه قوله: (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي: ومن تق السيئات في الدنيا، فقد رحمته يومئذ (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) ذكر أن أهل النار إذا دخلوا النار وعاينوا ما أنكروا من البعث والعذاب، فجعل كل إنسان منهم يمقت نفسه، ويلومها، فينادون: لمقت اللَّه إياكم أكبر مما أوجب عليكم من اللعن، والنقمة أكبر مما تمقتون به أنفسكم وأشد؛ هذا وجه، ووجه آخر: جائز أن يقال لهم: إن الواجب عليكم أن تروا مقت اللَّه إياكم وقت ارتكابكم العصيان وعند تعاطيكم ما تعاطيتم أكبر وأشد من مقتكم العذاب ودخولكم النار؛ لأنكم إن رأيتم مقت اللَّه إياكم عند ارتكابكم ما ارتكبتم أنه ينزل بكم، لزجركم ومنعكم عن ارتكاب ذلك وتعاطيه، وحملكم على إيثار ما دعيتم إليه. من التوحيد لله تعالى والإيمان به، واللَّه تعالى أعلم. وعلى هذين التأولين يرجع تأويل قوله: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ). أحدهما: أن ذكر اللَّه إياكم بالرحمة والمغفرة أكبر وأعظم من ذكركم إياه، وصلواتكم وعبادتكم له. والثاني: أن ذكر نفس نهي اللَّه تعالى إياكم عن المعاصي وقت ارتكابها أكبر -في الرهبة عنها والمنع- من الصلاة نفسها، إن كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)؛ لما أن الصلاة فيها أعمال تشغل عن ذكر النهي، واللَّه أعلم. ثم قوله تعالى: (مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ). يحتمل وجهين: أحدهما: أي: مقت بعضكم بعضًا كقوله: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا). ويحتمل ذلك كقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى) أي: يمقت كل إنسان نفسه؛ لما كان

(11)

من العصيان والكفر، وإنما احتمل هذين الوجهين؛ لأن المنع لهم من طاعة اللَّه تعالى واتباع أمره ونهيه، يكون بأنفسهم، ويكون من بعضهم بعضًا؛ فيكون محتملا لكلا الوجهين، وهو كقوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وقوله: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ): ولا تهلكوا بعضكم ببعض؛ إذ الظاهر أن المرء مع قيام عقله لا يهلك نفسه، ولا يلقيها في التهلكة، وكذا لا يسلم على نفسه. ويحتمل الظاهر أيضًا أن يسلم على نفسه إذا دخل البيت، ولم يكن معه غيره؛ ولذلك نهي عن إهلاك نفسه عند شدة الغضب، ونحو ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عز جل -: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11). قال بعض أهل التأويل: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم اللَّه تعالى في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وابن مسعود فيما أرى، ويقولون هو كقوله تعالى: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ): إحدى الموتتين هي التي تنقضي بها آجالهم، ثم يحييهم في القبر، ثم يميتهم، ثم يحييهم للبعث يوم القيامة، فهما موتتان وحياتان، وإلى هذا يذهب ابن الراوندي، ويحتج بهذا على عذاب القبر، وهو أشبه وأقرب؛ لأنهم بكونهم في أصلاب آبائهم أمواتا لا يقال: (أَمَتَّنَا) وهم كانوا أمواتا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ). يحتمل اعترافهم بذنوبهم: هو ما أنكروا في الدنيا قدرة اللَّه تعالى على البعث والإحياء بعد الموت والعذاب لهم لما عاينوا ذلك وشاهدوا أقروا به، فإنكارهم ذلك هو ذنبهم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون ذنوبهم التي اعترفوا بها ما ذكر في سورة (تبارك) حين قال لهم الخزنة لما ألقوا في النار: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)، فيكون اعترافهم بذنوبهم هذا، واللَّه أعلم. وقوله: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) قوله: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ) أي: ذلك المقت الذي ذكر أو العذاب الذي نزل بكم إنما كان (بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ)، أي: كفرتم بتوحيده، (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ) أي: توحيد اللَّه (تُؤْمِنُوا) به، أي: يصدقوا هذه الآية كقوله: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)، فهما

(13)

بمعنى واحد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ). قال قتادة: لما خرج أهل حروراء قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " من هَؤُلَاءِ؟ قيل: المحكمون، قال قائل: هم القراء، قال - عليه السلام - ليسوا بالقراء، ولكنهم العيابون الخيابون، قال: إنهم يقولون " لا حكم إلا لله، قال علي - رضي الله عنه -: كلمة حق أريد بها باطل "، وذكر: " عني بها باطل ". * * * قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وقوله: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ). اختلف في قوله: (يُرِيكُمْ) هو ما أراهم بمكذبي رسله ومصدقهم من أوائلهم حيث استأصل هَؤُلَاءِ بتكذبيهم رسله، وأنجى مصدقيهم بتصديقهم إياه؛ ليحذر هَؤُلَاءِ عن تكذيب رسوله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراهم آيات وحدانيته وربوبيته وقدرته وسلطانه في السماوات والأرض ما لو تأملوا لعرفوا ذلك؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، آيات وحدانيته وربوبيته، وذكر أنهم يمرون عليها، أي: يرونها - لكنهم يعرضون عنها، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ): يا أهل مكة إذا سافرتم رأيتم آيات المتقدمين ومنازلهم وهلاكهم؛ وهو الأول بعينه. وقوله: (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا). يخبر عن آيات وحدانيته أيضًا: أنه ينزل رزقهم من السماء، وحيل الخلق تنقطع عن استنزال الرزق من السماء؛ ليعلموا أن منشئ الأرض والسماء واحد حيث اتصل منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما. ويحتمل أنه يذكر نعمه عليهم حيث يعلمون أنه هو الذي أنزل أرزاقهم من السماء دون من يعبدون من الأصنام، فكيف تصرفون عبادتكم وشكركم إلى غيره؟! وقوله: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ).

(14)

وما يتذكر بما ذكر من الآيات ولا يتأملها إلا من ينيب إليه بطاعته. أو يقول: لا يتذكر ولا يتعظ بآياته ومواعيده إلا من ينيب إليه بالقبول لأمره وطاعته. وقوله: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) كأن هذا صلة ما تقدم من قوله تعالى: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. . .) الآية، وصلة قوله: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) يقول: فادعوا اللَّه يا أصحاب مُحَمَّد، وأيها المؤمنون مخلصين له الدِّين، ولو كره الكافرون ذلك، ووحدوه، ولا تشركوا به شيئًا على ما يشرك به أهل مكة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ... (15) يحتمل وجهين: أحدهما: رفيع السماوات درجة على درجة، وطبقًا على طبق؛ على ما رفعها واحدة على أخرى. والثاني: قوله: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) أي: درجات أهلها ومنازلهم التي جعلها لهم في الآخرة على تفضيل بعض على بعض في الدرجات؛ كقوله - تعالى -: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا): أخبر أنه فضل بعضًا على بعض في الدرجات في الآخرة، فجائز أن يكون ما ذكر من رفع الدرجات هو رفع السماوات درجة فدرجة، فهو إخبار عن قدرته وسلطانه أنه من قدر على رفع السماوات في الهواء وإقرارها فيه بلا سبب من أسباب إمساكها من التعليق بشيء، مع ثقلها وغلظها ولا شيء يقر في الهواء بحيث لا ينحط ولا يتسفل ولا يرتفع عن أماكنه بلا سبب من الأسفل والأعلى لا يحتمل أن يعجزه شيء أو يخفى عليه شيء أو يمنعه شيء عما يريد، والله أعلم. وإن كان المراد بالدرجات التي يجعل لأهلها في الآخرة إنما يستوجبونها باللَّه تعالى بأعمال تكون لهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ)، اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو جبريل - عليه السلام - (يُلْقِي) أي: ينزل بالوحي بالنبوة (عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)؛ كقوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ)، أخبر أنه أمين؛ ليعلم أنه ليس في إنزاله غلط ولا شيء مما قاله بعض الروافض: إنه بعث إلى فلان وأداه إلى غيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الروح هاهنا هو الوحي والرسالة؛ يقول: (يُلْقِي) هو الوحي على من يختار ويصطفي من عباده، واللَّه أعلم.

(16)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ). اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: يوم يلقى أهل الأرض أهل السماء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يوم يلقى الآخرون الأولين. وجائز أن يكون هو يوم يلقى الإنسان عمله وأفعاله التي عملها، واللَّه أعلم. وقالت الباطنية: أي: يوم يلقى الصور المتولدة من الأجساد بأعمال الخير والشر التي كانت لهم في الدنيا الصور التي كانت لهم روحانية؛ لأن من مذهبهم أن من مات منهم يحدث ويتولد بالأعمال التي كانت لهم من الخير صورًا روحانية تلقى هذه الصورة الحادثة المتولدة من الأجساد بعد الموت، ويكون البعث عندهم للأرواح فتتصل هذه الأرواح النورانية بالنور الصرف، ويستدلون بقوله: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ)، أي: تبرز تلك الصور الروحانية من الأجساد؛ إذ الخلائق كلهم في جميع الأحوال والأوقات بارزون ظاهرون لله تعالى لم يكونوا في وقت مستورين عنه. ولكن هذا فاسد؛ لأنه لو كان الأمر على ما يقوله الباطنية لكانت الأنفس إذا نامت وخرجت منها الصور الروحانية، فرأت رؤيا كانت تراها مختلطة غير متحققة، وفي حالة اليقظة تراها متحققة غير مختلطة؛ دل أن الإدراك للأجساد بواسطة الصور الروحانية، فيجب أن يكون البعث للكل، واللَّه أعلم. ولكن الوجه في ذلك ما ذكرنا، وأصله أنه سمي ذلك اليوم على ما سمي: يوم الجمع، ويوم التغابن، ويوم الحشر، وغير ذلك، سمي ذلك اليوم على أسماء مختلفة، كل اسم من ذلك لمعنى غير المعنى الآخر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ظاهرون، لا شيء هنالك يسترهم، أي: يرتفع يومئذ جميع السواتر؛ وهو كقوله تعالى: (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا). أي: لا شيء فيها، يذكر هذا لأن من الناس من يقول: يستر الأشياء عن اللَّه تعالى بالسواتر ردًّا لقولهم. ويحتمل أن يكون قوله: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ) سمي ذلك اليوم: يوم البروز؛ لما يتفقون جميعًا ويقرون بالكلمة التي اختلفوا في الدنيا فيها، فيبرزون جميعًا متفقين مقرين على تلك الكلمة يومئذ وهي كلمة التوحيد، واللَّه أعلم.

(17)

ويحتمل أن يكون سماه: يوم البروز، والمصير، والرجوع، وما ذكر؛ لأن المقصود من إنشاء الدنيا وما فيها من الخلائق ذلك اليوم وتلك الدار، وكذلك صار إنشاء الدنيا وإنشاء ما فيها حكمة؛ لما عرف أن الإنشاء للإفناء خاصة ليس بحكمة، فخص ذلك اليوم بما ذكرنا وإن كانوا في جميع الأحوال بارزين إليه ظاهرين له، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ). ظاهر، وهو رد لقول من يقول: إن شيئًا يستر على اللَّه تعالى اللَّه عن ذلك علوًّا كبيرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). قال عامة أهل التأويل: إذا أهلك اللَّه تعالى أهل الأرض وأهل السماء فلم يبق أحد إلا اللَّه تعالى، فعند ذلك يقول: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فلا يجيبه أحد، فيقول هو في نفسه ويجيب نفسه: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، لكن هذا بعيد لا يحتمل أن يقول: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ولا أحد سواه، ويجيب نفسه: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)؛ لما لا حكمة في ذلك: أن يسأل نفسه ثم يجيبها، لكن الوجه فيه - واللَّه أعلم - أنه إنما يقول لهم ذلك إذا بعثهم وأحياهم: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فيقول الخلائق له بأجمعهم: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، يقرون له جميعًا يومئذ بالملك والربوبية وإن كان بعض الخلائق في الدنيا قد نازعوه في الملك فيها وادعوا لأنفسهم، فيقرون يومئذ أن الملك في الدنيا والآخرة لله تعالى، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ... (17) أي: من خير أو شر. (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ). أي: لا تجزى غير ما كسبت. ويحتمل (لَا ظُلْمَ) أي: لا نقصان في الحسنات التي عملوها، ولا زيادة على السيئات التي اكتسبوها، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). قد ذكرنا هذا أيضًا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18). سمى ذلك اليوم الآزفة، لقربه ودنوه منه؛ وعلى ذلك سماه: غدا، وقريبًا؛ كقوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)، وقوله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ. . .) الآية

؛ فعلى ذلك سماه " آزفة " لدنوه وقربه منهم، يقال: أزف فلان إلى فلان، أي: قرب ودنا منه، ومعناه: أي: أنذرهم بما إليه مرجع عاقبتهم ومصيرهم؛ لأن أهل العقل والتمييز إنما يعملون ويسعون للعاقبة وما إليه يرجع أمورهم وهو ذلك اليوم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ). يخبر عن شدة حالهم وفزعهم في ذلك اليوم، ليس أن يزول قلوبهم عن أمكنتها وترتفع إلى الحناجر حقيقة، ولكنه وصف لشدة حالهم في ذلك اليوم وكثرة خوفهم وفزعهم وضيق صدورهم؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)، أي: ضاقت صدورهم وقلوبهم بما حل بهم من الشدائد والأهوال، ليس أن صارت الأرض في الحقيقة مضيقة لا يسعون فيها، ولكن وصف لضيق صدورهم لعظم ما نزل بهم، فكنى بضيق الأرض عن ضيق صدورهم؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من كون القلوب لدى الحناجر كناية عن ضيق صدورهم لشدة حالهم وعظيم ما حل بهم، واللَّه أعلم. والحناجر هي مواضع الذبح من الشاة وغيرها من الدواب، واحدها: حنجرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَاظِمِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الكاظم: المغموم الذي يتردد خوفه في جوفه غيظًا؛ لما كان منه في الدنيا. وقيل: الكاظم لا يتكلم، قد كظم من الخوف. وقيل: الذي لا يفتح فمه؛ وهو قريب بعضهم من بعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ). أي: قريب، وقيل: الحميم: هو الذي يهتم بأمر صاحبه، ويسعى في دفع ما نزل به من البلاء. وقوله: (وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ). أي: يجاب: يذكر: ألا يكون لهم في الآخرة قريب يهتم لأمرهم، ولا شفيع يشفع لهم؛ فيجاب كما يكون في الدنيا؛ وكذلك قوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي: لا يكون لهم شفعاء ينفعهم شفاعثهم، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ. . .) الآية 254.

(19)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ ... (19) والخيانة واحد، وهو ما قال عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ)، أي: خيانة منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي النظرة بعد النظرة: أما الأولى فليس فيها شيء، وأما الثانية فعليه مأثمها. وقوله: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ). أي: ما لم يتكلم به المرء ولم يعمل، كل ذلك يعلمه اللَّه تعالى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خائنة الأعين: هي النظرة فيما لا يحل والغمزة بعينه؛ وهو مثل الأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خائنة الأعين: هي التي ينتظرها: غفلة الناس إذا غفلوا عنه، نظر إلى ما يهواه ويحبه، و (تُخْفِي الصُّدُورُ) هو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ)، يذكر هذا ليكونوا أبدًا مراقبين أنفسهم، حافظين لها عما لا يحل من السمع والبصر والفؤاد، وعلى ما ذكر في آية أخرى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، ليكونوا أبدًا على حذر من ذلك وخوف، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ). قال أهل التأويل: أي: الحكم بالحق. والقضاء المذكور في الكتاب يخرج على وجوه: أحدها: (يَقْضِي) أي: يأمر؛ كقوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)؛ وكقوله: (إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا)، أي: إذا أمر أمرًا، يقول: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي: يأمر بالحق، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي: لا يملكون الأمر بالحق، فكيف تعبدون من دونه؟! والثاني: القضاء: الوحي والخبر؛ كقوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ)

(21)

أي: أوحينا إليهم، فكأنه يقول: واللَّه يوحي بالحق ويخبر به، والذين يدعون من دونه لا يملكون الوحي ولا الخبر، فكيف اخترتم عبادتهم على عبادة من يوحي بالحق ويخبر؟! واللَّه أعلم. والثالث: القضاء هو الخلق والإنشاء؛ كقوله تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) أي: خلقهن، فيكون قوله على هذا (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ)، أي: يخلق بالحق، والذين يدعون من دونه لا يخلقون شيئًا، وقد يعلمون استحقاق العبادة إنما يجوز بالخلق والإنشاء؛ وهو كقوله تعالى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ)، (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ)، يقول: خلق من يدعون دونه كخلقه حتى تشابه ذلك عليهم فعبدوهم؛ إذ يعلمون أن من خلق ليس كمن لم يخلق، وقد تعلمون أنها لم تخلق شيئًا، فكيف عبدتموها؟! واللَّه أعلم. ثم أقول: أصل التأويل (يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي: يحكم بالحق في الدنيا بالآيات والحجج ما عرف كل أحد أنها حجج وآيات وبراهين، والحكم بما ذكرنا حكم بالحق، واللَّه أعلم. والثاني: أي يحكم بالحق في الآخرة وهو الشفاعة، أي: لا يجعل الشفاعة لمن يعبدون على رجاء الشفاعة؛ كقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، ولكن إنما يجعل لمن ارتضى؛ كقوله تعالى: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: السميع للمؤمن، أي: المجيب للمؤمن، والبصير لعقاب أُولَئِكَ. وقيل: السميع لأقوالهم، البصير بأفعالهم. وجائز أن يكون قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) صلة ما تقدم من قوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) يقول: السميع بما يكون منهم ظاهرا من قول أو فعل، والبصير بما أخفوا في قلوبهم وتكن صدورهم، يخبر بهذا؛ ليكونوا أبدًا مراقبين حافظين أنفسهم ما ظهر وما خفي، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21). هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: ما قال الحسن: إنهم لو ساروا فنظروا في آثار من كان قبلهم من مكذبي الرسل، لكان لهم في ذلك زجر ومنع عن مثل صنيع أُولَئِكَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الخبر، أي: قد صاروا في الأرض، ونظروا في آثار من تقدمهم، لكنهم لم ينظروا نظر اعتبار أنه لماذا أصابهم ما أصابهم؟ واللَّه أعلم. وقال قائلون: هو على الإيجاب والإلزام، أي: سيروا في الأرض وانظروا في آثار أُولَئِكَ الذين كانوا من قبل هَؤُلَاءِ؛ كقوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا). ولكن نقول: ليس على حقيقة السير في الأرض بالأقدام ولا نظر العين والبصر، ولكنه أمر منه لهم بالتفكر والاعتبار في آثار من كان قبلهم، وإلى ماذا صار عاقبة أمر صنيع مكذبي الرسل ومصدقيهم؟ لينزجروا عن مثل صنيع مكذبهم، ويرغبوا في مثل صنيع مصدقهم، واللَّه أعلم. وقوله: (كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً)، في أبدانهم وأنفسهم، (وَآثَارًا)، أي: خبر أو ذكر في الأرض. ويحتمل (وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ) أي: أشد أعمالا في الأرض، وليس كما يقول بعض المعتزلة: أي: أنهم كانوا أشد منهم قوة في الخيرات، فإن كان ما ذكر فذلك ليكون أصلح لهم، وهذا بعيد سمج من القول، والوجه فيه ما ذكرنا أنهم كانوا أشد منهم قوة في أبدانهم وأنفسهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ). يخبر أن أُولَئِكَ الذين كانوا من قبل هَؤُلَاءِ كانوا أشد من هَؤُلَاءِ قوة وأشد آثارا في الأرض، ثم لم يمنعهم شدة قوتهم في أبدانهم وأنفسهم وما ذكر من آثار الأرض ولم يدفعوا عن أنفسهم ما نزل بهم من عذاب اللَّه، فأنتم يا أهل مكة دونهم في البطش والقوة، فكيف تمنعون عذاب اللَّه إذا نزل بكم؟! واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ). ذكر - واللَّه أعلم - أن أُولَئِكَ قد عبدوا الأصنام رجاء أن تشفع لهم في الآخرة وتقربهم إلى اللَّه زلفى، كما تعبدون أنتم على رجاء الشفاعة لكم والتقرب إليه، ولو كانت عبادتهم إياها طريق الشفاعة وسبب التقريب، لكان يغيثهم من عذاب اللَّه في الدنيا، وهو كما ادعت اليهود أنهم أبناء اللَّه وأحباؤه، فقال ردَّا عليهم بقوله: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) أي: في الدنيا لو كنتم على ما تزعمون؛ إذ لا أحد يهلك ويعذب ولده وحبيبه في الدنيا فعلى ذلك الأول.

(22)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) فقوله: (ذَلِكَ) يقول: ذلك العذاب والإهلاك الذي نزل بهم لما كانت أتتهم رسلهم بالبينات، فكفروا وكذبوا الآيات والأدلة التي أتتهم رسلهم أنهم رسل اللَّه إليهم، فأصابهم ما أصابهم، كذلك فأنتم يا أهل مكة إذا كذبتم الرسول بعد ما أتتكم البينات والأدلة على رسالته، ينزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ بالتكذيب والعناد ورد الآيات والأدلة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا). يحتمل (بِآيَاتِنَا) أي: بحججنا، وذكرنا أنه يحتمل أن الآيات والسلطان واحد، ويحتمل أنهما غيران. وقوله: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ ... (24) ليعلم أنه كان مبعوثًا إلى الكل لم يبعث إلى بعض دون بعض. وقوله: (فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ). دل قولهم: ساحر كذاب على أن موسى - عليه السلام - قد آتاهم من الآيات والحجج ما عجزوا عن إتيان مثلها والمقابلة لها؛ فخافوا أن يتبعه الناس لذلك، فموهوا بقولهم: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ) على سائر الناس؛ لئلا يتبعوه فيما يدعو؛ لما عرف الناس أن السحر ليس يعرفه كل أحد وأن أكثر الناس يعجزون عن السحر، وكانوا يعرفون أن السحر يكون كذبًا، فموهوا بذلك القول أمر موسى - عليه السلام - على أتباعهم، ونسبوه إلى الكذب من غير أن ظهر من موسى كذب قط، وقد كان لم يزل من فرعون تمويه وتلبيس على قومه أمر موسى؛ مخاقة أن يتبعوه؛ لما أتاهم من الحجج والأدلة التي ظهرت عندهم أنها حجج وأدلة، من ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) وقوله: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)، قال هذا بعد ما اتبعه السحرة وآمنوا به؛ ليموه بذلك أمرهم على من لم يبع موسى من الأتباع، وقوله: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا)، وغير ذلك من التمويهات التي كانت منه؛ فعلى ذلك هذا القول منهم حيث قالوا: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ) لأنهم اعتادوا.

(25)

وجائز أن يكون قولهم: إنه كذاب؛ لأنهم اعتادوا عبادة الأصنام دون اللَّه تعالى، فلما جاء موسى - عليه السلام - بما يمنعهم عن عبادة ما اعتادوا من العدد، ودعاهم إلى عبادة الواحد - قالوا: إنه كذاب، وكذلك قال أهل مكة لرسولنا وسيدنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إنه (سَاحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)، سموه: كذابًا؛ لما دعاهم إلى عبادة الواحد، ومنعهم عن عبادة ما اعتادوا من العدد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي جاءهم بالتوحيد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: جاءهم بالرسالة. وكأن غير هذا أقرب، أي: فلما جاءهم بما يظهر عندهم من الحجج أنها آيات، وأنها من عندنا جاءت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ). أمر أتباعه أن يقتلوا أبناء من آمن منهم؛ لينزجروا بذلك عن متابعة موسى؛ لما رأى ما كان من التمويهات والحيل لم يمنعهم عن اتباعه، بل كانوا يتبعونه، فأوعدهم بقتل الأبناء كما كان يقتل الأبناء عندما قيل له: إن ذهاب ملكك بولد يولد كذا. . .، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ). لا شك أن كيدهم في الآخرة في ضلال، ولكن أراد كأن كيدهم في الدنيا ظهر أنه ضلال؛ حيث لم يمنعهم كيده وحيله وتمويهاته عن اتباع موسى، عليه السلام. وقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26). قال هذا؛ لما رأى أنه لم يمنعهم عن اتباع موسى ما ذكر من قتل الأبناء، قال عند ذلك: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى) وهو يحتمل وجوها: أحدها: يحتمل أنه هم فرعون أن يقتل موسى - عليه السلام - فمنعه قومه أو الملأ من قومه عن قتله، فقال عند ذلك: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى). والثاني: يحتمل أنه قال هذا مبتدأ من غير أن كان منهم منع إياه عن قتله، وهو كما قال ربنا - جل وعلا - لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)، من غير أن كان من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منع له عن ذلك، وهذا في كلام العرب موجود سائغ التكلم به على الابتداء من غير أن كان من أحد منع عما يريدون أن يفعلوا، واللَّه أعلم. والثالث: يحتمل (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى) أي: ذروني لائمتي في قتل موسى، أي: لا تلوموني إذا أنا قتلته، واللَّه أعلم.

(27)

وقوله: (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)، يحتمل وجهين: أحدهما: أنه كان ذلك من فرعون يقول: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) يمنعني عن قتله إن كان صادقًا فيما يدعي من الرسالة؛ لأن من أرسل رسولا، فهمَّ أحد قتله أو الضرر به، منعه المرسِل عن ذلك، فعلى ذلك يقول، واللَّه أعلم. والثاني: يكون ذلك أمرًا من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - موسى بالدعاء على فرعون بالهلاك؛ لما هم قتله، وعلى ذلك الرسل - عليهم السلام - قد أذن لهم بالدعاء على فراعنتهم ومعانديهم ومكابريهم إذا بلغوا في العناد غايتهم والتمرد نهايتهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ). قد كان هناك تبديل الدِّين فإنه قد أظهر موسى - عليه السلام - دين الحق وآمن أتباعه، لكن كأنه أراد - واللَّه أعلم - بقوله: (أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ)، أي: يذهب بدينكم من الأصل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ). ذكر اللعين، وسمى إظهار التوحيد في الأرض ودين الإسلام: فسادًا ليعلم أن كل مدعٍ شيئًا وإن كان مبطلا في دعواه فعنده أنه على حق وأن خصمه على باطل؛ فلا يقبل قول أحد إلا ببرهان، واللَّه أعلم. ويحتمل أن فرعون اللعين أراد بقوله: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) قتل أبنائهم أي: يقتل موسى أبناءكم مجازاة لما قتلتم أنتم أبناءهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) يحتمل قوله: (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ)، أي: متكبر على التوحيد. ويحتمل متكبر على الرسل لا يؤمن بما يدعوه الرسول إلى الإيمان بيوم الحساب، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ

(28)

عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ... (28) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: من آل فرعون في الظاهر، وإلا لم يكن في الحقيقة من آله، وإنما هو من آل موسى وأتباعه؛ حيث آمن به وترك اتباع فرعون، واللَّه أعلم. والثاني: من آله، أي: من نسبه؛ لأنه ذكر أنه كان ابن عمه، واللَّه أعلم. وقوله: (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ). إشفاقًا على نفسه، ولا يظهر الموافقة لهم على ما هم فيه؛ إذ قدر على الكتمان دون إظهار الموافقة لهم، وعلى ذلك المكره على إظهار الكفر إذا قدر على ألا يظفر ما أريد منه من كلمة الكفر ولا يقتل بالامتناع لا يسع له إظهار ذلك لهم، فإن لم يقدر فحينئذ يسع؛ فعلى ذلك ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ). فيه إخبار أنه كان يكتم إيمانه؛ إشفاقًا على نفسه، فلما خاف إهلاك رسول الله موسى - عليه السلام - فعند ذلك أظهر ما كان يكتمه وإن كان في إظهار ذلك إهلاك نفسه بعد أن يرجو نجاة نبي - من الأنبياء - عليهم السلام - وهكذا يجب ألا يسع كتمان ما كان يكتمه وإن كان نفسه تهلك إذا أظهر إذا كان في إظهار ذلك نجاة رسول من رسل الله تعالى - عليهم السلام - بحجج يدفع الهلاك بها عن نفس ذلك الرسول؛ وكذلك ذكر عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أهل مكة لما هموا قتل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإهلاكه، ألقى أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نفسه عليه، وقال ما قال ذلك الرجل الذي كان يكتم إيمانه حيث قال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) فعند ذلك نزلت هذه الآية على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولم تكن نزلت قبل ذلك، واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ). أي: جاءكم من البينات ما يبين أنها آيات من عند اللَّه لا اختراعًا من موسى - عليه السلام - ويبين أنه صادق فيما يقول ويدعي. وقوله: (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ). أي: وإن كان كاذبًا فيما يدعوكم إليه فعليه كذبه، وإن كان صادقًا فيما يقول ويدعي يصيبكم بعض الذي يعدكم، فهو يعلم أنه صادق فيما يقول حقيقة، ولكن لما كان عند القوم احتمل الأمر، ذكر على ما في زعمهم؛ دفعًا للقتل عن موسى، عليه السلام. ثم الإشكال أنه قال: (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ذكر أنه يصيبهم بعض الذي يعد الرسل، والرسل إذا وعدوا شيئًا يصيبهم بكماله، لا يجوز أن يكون خلاف ما أخبروا أو دون ما ذكروا، لكن يخرج على وجوه: أحدها: أنه كان وعده إياهم أن يصيبهم العذاب في الدنيا والآخرة، فيقول: (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، وهو ما وعد لهم أن يصيبهم في الدنيا، وأما ما وعد لهم في الآخرة، فهو يصيبهم في وقت آخر وهو في الآخرة، فما أصابهم في الدنيا فهو بعض ما جرى الوعيد منه لهم؛ لأن الوعيد كان منه في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل أنه كان - عليه السلام - وعدهم بأنواع من العذاب، وقد أصابهم بعض ذلك من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونحو ذلك، وفي بعض ما وعدهم هو هلاكهم؛ فكأنه يقول لهم: إنكم قد أصابكم كثير من ذلك، فيصيبكم بعض ما يعدكم الذي فيه هلاككم مبالغة في الزجر؛ لما قد أصابهم ما وعد لهم من أنواع العذاب، ولم يكن وعده كذبًا، فبعض ما يعدكم - وهو الهلاك - كيف يكون كذبًا؟! واللَّه أعلم والموفق. والثالث: أراد بالبعض: الكل؛ لأنه أراد بهذا البعض: الهلاك، وهو البعض الأقصى، فيدخل العالي فيه لأنه إذا أوعده بأنواع من العذاب منها الهلاك يكون الهلاك هو البعض الأقصى؛ إذ لا عذاب في الدنيا بعد الهلاك، فيكون سائر أنواع العذاب في الدنيا يكون قبل الهلاك، فإذا أريد به هذا البعض يدخل فيه ما قبله، ويكون ذكره ذكرا للكل؛ إذ لا وجود له بدون سائرها؛ لذلك قال: (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)، هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أنه لا يهدي من هو في علمه أنه يؤثر الإسراف والكذب.

(29)

والثاني: لا يهدي من هو مختار الإسراف والكذب وقت اختيارهم الإسراف والكذب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ... (29) يخرج على وجهين: أحدهما: يحتمل أن يقول ذلك بعد ما سألوه أن يتبع دينهم وما هم فيه: إني لو اتبعتكم وأجبتكم ومعكم الملك والحشم والغلبة وليس معي ذلك، فإذا جاء بأس اللَّه وعذابه فصرتم أنتم ممتنعين عنه بما معكم، فمن ينصرنا من عذاب اللَّه وليس معنا ذلك؟! وإن كان يعلم حقيقة أن ما معهم من الغلبة لا يمنع من عذاب اللَّه، لكن قال ذلك بناء على اعتقادهم؛ إظهارًا للعذر عندهم؛ كي لا يقدموا على قتله لصيانة حياته، ومثل هذا لا بأس به، واللَّه أعلم. والثاني: يقول على الرفق بهم وإظهار الموافقة لهم في الظاهر؛ يقول: إنه قد جاءنا من اللَّه البينات ما أوضح الحق وبين السبيل، فإذا رددنا ذلك وكذبناهم جاءنا بأس اللَّه جملة وعذابه، فمن يمنعنا عنه وينصرنا من عذابه إذا خالفنا أمره وتركنا اتباع دينه؟! على هذين القولين يخرج القول منه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ما آمركم إلا بما رأيته لنفسي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي ذلك، لكن ليس للَّعِين أن يختار لهم ما اختار لنفسه؛ لأن ما اختار لنفسه باطل فاسد، وكذب اللعين أيضًا حيث قال: ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي؛ لأنه اختار لهم أن يعبدوه ولم يختر لنفسه عبادة أُولَئِكَ أن يعبدهم، فهو كذب من القول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ). كذب أيضًا في قوله: إنه لا يهديهم إلا سبيل الرشاد، بل كان يهديهم سبيل الغي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ... (31). كأن فيه إضمار القول: إني أخاف عليكم يوما مثل يوم الأحزاب، ويوما مثل يوم قوم نوح وعاد، فهو - واللَّه أعلم - صلة قوله فيما تقدم: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) وعظهم مرة واحتج عليهم بما جاءهم موسى بالبينات؛ حيث قال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)،

وتتركون اتباعه وتتبعون رجلا لم يأتكم بالبينات، هذا منه احتجاج عليهم: أن كيف تقتلون رجلا وتتركون اتباعه بعد ما جاءكم بالبينات من ربكم، وتتبعون من لا بينة معه ولا برهان؟! يسفههم في صنيعهم الذي أرادوا أن يصنعوا به، واللَّه أعلم، ووعظهم أيضًا وعظًا لطيفًا فيه رفق حيث قال: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) يقول - واللَّه أعلم -: إنكم إن قتلتم ذلك الرجل بعدما جاءكم بالبينات وتركتم اتباعه، فجاءكم عذاب اللَّه وبأسه، فمن ينصركم عن ذلك العذاب ويمنعكم عنه إذا قتلتم نبيه بغير حق؟! ثم وعظهم وعظًا بما نزل بمكذبي من كان قبلهم من الرسل حيث قال: (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ) يقول: إني أخاف عليكم أن ينزل بكم ويقع عليكم من عذاب اللَّه بتكذيبكم الرسول موسى - عليه السلام - وترككم اتباعه بعدما جاءكم بالبينات أنه رسول وأنه صادق فيما يقول ويدعي، كما نزل ووقع من العذاب بالأحزاب الذين كانوا من قبلكم ممن ذكر بتكذيبهم الرسل واستقبالهم إياهم بما استقبلوا بعد ظهور صدقهم عندهم بما تستقبلون أنتم رسولكم موسى، بعدما ظهر صدقه عندكم بالبينات التي جاءكم، واللَّه أعلم. ثم ما ذكر من الأحزاب فيحتمل أن يكون تفسيره ما ذكر على أثره من قوم نوح وعاد وثمود، ويحتمل سواهم من الأمم، واللَّه أعلم. ثم قوله: (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: مثل صنيع قوم نوح ومن ذكر وفعلهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: مثل عذاب قوم نوح ومن ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ). في هذه الآية للمعتزلة نوعُ تعلقٍ؛ يقولون: إن اللَّه تعالى قد أراد من العباد ما يفعلون من أفعال الظلم والجور، وقد أخبر اللَّه تعالى أنه لا يريد ظلمًا للعباد. ولكن الآية في التحقيق عليهم؛ لأنه قال في آية أخرى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ)، أخبر أنه أراد ألا يجعل لهم حَظًّا فِي الْآخِرَةِ، ولو لم يرد منهم ما يستوجبون به العذاب كان في تعذيبه إياهم ظالما على زعمهم؛ دل أنه أراد منهم ما يستوجبون به العذاب وهو فعل الظلم، واللَّه أعلم. ثم تأويل الآية يخرج على وجهين: أحدهما: أن الإرادة هي صفة كل فاعل يفعل عن اختيار، فكأنه قال: واللَّه لا يظلم عباده؛ كقوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

(32)

والثاني: فيه إخبار أنه لا يعاقَبُ أحد بذنب غيره، ولا يؤاخذ بجريمة غيره، ولا يزيد على قدر ما يستحقون به العذاب، أو لا ينقصهم من ثواب حسناتهم شيئًا؛ كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، وغير ذلك من الآيات ما فيها إخبار أنه لا يجزيهم بأكثر مما يستوجبون ليس على ظن أُولَئِكَ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ... ) وعظهم أيضًا بعذاب الآخرة وما يكون منهم من الندامة بتركهم اتباع الرسول، بعدما وعظهم بعذاب الدنيا وما نزل بأوائلهم بصنيعهم مثل صنيعهم، وهو ما قال: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ. . .) الآية. ثم قوله: (يَوْمَ التَّنَادِ) فيه لغات ثلاث: إحداها: (يَوْمَ التَّنَادِي) بالياء. والثانية: بالتخفيف على حذف الياء. والثالثة: بالتشديد. فمن قرأها بالتشديد، يقول: هو من ند يند ندًّا إذا مضى لوجهه هاربًا فارًّا من عذاب اللَّه، إذا عاينوا العذاب، وهو من ند الإبل وغيره - واللَّه أعلم -. ومن قرأه بالياء فهو التفاعل عن النداء، فهو على نداء بعضهم بعضًا يوم القيامة؛ كقوله تعالى -: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ)، وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)، ونحوه. ومن قرأه بغير الياء، فقد حذف الياء؛ كقوله: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)، وأصله: التنادي، واللَّه أعلم. ثم قوله تعالى: (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ... (33) قَالَ بَعْضُهُمْ: يوم تولون هاربين من النار مدبرين عنها؛ كقوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ). أي: ما لكم من عذاب اللَّه إذا نزل بكم من مانعٍ يمنعكم من عذابه.

(34)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) قد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34). أي: جاءكم يوسف من قبل موسى - عليه السلام - بالبينات، أي: بالآيات والأدلة على رسالته وصدقه، جائز أن يكون هذا قول ذلك الرجل لقومه يخبرهم عن سفه أوائلهم من تكذيبهم يوسف بأرض مصر قبل موسى، وما كان من القول منهم بعدما ذهب من بينهم وردهم آياته وحججه التي أتاهم بها، وما أخبر أنهم وأوائلهم لم يزالوا في شك وريب مما جاءتهم الرسل من الآيات والأدلة، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ) ويقول: لم تزل عادتكم وعادة أوائلكم هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا). جائز أن يكون وإن خاطبهم بقوله: (جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ)، وقوله: (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ)، وقوله: (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا) إنما أراد آباءهم وأوائلهم؛ لأن يوسف - عليه السلام - لم يكن في زمن هَؤُلَاءِ مبعوثًا إليهم على ما عاتب الأبناء بصنع آبائهم في غير آي من القرآن؛ كقوله: (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ)، وقوله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ)، وهَؤُلَاءِ لم يقتلوا الأنبياء ولا اتخذوا العجل، وإنما فعل ذلك آباؤهم وأوائلهم، ثم جاء العتاب لهم بسوء صنيع آلائهم وأوائلهم؛ فعلى ذلك هذا. وجائز أن يكون وإن خاطبهم بما ذكر من سوء الصنيع والتكذيب، إنما يخبر عن صنيع آبائهم وأوائلهم فيحذرهم عن مثل صنيع أُولَئِكَ من التكذيب لهم والرد لأدلتهم، والقول بعد ذهابه من بينهم، والكذب على اللَّه: إنه لم يبعث رسولا؛ يقول: إياكم أن تكذبوه وتردوا آياته وحججه، ثم تقولوا إذا مات موسى: لن يبعث اللَّه من بعده رسولا، كما قال أوائلكم: إذا مات يوسف: لم يكن من بعده رسول بقولهم: (حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا) ويشبه أن يخرج الآية على هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ). فقد ذكرنا تأويله من وجهين فيما تقدم. ثم قوله: (حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا) يخرج من وجهين: أحدهما: آمنوا به، وأنكروا رسالة غيره بعده بقولهم: لن يبعث اللَّه من بعده رسولا.

(35)

والثاني: أي: أنكروا رسالته في حال حياته ولم يؤمنوا به، فإذا هلك أنكروا أن يكون هو مبعوثًا إليهم رسولا، فيحذر هَؤُلَاءِ صنيع أُولَئِكَ ألا يكونوا كأُولَئِكَ آمنوا به وأنكروا رسالة غيره من الرسل بعده. أو يقول: لا تكونوا كأُولَئِكَ يكذبونه ما دام حيًّا، فإذا هلك يكذبون رسالته، يحذرهم سفه أوائلهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35). أي: يجادلون في دفع آيات اللَّه وردها بغير حجة وسلطان أتاهم من اللَّه، أو بغير حجة مكن لهم الاحتجاج بها، وإلا كان أهل الإيمان قد يجادلون فيها حتى إذا ظنوا أنها آيات اللَّه آمنوا بها وأقروا بها، لكن الوجه فيه ما ذكرنا، أي: جادلوا في دفع آيات اللَّه وردها بغير حجة أتتهم؛ كقوله: (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، واللَّه أعلم. وقوله: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا). هكذا الواجب على أهل الإيمان أن يمقتوا من الأعمال ما مقتها اللَّه تعالى، أو يمقتوا من مقته اللَّه من أعدائه؛ وعلى ذلك ذكر: إن خير أعمالكم حُب ما أحبه اللَّه وبُغْضُ ما أبغضه اللَّه أو كلام نحوه، وشر أعمالكم حب ما أبغضه وبغض ما أحبه اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ). أي: هكذا يطبع اللَّه على كل قلب من جادل في دفع آيات اللَّه وردها بغير حجة، أي: يطبع على كل من تعود التكبر والتجبر عليس الآيات والرسل، واللَّه أعلم. ثم قوله: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى. . .) من هو كذا، وكذلك يضلل، ونحوه كله حروف الاعتلال، بين اللَّه تعالى العلل التي لها لا يهديهم ويضلهم؛ وكذلك في قوله: (لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) ومسرف مرتاب ونحوه، أي: لا يهدي من كان طبعه وعادته الإسراف والكذب وكفران النعم ودفع الآيات والحجج بلا حجة وبرهان، فأمّا من كان طبعه وعادته غير هذا لكنْ لجِهْل جَهِلَ ذلك، أو لما يتحقق عنده لظنه وقلة التأمل، أو لاشتغاله بأمور الدنيا، أو لمعنى من المعاني يجوز أن يهديه اللَّه تعالى ويرشده، على هذا يخرج هذه الآيات، واللَّه أعلم. وعلى ذلك ما كان يصنعه فرعون اللعين من التمويهات والتلبيسات على أتباعه في

(36)

أمر موسى - عليه السلام - بعد معرفته أن ذلك ليس بقدح في الآيات والحجج التي أتاهم موسى - عليه السلام - أراد أن يموه ويلبس على قومه، فكل من كانت عادته وطبيعته ما ذكرنا من التمويه والتلبيس والمجادلة في دفع الآيات بلا حجة والتكبر عليها - فلا يهديه اللَّه تعالى ويطبع على قلبه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ... ). للمشبهة تعلق بظاهر هذه الآية يقولون: لولا أن موسى - عليه السلام - كان ذكر وأخبر فرعون: أن الإله في السماء، وإلا لما أمر فرعون هامان أن يبني له ما يصعد به إلى السماء ويطلع إلى إله موسى على ما قال تعالى خبرًا عن اللعين. لكنا نقول: لا حجة لهم؛ فإنه جائز أن يكون هذا من بعض التمويهات التي كانت منه على قومه في أمر موسى - عليه السلام - ومن بعض مكائده التي كانت منه به؛ من نحو قوله: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ)، وقوله: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)، وقوله: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ)، ونحو ذلك من التمويهات التي كانت منه؛ فعلى ذلك قوله: (ابْنِ لِي صَرْحًا. . .) و (فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) تمويه منه على قومه بموسى؛ يقول: إن موسى إنما يدعو إلى إله في السماء فهو نحو إله يكون في الأرض، يموه بذلك على الناس أمر موسى من غير أن كان من موسى ذكر، أو أخبر أن اللَّه - تعالى - في السماء على ما كان منه سائر التمويهات وإن لم يكن من موسى ذكر

(37)

تلك التمويهات له، واللَّه أعلم. ويحتمل أن فرعون قال ذلك؛ لما رأى أن البركات والخيرات تنزل من السماء؛ فظن أنه في السماء. ثم اختلف في الأسباب: قَالَ بَعْضُهُمْ: أسباب السماوات: أبوابها. ويحتمل أسباب السماوات: هي الطرق التي تصعد إلى السماء. وحقيقة الأسباب: هي ما يوصل بها إلى الأشياء ويقصد إليها، وقد علم اللعين أنه لا يصل إلى ذلك بما ذكر من بناء الصرح، لكنه أراد بذلك ما ذكرنا من التمويهات والتلبيس على قومه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ... (37) قال هاهنا: (لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا) بعدما قطع القول فيه: إنه كاذب وإنه كذاب؛ ليعلم أنه على حق، وأنه صادق، لكنه يموه بذلك على قومه. وقوله: (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: زين الشيطان عليه سوء عمله. ويحتمل أن يقال: زين له سوء عمله بالأتباع وكثرة الأموال والحشم الذي أعطي له، زين له سوء عمله بالأسباب التي أعطيت له، فيكون اللَّه تعالى مزينًا له سوء عمله بإعطاء الأسباب. ويحتمل زين له سوء عمله، أي: خلق في طبعه أن يرى ذلك حسنا مزينًا وإن كان قبيحًا في نفسه حقيقة على ما تقدم ذكره. وقوله: (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ). وقرئ: (صَدَّ) بالفتح، فمن قرأ بالفتح فله معنيان: أحدهما: صَدَّ هو بنفسه صدودًا. والثاني: صد هو الناس عن سبيله صدًّا. ومن قرأ (صُدَّ) بالضم، أي: لم يوفق، ولم يرشد؛ لما علم منه اختيار صده. وقوله: (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ). أي: في خسار، التباب: الخسار، يقال في قوله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ): أي: خسرت، ويقال: تبًّا له، أي: هلاكا له، وقيل: تبت يد الرجل، أي: خابت. ثم أخبر عما ذكر ووعظ ذلك الرجل المؤمن من آله، وهو قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي

(38)

آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) أي: أبين لكم سبيل الرشاد، مرة خوفهم بما نزل بأوائلهم بتكذيب الرسل وترك اتباعهم، ومرة بَيَّنَ سفههم في أنفسهم بسوء صنيعهم، ومرة وعظهم ونصحهم ودعاهم إلى اتباعه ليبين لهم سبيل الرشاد ويهديهم إليه، وإن خاف على نفسه الهلاك بعدما أظهر الإيمان ولم يبال هلاك نفسه. وقال الكسائي: الرشاد والرُّشد والرَّشَد ثلاث لغات، ولا يقرأ هاهنا غير (الرَّشَادِ). ثم قال: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) أي: متاع ومنفعة يبلغ إلى منتهى آجالكم، يبلغ به العاصي والمطيع إلى أجله، يخبر أنها على الانقضاء والذهاب عن قريب، ويخبر أن دار الآخرة هي دار القرار، أي: تقر بأهلها: إن كان أهلها أهل خير قرت بهم خيرا أبدًا لا يزول، وإن كان أهلها أهل شر يقر بهم الشر أبد الآبدين. ثم أخبر عن عدل اللَّه تعالى في أعدائه وفضله في أوليائه حيث قال: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ... (40) أي: لا يجزى ولا يزيد لهم على مثل جنايتهم؛ لأن المثل هو العدل في جميع الأشياء، يخبر ألا يزيد على عقوبة عملهم، ولكن يجزيهم بمثله، وأما جزاء الحسنة فإنه يزيد لهم على قدر ما يستوجبون؛ فضلا منه وإحسانًا. ثم فيه دلالة نقض قول المعتزلة: إن صاحب الكبيرة في النار أبدًا؛ لو كان على ما ذكروا كان في ذلك تسوية بين صاحب الكبيرة وبين صاحب الشرك؛ فإما أن يكون نقصانًا لصاحب الشرك عن مثل عقوبته أو زيادة لصاحب الكبيرة، وقد أخبر أنه لا يجزى إلا مثلها فذلك خلاف ظاهر الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ). دل هذا عمى أن العمل الصالح لا ينفع ولا يجزي إلا من كان منه الإيمان به. وقوله: (يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ). يحتمل بلا تبعة: ويحتمل بغير تقدير وعدّ، وقد ذكرناه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) كأنه قال: يا قومِ، ما لي أدعوكم إلى ما به نجاتكم وأنصح لكم، وتدعونني أنتم إلى ما به هلاكي، فمتى يكون بيننا موالاة واجتماع؟! أي: لا يكون، إنما يذكر هذا وأمثاله

(42)

في المواعظ إذا انتهت غايتها وبلغت نهايتها، فلما تنجع فيهم؛ وهو كقوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وقوله تعالى: (لِي عَمَلِى وَلَكُم عَمَلُكُمْ. . .) الآية. ثم فسر ما يدعون إليه وما يدعوهم إليه من النجاة حيث قال: (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42). هذا منه تفسير ما دعاهم إلى النجاة وبيان ما يدعونه إلى الهلاك. ثم قوله: (وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) قد يستعمل قوله: (مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) في نفي العلم، أي: ليس ذلك، وذلك في إثبات العلم بخلافه وضده؛ يقول: وأشرك به ما ليس لي به علم ولا كان من الشريك وغيره، أو يقول: تدعونني لأكفر باللَّه وأشرك به ما ليس لكم به علم، واللَّه أعلم. ثم بين عجز ما يعبدون من الأصنام وغيرها، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43). (لَا جَرَمَ)، أي: حقًّا؛ يقول - واللَّه أعلم -: بحق أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة، أي: لم تدعكم إلى عبادة نفسها، أي: الأصنام التي عبدوها، والأول أشبه؛ لأنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام؛ رجاء أن تشفع لهم، فأخبر أنها لا تشفع بقوله: (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ)، أي: شفاعة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ). يقول - واللَّه أعلم -: إن مرجعنا إلى ما أعد اللَّه لنا، أعد لكم النار، وأعد لي الجنة، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) والمقتصدين من أصحاب الجنة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) أي: ستذكرون إذا عاينتم ما أعدّ لكم وأعد لنا: أن ما كنتم عليه ودعوتموني إليه دعاءٌ إلى الهلاك، وما دعوتكم إليه هو دعاءٌ إلى الجنة. أو يقول: ستذكرون ما نصحت بدعائي إياكم إلى ما به نجاتكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ)، هذا يخرج على وجوه: أحدها: كأنهم خوفوه وأوعدوه بأنواع الوعيد والتخويف، فقال عند ذلك: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ)، وأتوكل عليه، فيحفظني ويدفع عني شركم وما تقصدون بي، واللَّه أعلم. والثاني: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) أي: عليه أتوكل، وأَكِلُ في جميع الأمور من الخيرات والشرور، وهو الكافي لذلك.

(45)

والثالث: إظهار الحاجة إليه، والمؤمن أبدا يكون مظهرًا للحاجة إلى اللَّه - تعالى - في كل وقت وكل ساعة، واللَّه أعلم. والرابع: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) أي: لا أشتغل بشيء في أمري أصيره إلى اللَّه، تعالى. وعلى قول المعتزلة لا يصح تفويض الأمر إلى اللَّه تعالى؛ لأنهم يقولون: إن عليه أن يعطيه جميع ما يحتاج إليه المكلف حتى لا يبقى عنده مزيد، وإذا لم يبق عنده شيء، فليس لتفويض الأمر إليه معنى، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) دل هذا على أنهم قد قصدوا قصد المكر به؛ حيث أخبر أنه وقاه سيئات ما مكروا، فجائز أن هموا به قتله، ويحتمل غيره. ثم يحتمل ما وقاه عن مكرهم بما وقى موسى - عليه السلام - لما أهلكهم وأنجاه من شرهم. ويحتمل توجيه آخر لا نفسره؛ لأنا لا نحتاج إليه، وإنَّمَا حاجاتنا إلى أن نعلم أنه كان بذل نفسه لله تعالى وحفظه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ). استدل بعض الناس على عذاب القبر بقوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وإنما يعرض أرواحهم على النار فتألمت أجسادهم في القبور لذلك، وكذلك يعرض أرواح أهل الجنة فيتلذد أجسادهم بتلذذ الأرواح بعد أن أحدث فيها الحياة التي تحقق الألم واللذة هذا في القبور، ثم إذا دخلوا النار يكون لهم ما ذكر من العذاب، حيث قال: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون ما ذكر من العرض على النار قبل القيامة قبل أن يدخلوا النار؛ كقوله - تعالى -: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)، يكون عرضهم على النار هو وقت وقفهم للسؤال وحبسهم لذلك، ثم يدخلون النار؛ فيكون لهم العذاب الذي ذكر؛ وهو قول الحسن. ثم قوله: (غُدُوًّا وَعَشِيًّا). يحتمل قدر غدو وقدر عشي، فإن كان التأويل في عذاب القبر يحتمل ما قَالَ بَعْضُهُمْ: أن يقال لهم: هذا لكم ما دامت الدنيا. ويحتمل أنه ذكر على إرادة الغدو والعشي حقيقة ذلك كل وقت، لكن يتجدد التألم

والوجع بكل قدر عشي وغدو، واللَّه أعلم. وذكر عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها جعلت أرواحهم في أجواف طير سود، فهي تعرض على النار كل يوم مرتين (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) إلى أن تقوم الساعة. فهو تفسير لما ذكر من الغدو والعشي، ثم إن ثبت هذا عنه فهو سماع عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه باب لا يدرك بالتدبير مع ما روي عن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - قال: إن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا مات أحدكم عرض على مقعده بالغداة والعشي: إن كان من أهل الجنة فمن الجنة، وإن كان من أهل النار فمن النار، يقال له: ها ذاك مقعدك حتى يبعث إليه يوم القيامة " فإن ثبت هذا وصح عنه، فهو دليل لوجوب عذاب القبر، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله:، أي: يعذبون في الأوقات كلها بعد إدخالهم فيها، وذكر الغدو والعشي يخرج على سكون النار في أوقات ثم تلتهب؛ كقوله تعالى: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة فيما ذكر من إدخال آل فرعون في أشد العذاب، والخصوصية لهم في ذلك من بين غيرهم من الكفرة؟ قيل لوجهين: أحدهما: أن غير موسى من الرسل - عليهم السلام - قد نسبوا إلى السحر كما نسب إليه موسى، لكن لم يتبين ولا تحقق لقومهم براءة رسلهم فيما قرفهم الرؤساء والقادة منهم بالسحر والكذب بما وجد منهم التمويه على السفلة والأتباع، وقد تحقق لآل فرعون براءة موسى مما قرفه فرعون بالسحر والكذب، وتبين عندهم صدق ما ادعى من الرسالة، وذلك مما أقر جميع سحرة فرعون أن ما جاء به موسى حق وما يقوله صدق، وإيمانهم بموسى - عليه السلام - نهارا جهارا، واختاروا القطع والصلب، ولم يمتنعوا عن متابعته، وما رأوا من انقلاب العصا حية تسعى وتلقف ما صنعوا؛ فيكون عنادهم أشد ومكابرتهم أكبر؛ فلذلك استحقوا أشد العذاب، واللَّه أعلم. والثاني: أن آيات موسى أكثرها كانت حسية وآيات غيره عقلية، ومعرفة ما كان سبيله الحس مما لا يتمكن فيه شبهة؛ وقد يتمكن الشبهة فيما كان سبيله العقل، فيكون عنادهم أشد.

(47)

وبعد، فإنهم قد اتبعوا فرعون بما ادعى لنفسه من الألوهية بلا حجة وبرهان طلبوا منه، وتركوا اتباع موسى - عليه السلام - بما ادعى من الرسالة بعدما أقام على ذلك من البينات والحجج والبراهين؛ فلذلك قال: " جعلت أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النار كل يوم مرتين، يقال: يا آل فرعون، هذه داركم "، قال عبد اللَّه: فذلك عرضها، فإن ثبت هذا عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لهم أشد العذاب، والله أعلم. قوله تعالى: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ. وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ). ما ذكر هاهنا وفي آي من القرآن وهو ما ذكر: (فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ)، قد علم الضعفاء الأتباع لا يملكون دفع ما هم فيه؛ لأنهم لو كانوا يملكون ذلك، لدفعوا عن أنفسهم، فإذا لم يملكوا دفع ذلك عن أنفسهم [فلئلا] يملكوا دفع ذلك عنهم أحق، لكنهم قالوا ذلك لهم ليزدادوا حسرة وندامة؛ وهو كقوله تعالى في آية أخرى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. . .)، إلى قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ). ويحتمل أنهم إنما قالوا لهم ذلك لما قالوا لهم في الدنيا: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ) فيقولون لهم لذلك في الآخرة: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي: حاملون عنا بعض الذي علينا من العذاب (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا) في الدنيا (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا) ونعذب (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) هذا من أُولَئِكَ الذين استكبروا؛ جوابًا للضعفاء على أحد التأويلين، ولا يكون جوابًا

(49)

للآخر، وهو جواب لقولهم الذي قالوا في الدنيا: (وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ)، فيقولون: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) ألا يزيد العذاب على مثل السيئة، وقد حكم اللَّه تعالى على كل منا بالمثل، فلا يزيد على ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) كان فزع الكفرة أبدًا إلى الخلق إذا نزل بهم البلاء في الدنيا، إلا أن يضطروا، فعند ذلك يفزعون إلى اللَّه، فأما ما لم ييئسوا منهم فلا يفزعون إليه؛ فعلى ذلك يكون فزعهم في الآخرة إلى الخلق، وهو ما سألوا أهل الجنة من الماء، أخبر اللَّه تعالى عنهم بقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)، فلما أيسوا من ذلك عند ذلك فزعوا إلى مالك، وهو ما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) سألوا الموت، فلما أخبرهم أنهم ماكثون، فعند ذلك فزعوا إلى الخزنة وقالوا: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ. قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، فلما أيسوا منهم ومما سألوهم من تخفيف العذاب عنهم عند ذلك فزعوا إلى اللَّه تعالى، وهو قولهم: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، وقولهم: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ)، لم يفزعوا إلى اللَّه تعالى إلا بعد ما انقطع رجاؤهم منهم، وأيسوا، وباللَّه العصمة والنجاة. وقد استدل بقوله تعالى: (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى ... (50) من لا يرى الحجة والحكم يلزمهم بمجرد العقل دون الرسل - عليهم السلام - حيث احتج عليهم الخزنة بتكذيبهم الرسل وردهم البينات التي أتتهم الرسل. واستدلوا أيضًا بقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وبقوله - تعالى -: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ)، وقوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا)، وغيرها من الآيات التي فيها أنه لا يعذبهم إلا بعدما قامت عليهم الحجة من جهة الرسل ولزمهم الحكم بهم، فعند ذلك يعذبون. لكن تأويل الآية يخرج عندنا على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك في قوم خاص الذين لا يرون لزوم الحجة والحكم إلا من جهة الرسالة، فيحتج عليهم بما كانوا يرونه؛ ليكون أقرب إلى الإلزام والحجة، وإن كان

(51)

يجوز أن يحتج عليهم بما هو حجة وهم لا يرونها حجة، واللَّه أعلم. والثاني: إنما ذكر ذلك على المبالغة والنهاية في الحجة، وإن كانت الحجة قد تلزمهم والحكم قد ثبت بدون ذلك وهو العقل؛ لأن إرسال الرسل وإقامة المعجزات أقرب إلى الوصول إلى الحق، وقد أقام كلا الحجتين فذكرو أظهر الحجتين؛ ليكون أقرب إلى إظهار عنادهم، وهذا كما في تعذيب الكفرة في الدنيا أنهم لم يعذبوا بنفس الكفر حتى كان منهم مع الكفر الاستهزاءُ بالرسل والعناد لهم وغير ذلك، وإنَّمَا كانوا يستوجبون العذاب بنفس الكفر، لكن ترك تعذيبهم حتى يبلغوا النهاية والإبلاغ في التكذيب والعناد؛ وهو كقوله تعالى: (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، ذكر هذا على النهاية والإبلاغ في الجناية منهم، وإن كانوا يستوجبون العذاب بجحودهم الزكاة دون جحود البعث، أو جحود البعث دون جحود الزكاة؛ فعلى ذلك الآيات التي ذكرها هي على الإبلاغ والنهاية، وإن كان الحجة تلزمهم والحكم يثبت بدون الرسل، واللَّه الموفق. وبعد، فإن قوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) فلا تكون ظالمًا فيما عذبتنا، والظلم من اللَّه تعالى محال؛ فيستحيل تقدير الآية على هذا الوجه؛ دل أن التعذيب قبل الرسل عدل وحكمة وليس بظلم، واللَّه الموفق. وبعد: فإن في قوله: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) دلالة أن الحجة إنما تلزم بالبينات لا بنفس الرسل، والبينات قد وجدت، وسبب المعرفة وطريقها -وهو العقل- قائم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ). ليس على الأمر بالدعاء، ولكن معناه: أنكم وإن دعوتم لا ينفعكم دعوتكم؛ كقوله: (لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) أي: هلاكا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). يحتمل ما ذكر من النصر للرسل والمؤمنين وجوهًا: أحدها: أن ينصرهم في الدنيا بالحجج والآيات التي أعطاهم في الدِّين حتى يدفع بها تسويلات الشيطان وتمويهات السحرة وتغلبها وتعلو على كل هذا في الدنيا، وفي الآخرة أيضًا ينصرهم بما يشهد لهم عليهم الملائكة والجوارح بالتكذيب للرسل والمؤمنين،

وأنهم دعوهم إلى التوحيد والإيمان، لكنهم كذبوهم وكفروا بما دعوهم إليه، فذلك نصره إياهم في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم. والثاني: ينصرهم؛ لما يجعل لهم العواقب وآخر الأمر وإن كان في الابتداء قد يكون عليهم، وعلى ذلك لم يذكر عن أحد من الرسل إلا وقد كان عاقبة الأمر له؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)؛ فهذا النصر هو النصر في الأبدان والأول هو نصر في الدِّين، ولكن إن كان هو نصرا في الأبدان فهو نصر يرجع إلى الدِّين؛ لما يقوم الدِّين بسلامة الأبدان، ويتحقق به عز المسلمين، واللَّه الموفق. والثالث: ذكر نصرهم؛ لما أعطاهم من النعمة في الدنيا والسعة فيها، وهو يذكر للرسل والمؤمنين نصرا ونعمة ومعونة، أما هي للكفرة فتنة ومحنة لا غير لا تذكر باسم النصر والنعمة؛ إذ هي في حق المسلمين وسيلة إلى النعمة الأبدية، وفي حق الكفرة إلى العذاب الأبدي، فتكون نعمة في حقهم حقيقة؛ ولذلك قال تعالى: (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)، وقال؛ (بَل هِيَ فِتْنَةٌ)، وقوله: (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ)، وقد أخبر أن ما أعطاهم من الأموال والسعة إنما هي فتنة ومحنة لهم، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: ذكر أنه ينصرهم، وقد نرى مؤمنًا قد ينقطع حججه ويعجز عن إقامتها ونراه مغلوبًا، والكافر هو الغالب؟! قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: من جعل العاقبة له والغلبة والنصر في آخر الأمر. والثاني: جائز أن يكون وعده النصر لهم والظفر بالحجة بالشريطة، وهي القيام بوفاء ما لله عليهم من الحق في ذلك، فالنصر والظفر بالحجة في المناظرة أن يكون يزجي عمره في معرفة الحجج والدلائل وأن يكون عارفًا بطرق النظر، ومتى كان هذا الشرط موجودًا يكون النصر له لا محالة، وشرط الظفر في المحاربة أن يكونوا قاصدين إعزاز دين اللَّه تعالى، دون ابتغاء الدنيا وكلمتهم واحدة ونحوها، ومتى كان المحاربة بشرائطها يكون الظفر لا محالة للمسلمين؛ وذلك كقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الأشهاد: هم الملائكة يكتبون أعمال بني آدم، يشهدون عليهم بما

(52)

عملوا من الأعمال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأشهاد: هم الرسل يشهدون عند رب العالمين على الكفرة بالتكذيب والرد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يشهد عليهم الجوارح يومئذ بما كان منهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) ذكر هاهنا: (لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ)، وذكر في موضع آخر: (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) وبينهما اختلاف من حيث الظاهر؛ لأن القول بأنه لا ينفع معذرتهم بعد وجودها منهم، وقد أخبر أنه لا يؤذن لهم بالاعتذار، لكنهم يعتذرون بلا إذن لهم، فلا يقبل اعتذارهم ولا ينفعهم ذلك؛ فيكون جمعا بينهما من هذا الوجه. ويحتمل لا ينفع الظالمين معذرتهم لو كان منهم الاعتذار، ولا يقبل اعتذارهم، لكن لم يؤذنوا بالاعتذار حتى يعتذروا؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ)، أي: لو كان منهم فذلك لا يقبل، وكذا قوله تعالى: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، أي: لو كانت لهم شفعاء يشفعون لهم، لكان لا ينفعهم شفاعتهم لا أن كان شفعاء؛ فعلى ذلك قوله تعالى: (لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ)، أي: لو كانوا يعتذرون لا يقبل اعتذارهم ولا ينفعهم معذرتهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) يحتمل الهدى هاهنا وجوهًا: أحدها: أي: آتيناه التوراة وفيها البيان والدعاء إلى الرشد، وجميع كتب اللَّه تعالى فيها هدى ونور ورحمة. والثاني: أي: آتاه التوحيد والإسلام. ويحتمل: آتاه النبوة والرسالة، وآتاه كل ما لله عليه من حق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ). يحتمل قوله: (الْكِتَابَ): التوراة خاصة، ويحتمل التوراة وسائر الكتب؛ لأن الكتب في بني إسرائيل كانت كثيرة، كان فيها التوراة والزبور والإنجيل وغير ذلك، فجائز أن يريد بالكتاب: جميع الكتب التي كانت فيهم؛ إذ ذكر الكتاب بالألف واللام، وإنه يحتمل الجنس والعهد؛ فيجوز الصرف إلى التوراة لمكان العهد، ويجوز الصرف إلى

(54)

الجميع لمكان الجنس، واللَّه أعلم. وفي الآية دلالة أن لا جميع كتب اللَّه التي أنزلت فيهم غيرت وبدلت، بل فيهم ما لم يغير ولم يبدل حيث قال: (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ. هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54). ثم قوله - تعالى -: (هُدًى): هو ما ذكرنا أن جمع كتب اللَّه تعالى هدى من الضلالة إلى الرشد، وبيان لما لله عليهم وما لبعض على بعض. وقوله: (وَذِكْرَى) قَالَ بَعْضُهُمْ: موعظة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تفكرا لأهل اللب والعقل. وجائز (وَذِكْرَى)، أي: ذكر ما سبق، أي: يذكرهم ما نسوا. وقوله: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ)؛ لأن أهل اللب هم الذين يتفكرون ويتأملون فيه، أو أن أهل اللب هم المنتفعون بالذكرى وما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) يحتمل قوله: (فَاصْبِرْ) وجوهًا: أحدها: التكذيب، كان يتأذى بتكذيبهم إياه. والثاني: كان يتأذى باستهزائهم به. والثالث: أنواع ما يكيدون: من همهم قتله وضربه وغير ذلك. والرابع: يحتمل قوله تعالى: (فَاصْبِرْ)، أي: اصبر على تبليغ الرسالة إليهم، ولا يضجرك تكذيبهم إياك، ولا يمنعك ذلك عن تبليغها، واللَّه أعلم. والخامس: اصبر ولا تستعجل لهم العذاب قبل ميقاته، وذلك أن الرسل - عليهم السلام - كانوا لا يستعجلون العذاب ما لم يؤذن لهم بذلك، واللَّه أعلم. ثم قوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) إن كان المراد من وعده نفس الوعد؛ فيكون تأويله: إن وعد اللَّه صدق، أي: لا يخلف، ولا يكون كذبًا؛ لأن خلف الوعد في الشاهد إنما يكون لأحد معنيين: إما لعجزه عن القيام بوفائه. وإما لضرر يخاف أن يلحقه لو قام بوفاء ما وعد، واللَّه تعالى بريء عن المعنيين جميعًا متعال عن ذينك. وإن كان المراد من قوله - تعالى -: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، أي: موعود اللَّه؛ فيكون تأويله: إن موعد اللَّه تعالى لكائن حقًّا، فوعد اللَّه تعالى على الوجهين اللذين ذكرناهما، وعلى هذا يذكر أمر اللَّه تعالى: قد يراد به نفس الأمر، كقوله: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ

بَعْدُ)، ويذكر ويراد به المفعول؛ كقوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)، أي: ما يكون بأمره مفعولا، ويكون موعود اللَّه مفعولا، واللَّه أعلم. وما ذكر الصلاة أمر اللَّه. ثم لسنا ندري ما كان من وعده لرسوله حتى أخبر أنه كائن، فجائز أن يكون ما قال بعض أهل التأويل: إنه وعد له أن يعذب كفار مكة يوم بدر بالقتل وغير ذلك، فكذبوه، وقالوا مستهزئين به: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، قال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) يحتمل غيره. وقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ): جائز أن يكون ما ذكر في قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، باستغفاره إياه. وجائز أن يكون قوله: (ليَغفِرَ لَكَ اللَّهُ)، ما يغفر له من أمته بشفاعته كما ذكر في الخبر: " يغفر للمؤذن مد صوته " أي: يجعل له الشفاعة إلى حيث يبلغ صوته. وقوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ). قد ذكرنا التسبيح بحمد ربه، ثم جائز أن يريد بالتسبيح نفس التسبيح، فإن كان كذلك فيكون ذكر العشي والإبكار ليس هو ذكر التوقيت له، ولكن الأوقات كلها الليل والنهار؛ كقوله - تعالى -: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ): ليس يريد نفس الغداة والعشي خاصة دون غيرهما من الأوقات، بل هما عبارة عن جميع الأوقات كأنه يقول: اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم آناء الليل والنهار؛ فعلى ذلك الأول يحتمل هذا، واللَّه أعلم. وإن كان المراد من التسبيح هاهنا: الصلاة، فكأنه يقول: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) كناية عن صلاة النهار. أو أن يكون (الْإِبْكَارِ) كناية عن صلاة الغداة، و (بِالْعَشِيِّ) كناية عن صلاة العشاء على ما ذكره بعض الناس، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى

(56)

وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) قال عامة أهل التأويل: إن اليهود جادلوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الدجال أنه منهم، وأنه في الطول كذا ونحوه؛ وعلى ذلك نسق الآيات التي تتلو هذه الآية. ولكن لسنا ندري بماذا صرفوا مجادلتهم في آيات اللَّه إلى المجادلة في الدجال، ولا يسع أن نحمل ما ذكر من مجادلتهم في آيات اللَّه على المجادلة في الدجال، إلا أن يثبت خبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بطريق التواتر أن المجادلة المذكورة في الآية في الدجال؛ فحينئذ يصرف إلى ذلك، واللَّه أعلم. ثم قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) أي: يجادلون في دفع آيات اللَّه بغير حجة أتتهم من اللَّه، وكانت المجادلة في دفع آيات اللَّه من رؤساء الكفرة وأكابرهم، كانوا يموهون بمجادلتهم في دفع آيات اللَّه تعالى والطعن فيها على أتباعهم وسفلتهم؛ ليبقى لهم الرياسة والمأكلة التي كانت لهم، وهو ما ذكر: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. . .) الآية، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)، وغير ذلك من الآيات، لم يزل الأكابر منهم والرؤساء يطعنون في آيات اللَّه تعالى ويدفعونها، يريدون التمويه والتلبيس على أتباعهم وسفلتهم، ليبقى لهم العز والشرف الذي كان لهم، ويبطلوا به الحق، ويطفئوا نوره؛ كقوله - عز وجل -: (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، وقوله - تعالى -: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ)، هذا كان مرادهم من مجادلتهم في آيات اللَّه والطعن فيها. ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم يجادلون، ويفعلون ذلك؛ تكبرًا منهم على آيات الله والخضوع لرسله، حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ). أي: ما في صدورهم إلا كبر، أي: كبرهم هو الذي حملهم على المجادلة في آيات اللَّه، ثم الذي حملهم على الكبر جهلهم بسبب العز والشرف، ظنوا أن العز والشرف إنما يكون بالأتباع الذين يصدرون عن آرائهم، ولو عرفوا منهم يكون العز والشرف، لكانوا لا

(57)

يفعلون ذلك، إنما العز والشرف في طاعة اللَّه تعالى واتباع أمره، ليس في اتباع من اتبعهم ولا في ائتمار من ائتمرهم، ولكن فيما ذكرنا، واللَّه أعلم. ثم أخبر أنهم ليسوا ببالغين إلى ما قصدوا من إطفاء النور الذي أعطى المؤمنين، ولا إدحاض الحق وإبطاله حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ)، وقوله: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). قال عامة أهل التأويل: أمره أن يستعيذ باللَّه من فتنة الدجال، لكن عندنا: أمره أن يتعوذ باللَّه من مكائد أُولَئِكَ الأكابر والفراعنة، قد هموا أن يمكروا به ويكيدوا، أمره أن يتعوذ باللَّه من مكرهم وكيدهم، كما أمره أن يتعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم، حيث قال: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. . .) الآية، وهذا أولى من الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) قال أهل التأويل: أي: لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الدجال، لكن قد ذكرنا بعد صرف الآية إلى الدجال. ثم يحتمل قوله: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) وجهين: أحدهما: الآية نزلت في مقرين بخلق السماء والأرض، منكرين بالبعث؛ يقول: إن خلق السماوات والأرض مبتدأ بلا احتذاء بغير أكبر وأعظم من إعادة الناس، فإذا عرفتم أنه قدر على خلق السماوات والأرض مبتدأ بلا احتذاء بغير، لكان قدرته على إعادة الخلق أحق؛ إذ إعادة الشيء في عقولكم أهون من البداية؛ كقوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، فكيف أنكرتم قدرته على البعث وقد أقررتم بقدرته على خلق ما ذكر؟! والثاني: أن تكون الآية نزلت في مقرين بخلق الناس منكرين بخلق السماوات والأرض؛ يقول: إن خلق السماوات والأرض وإمساكها في الهواء بلا تعليق من الأعلى ولا عماد من الأسفل، مع غلظها وكثافتها أكبر وأعظم في الدلالة على حدثها وخلقها من خلق الناس؛ لأن خلق الناس إنما يكون بالتغير والتولد من حال إلى الحال الأخرى، فيجوز أن يتوهم كون ذلك وافتراقه ثم اجتماعه من بعد وظهور ذلك منه، وأمَّا السماء فهي على حالة واحدة فلا [يتمكن] توهم ذلك لما ذكرنا.

(58)

ويحتمل أن تكون الآية في نازلة كانت وسبب، لسنا نحن نعرف ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يستوي من عمي من توحيد اللَّه وشكر نعمه ومن أبصر وحدانية اللَّه وقام بشكر نعمه، كما لم يستو عندكم من جهل حق آخر وكفر نعمه وإحسانه ومن عرف حقه وقبل إحسانه وقام بشكره، فإذا عرفتم أنه لا استواء بين هذين عندكم، فاعرفوا أنه لا يستوي من عمي عن وحدانية اللَّه وشكر نعمه ومن أبصر وحدانيته وقام بشكره، وكذلك ما ذكر من قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) يقول: إذا عرفتم أنه لا يستوي من آمن باللَّه وصدق خبره وأحسن إليه ومن كذبه وأساء إليه؛ فعلى ذلك لا يستوي من آمن باللَّه وصدقه وقابل إحسانه بالشكر ومن كذبه وكفره نعمه وإحسانه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) حقيقة الأعمى البصر والبصير نفسه؛ يقول: تعرفون أنه لا يستوي الأعمى أعمى البصر والبصير نفسه في الدنيا؛ فعلى ذلك لا يستوي من عمي عن دينه ومن أبصر في الآخرة، وقد عرفتم أنهم قد استووا في هذه الدنيا -أعني: المسيء والمحسن والصالح والمفسد والمطيع والعاصي- وفي الحكمة: التفريق بينهما؛ دل أن هناك دارًا أخرى يفرق بينهما فيها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ)]. أي: قليلا ما يتذكرون أن لا استواء بين من ذكر من المحسن والمسيء والصالح والمفسد والمطيع والعاصي، واللَّه أعلم. * * * وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) أخبر أنها آتية لا محالة وقد ذكرنا، إنما صار خلق الدنيا وما فيها حكمة بالساعة (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) بها، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ

(60)

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) نزلت في أهل التوحيد يقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، ثم تخرج على الاستغفار مرة؛ لما كان منهم من التضييع في حقوق اللَّه تعالى وما أمرهم به ونهاهم عنه والتفريط في ذلك، استغفروا أغفر لكم. ويحتمل (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ): اطلبوا مني التوبة عن ذلك أتوب عليكم، واللَّه أعلم. وإن كانت الآية في أهل الكفر فيكون قوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، أي: وحدوني أغفر لكم. ويحتمل اعبدوني أغفر لكم؛ وهو كقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، وقد جاء في بعض الأخبار عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ. . .) "، وفي بعض الأخبار: " الدعاء مخ العبادة "، وأصل هذا: أنه ينظر كل أحد إلى ما ارتكبه، فإن كان سببا يستوجب به العقوبة كان استغفاره القيام بقضاء ما تركه وضيعه، والعزم على ألا يعود إلى ذلك أبدًا، وإن كان سببًا غير معروف، تركه ويستغفر اللَّه تعالى في ذلك، ويطلب منه التجاوز والمغفرة، وأصل ذلك ما قال اللَّه تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي). ذكر الإجابة بالشريطة، وهو أنهم إذا آمنوا به وأوفوا عهده يعرف لهم ذلك، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). استدل بعض الناس بهذه الآية على أن قوله: (ادْعُونِي) إنما أراد به العبادة على ما ذكرنا. فَإِنْ قِيلَ: إن هذه السورة نزلت بمكة، وأهل مكة كانوا يقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وفي ظاهر ذلك أنهم لا يستكبرون عن عبادته، لكنهم لم يروا

(61)

أنفسهم أهلا لعبادة اللَّه فعبدوا غيره دونه، كمن يعظم ويخدم خادما من خدم ملك من ملوك الدنيا لا يكون مستكبرًا عن خدمة الملك. لكن تأويل الآية يخرج على وجهين: أحدهما: أن اللَّه تعالى أمر عباده بطاعة رسوله والإجابة له إلى ما يدعوهم، فإذا لم يجيبوه إلى ما يدعوهم إليه ولم يطيعوه استكبارا منهم وتكبرا عليه، صار ذلك منهم كالاستكبار عن طاعة اللَّه وعن عبادته. والثاني: أنهم وإن كانوا عبدوا الأصنام رجاء أن تقربهم إلى اللَّه زلفى، ولم يقصدوا قصد الاستكبار عن عبادته فهم تركوا عبادته، مع أنهم أمروا بها وبلغ إليهم أمره على ألسن الرسل، فكأنهم استكبروا عن عبادة اللَّه تعالى؛ إذ في الشاهد يخدم المرء لبعض خواص الملك ليقربه إليه: إذا أمره الملك أن يخدمه وقربه إلى مجلسه فامتنع - يقدر ذلك منه استكبارا، ويبين أن خدمته لذلك ما كان ليقربه إلى الملك؛ حيث قربه فلم يقرب، ففي الغائب كذلك؛ لذلك كان استكبارا منهم، واللَّه أعلم. وقوله: (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (دَاخِرِينَ): صاغرين ذليلين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) يذكرهم نعمه التي أنعم عليهم، يستأدي بذلك شكره، حيث قال: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) راحة لأنفسكم وأبدانكم، (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) تبصرون فيه معايشكم وما تحتاجون إليه. ثم قوله: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) أي: يبصر به وفيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أخبر أن ذلك كله منه لهم فضل ومنة ورحمة لا باستحقاق يستحقون ذلك قبله (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) يقول: ذلك الذي صنع بكم هو ربكم لا الأصنام التي تعبدون من دونه، (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) هو خلقكم وخلق كل شيء واحد لا شريك له، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي: أنى تصرفون وتعدلون عن عبادته والقيام بشكره، واللَّه أعلم.

(63)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) عن عبادته والقيام بشكره قبلكم، وأصل الإفك: الصرف؛ كقوله: (أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا) أي: لتصرفنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) يذكرهم عظم نعمه عليهم حيث جعل لهم الأرض بحيث يقرون عليها ويتعيشون، والسماء بناء عليهم حيث لا تسقط عليهم، وجعل منافع بعضها متصلة بمنافع البعض على بعد ما بينهما؛ ليعلم أن ذلك كله صنع واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، يحتمل وجهين: أحدهما: قوله: (فَأَحْسَنَ) أي: أحكم وأتقن في الدلالة على معرفة وحدانية الله تعالى وربوبيته، على ما أظهر في كل شيء من الدلالة على وحدانيته وربوبيته. والثاني: قوله: (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، أي: حسن تركيبها منتصبًا قامتها غير منكبة كسائر الصور التي خلقها منكبة على وجهها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ). قال بعض أهل التأويل: أي: رزقكم من الحلال، لكن الأشبه: أي: رزقكم من أطيب ما أخرج من الأرض؛ لأن اللَّه تعالى أخرج من الأرض نباتًا مختلفًا جعل أطيبه وألينه رزقًا للبشر، وسائره رزقًا للدواب. (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ). ذلك الذي صنع بكم هذا هو ربكم، لا الأصنام التي تعبدونها. (فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قال أهل التأويل: (الْحَيُّ): الذي لا يموت أبدًا، لكن هذا مما يعرفه كل أحد، وأصل الحي هو النهاية والغاية في الثناء عليه والمدح، لا كل شيء يبلغ في الانتفاع به غايته يسمى: حيًّا، نحو الأرض والأشجار وكل شيء يبلغ في الانتفاع به، واللَّه أعلم. وقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). هو المعبود في لسان العرب، ويسمى العرب كل معبود: إلهًا، كأنه يقول: لا إله ولا معبود يستحق العبادة إلا هو.

(66)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). أي: ادعوه بإخلاص الدِّين له. ثم يحتمل قوله: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وجهين: أحدهما: أي اعبدوه مخلصين له العبادة، لا تشركوا فيها غيره؛ من نحو ما كانوا يعبدون الأصنام دونه رجاء الشفاعة لهم وتقريبهم إليه، أخلصوا العبادة والدِّين، والإخلاص: هو التصفية له. والثاني: ادعوه على حقيقة الدعاء له والتسمية؛ كأنه يقول - واللَّه أعلم -: ادعوه وسموه: إلها، لا تدعوا ولا تسموا غيرًا: إلها؛ لأنهم كانوا يسمون ويدعون الأصنام التي عبدوها: آلهة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). أي: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) على خلقه بما أنعم عليهم وصنع إليهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي). كان الكفرة دعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى عبادة ما عبدوا هم من الأصنام، فقال: إني نهيت عن ذلك، وهو كما ذكر في غير آي من القرآن، حيث قال: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وغير ذلك من الآيات. وقوله: (لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي)، يحتمل وجهين: إن كان المراد من البينات القرآن أو الآيات التي جعلت معجزة له، على ما قاله أهل التأويل - فهو على التأكيد والإبلاغ، فإنه كان النهي عن عبادة غير اللَّه تعالى والشرك بالله لازمًا قبل مجيء الرسل وما أتوا من البينات على ما تقدم، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل قوله: (لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي): العقل الذي يعرف به ذلك، ويكون قوله: (جَاءَنِيَ) أي: ظهر لي؛ كقوله تعالى: (جَاءَ الْحَقُّ)، أي: ظهر الحق، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

(67)

أي: أمرت أن أجعل الخلق وكل شيء لله سالمًا خالصًا لا أشرك فيه غيره، والله الموفق. وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) بذكرهم الوجوه التي بها يوصل إلى معرفة شكر ما أنعم عليهم؛ قال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) أي: خلق أصلكم من تراب، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي: خلقكم من نطفة، يذكرهم هذا؛ ليعلم خلقه إياهم من تراب - أعني: خلق أصلهم ليس باستعانة منه بذلك التراب؛ لأنه لو كان على الاستعانة منه، لكان لا معنى لخلق أنفسهم من الماء على الصورة التي جعلهم من تراب وعلى جنسه؛ إذ ليس في الماء من آثار التراب شيء، ولا في الماء والنطفة من آثار العلقة شيء، ولا في العلقة من آثار الطفولية شيء من اللحم والعظم والجلد والشعر وغير ذلك، ليس في التراب معنى الماء ولا في الماء معنى التراب، ولو كان على الاستعانة بذلك لكان المخلوق من أحدهما لا يكون مثل المخلوق من الآخر في تركيبه وتصويره، وهما يختلفان في أنفسهما، وكذلك ما ذكر من تقلبه من حال إلى حال وتبديله من نوع إلى نوع، وليس في كل حال يقلب إليها من الحال التي كانت شيء ولا من شبهها؛ ليعلم أن كل ذلك إنما كان بقدرة ذاتية وعلم ذاتي وتدبير ذاتي كذلك، لا باستعانة شيء مما ذكر ولا سبب له في ذلك، ولكن كان بمعنى جعل فيه كان ذلك كذلك بوجود ذلك المعنى، واللَّه أعلم. وقولهَ عزوجل -: (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي: تبلغوا حتى يشتد كل شيء منكم من البينة والعقل وغير ذلك. وقوله: (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ). أي: منكم من يتوفى من قبل أن يبلغ شيخًا. وقوله: (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى). أي: لتبلغوا الأجل الذي جعل لكم. وقوله: (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ): ما بين لكم وذكر لكم. وقوله: (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أي: وهو الذي يخلق حياة كل شيء ويخلق موت كل شيء، وعلى قول المعتزلة: يجوز أن يسمى كل عبد: محييا مميتًا؛ لقولهم: إن القتيل ليس بميت بأجله، بل ميتة القاتل، وقولهم: إن المتولدات من الفعل هي فعل ذلك الفاعل؛ فعلى قولهم هذا يجوز تسمية كل أحد: محييًا مميتًا.

(69)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا). يترجم بقوله: (كُنْ) من غير أن كان منه كاف ونون، فذلك تكوينه - واللَّه الموفق - وقد ذكرنا هذا فيما تقدم على الإبلاغ. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ). قوله: (أَلَمْ تَرَ) هو على حقيقة الرؤية والنظر. ويحتمل (أَلَمْ تَرَ): ألم تعلم، معناه: ألم تعلم سفه الذين يجادلون في آيات اللَّه، أو جهل الذين يجادلون في آيات اللَّه، أي: في دفع آيات اللَّه والطعن فيها بلا حجة على ما تقدم ذكره في قوله: (يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ)، فعلى ذلك هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّى يُصْرَفُونَ). أي: آية، أي: حجة تصرفهم أو صرفتهم عن آيات اللَّه، أو من أين يصرفون ويعرضون عن آيات اللَّه بعد ما تقرر عندهم أنها آيات اللَّه؟! واللَّه أعلم. وقوله: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) جائز أن يكون قوله: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا) تفسير مجادلتهم التي ذكر في دفع آيات اللَّه. وجائز أن يكون قوله: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ): الذي آتاهم الرسل وكذبوا بما أرسلنا به رسلنا، أي: كذبوا - أيضًا - بما أمرهم الرسل بالوحي من غير كتاب؛ إذ الوحي نوعان: متلو، وغير متلو، فلم يكن قوله: (وَبِمَا أَرْسَلْنَا) تفسيرًا للكتاب، وعلى التأويل الأول قوله: (وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا) أي: الكتاب؛ فيكون تفسيرًا له، واللَّه أعلم. وقوله: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ): وعيد لهم، أي: سوف يعلمون علم عيان بعدما علموا علم خبر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ). ذكر أن في السلاسل ثلاث لغات: الرفع والنصب والخفض.

(72)

فمن رفعها يقول: معناه: إذ جعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم يسحبون بها في الحميم. ومن قال بالخفض فتأويله: إذ الأغلال في أعناقهم وفي السلاسل، أي: يجعل الأغلال في السلاسل، فيسحبون بها في الحميم. ومن قال بالنصب كأنه قرأه: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون. في الحميم) أي: يسحبون السلاسل في الحميم. وقوله: (يُسْحَبُونَ) أي: يجرون، والحميم: قد مر تأويله، وهو ما يشرب منه وقد انتهى حره غايته. وقوله: (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) أي: يوقدون، ذكر ما يسقون فيها وهو الحميم، وذكر ما يحرقون به. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يُسْحَبُونَ) أي: يجرون، وصرفه: أسحب، يسحب إسحابًا، أي: جرًّا. وقوله: (يُسْجَرُونَ) أي: يوقدون بهم، يقال: سجرت، أي: أوقدت فيه، وصرفه: سجر يسجر سجرًا. وقوله: (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ ... ) ظاهر هذه الآية: أن هذا القول لهم بعدما دخلوا النار؛ لأنه ذكر على أثر قوله: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)، فظاهرها أن قوله: (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ) بعد دخولهم النار، وظاهر قوله بعد هذا متصلا به: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) - على أن ذلك القول إنما يقال لهم قبل أن يدخلوا النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا ... (74) هذا القول منهم يخرج على وجهين: أحدهما: على إنكارهم وجحودهم عبادة الأصنام التي عبدوها في الدنيا وأشركوها إياه في ألوهيته؛ وهو كقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ. . .) الآية، وقوله: (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)، أنكروا ما كان منهم، وأقسموا على ذلك، وهذا يدل على أن الآية لا تضطر أهلها إلى قبول الآيات والتصديق لها؛ لأنهم أنكروا أن يكونوا مشركين بعدما عاينوا العذاب وظهر لهم خطؤهم وكونهم على الباطل، ثم لم يمنعهم ما عاينوا من الكذب.

(75)

والثاني: قوله: (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا. . .) ليس على الإنكار والجحود، ولكن لما رأوا أن عبادتهم الأصنام لم تنفعهم يومئذ ولم تغنهم عما نزل بهم فقالوا عند ذلك: بل لم نكن ندعو شيئًا من قبل، أي: الذي كنا نعبده في الدنيا كان باطلا، لم يك شيئًا؛ حيث لم ينفعنا ذلك في هذا اليوم. فإن كان تأويل الآية هذا، فهذا يدل على أن قوله: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) بعدما دخلوا النار. وإن كان تأويله الأول على الإنكار والجحود، فذلك يدل على أن ذلك القول قبل أن يدخلوا النار حين يشهد عليهم الجوارح، وذلك يقرر قوله: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ)، والله تعالى أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ). أي: هكذا يضل اللَّه من علم منه اختيار الكفر والضلال يضله؛ وهو كقوله: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، أي: إذ علم منهم اختيار الانصراف صرفهم، وكذلك قوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، أي: إذ علم منهم أنهم يختارون الزيغ أزاغهم، واللَّه أعلم. وقوله: (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) أي: ذلك جزيتكم من النار بما كنتم تسرون في الدنيا بالباطل؛ إذ هم كانوا كذلك في الدنيا يفرحون ويسرون على كونهم على الباطل. وقيل: (تَفْرَحُونَ) أي: تبطرون، لكن هو على الفرح والرضاء بما اختاروا لأنفسهم. وقوله: (وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ). أي: وبما كنتم تتكبرون، كذلك كانوا يسرون ويرضون بكونهم على الباطل، وينكرون بذلك على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين، والمرح: التكبر؛ وهو كقوله: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا)، أي: تكبرًا. وقوله: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76). قد ذكرناه فيما تقدم. * * * قوله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ

(77)

لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ. اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) وقوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... (77) قد ذكرنا هذا أيضًا. وقوله: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ). كأنه كان يتوقع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نزول ما وعد لهم ويخطر ذلك بباله، ويطمع ذلك، فنهاه عن توقع نزول العذاب الذي وعد للكفرة في الوقت الذي يطمع فيه، وعن الخطر بباله النصر له وإهلاك أُولَئِكَ في الوقت الذي يتوقع، كأنه يقول: إن شئنا أريناك بعض الذي نعدهم، وإن شئنا توفيناك ولم نرك شيئًا؛ وهو كقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)، وإلا ظاهر قوله: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) حرف شك لا يحتمل ذلك من اللَّه تعالى؛ إذ هو يعلم أنه يفعل ذا أو لا يفعل، أو يكون ذا أو لا يكون، لكن الوجه فيه ما ذكرنا: أنه كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يطمع نزول ما وعد، ويحدث نفسه بذلك، فيقول له: ليس ذلك إليك، إنما ذلك إلينا على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " هذه الآية من المكتوم؛ لأن ظاهره شك ". وفي الآية دلالة الرسالة؛ لأنها خرجت مخرج العتاب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والتوبيخ له (¬1)، ثم أظهر ذلك على الناس، والسبيل في مثله في عرف الناس الإخفاء والإسرار عن الناس؛ فدل أنه إنما أظهر عليهم للأمر بالتبليغ، وكذلك في قوله - تعالى -: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)؛ إذ المرء لا يظهر مثل ذلك من غير أمر وتكليف ممن وجب عليه طاعته، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) يقول: لست أنت بأول رسول أرسلت إليهم فاستعبدوك وأنكروك وكذبوك، بل قد أُرْسِلَ إلى الأمم السالفة رسل مثل ما أرسلت أنت إلى هَؤُلَاءِ. وقوله: (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ). في الآية دلالة: أنا لم نؤخذ بمعرفة أعين الرسل وأساميهم على التعيين، كما أنا لا نؤخذ بالإيمان باللَّه - تعالى - بجميع ما جاء منه على التفصيل والتعيين بأساميهم؛ لكن على الجملة، وعلى هذا قلنا: إن الإيمان برسول واحد إيمانٌ بجميع الرسل؛ إذ المرء ¬

_ (¬1) عبارة فيها إساءة أدب. (مصحح النسخة الإلكترونية).

(79)

يوجد منه الإنكار لغيره على الجملة أو التعيين، وكذلك الإيمان باللَّه تعالى إيمان بالرسل جميعًا؛ لأن الإيمان باللَّه إيمان بأمره ونهيه؛ فيكون إيمانًا بمن جاء الأمر والنهي على يده، واللَّه الموفق. وقوله: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ). كأنهم سألوه أن يأتي بآية بعد آية على أثر آية أخرى، فقال عند سؤالهم ذلك: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: ليس لرسول أن يأتي بالآية على شهوته أو على شهوة السائل. وهذه الآية تدل على نقض قول الباطنية؛ فإنهم يقولون: إن أنفس الرسل جواهر روحانية يأتون بها الآية حيث شاءوا وكيف شاءوا، فكان للرسل عندهم بسبب الجواهر الروحانية التي فيهم - قدرةُ إتيانِ الآيات كيف شاءوا من غير إذن من اللَّه تعالى، ومن غير سؤال منهم إياه في وقت الإتيان، ولو كان الأمر على ما قالوا لم يكن لقوله: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) معنى، وأنه مخالف للآية؛ فإن فيها إخبارًا: أنه لا يأتي الرسل بالآيات إلا بإذن من اللَّه تعالى، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ). أي: إذا جاء الأمر بعذاب اللَّه، أو إذا جاء الأمر بموعود اللَّه، يعبر بالأمر عن الموعود الذي أوعدوا، وقد ذكرنا معنى الخسران فيما تقدم. وقوله: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) ذكرهم بهذه الآية وبالآية التي تقدم ذكرها لوجهين: أحدهما: يذكرهم النعمة التي أنعمها عليهم حيث قال: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)، وقال: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)، ثم قال هاهنا: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)، ذكرهم أولا بدء إنشائهم حيث خلقهم من تراب ثم من نطفة. . . إلى آخر ما ذكر. وفيه دلالة وحدانيته وعلمه وتدبيره وقدرته، ثم ذكرهم من بعد نعمه. . . إلى آخره؛ يستأدي بذلك شكره وحمده على ذلك، هذا وجه. والثاني: يذكرهم أنه إنما أنشأ هذه الأشياء التي ذكرها وعدّها عليهم للبشر، لم ينشئها

(81)

لأنفسها، كأنه يقول - واللَّه أعلم -: قد أنشأت هذه الأشياء لكم تنتفعون بها وتستعملونها كيف شئتم، فما بالكم أشد إنكارًا وكفرًا بالنعمة من غيركم من العالم، وسائر العالم أشد خضوعًا واستسلامًا لنعمه والقيام بشكرها له؟! ثم في الآية نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: ليس لله تعالى أن يؤلم طفلا ونعما إلا بعوض يعوضها، ثم لا شك أن ما سخر من الأنعام والدواب للبشر، ومكن لهم استعمالها والانتفاع بها أنواع المنافع؛ أنها تتأذى وتتألم بذلك؛ فيجب على قولهم: ألا يكون لله تعالى أن يؤلم إلا بعوض ترضى به هذه الأشياء؛ إذ هكذا حكم كل مجعول بعوض أن يشترط رضا أربابها في العوض، وإذا لم تكن هذه الأشياء من أهل الرضاء بحيث ألا يجوز التعويض؛ فدل أن ذلك بناء على ما قلنا من أن الأصلح ليس بواجب، واللَّه الموفق. ثم جعل منافعها مختلفة منها الركوب ومنها الأكل وغير ذلك من الانتفاع بصوفها ووبرها، وما أعطى لهم أيضًا من السفن يركبون بها البحار؛ ليصلوا إلى حوائجهم في الأمصار التي بعدت منهم ونأت؛ فضلا منه ومنة، فذلك قوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80). وقوله: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) يحتمل أنه أراهم آيات وحدانيته وألوهيته، وأراهم آيات نعمه وإحسانه إليهم ونحوها، يقول: [فأي] آيات اللَّه التي أراكم تنكرونها أنها ليست من اللَّه تعالى. * * * قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). قد ذكرنا معناه في غير موضع. وقوله: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً).

(83)

أي: كانوا أكثر عددًا منكم وأشد في القوة والبطش. وقوله: (وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ). أي، أكثر أعمالا منكم، ثم كانت عاقبتهم الهلاك والاستئصال. وقوله: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). يقول: لم يغن عنهم كثرة العدد والحشم والأموال، ولا قوة الأبدان في دفع العذاب عن أنفسهم، فأنتم -يا أهل مكة- أحق ألا تقدروا على دفع العذاب عن أنفسكم إذا نزل بكم مع ضعفكم وقلة عددكم! واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (83) يحتمل قوله: (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) وجهين: أحدهما: أي: فرحوا بما عندهم أنه علم وليس هو في الحقيقة علمًا، لكن عندهم أن ذلك علم؛ وهو كقوله: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا)، أي: انظر إلى إلهك الذي هو عندك إله، وإلا لم يكن ذلك عند موسى - عليه السلام - إلها، لكنه ذكر على ما عند ذلك الرجل للتعريف؛ فعلى ذلك قوله: (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي: بما عندهم أنه علم وإن لم يكن في الحقيقة علمًا، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل أن يكون على حقيقة العلم، وذلك من أهل الكتاب؛ قد كان من أهل الكتاب الإيمان بما عندهم من الكتاب، وهو على الحقيقة علم لا شك فيه، لكنهم لما كذبوا غيره من الكتب والعلوم وكفروا بها، لم ينفعهم إيمانهم بما عندهم من العلم؛ كقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ. .)، كان إيمانهم بما أنزل إليهم حقًّا، لكنهم لما كفروا بغيره أبطل ذلك الكفر إيمانهم بالذي أنزل إليهم؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ). أي: يحويهم العذاب بما كانوا يستهزئون بالرسل. وقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) يحتمل هذا وجهين: يحتمل أن يكون هذا القول منهم وما ذكر من الإيمان منهم إذا رأوا بأس اللَّه - بعد وفاتهم في قبورهم، أي: عذاب اللَّه، فإن كان التأويل هذا، فهذا يدل على عذاب القبر لمن شاء اللَّه تعالى في حقه العذاب، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل أن يكون ذلك منهم في حياتهم؛ حين رأوا بأس اللَّه في الدنيا آمنوا بما

(85)

ذكروا، فإن كان ذلك في الحياة، فلم ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما قال اللَّه تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ... (85) وقد تقدم ذكر هذا في سورة يونس - عليه السلام - على الاستقصاء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ)، ألا يقبل الإيمان عند رؤية بأس اللَّه ومعاينة عذابه. والثاني: كذلك سنة اللَّه التي قد خلت في عباده من التعذيب والانتقام من مكذبي الرسل في الدنيا واستئصالهم، يخوف أهل مكة بما أنزل إليك؛ ليحذروا مثل صنيعهم. وقوله: (وَخَسِرَ هُنَالِكَ): أي: خسر عند ذلك الكافرون، واللَّه أعلم. * * *

سورة فصلت

سُورَةُ فُصِّلَتْ وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2). ظاهر هذا أن تفسير (حم) هو قوله: (تَنْزِيلٌ)، وحم خبر لمبتدأ محذوف مقدر (تَنْزِيلٌ) مبتدأ من: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)؛ وكذلك قوله: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)، والأصل في حواميم وسائر الحروف المقطعة: أنها تبعث سامعها على التفكر والتأمل؛ لأنه لا يفهمها وقت قرعها السمع حتى يتأمل ويتفكر فيها؛ لأنها كلام لم يسمعوه قبل ذلك، فيحملهم ذلك على الاستماع والتفكر فيها والنظر، فيقع ما هو المقصود من الخطاب في سماعهم ويعرفوا وجه الإعجاز؛ فيتوصلوا بذلك إلى الحق، وقد ذكرنا في الحروف المقطعة وجوهًا أخر فيما تقدم. ثم ذكر هاهنا رحمته ورأفته؛ ليرغبهم فيما يرحمهم ويرأف بهم، وهو قوله: (حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وذكر في السورة الأولى عزه وقدرته وسلطانه وعلمه؛ ليحذروا مخالفته وعصيانه ظاهرا وباطنًا حيث قال: (حمَ. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)، ليطلبوا العز من عنده. وقوله: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) قال أهل التأويل: (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) أي: ثبت فيه من الحلال والحرام، وما لهم وما عليهم، وما يؤس وما يتقى ونحوه. وعندنا يحتمل قوله: (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) وجهين: أحدهما: (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) أي: فرقت كل آية من الأخرى، من نحو: آية التوحيد فرقت من آية الرسالة، وفرقت آية البعث من غيرها، فرق كل آية من الأخرى. والثاني: يحتمل التفريق في الإنزال، أي: فرقت آياته في الإنزال، لم يجمع بينها في الإنزال، ولكن فرق في أوقات متباعدة.

(4)

ويحتمل قوله: (فُصِّلَتْ): ثبتت، على غير ما قاله أهل التأويل، وهو أن يثبت آياته بالحجج والبراهين حتى يعلم أنها آيات من اللَّه تعالى. وقوله: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). أي: أنزله بلسان يعلمونه ويفهمونه لا بلسان لا يعلمونه ولا يفهمونه، أي: أنزله بلسانهم. ويحتمل (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي: ينتفعون بعلمهم، أي: حصل إنزاله لقوم ينتفعون، فأما من لم ينتفع به، فلم يحصل إلا الإنزال له، واللَّه أعلم. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (قرآنا عربيا لقوم يعقلون). وقوله: (بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) البشارة والنذارة هي بيان ما يكون في العاقبة من الخير والشر، أو يقال: البشارة هي الدعاء إلى ما يوجب لهم من الحسنات والخيرات في العاقبة، والنذارة هي الزجر عما يوجب لهم من السيئات والمكروهات في العاقبة، والنذارة هي الزجر؛ فصار معنى الآية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أرسل داعيًا إلى الحسنات وزاجرًا عن السيئات، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ). يحتمل إعراضهم عنه وجهين: أحدهما: أي: أعرضوا عن التفكر فيه والتأمل. والثاني: أعرضوا عن اتباعه بعدما تأملوا فيه وتفكروا، وعرفوا أنه حق وأنه من الله تعالى، لكنهم تركوا اتباعه عنادًا منهم ومكابرة؛ حذرا عن ذهاب الرياسة، واللَّه أعلم. وقوله: (فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ). أي: لا يجيبون على ما ذكرناه. قوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) لا شك أن قلوبهم على ما ذكروا أنها في أكنة وفي آذانهم وقر؛ لأنه ذكر - جل وعلا - أنه جعل على قلوبهبم أكنة وفي آذانهم وقرا؛ حيث قال تعالى: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا)، على ما أخبروا أن قلوبهم في أكنة وغطاء، وفي آذانهم وقر، لا يفقهون ما يدعون إليه، ولا يسمعون ذلك وإن كانوا يفقهون غيره ويسمعون؛ لأنهم كذلك قالوا: (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ). وقوله: (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ). إن ثبت ما ذكر بعض أهل التأويل: أن ثوبًا فيما بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: كن أنت يا مُحَمَّد في جانب، ونكون نحن في جانب آخر، ونحوه من الكلام - فهو ذلك،

(6)

وإلا احتمل أن يكون قوله: (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ): هو ما حجبتهم ظلمة الكفر وغطتهم عن فهم ما دعوا إليه وعلم ما دعاهم إليه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)، هذا يحتمل وجهين: أحدهما: اعمل أنت بدينك فإنا عاملون بديننا؛ كقوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). والثاني: فاعمل أنت في كيدنا فإنا عاملون في كيدكم والمكر بكم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يقولوا: اعمل أنت لإلهك فإنا عاملون لإلهنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) هذا الحرف يخرج على وجهين: أحدهما: كأنه يقول لهم: إنما أنا بشر مثلكم أفهم وأعقل يُوحَى إِلَيَّ وأسمع ذلك، فأنتم في قولكم: إن قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر - لا عذر لكم في ذلك؛ لأنه إنما يحجبكم عن ذلك ويغطي قلوبكم عن فهم ذلك الكفرُ الذي أنتم عليه والضلال الذي أنتم فيه، فاتركوا ذلك حتى تفهموا وتعقلوا ما تدعون إليه وتؤمرون به، كما أفهم أنا وأعقل إذ أنا بشر، واللَّه أعلم. والثاني: يقول: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)، أي: إنما أنا بشر مثلكم أمرت أن أبلغ إليكم أن إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه، وإلا لو لم أؤمر بتبليغ الرسالة إليكم إنما إلهكم إله واحد - لكنت أترككم وما أنتم عليه؛ لقولكم: إن قلوبنا في أكنة وفي آذاننا وقر فاعمل إننا عاملون. على هذين الوجهين تأويل الآية، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: فاستقيموا إليه بالطاعة. وقيل: أي: استقيموا إلى ما دعاكم إليه من التوحيد. وقوله: (وَاسْتَغْفِرُوهُ). أي: انتهوا عما أنتم عليه من الكفر والضلال؛ ليغفر لكم ما كان منكم في حال الكفر؛ كقوله تعالى: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). ويحتمل: أي: كونوا على حال بحيث يقبل استغفاركم وطلب تجاوزكم. وقوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ). والإشكال: أنه لماذا خص المشرك الذي لم يؤتِ الزكاة، وينكر الآخرة -بالويل، وقد

(7)

يلحق الويل للمشرك آتى الزكاة أو لم يؤت، آمن بالآخرة أو كفر بها- فنقول: قال بعض أهل التأويل: معناه: وويل للمشركين الذين لا يؤمنون بإيتاء الزكاة، ولا يؤمنون بالآخرة، وخصهم بذكر جحود الزكاة والآخرة؛ لما كان سبب كفرهم مختلفًا: منهم من كان سبب كفره بخله في المال وشحه، حمله ذلك على إنكار الزكاة والامتناع عن الإيتاء، ومنهم من كان كفره إنكاره جزاء الأعمال، حمله ذلك على إنكار الآخرة، ومنهم من كان سبب كفره الخضوع لمن دونه أو مثله في أمر الدنيا، حمله ذلك على إنكار الرسالة والجحود لها، وغير ذلك من الأسباب التي حملتهم على الكفر والضلالة وهي مختلفة. ويحتمل قوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ (7) هو لا على زكاة الأموال، ولكن على زكاة الأنفس؛ كأنه يقول: وويل للمشركين الذين لا يعلمون ولا يسمعون فيما به تركوا أنفسهم ويشرف ذكرها ويصلح أعمالهم به ولا ما يجزون به في الآخرة، أي: ويل لمن لا يعمل ذلك، واللَّه أعلم. وهذان الوجهان جواب عمّن تعلق بظاهر هذه الآية على أن الكفار يخاطبون بالشرائع؛ حيث ألحق الوعيد بهم بترك إيتاء الزكاة، والزكاة من الشرائع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) أي: غير مقطوع وذلك في الآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: غير ممتن عليهم، وذلك في الآخرة أيضًا، ومعناه - والله أعلم -: أنه يزاد لهم في الآخرة على قدر أعمالهم، ولا يمن عليهم في تلك الزيادة، وقال بعضهم: (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي: غير منقوص ولا ممنوع، وذلك - واللَّه أعلم - أن من كان يعمل في حال شبابه وقوته الصالحات والطاعات، ثم كبر وعجز عن إتيانها أنه لا يمنع ولا ينقص منه الأجر الذي كان مُجرى عليه ويكتب له في حال شبابه وقوته، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ

(9)

اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) تأويل هذه الآية كما ذكرنا في قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ. . .) الآية، وهو يخرج على وجوه: أحدها: كيف تنكرون وحدانيته وتكفرونه، وهو الذي أحياكم لا الأصنام التي تعبدونها؟! والثاني: تنكرون قدرة اللَّه في البعث، وقد رأيتم قدرته في ابتدائه إنشاءكم وتقليبكم من حال إلى حال؟! والثالث: كيف تكفرون رسوله وقد خلقكم اللَّه تعالى وامتحنكم بأنواع المحن، وكلفكم وأمركم بأوامر ونواهٍ ما لو لم يكن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يمكنكم القيام بأكثرها وكان خلقه إياكم عبثًا؟! فعلى هذه الوجوه يخرج قوله: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) الآية، أي: أئنكم لتكفرون وحدانية اللَّه تعالى وقد خلق الأرض في يومين وما ذكر. والثاني: إنكم لتكفرون وتنكرون قدرته على البعث وقد خلق الأرض في يومين على بعد أطرافها وسعتها، فكيف تنكرون قدرته على البعث وقد رأيتم قدرته على خلق ما ذكر؟! والثالث: أئنكم لتكفرون نعمة اللَّه التي أنعمها عليكم من خلق ما ذكر من الأرض وغيرها وما أنعم عليكم من بعث الرسول، فكيف تصرفون شكرها إلى الذي لم يفعل ذلك

(10)

بكم وتنكرون رسالة رسوله، ولا بد من رسول يرسل إليكم، وذلك من أعظم النعم وأجلها؟! فيخرج تأويل الآية على هذه الوجوه التي ذكرنا: أحدها: في إنكار وحدانية اللَّه وألوهيته. والثاني: إنكار قدرته على البعث. والثالث: في إنكارهم رسالة الرسول، وصرفهم شكر نعمه إلى غيره بعبادتهم غير اللَّه. ثم الحكمة في خلق الأرض وجعله الحد الذي ذكر يومين، وإن كان قادرًا على خلق كل شيء بلا تحديد ولا توقيت - فقَالَ بَعْضُهُمْ: فيه تعريفه الخلق والتعليم لهم الأناة -أي: التأني- في الأمور وترك الاستعجال فيها. والأصل في ذلك عندنا: أن اللَّه - جل وعلا - جعل أمر الدنيا وأمر هذا العالم على التحديد والتقليب من حال إلى حال نحو ما ذكر من تقليبه وتغييره من حال النطفة إلى حال العلقة، ومن حال العلقة إلى حال المضغة، ومن حال المضغة إلى حال تركيب الجوارح ثم إلى حال الإنسان، ثم من تلك الحال إلى أن يكبر يقلبه من حال إلى حال أخرى؛ وكذلك أمر الدنيا وما فيها من الفواكه والنبات وغير ذلك ينشئها ويحدثها في كل عام، وإن كان لو شاء أحدثها في عام واحد وأبقاها إلى آخر الأبد، لكن لم يفعل ذلك؛ لما بني أمر هذا العالم على الفناء والفساد؛ فيستدل بطريان هذه الأحوال عليها على أصل الوضع؛ ولذلك ركب فيهم المرض والسقم والسلامة والصحة، وبنى أمر الآخرة على البقاء والدوام؛ فعلى ذلك من التحديد والتوقيت في خلق الأرض. ويحتمل أن يقال: جعل ذلك على التحديد والتقدير؛ لأنها دار محنة وابتلاء، والابتلاء إنما يقع على التوقيت والتقدير في أوقات متباينة وأسباب مختلفة، فأما الآخرة فلا محنة فيها ولا بلية، فهي على الدوام والبقاء؛ لذلك كان ما ذكر. وقوله: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) أي: جعل في الأرض جبالا أرسى بها الأرض وأثبتها؛ لأنه ذكر أن الأرض كانت على الماء وكانت تميد بأهلها، لكنه أرساها بالجبال وأقرها بها. وفيه نوع لطف منه؛ لأنه معلوم أن الجبال التي أثبت بها الأرض، وأقر بها كانت تزيد في ثقل الأرض، فالسبيل في التسرب في الماء والانحدار فيه لا الإثبات بها

والإقرار، لكنه جعل الجبال سبب إثبات الأرض وإقرارها؛ تعليما منه الخلق تعليق الأشياء بعضها ببعض، وتعليقها بالأسباب من غير أن يكون الأسباب معونة له على ذلك، ولو شاء أثبتها وأرساها بلا سبب ولا شيء علقه به، لكنه علق الأشياء بالأشياء والأسباب، لما ذكرنا من تعليم الخلق تعليق الأشياء بالأسباب. وقوله: (وَبَارَكَ فِيهَا). يحتمل (وَبَارَكَ فِيهَا) أي: في الجبال، فقد جعل اللَّه فيها البركات الكثيرة: منها المياه التي أخرجت منها والعيون، ومنها الذهب والفضة وغيرهما، ومنها الثمار والأشجار التي ينتفع بها وأنواع النبات التي تصلح للأدوية، وغير ذلك من المنافع التي يكثر عدها وإحصاؤها. ويحتمل قوله: (وَبَارَكَ فِيهَا) أي: في الأرض، فقد جعل اللَّه تعالى في الأرض البركات والخيرات من المياه التي تخرج منها وأنواع النبات والثمار وغير ذلك مما به قوام الخلق جميعًا وغذاؤهم من البشر والدواب، واللَّه أعلم. والبركة: هي أسم كل خير يكون أبدًا على الزيادة والنماء. وقوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ). أي: قدر في الأرض أقوات أهلها وأرزاقهم في أربعة أيام سواء للسسائلين. قال الزجاج في قوله: (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) ثلاث لغات: النصب والرفع والخفض. فمن خفضه: (سَوَاءٍ) صيره صفة ونعتًا للأيام، كأنه قال: في أربعة أيام سواء، أي: مستويات ليس بعضها أطول من بعض. ومن قرأ بالنصب: (سَوَاءً) صيره مصدرا، أي: سواء وتسوية. ومن قرأ بالرفع [(سَوَاءٌ)] صيره على الابتداء، يقول - واللَّه أعلم -: أي ذلك الأقوات التي قدرها سواء للمحتاجين، أي: كفاية لهم على قدر حاجتهم. ثم اختلف في قوله: (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ): عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " من سأل عن ذلك وحده كما قال اللَّه تعالى، ويقول ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأنا من السائلين " فكأن قول ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - ما ذكرنا، أي: كفاية للسائلين المحتاجين على السواء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عدلا للسائلين، والعدل يخرج على وجههين:

(11)

أحدهما: العدل الذي يناقض الجور، أي: عدل للسائلين ليس بجور. والثاني عدلا للسائلين، أي: سواء، يقول لمن يشاء الرزق من السائلين. وقال الحسن: في أربعة أيام سواء لمن يسأل عن خلقه في أربعة للسائلين أو كلام نحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من تقاديم الكلام يقول: قدر فيها أقواتها سواء في أربعة أيام للسائلين تلك الأقوات والأرزاق سواء، واللَّه أعلم. ثم في هذا مسألتان: إحداهما: في تكوين الخلق وإحداثه وما ذكر من تقدير الأقوات في الأوقات، فعندنا أن اللَّه - تعالى - لم يزل مكونًا محدثًا، وأن ما كان ويكون إلى آخر الأبد إنما يكون بتكوين كان منه في الأول، لا بتكوين يحدث منه في كل وقت يحدث المكون والخلق، والأصل في ذلك ما ذكرنا فيما تقدم: أنه إذا أضيف الأوقات إلى فعله فتكوين التوقيت للخلق أعني: المفعول لا لفعله؛ لما ذكرنا أنه لا حاجة تقع له في المعونة بشيء مما ذكر من التوقيت، وإنما ذكر ذلك لئلا يتوهم قدم المفعول والخلق، وليعلم أنه محدث. ومسألة أخرى في ذكر التحديد والتوقيت في خلق ما ذكر؛ لحكمة جعل في ذلك من غير أن يصعب عليه خلق ذلك في ساعة أو طرفة عين؛ إذ المعنى في خلق ما ذكر في أيام وأوقات ذلك غيرُ موجود على السواء، وهو أن اللَّه تعالى عالم بذاته قادر بذاته له قدرة ذاتية وعلم ذاتي لا مستفاد، فالأوقات إنما يحتاج إليها من كان يعمل بقدرة مستفادة وعلم مستفاد استعانة له بذلك، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - ما يكون منه إنما يكون بقدرة ذاتية وعلم ذاتي لا حاجة تقع إلى الاستعانة بشيء من ذلك؛ لذلك كان ما ذكرنا. ثم قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ). الأربعة الأيام التي ذكر هي مع خلق الأرض: يومين لخلق الأرض، ويومين لتقدير الأقوات لأهلها والأرزاق فيكون أربعة، ثم ذكر لخلق السماوات يومين، فإذا جمع يكون ستة أيام، وهو ما ذكر في آية أخرى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، فكان تمام ذلك في ستة أيام، وقد ذكرنا معتى سنة أيام في غير موضع. وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ... (11) يخرج على وجهين: أي ثم استوت المنافع والأقوات التي قدرها في الأرض، وجعلها معايش أهلها بالسماء؛ لأنه جعل منافع الأرض متصلة بمناقع السماء، ما لولا السماء لم يستو منافع الأرض وما قدر لهم فيها، فبالسماء استوى ذلك لهم، أي: تم بذلك، واللَّه أعلم.

والثاني: قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، أي: ثم استوى الهواء والجو الذي بين الأرض والسماء إلى السماء ما لولا ذلك الهواء لم تستو؛ لأن السماء لو كانت ملتزقة بالأرض لا هواء بينهما لكانت لا تخرج ما جعل في الأرض من الأقوات والمعايش، فبالهواء استوى ذلك، واللَّه أعلم. ومنهم من يصرف الاستواء إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ومعنى ذلك: استوى أمره وملكه بخلق السماء، أو استوى المقصود بخلق الأرض وأهلها وما فيها بخلق السماء. وأما التأويلان اللذان ذكرناهما يتوجهان إلى غير ذلك: أحدهما: رجع إلى استواء الهواء، والثاني: إلى استواء ما جعل في الأرض، وعلى هذا يخرج ما سئل ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عندما روي أن رجلا سأل ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: " قرأت آيتين إحداهما تخالف الأخرى، فقال له: من قبل رأيك أتيت، ما هما؟ فقال ذلك السائل: قوله - تعالى -: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، وقوله تعالى: (السَّمَاءُ بَنَاهَا)، إلى قوله: (دَحَاهَا)، فمراد السائل أن ظاهر الآية الأولى أنه خلق الأرض في يومين قبل خلق السماء، وفي ظاهر الآية الثانية: أنه خلق السماء ثم خلق الأرض، فقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " خلق اللَّه تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء، فدحى الأرض بعدما خلق السماء، واللَّه أعلم "، أراد به: بسط الأرض بعد خلق السماء، فأما خلق أصل الأرض قبل خلق السماء. وعندنا أن ليس بين ظاهر هاتين الآيتين مخالفة، ولا فيه بيان أنه خلق الأرض قبل السماء ولا هذا بعد هذا؛ لأنه ذكر هاهنا أنه خلق الأرض في يومين ثم قال: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) ذكر الاستواء إلى السماء ليس فيه أنه خلقها بعد خلق الأرض، بل فيه أنما استوى إليها بعد خلقها وليس فيه إثبات خلقها قبل ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَهِيَ دُخَانٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: دل قوله: (وَهِيَ دُخَانٌ) على أنه كان هناك نار حتى خلق السماء بدخانها، لكن لا نعلم ذلك إلا بالسمع. ويحتمل أن يكون قوله: (وَهِيَ دُخَانٌ)، أي: شبه الدخان، لا حقيقة الدخان، ومنه خلق السماء والأرض. وقوله: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (ائْتِيَا): أعطيا ما جعل فيكما من المنافع والأقوات طوعًا أو

(12)

كرهًا. ثم اختلف فيه أنه على التكوين والتسخير ما ذكر من الطوع والكره، أو على حقيقة القول والأمر في ذلك؟! قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك على التكوين والتسخير خلقه، أي: إنشاؤهما وخلقهما على إخراج ما فيهما من المنافع والأقوات والأرزاق التي جعل فيهما، وكذلك ما ذكر من الطوع والكره لا قولا منه لهما وأمرا، لكنه طبعهما وأنشأهما كذلك على حقيقة القول والأمر منه لهما؛ نحو ما ذكر لكل شيء من الجبال وغيرها: أنه يسبح لله - تعالى - على الوجهين، لكن شرط خلق الحياة التي لا بد منها للنطق والسماع؛ فعلى ذلك هاهنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا): أي ائتيا عبادتي ومعرفتي، وذلك أن اللَّه تعالى حين خلقهما عرض عليهما الطاعة والشهوة واللذات على الثواب والعقاب (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا. . .) الآية، فهذا الإباء والإعطاء هو إعطاء الخلقة والتكوين على ما ذكرنا. وقوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) أي: خلقهن في يومين، هو موصول بقوله: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)، وكذلك قوله - تعالى -: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ)، وقد ذكرنا الوجوه في ذلك. ثم الأعجوبة في خلق السماوات ورفعها أعظم وأكبر من خلق الأرض، وقد ذكر في خلق السماوات من الوقت مثل الوقت الذي ذكر في الأرض، وهو يومان؛ ليعلم أن الوقت الذي ذكر في ذلك، ليس لما يتعذر عليه ذلك، ويصعب بدون ذلك الوقت، ولكن لحكمة جعل في ذلك لم يطلع الخلق على ذلك أو كانت الحكمة فيه ما ذكرنا. وقوله: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا). وهم الملائكة الذين جعلهم أهلا لها. وقال قائلون: أي: أمر كل أهل سماء أمرها وامتحنهم بمحنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو مما أمر به وأراد؛ وهما واحد. وقوله: (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ). أي: بالكواكب، وقوله: (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) التي دنت منكم هي مقابل القصوى من الدنو، ليس أن هذه السماء التي نراها ونشاهدها مزينة بالكواكب هي سماء الدنيا فانية وغيرها من السماء الآخرة لا يفنى، بل كلها تفنى يعني: هذه وغيرها بقوله: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)، وقوله: (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)

(13)

فهن كلهن دنيويات فانيات، دل أن قوله: (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) أي: التي دنت منكم وهي مقابل القصوى، لا مقابل الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَحِفْظًا)، يحتمل وجهين: أحدهما: أي: حفظناها وجعلناها محفوظة بما ذكر من أن يسترق الشياطين والجن أسماعهم إلى خبر السماء، وما يتحدث به الملائكة فيما بينهم فيلقون ذلك على أسماع أهل الأرض، على ما كانوا يفعلون من قبل، أي: حفظناها بالكواكب التي جعل فيها؛ لترميهم الكواكب وتقذفهم؛ ليكون سماع ذلك من جهة الوحي عن لسان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دون إلقاء من ذكر، وهو كما ذكر في آية أخرى حيث قال: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. . .) الآية. ويحتمل وجها آخر: (وَحِفْظًا) أي: حفظناها على ما هي حتى لا تسقط على الخلق؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا)، وقوله تعالَى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ)، ونحوه. وقوله: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). يقول: ذلك الذي ذكر كله وصنع هو تقدير العزيز العليم، أي: تقدير من لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء. ويحتمل قوله: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي: تقدير من له العز الذاتي والعلم الأزلي، لا أنه قدر ذلك وصنع ليستفيد بذلك العز أو العلم؛ إذ هو عزيز بذاته وعليم بذاته، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) كانت معروفة عندهم ظاهرة أنها نزلت بهم؛ دل قوله تعالى: (أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) أن صاعقة عاد كانت معروفة عندهم ظاهرة أنها نزلت بهم؛ لتكذيبهم الرسل وتركهم إجابتهم إلى ما دعوا إليه، حيث خوف هَؤُلَاءِ بذلك كأنه يقول: أنذرتكم بتكذيبكم إياه وترككم إجابتي إلى ما دعوتكم إليه بالذي نزل بعاد وثمود، وتكذيبهم الرسول الذي أرسل إليهم وتركهم الإجابة إلى ما دعوا إليه، واللَّه أعلم. وقوله: (صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) لم يرد به عين عذاب أُولَئِكَ ومثله في رأي العين، ولكن مثله في الهلاك والاستئصال؛ ألا ترى أن عذاب عاد وثمود كان مختلفا في رأي العين: عذاب عاد خلاف عذاب ثمود وهما في المعنى واحد؟! فعلى ذلك ما أوعد هَؤُلَاءِ بمثل عذاب عاد وثمود، لم يرد مثله في رأي العين، ولكن في المعنى، وهو

(14)

كما ذكر في قوله: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ)، وقوله: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ)، لم يرد به التشابه والمضاهاة على أن نفس القول منهم وعين الكلام كان واحدًا، بل كان سبب كفرهم مختلفًا، وقول هَؤُلَاءِ خلاف قول أُولَئِكَ، وما كان من هذا الفريق خلاف ما كان من الفريق الآخر، لكن لما كان التكذيب من هَؤُلَاءِ له كالتكذيب من أُولَئِكَ والرد له من هَؤُلَاءِ كهو من أُولَئِكَ في أن كان كفرا واحدا سواء، فمن هذه الجهة وصف قلوبهم بالتشابه وأقوالهم بالمضاهاة، وهذا يدل على أن الاستواء من جهة واحدة يوجب التشابه والتماثل. وقوله: (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) بنبأ من كان قبلهم، ونبأ من كان بعدهم أنهم جميعًا قالوا لقومهم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ). والثاني: (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) بالوعيد والتخويف بعذاب ينزل بهم (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ)، أي: من حيث يرونه ويعلمونه (وَمِنْ خَلْفِهِمْ)، أي: من حيث لا يرونه ولا يعلمون؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)، ونحوه. وقيل: يبعث اللَّه الرسل قبلهم وبعدهم بالذي ذكر، وهو الدعاء إلى توحيد اللَّه وجعل العبادة له، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ). هذا القول منهم يناقض قولهم وتكذيبهم الرسل وإنكارهم رسالة البشر وطمعهم رسالة الملائكة؛ لأنهم ما عرفوا الملائكة ولا عاينوا، فإنما عرفوا الملائكة وعلموا بمكانهم برسل البشر، فكيف أنكروا رسالتهم مع ما لو كان الرسل إليهم الملائكة، لم يعرفوا أنهم ملائكة إلا بقولهم؛ لما لم يتقدم لهم المعرفة بالملائكة، فهذا يناقض إنكارهم الرسل من البشر؟! والثاني: ما قالوا: (فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) قد أقروا رسالتهم حيث قالوا: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)؛ لأنهم لم يقولوا: إنا بما أرسلتم إلينا كافرون، ولكن قالوا: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ) فذلك مما يناقض قولهم ويرد تكذيبهم، وإنما قالوا ذلك -أعني: قولهم: (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً) - تعنتًا منهم وعنادا، وإلا قد علموا أنهم رسل الله فيناقضون بما قالوا على التعنت منهم، واللَّه أعلم.

(15)

وقوله: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) جائز أن يكون استكبارهم في الأرض بغير الحق على أهل الأرض بما ذكروا من فضل القوة لهم وشدتها من بين غيرهم؛ كقوله تعالى: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) فهم ذكروا ذلك، فجائز أن يكون استكبارهم على أهل الأرض بغير الحق؛ لشدة بطشهم وقوتهم على غيرهم. ويشبه أن يكون استكبارهم رفض اتباع الرسل، فلم يروا أنفسهم أن يجعلوها تحت تدبير الرسل وأمرهم، وأن يخضعوا لهم ويستسلموا لما دعوهم إليه، وقالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً). ثم قال اللَّه تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً). هذا استفهام على طريق التقرير، معناه: قد رأوا وعلموا أن اللَّه الذي خلقهم هو أشد قوة، والرسل - عليهم السلام - لم يكونوا يوعدونهم بقوى أنفسهم ولا بعذاب يكون منهم حتى قالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، ولكن إنما كانوا يوعدونهم ويخوفونهم بعذاب ينزل من عند اللَّه، وبقوته وسلطانه يوعدونهم وقد عرفوا قوته وسلطانه؛ لذلك قال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً). وقوله: (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ). دل هذا على أنهم قد كذبوا هودًا، وأنكروا آياته، وذلك قولهم: (يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ)، وإنه قد أتاهم بآيات رسالته. وقوله: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) ذكر ما أهلكهم من العذاب، وهو الريح الصرصر الباردة؛ كذا قال أَبُو عَوْسَجَةَ. وقوله: (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ). وهو ما ذكر في سورة الحاقة حيث قال: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا)، وقال في موضع: (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ). ثم اختلف في تأويلها: قَالَ بَعْضُهُمْ: (نَحِسَاتٍ) مشؤمات نكدات؛ وهذا قول الْقُتَبِيّ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (نَحِسَاتٍ) أي: شداد. وقيل: (نَحِسَاتٍ) من النحس، يقال نحس يوْمُنا، والنحس: الغبار في الأصل.

(17)

وقوله: (لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). أي: عذابًا يذلهم ويفضحهم عند الخلق جميعًا. وقوله: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ). عليهم أذل وأفضح وأشد من عذاب الدنيا. وقوله: (وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ). يحتمل: لا ينصرون بقوتهم التي كانت لهم، واعتمدوا عليها بقولهم: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً). ويحتمل: لا ينصرون بالأصنام التي عبدوها على رجاء النصر لهم والشفاعة. وقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) يحتمل ما ذكر من الهداية لهم حقيقة الهدى، وهو التوفيق، وحقيقة خلق الاهتداء فيهم، فصاروا مهتدين، وهو ما سألوا من الآية، وهي الناقة، فلما أتاهم على ما سألوا، آمنوا به وصدقوه، ثم كفروا به بعد ذلك وكذبوه وعقروا الناقة على ما ذكر. ويحتمل قوله: (فَهَدَيْنَاهُمْ). أي: بينا لهم غاية ما يبين الحق من الباطل بما يعرفه كل ذي لب وعقل أنها آية، وأنها من اللَّه تعالى؛ حيث جاءتهم الآية التي سألوها على الإشارة والتعيين وهي الناقة. وقوله: (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى). أي: اختاروا الكفر على الهدى، واختاروا ما به يعمون على ما يبين لهم. ثم أخبر عما نزل بهم من العذاب باختيارهم العمى على الهدى، وهو ما قال: (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ). أي: عذاب يهانون فيه، وهو من الهوان والإذلال، وكل عذاب اللَّه صاعقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) أي: أنجينا الذين اختاروا الهدى على العمى، وكانوا يتقون اختيار العمى على الهدى. * * * قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ

(19)

يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وقوله: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ ... (19) أي: نجمع، والحشر: الجمع، يجمعون في النار؛ وهو كقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ). وقوله: (فَهُمْ يُوزَعُونَ). أي: يساقون؛ كقوله - تعالى - (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُوزَعُونَ) أي: يدفعون؛ كقوله تعالى: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)، والوزع: الدفع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُوزَعُونَ) أي: يحبسون، أي: يحبس أولهم على آخرهم، حتى إذا اجتمعوا جميعًا فعند ذلك يجعلون في النار؛ كقوله - تعالى -: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. . .) الآية. وقوله: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) كأنهم يوقفون ويحبسون في مكان، فيعاينون النار، فيسألون عما كانوا يعملون؛ وهو كقوله تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)، فينكرون ما كان منهم؛ كقوله تعالى: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقوله: (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا)، فعند ذلك ينطق اللَّه جوارحهم فتشهد عليهم بما عملوا وما كان منهم، وهو قوله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (جُلُودُهُمْ): كناية عن الفروج؛ وهو قول الحسن. وقوله: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) يَنْطِقُ، إذ لا كل شيء ينطق، ذكروا (كُلَّ شَيْءٍ)، وأرادوا به الخاص لا العام، واللَّه أعلم. وكان غير هذا أقرب، يقولون: (أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) يعصون به الله تعالى، وهو ما ينطق اللَّه الأشياء التي بها عصوا ربهم، وهي الأصنام التي عبدوها وغيرها مما عبدوا دون الله؛ كقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. . .) الآية وقوله: (وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)، وما ذكر من إخبار الأرض وحديثها بما عملوا عليها بقوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)،

(22)

وغير ذلك من الآيات التي فيها بيان: أنه ينطق اللَّه تعالى الأشياء التي عبدوها وعصوا بها ربهم؛ فعلى ذلك ينطق اللَّه الجوارح التي بها عصوا ربهم؛ فتشهد عليهم بجميع ما كان منهم. وقوله: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ما كنتم تعلمون وتستيقنون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم، ظننتم أن اللَّه لا يعلم كثيرًا مما تعملون، الظن هاهنا على هذا التأويل: حقيقة الظن، أو الجهل، أي: ولكن جهلتم أن اللَّه يعلم كثيرًا مما تعملون، فلو كان تأويل الآية ما ذكر هَؤُلَاءِ ففيه دلالة أن العذاب قد يلزم ويجب وإن جهل ذلك ولم يتحقق عنده العلم به، إذا كان يحيث إمكان الوصول إلى علم ذلك ومعرفته بالنظر والتأمل والتفكر بغير ذلك من الأسباب، لكنه ترك التأمل فيه، فلم يعلم ذلك؛ فلم يعذر يجهله، وهكذا العلم أن من مكن له العلم وأسباب المعرفة فلم يتكلف معرفته، لم يعذر في جهله؛ ولهذا قال أبو حنيفة في الأطفال أن: لا علم لي بهم؛ لما لا يعلم أنهم قد بلغوا المبلغ الذي يدركون الأشياء بالتأمل والتفكر أم لا؟! وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ)، أي: كنتم لا تقتدرون أن تستتروا من سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم، فأحد لا يستطيع أن يستتر من نفسه إذا عمل شيئًا، فذلك ظنكم أن ظنتتم أن اللَّه لا يعلم كثيرًا مما تعملون في السر. وقوله: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) أي: وذلكم جهلكم على ما ظننتم بأن اللَّه - تعالى - لا يعلم ذلك، وهو لا يخفى عليه خافية، فظنكم ذلك أرداكم، أي: أغواكم وأضلكم عن الهدى. وقال قتادة: يا ابن آدم، إن عليك لشهودا غير متهمة: من بدنك، فراقبهم، واتق الله في سر أمرك وعلانيتك؛ فإنه لا يخفى عليه خافية: الظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، ومن استطاع أن يموت وهو باللَّه حسن الظن ولا قوة إلا باللَّه. ثم قال: الظن ظنان: ظن منجٍ، وظن مردٍ، فأما المنجي فقوله: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) الآية، وما قال: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ)، وأمَّا الظن المردي فقوله: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ)، وقوله: (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا

(24)

ظَنًّا)، ونحوه. قال: وذكر أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ويحدث ذلك عن ربه تعالى: " عبدي، أنا عند ظنك بي، وأنا معك إذا دعوتني ". وقال الحسن: إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن بربه الظن، فأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق، فأساء به الظن؛ فأساء العمل، ثم تلا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ. . .) الآية، وقال: الجلود: كناية عن الفروج. وفي حرف حفصة: (وما كنتم تخشون)، وفي حرف أُبي وابن مسعود: (ولكن زعمتم أن اللَّه لا يعلم) كذا؛ وكذلك في حرفهما: (فذلكم زعمكم الذي زعمتم) والزعم في كلام العرب: الكذب، وفيه يستعمل. وقوله - تعا لي -: (أَرْدَاكُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أهلككم، والردى: الهلاك، وقيل: أورد المهالك. ويحتمل (أَرْدَاكُمْ) أي: أغواكم وأضلكم على ما ذكرنا. وقوله: (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ... (24) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: فإن يصبروا على ما هم عليه من الأعمال إلى أن ختموا به، فالنار مثوى لهم في الآخرة. والثاني: أي: فإن يصبروا في الآخرة فالنار مثوى لهم، أي: لا ينفعهم الصبر على ذلك، ولا يكون الصبر سبب الفرج عن ذلك؛ وهو كقوله - سبحانه وتعالى - خبرا ضهم: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ)، فيكون أحد التأويلين في الدنيا والثاني في الآخرة. وقوله: (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ). معناه - واللَّه أعلم -: وإن يستقيلوا ما كان منهم فما هم من المقالين، أي: أثقال ذلك منهم ولا يرضى عنهم وإن استرضوا.

(25)

قوله تعالى: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) وقوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ). كقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا. . .) الآية. ثم اختلف في قوله: (وَقَيَّضْنَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: هيأنا لهم في الدنيا قومًا من الشياطين وغيرهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: مكَّنَّا للشياطين حتى يقذفوا في قلوبهم من الوساوس وغيرها أو كلام نحوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: خلينا بينهم وبين الشياطين حتى عملوا بهم ما ذكر. وقوله: (فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، اختلف في قوله: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي: حسنوا لهم التكذيب بالآخرة والحساب والثواب والعقاب، أن ليس ذلك. وقوله: (وَمَا خَلْفَهُمْ)، أي: حسنوا لهم أمر الدنيا وأنها دائمة باقية. وقيل: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)، أي: ما عملوا، (وَمَا خَلْفَهُمْ) أي: وما يريدون أن يعملوا من بعد. والثالث: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ): ما عملوا بأنفسهم، (وَمَا خَلْفَهُمْ) وما سنوا لغيرهم من بعدهم، كقوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ). يحتمل: وجب عليهم القول بالعذاب أو السخط. وقوله: (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). أي: مع أمم، وذلك جائز. وقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: من قبل هَؤُلَاءِ من الإنس والجن من الأمم الخالية (إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ).

(26)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) أي: لا تسمعوا أنتم بأنفسكم والغوا فيه؛ لئلا يسمع منه قراءته ولا صوته، دل هذا القول على أنهم قد عرفوا أنه حجة، وأنه من عند اللَّه جاء، وأن من سمع ذلك أذعن له وأطاع إذا لم يكابر عقله؛ ولهذا قالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)؛ لئلا يذعن له ولا يطاع (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) بالمكاء والتصدية، وكانوا يفعلون ذلك؛ ليخلطوا عليه صلاته وقراءته لعلكم بالمكاء والتصدية قولهم: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً). وقوله: (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) أي: يذيقن الذين كفروا وداموا على الكفر حتى ماتوا على ذلك، فأما من كفر في وقت ثم ترك ذلك، وأسلم، فليس له ذلك. ثم من الناس من يقول: إن قوله: (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا) أراد به في الدنيا، وقوله: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)، في الآخرة، يجعل أحد العذابين في الدنيا والآخر في الآخرة. وجائز أن يكون كله في الآخرة. ثم دل قوله: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: لهم محاسن في الدنيا، لكن تلك المحاسن تبطل ولا يجزون بها شيئًا، وإنما يجزون على المساوئ التي عملوها في الدنيا؛ لأن المحاسن إنما تثبت وتبقى ويستوجب بها الجزاء إذا أتوا بالإيمان والتوحيد، فأما إذا لم يأتوا به لم ينتفعوا بتلك المحاسن، ولم يجزوا بها، وقد ذكر للمؤمنين مقابل ذلك: أن يكفر عنهم سيئاتهم ويجزوا بأحسن ما كانوا يعملون، وهو قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ). وقوله: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وعد للمؤمنين تكفير المساوئ التي عملوا في الدنيا والجزاء لهم بالمحاسن التي عملوها، ووعد للكافرين إسقاط محاسنهم والجزاء على مساوئهم لما لم يأتوا بالإيمان، واللَّه أعلم. وقوله: (ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ ... (28) هذا يدل على أن ذلك في الآخرة.

(29)

وقوله: (لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ). قوله: (دَارُ الْخُلْدِ)، أي: دار البقاء يبقون فيها أبدًا، فيكون اسمًا للجنة، ويحتمل أن يكون في الجنة دار أو موضع يسمى: دار الخلد فيكون اسم موضع خاص، واللَّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) قَالَ بَعْضُهُمْ: الذي أضلهم من الجن هو إبليس؛ لأنه أول من عصى اللَّه تعالى وسن لهم ذلك، ومن الإنس ولد آدم الذي قتل أخاه؛ لأنه أول من سن القتل، ولكن عندنا أنهم سألوا أن يريهم الذي أضلهم كل جني يوسوس ويقذف في قلوبهم الوساوس والمساوي، وكل إنسي يدعوهم ظاهرًا إلى الضلال، وهكذا كل ضال وكافر إنما كان ذلك الضلال والكفر لوساوس من جني أو تلقين من إنسي بلسانه. سألوا اللَّه تعالى أن يجعلهم ظاهرين فيجعلوهم تحت أقدامهم؛ لما يكون العذاب في كل ما كان أسفل أشد؛ لذلك سألوا ذلك وهو ما سألوا ربهم زيادة العذاب لهم في آية أخرى حيث قال: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ). * * * وقوله: (فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ)، فعلى ذلك سؤال هَؤُلَاءِ. قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا). روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما نزلت هذه الآية قال: " أمتي أمتي؛ لأن اليهود قالوا: ربنا اللَّه، ثم قالوا؛ عزير ابن اللَّه، وأن النصارى قالوا: ربنا اللَّه، ثم قالوا: المسيح ابن اللَّه، وأن أمتي قالوا: ربنا اللَّه، ولم يشركوا به أحدًا "، وكذلك روي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: " هم الذين لم يشركوا باللَّه شيئًا " فإن ثبت ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهو تفسير الاستقامة التي ذكر، واللَّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي قالوا ربنا اللَّه، ثم استقاموا في إخلاص العمل له والقيام بذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ثم استقاموا على أداء الفرائض والشرائع والحدود. وقيل: ثم استقاموا في الطاعات له. والاستقامة وجوه ثلاثة: أحدها: في الاعتقاد، اعتقدوا ألا يعصوه ويجتنبوا جميع ما يخالف أمره ونهيه. والثاني: استقاموا في اجتناب جميع ما يخالف ما أعطوا بلسانهم: أنه ربنا اللَّه، وقاموا بوفاء ما أعطوا بلسانهم قولا وفعلا. والثالث: قاموا في جميع الأعمال مخلصين لله تعالى لم يشركوا فيها أحدًا لأحد فيها نصيبًا من المراءاة غيرها، بل خالصًا لله تعالى سالمًا، واللَّه أعلم بما أراد بذلك. وقوله: (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا): اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك عند قبضهم الأرواح في الدنيا يبشر لهم بما ذكر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تقول لهم الملائكة يوم القيامة عند معاينتهم الأهوال والأفزاع؛ ليسكن بذلك قلوبهم عند تلك الأهوال والشدائد، واللَّه أعلم. ثم اختلف في قوله: (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا) أي: لا تخافوا ما أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفتم من الأهل والأولاد. وقيل: لا تخافوا ما تقدمون عليه من الموت وأمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتم من أهل أو دين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تخافوا من العذاب ولا تحزنوا على فوت ما وعدتم من النعيم؛ فإنها دائمة لا يفوت ولا ينقطع أبدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ):

(31)

على ألسن الأنبياء والرسل - عليهم السلام - فمن قال: إن البشارة التي ذكر في الدنيا عند قبض الأرواح، فلما ذكر في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "؛ لأن المؤمن يُرَى له الجنة ويبشر بها في ذلك الوقت؛ فيصير الدنيا له سجنًا لما عاين مما هُيِّئ له وجعل له من الثواب، والكافر لما رأى له مكانه في النار أو بشر به صارت له الدنيا جنة؛ وعلى ذلك يخرج قوله - عليه السلام -: " من أحب لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه، ومن كره لقاء اللَّه كره اللَّه لقاءه "، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يشبه أن يكون هذا القول من الذين بشروهم بما بشروا يقولون: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وجائز أن يكونا ذلك من اللَّه تعالى، وإن كان المذكور على أثر البشارة الملائكة؛ وذلك كقوله - تعالى -: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَ)، ثم إن كان ذلك من اللَّه - سبحانه وتعالى - فيكون تأويله (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ) في عصمتكم في الدنيا، وأولى بكم في الآخرة في المعونة، أو نقول: نحن أولى بكم في النصر والتوفيق في الدنيا والجزاء والثواب في الآخرة، والله أعلم. وإن كان ذلك من أُولَئِكَ الذين بشروهم يقولون: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا بالصحبة، فكذلك يكون في الآخرة. وقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: (مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) أي: لكم ما ترغب به أنفسكم وتتوق إليه. أو لكم فيها ما تتلذذ به أنفسكم وتتنعم بها. وقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ). قيل: ما تتمنون وتسألون، أو يقول: ما تدعون من الدعوى.

(32)

وقوله: (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) قال بعضهم: (نُزُلًا) أي: رزقًا من غفور رحيم وهو من الإنزال، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (نُزُلًا) أي: إنزالا في المنزل من غفور رحيم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) كأنه يقول: ومن أحسن مذهبًا ومسيرة ممن دعا إلى اللَّه، أي: إلى توحيد اللَّه ودينه، أو دعا إلى المعروف والنهي عن المنكر، أي: دعا غيره إلى ذلك وعمل بنفسه، وهذا الحرف يجمع جميع الخيرات والطاعات، فإن كان قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا) على ما ذكرنا من المذاهب والسيرة فكأنه يقول: ومن أحكم وأتقن مذهبًا وسيرة ممن ذكر، وإن كان على حقيقة القول فيكون قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا) أي: ومن أصدق قولا ممن قال ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). أي: اختار الانتساب إلى الإسلام من بين غيره من الأديان والمذاهب، وقد أبي سائر الفرق الانتساب إلى الاسلام سوى أهل الإسلام. والثاني: انتسب إلى ما خص اللَّه سبحانه وتعالى تسميتهم به وهو الإسلام؛ كقوله تمعالى: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)، وقوله: (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، وقال في حق إبراهيم - عليه السلام -: (أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، ويكون اسم المؤمن خاصًّا لأهل الحق؛ فإن اليهود والنصارى سلموا أنفسهم مؤمنين، ولا يمتنعون عن إطلاق اسم المؤمن ويمتنعون عن إطلاق اسم المسلم؛ ولهذا يقال: دار الإسلام، ولا يقال: دار الإيمان، وإن كان الإسلام والإيمان واحدًا؛ لاختصاص هذا الاسم بهَؤُلَاءِ، واللَّه أعلم. أو يقال: إنه اختار النسبة إلى الإسلام، وغيرهم من الناس انتسبوا إلى ما لهم من العز في الدنيا والشرف فيها، وغير ذلك من الأسباب التي كانت لهم في الدنيا. ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم المؤذنون، وعلى ذلك رويت الأخبار أنها نزلت في المؤذنين.

(34)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في كل مؤمن دعا الخلق إلى طاعة اللَّه تعالى وعمل بنفسه، والله أعلم. وعن الحسن أنه تلا قوله - تعالى -: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا) قال: هذا صفوة اللَّه، هذا خِيرة اللَّه، هذا أحب أهل الأرض إلى اللَّه تعالى، أجاب في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب اللَّه فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، قال إنني من المسلمين لربه، هذا خليفة اللَّه تعالى. * * * قوله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ). قيل: (لا) الأخير هاهنا زائدة كأنه قال: ولا تستوي الحسنة والسيئة، وقد يزاد حرف (لا) في الكلام وقد ينقص؛ فعلى ذلك هذا. ثم جائِز أن يكون قوله: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ)، وقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) كل واحد منها موصولاً بالآخر، يقول: لا تستوي الحسنة، وجائز أن يكون كل واحد منها مقطوعًا من الآخر على الابتداء، فإن كان أحدهما موصولا بالآخر يقول: لا تستوي الحسنة والسيئة في جلب حب القلوب واللين والعطف لها، بل الحسنة تجلب حب القلوب والميل إليها لا السيئة. (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي: ادفع بالحسنة دون السيئة؛ وهو كقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. . .) الآية؛ فعلى ذلك يقول هاهنا أنْ: لا تستوي الحسنة والسيئة في الطاعة والميل وجلب حب القلوب، بل هما مختلفان مفترقان فادفع سيئتهم بالحسنة، واللَّه أعلم. وجائز أن يكونا جميعًا على الابتداء لا اتصال لأحدهما بالآخر، فإن كان الابتداء فمعناه - واللَّه أعلم -: أنكم تعلمون بعقولكم أن لا استواء بين الحسنة والسيئة ولا بين المحسن والمسيء، وكذا لا استواء بينهما في الحكمة، وقد رأيتم أنهما قد استويا في هذه الدنيا في جميع منافعها ولذاتها، وجمع بينهما في هذه، وفي الحكمة والعقول التفريق بينهما، دل أن هنالك دارا أخرى يفرق بينهما في الجزاء والثواب فيهما - واللَّه أعلم - وهو

(35)

ما ذكر في آية أخرى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، وقوله: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّا) أي: لا نجعل هذا كهذا في هذه الحياة الدنيا؛ فدل ذلك على أن هناك دارا أخرى فيها يقع ذلك التمييز والتفريق، فعلى ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). صرف عامة أهل التأويل ذلك إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإلى أبي جهل - لعنه اللَّه - أنه أمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يدفع سيئة أبي جهل بالحسنة، لكن هذا لا يحتمل؛ لأنه لم يذكر أن أبا جهل صار لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما ذكر حيث قال: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، بل دامت عداوته إياه إلى أن خرج على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر وأغرى الناس عليه، فرجع ذلك الإغراء إليه فقتل في ذلك اليوم؛ فدل أنه لا وجه لصرف الآية إلى هذا. ثم يخرج قوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) على وجهين: أحدهما: ادفع سيئتهم في حادث الوقت بحسنة تكون منك إليهم، أي: إذا أحسنت إليهم كفوا هم عن الإساءة إليك في حادث الوقت - واللَّه أعلم - فيكون كقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ). والثاني: أي ادفع سيئتهم بالعفو والصفح عنهم، أي: لا تكافئهم بمساويهم ولكن تجاوز عنهم واصفح، فإذا فعلت ذلك يصير الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، أي: لا يعاد ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) على أمر اللَّه تعالى والقيام بجميع أموره، أو يقول: لا يعطى ولا يؤتى المعاملة التي ذكر ولا يوفق لذلك إلا من عزم على الصبر على ما أمر اللَّه تعالى والصبر على ذلك. وقوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) يقول: ولا يعطى هذه المعاملة التي ذكر من الدفع بالحسنة والصفح عن المجرم إلا من كان له حظ ونصيب عظيم عند اللَّه تعالى، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: جائز أن يكون الاستعاذة التي ذكر هي مباشرة الأسباب التي بها يدفع نزغ الشيطان ووساوسه، أمره أن يأتي بالأسباب التي يتهيأ له أن يدفع بها نزغاته وغمزاته،

(37)

وهذا كالاستغفار الذي أمره به، ليس هو أمرًا بأن يقولوا: نستغفر اللَّه بألسنتهم، ولكن أَمْرٌ بمباشرة أسباب يقع ويجب لهم المغفرة بها؛ فعلى ذلك الاستعاذة. والثاني: جائز أن يكون أمره بالاستعاذة إياه أمرًا له بسؤال لطف من عند اللَّه يدفع به نزغاته وهمزاته، واللَّه أعلم. وعلى قول المعتزلة لا يصح الاستعاذة منه؛ لأنهم يقولون: إنه قد أعطى كلامًا به يدفع نزغاته وهمزاته متى لم يبق عنده شيء يملك إعطاءه إياهم من اللطف وغيره، والله الهادي. * * * قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). كأنه يقول - واللَّه أعلم -: إن الشمس والقمر آيتان من آيات ألوهيته تعالى ووحدانيته كالليل والنهار أنهما آيتان من آيات اللَّه تعالى، فإذا لم تعبدوا الليل والنهار فكيف عبدتم الشمس والقمر؟! واللَّه أعلم. أو نقول: إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه تعالى، سخرهما لمنافع الخلق كالليل والنهار مسخرات للخلق والمنافع التي جعل فيها للخلق إن لم يكن أكثر لم يكن دون منافع الشمس والقمر، فإذا لم تعبدوا الليل والنهار فكيف عبدتم هاتين؟! يذكر هذا لأن منهم من كان يعبد الشمس ومنهم من كان يعبد القمر ونحوه، يذكر سفههم بعبادة غير اللَّه تعالى. وقوله: (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ). أي: اسجدوا لله الذي أنشأ هذه الأشياء وسخرها لكم. (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). أي: إن كنتم بعبادتكم هذه الأشياء تقصدون القربة عند اللَّه تعالى، أو إن كنتم بعبادتكم هذه الأشياء إياه تريدون؛ لأنهم كانوا يعبدون هذه الأشياء دون اللَّه تعالى رجاء القربة عنده والزلفى لقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبوُنَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، يقول: إن كنتم إياه تقصدون بعبادة هذه الأشياء فاسجدوا له واعبدوا؛ لما أمركم بالسجود له والعبادة، واللَّه الموفق.

(38)

وقوله: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) قد ذكرنا فيما تقدم أن لا أحد يقصد قصد الاستكبار على اللَّه تعالى. ثم يخرج هذا على وجهين: أحدهما: أنهم قد أمروا بطاعة الرسل - عليهم السلام - فاستكبروا عن الائتمار لهم لما دعوهم إليه؛ فيصير استكبارهم عليه كالاستكبار على اللَّه تعالى. والثاني: لما تركوا عبادة اللَّه تعالى وجعل في أنفسهم دلالة العبادة لله تعالى؛ فإذا تركوا العبادة لله تعالى فقد تركوا الائتمار بأمره، لم يعتقدوا الائتمار لذلك الأمر فيكون استكبارًا عليه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ). يقول - واللَّه أعلم -: فإن استكبر هَؤُلَاءِ على عبادة اللَّه تعالى فأوحشك ذلك، فاذكر عبادة من عنده من الملائكة بالليل والنهار حتى تستأنس بذلك، واللَّه أعلم. وهو كقوله: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ)، كان يستوحش باستهزائهم به؛ فذكر له استهزاء أُولَئِكَ بإخوانه لِيَقِل ذلك فيه؛ لما علم أنه ليس أول من استهزئ به، فهذا مثله. والثاني: فإن استكبر هَؤُلَاءِ على عبادة اللَّه وقد عبدوا الملائكة والأصنام وغيرهم، فالذين هم عند ربك ممن عندهم هَؤُلَاءِ لم يستكبروا؛ بل هم مسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون، وهو كقوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) الآية؛ وكقوله - تعالى -: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)، يقول: إن استنكف هَؤُلَاءِ عن أن يكونوا عُبُدًا لله، فالمسيح ومن ذكر لم يستنكفوا عن ذلك. وقوله تعالى: (وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ). يخبر أنهم لا يسأمون عن عبادته كما يسأم البشر أحيانًا عن عبادته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) وقال فيما تقدم: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) فيما ذكر من الآيات آيات وحدانيته، وآيات قدرته وعلمه وتدبيره، وآيات حكمته: أما آيات وحدانيته في الليل والنهار والشمس والقمر: هو أنه إذا كان سلطان أحدهما ليل أو نهار أو شمس أو قمر لم يمنع عن كون الآخر، ولو كان ذلك فِعْلَ عددٍ لكان منع الآخر عن إتيان ما يذهب سلطانه؛ فإذا لم يكن دل أنه فِعْلُ واحدٍ.

ودل جريان ما ذكر من الليل والنهار والشمس والقمر على سياق واحد وسنن واحد من أول ما كانا إلى آخر ما يكونان على أن منشئهما عليم مدبر علمًا ذاتيًّا وتدبيرًا ذاتيًّا ليس بمستفاد ولا مكتسب. ودل سيرهما وجريانهما في يوم واحد وليلة واحدة مسيرة كذا وكذا عاما على أن منشئهما قادر له قدرة ذاتية لا يعجزه شيء؛ إذ القدرة المستفادة والمكتسبة لا تبلغ ذلك. وكذلك في إحياء الأرض بعد موتها وإخراج النبات منها دلالة ذلك كله: من دلالة الوحدانية، ودلالة العلم الذاتي والقدرة الذاتية والحكمة والتدبير؛ لأنه لما أحياها بعد موتها، وأماتها بعد إحيائه إياها دل أنه فِعْلُ واحدٍ لا عدد؛ لأنه لو كان فعل عدد لكان إذا أحيا هذا منع الآخر عن الإماتة، وهكذا إذا مات هذا منع الآخر على أن يكون من فعل ذي عدد من ملوك الأرض؛ فإذ لم يمنع ذلك دل أنه فعل واحد، ودل جريان ذلك كله في كل عام على مجرى واحد وسنن واحد وعلى مقدار واحد من النبات وغيره على أنه إنما كان بعلم ذاتي وحكمة ذاتية، ودلت القدرة على إحيائها بعد موتها وإماتتها بعد حياتها أن له قدرة ذاتية لا يعجزه شيء من البعث وغيره. ثم جعل - جل وعلا - في الماء معنى، يوافق ذلك المعنى جميع النبات الخارج من الأرض على اختلاف أجناسها وجواهرها؛ حتى يكون حياة كل شيء من ذلك به: أن ذلك كان كذلك بلطف منه لا يبلغه فهم البشر ولا علمهم، ثم ذلك النبات مع لينه وضعفه ورقته يشق تلك الأرض مع شدتها وصلابتها ويخرج منها ما لا يتوهم خروج أشد الأشياء منها بفعل أحد سواه، دلَّ ذلك على قدرته ولطفه، واللَّه أعلم. ثم قوله: (تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً) أي: ميتة. (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ) أي: تحركت نباتُها وتزينت وصارت حية. وقوله: (وَرَبَتْ) أي: تربو ويزيد ما عليها من النبات. قَالَ الْقُتَبِيُّ: اهتزت بالنبات، ربت: علت وانتفخت. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: اهتزت أي: فُرجت، وربت: من الزيادة. وقوله: (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى). هو ما ذكرنا: أن الذي ملك وقدر على إحيائها لقادر على إحياء الموتى بعد موتهم. (إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، أي: لا يعجزه شيء. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ

(40)

عَزِيزٌ. لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا ... (40) قرأ بعضهم: (يُلْحِدُونَ) برفع الياء، وقرأ بعضهم بنصبها: فمن قرأ بالرفع، تأويله: إن الذين يميلون عن قبول آياتنا، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإلحاد: الميل، وأخذ اللحد من هذا. ومن قرأ بالنصب يقول: يعملون في آياتنا، إن الذين يعملون في دفع آياتنا وإبطالها. (لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) وعيد منه لهم، يقول: لا يخفون هم وما يفعلون علينا فيجزيهم بذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ). يشبه أن يكون هذا صلة لآيتين تقدم ذكرهما: إحداهما: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ. . .) الآية هذه في المؤمنين، وقال في الكافرين: (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا) الآية. والآية الثانية: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ)، يقول: أفمن يلقى في النار بأعماله السوء خير أمن يأتي آمنا عن ذلك بأعماله الحسنة؟! أي: يعلمون أن من يلقى في الآخرة في النار ليس كالذي يأتي آمنا عن ذلك كله، والله أعلم. وقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ). يحتمل هذا وجهين: أحدهما: على التخيير؛ لأنه جل وعلا بيِّن السبيلين جميعًا على المبالغة بيانًا شافيًا واضحًا، وبين عاقبة كل سبيل من سلكه إلى ماذا يفضي، ثم قال: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) أي: اسلكوا أي سبيل شئتم، فإن سلكتم طريق كذا فلكم كذا، وإن سلكتم طريق كذا فلكم كذا، واللَّه أعلم. والثاني: على الوعيد. وكذا قوله: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) على الوعيد. وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)

(42)

سمى القرآن ذكرا، وهو يحتمل وجوهًا: أحدهما: سماه ذكر؛ لأن من اتبعه وعمل بما فيه صار مذكورًا شريفًا. أو سماه ذكرا؛ لما يذكر لهم ما نسوا من أحكام اللَّه. أويذكر ما لله عليهم وما لبعض على بعض. (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ). يحتمل قوله: (لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) أي: عزيز لا يذله جحود الجاحدين ولا تكذيب المكذبين، أو يقول: عزيز عند اللَّه تعالى أكرم به محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعزيز يعز من اتبعه وعمل به، كما ذكرنا أنه يشرف من اتبعه وعمل بما فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) قال بعض أهل التأويل: أي: لا ينزل كتاب من بعده يكذبه أو يبطله، ولا قبله كتاب يكذبه أو يبطله، بل خرج موافقًا لما قبله من الكتب. ويحتمل أن يكون قوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) أي: إبليس لا يستطيع أن يبطل منه حقًّا، أو يحق منه باطلا، أو ينقص منه حقًّا، أو يزيد فيه باطلا، بل هو على ما ذكرنا: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ ما ذكرنا: لا تكذبه الكتب التي كان قبله. وقوله: (وَلَا مِنْ خَلْفِهِ). أي: لا يجيء من بعده كتاب يكذبه، ومعنى هذا: أنهم كانوا يردون ذلك ويدفعونه، وليست لهم حجة من اللَّه في ردهم إياه ولا في دفعه، بل يدفعونه بلا حجة ولا برهان (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). وعن الحسن قال في قوله تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ): إن اللَّه - سبحانه وتعالى - حفظه من الشيطان فلا يزيد فيه باطلا ولا ينقص منه حقًّا، ثم قرأ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). ودل قوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) على أن كل ما أضيف إليه من اليدين والخلف لا يُفهم منه بذكر اليدين: الجارحتان، أو بذكر الخلف: بقوله: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)؛ فعلى ذلك ما أضيف إلى اللَّه تعالى من اليدين ومن بين يديه، لا

(43)

يُفهِمُ اليدان حقيقة الجارحتين، واللَّه الموفق. وقوله: (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). أي: هذا القرآن هو تنزيل من حكيم حميد، الحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في تدبيره أو في حكمه، والحميد: هو الذي لا يلحقه الذم في فعله، واللَّه الموفق. ثم قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) لم يخرج له جواب في هذا الموضع، ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: جوابه ما ذكر في آية أخرى بعد هذا، وهو قوله: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بل جوابه ها ذكر في (حم المؤمن) حيث قال اللَّه - تعالى -: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) يعزِّي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويصبره ليصبر على ما كانوا يقولون له: إنه كذاب وإنه ساحر، وإنه مجنون، وإنه إنما يعلمه بشر، وإنه مفترٍ، وغير ذلك من أنواع الأذى، كانوا يؤذونه وكان يشتد عليه ذلك ويثقل؛ لأنه كان يدعوهم إلى ها به نجاتهم وهم كانوا يستقبلونه بما ذكر، فقال اللَّه - تعالى - له عند ذلك: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ... (43) من التكذيب والنسبة إلى السحر والجنون وغير ذلك، يصبره على ذلك؛ وهو كقوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. .،) الآية. ويحتمل أنه إنما ذكر ذلك له؛ ليسلَّى به عن بعض ما يلحقه من الضجر والوحشة بالذي قالوا فيه؛ بما علم أنه ليس بأول مكذَّب من الرسل، ولا بأول متأذٍّ في ذات اللَّه تعالى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ). يقول - واللَّه أعلم -: على أن ذلك إن ربك لذو مغفرة لو تابوا، ورجعوا عن ذلك، وذو عقاب أليم لو ثبتوا وداموا على ذلك. أو يقول - واللَّه أعلم - على الصلة لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) أي: إنه لذو مغفرة يغفر لهم ما كان منهم من التكذيب لك والتكذيب للقرآن لو تابوا ورجعوا وصدقوا؛ وذو عقاب أليم إن لم يتوبوا وثبتوا على ذلك، واللَّه أعلم. أو يذكر هذا، أي: ليس إليك مكافأتهم ومجازاتهم بما كان منهم، إنما ذلك إلينا إن شئت غفرت لهم إذا رجعوا عنه، وإن شئت عاقبتهم؛ وهو كقوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. . .) الآية. وقوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ... (44) وقال في آية أخرى: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ)

وقال في موضع آخر: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، يذكر في هذه الآيات كلها سفه أهل مكة وشدة تعتتهم؛ يقول: لو أنزلنا عليك الكتاب جملة في قرْطاس بحيث يرون نزوله من السماء ويعاينونه، قالوا: ما هذا إلا سحر مبين. ويقول أيضًا - واللَّه أعلم -: ولو نزلنا هذا القرآن على بعض الأعجمين بلسان، فقرأه عليهم -أي على أهل مكة- بلسان العرب بحيث يفهمون - ما كانوا به مؤمنين؛ لأن قرأءة الأعجمي إياه بلسان العرب أكبر في الآية وأعظم في الأعجوبة من قراءة العربي بلسان العربية، أي: قراءة كل أحد شيئًا بغير اللسان الذي هو لسانه أكبر في الآية وأعظم في الأعجوبة من القراءة بلسان هو لسانه. يقول: لو نزلنا على من لسانه لسان العجم والقرآن عربي، فقرأ الأعجمي ذلك على أهل مكة بلسان العرب؛ فهو أكبر أعجوبة وأعظم في الآية - لكانوا لا يؤمنون به. فعلى ذلك يقول - واللَّه أعلم -: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا) وعاينوا نزول ذلك على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وفهمه وأداه وقرأه عليهم بلسان العرب (لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ) يعنون القرآن (وَعَرَبِيٌّ) أي مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - يقولون: القرآن أعجمي ومحمد عربي كيف يكون؟! أي: لا يكون هذا ويكذبونه ولا يؤمنون به؛ وذلك لما ذكرنا: أن أداءه بلسان ليس ذلك لسانه وقراءته بعين ذلك اللسان، أكثر في جعله آية وأعظم في الأعجوبة؛ إذ يمكن الاختلاف من نفسه باللسان الذي هو السانه، وموهوم ذلك إذا لم يكن ذلك لسانه، يخبر عن سفههم وشدة عنادهم في تكذيبهم محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما جاء به، والله أعلم. وقال بعض أهل التأويل: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان أحيانا يدخل على رجل أعجمي يقال له أبو فكيهة، فقالوا: إنما يعلمه بشر فأنزل اللَّه تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا) بلسان أعجمي، لقال كفار مكة: (لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) بالعربية، أي: بينت حتى نفقهها ونعلمها ما يقول مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولقالوا: أعجمى أنزل عليه القرآن ومُحَمَّد عربي؛ فأنزله عربيًّا ليفقهوه؛ فلا يكون لهم الاعتلال والاحتجاج. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لولا فصلت آياته حتى يفقهها، أعجمي القرآن وعربيٌّ الرجل؟! وقال أبو معاذ: يكون معنى هذا: أن اللَّه تعالى يستفهم قرآنا أعجميًّا على رجل عربي فلا

يفهمون؛ فيكون الحجة لهم بذلك، وهو مثل الأول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) استفهام من قريش، يكون معناه: لو أنزلناه قرآنا أعجميًّا على رجل عربي لقالوا: أعجمي وعربي كيف يفهم هذا وكيف يعقله؟! لَكنَّا قد ذكرنا أن هذا في الدلالة أكثر وفي الأعجوبة أعظم، والوجه فيه ما ذكرنا بدءًا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) أنزلت عربية مفصلة بالآي كان التفصيل للسان العرب، لكن لسنا ندري ما يريد بهذا الكلام أن التفصيل للسان العرب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) أي: هلا فرقت آياته حتى جعل من كل لسان من لسان العجم ولسان العرب؛ حتى يفهمها أهل كل لسان، واللَّه أعلم. وفي هذه الآية دلالة على أنه لو أنزله بلسان العجم لكان قرآنا، وأن اختلاف اللسان لا يغيره ولا يحوله عن أن يكون قرآنا - واللَّه أعلم - فيكون دليلا لقول أبي حنيفة - رحمه اللَّه -: إنه إذا قرأ بالفارسية في صلاته يجوز، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى). وصف اللَّه تعالى هذا القرآن بالشفاء وللرحمة والهدى، وسماه مرة عزيزًا كريمًا مجيدًا حكيمًا، ونحوه، فهو هدى من الضلالة والحيرة والشك وكل شبهة، وشفاء لكل داء وسقم يكون في الدين والأنفس جميعًا، هو شفاء لذلك كله وهو هدى. ثم يحتمل الهدى وجهين في هذا الموضع: أحدهما: هو هدى لكل ضلالة، أي: دعاء إلى الذي يضاد الضلال. والثاني: هدى، أي: جعل بيانًا لكل حيرة وشك وشبهة، من اتبعه وقبله ونظر إليه بعين التعظيم والتبجيل دعاه إلى سبيله ودينه ويخرجه من الضلال، ويكون بيانًا لكل من فيه الحيرة والشك والشبهة، ويخلي له الطريق ويوضح له السبيل ويخرجه من الشبهات، فهو للمؤمنين من الهدى والشفاء؛ لأنهم قبلوه واتبعوه وتكلفوا العمل بما فيه، وأما الكفرة فهو عليهم عمي وحيرة وشك؛ لأنهم لم يقبلوه ولم يتبعوه ونظروا إليه بالاستخفاف والهوان؛ ونبذوه وراء ظهورهم فلم يبصروا ما فيه؛ فهو صار لهم عمى وما ذكر، واللَّه أعلم. وكذلك قال تعالى: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) سماهم غيبة وإن كانوا بأنفسهم حضورًا شهودًا، وسماهم موتى، وإن كانوا في الحقيقة أحياء، وسماهم صمًّا وبكمًا

(45)

وعميًا وإن كانت لهم هذه الجوارح في الحقيقة؛ لما لم ينتفعوا بهذه الجوارح بالذي جعلت هذه الجوارح له وأنسيت فنفاها عنهم؛ ليعلم أن المقصود ما يشاهده الجوارح والأنفس، لا نفس هذه الجوارح والأنفس ولكن طلب ما غاب عنها وخفي؛ إذ أنفسهم في الحقيقة كانت شهودا وحضورا؛ سماهم: ميتة وأحياء وبصراء، وسماهم موتى وعميا وما ذكر؛ ليعلم أنها إنما جعلت؛ ليكتسبوا بها الحياة الدائمة، والبصر الدائم، وما ذكر من كل شيء من السمع وغيره، وكذلك هذه النعم التي جعلت؛ في الدنيا جعلت ليكتسبوا بها النعم الدائمة، فإذا لم يستعملوها فيما جعلت صاروا كما ذكر، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)، أي: عموا عنه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)، أي: في الآخرة، جزاء بما نسوه في الدنيا؛ كقوله تعالى: (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى). وقيل: قوله: (يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) وعبارة عن قلة أفهامهم؛ يقال للرجل الذي لا يفهم: أنت تنادى من مكان بعيد، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ). كأنه يقول - واللَّه أعلم -: إنا قد آتينا موسى الكتاب ما عرفوا أنه إنما نزل من عند الله تعالى؛ حيث شاهدوا نزوله جملة، ومع أنهم عرفوا ذلك، اختلفوا فيه حتى كذبه بعضهم؛ فعلى ذلك يقول - واللَّه أعلم -: لو أنزلنا القرآن عليك أعجميًّا، فأديته إليهم بلسانك العربي، لكذبوك، ولا يصدقونك، وإن كان ذلك في الدلالة أكثر في الأعجوبة وأعظم على ما فعل قوم موسى بالكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام، يذكر سفههم وتعنتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ). ظاهر هذه الآية على أن ما ذكر من المنة والرحمة في تأخير العذاب إنما هو لقوم

(46)

موسى، وهو قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ)، لكن أهل التأويل قد أجمعوا على صرف هذه المنة والرحمة في تأخير العذاب إلى هذه الأمة، وكذا ظهر فيهم المنة في العفو عن الإهلاك في الدنيا دون سائر الأمم، واللَّه أعلم. ثم ظاهر قوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) استدلال واحتجاج لأهل الإلحاد؛ لأن مثل هذا في الشاهد إنما يقال لأحد معنيين: أما لجهل بالعواقب، أو لعجز عن وفاء ما وعد، لكن اللَّه يتعالى عن الوصف بالجهل بعواقب الأمور والوصف بالعجز عن شيء مما أقام من الآيات والبراهين على العلم والقدرة. ثم قوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يحتمل الكلمة: الحجة؛ كقوله تعالى: (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)، وقوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي)، أي: لحجج ربي، وتكون الكلمة منه: الدِّين؛ كقوله تعالى: (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)، ونحوه. وقيل: الكلمة: هي الساعة التي هي آخر عذاب هذه الأمة، فقال: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)، واللَّه أعلم. وجائز أن تكون الكلمة هاهنا ما سبق من المنة لهذه الأمة ألا يعذبها وقت استحقاقهم العذاب. أو سبق منه المنة والرحمة بتأخير الهلاك عن وقت اكتسابهم أسباب الهلاك، وهذا على المعتزلة والخوارج؛ لقولهم: إن ليس لله أن يعفو أو يؤخر العذاب عمن وجب عليه أو استحقه أو كلام نحوه، حيث منَّ ورحم هذه الأمة بتأخير العذاب عنهم إلى وقت، ولو لم يستحقه العذاب، لم يكن لذكر المنة والرحمة في ذلك معنى؛ وهو كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه إنما امتحنهم لا لمنافع فيه يجرُّ إلى نفسه، أو لمضار يدفعها عن نفسه، ولكنه إنما امتحنهم وأمرهم ونهاهم؛ لمنافع يكتسبون لأنفسهم، ولمضار يدفعون بذلك عن أنفسهم، وليس كملوك الأرض أنهم يمتحنون الخلق ويأمرون وينهون ويستعملونهم لمنافع أنفسهم، ولمضار يدفعونها بذلك عن أنفسهم، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - فإنما يمتحن الخلائق لمنافع يجرون إلى أنفسهم ولمضار يدفعون به عن أنفسهم، فلهم حصول منافع ذلك الامتحان والأمر والنهي، وعليهم حصول ضرر ذلك؛ فلأنفسهم يعملون ما يعملون من الخير والطاعة، وعليهم ما يعملون من الشر؛ ولذلك

(47)

قال: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. .) الآية، قد بين السبيلين جميعًا بيانا شافيا، وأقام لكل ذلك حججا وبراهين، وبين أن من سلك سبيل كذا، أفضاه إلى كذا في العاقبة: إما نعيم دائم وسرور دائم، وإما عذاب دائم وشرور دائمة، فمن سلك السبيل الذي عاقبته النار والحزن، فمن قِبَلِ نفسه أتى ذلك، وهو الذي أوقع نفسه في ذلك، ومن سلك السبيل الذي جعل عاقبته الجنة والنعم الدائمة فيه، واختياره وصل ذلك، فهو تفسير قوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) أجمع من آمن باللَّه تعالى، وصدق رسله - عليهم السلام - من أهل السماء وأهل الأرض أن ليس عندهم علم بوقت الساعة؛ فإن ذلك خفي عليهم لا يعلمونه، وأن علم ذلك عند اللَّه تعالى، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا. . .) الآية؛ غير الباطنية والروافض؛ فإن علم ذلك عندهم على مذهبهم وفي زعمهم: أما الروافض: فإنهم يعدون الأئمة ويقولون: إن الساعة على إمام كذا، وفي زمان كذا. وأما الباطنية يقولون: إن اسم الساعة والقيامة ونحو ذلك إنما هو اسم قائم الزمان وإنه فلان، فعلى قولهم يظهر وقت قيامها، فهو خلاف ما ذكر في الكتاب، وما أجمع عليه أهل السماء والأرض، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ). جائز أن يكون ما ذكر من إخراج الثمرة من الأكمام وما ذكر من حمل الأنثى ووضعها، وهو موصول بقوله: (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ)، فإن كان على ذلك، فمعناه لا يعلم ذلك كله إلا هو، لا يعلم وقت خروجها ولا حدها، وأنها تخرج أو لا، وكذلك الولد لا يعلم كيفية علوقه ولا وقته ولا مقداره، وأنه يعلق أو لا، علم ذلك إلى اللَّه تعالى كعلم الساعة، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله: (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) على الابتداء، ليس على الصلة بالساعة، ولكن موصول بما تقدم من قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً. . .) إلى آخر ما ذكر؛ فعلى ذلك يقول - واللَّه أعلم -: ومن آيات ألوهيته ووحدانيته وآيات

قدرته وعلمه وتدبيره أن يخرج الثمرات من أكمامها، ومن آياته أن تحمل الأنثى وتضع، وهو أن اللَّه تعالى أنشأ تلك الثمرة في الأكمام، وكذا الولد في البطن في حجب وسواتر ورباه في تلك الحجب والسواتر، وغذاه بأغذية، ودفع عنه جميع الأذى من البرد والحر وجميع ما يؤذيه؛ لضعفه ولطافته؛ لطفًا منه ورحمة، وصوَّره في تلك الحجب والسواتر بأحسن صورة؛ ليعلم ألوهيته ووحدانيته وأن له علما ذاتيا وقدرة ذاتية أزلية لا مكتسبا مستفادا؛ إذ العلم المستفاد والقدرة المستفادة لا تبلغ ذلك، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ أَكْمَامِهَا) أي: المواضع التي كانت فيها مستترة، وغلاف كل شيء كمه، كما قيل: كم القميص. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أكمامها: غطاؤها التي يكون فيها قبل أن يتعيق، والتعيق: التشقق؛ يقال: تعيقت الأكمام عن الثمرة، أي: تشققت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي). يذكرهم، ويخبر عما يسألون يوم القيامة وما يكون من جوابهم لذلك السؤال؛ لعلهم يمتنعون عن ذلك، ويحذرون؛ يقول: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي) أي: أين الذين تزعمون أنهم شركائي في الدنيا؟ أو أين الذين تعبدون في الدنيا وتزعمون أنها آلهة، وأنها شفعاء لكم عندي؟ وإلَّا لا يحتمل أن يقول لهم الرب - جل وعلا -: أين شركائي؟ ولا شريك له ولا إله غيره، ولكن ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (آذَنَّاكَ): أسمعناك. وقيل: أعلمناك. والأشبه أن يكون معنى (آذَنَّاكَ): أخبرناك؛ إذ اللَّه تعالى كان عالما بذلك، وإعلام العالم لا يتحقق، أما الإخبار للعالم عن الشيء يتحقق بما علم به، واللَّه أعلم. ثم اختلف في ذلك أنه قول من؟: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو قول أُولَئِكَ الكفرة الذين نودوا يومئذ يقولون: أخبرناك أن لم يكن منا أحد شهيدا بذلك، أو يقولون بالشريك، أو بإلهٍ سواك، يخرج على الإنكار والجحود والكذب أنهم لم يقولوا ذلك، ولم يفعلوا، وهو كما ذكر عنهم في آية أخرى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا. . .) الآية، فقالوا: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، أنكروا ما كان منهم من الإشراك؛ فعلى ذلك قوله: (آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ)، أي: لم نشرك بك أحدا، ولم نتخذ من دونك إلها، واللَّه أعلم.

(48)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) هذا من قول الأصنام والذين عبدوهم من دون اللَّه في الدنيا، يقولون: ما منا من شهيد على عبادة أُولَئِكَ إيانا، ولا أمرناهم بذلك؛ وهو كقوله؛ (وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)، وقولهم: (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا)، أخبروا أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم إياهم، وأنهم ما أمروهم بها؛ فعلى ذلك قوله تعالى: (آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي: أخبرناك. وقوله تعالى: (آذَنَّاكَ) على هذا التأويل هو ما ذكروا: أن كنا عن عبادتكم لغافلين، واللَّه تعالى أعلم. ثم إن الكفرة في يوم القيامة مرة أنكروا عبادتهم غير اللَّه، وأحيانا أقروا بها وتبرءوا منها، ومرة سألوا الرجوع إلى المحنة والرد إلى الدنيا على اختلاف الأحوال والأوقات في ذلك اليوم؛ إذ لا تكون هذه إلا الأسئلة المختلفة في وقت واحد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) هو ما ذكر في آية أخرى (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا)؛ وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام في الدنيا؛ رجاء أن تشفع لهم في الآخرة وتقربهم إلى اللَّه زلفى، فلما أيسوا ما رجوا منها، وقمعوا، قالوا: (ضَلُّوا عَنَّا)، فعلى ذلك قوله: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا) من قبل في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)، أي: أيقنوا وعلموا أن لا محيص لهم ولا نجاة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)، أي. مهرب. * * * قوله تعالى: (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ)، وقال في آية أخرى: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)، هاتان الآيتان في ظاهر المخرج: إحداهما: مخالفة للأخرى؛ لأنه ذكر في إحداهما الإياس والقنوت إذا مسه الشر، وفي الأخرى كثرة الدعاء إذا مسه الشدة والبلاء، ومن طباع الخلق والعرف فيهم أنهم إذا أيسوا [وقنطوا] لا يدعون ولا يسألون، بل يتركون

سؤالهم، وإذا طمعوا ورجوا عند ذلك سألوا ودعوا، هذا هو العرف فيهم؛ فدل أن بينهما مخالفة من حيث الظاهر، لكن نقول: إن الآية تخرج على وجوه: يحتمل: أن كل واحدة من الآيتين في إنسان بعينه يشار إليه سوى الآخر، كان عادة أحدهما -على الإياس والقنوط من الخير- ترك الدعاء والسؤال، وكان عادة الآخر الدعاء والتضرع إليه والسؤال عن كشف ذلك عنه، فأخبر - جل وعلا - رسوله عليه الصلاة والسلام ما أضمر كل واحد منهما: في نفس أحدهما الإياس والقنوت، والآخر الدعاء والسؤال والطمع في الخير؛ ليكون له عليهم دلالة الرسالة وآية النبوة إذ أنبأه عن ضمير كل واحد منهما وما في نفسه؛ ليعلم أنه رسول، وإنما علم ذلك باللَّه جلا وعلا، واللَّه أعلم. والثائي: أن الكفرة كانوا فرقا، وكانوا على مذاهب شتى مختلفة: فرقة كانت تطمئن في حال الرخاء والسعة، وتيأس وتنقلب في حال البلاء والشدة؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ. . .) الآية. وفرقة كانت تفزع إلى اللَّه تعالى وتقبل إليه عند إصابة الشدة والبلاء، وتعرض عنه عند كشف ذلك عنهم وتوسيع النعم عليهم؛ نحو قوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ. . .) الآية، ونحوه كثير في القرآن. وفرقة كانت في الحالين جميعا على الإعراض عنهم، وترك الإقبال إليه والطاعة له، لا يفزعون ولا يقبلون لا في حال الرخاء والسعة ولا في حال البلاء والشدة؛ كقوله: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ). وفرقة كانت ترى الحسنة والخير من أنفسهم، وإذا صارت سيئة وشدة تطيروا بالرسل عليهم السلام؛ كقوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) وقوله تعالى: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ). وإذا كانت الكفرة على هذه المذاهب المختلفة وكانت أجناسا شتى، فيكون كل آية منهما في جنس غير الجنس الآخر، وفي أهل مذهب غير أهل مذهب آخر، فأما المسلمون فيكونون في الحالين جميعًا على التوحيد والإقبال إلى اللَّه تعالى في حال الرخاء والسعة، وفي حال البلاء والشدة، وهو على ما استثناهم اللَّه تعالى عند ذكر الكفرة؛ حيث قال: (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وقوله تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) الآية، وأمثال ذلك من الآيات، وصفهم - جل وعلا - بالثبات والقرار على دينهم في الأحوال كلها، واللَّه أعلم.

(50)

والثالث: جائز أن يكون ما ذكر من الآيتين على ما ذكر إخبارًا عما طبع عليه البشر وأنشئ، وإنما أنشئ البشر وطبع على الرغبة في الخير والسعة والنفار عن الشدة والبلاء والكراهة له؛ فهذا إخبار عما طبعوا عليه وأنشئوا، ليس على حقيقة إظهار ذلك منهم قولا أو فعلا، ولكن، على ما طبع كل إنسان؛ راغبا حريصا في السعة والرخاء، وأنه ما ذكر لا يسأم من دعاء الخير، كارها نافرا عن البلاء والشدة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) قَالَ بَعْضُهُمْ: (هَذَا لِي)، أي: أعطانيه من خير علمه مني. وجائز أن يكون ما ذكرنا أنهم كانوا يتطيرون بالرسل عند البلاء والشدة، والسعة يرونها من أنفسهم؛ حيث قال: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً). كانوا ينكرون البعث والجزاء لما عملوا في الدنيا، ثم يقولون: ولئن كان يذكر محمد من البعث والجزاء للأعمال والجنة؛ إن ذلك لنا دونهم، وهو قوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)، أي: إن رجعت إلى ربي على ما يقوله مُحَمَّد: (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) وهو على ما قالوا في الدنيا: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) لما رأوا السعة لأنفسهم في الدنيا دون المؤمنين؛ فعلى ذلك في الآخرة قالوا لنا دونهم، واللَّه الهادي. ثم أخبر تعالى عما ينزل بهم بأعمالهم في الآخرة، وهو قوله تعالى: (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ). أي: ننبئنهم بخبر ما عملوا؛ لأن ذلك كان منهم تمنيًا وتشهيًا بمن يذيقهم العذاب الغليظ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) هو ما ذكرنا من دعائهم وسؤالهم الخير وطمعهم ذلك. وقوله: (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَنَأَى بِجَانِبِهِ) أي: تباعد عما أمر به، (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) أي: كثير الدعاء لا يمل ولا يسأم، وكذا قَالَ الْقُتَبِيُّ. * * * قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ

(52)

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... (52). يقول: إن كان هذا القرآن من عند اللَّه ثم كفرتم به، وجائز أن يكون على الابتداء ليس بجواب لقوله: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) ويكون كأن لم يذكر جواب (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ)؛ لما عرفوا أن من عاند وعادى ما كان من عند اللَّه أنه ما يعمل بهم وما يصنع؛ وهو كقوله تعالى: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، يُذْكر له جواب؛ لما عرفوا أن من تريدون عبدوا دون اللَّه بعد معرفتهم أنه إفك وأنه كذب وليس بإلهٍ، أن اللَّه ماذا يفعل بهم، فلم يُذْكر لهذا جواب؛ لمعرفتهم بما يُفعل بهم؛ فعلى ذلك قوله: (قُل أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) يجوز أنْ لم يذكر له جواب؛ لما عرفوا أنه ما يفعل بهم وما يستوجبون منه بما عاندوه وعادَوْه بعد معرفتهم أنه من عند اللَّه جاء ثم كفروا به، واللَّه أعلم. وإن كان موصولا فجوابه ما ذكر من قوله: (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)؛ فيكون كأنه يقول - واللَّه أعلم -: أرأيتم إن كان من عند اللَّه ثم كفرتم به، فإذا كفرتم ضللتم، فمن أضل ممن هو في شقاق بعيد؟! أي: في خلاف وبعد؛ فيكون جوابه كأنه قال: لا أحد أضل ممن عرف أنه من عند الله ثم خالفه وتباعد عنه، على ما ذكرنا في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي: لا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه كذبا؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا) أي نريهم عذابنا الذي نزل بالأمم المتقدمة في بلاد عاد وثمود وقوم لوط، كانوا يمرون عليها ويعرفون أنه لماذا نزل بهم ذلك وتكذيبهم الرسل وعنادهم، ونريهم عذابنا أيضًا في أنفسهم ببدر حيث قتل فراعنتهم يومئذ؛ (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)؛ يقول): إن القرآن هو الحق من اللَّه؛ لأن فيه الإخبار عن العذاب للذين كذبوا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ) هو ظهور مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على البلاد والقرى

(54)

النائية وفتحها عليه، (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أي: فتح مكة وظهوره عليهم، على ما وعد له ربه - جل وعلا - من النصر له وفتح البلاد والقرى. فيكون هذان التأويلان آية لرسالته ونبوته، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) آيات وحدانيته وألوهيته: أما في الآفاق فما جعل منافع البلاد النائية والقرى المتباعدة متصلة بمنافع أنفسهم ومنافع البلاد القريبة، ومنافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما؛ ليعلم أنه تدبير واحد وفعل فرد لا عدد، أو أن يكون آياته في الآفاق رفع السماء مع غلظها وكثافتها وسعتها بلا سبب ولا تعليق من أعلاها ولا عماد من أسفلها. وفي أنفسهم: ما حوَّلهم وقلَّبهم في الأرحام من حال النطفة إلى حال العلقة، ومن حال العلقة إلى حال المضغة، ثم من حال المضغة إلى حال الإنسان والتصوير والتركيب، إلى آخر ما ينتهي إليه أمره؛ ليعلم أنه صنع واحد وتدبير فرد لا تدبير لأحد سواه في ذلك. فهذان التأويلان في آية الألوهية والوحدانية، والأولان في إثبات الرسالة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). كأنه يقول: أولم يكف ربُّك شاهدًا أنه من عنده على ما تقول أنت، أو يقول: أولم يكف ربك ناصرًا ومعينًا، أو يكون قوله: (أَوَلَمْ يَكْفِ) أي: أولم يكفهم ما جاء من عند اللَّه من البينات والقرآن؛ كقوله: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ. . .) الآية؛ فعلى ذلك يحتمل هذا. ويحتمل: أولم يكفهم آية على رسالتك أو آية على وحدانية اللَّه تعالى ما جاء من عند اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) ألا إن شكهم ومريتهم في البعث هو الذي حملهم على تكذيب ما جاء من عند الله وإنكاره، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة (حم عسق)

سُورَةُ (حم عسق) مَكِّيَّة إلا آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم (1) عسق (2) قَالَ بَعْضُهُمْ: (حم) وهو اسم من أسماء اللَّه تعالى. وقيل: هو اسم من أسماء القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حم) أي: قضى ما هو كائن. وقد ضعف هذا القول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. والصحيح من الأقوال: أن " حم " خبر مبتدأ محذوف، و " تنزيل الكتاب " خبره (مِنَ اللَّهِ) صفة الكتاب، والتقدير: هذا حم تنزيل الكتاب من اللَّه العزيز الحكيم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في (حم. عسق): عين عبارة عن عذابه، والسين عن المسخ، والقاف كناية عن القذف، يقول صاحب هذا القول: يخرج عين من الأرض فيها عذاب، ويمسخ رجل من هذه الأمة بالبادية فيقذفه الناس بالحجارة، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ - وهو قول ابن عَبَّاسٍ -: (حم سق) على إسقاط حرف العين، ثم يقول: السين كل فرقة تكون، والقاف كل جماعة تكون. وذُكِرَ: كان يعلم علي بن أبي طالب - كرم اللَّه وجهه - حساب العين، وكذلك ذكر في ابن مسعود وأبي - رضي اللَّه عنهما - و (حم سق) على طرح العين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العين عبارة عن العذاب، والسين عبارة عن سيكون، والقاف عبارة عن الوقوع، أي: قضى ما سيكون ذلك، واللَّه أعلم. وذكر عن جعفر بن مُحَمَّد بن علي - رضي اللَّه عنهم - قال: العين عبارة عن العذاب، والسين عبارة عن سيكون، ولم يفسر القاف وقال: عجب أو كلام نحوه، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العين عبارة عن علمه، والسين السلام، والقاف عبارة عن القدرة، وكذا محتمل.

(4)

وجائز أن يكون كل حرف من هذه الحروف المقطعة عبارة عن صفة من صفاته أو اسم من أسمائه، على عادة العرب بالاكتفاء عن حرفٍ عبارة عن جميع الكلمة: فالحاء عبارة عن حلمه وحكمته وحكمه، والميم عبارة عن ملكه ومجده، والعين عبارة عن علمه، والسين عبارة عن سنائه وسؤدده، والقاف عبارة عن قدرته وقوته يكون كل حرف من هذه الحروف عبارة عن اسم من أسمائه أو صفة من صفاته، وعبارة عن حكم من أحكامه، وهذا الذي ذكرنا كله على الإمكان والاحتمال لا يسع أن يحقق فيه التفسير أنه كذا، وأنه أراد كذا؛ لأنه من المتشابه، وأنه من السر الذي لم يطلع اللَّه - تعالى - عليه أحدًا إلا رسله، عليهم الصلاة والسلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) أي: كما أوحى إليك فقد أوحى إلى الذين من قبلك مثله. ثم اختلف في قوله: (كَذَلِكَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: كما أوحينا إليك بسورة (حم. عسق) أوحينا بها إلى الذين من قبلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: كما أوحينا إليك بهذه الحروف، يعني: (حم. عسق) بعينها فقد أوحينا بعين هذه الحروف إلى الذين من قبلك، وهي (حم. عسق). وقَالَ بَعْضُهُمْ: كما أوحينا إليك (حم. عسق) أوحينا إلى الذين من قبلك من الرسل بمعنى ذلك. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ليس نبي إلا وقد أوحي إليه بـ (حم. عسق) كما أوحي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو على ما ذكرنا. وقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) يخرج ذكر هذا في هذا الموضع على وجوه: أي: له ما في السماوات وما في الأرض شهود على ألوهيته ووحدانيته. والثاني: أن ما في السماوات والأرض وما فيها له دلالات وحدانيته وربوبيته. والثالث: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، أي: كلهم عبيده وملكه؛ فلا يحتمل أن يتخذ من ملكه وعبيده ما ذكروا من: الولد، والشريك، والصاحبة، وما قالوا؛ إذ لا أحد يتخذ من عبيده ومن ملكه ما ذكروا: من الولد، والشريك، والصاحبة؛ فعلى ذلك يتعالى اللَّه عن أن يكون له في ملكه ما ذكر، واللَّه أعلم.

(5)

وقوله: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). العلوّ والعظمة -في الشاهد- يكون من وجوه ثلاثة: أحدها: العلو عبارة عن القهر والغلبة؛ يقال: فلان عالٍ؛ أي: غالب وقاهر. والعظمة عبارة عن القدر، والمنزلة، ونفاذ الأمر. والثاني: يكون العلو عبارة عن الكبرياء، والسؤدد، وكذلك العظمة. والثالث: العلو يكون عبارة عن الارتفاع في المكان، والعظمة: عظمة في البدن والنفس، وهذا مما لا يكون فيه كثرة منقبة وقدر، ولا شيء من ذلك، ولا يزيد ذلك في صاحبه رفعة ولا مرتبة، واللَّه يتعالى عن الوصف بهذا، فإنما رجع الوصف له بالعلوّ والعظمة إلى الوجهين الأوّلين، والسلطان، والقدرة، ونفاذ الأمر والمشيئة والكبرياء، والغلبة. فأمَّا ما رجع إلى الارتفاع في الأمكنة، والعظمة في البدن - فهو صفة المخلوق، وهم الموصوفون بذلك، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ... (5) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: تكاد يتفطرن لذنوب أهل الأرض، وفسادهم، وعظيم ما قالت الملاحدة في اللَّه من الولد، والشريك، والصاحبة، كادت تنشق لذلك وتتساقط، كقوله في آية أخرى: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا). بين في هذه الآية أنها كادت تنفطر وتنشق لماذا؛ وهو دعواهم للرحمن ولدا؛ فلذلك يحتمل - هاهنا - هذا المعنى، واللَّه أعلم. والثاني: كادت تنشق لبكاء أهلها عليها، وإشفاقًا ورحمة على أهل الأرض. ويحتمل: تكاد تنشق لعظمة الربّ، وجلاله، وعظم سلطانه؛ كقوله - تعالى -: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ). أخبر أنه لو جعل في الجبال والأرض والسماء من المعنى والتمييز ما جعل في البشر، لكانت هذه الأشياء بالوصف الذي ذكر من الخضوع لربّها، وهو كما ذكر في آية أخرى: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، يخبر عن شدّة خضوع هذه الأشياء وخشوعها لربها وتذللها له، وعناد الكفرة واستكبارهم، وقلة خضوعهم لربهم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون قوله - تعالى - (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ)؛ لكثرة أهلها وازدحامهم فيها، وعبادتهم لربهم، على ما ذكر في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أطت السماء

وحق لها أن تئط، ما من موضع قدم فيها إلا وملك فيها: ساجد، أو راكع، أو قائم، يسبح اللَّه - تعالى - ويصلي له "، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ). هذا يدل على أن ما ذكر من تفطر السماء؛ لعظم ما يقوله الملاحدة فيه من الشريك، والولد، والصاحبة، حيث قال على إثره: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، أي: الملائكة ينزهونه ويبرئونه عما يقولون فيه، ويثنون عليه بالثناء الذي يليق به، ويصفونه بما هو أهله، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) امتحنهم - جل وعلا - بالتسبيح، والثناء له، والاستغفار لأهل الأرض، على ما ذكر. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: إن قوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) منسوخ بقوله - تعالى -: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا)؛ لأن الأول عام لجميع أهل الأرض، والثاني خاص، لكن هذا بعيد، ومحال أن يستغفر الملائكة، ويطلبون التجاوز من ربهم لمن يقول له بالشريك والولد والصاحبة، وإذا كان كذلك كان استغفارهم يرجع إلى المؤمنين خاصة؛ على ما ذكر في آية أخرى: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، وبقوله: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ)؛ فكان المراد من العام: هو الخاص؛ لأنّ المراد منه العموم، ثم صار منسوخًا بورود الخاص متراخيًا، واللَّه أعلم. ثم إن كان استغفارهم لجملة أهل الأرض -على ما يقولون- فهو عبارة عن طلب السبب الذي به تقع لهم المغفرة؛ وهو التوبة عن الشرك والتوحيد؛ فيكون هذا سؤال التوحيد والهداية لهم؛ لتقع المغفرة لهم بذلك والتجاوز؛ ويصيروا لذلك، وعلى ذلك يخرج استغفار إبراهيم - عليه السلام - لأبيه أنه سؤال وطلب السبب الذي به تقع المغفرة له، وأن يجعله أهلا لذلك، وكذلك أمر الرسل - عليهم السلام - قومهم بالاستغفار لهم، وهو ما قال هود - عليه السلام - و (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)، وقول نوح: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، لا يحتمل أن يقولوا لهم: قولوا: نستغفر اللَّه، ولكن يقولون لهم: اطلبوا، واسألوا ربكم السبب الذي به تقع المغفرة لكم؛ وهو التوبة عما هم فيه، واختيار الهداية والرشد لأنفسهم؛ ليكونوا لذلك أهلا، فعلى ذلك يخرج استغفار الملائكة إن كان لجملة أهل الأرض، على ما يقول بعض أهل التأويل،

(6)

وعلى هذا لا حاجة إلى النسخ ولا يحتمله. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ). يحتمل قوله: (أَوْلِيَاءَ): الأصنام التي عبدوها دون اللَّه؛ كقوله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)، وقوله - تعالى - (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)، وقوله - تعالى -: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ). يخبر أنه لا عن غفلة وجهل منه يعملون ما يعملون، ولكنه حفيظ عليهم وعلى أعمالهم، لكنه يؤخر ذلك عنهم لحكمة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ). يحتمل وجهين: أحدهما: وما كنت عليهم بوكيل، أي: لا تؤاخذ أنت بمكانهم؛ كقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ). والثاني: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)، أي: بمسلط عليهم ولا حفيظ، إنما أنت رسول فعليك البلاغ، كقوله تعالى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)، وقوله: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ... (7)؛ ليكون أقرب إلى الفهم، وأولى أن يكون حجة عليهم وأبلغ في الحجاج؛ لأنه ذكر فيه الأنباء السالفة والأخبار المتقدمة باللسان العربي، غير لسان تلك الأنبياء، ومن غير أن يختلف إلى أحد من أهل ذلك اللسان؛

(8)

لتوهم التعلم منهم بلسانهم، والنقل بلسان نفسه؛ فدل أنه إنما عرف باللَّه تعالى، وقوله: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا). أي: لينذر أهل أم القرى وأهل من حولها من القرى. ثم يحتمل تسمية مكة: أم القرى وجوهًا ثلاثة: أحدها: سماها: أم القرى؛ لما منها دحيت سائر الأرضين والقرى. والثاني: سماها: أم القرى؛ لأنها أول بيت وضع للناس، وأول بناء بني في الأرض، فسماها لذلك: أمّ القرى، واللَّه أعلم. والثالث: سماها: أم القرى؛ لما على الناس أن يؤموها ويقصدوها بالزيارة، ولأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أول ما بعث رسولا فيها، فإليها يؤم ويقصد بالدعوة أول ما يؤم ويقصد، ثم من بعد ذلك يؤم إلى سائر القرى والبلدان، ويقصد، والأَمُّ: القصد، ومنه أخذ التيمم؛ ولذلك سمّاها: أمّ القرى، واللَّه أعلم. وقوله: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ)، أي: وينذر بيوم الجمع. ويحتمل أن يكون قوله: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ)، أي: ينذر بالقرآن يوم الجمع لا ريب فيه. وقوله: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) قد بين اللَّه - تعالى - السبيلين جميعًا على الإبلاغ، وبين عاقبة كل سبيل إلى ماذا يفضي من سلكها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) يخبر أن عنده من اللطائف والقدرة، ما لو شاء لجعلهم جميعًا أمة واحدة وعلى دين واحد، وهو ما قال: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ. . .) الآية، فلو جعل ذلك لأهل التوحيد والإيمان، لكانوا جميعًا على دين الإسلام؛ على ما أخبر أنه لو كان ذلك مع أهل الكفر لكانوا جميعًا أهل كفر. ثم قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) لا يحتمل مشيئة الجبر والقسر على ما يقوله المعتزلة لوجوه: أحدها: لما لا يكون الإيمان في حال الجبر والقهر؛ لأنه لا صنع لهم في ذلك، ولا اختيار لهم. والثاني: أنّ كل أحد بشهادة الخلقة مؤمن موحد لله - تعالى - ثم لم يصيروا بذلك مؤمنين؛ فعلى ذلك بالجبر والقهر؛ إذ في الحالين يكون فعل المؤمن إنما هو فعل غيره؛ فدل أنه أراد أن يشاء منهم ما يكون مختارين في الإيمان لا مجبورين.

والثالث: أن الإيمان بالجبر والقهر مِمَّا لا يعرفه الناس، ولا يطلق اسم الإيمان عليه في العرف، وقد وعدهم الإيمان، وجعل الدِّين واحدا، وهذا عند المتعارف ينصرف إلى ما يوجد منهم عن طوع واختيار، لا بالجبر والقهر؛ فتكون الآية منصرفة إلى المعهود عند الناس؛ على ما هو الأصل في الكلام، واللَّه الموفق. وعندنا: أراد به مشيئة الاختيار، وأخبر أن عنده من اللطائف ما لو أعطى الكل لآمنوا جميعًا عن اختيار، لكنه لم يعطهم ذلك ولم يشأ؛ لما علم منهم أنهم لا يرغبون فيه، ولا يختارون ذلك، ولكن إنّما يختارون ضد ذلك ونقيضه؛ لذلك لم يشأ لهم، وإنَّمَا يشاء لمن علم أنه يختار ذلك فضلا. وقوله: (وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) يخبر أن من أعطى ذلك إنما يعطيه رحمة منه وفضلا، لا أنهم يستوجبون ذلك منه، ويستحقونه عليه، واللَّه الموفق. ثم إن اللَّه تعالى سمى الإيمان مرة: رحمة بقوله: (وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ)، ومرة سماه: منة بقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)، وبقوله: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ. . .) الآية، فلو كان الإيمان يقوم بالذي يكون الكفر من القدرة ولم يكن من اللَّه - تعالى - إلى المؤمنين إلا وقد كان مثله إلى الكافر، على ما يقوله المعتزلة: إن الإيمان إنما يكون بالذي يكون الكفر، لم يكن لتسمية هذا نعمة ومنَّة ورحمة، وتسمية الكفر ضده - معنى، واللَّه أعلم. وبعد: فإنه لو كان على ما يقوله المعتزلة لكان ما ذكر من النعمة والمنَّة والرحمة إنما يكون بالخلق منهم، لا باللَّه - تعالى - ومنه دل أن عنده لطائف، من أعطى تلك اللطائف آمن واهتدى، ومن لم يعطه إيَّاها لم يؤمن، وقد أعطى المؤمن تلك، ولم يعط الكافر؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللَّه الموفق. ثم في تخصيص أم القرى ومن حولها بالنذارة وجوه، لأنه ذكر في آية أخرى أنه نذير للعالمين جميعًا بقوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، فإذا كان مبعوثًا إلى جميع العالم، لا إلى بعض دون بعض، كما كان بعض الأنبياء - عليهم السلام - فلا بد أن يكون لتخصيص أم القرى ومن حولها معنى وحكمة: أحدها: لما يحتمل أن يكون لأهل مكة طمع في شفاعته وإن لم يتبعوه: إما بحق القرابة والاتصال، وإما بحق الأيادي، ومن حولهم بحق الجوار؛ فذكر تخصيصهم بالإنذار بيوم الجمع حتى يزول طمعهم بدون الاتباع، والنزوع عن الشرك؛ إذ ذلك لا يزول بمطلق الإنذار؛ لما عندهم -في زعمهم- أن المراد بذلك غيرهم؛ لما لهم من

(9)

زيادة سبب الوسيلة معه. والثاني: أن ينذر هَؤُلَاءِ ومن ذكر شفاهًا، ولمن بعد منهم خبرًا. أو خصّ هَؤُلَاءِ بحق البداية ثم بالأقرب فالأقرب، وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى -: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، على الوجوه التي ذكرنا. وقوله - سبحانه وتعالى -: (وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)، أي: ما لهم من وليّ يشفع، ولا من نصير ينصرهم، ويمنعهم من عذاب اللَّه. وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ... (9) أي: أربابًا، (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ)، أي: هو الربّ، (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى) وقد عرفوا أنَّ الإحياء إنما يكون باللَّه - تعالى - لا بالأصنام التي عبدوها، وإن كانوا ينكرون البعث والإحياء بعد الموت، فلو عرفوا أنه لو كان إنما يكون باللَّه - تعالى - لا بالأصنام التي عبدوا دونه، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ظاهر، قد تقدم ذكره. وقوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) يحتمل قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ) وجوهًا: أحدها: في القرآن. والثاني: في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه رسول أو ليس برسول، فقد أقام من الدلائل والبراهين ما يدل على رسالته ونبوته: سمعيات وعقليات، ما لا يتعرض لردّها إلا من كابر عقله وعاند لبّه، وكذلك لو كان اختلافهم في الدِّين فقد أقام ما يعلم كل ذي عقل ولب: أنه هو الصواب، وأن غيره من الأديان ليس بحق. وقال بعض أهل التأويل في قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) أي: إلى كتاب اللَّه، كقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، أي: إلى كتاب اللَّه. لكن هذا لا يصح، فإن قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، إنما هو في المؤمنين إذا وقع بينهم الاختلاف في شيء من الأحكام يردّ ذلك إلى كتاب اللَّه، وإلى سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وأمّا قوله - تعالى -: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) إنما هو في محاجة الكفرة، فهو في غير ذلك المعنى؛ إذ هم لا يعتقدون كونه حجة، وإنما يرجع إلى دليل آخر عقلي. وقوله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي)، أي: ذلك الذي يفعل هذا هو ربي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، في كل أمري، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) بالطاعة.

(11)

ويحتمل أن يكون اختلافهم الذي ذكر هو اختلافهم في اللَّه - تعالى - كقوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ). وقوله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي)، أي: ذلكم الذي اختلفتم فيه هو ربي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، أي: عليه اعتمدت، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)، أي: إليه أرجع. ثم نعته فقال: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (11) وقال هو في موضع آخر: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وفي موضع آخر: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، وقال في موضع آخر: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). قال بعض الباطنية: المبدع: هو الذي ينشئ الأشياء لا من شيء، والخالق: هو الذي ينشئ الشيء من شيء ولا من شيء، والفاطر: هو الذي ينشئ من شيء أو نحوه من الكلام. وعندنا أن هذه الأسماء وإن اختلفت ألفاظها وافترق اشتقاقها ومأخذها، فهي في المعاني واحدة، الإبداع هو الإنشاء بلا احتذاء سبق، والخلق هو الإنشاء والتقدير، لكن غيره لا يجوز أن يسمى: خالقًا؛ لأنه لا يقدر على تقدير شيء إلا على مشاهدة: عاينه ورآه، والفاطر كأنه مأخوذ من الشق، يشق الشيء ويخرج منه أشياء، كله خلق، وفاعله خالق على الحقيقة، وهو اللَّه تعالى، وباللَّه القوة والتوفيق. وقوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) أي: جعل من نفس آدم وحواء - عليهما السلام - أزواجًا نسبنا جميعًا إليهما؛ لأنهما الأصل، وإنا جميعًا إنما كنا من ذلك الأصل، وهو كنسبته إيانا إلى التراب بقوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، وإنما خلق أصلنا من التراب، لكنه نسبنا إليه؛ لما منه كنا جميعًا؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) أي: من نفس آدم وحوّاء، ونسبنا إليهما؛ لما منهما كنا جميعًا، واللَّه أعلم. والثاني: يقول: جعل بعضكم من بعض أزواجًا أي: حلائل، أي: خلق الإناث من الرجال، والرجال من الإناث، وهو ما ذكر في آية أخرى: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا. . .) الآية. والثالث: أي: جعل لكم من مثل خلقكم أزواجا؛ أي: أصنافًا وأشكالا، جعل الخلائق كلها ذات أشكال وأمثال، وذات أزواج، وكذلك يخرج قوله: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا) على وجهين: أحدهما: يقول - واللَّه أعلم -: إنه جعل الأنعام - أيضًا - ذات أزواج وأشكال.

والثاني: جعل منها الذكور والإناث - أيضًا - كما جعل من البشر. وقوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) اختلف في تأويل قوله: (يَذْرَؤُكُمْ)، والمراد بقوله: (فِيهِ): أن الهاء كناية عن ماذا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: (يَذْرَؤُكُمْ) أي: يكثركم. وقيل: يعيشكم فيه. وقيل: يرزقكم فيه، ويعمركم. وقيل: يخلقكم. وأما قوله: (فِيهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: يجيء قوله: (فِيهِ)، أي: فيها، كناية عن الأنعام، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهَا) أي: في الأنعام؛ لما جعل للبشر فيها من أنواع المنافع. وأما من قرأه (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) بغير ألف فهو يجعله كناية عن العالم؛ كأنه يقول: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي: يخلقكم في العالم ويكثركم فيه ويعيشكم ويعمركم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَذْرَؤُكُمْ) أي: يكثركم في هذا التزويج الذي جعل بينكم؛ أي: يكثركم بسبب هذا التزويج لم يكثر الناس. وجائز أن يكون قوله: (فِيهِ) كناية عن التدبير؛ يقول: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ): يخلقكم فيه نسلا بعد نسل؛ كقوله - تعالى - (ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ)، وهو قول الْقُتَبِيّ وأبي عَوْسَجَةَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. . .) الآية. يستدل بعض أهل التشبيه بأن له مثلا بقوله - تعالى - (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) يقولون: لو لم يكن مثل لم يذكركاف التشبيه؛ حيث قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، لكن نفى مثلية الأشياء عن مثله؛ فيكون فيه إثبات مثل له لا يشبه سائر الأشياء سواه؛ أو كلام نحو هذا. وعندنا: قوله - تعالى - (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي: ليس مثله شيء، والكاف قد تزاد في الكلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ليس كهو شيء، والعرب قد تقيم المثل مقام النفس.

(12)

وأصله: أن الخلق ذو أعداد، وكل ذي عدد له أشكال وأمثال من حيث العدد. والأصل في ذلك: أن الخلق وإن كانوا ذا أمثال وأشكال وأشباه، فليس يشبه بعضهم بعضًا من جميع الوجوه وكل الجهات، ولكن إنما يشبه بعضهم بعضا لا من جميع الوجوه، أو بوجه أو بصفة، أو بجهة أو بنفس، ثم صار بعضهم أمثالا لبعض وأشباهًا بتلك الجهة وبذلك الوصف؛ فدل أن اللَّه - تعالى - ليس يشبه الخلق، ولا له مثال منهم بوجه من الوجوه، ولا له شبه منهم، لا ما يرجع إلى النفس، وهو يتعالى عن جميع معاني الخلق وصفاتهم، ودل قوله - تعالى -: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ): أنه شيء؛ لأنه نفى عن نفسه المثلية ولم ينف الشيئية، لكن يقال: شيء لا كالأشياء ينفى عنه شبه الأشياء، والشيء إثبات، وفي الإثبات توحيد، ولو لم يكن شيئًا لكان يقول: ليس هو شيئًا؛ دل أنه ما ذكر. وقوله - سبحانه -: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ذكر في غير موضع، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (12) وقال في آية أخرى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)، وقوله: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقوله: (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)، ونحو ذلك من الآيات التي فيها ذكر المفاتيح والمقاليد والخزائن التي أضافها إلى نفسه، ثم لم يفهم الخلق من المفاتيح المضافة والمقاليد والخزائن ما يفهم لو أضيف إلى الخلق؛ بل فهموا من المفاتيح المضافة إلى الخلق والمقاليد المنسوبة إليهم معنى لم يفهموا ذلك المعنى من المفاتيح والمقاليد المضافة إلى اللَّه - تعالى - فما ينبغي أن يفهموه من قوله: (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ)، وقوله - تعالى - (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، وقوله: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ)، ونحو ذلك ما يفهموه من اليد المضافة إلى الخلق، لكنه ذكر المفاتيح والمقاليد وأضافها إلى نفسه، لأن كل محجوب ومستور عن الخلق فيما بينهم إنما توصلهم إلى ذلك المحجوب والمستور عنهم بالمفاتيح والمقاليد التي ذكر؛ فعلى ذلك ما أضاف إلى نفسه من اليد وغيرها؛ لما باليد يبسط في الشاهد، وبها يمنع، وبها يكتسب ويفعل ما يفعل؛ فأضاف إلى نفسه ما به يكون في الشاهد من الفعل والبسط والمنع كناية عن هذه الأفعال، واللَّه الموفق. وقوله: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) فيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأن الرزق المذكور يحتمل وجوهًا: أحدها: ما ذكر في قوله - تعالى -: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)،

(13)

وهو المطر. والثاني: الأملاك التي يكتسبون. والثالث: المنافع التي جعل لهم. ثم الإشكال أن الأملاك التي تكون لهم، والمنافع التي ينتفعون بها وجعلت لهم إنما تكون بأسباب واكتساب منهم، ثم أضاف ذلك إلى نفسه في البسط والتقتير؛ حيث قال (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)؛ دل أن لله - تعالى - في ذلك صنعًا وتدبيرًا، وهو أَنْ خلق أكسابهم وأسبابهم التي بها يوصل إليهم الرزق. وقوله: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تقدم. * * * قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) وقوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) الدِّين يذكر، ويراد به الجزاء، وهو قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، أي: يوم الجزاء، أو يذكر ويراد به الحكم؛ كقوله - تعالى - خبرًا عن يوسف - عليه السلام -: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)، أي: في حكم الملك، ويذكر ويراد به المذهب والمعتقد؛ كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وقوله - تعالى -: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)، فكأن المعنى من قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا): هو المذهب وما يعتقد، وقد ذكر الدِّين معرفًا بالألف واللام وأنه للجنس، فيكون كأنه قال: شرع لكم من الأديان جملة الدِّين الذي وصى به نوحًا ومن ذكر من الأنبياء، وهو التوحيد لله - تعالى - والعبادة له، والأنبياء والرسل جميعًا إنما بعثوا للدعاء إلى توحيد اللَّه، وجعل العبادة له، وإن اختلفت شرائعهم وأحكامهم، وذلك قوله: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا).

ومن الناس من يقول: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) أي: شرع لكم الدِّين، ويجعل (مِن) صلة زائدة فيه؛ أي: شرع لكم الدِّين الذي وصى به نوحًا ومن ذكر، والوجه فيه ما ذكرنا. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى تخصيص نوح ومن ذكر من الأنبياء هنا، والكل بعثوا للدعاء إلى هذا الدِّين، وقد وصى الكل بهذا الدِّين. فنقول: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما خص نوحًا ومن ذكر بهذا؛ لأن التحليل والتحريم لم يكن قبل زمن نوح عليه السلام، وإنما جاء ذلك في زمن نوح؛ لذلك خصَّ نوحًا بما ذكر. ويحتمل أن يكون ذكر هَؤُلَاءِ لا على تخصيصهم بذلك من بين غيرهم من الأنبياء، ولكن ذكر بعضًا هاهنا، وترك ذكر البعض، ليس أنه شرع له ما وصى به نوحًا ومن ذكر من الأنبياء ولم يشرع له ما وصى به غيرهم؛ بل شرع له ما وصى به هَؤُلَاءِ وغيرهم من الدِّين، كقوله - تعالى -: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، ذكر بعض هَؤُلَاءِ وغيرهم، ثم أمره أن يقتدي بما هم عليه؛ دل أن ذكر البعض في موضع ليس للتخصيص، لما ذكر البعض في موضع آخر، والكل في موضع آخر، واللَّه أعلم. ويحتمل تخصيص هَؤُلَاءِ بالذكر لمعنى لم يطلعنا اللَّه على ذلك المعنى، كما خص إبراهيم بالصلاة عليه على ما أمرنا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لقوله: " كما صليت على إبراهيم " لمعنى لم يطلعنا على ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) يحتمل وجهين: أحدهما: (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، أي: في عبادة اللَّه - تعالى - أي: اعبدوه جميعًا. والثاني: (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي: في الدِّين الذي ذكر، وهو التوحيد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي: عظم عليهم دعاؤكم إلى التوحيد وعبادة اللَّه وحده. وقوله: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) هذا ينقض على المعتزلة: إنه - تعالى - أخبر أنه يجتبي إليه من يشاء، ولو كان على ما يقوله المعتزلة أنه قد أعطى الكافر جميع ما أعطى المؤمن، فالمؤمن حيث صار مجتبى مصطفى مختارًا إنما كان منه بفعله لا من اللَّه - تعالى - وقد أخبر أنه هو يجتبي من يشاء، وهو يهديه؛ فبطل قولهم. وقوله: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي: هو يهدي من يطلب منه ما به يكون الهدى، وهو التوفيق؛ أي: ما لم يطلب منه ذلك ولم يسأل فإنه لا يهدي به ولا يوفقه.

(14)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) تفسير قوله - تعالى -: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: يجتبي للهداية من ينيب إليه، فأمَّا من لم ينب إليه فلا يجتبيه للهداية، لكن المراد من الهداية - هاهنا - ليس هدى البيان؛ لأن هدى البيان قد كان عامًّا لمن أناب إليه ومن لم ينب، ولكن الهدى - هاهنا - هدى الرحمة، أو هدى النعمة، والنعمة سميّ التوحيد والإيمان مرة: رحمة؛ كقوله - تعالى -: (وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ)، وسمّاه: نعمة؛ كقوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، وسمَّاه: منَّة؛ كقوله - تعالى -: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ)، وسماه: نورًا؛ كقوله تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)؛ فلذلك قلنا: إن الهدى المذكور - هاهنا - ليس هو هدى البيان، ولكن سواه، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) هذا يخرج على وجوه: أحدها: أي: أنهم تفرقوا في رسول اللَّه مُحَمَّد - عليه أفضل الصلاة - بعدما جاءهم العلم في كتبهم أنه رسول؛ لما كانوا يجحدون نعته وصفته في كتبهم، لكنهم اختلفوا وتفرقوا؛ فآمن بعضهم به على ما وجدوه في كتبهم، وكفر بعضهم، وحرفوا ما في كتبهم من نعته وصفته، واللَّه أعلم. والثاني: أي: (وَمَا تَفَرَّقُوا) فيما جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الدِّين (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ)؛ إذ الذي جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو الذي وصى به نوحًا ومن ذكر من الأنبياء عليهم السلام. ويحتمل أي: (وَمَا تَفَرَّقُوا) في الإيمان بالرسل والكفر بهم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) أنهم على الحق، وأنهم رسل اللَّه مبعوثون إليهم، فتفرقوا، فآمنوا بالبعض، وكفروا بالبعض بغيًا بينهم. ويحتمل: أي: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ): أن الفرقة ضلالة وهلاك، وعن علم بالفرقة أنها ضلال وهلاك تفرقوا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) يحتمل: حسدًا بينهم؛ لما قيل: إنهم كانوا مؤمنين به قبل أن يبعث؛ لما وجدوا نعته وصفته في كتبهم ظنًا منهم أنه يبعث منهم، فلما بعث من غيرهم حسدوه وكفروا به واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي: عدوانًا وظلمًا يكون فيما بينهم ذلك التفرق. وقوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي: لولا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب عنهم إلى وقت وإلا كانت الكلمة منه في تعجيل العذاب بهم،

(15)

واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: إن الذين أعطوا الكتاب من بعد الرسل الذين ذكر (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)، أخبر أنهم كانوا في شك مما جاء به الرسل، لكنهم لم يعذروا في شكهم؛ لما تركوا النظر والتفكر في ذلك، ولو نظروا في ذلك وتفكروا فيه، لوقع ذلك لهم وبانَ الحق؛ فلم يعذروا في ذلك؛ لأنه منهم كان ذلك الشك والريب، ولو تفكروا ونظروا لتجلى لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) اختلف في قوله - تعالى - (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ): عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أي: فبهذا القرآن الذي أنزل إليك فادع. وكذا قال قتادة: فبهذا القرآن فادعُ. وقيل: فلذلك وعد أن ينزل عليك فادع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: وإلى ذلك الكتاب فادعُ. وقيل: فإلى التوحيد الذي بعث الرسل إلى الدعاء إليه فادع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلِذَلِكَ)، أي: فلأجل الذي بعث الرسل فادع؛ أي: ادع إلى التوحيد الذي لأجله بعث الرسل، واللَّه أعلم. ثم إن قوله: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ دليل على أنه كان قد سبق له الأمر بالاستقامة. ثم يحتمل ما ذكر من الاستقامة التي أمر بها هو تبليغ الرسالة إليهم. ويحتمل: العبادة له والطاعة. ويحتمل: الاستقامة في التوحيد له ودعاء الخلق إليه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَن تَابَ مَعَكَ)، على هذين الوجهين الآخرين يخرج الأمر بالاستقامة لمن تاب معه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) أي: في ترك الدعاء إلى التوحيد؛ إذ هو هوى الكفرة أن يترك هو الدعاء إلى التوحيد. ويحتمل أنه نهى عن إجابته إياهم فيما دعَوْا هم؛ إذ هوى الكفرة أن يجيبهم فيما دعَوْا هم إليه من الشرك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ) أمره بأن يخبر بأنه مؤمن بجميع الكتب

(16)

التي أنزل اللَّه؛ ليوافقوه في الإيمان بجميع الكتب، وأُولَئِكَ الكفرة كانوا يؤمنون ببعض الكتب، ويكفرون ببعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) ويحتمل وجوهًا: أحدها: أي: أمرت لأعدل بينكم يحتمل: في الحكم؛ أي: أحكم فيما بينكم بالعدل؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا). ويحتمل قوله: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) في الدعاء إلى توحيد اللَّه ودينه، والعدل في الدعاء، دعاؤهم إلى دينه الذي أمر أن يدعوهم إليه. وجائز أن يكون قوله: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي: أمرت أن أكون عدلا فيما بينكم؛ أي: يسوي بينهم. ثم نعت الذي كان يدعوهم إلى توحيده، وهو قوله: (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ). وقوله: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على المنابذة؛ كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وإنَّمَا يقال هذا بعدما انتهت الحجج غايتها، والحجاج نهايته، فلم ينجع ذلك فيهم وأيسوا منهم. والثاني: يقول: إنا لا نؤاخذ بأعمالكم، ولا أنتم تؤاخذون بأعمالنا، (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)، ونحوه. وقوله: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) ويحتمل قوله: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) أي: لا حجة بقيت فيما ادعيت ودعوتكم إليه إلا وقد أقمتها عليكم؛ أي: لم يبق حجة في ذلك وقد أقمتها. ويحتمل أن يقول: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا أي: لا حجة ولا خصومة بيننا بعدما بلغ الأمر ما بلغ. ثم قال: (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا) في الآخرة وإليه المصير. وقوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن أهل الكفر قالوا للمؤمنين: إن دينكم الإسلام إنما كان ما دام مُحَمَّد بين أظهركم وما دام حيَّا، فإذا مات فتصيرون أنتم ومن تبع الإسلام إلى ديننا أو كلام نحوه؛ فنزل لقولهم ذا قوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن اليهود قدموا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا للمؤمنين: إن ديننا أفضل؛ فنزلت الآية فيهم بقولهم هذا: إن ديننا أفضل - لأنه دين الأنبياء - عليهم السلام - فقال: (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) أي: هكذا إذا كانوا على دين الأنبياء، وهو الإسلام؛

(17)

فأما إذا تركوا دين الإسلام وتمسكوا باليهودية واختاروها فليس بأفضل، ولا شيء دونها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن قريشًا قالوا: كيف نعبد من لم نره؟ ولم نعاينه إنه مم هو؟ وكيف هو؟ أو كلام نحوه فنزلت: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) عند ربهم؛ لأن التوحيد ومعرفة اللَّه تعالى إنما يكون بالدلائل والآيات في الدنيا عن غيب، ليس بالمعاينة والمشاهدة؛ فيزول الامتحان. ثم احتمل أن يكون نزول الآية لقول كان من أُولَئِكَ على ما ذكر أهل التأويل. ويحتمل أن يكون على غير ذلك، ومعناه: والذين يحاجون في اللَّه في دفع آيات الله وردها. ويحتمل: أي: في دفع توحيد اللَّه وألوهيته (مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) أي: من بعد ما استجيب له بحق الخلقة: أنه واحد، وأنه رب كل شيء. ويحتمل قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) بما في كتبهم من الإيمان بها وبما فيها من نعوت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفاته. ثم أخبر أن (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) هذا يخرج على هذين. يحتمل: أي: (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) يوم القيامة؛ أي: باطلة غير مقبولة. ويحتمل: أي: (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) في الدنيا بما أقام اللَّه - تعالى - من حجج التوحيد؛ فأبطل حججهم. وقوله: (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) بيان الجزاء لهم في الآخرة. * * * قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) وقوله: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) يحتمل قوله: (بِالْحَقِّ): الذي لله عليهم، أو (بِالْحَقِّ) الذي لبعضهم على بعض، و (وَالْمِيزَانَ): بالعدل فيما بينهم؛ أي:

(18)

بالعدل فيما بينهم، أعني: الخلق. وجائز أن يكون قوله: (بِالْحَقِّ) أي: بالصدق بما فيه من الأنباء والأخبار (وَالْمِيزَانَ) أي: بالعدل في الأحكام؛ جعل الميزان كناية عن العدل؛ أي: هو طريق العدل وسببه، وهو كقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، وقوله - تعالى -: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)، وقوله - تعالى -: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا)، وقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) أي: صدقا فيما فيه من النبأ والخبر، وعدلا في الحكم فيما بينهم، واللَّه أعلم. ثم قوله - تعالى - (وَالْمِيزَانَ) يحتمل أن يكون على الكتاب، وهو الظاهر، والمراد منه العدل؛ فيصير تقدير الآية - واللَّه أعلم -: اللَّه الذي أنزل الكتاب بالحق، وأنزل العدل فيما بين الخلق، أو أنزل العدل في الأحكام. ويحتمل أن يكون عطفًا على الحق؛ فيصير تقديره: أنزل الكتاب بالحق وبالعدل في الأحكام فيما بينهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)]، لم يطلع اللَّه - جل وعلا - أحدًا على العلم بوقت الساعة؛ على ما ذكرنا في غير موضع. وقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ... (18) كان استعجالهم بها استهزاء منهم وتكذيبًا لها أنها كائنة؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يوعدهم بها، ويخبر أنها كائنة، فكانوا يستعجلون استعجال تكذيب لها. وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ)؛ لأن لأهل الإيمان والتوحيد زلات ومساوئ لم يتبين لهم التجاوز عنها والعفو منها؛ فيكونوا أبدًا خائفين مشفقين لتلك الزلات والمساوئ وما يكون فيها من الأهوال والأفزاع، فأمَّا أهل الكفر فهم لا يؤمنون بها، ولا يصدقون أنها كائنة؛ فلا يخافونها وما فيها من الأهوال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ): قوله: (يُمَارُونَ) يحتمل يجادلون ويخاصمون فيها أنها ليست بكائنة. ويحتمل: (يُمَارُونَ) من المرية، وهو الريب والشك؛ أي: يشكون فيها. ودل قوله: (لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ): أنهم لا يؤمنون أبدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) من الناس من قال: إن الآية وإن جاءت مجيئًا عامًّا فهي خاصة للمؤمنين، هو لطيف؛ أي: بار للمؤمنين بها. ومنهم من يقول: إن الآية للفريقين جميعًا: للكافر والمؤمن، بار بهما، لطيف بهما بما يرزقهم جميعًا: الكافر والمؤمن، فأما في الآخرة فهو رحيم بار بالمؤمنين خاصة.

(20)

ويحتمل أن يكون رحيمًا بارًّا بالفريقين، أما في حق المؤمنين لا شك أنه بار رحيم بهم، وأما الكفرة: بار في حقهم، حيث أخر عنهم العذاب في الدنيا. ثم في حق المحنة يجوز أن يوصف بالرحمة في الفريقين جميعًا على ما ذكرنا. فَإِنْ قِيلَ: إنه وصف بالحلم والرحمة، وقد أخبر أنه يعذبهم في الآخرة. قيل: إنه وإن عذبهم فإن ذلك لا يخرجه عن الحلم والرحمة؛ لأنه لو ترك تعذيبهم يكون سفيهًا؛ لأنهم قد استحقوا بالكفر التعذيب أبدًا، وليس في التعذيب خروج عن الرحمة والحلم؛ بل في ترك التعذيب سفه وخروج عن الحكمة؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) قد ذكرنا في قوله - تعالى -: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ)، تأويله ومعناه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أنه لا يقوى بشيء مما أمرهم به وامتحنهم، ولا يعز بذلك؛ لأنه قوي بذاته، عزيز بنفسه. والثاني: (الْقَوِيُّ) في الانتقام والانتصار من أعدائه لأوليائه، (الْعَزِيزُ): الذي لا يعجزه شيء، ولا يلحقه الذل في ترك الطاعة له والائتمار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) جعل اللَّه - تعالى - الدنيا مزارع لأهلها ما زرعوا فيها حصدوا ذلك في الآخرة، إن زرعوا خيرًا حسنًا حصدوا خيرًا ونعيمًا في الآخرة، وإن زرعوا شرًّا وسوءًا، حصدوا في الآخرة شرًّا وعذابًا دائمًا. وكذلك صيّرها متجرًا يتجّرون فيها، فإن اتجروا خيرًا وحسنًا ربحوا في الآخرة، وإن اتجروا شرًّا وسوءًا خسروا في الآخرة. وكذلك صيرها مسلكًا إلى الآخرة، والآخرة غاية لها، فإن سلكوا سبيل الخير وما أمروا به أفضى بهم ذلك إلى الخير والنعيم الدائم والسرور، وإن سلكوا سبيل الشر وما نهوا عنه أفضى بهم إلى العذاب الدائم والحزن الدائم. وما ذكر في غير آي من القرآن من قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. . .) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ. . .) الآية، وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى. . .) الآية، وقوله: (اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ)، وقوله -

(21)

تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ. . .) الآية، ونحو ذلك كثير؛ على هذا بني أمر الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم. ثم قوله - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) يخرج على وجهين: أحدهما: أي: من كان يريد حرث الآخرة، نزد له في حرثه، أي: من كان يريد بمحاسنه في الدنيا وخيراته ثواب الآخرة وخيراتها نزد له في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا هو التوفيق على الطاعات، والزيادة له والنماء، وأما في الآخرة فالنعيم الدائم والسرور الدائم. والثاني: أي: من كان عَمِل للآخرة وسعي لها نزد له ما ذكر من المحاسن، وتكون الإرادة هاهنا صفة لكل فاعل، كقوله: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، وهي لا تكون بدون الفعل، فكان ذكرها ذكرًا للفعل ضرورة؛ فكان المراد منها الإرادة مع الفعل، فكذلك يخرج قوله: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) على وجهين: أحدهما: من كان يريد محاسن الدنيا وسعتها، نؤته منها، ونوسع عليه. والثاني: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ) أي: من عمل للدنيا وسعى لها، نؤته منها وما عمل لها وما له في الآخرة من نصيب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) قال بعض أهل التأويل: أم لهم آلهة دوني (شَرَعُوا لَهُم) أي: سنوا لهم (مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، يعني بالشركاء: الأصنام التي عبدوها، لكن علموا أن الأصنام لم يشرعوا لهم من الدِّين شيئًا، إلا أن يقال بأنه أضاف ذلك إلى الأصنام؛ لما هم شرعوا لأنفسهم عبادتها فأضيف إليها لذلك، وهو كقوله - تعالى -: (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ)، وأنهن لم يضللن أحدًا، لكنه أضاف إليهن الإضلال؛ لما بهن ضلوا، فأضاف إليهن على التسبب؛ فعلى ذلك الأول يحتمل ذلك. ويشبه أن يكون غيره أولى بذلك، وهو أن القادة والرؤساء هم الذين سنوا للأتباع و (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)؛ أي: ما لم يأمر به اللَّه، وهم كذلك كانوا يفعلون، يشرعون للأتباع دينا من ذات أنفسهم بلا حجة ولا برهان، فيتبعون به، والرسل - عليهم السلام - قد أتوهم بالدِّين بالحجج والبراهين من اللَّه - تعالى - فلم يتبعوهم، فيقولون: إنهم بشر، ثم يتبعون بشرًا بلا حجة ولا برهان؛ يذكر سفههم فيما ذكر، فكان

(22)

المراد من الشركاء هم الرؤساء والقادة، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) أي: عمل الآخرة، يقال: فلان يحرث للدنيا؛ أي: يعمل لها، ويجمع المال، ومنه قول ابن عمر - رضي اللَّه عنه -: " احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا "، ومنه سمي الرجل: حارثًا. (شَرَعُوا لَهُم) أي: ابتدعوا وسنوا، وكذلك في قوله: (شَرَعَ لَكُم)، أي: ابتدع وسن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يحتمل وجهين: أحدهما: الحكم؛ كأنه يقول: لولا أن اللَّه - تعالى - حكم في هذه الآية بتأخير العذاب إلى يوم القيامة، وهو ما ذكر أنه بعث رسوله - يختَ رحمة لهم بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ). والثاني: (الْفَصْلِ): البيان تأويله: لولا ما وعد في الدنيا أنه يفصل بينهم في الآخرة فيما ذكر: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ)، ونحوه، وقيل: (وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي: القضاء السابق: أن الجزاء يوم القيامة - لقضي بينهم في الدِّين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذكر إشفاق الكفرة والظلمة وخوفهم في الآخرة، وإشفاق المؤمنين وخوفهم في الدنيا، فمن خاف عقوبته في الدنيا آمنه اللَّه - تعالى - عن خوف الآخرة، ومن استهزأ بعذاب اللَّه في الدنيا خوفه اللَّه في الآخرة، وعلى ذلك يخرج قوله - عليه السلام -: " لا يجمع اللَّه على أحد خوفين: خوف الدنيا وخوف الآخرة: من خافه في الدنيا أمن في الآخرة، ومن لم يخف في الدنيا خاف في الآخرة ". ثم أخبر ما للمؤمنين في الآخرة، وهو قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، ذكر ما لكل فريق بما كسبوا في الدنيا والآخرة. قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: الروضة: البستان. وقال الكسائي: الروضة: العشب حول القَرِيِّ.

(23)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أخبر أن ما يعطى لهم من الآخرة والفضل منه، لا أنهم يستوجبون ذلك، وسماه: كبيرًا؛ لأنه دائم لا ينقطع أبدًا. وقوله: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) قوله: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّه) أي: الذي ذكر من الفضل الكبير، ووعد أنه يعطيهم، يبشر اللَّه - تعالى - به من ذكر: (عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال بعض أهل التأويل: قالت الأنصار: إنا فعلنا، وفعلنا كذا؛ فكأنهم افتخروا، وقالوا: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأتاهم فقال: " يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم اللَّه تعالى؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: " ألم تكونوا فقراء فأغناكم اللَّه تعالى؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: " أفلا تجيبونني؟ " قالوا: ما نقول يا رسول اللَّه؟ قال: " ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أولم يكذبوك فصدقناك؟ أولم يخذلوك فنصرناك؟ " قال: فما زال يقول حتى جثوا للركب بين يديه، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لرسول اللَّه، والفضل لرسوله؛ فنزل قوله - تعالى -: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) لكن ذكر في الخبر ما لا يليق ذلك بالأنصار أن يظنوا ذلك برسول اللَّه، وكذلك ما ذكر من فخرهم وقولهم: " لنا الفضل عليكم " هذا لا يحتمل منهم؛ فدل أن الحديث غير صحيح، أو الزيادة التي لا تحتمل، واللَّه أعلم. وفي بعض الأخبار: أن الأنصار - رضي اللَّه عنهم - قالوا: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تنوبه النوائب من القرابة وغيرهم، فتعالوا حتى نجمع له شيئًا من أموالنا، فيستعين على من ينوبه من الحقوق، ففعلوا، ثم أتوا به، فقالوا: إنك قد تنوبك نوائب وحقوق، وليس عندك لها سعة، فأتيناك بشيء تستعين به على ما ينوبك من النفقة في أهلك والنازلين بك، فنزل قوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وهو يخرج، على وجوه: أحدها: يقول: لا أسألكم على ما أبلغكم من الرسالة، وأدعوكم إلى الإيمان باللَّه - تعالى - وبي أجرا إلا صلة أرحامكم وقرابتكم؛ أي: لا أسألكم على تبليغ الرسالة إليكم وما أدعوكم إليه أجرًا، إلا أن تصلوا قراباتكم وأرحامكم؛ فتدل الآية على وجوب صلة الأرحام. ويحتمل أن يكون ذكر هذا ردًّا لقول أُولَئِكَ الكفرة؛ حيث قالوا: إن محمدًا جاء يقطع

الأرحام ويفرق القرابات، حتى فرق بين من أجابه إلى ما دعاه إليه وبين من لم يجبه، من الوالد والولد، والزوج والزوجة، ونحو ذلك؛ فقال عند ذلك: لا أسألكم عليه أجرًا، ولا أدعوكم إلى قطع الأرحام والقرابات؛ بل ما أطلب منكم إلا صلة الأرحام بما دعوتكم إليه. ويحتمل أن يقول: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرًا، ولا أقبله منكم إن أعطيتموني، إلا أن تصلوني بحق القرابة والرحم التي بيني وبينكم فأقبله منكم، وقد كان بينه وبينهم قرابات ورحم. ويحتمل ما قال الحسن فقال: واللَّه ما كان نبي اللَّه - تعالى - يسأل على هذا القرآن أجرًا، ولكنه أمر أن يتقربوا إلى اللَّه تعالى بطاعته وحبّ كتابه، فكان معنى الآية: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، أي: إلا التقرب إلى اللَّه - تعالى - والتودد بالعمل الصالح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلا أن تودوني لأجل قرابتي كما تودون لقرابتكم وتواصلون بها، ليس هذا الذي جئت به يقطع ذلك عني، ولست أبتغي على الذي جئت به أجرًا آخذه منكم على ذلك. وقال قتادة: إن اللَّه - تعالى - أمر محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألا يسأل على هذا القرآن والتبليغ أجرًا: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلا أن يصلوا ما بينه وبينهم من القرابة، وكل بطون قريش بينه وبينهم قرابة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إلا أن تودّوا قرابتي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن لم تتبعوني إلى ما أدعوكم إليه وآمركم به فاحفظوني في قرابتي " وأصله ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) هو كقوله - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الاقتراف: الاكتساب، والمقارفة: المعاشرة، وقرف فلان فهو مقروف؛ أي: اتهم بشيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)، قوله (غَفُورٌ) أي: يغفر لهم وإن لم

(24)

يحققوا التوبة والرجوع سرًّا وعلانية، ولم يستوجبوا الغفران والعفو. وقوله: (شَكُورٌ) أي: يشكر ويقبل منهم الشكر وإن لم يحققوا له الشكر، ولم يستحقوا قبوله، فضلا منه ونعمة، واللَّه أعلم. وقال أهل التأويل: (غَفُورٌ) للذنوب، (شَكُورٌ) للحسنات يضاعفها، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي: بل يقولون: افترى مُحَمَّد على اللَّه كذبا. وقوله: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) بالصبر حتى لا تجد مشقة استهزائهم بك، ولا غصة تكذيبهم إياك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فإن يشأ اللَّه أن ينسيك القرآن فلا تبلغه إليهم فلا يستهزئوا بك، ولا يكذبوك، أو كلام نحوه. وعندنا أنه يخرج على وجهين: أحدهما: ما ذكرنا بدءًا (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) بالصبر حتى لا تجد مشقة الاستهزاء ولا غصة التكذيب. والثاني: يحتمل: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) كما ختم قلوب أُولَئِكَ الكفرة حتى لا تفهم ولا تعقل الحق من الباطل، كما فعل بأُولَئِكَ، يذكره إحسانه إليه وفضله بما أكرمه بأنواع الكرامات التي أكرمه بها؛ ليشكر ربه على ذلك، ويرحم على أُولَئِكَ بما ختم على قلوبهم، وما ينزل بهم من أنواع العذاب وعلى ذلك بلغ أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من المرحمة والشفقة عليهم ما ذكر (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ. . .) الآية، وقوله - تعالى -: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، كادت نفسه تهلك إشفاقًا عليهم

(25)

ورحمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: يظهر ويظفر أهل الحق على أهل الباطل وينصرهم حتى يصير أهل الحق ظاهرين قاهرين على أهل الباطل؛ فذلك محق الباطل وإحقاق الحق. والثاني: يحق الحق بالحجج والبراهين حتى يعرف كل أحد الحق من الباطل بالحجج التي أقامها إذا تأمّل فيها حق التأمّل، وهو كقوله - تعالى -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، واللَّه أعلم. وقوله: (بِكَلِمَاتِهِ) أي: بحججه وبراهينه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) قال أهل التأويل: أي: عليم بما في الصدور، ولكن قوله: (بِذَاتِ الصُّدُورِ) عبارة عمن له الصدور عن الرأي والتدبير، وهم البشر واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) قد ذكرنا أنه لا أحد يحقق التوبة؛ لأن تحقق التوبة هو أن يهرب وينفر عما استوجب به النار كهربه من النار لو كان فيها، وفراره منها لو وجد مهربًا، ولا أحد يهرب من الذنب ويفر منه كهربه وفراره من النار لو كان فيها، لكن اللَّه بفضله وكرمه يقبل ذلك منه وإن لم يكن التوبة منه على الحد الذي ذكرنا. ثم قوله - تعالى -: (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) أي: يقبل حسناتهم وخيراتهم (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) أي: يكفر عن سيئاتهم؛ كقوله - تعالى -: (نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) هذا وعيد، يخبر رسوله أنه يعلم ما تفعلون سرًّا وعلانية، وأنه عن علم بما يكون منهم امتحنهم وأمرهم ونهاهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) أي: يجيب الذين آمنوا بما يدعون ويسألون ربهم، وهو كقوله - تعالى - (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، أي: يجيبهم على الذي ذكر في الآية، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي: يزيدهم من فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب امرئ مسلم، وهي الجنة؛ وذلك زيادة من فضله، والله أعلم.

(27)

وقال في حق الكفرة: (وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ). * * * قوله تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) قال أهل التأويل: إن الآية نزلت في أهل الصفة، تمنوا أن يكون لهم الدنيا، فإن كانت فيهم فكأنه كتب عليهم الضيق والقتر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي: يتقلبون من لباس إلى لباس، ومن مركب إلى مركب، ولكن ليس في ذلك كثير بغي؛ فلا يصح صرف التأويل إليه. ثم عندنا يخرج (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) مخرج الامتنان والإفضال، وله أن يبسط عليهم وإن علم منهم البغي؛ ألا ترى أنه لو لم يوسع على فرعون لا يدعي الألوهية، لكنه مَنَّ على بعض المؤمنين فضيق عليهم حتى لا يبغوا، فيلزمهم بذلك القيام بشكر ما منَّ عليهم وأنعم بالتضييق حتى لا يبغوا، وكذلك يخرج ما: روي " مَنْعُ الله عطاء "، وفيما ذكرنا جواب عمّن تعلق بظاهر الآية على أن الأصلح واجب؛ حيث قال: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) بيَّن أن الأصلح لهم ألا يبسط؛ لأنا نقول: قد بسط كثيرًا من الفراعنة والكفرة فبغوا، لكن ذكر هذا؛ لبيان المنة والإنعام بالتقتير والتضييق في حق البعض حتى لا يبغوا، واللَّه أعلم. ثم البغي: هو التعدي عن حد اللَّه الذي حدّ لهم، والمجاوزة عنه. ولكن لا نفسر ما الحد الذي يسمى التعدي عنه: بغيًا؛ لما لا يعلم ما هو؟ ويحتمل أن يكون معنى قوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أنه لو بسط

(28)

عليهم ووسع، لزمهم الشكر، والبسط، وكثرة المال تشغلهم وتمنعهم عن القيام بشكره وما أوجب عليهم من الفرائض والأحكام، ولكن ينزل بقدر ما يشاء ما لا يشغلهم ولا يمنعهم عن القيام بالذي يلزمهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) قد تقدم تأويله. ثم حاصل تأويلها يرجع إلى وجوه ثلاثة: أحدها: إلى أهل الكفر: أنه لو وسع عليهم وبسط، لبغوا في الأرض، أي: صاروا كلهم أهل كفر وضلال، كقوله - تعالى -: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ. . .) الآية. والثاني: يتوجه إلى خاص من المؤمنين؛ لما علم منهم: أنه لو بسط عليهم ووسع لبغوا في الأرض؛ فضيق عليهم وقتر؛ امتنانًا منه وفضلا؛ لئلا يبغوا، وهو كما ذكرنا في أحد تأويل قوله - تعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ): أنه إن كان على حقيقة خلقهم، فهو في الذين علم منهم أنهم يعبدونه لا محالة؛ ليعبدوه على ما ذكر، فأما الذين يعلم أنهم لا يعبدونه لا يحتمل أن يخلقهم للعبادة، ولكن يخلقهم لما علم أنه يكون منهم، واللَّه أعلم. فعلى ذلك قوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) يرجع إلى قوم خاص يعلم اللَّه - تعالى - منهم: أنه لو بسط عليهم ووسع، لبغوا في الأرض؛ فضيق عليهم؛ فضلا منه ومنة؛ فيلزمهم القيام بشكر ذلك له، واللَّه أعلم. أو أن يرجع ذلك إلى جملة الخلق من مؤمن وكافر: أنه لو وسع وبسط على الكل لصاروا جميعًا ملوكًا ومن عادة الملوك وطباعهم البغي والغلبة على من نازعهم في ملكهم ومملكتهم، وفي ذلك التفاني والفساد؛ فوسع على بعضهم وبسط، وضيق على بعض؛ لئلا يبغي بعض على بعض، إذ في ذلك تفانٍ وتفاسد، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) يحتمل قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) أي: من رحمته. أو (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) من الأصنام التي عبدوها؛ رجاء الغوث والشفاعة لهم والزلفى عند اللَّه، قنطوا ما رجوا منها، كقوله: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ). ثم سمى المطر: رحمة وغيثًا، أي: الغوث؛ ليعلم أن له أن يمسك عنهم، ويمسكهم على الحال الأولى في القحط والضيق؛ إذ لو كان عليه إرساله ولم يكن له إمساكه لم

(29)

يسمه: رحمة، ولا غوثًا؛ لأن من عليه فعل شيء لم يوصف بالفضل والرحمة، فهو على المعتزلة في الأصلح، واللَّه الموفق. وقوله: (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) يحتمل (الْوَلِيُّ) أي: هو الرب، (الْحَمِيدُ) هو المستحق للحمد. أو الولي: هو الحافظ لهم، وولي كل نعمة أعطاهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) قوله - تعالى -: (وَمِنْ آيَاتِهِ) يحتمل: من آيات ربوبيته وتوحيده خلق السماوات والأرض وما ذكر. أو من آيات حكمته وعلمه وتدبيره خلق ما ذكر. أو من آيات قدرته وسلطانه ما ذكر. أو من آيات إحسانه ونعمه وأياديه ما ذكر، وقد بينا وجه كل ذلك ودلالته على قدر فهمنا منه فيما تقدم. ثم اختلفوا في قوله: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا) أي: في الأرض خاصّة؛ ألا ترى أنه قال: (مِنْ دَابَّةٍ) وهي اسم لما يدب، وأهل السماء ملائكة، ولهم الطيران دون الدبيب، وهو كقوله - تعالى -: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)، وإنما يخرج من أحدهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فِيهِمَا) أي: في السماء الملائكة، وفي الأرض الدواب، لكنه سمى أهل السماء باسم ما في الأرض من الدواب، وذلك جائز في اللغة ذكر شيئين باسم أحدهما؛ كقوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ)، والكناية ترجع إلى الصلاة لفظًا، والمراد ما سبق من الصبر والصلاة، وكذا قوله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا)، كنى عن التجارة وأراد كليهما، ونحو ذلك؛ فعلى ذلك هذا. ثم قوله: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا) قالوا: أي: نشر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) يحتمل ما ذكر من جمعهم: بعثهم وإحياؤهم قدير على ذلك، كما هو قدير على ما ذكر من خلق السماوات والأرض

(30)

وما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) يحتمل ما ذكر من المصيبة التي تصيبهم: المصيبة التي تعم الخلق جميعًا ممن كان منهم الزلة، وما ذكر من كسب اليد، وممن لم يكن منهم كسب اليد من الزلة والمعصية؛ من نحو الجدب، والقحط، وغلبة الأعداء، وغير ذلك من الأشياء التي تعم الخلائق ممن كان منه الجناية وممن لم يكن: من الصغار، والدواب، والأبرار، والأخيار، ويكون ما أصاب ممن كان ذلك منه واستوجب؛ تنبيهًا لهم وموعظة، أو كفارة لما كان منهم من كسب اليد، وما أصاب ذلك ممن لم يكن منهم ذلك من الصغار والأخيار فذلك في الحكمة، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: يصيب ذلك لهم ابتلاء بشيء سبق منهم؛ ليعلم أن ما يعطيهم من السلامة والصحة والحسنات والخيرات كان فضلا منه، وهم عبيده وإماؤه وملكه، إن شاء أهلكهم، وإن شاء أبقاهم. أو أن يفعل بهم ما ذكر وإن لم يسبق منهم ما ذكر من كسب اليد والزلة؛ لعوض يعوّض في الآخرة. وكيفما كان، فهو غير خارج عن الحكمة، والإيلام للتعويض جائز ممكن، لكن ليس بواجب لا محالة التعويض؛ خلافًا للمعتزلة؛ فإنه عندهم واجب، وبالله العصمة. وجائز أن يكون ما ذكر من المصيبة التي تصيبهم بكسب اليد أن يريد ألما في نفسه يصيبه بما سبق منه من شيء ارتكبه واكتسبه، فالسبيل فيه أن ينظر كل في نفسه: ما الذي سبق منه حتى أصابه ما أصاب؟ فيراجع نفسه عن ذلك، ويتوب إلى اللَّه - تعالى - ثم يخرج ذلك لهم إما تنبيهًا وزجرًا عن المعاودة إلى مثله، وإما تكفيرًا وتمحيصًا لما كان منهم، ولزمهم الشكر على ذلك. وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " لا يصيب ابن آدم خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو اللَّه كثير ". وعلى قول المعتزلة ليس اللَّه - تعالى - في إعطائهم الخيرات والحسنات والسعة محسنًا مفضلا منعمًا؛ لأن من أخذ شيئًا بعوض لا يوصف بالإفضال والإنعام، وقد سمى نفسه بذلك: محسنًا منعمًا؛ فيكون ما قالوا حلاف ذلك.

(31)

والثاني: إن كان بعوض على ما يقولون يجب أن يعوضهم عوضًا يرضون بذلك العوض، ويكون ذلك العوض مثل ما أخذ منهم، وهم لا يشترطون ذلك دل أن له أن يفعل لهم ما ذكرنا. وأصله ما ذكرنا: أن الخلق كلهم عبيده وإماؤه، ولكل ذي ملك أن يفعل في ملكه ما شاء، لا لائمة عليه؛ إذ كان له حقيقة الملك؛ فعلى ذلك اللَّه - سبحانه وتعالى - إذ له حقيقة ملك الأشياء؛ فله أن يفعل ما يشاء بلا عوض ولا بدل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ليس أحد يصيبه شيء من الشدة والبلاء إلا ويكون في ذلك عفو منه - جل جلاله - لأنه ما من ألم إلا ويتوهم زيادة الألم في ذلك، فيكون منع تلك الزيادة عنه عفوًا عنه وفضلا، وكذلك هذا في هلاك كل شيء من حقوقه ما يقل ويكثر. ويحتمل أن يكون قوله: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) أي: لا بكل زلة منهم تكون يؤاخذ بها، بل يؤاخذ ببعض، ويتجاوز عنهم في بعض، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ... (31) يقول: لا تقدرون الهرب مما يريد أن يصيبكم بزلاتكم وما يريد أن يفعل بكم، ولا لكم ملجأ (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) ينصركم ويمنعكم من عذاب اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) يحتمل (آيَاتِهِ) ما ذكرنا من آيات وحدانيته وربوبيته، وآيات قدرته وسلطانه، وآيات علمه وتدبيره وحكمته، وآيات نعمه وإحسانه، وهو ما جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في سرية الخشب في السفن معنى لو اجتمع حكماء البشر؛ ليعرفوا ذلك المعنى واللطف الذي جعل في الخشب - ما قدروا على إدراكه، وذلك المعنى واللطف المجعول فيها وما جعل من طبعها السكون على وجه الماء والقرار عليه مع ثقلها وغلظها، وإن كان بدون ذلك الثقل والعظم بكثير من غير جوهر الخشب مما يتسرب في الأرض وينحدر، وكذلك ما يحمل في السفن من الأحمال العظيمة الثقيلة مما طبع كل من ذلك الحمل أن يتسرب وينحدر في الماء لو لم تكن السفن وما ذكر من الخشب، واللَّه أعلم. ثم قوله: (كَالْأَعْلَامِ) قال عامة أهل التأويل: أي: كالجبال في البحار. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: الأعلام: الجبال، واحدها علم.

(33)

ومعنى هذا الكلام هو ما ذكر من ميد الأرض بأهلها، والتسرب في الماء، ثم أرساها وأثبتها بالجبال، وطبع الجبال التسرب والانحدار في الماء فيجيء أن تزيد في التسرب والانحدار في الماء، لا أن تثبتها وتقرها على وجه الماء، لكن بلطفه ومنّه أقر بها الأرض، وأثبتها ومنع بها عن التسرب والانحدار والميد بأهلها، فعلى ذلك السفن في البحار تستقر على الماء ولا تنحدر كالجبال مع الأرض في القرار على الماء، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (كَالْأَعْلَامِ) معنى آخر وهو الأعلام أنفسها، وهو أن جعل السفن سببا وطريقًا للوصول إلى منافع بعدت منهم، وصعبت عليهم، فإذا حمل فيها الأحمال من بلد إلى بلد آخر ومن مكان إلى مكان يسر أهل المحمول إليهم بتلك الأحمال والسفن إذا رأوها في البحار تحمل إليهم؛ لسعة يرجون بها ومنافع تصل لهم، وكذلك يسر أهل البلد المحمول إذا رأوها راجعة إليهم سالمة؛ لما يحصل لهم من الأثمان والأغراض بها، فتكون السفن أعلامًا وأدلة لهم على الوصول إلى الأغراض والمنافع، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) يذكر فضله ومنته بما أجرى هذه السفن في البحار التي ذكر، فأخبر أنه لو شاء لأمسكها ومنعها على الجريان ثم صير الريح نوعين: أحدهما: طيبة بها تجري السفن. والأخرى: عاصفة شديدة تهلك بها السفن، وهو ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله - تعالى -: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ. . .) الآية. ثم في ذلك خلال ثلاث تدل على أن الريح ليست تجري السفن وتهب بطبعها وبنفسها، ولكن باللَّه تعالى -: أحدها: أخبر أنه جعل نوعًا منها طيبة تجري السفن، والأخرى عاصفة، تهلك السفن، وتهيج الأمواج. والثاني: ما ذكر في هذه الآية: (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) أخبر أنه لو شاء لأسكن الريح فبقين رواكد على ظهر الماء؛ فدل أنه هو المجري لها حيث كان هو المسكن. والثالث: أن فعل الطبيعي على سنن واحد كالحرارة في النار، والبرودة في الثلج وأمثال ذلك، ولو كان جريان الريح وهبوبها بنفسها وطبعها، لكانت لا تسكن في حال، ولا تكون مرة طيبة سالمة، ومرة شديدة عاصفة مهلكة؛ دل أن ذلك كان باللَّه - تعالى - لا بالطبع، واللَّه الموفق.

(34)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: سمى المؤمن: صبورًا شكورًا. والثاني: سمى من صبر على ما أصاب من الشدائد والمصائب التي ذكر: صبورًا، ومن شكر ما ذكر من النعم في السفن وغيرها: شكورًا، واللَّه أعلم. وقوله: (رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: أي: وقوف، وصرفه: ركد يركد ركدا وركودًا. وقوله: (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) جائز أن يكون هذا صلة ما ذكر من السفن الجواري في البحر؛ حيث قال: (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) ويقول: إن شاء أسكن الريح التي بها تجري السفن في البحار فبقين رواكد في الماء، وإن شاء أرسل ريحًا عاصفة شديدة فيهلكن -يعني: السفن- وأراد: أهل السفن؛ بما كان منهم؛ يخبر أن له أن يفعل ما ذكر من الإهلاك في البحر أو الإبقاء فيه، لكنه بفضله ينجي من أنجى وأخرج سالمًا، واللَّه أعلم. وكذا قال أَبُو عَوْسَجَةَ (يُوبِقْهُنَّ) أي: يهلك أهل السفن. ويحتمل أن يكون ذلك صلة ما تقدم من قوله - تعالى -: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) فيكون ما يصيبهم من المصيبة ما بلغت النفس أو مما لم تبلغ النفس؛ فيكون كل ذلك لهم من كسب أيديهم على ما ذكر، ثم أخبر أنه يعفو عن كثير مما كسبت أيديهم مما يستوجبون الإهلاك ويتجاوز عنهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) المجادلة في آياته تخرج على وجهين: أحدهما: أن يجادلوه في تقدير أحكام اللَّه - تعالى - وفهم ما ضمن فيها، وذلك ممدوح محمود، وهو كقوله - تعالى -: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)، فهذه المجادلة، والمراء المذكور في هذا محمود. والمجادلة الثانية: هي المجادلة في دفع أحكام آيات اللَّه - تعالى - عن فهم ما ضمن أفيها، وهي مذمومة، وما ذكر هاهنا من قوله: (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا) هي المجادلة في دفع أحكام آياته، ثم أخبر أنه لا محيص لهم ولا ملجأ من عذاب الله بمجادلتهم في دفع آياته والمنع عن فهم ما فيها.

(36)

قوله تعالى: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وقوله: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أن اللَّه - تعالى - أعطى من أعطى هذه النعم واللذات في هذه الدنيا؛ ليكتسبوا بها نعمة دائمة ولذة باقية، وكذلك ما أعطاهم من السمع، والبصر، وغير ذلك من الحواس؛ ليكتسبوا بها ما يدوم ويبقى، فمن استعمل ما أعطاه من الأموال واللذات مما ذكرنا في غير ما أمر به وجعل سمي: خاسرًا عابثًا، وكذلك من استعمل ما أعطاه من الحواس في غير ما جعلت وأمر باستعمالها يسمّى: أصم أبكم أعمى، وكذلك النفس؛ إذ المرء لم يكتسب بها حياة دائمة سمي: ميتًا، واللَّه أعلم. أو أن يقال: إنهم ما أعطوا في هذه الدنيا من اللذات والمتعة إلا ترغيبًا فيما أبقى عنده ووعدهم في الآخرة، وكذلك ما امتحنوا من الشدائد والمصائب إلا تحذيرًا وترهيبًا عما أوعدهم وخوفهم في الآخرة. ثم قوله: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: تتمتعون به فيفنى ويزول عن سريع وما أبقى، ولم يؤتكم هو الباقي الدائم، ثم بين أن ما أبقى عنده لمن؟ بقوله: (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) آمنوا بأن له الدنيا والآخرة، وأن له الخلق والأمر، وأنه بريء عن جميع معاني الخلق (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، أي: يكلون أمورهم إلى ربهم، هو مفزعهم ومعتمدهم، لا يفزعون إلى أحد سواه، ولا يعتمدون غيره في جميع أحوالهم. ثم نعتهم - أيضًا - بما ذكر من الاجتناب عن الكبائر والفواحش فقال: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) جائز أن يكون ما ذكر من كبائر الإثم هي الفواحش، والفواحش هي كبائر الإثم، كل واحد منهما في معنى الآخر، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كبائر الإثم: أنواع ما بها يصير المرء مشركًا، وهي كبائر الشرك، والفواحش هي التي توجب الحدود في الدنيا. وقيل: الكبيرة: ما يكبر ويعظم عن الذنب، والفاحشة: ما يفحش من العمل، وقد

(38)

ذكرنا وجوهًا في ذلك فيما تقدم في سورة النساء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي: إذا ما غضبوا هم مما يرجع إلى الأموال والأنفس وأمر الدنيا - يغفرون، ويتجاوزون عن ذلك، فأما ما يرجع ذلك الغضب إلى أمر الدِّين فإنه لا يسع المغفرة عن ذلك، ولكن يجب الرجوع والتوبة إلى اللَّه، واللَّه - تعالى - أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) أي: أجابوا لربهم إلى ما دعاهم ربهم، وقد دعاهم إلى دار السلام بقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)، لكن جعل لإجابتهم شرائط وأعلامًا فمن وفي بها استوجب الموعود، وهو كقوله - تعالى -: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. . .) الآية، (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ. . .)، إلى آخر ما ذكر؛ فعلى ذلك علم إجابتهم لربهم وشرطها ما ذكر من قوله - تعالى -: (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ. . .) إلى آخر ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ذكر بعضهم أن الأنصار كانوا يتشاورون فيما بينهم ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عنهم غائب، فنزل هذا مدحًا لهم على فعلهم. وذكر عن الحسن أنه تلا هذه الآية: قوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) قال: واللَّه ما شاور قوم قط إلا هداهم اللَّه - تعالى - لأفضل ما بحضرتهم. وأصله: أن اللَّه - تعالى جل وعلا - أمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاور صحابته حيث قال: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ). وقال الحسن: ما شاور قوم في أمر قط إلا هداهم اللَّه - تعالى - لأفضل ما بحضرتهم؛ لأن المشاورة اجتماع العقول والأذهان، وإذا اجتمعت كانت إلى استدراك الحق والصواب أسرع وأبلغ مما لو انفرد كل عقل بنفسه، واللَّه أعلم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) أي: يتشاورون فيه. وقوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ): ظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) صير المنتصر من الباغي، والغافر لمظلمة من ظلمه جميعًا في الذين استجابوا لربهم إلى ما دعاهم إليه، والمنتصر مستوفي حقٍّ جعل له، والغافر تارك الحق، لكن إذا جعل له الاستيفاء دخل فيما ذكر من المستجيبين لله تعالى، لكن تارك الحق أفضل من مستوفي الحق، وعلى ذلك حث اللَّه - تعالى - رسوله بالعفو عن المظلمة وترك الانتصار والمكافأة، وأخبر أنه من عزم الأمور؛

(40)

حيث قال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) راجع إلى الأذى باللسان؛ من نحو الشتيمة، والسب، والذي لا يؤثر في النفس أثرا، حثهم على المغفرة والعفو، ومدحهم على ذلك. وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) راجع إلى ما يؤثر في الأنفس والأبدان تأثيرًا من الجراحات وغيرها، حثهم على العفو فيما يرجع إلى الأذى باللسان، وألا يكافئوهم على ذلك، وفيما رجع إلى الأنفس والأبدان جعل لهم الاستيفاء والانتصار، وإن كان ترك الاستيفاء والعفو عن الكل أفضل؛ على ما قال: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى). وقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) سمى الثانية: سيئة وإن لم تكن في الحقيقة سيئة؛ لأنها جزاء السيئة؛ فسمّاها باسم الأولى. أو سماها: سيئة؛ لأنه لو لم تكن الأولى كانت سيئة ثانية - أيضًا - فسماها على ما هو في نفسها من باب الإضرار والضرر - سيئة في نفسه، وإن كان حسنًا لغيره، واللَّه أعلم. ويشبه أن يكون سماها بما ذكر؛ لاختلاف الأحوال: هي عند الذي يقتص منه ويُجَازَى بها سيئة، وتلك الحال عنده سيئة، وهو كقوله - تعالى -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، سمى حالة الضيق والشدة: سيئة؛ لأنها عندهم سيئة، وحال السعة والرخاء: حسنة؛ لأنها عندهم حسنة، وإن لم تكن تلك الحال في الحقيقة سيئة، لكنه سماها: سيئة على ما عندهم؛ فعلى ذلك جائز أنه سمى الثانية: سيئة؛ لما هي عند المفعول به سيئة، واللَّه أعلم. وقوله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ) هو ما ذكرنا أنه وإن جعل لهم حق الاستيفاء والانتصار، فالعفو عن ذلك أفضل. ثم فيه دلالة ألا يجمع بين العفو وأخذ البدل إذا لم يكن من الآخر الرضا بذلك؛ لأنه قال: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ) أخبر أنه إذا عفا عنه يكون أجره على اللَّه فليس له أن يأخذ من المعفو عنه شيئًا، واللَّه أعلم. فهو ينقض على من يقول بأنه يأخذ البدل من الجاني شاء أو أبى، وأن يعفو عنه ويأخذ البدل، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) لأنه لا يحب الظلم، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فمن أخذ ما ليس له أَخْذُه فهو ظالم.

(41)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) أي: أُولَئِكَ ما عليهم من حجة، أوما عليهم من تبعة. وقوله: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) إنما الحجة والتبعة على الذين يظلمون الناس ابتداء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي: يأخذون من الناس ما ليس لهم أن يأخذوا؛ فالتبعة والحجة عليهم، فأما من يأخذ حقًّا وجب له واستوفاه فلا تبعة عليه ولا حجة. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويفسدون في الأرض). وقوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) أي: من صبر على الأذى والمظلمة وعفا عنها وتجاوز فإن ذلك من عزم الأمور؛ أي: ذلك من تحقيق الأمور وإحكامها. * * * قوله تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي: من أضله اللَّه لما آثر ولاية الشيطان، لا وفي له سواه بعده يرشده، أو لا ولي ينفعه من بعده، وهو كما قال: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ)، أخبر أن سلطان الشيطان على من يتولاه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) قال أهل التأويل: أي: هل إلى رجوع الدنيا من سبيل، يقولون: يسألون ربهم الرجوع إلى الدنيا. والأشبه أن يكون سؤالهم الرجوع إلى المحنة التي امتحنوا في الدنيا قبل موتهم؛ أي:

(45)

سألوا أن يكلفهم ويمتحنهم في الآخرة؛ ليظهروا الطاعة لله - تعالى - في أوامره ونواهيه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) قال أهل التأويل: يعرضون على النار قبل أن يدخلوها؛ كقوله - تعالى -: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)، وكقوله - تعالى -: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ)؛ لأن اللَّه - تعالى - أذلهم في الآخرة بما اختاروا في الدنيا من سوء صنيعهم، وأعطوا أنفسهم شهواتهم ومناهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) يحتمل ما ذكر من نظرهم من طرف خفي ما ذكر في آية أخرى: (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)؛ هو لشدة هولهم وفزعهم في ذلك اليوم لا يرفعون رءوسهم، ولا ينظرون إلى موضع. ويحتمل أن يكون قوله: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) أي: لا ينظرون إلى الناس، ولا يقبلون بوجوههم إليهم إلا نظر التلصص والتغفل؛ حياء منهم؛ لسوء فعالهم، وهكذا المعروف في الناس؛ لأن من صنع إلى آخر سوءًا لا يتهيأ له رفع الطرف إليه ونظره إليه متصلا إلا على التلصص منه والتغفل؛ فعلى ذلك أُولَئِكَ، واللَّه أعلم. وقال بعض أهل التأويل: إنهم يحشرون عميًا؛ فلا يرون بأعينهم، إنما يرون بقلوبهم، وهو الطرف الخفي. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ)، أي: قد غضوا أبصارهم من الذل. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: ينظرون نظرًا مستقيمًا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .)، الآية. يخرج ما ذكر من خسران أنفسهم وأهليهم على وجوه: أحدها: ما ذكر بقوله - تعالى -: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، أمروا بأن يقوا أنفسهم وأهليهم النار، فهم حيث لم يقوا ما ذكر من الأنفس والأهل خسروا، والله أعلم.

(46)

والثاني: قوله: (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) أي: خسروا بسبب أنفسهم، وبسبب أهليهم؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)؛ لما يعملون أمورًا بسبب الأموال والأولاد والأزواج، هي فتنة لهم، وكقوله: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ)، فقد يخسر الرجل ويصير مؤاخذًا بسبب هَؤُلَاءِ. والثالث: يحتمل أن يكون خسرانهم أنفسهم وأهليهم ما قالوا: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)، وقوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)، خسر ما كان رجاه وطمع أن له عند ربه في الآخرة للحسنى. على هذه الوجوه الثلاثة يخرج تأويل الآية. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ليس من أحد من كافر ومسلم إلا وله أهل ومنزل في الجنة، فإن أطاع اللَّه - تعالى - أتى منزله وأهله، وإن عصاه خسر نفسه وأهله، ومنزله في الجنة وورثه المؤمنون عنه. لكن لا يحتمل أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مع علمه أنه يموت كافرًا أن يجعل له الأهل والمنزل في الجنة، اللهم إلا أن يفعل ذلك ليكون لهم حسرة على ذلك وغيظًا. وقوله: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... (46) يخرج على وجهين: أحدهما: أي: ما كان للأصنام التي عبدوها دون اللَّه تعالى ولاية النصر لهم وقدرة دفع العذاب عنهم؛ لأنهم كانوا يعبدونها في الدنيا رجاء أن تشفع لهم في الآخرة وأن تزلفهم، فأخبر اللَّه - تعالى - أن ليس لها ولاية النصر لهم؛ على ما رجوا وطمعوا من عبادتها الشفاعة لهم والدفع عنهم، واللَّه أعلم. والثاني: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: ما كان للرؤساء الذين اتخذوهم في الدنيا أربابًا ولايةُ النصر لهم؛ لأنهم لا يملكون دفع ذلك عن أنفسهم، فكيف يملكون دفع ما نزل بأتباعهم؛ يخبر أن ليس لهم ولاية دفع العذاب عنهم، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) يحتمل قوله: (فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي: من حجة، أي: من أضله اللَّه، فلا حجة له أن يقول: إنك أضللتني؛ لأنه إنما يضله لما يختاره ويؤثره. والأصل: لا أحد يفعل ما يفعل من المعاصي وقت فعله لأن اللَّه تعالى قضى له ذلك أو أراده، أو قدره وقضاه؛ إنما يفعله لغرض له وهواه؛ فلم يكن له الاحتجاج عليه بذلك، وباللَّه العصمة.

(47)

والثاني: أنه ليس له حجة عليه بذلك؛ لأنه يعلم أنه لو خيّر بين ما يريد أن يختاره ويؤثره وبين ضدّ ذلك، لكان يختار ذلك على ضده، ويختار تحصيله، ويؤثره على ترك ذلك، فكيف يكون له حجة بذلك؟ واللَّه الموفق. ويحتمل قوله: (فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي: من أضله اللَّه - تعالى - فما له إلى الهدى من سبيل أي: ليس له سبيل، ولكن عليه السبيل؛ أي: لا يملك أحد إرشاده. ويحتمل: أي: من أضله اللَّه فما له من سبيل؛ أي: ليس له سبيل، ولكن عليه السبيل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) أي: أجيبوا له، وقد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ. . .) الآية. هذا يخرج من وجهين: أحدهما: أي: أجيبوا له من قبل أن يأتي يوم لا يملك أحد ردّ ذلك اليوم إذا أتاهم؛ لأنه هو اليوم الذي يجزي فيه الخلائق، وفيه أهوال وأفزاع؛ يقول: لا أحد يملك ردّ ذلك اليوم؛ واللَّه أعلم. والثاني: أي: أجيبوا من قبل أن يأتي يوم لا مرد لما ينزل فيه بهم من العذاب والعقاب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) هذا - أيضًا - يخرج على وجهين: أحدهما: أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام في الدنيا؛ لتكون لهم شفعاء، وملجأ يلتجئون إليها؛ يقول: ما لكم من أُولَئِكَ الأصنام ملجأ تلتجئون إليها بل تكونون كما ذكر في آية أخرى: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، وقوله - تعالى -: (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ. . .) الآية، واللَّه أعلم. والثاني: (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أي: ما لهم من حيل يحتالون بها دفع ما نزل بهم من العذاب، على ما يكون في الدنيا من حيل يحتالون بها دفع ما نزل بهم من البلاء والشدائد، وباللَّه النجاة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ). هذا - أيضًا - يخرج على وجهين: أحدهما: أي: لا يملكون أن ينكروا على اللَّه - تعالى - ما يفعل بهم؛ لأنه إنما يفعل بهم ذلك بما كسبت أيديهم؛ فلا يقدرون على إنكار ذلك على اللَّه تعالى. والثاني: (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي: ما لكم من تغيير؛ أي: ما يملكون دفع ذلك

(48)

عن أنفسهم، ولا منعه وتغييره. وقيل: لا يملكون أن يمنعوا اللَّه - تعالى - عما يريد أن يفعل بهم، وهو ما ذكرنا. وقوله - تعالى -: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) أي: إن تولوا عن إجابتك إلى ما تدعوهم إليه (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يحتمل: أي: فما أرسلناك لأنْ تحفظ عليهم أفعالهم وأعمالهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) أي: ما عليك إلا التبليغ، إنما حفظ أعمالهم وأفعالهم على الملائكة الذين جعلوا حفاظًا عليهم، وهم الكرام الكاتبون. والثاني: (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) يحتمل: فما أرسلناك لأنْ تمنعهم عما يفعلون حسًّا، إنما عليك البلاغ فحسب وبيان الحق، وأنت غير مؤاخذ بما يفعلون، وهو كقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)، ونحو ذلك. وقوله: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا) إن كان هذا في المسلم فيكون قوله: (فَرِحَ بِهَا) أي: رضي بها، وسُر بها، وإن كان في الكافر فيكون له فرح بها؛ أي: بطر بها وأشر. وقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ) وهذا - أيضًا - إن كان في المسلم فإنه إذا أصابه شدّة أو بلاء ينسى ما كان إليه من اللَّه - تعالى - من النعمى، فجعل يشكو مما أصابه، فهو كفور للنعم التي كانت له من قبل ذلك. وإن كان في الكافر فهو ظاهر أنه كفور لنعمه وإحسانه أجمع، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) وقوله: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يخبر أنه بما يأمرهم وينهاهم، وبما يمتحنهم بأنواع المحن بأمر ونهي، ولا يمتحن بحاجة نفسه في جرّ منفعة، واستفادة خير، أو دفع مضرة أو بلاء؛ إذ له ملك السماوات والأرض، ولكن إنما يأمرهم وينهاهم ويمتحنهم؛ لحاجة أنفسهم في إصلاحها وفكاكها ونجاتها عن المهالك، وهو كقوله: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، يخبر بما ذكر أنه غني، لا

(50)

ينفعه إيمان مؤمن، ولا يزيد في ملكه، ولا يضره كفر كافر، ولا ينقص من ملكه. ويحتمل أن يكون قوله: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) كقوله: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ. . .) الآية. ويحتمل أن يقول: له ملك السماوات والأرض؛ أي: هو يؤتي الملك من له الملك في الدنيا، وهو ينزع عمّن يشاء؛ على ما ذكر في آية أخرى: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ. . .) الآية. وفيه نقض قول المعتزلة في خلق أفعال العباد منهم، وإنكارهم أن يكون فعل اللَّه - تعالى - مخافة وقوع الشرك في ذلك بينهم وبين اللَّه - تعالى - فيكون ذلك فعل اللَّه - تعالى - وفعل العبد؛ إذ هو تفسير الشركة في الشاهد. فيقال لهم: إن اللَّه - تعالى - قال: له ملك السماوات والأرض، وقال في آية أخرى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)، وقد رأينا الملوك في الدنيا، ثم لم يوجب ذلك الشركة في ملكه؛ لاختلاف المعنى والجهات؛ إذ حقيقة الملك له، ولغيره ليست حقيقة الملك، إنما له ملك الانتفاع، لا على الإطلاق؛ فعلى ذلك أفعال العباد من الخيرات خلقًا لله تعالى، فيكون على قولهم غير خالق لأكثر الأشياء مما شاء؛ وهذا لأن قوله: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) إما أن خرج على الوصف بالربوبية لله تعالى والألوهية، أو على وجه الوعد والخبر بأنه يخلق ما يشاء. فإن كان على الوصف له بالربوبية؛ فلا يكون ذلك وصف الربوبية؛ إذ لا يكون خالقًا لجزء من عشرة آلاف من الأشياء التي شاء أن يخلقها، وإن كان على الوعد والخبر فيخرج كذبًا على قولهم، فنعوذ باللَّه تعالى من السرف في القول، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) يخبر - تعالى - أن الأولاد جميعًا من الذكور والإناث مواهب اللَّه - تعالى - وهداياه، فيجب أن يقبلوها منه قبول الهدايا والهبات على الشكر له والمنة، ثم بدأ بذكر الإناث ثم بالذكور؛ لأن من الناس من إذا ولد له الإناث يعدها مصيبة، ويثقل ذلك عليه، وعلى ذلك ما أخبر عن الكفرة أنهم إذا بشروا بالأنثى ظلت وجوههم مسودة بقوله - تعالى -: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)، يخبر عن ثقل ذلك عليهم، وغيظهم على ذلك فبدأ بذكر ذلك؛ لئلا يعد أهل الإسلام الأولاد الإناث مصيبة وبلاء على ما عدها الكفرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) التزويج: هو الجمع بين الشكلين

(51)

والمتماثلين في الحقيقة، وقد يسمى التزويج بين المتضادين مجازًا - واللَّه أعلم - فيكون معنى قوله: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) أي: يقرن ويجمع بين الإناث والذكور، فيهب له من النوعين جميعًا حالة واحدة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا)، أي: يجعل بعضهم بنين وبعضهم بنات، تقول العرب: زوجت أهلي: إذا قرنت بعضها ببعض، وزوجت الكبار بالصغار إذا قرنت كبيرًا بصغير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) والعقيم من النساء: التي لا تلد، وهي لا توصف بالبركة، ويقال: إنها ليست مباركة، لا يرغب فيها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (عَلِيمٌ): بإنشاء الأولاد والإناث في الرحم، (قَدِيرٌ) على ذلك. أو (عَلِيمٌ) بمصالح الخلق، (قَدِيرٌ): لا يعجزه شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) كأن هذا إنما ذكر وأخبر عن نازلة أو سؤال كان عن كيفية الرسالة، وهل الرسل - عليهم السلام - يرون ربهم ويشاهدونه ويشافهونه؟ فأخبر أنه ليس من البشر من يكلمه إلا بالطرق الثلاثة التي ذكرها، والسؤال وقع عن الرؤية في الدنيا، فيكون الجواب بناء على السؤال، واللَّه أعلم. ثم قوله: (إِلَّا وَحْيًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا وَحْيًا): ما يرى في المنام، ورؤيا الأنبياء - عليهم السلام - حقيقة. وقوله: (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) نحو ما كلم موسى - عليه السلام - ألقى في مسامعه صوتًا مخلوقًا على ما شاء وكيف أشاء، من غير أنْ كان ثَمَّ ثالثٌ. وقوله: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) أي: يرسل ملكا يخبره عن اللَّه - تعالى - وطرق الرسول إلى معرفة ذلك في الدنيا الوجوه التي ذكرنا: إما الإلهام، وإما الإلقاء في المسامع، وإما رسول يرسل فيخبر عن أمره وكلامه، فأما أن يحتمل وسع أحد رؤيته أو يشافهه أو يعاينه في الدنيا فلا، واللَّه الموفق. ثم اختلف في قوله: (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: الحجب أنفسها هي حقيقة الحجب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحجاب: هو عجزهم عن احتمال رؤيته؛ لأن اللَّه - تعالى - أنشأهم على بنية وخلقة لا تقوم أنفسهم القيام لذلك على ما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - حيث قال

(52)

لموسى - عليه السلام -: (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، أي: فإن احتمل ذلك فاحتمل ما سألت، واللَّه أعلم. وفي الآية: أن اللَّه - تعالى - يكون مكلمًا للبشر بالرسول، وإن لم يشافهه المرسل، وكأن ذلك تسمية بطريق المجاز؛ إذ لم يكن في الحقيقة كلام الرسول كلام المرسل، وكذلك في قوله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، لا يكون ما يسمع من الرسول - عليه السلام - كلام اللَّه حقيقة، وكذا ما يقال: سمعت من فلانة قول فلان، أو حديث فلان كله، على المجاز، ليس على التحقيق، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون سبب نزول قوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا. . .) والآية - قول أُولَئِكَ الكفرة؛ حيث أخبر اللَّه - تعالى - بقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ. . .) الآية، وقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، سألوا أن يروا ربهم جهارًا، فقد حجبوا عن رؤية اللَّه - تعالى - في الدنيا والآخرة، حيث قال: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)، وسألوا أن يكلمهم شفاها، فأخبر أنه لا يكلم أحدًا شفاهًا، ولكن يكلم بما ذكر من الأوجه الثلاثة؛ حيث قال: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) ردًّا عليهم، فأخبر اللَّه - تعالى -: أن طريق تكليمه الخلق في الدنيا هذه الوجوه التي ذكرنا، وقد كلم البشر من هذه السبيل والطريق التي ذكر؛ حيث قال: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)، أخبر أنه أنزل إليهم ما ذكر، كما أنزل على الرسول، وحيث قال: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ. . .) الآية، وغير ذلك من الآيات مما يكون كأنه قد كلمهم بما ذكر، كما كلم الرسل من الوجوه التي ذكر. وقوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) كأنه يقول: هكذا أوحينا إلى الرسل الذين من قبلك بالوجوه والطرق التي ذكرنا كما أوحينا إلى الذين من قبلك. وقوله: (رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (رُوحًا) جبريل بأمرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أوحينا إليك أمرًا من أمرنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) أي: الكتاب الذي أنزله عليه وأوجبه إليه، سماه:

روحًا؛ لأنه يحيي به أن دين، وتكون به حياة الدِّين، ويحيي به الأبدان، وهو حياة الذكر والشرف، وهو كقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).، حياة الذكر والشرف، واللَّه أعلم. وقوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) أمَّا الكتاب فإنه لا شك أنه كان لا يدريه ولا يعلمه حتى أدراه وأعلمه، وأمَّا الإيمان حيث أخبر أنه لا يدريه فهو يحتمل وجوهًا: أحدها: ما كنت تدري ما الإيمان؟ في حق اللسان. أو ما كنت تدري ما الإيمان؟ في حق الإيمان. أو ما كنت تدري ما الإيمان؟ في حق قدره ومحله ومنزلته عند اللَّه تعالى. فإن كان المراد في حق اللسان، فهو ظاهر أنه كان لا يدري في حق ابتداء الأمر أن الإيمان هو التصديق أو التوحيد، أو ما هو؟ وهو معروف أنه كان لا يدريه في حق اللسان حتى أدراه وأعلمه أنه ماذا؟ وكذلك جميع أهل اللسان، لا علم لهم بذلك حتى علمهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فنزل جبريل، وسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ما الإيمان؟ وما الإسلام؟ على صورة أعرابي حتى قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن هذا كان جبريل نزل ليعلمكم معالم دينكم "، والله أعلم. وإن كان في حق فعل الإيمان ومباشرة ركنه، فهو إذن كان غير قادر على فعله وإتيانه على هذه وكان لا يدري، لكنه لا يدريه فإنه لا يوصف بالجهل به؛ ألا ترى أن الصغار لا يدرون، ولا يقال: إنهم جهلة، وإنَّمَا يوصف بالجهل من ملك الفكرة والنظر وأسباب العلم ثم ترك ذلك، فعند ذلك يوصف بالجهل، فأما من لم يملك ذلك ولم يبلغ هذا المبلغ فإنه لا يوصف بالجهل؛ ألا ترى أنه يقال للأعراض والأشياء: إنها لا تدري ولا توصف بالجهل؛ فعلى ذلك يجوز أن يوصف ويقال: إنه كان لا يدري، ولا يوصف ولا يقال: إنه كان جاهلا به، واللَّه أعلم. ألا ترى أن الولد في البطن لا يوصف بأن له سمعًا وبصرًا ونحوه؛ لأنه ليس بمحل للسماع والبصر، فإذا أخرج منه عند ذلك يجعل له لما مكن من السماع والبصر، وهو ما ذكر بقوله: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ)، عندما مكن لهم ذلك. وإن كان المراد: أنه لا يدري في حق المحل والمنزلة والقدر، فهو هكذا كان لا يدري

(53)

ما محل الإيمان وقدره عند اللَّه تعالى؟ حتى أدراه وأعلمه محله ومنزلته، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا) فإن كان المراد هو الإيمان فهو نور بالحجج والبرهان، وهو كما ذكر: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ). وإن كان المراد هو الكتاب، فهو نور لما يرفع جميع حُجب القلوب وسواترها عمن اتبعه ونظر إليه بعين التعظيم. وقوله: (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ) من علم أنه يختاره شاء أن يهديه. ثم قوله: (نَهْدِي بِهِ) يحتمل: القرآن. ويحتمل الإيمان نفسه؛ أي: يجعله بالإيمان مهتديًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). قوله: (لَتَهْدِي) يحتمل: لتدعو، أو لتبين لهم الصراط المستقيم، ثم فسره بقوله - تعالى -: (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... (53) لم يفهم من صراط اللَّه ما يفهم من صراط الخلق، أو صراط فلان، فكيف يفهم من مجيئه أو إتيانه ما يفهم من مجيء الخلق أو إتيانه، فهذا يدل أن لا كل ما أضيف إلى اللَّه - تعالى - يفهم منه ما يفهم مما يكون من الخلق، واللَّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ). يحتمل: ألا إلى اللَّه يرجع تدبير الأمور. ويحتمل: ألا إلى اللَّه تصير الأمور في الآخرة، وهو البعث، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة الزخرف

سُورَةُ الزُّخْرُفِ ذكر أن سُورَةَ الزُّخْرُفِ كلها مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2). قال قتادة: هو اسم السورة. وقال غيره: (حم) قضى ما هو كائن، وقد ذكرناه. وقوله: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ). قال قتادة: مبين بركته وهداه ورشده. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مبين بين الحلال والحرام، وما يؤتى وما يتقى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مبين بين الحق والباطل. وهو عندنا مبين بأنه من اللَّه - تعالى - ليس هو من تأليف البشر، ولا من توليدهم، ولكنه من اللَّه تعالى حيث عجزوا عن إتيان مثله، واللَّه الموفق. وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) كأنه يقول: جعلنا ذلك الكتاب عربيًّا لعلكم تعقلون. وقيل: (جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا) أي: أنزلناه قرآنًا عربيًّا. قيل: (جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا) أي: سميناه قرآنا، ليس أن جعله قرآنا، ولكن معناه: جعلناه عربيًّا، أي: نظمناه بالعربية؛ لتعقلوا، أو سميناه: قرآنا. ثم قوله - تعالى -: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يخرج على وجوه: أحدها: أي: أنزلناه عربيًّا على رجاء أن تعقلوا. والثاني: أنزلناه عربيًّا لتعقلوا، وذلك يرجع إلى قوم مخصوصين قد عقلوه وفهموه؛ إذ لم يعقلوه جميعًا، ولا يتصور أن ينزله ليعقلوه ولا يعقلوه، فإن ما أراد اللَّه - تعالى - يكون لا محالة، وما فعل ينفعل؛ قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ

(4)

لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). والثالث: أنزلناه عَرَبِيًّا لكي يلزمهم أن يعقلوه ويتبعوه؛ ليزول عذرهم والاحتجاج على اللَّه - تعالى - أنه كان على غير لساننا، واللَّه أعلم. وعلى هذا يخرج تأويل " لعل " في جميع القرآن أنه للتحقيق إذا كان من اللَّه تعالى. فَإِنْ قِيلَ: فعلى التأويل الأخير، كيف يخرج قوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، لا يستقيم أن يقال: لكي يلزمكم أن تفلحوا؟ قيل: معناه: لكي يلزمكم السبب الذي به تفلحون، وهو مباشرة الإيمان والطاعات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4). قوله: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ) يرجع إلى وجهين: أحدهما: أي: القرآن في أصل الكتاب، وبه أقول، وهو اللوح المحفوظ، وأم الشيء: أصله ويسمى أم القرى مكة؛ لهذا. والثاني: أي: القرآن في الكتب المتقدمة، فإن الأمهات سميت: أمهات؛ لتقدمها على الولد، وهو كقوله: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)، وقوله - تعالى -: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ). قال ابن عَبَّاسٍ: أي: هو أعلى الكتب وأحكمها وأعدلها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وصف كتابه بالعظمة والمنزلة والشرف عنده. وقوله: (حَكِيمٌ) يحتمل وجهين: أحدهما: حكيم بمعنى: محكم؛ كقوله - تعالى -: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)، أي: بالحجج والبراهين. والثاني: سماه: حكيمًا؛ لما جعل فيه من الحكمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) اختلف في الذكر: قَالَ بَعْضُهُمْ: القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرسول. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العذاب والعقوبة.

واختلف في قوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: أفنترك ونذر الذكر سدى (أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) أي: لأنكم كذا، ولأجل أنكم كذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أفنترك الوحي لا نأمركم بشيء، ولا ننهاكم عن شيء، ولا نرسل إليكم رسولا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَفَنَضْرِبُ) أي: أفنذهب عنكم بهذا القرآن سدى، لا تسألون، ولا تعاقبون على تكذيبكم إياه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ) أي: فيمسك عنكم فلا يذكركم (صَفْحًا) أي: إعراضًا؛ وهو قول الْقُتَبِيّ؛ يقول: صفحت عن فلان: أي: أعرضت عنه، وأصل ذلك أنك توليه صفحتك؛ يقال ضربت وأضربت عن فلان: أي: أمسكته. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَفَنَضْرِبُ) أي: مسكت؛ ضربت وأضربت، أي: مسكت. وقوله: (صَفْحًا) أي: ردًّا؛ يقال: سألني فلان حاجة فصفحته صفحًا؛ أي: رددته، واللَّه أعلم. وبعضه قريب من بعض. ثم الأصل عندنا أن الذكر يحتمل ما قالوا فيه من المعاني الثلاثة: القرآن، والرسول، والعذاب؛ لكن لا يحتمل قوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) أن يخرج على الابتداء على غير تقدم النوازل؛ لأنه لا يبتدأ بمثله. ثم النوازل يحتمل أن كان منهم قول يقولون: يا مُحَمَّد، لو كان ما تقوله أنت: إنه من عند اللَّه وإنك رسوله، فكيف أنزل الكتاب أو أرسل الرسول إلينا على علم منه أنا نكذبه ونرده ولا نقبله، ومن علم من الملوك في الشاهد أنه يكذب رسوله ولا يقبل، لا يبعث الرسول، فكيف بعثك رسولا إلينا، أو أنزله عليك، أو بعثك رسولا فكذبناه وكذبناك، ورددناه ورددناك، فلا يرفعه ويرفعك دون تركه فينا؟ فيقول اللَّه - تبارك وتعالى - جوابًا لهم وردًّا لقولهم: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) ويقول: إنا لا نترككم سدى وإن علمنا منكم التكذيب والرد للرسول والوحي، ولا يمنعنا ذلك عن إنزاله إليكم، وتركه فيكم، ولا يحملنا ذلك على رفعه من بينكم؛ بل نأمركم وتنهاكم وإن كنتم تكذبونه ولا تقبلونه؛ وهذا لما ذكرنا في غير موضع أن حرف الاستفهام من اللَّه -

تعالى - يخرج على الإيجاب والتحقيق. وقوله: (أَفَنَضْرِبُ) أي: لا نترك إنزاله وإرساله وإن علمنا منكم التكذيب، وهو كقوله - تعالى -: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا)، وقوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)، أي: لا يترك سدى، ولا تحسبون أنا إنما خلقناكم عبثًا، فعلى ذلك قوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) فإن كان الذكر هو القرآن أو الرسول، فالتأويل: أنه وإن علم منكم الرد والتكذيب، فلا يمنعه ذلك عن إنزاله عليكم، وبعثه رسولا إليكم، وإن أنكرتم وإن كذبتموه ورددتموه فلا يحمله ذلك على رفعه من بينكم بشرككم وكفركم، وهو كما ذكر في قوله: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ. وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، أي: إنا وإن علمنا من أوائلكم التكذيب للرسل والكتاب، فلا يمنعنا ذلك عن إنزاله عليكم وبعثه إليكم؛ فعلى ذلك أنتم وإن علمنا منكم تكذيب الرسول وكتابه، لا يمنعنا ذلك عن إرساله وإنزاله؛ ليلزمكم الحجة، أو لعل فيكم من يصدقه ويؤمن به، أو غيركم يؤمن به ويصدقه وإن كذبتم أنتم. هذا إن كان تأويل الذكر: رسولا أو كتابًا، وإن كان تأويل الذكر: العذاب، فيصير كأنه يقول: أفنترك تعذيبكم أو نمسك عنه ولا نعاقبكم وأنتم قوم مسرفون، أي: مشركون، على ما ذكر على إثره العذاب؛ حيث قال: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا) أي: قوة، معناه: عذبناهم بالتكذيب مع شدة بطشهم وقوتهم وأنتم دونهم لا تعذبون؟ بل تعذبون، والله أعلم. وعن قتادة يقول: لو أن هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة، لهلكوا، لكن اللَّه - تعالى بفضله ورحمته كرره عليهم، ودعاهم إليه كذا كذا سنة وما شاء اللَّه تعالى. وعن الحسن قال: لم يبعث اللَّه تعالى نبيًّا إلا أنزل عليه كتابًا، فإن قبله قومه وإلا رفع، فذلك قوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) لا تقبلونه، فتلقته قلوب بقية، فقالوا: قبلناه ربنا قبلناه، لو لم يفعلوا ذلك رفع، ولم يترك على ظهر الأرض منه شيء. ثم القراءة العامة (أَنْ كُنْتُمْ) منصوبة الألف بمعنى: إذ كنتم، ويقرأ - أيضًا - (إن كنتم) مكسورة على (إن) الشرط ومعناه: لا نتركه ولا نمسك عن إنزاله وإن كنتم قومًا مسرفين مشركين.

(6)

وقوله: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (7): فيه دعاء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى الصبر بما يعامله قومه؛ حيث ذكر له أن من أرسل من الرسل الذين كانوا قبله عاملهم قومهم من الاستهزاء بهم والأذى لهم مثل معاملة قومك إياك، فصبروا على ذلك، فاصبر أنت على أذى قومك إياك وسوء معاملتهم، واللَّه أعلم. وفيه أنه يرسل الرسول وإن علم منهم أنهم يكذبونه، وكذا ينزل الكتاب وإن علم منهم أنهم يردونه ولا يقبلونه؛ لأنه ليس يرسل الرسول ولا ينزل الكتب لمنفعة نفسه، ولا لدفع المضرة عن نفسه، ولكن إنما يرسل وينزل لمنفعتهم، ولدفع المضرة عن أنفسهم، فسواء عليه أن قبلوه أو ردوه، وليس كملوك الأرض إذا أرسلوا رسولا وكتابًا إلى من يعلمون أنهم يكذبون رسلهم ويردون كتابهم، يكونون سفهاء؛ لأنهم إنما يرسلون لحاجة أنفسهم؛ أو لدفع المضرة؛ فحيث لم يحصل غرضهم؛ بل يلحقهم بذلك ضرر وزيادة صدّ له واستخفاف، لم يكن ذلك حكمة، بل يكون سفهًا، فأمَّا اللَّه - سبحانه وتعالى - إذا لم يرسل وينزل لجرّ النفع ودفع الضرر؛ بل لإلزام الحجة وإزالة العذر، ونحو ذلك كان حكمة، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) فيه تحذير أُولَئِكَ الكفرة أن ينزل بهم بتكذيبهم الرسول، وسوء معاملتهم إياه، كما نزل بأُولَئِكَ الكفرة المتقدمين بتكذيبهم الرسل، وسوء معاملتهم إياهم، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا) يحتمل وجهين: أحدهما: أي: أهلكنا من كان أشد قوة وبطشًا من هَؤُلَاءِ، ثم لم يتهيأ لهم الامتناع لشدة قوتهم وبطشهم عما نزل بهم من العذاب، فعلى ذلك لو نزل لهَؤُلَاءِ لم يتهيأ لهم الامتناع مع ضعفهم. والثاني: أن يكون قوله: (أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا) وصف ذلك العذاب الذي نزل بهم؛ أي: ملك العذاب أشدّ منهم بطشًا؛ فلا يمتنع عمله؛ لبطشهم وفوتهم، أما إذا كان شدة العذاب وبطشه دون بطشهم ربما لا يعمل ولا يؤثر فيه؛ لذلك وصف العذاب بكونه أشد منهم بطشًا، وهو كقوله - تعالى -: (إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)، هذا يخرج على وجهين: أحدهما: (وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي: صار عذاب الأولين عبرة وعظة ومثلا للمتأخرين، كقوله: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ). والثاني: (وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي: مضى عذاب الأولين، وهو عذاب الاستئصال؛

(9)

فلا يعذب هذه الأمة بمثل عذابهم؛ لفضل نبينا مُحَمَّد - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - وبركته ورحمته وهو ما قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) بفضله ورحمته أبقى هذه الأمة إلى يوم القيامة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ). في قولهم وجوابهم: أن اللَّه خلق السماوات والأرض - دلالة أنهم قد عرفوا أنه رسول، لكن كذبوه عنادًا ومكابرة؛ لأن أهل مكة كانوا لا يؤمنون بالرسل حتى يزعموا أنا عرفنا أن اللَّه خلق السماوات والأرض بقولهم، وينكرون رسالته خاصة؛ بل ينكرون الرسل أجمع، ثم هم ما عرفوا أن اللَّه هو خلق السماوات والأرض إلا بالرسل؛ إذ هم ليسوا من الذين عادتهم الاستدلال والنظر في الدلائل؛ ليعرفوا اللَّه - تعالى - بالدلائل العقلية، والظاهر في العوام جملة المعرفة بالدلائل السمعية؛ فكان الظاهر هذا: أن معرفتهم: أن اللَّه خلق السماوات والأرض بقول الرسل - عليهم السلام - لكنهم كذبوه ولم يصدقوه عنادًا منهم ومكابرة، وما به عرفوا سائر الرسل من المعجزات موجود معاين في حق رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا بد أن يعرفوه رسولا، لكنهم كذبوه عنادًا؛ فدل أن قولهم هذا دليل على معرفتهم برسالته، واللَّه أعلم. ثم تمام الاحتجاج بهذا أن يقال لهم: قد عرفتم أن اللَّه هو خلق السماوات والأرض، فهلا عرفتم أنه لم يجعلهما عبثًا باطلا؛ إذ لو كان على ما يزعمون أن لا رسل ولا بعث ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب يكون خلقه إياهما عبثًا باطلا، فكان إقرارهم بخلقه إياهما إقرارًا لخلقه على وجه الحكمة، ولن يخرج خلقه على الحكمة إلا بالإقرار بالرسل والبعث والثواب والعقاب؛ على ما عرف غير مرة. أو أن يقال: فإذا عرفتم أن اللَّه - تعالى - هو خلق السماوات والأرض وما ذكر إلى آخره. . . فكيف أنكرتم قدرته على البعث والإعادة بعد الموت، والأعجوبة في خلق السماوات والأرض أعظم وأكثر من الأعجوبة في بعثكم وإعادتكم، فكيف أنكرتم ما هو

(10)

أقل في القدرة والأعجوبة؟ واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) جائز أن يكون ذكر هذا على سبيل النعت والوصف لله - تعالى عَزَّ وَجَلَّ - صلة لقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) الذي وصفه أنه جعل الأرض كذا وأنزل كذا. ويحتمل أن يكون أراد: ولئن سألتهم عن الأرض وما ذكر أنه من جعلها مهدًا؟ ومن جعل لهم فيها سبلا؟ فقالوا: اللَّه جعل ذلك على ما قالوا في السماوات والأرض. وفيه وجوه من الدلالة: أحدها: يذكرهم نعمه عليهم؛ حيث جعل هذه الأرض بحيث يمهدونها، ويفترشونها، وينتفعون بها بأنواع المنافع، وبحيث مكن لهم الوصول إلى حوائجهم التي فرقها في الأمكنة المتباعدة بما جعل لهم فيها سبلا وطرقًا يسلكون فيها ليصلوا إلى الحوائج التي فرقت في البلدان المتباعدة، ما لولا جعله فيها السبل والطرق التي جعل ما قدروا السلوك فيها، ولا عرفوا أنهم من أي جهة يصلون إلى حوائجهم التي فرقت؟ فيلزمهم بما ذكر القيام بشكره على تلك النعم. وفيه دلالة حكمته؛ ليدلهم أنه إنما جعل لهم ما ذكر لحكمة، لم يجعلها عبثًا باطلا؛ فيلزم حيث فرق حوائجهم في أمكنة متباعدة ثم مكن لهم الوصول إليها؛ ليعلم أن الذي ملك أنفسهم هو مالك أطراف الأرض؛ إذ لو كان هذا غير مالك ذلك، لمنعهم عن الوصول إلى حوائجهم. وفيه دلالة قدرته، حيث جعل لهم في الأرض ما ذكر من التسخير لهم، حتى ظهروها ويفترشوها ويسلكوا فيها السبل التي جعلها لهم إلى حيث أرادوها وقصدوها، ومكن لهم ذلك ليعلم أن من قدر على ما ذكر لا يعجزه شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11). فيما ذكر من إنزال الماء من السماء، ونشره في الأرض، وإنبات النبات فيها بذلك الماء دلالة من الوجوه التي ذكرنا في قوله: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) فإنه أنزل الماء من السماء؛ ليكون في الأرض أنواع النعم التي ذكر، وجعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما؛ ليعلموا أعظم نعمه عليهم، وليعلموا أن مالكهما واحد، وما

(12)

جعل في الماء من المعنى واللطف ما يوافق جميع النبات والثمار على اختلاف النبات والثمار واختلاف أجناسها وجواهرها؛ ليعلم أن من قدر على إحياء الأرض بذلك المعنى الذي جعل في الماء موافقته جميع النبات والثمار على اختلاف جواهرها وأجناسها - لا يحتمل أن يعجزه شيء من بعث أو غيره؛ إذ الأعجوبة فيما ذكر من إحياء الأرض بذلك الماء، وموافقة المعنى المجعول في الماء جميع ما ذكر - أعظم وأكثر من البعث؛ لأنه إعادة، وذلك ابتداء، فمن ملك وقدر على ما ذكر من الأشياء فهو على البعث أقدر وأملك؛ ولذلك قال اللَّه تعالى: (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) أي: تبعثون، واللَّه الموفق. وقوله: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) جائز أن يدخل فيما ذكر من خلق الأزواج كلها جميع ما يكون لها أزواج من مقابلات وأشكال؛ إذ التزاوج قد يقع ويستعمل في الأضداد والأشكال من الأفعال والجواهر من الكفر والإيمان، والطاعة والمعصية؛ فيكون في ذلك دلالة خلق أفعال العباد إذ أخبر أنه خلق الأزواج كلها، وبين هذه الأفعال ازدواج وإن كانت متضادة متقابلة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) فيه ما ذكرنا من الوجوه: أنه فرق حوائج الخلق في أمكنة بعيدة، وبينهم وبين أمكنة حوائجهم مفاوز وفيافي وبحار، فجعل لهم في المفاوز أنعامًا يركبونها؛ ليصلوا إلى حوائجهم، وفي البحار سفنًا ليركبوها؛ ليصلوا إلى حوائجهم التي في البحار؛ يذكرهم نعمه؛ ليتأدى بذلك شكرها، ويذكرهم قدرته أن من ملك هذا وقدر لا يعجزه شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) جعل ظهوره بحيث يستوون عليها ويقرون، وكان له أن يجعل ظهورها بحيث لا يستوون عليها ولا يقرون، وهذا من نعمة اللَّه تعالى عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) ثم نعمته تخرج على وجوه: ما ذلل لهم من الأنعام وسخرها لهم بقوتها وشدتها. أو جعل لهم أن يستعملوا الدواب وهي تتألم وتتلذذ كما تتألمون وتتلذذون، ثم جعلها متعة لهم، لا أن جعلوا لها. أو أن تكون نعمته التي أمرهم أن يذكروها: الإسلام والتوحيد، قولوا: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وتقولوا: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ). أو يأمرهم أن يذكروا ما أنشأ لهم من النعم العظيمة.

(14)

وقوله: (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: مطيقين؛ يقال: أنا لك مقرن: أي: مطيق، ويقال: أنا مقرن لهذا العمل، أي: أقوى عليه. وأصل هذا التأويل أن الدواب والأنعام في أنفسها أشد وأكثر قوة وأعظمها من البشر، لكن اللَّه - تعالى - بفضله ومنه علَّم الإنسانَ الحيلَ، حتى قدر على استعمال الدواب والأنعام مع قوتها وشدتها حيث شاءوا وسخرها لهم. ويحتمل أن يكون قوله: (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي: لم يجعلنا من قرن الدواب ومن قرنها بحيث نستعمل لما تستعمل الدواب، ونركب على الظهور؛ أي: لم يجعلنا من قرن الدواب ومن أشكالها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: يحتمل البعث؛ على ما قاله أهل التأويل. ويحتمل: وإنا إلى ما جعل لنا ربنا من الوصول إلى حوائجنا لمنقلبون بها وراجعون - واللَّه أعلم - وإنا إلى أوطاننا ومنازلنا راجعون بها ما لولا هي لم يتهيأ لنا الرجوع إلى ذلك، ولا الوصول إلى ما جعل لنا من الحوائج التي فرقت في الأمكنة المتباعدة، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا).

(16)

قال عامة أهل التأويل: أي: الكفرة جعلوا لله - تعالى - من عباده أنثى، أي: بنتًا. وقال الزجاج: (جُزْءًا) أي: بنتًا، وقال: إن الجزء عند بعض العرب البنت؛ لأن الكفرة قد اختلف أنواع كفرهم، وهم مختلفون في كفرهم؛ يقول الثنوية بالاثنين، يقولون: إن اللَّه - تعالى - هو خالق الخيرات، وخالق الشرور غيره؛ على حسب ما اختلفوا في ذلك الغير ما هو؟ فهَؤُلَاءِ الثنوية جعلوا لله - تعالى - من عباده جزءًا وهو الخيرات، ولم يجعلوا له الجزء الآخر، ومشركو العرب جعلوا له فيما رزقهم جزءًا لله - تعالى - وجزءًا لشركائهم؛ حيث قال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا)، فهَؤُلَاءِ جعلوا له جزءًا مما رزقهم، وهو الظاهر، وفريق آخر جعلوا له جزءًا من عباده وهو الإناث، ولم يجعلوا لله البنين، كقوله - تعالى -: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ)، فجعل الجزء له على ما ذكر أظهر مما ذكره أهل التأويل وصرفوه إليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي: كفور لنعمه (مُبِينٌ) أي: يبين كفرانه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) هو على الإضمار؛ كأنه يقول: أم يقولون: اتخذ مما يخلق بنات لنفسه وأصفاكم بالبنين، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ). ثم قوله - تعالى -: (أَمِ اتَّخَذَ) أي: قالوا: بل اتخذ مما يخلق بنات. يذكر في هذه الآيات سفه أهل مكة وشدة تعنتهم؛ لأنهم قوم لا يؤمنون بالرسل، وما ذكروا من اتخاذ الولد، وما ادعوا بأن الملائكة بنات اللَّه، وما أقروا حين سئلوا: مَن خلق السموات والأرض؟ أن اللَّه هو خالق ذلك كله مما لا سبيل إلى معرفة ما قالوا وادعوا إلا بالرسل، وهم ينكرون الرسل، فكيف ادعوا ما ادعوا وهم ينكرون خبرهم؛ لأن من ادعى ولدًا لغائب لا يعلمه إلا بخبر صادق، وكذلك معرفة الملائكة إنما هو بخبر يأتيهم، ثم هم ينكرون الأخبار والرسل؛ فتتناقض دعواهم وتضمحل، على ما ذكرنا. ثم أخبر عنهم ما يظهرون من الحزن عندما يولد لهم من الإناث، وما يلحقهم من الكراهة في ذلك بقوله - تعالى -: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17).

(18)

ثم قوله: (بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا) أي: شبهًا بالخلق، وأنه يخرج على وجهين: أحدهما: بما جعلوا له ولدًا، والولد هو شبيه الوالد؛ فكان في إثبات الولد إثبات المثل والشبيه. والثاني: في إثبات الولد له إثبات المشابهة بينه وبين جميع الخلق؛ لأن الخلق لا يخلو إما أن يكون مولودًا من آخر أو يولد آخر منه، وإما أن يكون له شريك فيما يملكه، أو يكون هو شريك غيره، فيكون البعض شبيهًا بالبعض، فمن أثبت لله شريكًا وولدًا فقد جعله شبيهًا بالخلق؛ ولهذا تبرأ اللَّه - تعالى - من الولد والشريك تبرؤًا واحدًا بقوله - تعالى -: (وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)، نفى الولد والشريك عن نفسه نفيًا واحدًا وبراءة واحدة، واللَّه الموفق. وقوله: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ) يحتمل أن يكون تفسيرًا لقوله: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا)، وعلى ذلك قول أهل التأويل: إنهم جعلوا هذه تفسيرًا للأولى. وجائز أن يكون لا على التفسير للأولى، ولكن على الابتداء في قوم آخرين سواهم، على ما ذكرنا نحن من التأويل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي الأصنام التي عبدوها، حلّوها وزينوها بأنواع الزينة والحليّ، يقول - واللَّه أعلم -: ولو حلي بالحليّ وزين بالزينة وهو لا يملك نفعًا، ولا ضرًّا، ولا تكلما، ولا خصومة، ولا شيئًا من ذلك، ولا يلتفت إليه، ولا يكترث له، لولا تلك الحلي والزينة التي بها في جعل العبادة له كمن منه خلق ما ذكر من السماوات والأرض وما فيها من المنافع، أي: ليس هذا بسواء لذلك، يذكر سفههم في اختيارهم الأصنام التي هذا وصفها في العبادة على عبادة اللَّه تعالى الذي منه كل شيء؛ يصبر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أذاهم وتكذيبهم إياه وسوء معاملتهم معه، واللَّه أعلم. وقال بعصهم: قوله: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) وهي الإناث؛ يقول - واللَّه أعلم -: إن الأنثى ضعيفة، قليلة الحيلة، وهي عند الخصومة والمحاورة غير مبينة؛ يصف عجزهن وضعفهن ونقصانهنّ، يقول - واللَّه أعلم -: كيف نسبوا إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ما هو أضعف وأعجز وأنقص فيما ذكر، وقد اتقوا هم منها، واختاروا لأنفسهم ما هو أكمل وأقوى وهم الذكور، وهو صلة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمِ

(19)

اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ. . .) إلى آخر ما ذكر، وكل حرف مما تقدم ذكره من قوله: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا) ونحو ذلك. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) يحتمل أن يرجع إلى معنى آخر غير المعنى فيما ذكر من الآيات، وكل حرف من هذه الحروف يرجع إلى فريق غير الفريق الآخر؛ لأنهم كانوا في المذاهب مختلفين متفرقين. وجائز أن يرجع الكل إلى معنى واحد، واللَّه أعلم. وفي هذه الآيات ما ذكرنا من الوجوه من تصبير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أذى القوم، ومن بيان سفه أُولَئِكَ، ومن التحذير لما تأخر منهم، واللَّه أعلم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) أي: يرى في الحلي، وهي البنات، يريد جعلهم بنات لله - تعالى - وهم إذا كان لأحدهم بنت (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)؛ أي: حزين، والخصام جمع: خصيم (غَيرُ مُبِينٍ) أي: غير مبين الحجة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) أي: ينشأ؛ كما يقال: ينشأ الصبي ينشأ، أي: يشب ويرتفع، والخصام: المخاصمة. وقال أبو معاذ: (يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) - واللَّه أعلم -: البنت، ويقرأ (يُنَشَّأُ) بالتشديد، و (يُنْشَأُ) بالتخفيف، وهما لغتان، وقرأ بعضهم: (يَنْشَأُ في الحلية)، والله أعلم. وقوله - عز رجل -: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) فَإِنْ قِيلَ: كيف سفههم في جعلهم عباد الرحمن إناثًا، وقد جعل اللَّه من عباده إناثًا، لماذا عاتبهم على ذلك؟ قيل: عن هذا وجهان: أحدهما: إنما سفههم وعاتبهم؛ لشهادتهم على اللَّه - سبحانه وتعالى - أنه جعل الملائكة إناثًا، وهم لم يشاهدوها، ولا يؤمنون بالرسل - عليهم السلام - حتى يقع لهم العلم والخبر بذلك بقول الرسل، واللَّه أعلم. والثاني: أن اللَّه - تعالى - وصف ملائكته بأنهم لا يفترون عن عبادته، وأنهم لا يستحسرون، وأنهم مطيعون لله - تعالى - على الدوام بحيث لا يرد منهم عصيان طرفة عين؛ على ما نطق بذلك الكتاب، فهم إذا قالوا: إنهم إناث، وصفوهم بالضعف والعجز، فلا يتهيأ لهنّ القيام بما ذكر، واللَّه أعلم.

(20)

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا)، وقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ)، وقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ)، - ليس على حقيقة الجعل، ولكن على الوصف له والقول؛ أي: قالوا: إن الملائكة بنات اللَّه، ووصفوا لهم بما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) تعلق المعتزلة بظاهر هذه الآية في أن اللهَ تعالى - لم يشأ الكفر من الكافر، وإنما شاء الإيمان، فإن الكفار ادعوا أن اللَّه - تعالى - شاء منهم الكفر، وما شاء منهم ترك عبادة الأصنام؛ حيث قالوا: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) أي: لو شاء منا ترك عبادة الأصنام لتركناها، ولكن شاء منا عبادة الأصنام، واللَّه - تعالى - رد عليهم قولهم واعتقادهم فقال: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)، أي: ما هم إلا يكذبون. وعندنا الآية تخرج على وجوه: أحدها: أنهم في قولهم: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) صدقة؛ فإن معناه: لو شاء منهم تركهم عبادة الأصنام ما عبدوها، ولكن شاء أن يعبدوها فعبدوها؛ فيكون هذا منهم إخبارًا عن المخبر به على ما هو؛ فيكون صدقًا. ثم قوله - تعالى -: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يحتمل: إنما سماهم كذلك لما قالت المعتزلة: إنهم ادعوا وأخبروا أن الكفر بمشيئة اللَّه - تعالى - وأنه شاء منهم الكفر دون الإيمان، فاللَّه - تعالى - شاء منهم الإيمان دون الكفر، فقد أخبروا على خلاف المخبر به؛ فيكونون كاذبين. ويحتمل أنهم قالوا ذلك وفي قلوبهم بخلاف ما أخبروا، وهو أن الكفر ليس مما شاء اللَّه - تعالى - وإنما شاء الإيمان كما تقوله المعتزلة، ولكن يقولون ذلك ردًّا على المسلمين الذين يدعونهم إلى الإيمان والرجوع عن الكفر: إنه إذا كان شاء منا الكفر دون الإيمان كيف نؤمن ونترك الكفر؟ والإخبار عما هو به وإن كان صدقًا، ولكن إذا كان في قلب المخبر واعتقاده خلاف ذلك فيكون ذلك الإخبار في نفسه صدقًا، لكن من حيث إنه إخبار عما في الضمير يكون كذبًا، وهذا كقول اللَّه - تعالى -: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، وهم في قولهم: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) صدقة، لكن في إخبارهم عما في ضميرهم كذبة؛ لما لا يوافق ظاهر كلامهم حقيقة ما في قلوبهم، فيرجع تكذيب اللَّه - تعالى - إياهم لكذب قلوبهم، وإن كانوا في نفس قولهم: (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) صدقة، وإذا

احتمل الوجهين فلا تكون الآية حجة لهم مع الاحتمال، وعلى الوجهين جميعًا يكونون كاذبين؛ لذلك قال: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)، واللَّه أعلم. والثاني: أنهم وإن كانوا صادقين في ذلك فهم ربما قالوا ذلك على الاستهزاء والسخرية، لا على الجد؛ فيكون قصدهم تلبيس الصدق على الناس ورده، كقوله - عز وجل -: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا)، وهذا القول من هذا الإنسان حق وصدق، لكن إنما قال ذلك استهزاء منه وإنكارًا للبعث؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - وعظه على ذلك وذكره، حيث قال: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا)، فعلى ذلك قول أُولَئِكَ وإن كان في الظاهر صدقًا فهم إنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية على سبيل الإنكار وتلبيس الحق؛ فيكون إخبارهم من هذا الوجه ولهذا الغرض خرصًا وكذبًا، واللَّه أعلم. والثالث: غرضهم بذلك الاحتجاج على المسلمين في توعيدهم بالعذاب بسبب العناد والكفران كيف نعذب وإنما باشرنا الكفر بمشيئته، ولو شاء أن نترك العبادة للأصنام تركنا فإذا كان شاء منا الكفر حتى كفرنا لماذا عاقبنا؟ فأبطل احتجاجهم بقوله - تعالى -: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي: هم جاهلون في الاحتجاج بهذا، كاذبون في أنهم باشروا الكفر بسبب مشيئة اللَّه - تعالى - إياهم الكفر، ولكن لسوء اختيارهم، وأسباب حاملة لهم على ذلك، وأصله: أن لا أحد من العصاة والفسقة والكفرة يفعل وعنده أن اللَّه - تعالى - شاء ذلك منهم، فإذا كان وقت فعله لا يفعل ما يفعل؛ لأن الله تعالى شاء ذلك منه لم يكن له هذا الاحتجاج والقول الذي قالوا، واللَّه الموفق. والرابع: يحتمل أنهم يقولون: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)، وقولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، أي: لو أمرنا اللَّه - تعالى - بترك عبادتنا أُولَئِكَ الأصنام ما عبدناهم، لكن أمرنا أن نعبدهم، كانوا يدعون أنما يعبدون لأمر من اللَّه - تعالى - كقوله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا). أو أرادوا بالمشيئة: الرضا؛ يقولون: لولا أن اللَّه - تعالى - قد رضي بذلك عنا وعن آبائنا، وإلا ما تركنا وهم على ذلك؛ فاستدلوا بتركهم على ما اختاروا على أن اللَّه - تعالى - قد رضي بذلك عنهم، فردّ اللَّه - سبحانه وتعالى - بقوله: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) وبقوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ. . .) الآية، وقد ذكرناه على الاستقصاء في قوله - تعالى -: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا. . .) الآية، واللَّه أعلم.

(21)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) أي: لم نؤتهم كتابًا ليكون لهم العلم بذلك؛ يسفههم في قولهم؛ لأنهم قوم لا يؤمنون ولا يصدقون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) إنهم قوم ينكرون الرسل، ويكذبونهم بعلة أنهم بشر، ثم اقتدوا بآبائهم واتبعوهم وهم بشر أيضًا، فهذا تناقض في القول؛ يذكر سفههم وتناقضهم في القول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) يصبِّر رسوله على ما قال هَؤُلَاءِ: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ): أنه ليس ببديع من هَؤُلَاءِ؛ بل قال أوائلهم لرسلهم على ما قال قومك؛ يصبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويعزيه، ويذكر سفههم في اتباعهم إياهم واقتدائهم بهم وهم بشر، فيقول: فإذا كنتم لا محالة تتبعون البشر فاتبعوا أمر من هم أهدى من آبائكم، وهم الرسل، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ... (24) قالوا عند ذلك: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) عنادًا وتعنتًا منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: قل يا مُحَمَّد: (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) أي: إن جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم من الدِّين، أفتتبعونني فيما جئتكم؟ فردوا عليه وقالوا: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) هذا وعيد. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) يقول: هو رجوع إلى ذكر الأمم الخالية، فقال: فانتقمنا منهم بالعذاب الذي نزل. ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) وذلك جائز. وقوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) يحتمل: مكذبي الرسل. ويحتمل: مكذبي العذاب. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ

(26)

ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35). وقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ... (27) والإشكال: أنه - عليه السلام - تبرأ من عبادة جميع ما يعبدون، واستثنى عبادة الذي فطره وهو اللَّه - تعالى - وهم لا يعبدون الذي فطره، فكيف يستثنى من جملة عبادة من يعبدون، والاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه. فنقول: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه تبرأ من عبادة من عبدوا واستثنى عبادة من فطره؛ لأن فيهم من عبد الذي فطره، وهو اللَّه - تعالى - فلو تبرأ من عبادة جميع ما يعبدون على الإطلاق لصار متبرئًا عن عبادة اللَّه - تعالى - لذلك استثنى عبادة اللَّه، واللَّه أعلم. لكن الإشكال أنه لم يظهر أن في قومه من يعبد اللَّه - تعالى - وهو الذي فطره وخلقه، فما معنى الاستثناء، فيقال: إنه لم يكن في قومه من يعبد الذي فطره، فكان في آبائهم وأوائلهم من يعبد الذي فطرهم، فيرجع استثناؤه إلى ذلك، واللَّه أعلم. ويحتمل أنه إنما استثنى الذي فطره على طريق الاحتياط؛ لاحتمال أن يكون فيهم من يعبد اللَّه - تعالى - ولا وقوف له على ذلك فيصير متبرئًا من ذلك لو تبرأ ممن يعبدون جميعًا، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون استثنى الذي فطره؛ لأنهم كانوا يعبدون هذه الأصنام والأوثان دون اللَّه - تعالى - رجاء أن تشفع لهم فتقربهم إلى اللَّه زلفى؛ لقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، فرجع استثناؤه إلى حقيقة الذي قصدوا بالعبادة، وهو الذي فطرهم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون هذا استثناء منقطعًا وهو الاستثناء بخلاف الجنس بمعنى لكن، معناه: إني براء مما تعبدون، ولكن أعبد الذي فطرني، وذلك جائز في اللغة؛ كقوله - تعالى -: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ)، أي: ولكن تجارة عن تراض؛ لأنه لا يجوز أن يستثنى التجارة عن تراض من الباطل، ولا السلام من اللغو، ونحو ذلك كثير، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) ذكر أن هذا الحرف (بَرَاءٌ) على ميزان واحد في الوحدان والتثنية والجمع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: سيثبتني على الهدى.

(28)

والثاني: أي: فإنه سيهديني في حادث الوقت، والهدى مما يتجدد، فينصرف إلى إرادة حقيقة الهدى. فعلى هذين الوجهين يخرج على التوفيق إلى الهدى، والعصمة عن ضده في المستقبل، ولا يحتمل أن يريد بهذا الهدى البيان بأن يقول: فإنه سيبين لي؛ لأنه قد بين له جميع ما يقع له الحاجة إليه، فلا يحتمل أن يسأل البيان، ولا يحتمل الأمر - أيضًا - فإنه قد تقدم الأمر به، ويرجع إلى حقيقة الهدى، أو إلى التوفيق والعصمة، ويكون في الآية دلالة على أن عند اللَّه - تعالى - لطفًا، وهو ما ذكرنا: أنه من أعطى ذلك يصير مهتديًا، وأنه لم يعط الكفرة ذلك، ولو أعطاهم لآمنوا. وقوله: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: الكلمة الباقية هي كلمة الهداية والتوحيد، فإنه سأل أن يجعل ما وجد منه من التبري من غير اللَّه - تعالى - وتحقيق عبادة اللَّه - تعالى - بقوله: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) كلمة باقية، وأنه كلمة التوحيد، فإن قوله: " لا إله "، نفي غير اللَّه، وقوله: " إلا اللَّه "، إثبات ألوهية اللَّه - تعالى - وذلك معنى قوله: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) وهو كقوله - تعالى -: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. . .) الآية، وأجاب اللَّه - تعالى - سؤاله في دعائه، فلم يزل في ذرية إبراهيم وعقبه من يقولها، وذلك قوله - تعالى -: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). والثاني: الكلمة الباقية: هي كلمة الدعوة إلى الهدى والتوحيد، وهي عبارة عن إبقاء النبوة والخلافة في ذريته إلى يوم القيامة، وهو ما قال: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أخبر أن الظالم من ذريته لا ينال عهده، فأما من لم يكن ظالمًا فإنه ينال عهده، وقد استجاب اللَّه دعاءه، فلم يزل الدعوة في ذريته والنبوة في خلفائهم إلى يوم القيامة؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) أخبر أنه متعهم وآباءهم في مكان لا نبات فيه، ولا زرع، ولا ماء، سخر الناس وحملهم على أن يحملوا إليهم الطعام، والأغذية، وأنواع الفواكه من الأمكنة البعيدة، ويجلبون إليهم ما ذكرنا، فذلك ما ذكر من تمتيعه إياهم.

(30)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَاءَهُمُ الْحَقُّ) أي: القرآن (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بين أنه من عند اللَّه - تعالى - جاء، وأنه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) لم تزل كانت عادة رؤساء الكفرة والأشراف منهم التكلم بهذه الكلمة عند نزول الآيات والمعجزات؛ يريدون بذلك التمويه على أتباعهم والتلبيس، فعلى ذلك قول هَؤُلَاءِ: (هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) ظن هَؤُلَاءِ أنه لما وسع عليهم الدنيا، وأنعم عليهم، وأعطى لهم الأموال إنما أعطوا ذلك ووسع عليهم لكرامة لهم عند اللَّه - تعالى - وفضل وقدر لديه، ومن ضيق عليه الدنيا ولم يعط ذلك إنما ضيق عليه ومنع لهوانه عنده، فقالوا عند ادعاء مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الرسالة ونزول القرآن عليه من اللَّه - تعالى -: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وظنوا أن من عظم قدره ومنزلته عند الخلق بما وسع عليه وأعطي من الأموال هو عند اللَّه كذلك، قالوا: لو كان ما يقول مُحَمَّد حقًّا: إن هذا القرآن إنما أنزل من عند اللَّه، هلا أنزل على رجل من القريتين عظيم؟ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه لم يوسع الدنيا على من وسع لفضل منزلته وقدره عنده، وعلى من ضيق إنما ضيق لهوان له عنده، لكن رب مضيق عليه مكرم عظيم عند اللَّه، ورب موسع عليه يكون مهانًا عنده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) هو يخرج على وجهين: أحدهما: أي: إنهم لا يملكون قسمها على تدبير ما أنشئوا، وعلى تقدير ما خلقوا، وهي ما ذكر من المعاش وأسباب الرزق من التوسيع والتفضيل، فالذي لم يجعل إليهم في ذلك شيء من تدبيره وتقديره أحق وأولى ألا يملكوا قسم ذلك بينهم واختياره، وهو النبوة والرسالة، ووضعها حيث شاءوا؛ هذا أحد التأويلين. ثم قوله - تعالى -: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) دلالة في خلق أفعال الخلق؛ لأن التفضيل والتوسيع في الرزق والمعيشة إنما يكون باكتساب يكون منهم، وأسباب جعلت لهم، ثم أخبر أنه هو يقسم ذلك، دل ذلك على أنه هو منشئ أكسابهم، وخالق أفعالهم، وأن له في ذلك تدبيرًا؛ لأنا نرى من هو أعلم وأقدر على أسباب الرزق كانت الدنيا عليه أضيق، ومن هو دونه في تلك الأسباب والاكتساب كانت عليه أوسع؛ دل ذلك على أنه لو كان على تدبيرهم خاصة، لكانت تكون هي أوسع على من هو أجمع لأسبابها واكتسابها، وأقدر على ذلك، وتكون أضيق على من ليست له تلك الأسباب.

(33)

ثم قال جعفر بن حرب للخروج عن هذا الإلزام: إنما وسع على من وسع؛ لأن التوسيع له أصلح وأخير، وضيق على من ضيق؛ لأن التضييق له أصلح وأخير في الدِّين؛ فيقال: لو كان التوسيع والتضييق لأجل الأصلح لهم في الدِّين والأخير، لم يكن ما ذكر من رفع بعض على بعض وتفضيل بعض على بعض في الرزق معنى، وقد أخبر أنه رفع بعضهم على بعض درجات، ولو كان الكل في ذلك سواء، لا يكون لبعض على بعض في ذلك فضل ولا درجة، ولأنه لو كانوا على ما يقولون هم: إنه يعطي كُلَّا ما هو الأصلح في الدِّين وأخير لهم في ذلك، فهَؤُلَاءِ الفراعنة منهم والرؤساء لو لم يكن لهم تلك السعة وتلك الأموال لا يتهيأ لهم فعل ما فعلوا ومنع الناس عن اتباع رسل اللَّه - عليهم السلام - وعلى ذلك فرعون إنما ادعى لنفسه الألوهية بما أعطي له من الملك والسعة ما لو لم يكن له ذلك لم يدع ذلك، وكان ذلك أصلح في الدِّين؛ فدل أن اللَّه تعالى قد يترك ما هو الأصلح لهم في الدِّين، وأن ليس عليه حفظ الأصلح لهم في الدِّين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا). قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (سِخْرِيًّا) -بكسر السين-: الاستهزاء، وتأويله: أنه علم منهم أن بعضهم يستهزئ ببعض، ويهزأ بعضهم بعضًا، أعطى ذلك لهم؛ ليكون منهم ما علم منهم من الهزء والسخرية، لا أن يكون يرفع بعضهم على بعض؛ ليأمر بما علم أنه يكون منهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). يحتمل قوله: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ): النبوة؛ أي: ما اختار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الرسالة والنبوة خير مما يجمع أُولَئِكَ الكفرة. ويحتمل: ما يدعوهم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويختار لهم من التوحيد والدِّين خير مما يجمعون هم من الأموال. ويحتمل: ما وعد لأهل الإيمان من الثواب والكرامة بإيمانهم -وهو الجنة- خير مما يجمعون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) أي: لولا أن يصير الناس كلهم على ملة واحدة - وهو دين الكفر - وإلا لجعلنا للكفار ما ذكرنا. في الآية دلالة التزهيد في الدنيا؛ لأنه ذكر أنه أعطى الكفار ما ذكر، لولا رعاية قلوب

ضعفة الإيمان، حتى لا يتحولوا إلى دين الكفر، فما منع الكافر ما منع إنما منع بسبب المؤمن، فيجب أن يزهد فيها. وفي الآية دلالة جوده وكرمه؛ حيث لم يمنع من عادى أولياءه وعاداه نعيم الدنيا، وفي الشاهد أن من عادى آخر يمنعه ذلك ما عنده من الفضل والمال. وفيها دلالة هوان الدنيا على اللَّه - تعالى - على ما ذكره أهل التأويل؛ إذ لو كان لها عنده خطر وقدر لم يعط الكافر منها جناح بعوضة أو جناح ذبابة؛ فدل ذلك على هوانها على اللَّه تعالى. وفيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ حيث قالوا: ليس على اللَّه أن يفعل بعباده إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين؛ لأنه أخبر - تعالى - أنه لولا ما يختار أهل الإيمان الكفر والدخول فيه وإلا جعل لأهل الكفر ما ذكر من جعل النعم، فلو كان الأصلح واجبًا في الدنيا لكان يجب أن يعطي لأهل الإيمان مثل ذلك الذي ذكر أنه لو أعطى لأهل الكفر فيكونون جميعًا أهل كفر، وإذا أعطى ذلك لأهل الإيمان لا يكونون جميعًا أهل الإيمان، وهو الأصلح في الدِّين، ومع ذلك لم يعط - دل أنه ليس على اللَّه - تعالى - حفظ الأصلح لهم في الدِّين، ولا حفظ الأخير، واللَّه الموفق. والأصل في قوله - تعالى -: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ. . .) الآية أنهم خيروا في هذه الدنيا أن يختاروا النعم الدائمة، أو اللذة الفانية، والنعمة الزائلة المنقطعة، فمن اختار وآثر النعيم الدائم واللذة الباقية على النعمة الزائلة واللذة الفانية، ضيق عليهم النعم الزائلة واللذة الفانية؛ لما آثر واختار الباقية على الفانية، ومن آثر الفانية الزائلة على الباقية الدائمة وسع عليه الفانية لما اختار وآثر وهو ما ذكر في قوله - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. . .) الآية. بين لكل ما اختار وآثر من النعم الفانية والدائمة، وذكر الفضة والذهب وإن كانت أشياء أخر قد تكون أرفع وأعظم قدرًا منها؛ لأن هذين هما أعز الأشياء عندهم، وبهما يوصل إلى كل رفيع وعظيم، واللَّه أعلم. ثم ما ذكر من جعل السقف والمعارج من الفضة، وما ذكر من الزخرف هو رد ما قاله فرعون في حق موسى - عليه السلام -: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)، أي: لخساسة الدنيا، وهو أنها لم يعط لأوليائه والأخيار من عباده، ولولا ما يكون من ترك أهل الإيمان وإلا لكان في حق كل كافر مثل ما

(35)

فعل في حق فرعون وأمثاله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) أي: كل ما ذكر ليس إلا متاع الحياة الدنيا، أعطى من آثره على نعيم الآخرة والعاقبة للمتقين كما اختاروها على غيرها، واللَّه المستعان. قَالَ الْقُتَبِيُّ: المعارج: الدرج؛ يقال: عرج: أي: صعد، ومنه المعراج؛ لأنه سبب إلى السماء أو طرف، (عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) أي: يعلون؛ ظهرت على البيت: إذا علوت سطحه، والزخرف الذهب، وكذا قول أبي عَوْسَجَةَ: المعارج: المصاعد، والمعراج: الصعود، والزخرف: كل شيء حسن، والزخرفة: التحسين والتزيين. وهذا أشبه؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ). أي: زينتها وحسنها، والسُّقُفُ: جمع السَّقْفِ، وهو سمك البيت. * * * قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (يَعْشُ) أي: يعرض عن ذكر الرحمن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَعْشُ) أي: يعمى بصره، ويضعف عن ذكر الرحمن؛ أي: يعمى عنه ولا يقبله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عشى يعشو من عمى البصر وضعفه، وعشى يعشى من الإعراض. وقال أبو عبيدة: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) أي: يظلم بصره. وقال الفراء: (وَمَنْ يَعْشُ) أي: يعرض عنه، (وَمَنْ يَعْشَ) بنصب الشين أي: يعمى

(37)

عنه. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يَعْشُ) أي: يجاوز، وإن شئت جعلته من العشى، وهو ظلمة البصر، وإن شئت جعلته من التعاشي، وهو التعامي، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ): القرآن. ويحتمل: التوحيد والإيمان. ويحتمل: رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: نقيض: نقدر، والتقييض: التقدير؛ يقال: قيض اللَّه لك خيرًا، أي: قدره، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نقيض: أي: نهيئ له شيطانًا ويضم إليه (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)، والأصل في ذلك أن من آثر معصية اللَّه واختارها على طاعته كانت لذته وشهوته في ذلك، فالشيطان حيث اختار معصية اللَّه على طاعته صارت لذته في ذلك، وعلى ذلك من اتبعه فيما دعاه، وأجابه إلى ما دعاه إليه صارت لذته في ذلك، قارنه ولازمه في ذلك ليكونا جميعًا في ذلك في الدنيا والآخرة؛ على ما ذكر في آية أخرى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ... (37) السبيل المطلق هو سبيل اللَّه، والدِّين المطلق هو دين اللَّه، والكتاب المطلق هو كتاب اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) كانوا يحسبون أنهم مهتدون؛ لأن الشياطين كانوا يزينون لهم ويقولون: إن الذي أنتم عليه هو دين آبائكم وأجدادكم، ولو كانوا على باطل لا على حق ما تركوا على ذلك، ولكن أهلكوا واستؤصلوا، فإذ لم يهلكوا وتركوا على ذلك ظهر أنهم كانوا على الحق والهدى؛ كانوا يموهون لهم ويزينون كذلك، وظنوا أنهم على الهدى كما يقول لهم الشيطان، واللَّه الهادي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا [جَاءَانَا] (¬1) ... (38) أي: الكافر وقرينه في الآخرة (قَالَ) الكافر (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) يحتمل أن يقول في الآخرة: يا ليت كان بينك وبيني في الدنيا بعد المشرقين؛ حتى لم أكن أراك ولم أتبعك. ويحتمل أن يقول: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين في الآخرة. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: ما بين مشرق الصيف إلى مشرق الشتاء. ¬

_ (¬1) قال السمين: قوله: {إِذَا جَآءَنَا}: قرأ أبو عمروٍ والأخوان وحفصٌ «جاءنا» بإسنادِ الفعلِ إلى ضميرٍ مفردٍ يعودُ على لفظ «مَنْ» وهو العاشي، وحينئذٍ يكونُ هذا ممَّا حُمِل فيه على اللفظ ثم على المعنى، ثم على اللفظ، فإنَّه حُمِلَ أولاً على لفظِها في قوله: «نُقَيِّضْ له» «فهو له»، ثم جُمِع على معناها في قوله: «وإنَّهم ليَصُدُّونهم» و «يَحْسَبون أنهم»، ثم رَجَعَ إلى لفظِها في قوله: «جاءنا»، والباقون «جاءانا» مُسْنداً إلى ضميرِ تثنيةٍ، وهما العاشي وقَرينُه. (الدر المصون. 9/ 589) اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

(39)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحتمل: أي: بعد المشرق والمغرب، لكن ذكر باسم أحدهما، كما يقال: عمرين، وأسودين؛ سماهما باسم واحدهما؛ لأن الأسود منهما واحدة، وهي الحية دون العقرب، والمراد من عمرين: أبو بكر وعمر، فعلى ذلك قوله: (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ). وقوله: (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) حيث ألجأه وألقاه في النار والإهلاك؛ لما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ ... (39) أي: لا ينفعكم في الآخرة الاعتذار (إِذْ ظَلَمْتُمْ) في الدنيا؛ أي: وضعتموها غير مواضعها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) ظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) ولا يملك هداية من كان في ضلال مبين. ثم معلوم أنه لم يرد بالهدى هداية البيان، ولا إسماع الآذان؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يملك ذلك كله، وقد فعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولكنه أراد الهداية التي لا يملكها إلا هو، والإسماع الذي لا يملكه غيره، وهو التوفيق والعصمة والرشد الذي إذا أعطي من أعطي اهتدى؛ يذكر عجز رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، وهو على المعتزلة؛ لأنه أخبر أن عنده لطائف وأشياء لم يعطها كل أحد، إنما أعطى بعضها دون بعضٍ، فمن أعطاه تلك اللطائف اهتدى، وهو ما ذكرنا من التوفيق والعصمة، وعلى قولهم ليس عند اللَّه شيء يملك به هدايتهم؛ لأنهم يقولون: قد أعطى كل كافر ما لو أراد الكافر أن يهتدي يصير مهتديًا بذلك، ولم يبق عنده شيء يملك بذلك هدايتهم؛ فعلى قولهم عجزه - تعالى - عن ذلك كعجز رسول اللَّه عن ذلك، وهو إنما ذكر ذلك إعلامًا أنه هو المالك لذلك دون عباده، ومعلوم أنه إنما ذكر على الربوبية والألوهية له في ذلك، واللَّه الموفق. وجائز أن يكون قوله - تعالى -: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) إنما ذكر لإياس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن إيمان قوم علم اللَّه - تعالى - أنهم لا يؤمنون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فيه دلالة منع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن سؤال إنزال العذاب الموعود لهم عليهم، ثم المنع فيه من وجهين: أحدهما: النهي عن سؤال بيان الوقت أن يسأل متى ينزله عليهم؟

(43)

والثاني: النهي عن استعجاله؛ كقوله: (وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)، كأنه يقول: ليس ذلك إليك، إنما ذلك إليَّ: إن شئت أنزلت في حياتك وأريتك ذلك، وإن شئت أمتك ولم أرك شيئًا من ذلك، وهو كما قال: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. . .) الآية. وقال قتادة في ذلك: إن اللَّه - تعالى - أذهب نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأبقى النقمة بعده، ولم يره في أمته إلا الذي تقر به عينه، وليس نبي أو رسول إلا وقد رأى في أمته العقوبة غير نبيكم، عافاه اللَّه - تعالى - عن ذلك، ولا أراه إلا ما يقر به عينه، قال: وذكر لنا أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أري الذي تلقى أمته من بعده، فما زال إلا منقبضًا ما استشاط ضحكًا حتى لحق بالله تعالى. وقال الحسن قريبًا من قول قتادة في قوله - تعالى -: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) قال: أكرم اللَّه - تعالى - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يريه في أمته ما يكره، ورفعه اللَّه - تعالى - وبقيت النقمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) الوحي إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من وجوه ثلاثة: أحدها: القرآن، وهو الظاهر من الوحي إليه. والثاني: وحي بيان، يبين للناس ما لهم وما لله عليهم، وما لبعضهم على بعض على لسان الملك جبريل أو غيره؛ على ما أراد اللَّه تعالى. والثالث: وحي إلهام وإفهام، كقوله - تعالى -: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، وما أراه اللَّه - تعالى - هو ما ألهمه وأفهمه أمره - عَزَّ وَجَلَّ - بالتمسك على أنواع ما أوحي إليه ما هو قرآن وما هو بيان، وما هو إفهام، وأراه وآمنه أن يزيغ أو يزل أو يعدل عن الصواب في ذلك كله، ويبشره في ذلك كله أنك لو تمسكت بجميع ما أوحي إليك كنت على صراط مستقيم؛ حيث قال: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) جائز أن يكون المراد بالذكر جميع أنواع ما أوحي إليه؛ فإن قوله: (وَإِنَّهُ) كناية عن قوله: (بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) أي: جميع ما

(45)

أوحي إليه شرف له ولقومه؛ لما اختصه واختاره بذلك من بين غيرهم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون المراد من الذكر حقيقة الذكر؛ أي: ما أوحي إليه ذكر له ولقومه، يذكر لهم ما لله عليهم وما لبعضهم على بعض، واللَّه أعلم. وقوله: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) يحتمل: وسوف تسألون بشكر ما أوحي إليك، وأن يصير ما أوحي إليك ذكرًا لك ولقومك، وعن القيام بشكر ذلك. ويحتمل: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) القيام بأوامر جميع القرآن وفيما أوحي إليه. ويحتمل: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) مَن كذبه؟ على ما يقول بعض أهل التأويل. أو (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) أشكرتم تلك النعمة أم لا؟ ويحتمل (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) يوم القيامة عن القرآن هل عملتم بما فيه؟ واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) والإشكال: أن ما كان عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من آيات صدقه أظهر من أمره أن يسأل من أهل الكتاب؛ إذ آيات صدقه معجزات عجزت الكفرة عن إتيان مثلها، وليس مع من أمره بالسؤال عن ذلك آيات المعجزات، فما معنى السؤال له من أهل الكتاب عن ذلك؟ فنقول: أمره - عَزَّ وَجَلَّ - إياه بالسؤال عنهم يخرج على وجهين: أحدهما: يسألهم سؤال توبيخ وتعيير، وسؤال تقرير وتنبيه: هل أتى رسول من الرسل - عليهم السلام - الذين أرسلوا من قبلك أو كتاب بالأمر بعبادة غير اللَّه؟ فيقرون جميعًا أنه لم يأت رسول بإباحة ذلك، ولا أمر أحد منهم بذلك. والثاني: أن هذا أمر لغيره أن يسألهم، وإن كان ظاهر الأمر والخطاب له؛ لما ذكرنا أن

(46)

أدلة صدقه أظهر من دلالة صدق أُولَئِكَ، وهو كقوله: (يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ. . .) إلى قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، وكقوله: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)، و (الْمُشْرِكِينَ)؛ إذ معلوم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يشك ولا يمتري في شيء من ذلك، فرجع الخطاب إلى غير ما ذكرنا. ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا. . .) الآية؛ أي: لو سألتهم عن ذلك لقالوا جميعًا: لم يرسل بأمر بعبادة غير اللَّه - تعالى - واللَّه أعلم. وحكاية على هذا -وليس من نسخة الأصل- سمعت مفسرًا ببخارى يقول: نزلت هذه الآية ليلة المعراج ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما دخل بيت المقدس رأى الرسل والأنبياء - عليهم السلام - مجتمعين، ثم تقدم وصلى بهم ركعتين، فقام جبريل - عليه السلام - من الصف وقال: يا مُحَمَّد (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ ... (46) قد ذكرنا آيات موسى - عليه السلام - التي أتى بها في غير موضع، وفيه الأمر بتبليغ الرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وفيه أن التقية لا تسع للرسل - عليهم السلام - في ترك تبليغ الرسالة وإن خافوا على أنفسهم الهلاك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) هكذا عادة الفراعنة والرؤساء من الكفرة أنهم إذا أتاهم الرسل بالآيات ضحكوا منهم، واستهزءوا بهم؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. . .) الآية. وقوله: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن كل آية تأخرت عن الآية الأخرى فهي أعظم وأكبر من التي تقدمت؛ نحو ما كان منهم من الاستعانة؛ حيث قالوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ)، ثم هو مما أراهم من الآيات قبل ذلك أعظم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) وكانت اليد أعظم وأكبر من العصا؛ لأن العصا قد تهيأ للسحرة تمويهها وتحويلها من جنس العصا وجوهرها إلى غيرها من الجواهر، ولم يتهيأ لهم تحويل اليد عن جوهر اليد، وقد كان ذلك لموسى - عليه

(49)

السلام - دل أن آية اليد أكبر من آية العصا، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا ليس على تحقيق جعل آية أكبر وأعظم من آية العصا، ولكن وصف الكل بالعظم والكبر؛ كقوله - تعالى -: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، ليس على إثبات القرب في أحدهما دون الآخر، ولكن وصف قرب كل واحد منها من الآخر على السؤال، وكما يقال في العرف: إن أفراس فلان كل واحد أعدى من الآخر، وإن أصحاب فلان كل واحد أفضل من الآخر، وأنه لا يراد بذلك الترجيح، ولكن إثبات المخبر عنه؛ فعلى ذلك قوله - تعالى -: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) وصف لهما جميعًا بالكبر، واللَّه أعلم. ثم ذكر قوله - تعالى -: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ) وغير ذلك من أمثاله لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليصبره على أذى قومه، وأنواع ما كانوا يستقبلونه من الاستهزاء به وبأتباعه، والضحك بما أتاهم من الآيات والحجج على رسالته، وعلى ذلك ما قال: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) أخبر أنه إنما قص عليه أنباء الرسل المتقدمة لتسلية فؤاده، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) والإشكال أنهم كيف يسمونه ساحرًا وكانوا يطلبون منه أن يدعو ربه ويسأله حتى يكشف عنهم العذاب؟ فنقول: روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: سموه: ساحرًا؛ لأن الساحر عندهم هو العالم المعظم الذي بلغ في العلم غايته ونهايته؛ لذلك قالوا: يا ساحر، ادع لنا ربك، وإلا لا يحتمل أن يكونوا يسألونه ويطلبون منه أن يدعو ربه ليكشف عنهم العذاب، ثم يسمونه: ساحرًا ويعنون به: سحرًا للكذب والباطل، واللَّه أعلم. وقال مقاتل: إنهم قالوا: (يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) قال لهم موسى - عليه السلام -: كيف أدعو ربي ليكشف عنكم ما ينزل بكم، وقد تسمونني ساحرًا، فرجعوا عن ذلك فقالوا: (يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ)؛ على ما ذكر في سورة الأعراف: الآية، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون قولهم: (يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) سموه: ساحرًا على ما كان عندهم أنه ساحر، فيقولون: إنك ساحر، إلا أن تدعو ربك فيكشف عنا الرجز؛ فعند ذلك

(50)

نعلم أنك لست بساحر وأنك رسول؛ فنؤمن بك. ويحتمل أن يكون عندهم أن اليد البيضاء والعصا، وما أتى به موسى مما يبلغ السحر إلى تغيير ذلك عن جوهره، ويستفاد بالسحر مثله، لكن سألوا منه أن يسأل ربه ما ذكروا؛ لما علموا أن إجابة الدعاء فيما دعا لا يكون لساحر، ولا يجاب إلا للرسول والذي على الحق، فإذا أجابك إلى ما سألت آمنا بك، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكونوا قالوا ذلك على حقيقة إرادة السحر على التناقض والتمويه على الأتباع؛ كقوله: (مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا)، فالآية لا يسحرهم بها؛ لأن الآية هي التي لا حقيقة لها ولا دوام، فإذا كان آية لا يسحرهم بها، ولا تكون سحرًا، وإذا كان سحرًا لا يكون آية، فكانت عامة أقوالهم خرجت على التناقض؛ على ما ذكرنا في غير آي من القرآن، فعلى ذلك يحتمل هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) قد كان اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عاهد موسى - عليه السلام - لئن آمنوا، أكشف عنهم العذاب، فلما دعا وكشف عنهم العذاب، لم يؤمنوا، واللَّه أعلم. ويشبه أن يكون عهده إليه ما جعله نبيًّا واختصه لرسالته. ويحتمل قوله - تعالى -: (بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) على الإضمار؛ كأنهم قالوا: ادع لنا ربك بما عهد كل واحد منا عندك لئن كشفت عنا العذاب إنا لمهتدون، وهو قوله - تعالى - في آية أخرى: (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ)، ألا ترى أنه قال: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) أي: ينقضوا ما عهدوا، وعهدهم ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) يقول اللعين هذا مقابل ما ادعى موسى - عليه السلام - من الرسالة، يموه بذلك على قومه وأتباعه؛ أي: لئن كان اللَّه أرسل رسولا، فأنا أحق وأولى بالرسالة من موسى؛ ولذلك قال: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي؛ ضعيف لا مال له، ولا حشم، ولا تبع، (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) حجته، وكذلك قال: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) كما ألقي عليَّ، وكما أعطاني من المال والذهب. أو يقول: إن من كان له رسول يكرمه بأنواع الكرامات ويبذل له أموالا، فإذ لم يؤته شيئًا من ذلك فليس برسول. أو يقول؛ إنه لو كان رسولا كما يقول، لألقى اللَّه عليه من الأساورة ما ألقيت أنا على

(52)

أتباعي وحشمي، ونحوه. وكان فرعون لا يزال يموه أمر موسى - عليه السلام - على قومه، من ذلك قوله: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ)، ومنه قوله: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)، ونحو ذلك كثير، فعلى ذلك هذا منه تمويه على قومه، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لا يكاد يبين حجته؛ لما في لسانه عقدة ورُتَّة؛ يقول: عيي اللسان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن فرعون لا يعني ذلك؛ لأن اللَّه - تعالى - قد أذهب تلك العقدة والرتة التي في لسانه حين دعا وسأل ربه بقوله: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي)، وقد أجاب اللَّه دعاءه؛ حيث قال: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)، ولكن أراد - واللَّه أعلم -: لا يكاد يبين حجته؛ أي: ليس يأتي بحجة تأخذ القلوب. وقَالَ الْقُتَبِيُّ في قوله: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) قال: أما أنا خير منه؟ وقال أهل التأويل: أنا خير منه. وجائز أن يكون قوله: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) موصولا بقول فرعون حيث قال: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) أنا خير منه بأن لي ملك مصر، وليس لموسى - عليه السلام - ذلك؛ على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) هذا القول منه يخرج على وجهين: أحدهما: يقول: إن كان موسى يدعي الملك في الدنيا ويطلبه فهلا ألقي عليه أساور من ذهب كما يلقى للملوك من الأساور، والتاج، وغير ذلك، وإن كان يدعي الرسالة لنفسه فهلا كان معه الملائكة مقترنين؛ ولا يزال الكفرة يطلبون من الرسل الآيات على وجه يتمنون هم ويشتهون، فأخبر أن الآيات ليست تأتي على ما يتمنون ويشتهون، ولكن على ما أراد اللَّه تعالى. والثاني: يجمع الأمرين جميعًا فيقول: إنه يدعي الرسالة، والرسول معظم عند

(54)

المرسِل، فيقول: إن كان ما يقول حقًّا فهلا ألقي عليه الأساور تعظيمًا، وهلا كان معه الملائكة مقترنين؛ تعظيمًا له وإجلالا، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي: هلا سوّر؟ لأن الرجل منهم إذا ارتفع فيهم سوروه، أو جاء معه الملائكة مصدقين له بالرسالة. قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: أساور وأسورة جمع السوار، ورجل أسوار؛ أي: رامي، وقوم أساورة، وإنما سمي الرامي: أسوارًا؛ لأنه إذا أجاد الرمي جعل في يده سوارًا من ذهب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: فاستخف بقومه واسترذلهم فأطاعوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) أي: استرذلهم واستفزهم بالخروج على أتباع موسى وطلبه فأطاعوه، وذلك أنه أمرهم بالخروج معه في طلب موسى لما خرج من عندهم نحو البحر، فأطاعوه في ذلك، وخرجوا معه في طلبه، حتى أصابهم ما أصابهم؛ وكأن هذا أشبه وأقرب، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55). هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: فلما عملوا الأعمال التي استوجبوا لها الغضب انتقمنا منهم على ذلك؛ لأن ظاهر قوله - تعالى -: (آسَفُونَا) أي: أغضبونا، وصفة الغضب على الحدوث لله - تعالى - لا تجوز، فكأن المراد منه: ظهور أثر الغضب استوجب العذاب، والله أعلم. والثاني: (فَلَمَّا آسَفُونَا) أي: أغضبوا أولياءنا (انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)؛ أي: سلطنا عليهم بدعاء أُولَئِكَ الأولياء. أو ننتقم منهم بسبب إغضابهم أولياءنا، وهو كقوله - تعالى -: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ)، أي: يخادعون أولياء اللَّه؛ فعلى ذلك هذا. وقوله: (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) هو يخرج على وجهين: أحدهما: جعلناهم في العقوبة سلفًا للمتأخرين ومثلا للمؤمنين؛ أي: عبرة لهم، وهو كقوله: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).

(57)

والثاني: جعلناهم سلفًا ومثلا للآخرين في العظة والانزجار لهم؛ ليمتنعوا عن مثل ما فعلوا خوفًا عن الوقوع فيما وقعوا، واللَّه أعلم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فجعلناهم سلفًا) بالرفع والنصب، وهو من التقدم؛ أي جعلناهم قدمًا تقدموا، مثل: خَبَث، وخُبُث، وثَمَر، وثمُر. وكذلك يقول أَبُو عَوْسَجَةَ؛ وقال: السلف: الخيرات، والجميع: سلوف. * * * قوله تعالى: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) اختلف فيما ذكر من ضرب المثل لعيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام: قَالَ بَعْضُهُمْ: لما نزل قوله - تعالى -: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) فقال أُولَئِكَ الكفرة الذين كانوا يعبدون الأصنام: إن عيسى عبد دونه، وعزير والملائكة يعبدون دونه، فهَؤُلَاءِ جميعًا في النار إذن؛ لأنهم عبدوا دونه، فإن كان هَؤُلَاءِ في النار فقد رضينا أن نكون معهم وهم معنا، وهو ما ذكروا على إثره: (أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) يعنون بقولهم: (هُوَ): عيسى - عليه السلام - فذلك منهم يخرج على وجهين: أحدهما: لئن جاز أن يعذب عيسى - عليه السلام - ومن عُبِدَ من هَؤُلَاءِ دون اللَّه في النار رضينا أن تُعذب آلهتنا في النار؛ إذ هم ليسوا بخير من عيسى - عليه السلام - وهَؤُلَاءِ الذي عبدوا دون اللَّه من الملائكة وغيرهم. والثاني: يقولون: إن كان عيسى يعذب في النار لما عبد دونه فآلهتنا التي نعبدها دونه خير منه فلا تعذب؛ لأنها خير. فأحد التأويلين يرجع إلى أنهم يقولون: لو جاز وصلح أن يعذب كل معبود دونه جاز أن تعذب الأصنام التي نعبدها نحن.

والثاني: يقولون: إن كان يعذب عيسى وغيره الذين عبدوا دونه فالأصنام التي نعبدها نحن لا تعذب؛ لأنها خير من أُولَئِكَ، واللَّه أعلم. فنقول: إنما يكون لهم هذا الاحتجاج بالآية؛ أن لو كانت الأصنام إنما تحرق في النار تعذيبًا لها، أعني: الأصنام؛ فأما إذا كانت الأصنام إنما تحرق بالنار تعذيبًا لمن عبدها، وعقوبة لمن اتخذها أربابًا دون اللَّه فلا، وإنما تحرق الأصنام التي اتخذوها من الحجارة والحديد والصُّفْر؛ لزيادة تعذيب العبدة؛ كقوله - تعالى -: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، مع أنه لا جناية من الأصنام، ولا ضرر لها بالإحراق؛ فكيف يحرق عيسى ومن عبد دونه من الملائكة، وفي إحراقهم تعذيبهم؛ إذ هم يتضررون بها، ولا جناية منهم، فإذا كان إدخال الأصنام التي عبدوها وإحراقها في النار لتعذيب أُولَئِكَ الذين عبدوها فلا معنى لتلك الخصومة والمجادلة التي كانت منهم، واللَّه أعلم. وبعد: فإن في الآية بيانًا على أن الذي ذكر من جعل المعبود حصبًا للنار راجع إلى عبادة الأصنام والأوثان خاصة دون غيرهم؛ لأنه خاطب أهل مكة بقوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. . .) الآية، وأهل مكة كانوا لا يعبدون إلا الأصنام والأوثان، لا عيسى ولا غيره من البشر والملائكة، فذلك لهم ولكل عابد الأصنام دون غيرهم من المعبودين؛ استدلالا بهم، واللَّه أعلم. على أن في الآية بيانًا - أيضًا - أنه لم يرجع إلى ما ذكروا من عيسى وغيره، فإنه قال: (وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وكلمة " ما " تستعمل في غير العقلاء من الجمادات وغيرها، لا في ذوات العقلاء. وعلى أن في الآية بيانًا من وجه آخر - أيضًا - على أنهم غير مرادين بها، فإنه استثنى وخصّ بقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ)، أخبر أن من سبقت له منه الحسنى يكون مبعدًا عنها، ولا شك أن عيسى والملائكة - عليهم السلام - قد سبقت لهم منه الحسنى، فلا يحتمل صرف تلك الآية إليهم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. . .) الآية ، إلى كل من منه الأمر بالعبادة لهم والدعاء إلى ذلك، وهم الشياطين؛ لأن من عبد دون اللَّه أحدًا إنما يعبده بأمر الشياطين ودعائهم إليه، فأما من كان يتبرأ من الأمر لهم بذلك وعبادتهم له فلا يحتمل، وذلك نحو قوله - تعالى -: (يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وقال إبراهيم لأبيه: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)

(58)

ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكن من عبد شيئًا دون اللَّه إنما يعبده بأمر الشيطان، فإذا عبده بأمره فكأنه عبده؛ هذا وما ذكرنا كله يبطل مجادلة الكفار فيما خاصموا، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب المثل لعيسى - عليه السلام - هو أن اللَّه - تعالى - لما ذكر عيسى - عليه السلام - في القرآن قال مشركو العرب من قريش لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ما أردت بذكر عيسى؟ وقالوا: إنما يريد مُحَمَّد أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى وعبدته، فقالوا: (أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) فلا يصنع مُحَمَّد ذلك بآلهتنا، فواللَّه لهم خير من عيسى، أو ما قالوا؛ فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) أي: إلا ليجادلوك بالباطل، وهو قول قتادة. ويحتمل أن يكون ما ذكر من ضرب المثل بابن مريم - عليهما السلام - من قومه - أعني: عيسى - لا من قوم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك أن قومه قد اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال: إنه إله وإنه رب، ومنهم من قال: إنه ابن الإله، ومنهم من قال: إنه وأمه إلهان، ونحو ذلك من الاختلاف الذي كان بينهم فيه، فيكون قوله: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) قال قومه على ما ذكروا فيه، ثم قال: (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي: يعرضون عن عيسى ويضجون على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. أو أن نكف ونمسك عن بيان ذكر المثل الذي ذكر في الآية؛ لما لا حاجة إلى ذلك، وهو شيء ذكره أُولَئِكَ الكفرة، واللَّه أعلم. ثم قوله - تعالى -: (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قرئ برفع الصاد وكسرها. قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (يَصِدُّونَ) بالكسر: يضجون، والتصدية منه، وهو التصفيق، ومن قرأ بالرفع يقول: يعدلون ويعرضون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) هو يخرج على الوجهين اللذين ذكرناهما، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) أي: عبرة وآية لبني إسرائيل؛ لما كان هو مولودًا من غير والد، ولما كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وما كان منه من تكليمه للناس وهو في المهد، وغير ذلك من الآيات

(60)

التي كان خص بها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً ... (60) على وجهين: أحدهما: أي: لو نشاء لجعلنا من جوهركم وجنسكم ملائكة؛ ليعلم أن إنشاء الملائكة من النور على ما ذكر ليس ذلك منه استعانة بذلك النور لإنشاء الملائكة منه قادر بذاته لا يعجزه شيء، ينشئ ما يشاء مما شاء كيف شاء. والثاني: أي: لو نشاء لجعلنا الملائكة بدلا منكم نهلككم ونبدل مكانكم ملائكة لا يعصون، ولا يخالفون ولا يفترون عن العبادة ولا يستحسرون، لكن لم يفعل ذلك؛ لما ليس في عصيان من عصاه ولا مخالفة من خالفه له ضرر، ولا بطاعة من أطاعه واتبع أمره ونهيه نفع، ولا أنشأ هذا العالم والخلق لحاجة نفسه، ولا امتحنهم بأنواع المحن لمنفعة نفسه، ولا لمضرة يدفع بذلك عن نفسه، ولكن أنشأهم وامتحنهم لحاجة أنفسهم، فإذا كان ما ذكرنا: إنشاء ما يعلم أنه يعصيه ولا يطيعه حكمة، وفعل من يعلم في الشاهد أنه يضره ولا ينفعه سفه؛ لأنه إنما يفعل ما يفعل لحاجة نفسه، فصار فعله مع علمه ما ذكرنا يكون سفهًا، فافترق الأمران، واللَّه الموفق. ثم قوله - تعالى -: (مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) يحتمل وجهين: أحدهما: أي: يخلف الملائكة بعضهم بعضًا، قرنًا عن قرن بالتناسل والتوالد؛ كالبشر يخلف بعض بعضًا، قرنًا عن قرن بالتناسل والتوالد؛ إذ ليس في الملائكة توالد ولا تناسل. والثاني: (يَخْلُفُونَ) أي: يكونون خلفًا وبدلا عنكم بعد هلاككم على ما ذكرنا، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ... (61) وعَلَمٌ للساعة كلاهما قد قُرئا، ثم اختلف في ذلك: فمنهم من يقول: هو عيسى، يكون نزوله من السماء علمًا للساعة وآية لها؛ فيكون على هذا هو صلة ما تقدم من قوله: (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) كأنه قال: (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا) أي: آية وعبرة لهم على ما ذكرناه، وجعلناه - أيضًا - علمًا للساعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما أنزل عليه من القرآن

(62)

علم للساعة؛ لأنه به ختم النبوة والرسالة، وقال: " أنا والساعة كهاتين " وأشار إلى إصبعين من يده، وإنما بعثه اللَّه - تعالى - عند قرب الساعة، فهو علم للساعة. ثم قراءة (عَلَمٌ لِلسَّاعَةِ) بالتثقيل، فمعناه: العلامة لها والدليل عليها، ومن قرأ (عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) بالجزم، فمعناه: يعلم به قرب الساعة. وقوله: (فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا) أي: لا تشكنّ بالساعة فإنها كائنة لا محالة، وعلى ذلك يقولون في بعض التأويلات في قوله - تعالى -: (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا)، أي: أعلامها؛ أي: مُحَمَّد، عليه أكمل التحيات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)، فإن كان قوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) هو مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكأنه قال - عليه السلام -: أنا علم للساعة وقريب منها فاتبعوني، وإن كان عيسى - على نبينا وعليه السلام - يقول: إنه علم للساعة وآية لها، فاتبعوني قبل أن يخرج وينزل. وقوله: (وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62). يحتمل قوله - تعالى -: (وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) عن الإيمان بالساعة وكونها؛ فإنه عدو مبين. ويحتمل: لا يصدنكم عن مُحَمَّد وعن الصراط المستقيم الذي ذكر؛ فإنه عدو مبين بين عداوته إياكم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63). قال أهل التأويل: بيناته: هي ما كان يأتي به من نحو إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإنباء بما يأكلون وما يدخرون، ونحو ذلك. والأصل في آيات الأنبياء والرسل أنها كانت من وجوه ثلاثة تُلزمهم التصديق بهم: أحدها: ما يأتون في كل شيء صغر أو عظم، دلالة ذلك ما يعلم كل ذي لب وعقل على أن ذلك حكمة وعقل عليهم اتباعهم في ذلك، وهو توحيد اللَّه - تعالى - وتنزيهه عما لا يليق به، واللَّه أعلم. والثاني: كانت في أنفسهم وأحوالهم التي كانوا عليها بينات تلزمهم تصديقهم، وهو أنهم لبثوا بين أظهرهم، وكانوا فيهم طول عمرهم، فلم يؤخذ عليهم كذب قط، ولا ظهر منهم ما يرجع إلى دناءة الأخلاق، ولا شيء من ذلك، واللَّه أعلم. والثالث: ما كانوا يأتون من الأفعال والمعجزة الخارجة عن توهم العباد والمعتاد من فعلهم يلزم كل صنف قبولها.

(64)

فعلى هذه الوجوه التي ذكرنا كانت آيات الرسل - عليهم السلام - واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة - هاهنا - هي الإنجيل، وقد ذكر في آية أخرى الكتاب والحكمة؛ حيث قال: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ). ثم جائز أن يكون الكل واحدًا. وجائز أن يكون الكتاب: ما يكتب ويتلى والحكمة: ما أودع في المتلو والمكتوب من المعنى، واللَّه أعلم. ويحتمل أن تكون الحكمة راجعة إلى كل ما يوجب العقل للقول به وقوله، وقد ذكرناه فيما تقدم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أبين لكم كل الذي تختلفون فيه؛ إذ لا يجوز أن يبين بعضًا ويترك البيان لبعض، وقد يذكر البعض ويراد به الكل؛ نحو ما يقال في كثير من المواضع: الخطاب للرسول - عليه السلام - والمراد بذلك أمته. ويحتمل أن يكون المراد من البعض هو البعض نفسه لا الكل. ثم هو يخرج على وجوه ثلاثة: أحدها: أي: أبين لكم بعض ما تختلفون فيه، ثم يأتيكم رسول بعدي ويبين لكم باقي ذلك، أو كلام نحوه؛ لأنه لم يقل: أبين لكم بعض ما اختلفتم فيه، ولكن قال: (بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)، فهو في الظاهر على الاستقبال. والثاني: يقول: أبين لكم الأصول ما تقدرون على استخراج الفروع من تلك الأصول، واللَّه أعلم. والثالث: يقول: أبين لكم الذي تختلفون فيه، وهو يرجع إلى أمر الدِّين دون الراجع إلى أمر المعاش، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به وأدعوكم إليه وأنهاكم عنه. ويحتمل أن يكون يقول: اتقوا مهالككم، والزموا ما به نجاتكم، وأطيعوني في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) ذكر هذا؛ ليعلموا أنه وإن عظم

(65)

قدره عند اللَّه وجلت صولته عنده فإنه لا يخرج من العُبُودة، وأنه عبد اللَّه، ليس بإله، ولا ابنٍِ له، على ما زعم أُولَئِكَ الكفرة، واللَّه الهادي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون حرف " من " صلة زائدة، ومعناه: فاختلف الأحزاب بينهم، والاختلاف فيما بينهم في عيسى أمر ظاهر بين (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي: اختلف الأحزاب من اختراع كان منهم فيما بينهم، أو كلام نحوه؛ ولذلك كان الاختلاف الواقع بينهم إنما كان باختراع من ذات أنفسهم، لا أن كان ذلك سماعًا من الرسل - عليهم السلام - ولذلك نهى هذه الأمة عن الاختلاف والتفرق؛ حيث قال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)، وقد اختلفت هذه الأمة بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حتى قاتلهم أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ذلك، واتبعه سائر الصحابة على ذلك، حتى قاتل الرجال، وسبى النساء والذراري، وظهرت - أيضًا - الخوارج في زمن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ذلك، حتى اجتمعوا على الوفاق، وغير ذلك من الاختلاف والتفرق الذي كان ظهر ووقع فيما بينهم، وكان في ذلك دلالة الرسالة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في كتابه أنهم يختلفون بعد وفاته، وأنهم ينقلبون على أعقابهم؛ حيث قال: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ. . .) الآية، وقال في ارتدادهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، هذا في أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال في علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية، وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يقاتل هذا بالتأويل كما نقاتل نحن على التنزيل " يعني: عليًّا - رضي الله عنه - وقد كان كل ما ذكر من الاختلاف والتفرق والتنازع في الدِّين من الانقلاب على الأعقاب والارتداد والامتناع عن إيتاء الزكاة، وإتيان ما ذكر من قوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، وغلبة حزب اللَّه وأهل توحيده على أُولَئِكَ؛ ففي ذلك كله دلالة إثبات الرسالة؛ إذ خرج على ما أخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذكر في المستقبل، واللَّه أعلم. ثم إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضله وبرحمته رفع ذلك الاختلاف والتفرق والتنازع بينهم، وجمعهم على ألفة وحب، ولم يرفع من بين أُولَئِكَ فقال: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) والأحزاب: الفرق الذين تحزبوا؛ أي: تفرقوا، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) هي ظاهرة.

(66)

قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ. يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي: فجأة (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) وبإتيانها وقيامها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67). يحتمل قوله: (إِلَّا الْمُتَّقِينَ): الموحدين، فتكون خلة أهل الكفر فيما بينهم في الدنيا عداوة في الآخرة؛ لقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، وما ذكر في غير آي من القرآن من لعن بعضهم بعضًا، وتبرؤ بعضهم عن بعض، كقوله - تعالى -: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا. . .) الآية، وأما خلة الموحدين المؤمنين فيما بينهم فهي خلة في الدارين جميعًا؛ هذا يحتمل، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون قوله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) استثنى خلة من اتقى النار بنفسه ووقى صاحبه - أيضًا - بما أمره بالطاعات لله - تعالى - والقيام بالخيرات، وزجره عن معاصيه ومخالفة أمره، كقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، أمرهم بوقاية أنفسهم وأهليهم نارًا، وإنَّمَا يتقون تلك النار بالقيام بالأسباب التي أمروا بالقيام بها، والامتناع والانتهاء عما نهوا عنها وزجروا منها، فكل خلة فيما بين المؤمنين على هذا الوجه فهي خلة ومودة في الدارين جميعًا، لا تصير عداوة؛ لأنها لله - تعالى - وطلب مرضاته، فأما الخلة التي تكون فيما بينهم للدنيا فهي تصير عداوة - أيضًا - على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقد روي في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الأخلاء أربعة: مؤمنان وكافران، فمات أحد المؤمنين فيسأل عن خليله، فقال: اللهم لم أر خليلا آمر بمعروف ولا أنهى عن منكر منه، اللهم اهده كما هداني وأمته على ما أمتني؛ فإنه كان يأمرني بالمعروف والخيرات والطاعة لك، وينهاني عن المنكر والشر والمعصية لك، ومات أحد الكافرين، فيسأل عن خليله، فقال: اللهم لم أر خليلا آمر بمنكر ولا أنهى عن معروف منه، اللهم أضله كما أضلني، وأمته كما أمتني، قال: ثم يبعثون يوم القيامة، فقال: لعن بعضكم على بعض،

(68)

فأما المؤمنان فيثني كل واحد منهما على صاحبه ثناء حسنًا، أما الكافران فيثني كل واحد منهما على صاحبه ثناء قبيحًا ". وعلى هذا السبيل روي هذا الحديث عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أحب في اللَّه، وأبغض في اللَّه، وواد في اللَّه، ووال في اللَّه، فإنما ينال ولاية اللَّه في ذلك، لا ينال ما عند اللَّه إلا بذلك، وقال: ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه وصدقته، حتى يكون كذلك، وقد صار عامة مؤاخاة الناس اليوم، ولكن لا تجزئ عن أهله شيئًا، ثم قرأ: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) وقرأ: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .) الآية، فقول ابن عَبَّاسٍ يومئ إلى أن كل خلة ومؤاخاة فيما بين المؤمنين للدنيا فهي تصير عداوة في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) أي: لا خوف عليكم خوف الغير، كقوله - تعالى -: (لَا يَبْغُونَ عَنهَا)، (وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي: لا خوف عليكم خوف الأحوال؛ أي: لا حزن لهم في حال كونهم فيها، ولا لهم فيها خوف غير ذلك، ولا زواله عليهم؛ لأن خوف الزوال مما ينغص صاحبه النعمة التي هي له؛ يخبر أن ذلك دائم باق لا زوال له ولا فناء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) والإشكال: أنه سماهم مؤمنين مسلمين بالآيات، والإيمان والإسلام يكون باللَّه تعالى. فنقول: لأن الإيمان هو التصديق -في اللغة- بما أنبأت الآيات بوحدانية الله وألوهيته؛ لأن جهة سبيل معرفة اللَّه تعالى وطريق العلم به إنما هو بالآيات والحجج التي أقامها على ذلك، ليس من جهة العيان والمشاهدة؛ فالإيمان بالآيات والتصديق بها تصديق باللَّه حقيقة وإيمان به، واللَّه أعلم. وقوله: (وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) ظاهر هذا يوهم أن الإيمان والإسلام غَيران، لكن هذا من حيث ظاهر العبارة، فأما في الحقيقة هما يرجعان إلى معنى واحد؛ لأن الإسلام هو جعل كل شيء لله - تعالى - سالمًا، لا يشرك فيه غيره؛ كقوله - تعالى -: (وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)

(70)

أي: خالصًا سالمًا، لا حق لأحد فيه سواه، والإيمان هو الوصف له بالربوبية في كل شيء، ومعناهما في الحاصل والتحقيق يرجع إلى معنى واحد؛ لأنك إذا وصفته بالألوهية والربوبية جعلت كل شيء لله سالمًا، وإذا جعلت كل شيء لله - تعالى - سالمًا وصفته بالألوهية والربوبية في كل شيء؛ فدل أن حاصل الإيمان والإسلام واحد، وإن كانا من حيث ظاهر العبارة مختلفين، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يحتمل الأزواج من وجهين: أحدهما: الأزواج المعروفة؛ وهي الأهل؛ لما وقوهم في الدنيا عن الأسباب التي بها يستوجبون النار؛ كقوله - تعالى -: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا). ويحتمل الأزواج التي ذكر: القرناء، والأشكال الذين أعانوا على الأعمال الصالحة التي بها نالوا الجنة كقوله - تعالى -: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ)، أزواجهم - هاهنا - قرناؤهم الذين أعانوهم على ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُحْبَرُونَ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: أي تسرون، والحبرة: السرور. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (تُحْبَرُونَ) أي: تكرمون وتنعمون، وهو ما ذكرنا؛ أي: ليس عليهم خوف الزوال والفناء ولا حزن الحال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71). يحتمل ذكر الصحاف من الذهب والأكواب وجوهًا: أحدها: ذكر ذلك لهم في الآخرة؛ ترغيبًا لهم فيها، وتحريضًا لما يرغبون بمثل ذلك إلى السعي للآخرة، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل إنما ذكر ذلك؛ لأن أهل الدنيا كانوا يتفاخرون بهذه الأشياء في الدنيا، فيخبر أن لأوليائه ذلك في الآخرة، وذلك دائم، وهذا فانٍ، ولا عبرة للفاني؛ فلا معنى للافتخار به. ويحتمل أنه ذكر ذلك؛ لأنه حرم عليهم الانتفاع في الدنيا باستعمال الذهب والفضة والحرير، فأخبر أن لهم الانتفاع بذلك في الآخرة التي هي دار التنعم، فأمَّا ما سوى ذلك من الفرش والأواني فإنه لا بأس بذلك، وهو مباح في الدارين جميعًا.

(72)

وأما ذكر الأكواب يحتمل للترغيب؛ على ما ذكرنا؛ لأنهم يتمنون ويرغبون فيها في الدنيا. والثاني: يخبر أن لا مؤنة عليهم في حمل الأواني ورفعها عند الشرب والأكل، ولا يتولون ذلك بأنفسهم، لكن الخدم هم الذين يتولون سقيهم. الصحاف: جمع الصحفة؛ وهي القصعة التي ليست بضخمة، والأكواب: الأباريق التي لا عرا لها ولا خراطيم، واحدها: كوب، ويقال: كيزان لا عرا لها؛ قاله أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) فذلك في الجنة ليس كنعيم الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يشتهي شيئا ولا تلذ به العيون واللَّه أعلم. ويحتمل أنه إنما ذكر ذلك في الآخرة؛ لما منعوا وحرموا في الدنيا ما اشتهت أنفسهم الانتفاع به والتلذذ؛ عوضًا وبدلا عما كفوا أنفسهم في الدنيا عن الانتفاع بذلك، وإعطاء الأنفس، أو حرموا ومنعوا وحيل بينهم وبين ذلك وما تلذ به الأعين لما غضوا أبصارهم في الدنيا عما لا يحل واللَّه أعلم. وقوله: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) أن اللَّه بفضله عود عباده لما كان منه من الإحسان والإنعام، كأن ذلك كله منهم إليه، فضلا منه؛ حيث نسب الجنة التي يعطيهم إلى أعمالهم التي عملوها، وإن كانوا لا يستوجبون الجنة وما فيها بالأعمال حقيقة؛ فلذلك ما ذكر في الخبر عن نبي اللَّه أنه قال: " لا يدخل الجنة أحد إلا برحمة اللَّه "، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته "، أخبر أن لا أحد يدخل الجنة إلا برحمته، لكنه نسب الجنة التي يعطيهم وما ذكر من الثواب إلى أعمالهم؛ فضلا منه وإنعامًا، وكذلك ما ذكر من قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، ذكر أنه اشترى أنفسهم وأموالهم بالجنة يعطيهم، وأنفسهم وأموالهم في الحقيقة له، ولا أحد يشتري ملكه، وماله بمال نفسه وملكه، لكنه ذكر ذلك شراء إفضالا منه؛ كأن لا ملك له في ذلك ولا حق، وكذلك ما ذكر من الإقراض له بقوله: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، ولا أحد يستقرض ماله وملكه من غيره، لكنه عاملهم معاملة من لا ملك له في أموالهم وأنفسهم بما جعل لهم من الثواب والعوض؛ فعلى ذلك نسبة الجنة والثواب الذي ذكر لهم إلى أعمالهم؛ إفضالا منه وإنعامًا، وإن لم يستوجبوا ما ذكر بالأعمال. وقوله: (لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73).

(74)

مثل هذ الوعد كأنه إنما جاء لأهل مكة، فكان لا فواكه لهم فيها ولا ثمار، يخبر أن لكم في الجنة من الفواكه الكثيرة ما لا يفني، ولا ينقطع، (مِنْهَا تَأْكُلُونَ) تأكلون ما شئتم؛ فلا يؤذيكم ولا يضركم وإن أكثرتم. ويحتمل إنما ذكر؛ لما عرف من رغبة الناس إلى الفواكه والثمار في الدنيا، رغبهم بها في الآخرة، وحثهم على رفع الهمم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ. وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ. وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ). الإجرام: هو الكسب في اللغة، والمجرم: الكاسب؛ يرجع ذلك إلى كل كاسب مما جل أو دق، إلا أن الناس عرفوا أن العذاب المذكور للمجرم الخاص وهو الكافر المشرك؛ فلا يجوز صرفه إلى كل كاسب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ... (75). يذكر هذا؛ ليعلم أن النار وإن أنضجت جلودهم وأحرقتهم، لا يفتر التألم عنهم بنضج الجلود، بل التوجع والتألم بعد نضج جلودهم واحتراقها على ما كان قبل النضج، والله أعلم. قال: (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: المبلس: الآيس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المبلس: الذليل الخاضع. وقال الزجاج: المبلس: هو الساكت عن الكلام كمن لا يرجو الفرج من نطقه؛ لأن من يتكلم إنما يتكلم لفرج يرجو من نطقه أو كلام ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ... (76) في التعذيب الذي يعذبون، (وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم؛ حيث عبدوا من لا يملك دفع العذاب عنهم، وتركوا عبادة من يملك دفع ذلك عنهم، واللَّه أعلم. ويحتمل: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ) في ترك البيان عليهم، أي: لم نترك بيان ما عليهم وما لهم، بل بينا لهم عاقبة السبيلين جميعًا أنه إلى ذلك وذا يفضي عاقبة هذا السبيل، ولكن هم ظلموا أنفسهم حيث اختاروا السبيل الذي أفضاهم إلى ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77).

(78)

كأنهم يقولون: يا مالك، سل ربك ليقض علينا بالموت، يفزعون أولا إلى المؤمنين وهو قولهم: (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)، فلما أيسوا من ذلك يفزعون إلى اللَّه تعالى يسألون الرجوع إلى المحنة؛ ليعملوا غير الذي عملوا بقولهم: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، فلما أيسوا عن ذلك يفزعون إلى مالك؛ ليسأل ربه؛ ليقضي عليهم بالموت، فقال: (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) هذا على أثر ما ذكر؛ كقوله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا)، على أثر قوله: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ. . .) الآية. يحتمل أن يكون القولان جميعًا من اللَّه تعالى، أعني: قوله تعالى: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ)، وقوله - تعالى -: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا)، واللَّه أعلم. ويمكن أن يكون العذاب جميعه من الملائكة؛ إذ جائز إضافة الرسل إلى الملائكة؛ إذ هم رسل الناس رسولنا فعل كذا، واللَّه أعلم. ثم قوله: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ). الحق: كل ما يحمد عليه فاعله ويحمد هو بما منه ذلك الفعل، والباطل: كل ما يذم عليه فاعله ويذم هو بما منه، واللَّه أعلم. ثم الحق المذكور يحتمل القرآن، ويحتمل الحق: ما تركوا اتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى ما دعاهم إليه، ويقولون: الحق هو الذي عليه آباؤنا (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، ثم قال: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ)، وقال هاهنا: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ) أي: جئناكم بما هو أهدى وأحق مما عليه آباؤكم. وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ). فَإِنْ قِيلَ: كيف قال: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) وإنما خاطب به أهل النار، وكانوا جميعًا كارهين للحق. نقول: إنه يخرج على وجهين: أحدهما: أن أكثرهم قد عرفوا أنه الحق، لكنهم كرهوا اتباعه والانقياد له؛ عنادًا منهم ومكابرة بعد ظهور الحق عندهم وتبينه لديهم؛ مخافة ذهاب الرياسة عنهم وزوال مكانتهم ولم يظهر لأقلهم، ولم يعرفوا، واللَّه أعلم.

(79)

ويحتمل أن يكون ما ذكر من كراهة أكثرهم للحق بحق الطباع؛ كان في طباع أكثرهم كراهة ذلك الحق، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ). ثم يحتمل أن يكون ما ذكر من إبرامهم أمرًا ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله تعالى: (وَإِذ يَمْكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، إبرامهم أمرا: هو مكرهم الذي مكروا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما ذكر، واللَّه أعلم. ويحتمل: أن يكون إبرامهم الذي ذكر غير ذلك، وكيفما كان، ففيه وجهان من الدلالة: أحدهما: ليعلموا أن اللَّه - تعالى - عالم سميع بما يبرمون فيما بينهم من أمر سرًّا؛ لأنه في ظنهم أن اللَّه لا يعلم ولا يسمع ما يبرمون من الأمر سرًّا؛ ولذلك قال تعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ). والثاني: فيه دلالة إثبات الرسالة؛ لأنهم أبرموا ذلك الأمر فيما بينهم سرًّا، ثم أخبرهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما أبرموا وأحكموا من الأمر؛ ليعرفوا أنه إنما علم ذلك باللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ). يحتمل: فإنا جازون جزاء إبرامهم. ويحتمل: (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي: إلينا يرجع تدبير إبرامهم الأمر ومكرهم جميعًا؛ وعلى ذلك قوله: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا)، على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ... (80). أي: بل يحسبون على ما ذكرنا: أن حرف الاستفهام منه يخرج على الإيجاب؛ كأنه قال: بل يحسبون؛ ألا ترى أنه قال: (بَلَى وَرُسُلُنَا).

(81)

وقوله: (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ). هذا وعيد وتنبيه منه لهم؛ يخبر أن رسله يكتبون ما يسترون ويخفون من المنكر وغيره؛ ليكونوا أبدا على حذر ويقظة، واللَّه أعلم. وقوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) له بالتعالي والتنزيه عن الولد، أي: وأنا أول من يعبد الرحمن بالإيمان والتصديق أنه ليس له ولد، على هذا أعبد اللَّه تعالى. والثاني: ما كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين، وهو من عَبِدَ يَعْبِد، أي: أنف يأنف، فيكون هذا تنزيه تَصريحٍ عن الولد، والأول تنزيه له بالكناية، هذا إذا كان معنى قوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) ما كان للرحمن ولد. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) يخرج على التأويل - أيضًا - على وجهين: أحدهما: أي: لو كان للرحمن ولد على زعمكم وعلى ما عندكم فأنا أول من أتبرأ عن أن يكون له ولد، وأدعوكم إلى الرحمن الذي لا ولد له، وهو كقوله - تعالى -: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، أي: أين شركائي الذين تزعمون أنتم أنهم شركاء؟ وقوله تعالى: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا)، أي: انظر إلى إلهك الذي هو في زعمك إله. والثاني: يحتمل أن يقول له: قل: لو كان يجوز أو يحتمل أن يكون له ولد، فأنا أول من أعبده على ذلك، أو أول من أقول أنا بذلك، فإذ لم أقل بذلك وأنا رسول اللَّه، فظهر أنه لا يحتمل ولا يجوز أن يكون له ولد، وهو كقوله - تعالى -: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)، أي: لو كان يجوز أن يريد اللَّه أن يتخذ ولدًا لاصطفى ممن عنده وممن شاء، لا مما هو عندكم ومما تختارون أنتم، لكن لا يحتمل ولا يجوز أن يتخذ ولدًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - تعالى -: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) يقول: كما أني لست أول من عبد اللَّه، فكذلك ليس للرحمن ولد؛ كقول الرجل: لو كان ما تقول حقًّا فأنا حمار، معناه: ليس الذي تقوله بحق، كما أني لست بحمار، واللَّه أعلم. ثم نزه نفسه عن الولد، وأنه لا يجوز أن يكون له ولد حيث قال: (سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) أي: رب السماوات، ورب الأرض، ورب من فيهن، ورب العرش. قال أهل التأويل: أي: رب السرير. لكن لا يحتمل أن يكون تأويل العرش - هاهنا - السرير، فينسب إلى السرير، فيقال:

(83)

رب السرير، ويجوز لغيره - أيضًا - أن يقال له: رب السرير، فيثبت المشاركة في النسبة بينه وبين الخلق، إلا أن يقال: إن لذلك السرير عند الخلائق موقعًا وقدرًا عظيمًا يليق القسم به، وإنه من أعظم المخلوقات وأعجبها، فكان نسبة هذا إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - من باب التعظيم والإجلال له بمنزلة نسبة كل العالم إليه؛ فيكون جائزًا، والله أعلم. ويحتمل أن يكون تأويل العرش - هاهنا - هو الملك؛ يقول: سبحان رب السماوات والأرض ورب الملك عما يصفون، ثم قد بينا حكمة ذكر السماوات والأرض على إثر ذكر الولد في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) هذا -في الظاهر- أمر بتركهم على ما هم عليه من الخوض واللعب وغيره، ومثل هذا مما لا يليق بالحكمة؛ إذ هو حرام في العقل، لكن يخرج على الوعيد، وإن كان صيغته صيغة الأمر، كقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)، هو في الظاهر وإن كان أمرًا فهو في الحقيقة وعيد، فعلى ذلك هذا يخرج على الوعيد. ويحتمل أن يخرج على ترك المكافأة على ما يصنعون من الاستهزاء بهم، والأنواع من الأذى إلى اليوم الذي يلاقون ويعاينون العذاب حين لا تنفعهم الندامة في الرجوع في ذلك اليوم. وأصل ذلك أن اللَّه - تعالى - قد أوعدهم بمواعيد شديدة، ووعظهم بمواعظ بليغة، فلم تنجع تلك المواعيد فيهم، ولا نفعهم شيء من ذلك. والثاني: قد بين ما يزيل عنهم الشبه، وما يوجب التعلق به، وأوضح لهم طريق الحق والهدى، فلم يسلكوا مسلك طريق الحق، فأوعد لهم بما ذكر في ذلك اليوم ما لا تنفعهم ندامتهم في ذلك الوقت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) الإله في اللغة هو المعبود؛ كأنه يقول - واللَّه أعلم -: إنكم تعلمون أن اللَّه - تعالى - هو المعبود في السماء، وهو المعبود في الأرض، والأصنام التي تعبدونها أنتم لا يعبدها إلا أنتم، فكيف تركتم عبادة المعبود الذي هو معبود في السماء والأرض، واخترتم عبادة من ليس بمعبود إلا بعبادتكم؟!. ويحتمل أن يقول: تعلمون أنتم أن اللَّه - سبحانه وتعالى - هو إله السماء والأرض وإله من فيهما وما فيهما، وأنه خالق ذلك كله؛ لقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

(85)

وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، والأصنام التي تعبدونها لم يفعلوا ذلك، ولا يملكون شيئًا من ذلك، فكيف اتخذتموها آلهة دونه؟! واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) ذكر الحكيم والعليم على إثر ذلك يخرج على وجهين: أحدهما: لسؤال الثنوية: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يجوز أن يبسط الرزق ويوسع الدنيا على من يعلم أنه يعاديه ويشتمه، ويعادي أولياءه ويشتمهم؛ لأن في الشاهد من يصنع إلى من يعلم أنه يعاديه معروفًا فليس بحكيم، فعلى ذلك يقولون: إن ذلك ليس من اللَّه - تعالى - ولكنه من إله غيره سفيه؛ لأنه وصف نفسه بالحكمة، وأنه يزيل الحكمة. والثاني: لقول البراهمة في إنكارهم الرسالة أصلا، يقولون: ليس من الحكمة بعث الرسل إلى من يعلم أنه يكذبه ويكذب رسله ولا يقبل رسالته؛ بل يقتله ويعاديه؛ لذلك ينكرون رسالة الرسل، فأخبر - تعالى - بقوله: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أن إعطائي إياهم ما أعطيتهم وبعثي الرسل إليهم على علم مني بما يكون منهم من التكذيب والعداوة - لا يخرجني عن الحكمة، ويخرج فاعل ذلك في الشاهد عن الحكمة؛ لأن ملوك الأرض إنما يرسلون الرسل ويبعثون الهدايا لمنافع أنفسهم ولحاجتهم، فإذا علموا من المبعوث إليهم الرسل والمصنوع إليهم المعروف ما ذكرنا - خرج من الحكمة، فأما اللَّه - تعالى - إنما بعث الرسل لحاجة المبعوث إليهم، ولمنافع أنفسهم، فكذلك ما يعطيهم من الدنيا لمنافع أنفسهم؛ فلم يخرج بذلك من الحكمة؛ لأنه لا تضره معاداة من عاداه، ولا تنفعه موالاة من والاه؛ بل كل ذلك راجع إليهم؛ بل صنع ما يصنع من المعروف إلى من يعلم أنه يعاديه يكون وصفًا له بغاية الكرم والجود، كذلك ما ذكرنا، وبطل قوله الثنوية والبراهمة، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) قوله: (تَبَارَكَ) قال أهل التأويل: أي: تعالى وتعاظم عما قالت الملاحدة فيه من الشريك، والولد، والصاحبة، وغير ذلك مما لا يليق به، ولا يجوز؛ فيكون تنزيهًا عن جميع ما قالوا فيه، وهو كحرف (سُبْحَانَ) الذي يكون تنزيهًا عما قالوا فيه، واللَّه أعلم. قال بعض أهل الأدب: (تَبَارَكَ) هو من البركة، لكن بعض العلماء قالوا: إن هذا التأويل لا يصح؛ لأن قوله: (تَبَارَكَ) هو من وقوع البركة بنفسه، فهو اسم ملازم، ولا يجوز أن يوصف اللَّه - تعالى - بوقوع البركة، لكن عندنا (تَبَارَكَ) وهو تفاعل، والتفاعل هو فعل اثنين؛ فجائز نسبة البركة إليهما على حقيقة وقوعها بأحدهما وهو الخلق

للإيصال؛ على ما هو الأصل في مثل هذا، وله نظائر كثيرة. وأصل تأويل (تَبَارَكَ): ما قاله أهل التأويل: تعالى وتعاظم عن جميع ما قالت الملاحدة فيه مما لا يليق به من الولد، والشريك، وغير ذلك، لكن هو على التأويل، لا على تحقيق الاسم، فنظيره ما فسروا في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وتعالى جدُّك " أي: عظمتك، والجد هو في الحقيقة ليس هو اسم العظمة، ولكن هو خروج الأمر على ما يريد ويشاء، ويسميه الناس فيما بينهم بالفارسية: بختا، فسروا الجد بالعظمة؛ لنفاذ مشيئة العظيم، وخروج الأمور على ما يريده ويشاؤه، فعلى ذلك تفسيرهم (تَبَارَكَ) بما قالوا: تعالى وتعاظم على التأويل، لا على تحقيق الاسم؛ إذ هو من البركة، لكن كل من بورك فيه صار متعاليًا، فأطلقوا عليه (تَبَارَكَ) بمعنى: تعالى، لا بمعنى حقيقة الاسم، واللَّه أعلم. ثم قوله: (وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) بيان منه وتعليم للخلق ما يجوز النسبة له فقال: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقال: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ونحو ذلك، يبين لهم أن ينسبوا إليه هذا، ولا ينسبوا إليه من الولد، والشريك، والصاحبة ونحو ذلك؛ لأن نسبة الأشياء بكليتها يخرج مخرج الوصف له بالعظمة والجلال، نحو ما ذكرنا من قوله - تعالى -: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقوله: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وقوله: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، ونسبة خاصية الأشياء إليه يخرج مخرج التعظيم والتبجيل لتلك الأشياء، ثم ينظر بعد هذا: فإن كانت تلك الأشياء الخاصة مما يجوز تعظيمها نسبت إليه وأضيفت، نحو قوله: بيت اللَّه، ومساجد اللَّه، ورسول اللَّه، وغير ذلك من الأشياء التي عظمها اللَّه - تعالى - ورفع قدرها ومنزلتها عنده، وإن كانت الأشياء مما يستقذر ويستقبح ويسترذل فلا يجوز النسبة إليه والإضافة؛ لما ذكرنا أن نسبتها إليه وإضافتها يخرج مخرج التعظيم لها، وهي ليست بمعظمة، ولكنها مسترذلة مستقذرة؛ فيكون وضع الشيء غير موضعه، وأنه خلاف الحكمة، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) يخرج على وجوه: أحدها: أي: عنده علم ساعة: الصعقة؛ كقوله - تعالى -: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية. ويحتمل (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ): الزلزلة؛ كقوله: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ). ويحتمل: (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ): الفزع والهول؛ كقوله: (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ. . .).

(86)

ويحتمل: (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ): القيامة؛ كقوله - تعالى -: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، ونحو ذلك، واللَّه أعلم. أخبر أنه لم يطلع اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على حقيقة ما ذكر أحدًا من خلقه. وقوله: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) قد ذكرنا في غير موضع: أن تخصيص ذلك بالرجوع إليه يخرج على وجوه، وإن كانوا في جميع الأحوال راجعين فيه إلى اللَّه - تعالى - صائرين إليه: أحدها: لأن المقصود من إنشائهم ذلك -أعني: البعث- كي لا يكون خلقهم عبثًا، على ما ذكرنا غير مرة. ويحتمل أنه خص ذلك اليوم بالرجوع إليه والمصير والخروج؛ لأنه يومئذ يخلص خروجهم ورجوعهم إليه وانقيادهم له، وقد ذكرناه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) إن قومًا كانوا يجدون الملائكة؛ رجاء أن يكونوا لهم شفعاء؛ لما عرفوا من خصوصيتهم وفضلهم عند اللَّه - تعالى - وذلك معروف في الناس أنهم يخدمون ويكرمون خواص ملوكهم رجاء أن يشفع لهم أُولَئِكَ الخواص عند الملك إذا نزل بهم بلاء ووقعت لهم حاجة يومًا من الدهر، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الكفرة كانوا يعبدون الملائكة؛ لما عرفوا من خصوصيتهم وفضل منزلتهم عند اللَّه تعالى. ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن الملائكة أنهم لا يملكون الشفاعة بقوله: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)، وهو قوله: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، أي: إلا لمن شهد بوحدانية اللَّه - تعالى - وألوهيته، لا يشفعون لأُولَئِكَ، إنما يشفعون لمن ذكر، وإن كانت لهم خصوصية عند اللَّه - تعالى - لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نهى أُولَئِكَ أن يعبدوا الملائكة ويعظموهم من جهة العبادة؛ لذلك لا يملكون الشفاعة لهم؛ فيكون مثل هذا مثل ملك نهى قومه أن يخدموا أو يعظموا أحدًا سواه من خواصه، فإذا فعلوا ذلك وخدموهم وتركوا نهيه لا يملك أُولَئِكَ الخواص ولا يتجاسرون على طلب الشفاعة عند الملك لأُولَئِكَ الذين نهاهم الملك أن يخدموهم ويعظموهم دونه، فعلى ذلك الملائكة، لم يجعل لهم شفاعة لأُولَئِكَ الذين عبدوهم دونه إلا لمن ذكر، وهم: الذين شهدوا بالحق، وقاموا بعبادة اللَّه - تعالى - فقد أذن اللَّه لهم بالشفاعة لأُولَئِكَ، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون قوله: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ) أي: لو كانت لهم

(87)

الشفاعة لكانت لا تنفعهم؛ كقوله - تعالى -: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي: لو كانت لهم شفعاء لكانت لا تنفعهم شفاعتهم، ليس أن يكون لهم شفاعة أو شفعاء، وهو كقوله - تعالى -: (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ) الآية.، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ. . .)) الآية؛ فعلى ذلك يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ) أي: لا ينفعهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يخرج قوله: (وَهُم يَعْلَمُونَ) على وجهين: أحدهما: يرجع إلى الملائكة، فيكون كأنه يقول: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة وهم يعلمون أنهم لا يملكون الشفاعة. والثاني: يرجع إلى من شهد بالحق، يكون كأنه يقول: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون أنهم يشهدون بالحق، والشهادة بالحق ما ذكرنا، يعني: يشهدون على وحدانية اللَّه - تعالى - وألوهيته، وأنه هو المستحق بالعبادة دون من عبدوهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ... (87) وقال في أول السورة: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)، ثم نعته فقال: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ. . .)، إلى آخر ما ذكر؛ قد أقروا جميعًا: أن الذي خلق السماوات والأرض وخلقهم وما يحتاجون إليه هو اللَّه تعالى. ثم علمهم وعرفانهم بذلك يحتمل وجوهًا: يحتمل: علم حقيقة على التسخير والاضطرار بأن أنشأ اللَّه - تعالى - علمًا في قلوبهم، فعلموا بذلك حقيقة أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو خالق ذلك كله. ويحتمل علموا علم الاستدلال بالتأمل والنظر؛ إذ من عادة العرب التأمل والنظر في الأشياء، فنظروا وتأملوا، فعرفوا بالاستدلال العقلي أنه كذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) يقول: فأي شيء يصرفهم ويأفكهم عن القيام بوفاء ما أعطوا بألسنتهم، وتحقيق ما أقروا ونطقوا أن اللَّه خالق ذلك كله، وأن ذلك كله منهم، وجعل ذلك لمن يعلمون أنه لا شيء من ذلك منهم، وبعد معرفتهم بذلك، أعني: الأصنام التي يعبدونها، واللَّه الهادي. وقال أهل التأويل: أي: فأنى يكذبون بعد علمهم ومعرفتهم ذلك في تسميتهم

(88)

معبودهم: إلهًا، أو شكرهم غير الذي صنع ذلك لهم بالعبادة له دون اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) قرئ بنصب اللام وكسرها فمن قرأه بالنصب جعله مقطوعًا على قوله: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) ونسمع قيله؛ أي: قوله الذي أغفلوه؛ أي: بل نسمع ذلك كله. ومن قرأه بالكسر عطفه على قوله: (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي: عنده علم الساعة وعلم قيله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ) كأنه على الإضمار، أي: قيل لهم: قل: إن هَؤُلَاءِ قوم لا يصدقون. وفيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنه أخبر أنهم لا يؤمنون، وقد كان على ما أخبر لم يؤمنوا؛ دل أنه باللَّه عرف ذلك وعلمه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ... (89) أي: أعرض ودعهم، (وَقُلْ سَلَامٌ) أي: قل الصواب والحق (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) يومًا، فهو وعيد لهم. ويحتمل أن يكون قوله: (وَقُلْ سَلَامٌ) أي: سلام عليهم، لكنه على المؤمنين، ليس على أُولَئِكَ الكفرة: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) بالتاء يكون لو صرف إلى المؤمنين، وهو كقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ)، فيكون كأنه - عز وجل - قال: فسوف تعلمون أيها المؤمنون ما ينزل بأُولَئِكَ، واللَّه أعلم. * * *

سورة حم الدخان

سُورَةُ حم الدُّخَانِ وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) قد ذكرنا تأويله فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ (3) قال أهل التأويل: إنا أنزلنا الكتاب -أي: القرآن- في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم أنزل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتفاريق. ويحتمل أن تكون الهاء راجعة إلى قوله: (حم) أي: قضى ما هو كائن على ما قال بعض أهل التأويل: إن ما قضى في كل سنة من الموت والحياة والرزق ونحو ذلك ينزل في ليلة القدر نسخها الملائكة الذين وكلوا على ذلك، فهذا يحتمل. ويحتمل أن تكون الهاء راجعة إلى ما ضمن في قوله: (حم) على ما أراد به، والله أعلم. ويحتمل أنه أراد بهذا إنزال شيء وأمر في ليلة القدر، عرفه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فيخبر أنه أنزل ذلك ولم يبينوا لنا ذلك؛ لما لا حاجة لنا إلى معرفته. وقالت الروافض في قوله - تعالى - (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ): إن اللَّه - تعالى - أنزل شيئًا على رسوله، يكون ذلك الشيء على رأسه وعلى رءوس الأئمة الذين يكونون بعده بحيث يروا ذلك دون غيرهم، إذا استقبلهم أمر أو بدا لهم شيء، نظروا في ذلك الشيء، وعرفوا ما احتاجوا، وما يكون لهم من الصلاح، أو كلام نحو هذا. وأما عند أهل التأويل هو ما ذكرنا راجع إلى ذلك الكتاب المنزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو إلى ما ذكرنا من تضمين ما ضمن في قوله: (حم)، وكذلك قالوا - أيضًا - في قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، وقوله: (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) هي ليلة القدر، سماها: مباركة، وقد سمى المطر والماء المنزل من السماء مباركا؛ كقوله - تعالى -: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا)، وكذلك الأرزاق المنزلة من السماء والمستخرجة من الأرض مباركة بقوله: (بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، والمبارك هو

(4)

الذي عنده يدرك كل الخيرات، والبركة: هي اسم كل خير يكون أبدًا على الزيادة والنماء، فسمى تلك الليلة: مباركة؛ لما جعل فيها من الخيرات والبركات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ). يحتمل (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) للخلق إذا أنشئوا وبلغوا المبلغ الذي يستوجبون الإنذار. ويحتمل (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) الخلق بالرسل؛ هذا هو الظاهر؛ أن هذا القول من الله تعالى - واللَّه أعلم - قال: (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) بالقرآن بما أنزل علي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4). يحتمل: أي: يفصل ويبين كل أمر هو كائن في ليلة القدر. ويحتمل: أي: يبين في ليلة القدر كل ما يكون في تلك السنة. ثم قوله: (كلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) يحتمل أي: كل أمر فيه حكمة. ويحتمل. كل أمر محكم متقن (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ... (5). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الأمر الذي ذكر بقوله: (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6). يحتمل قوله: (رَحْمَةً) أي: ما أنزل من الكتاب هو رحمة من ربك. ويحتمل: ليلة القدر؛ أي: جعلها رحمة منه. ويحتمل ما ذكر من أمر حكيم هو رحمة منه. ويحتمل: أي: الرسول المبعوث إليهم رحمة منه لهم، وهو كقوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ). وقوله: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يحتمل قوله: (السَّمِيعُ) بأقوالهم التي أسروها، (الْعَلِيمُ) بأفعالهم وأعمالهم التي أخفوها وأضمروها. ويحتمل (السَّمِيعُ): المجيب لمن دعا، (الْعَلِيمُ) بما يرجع إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم. وقوله: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7). قَالَ بَعْضُهُمْ: رب الشيء هو مصلحه؛ معناه: مصلح السماوات والأرض وما فيهما، وحافظ ذلك كله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: مالكهما ومالك ما فيهما. ويحتمل: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: خالقهما، وخالق ما فيهما، ومنشئ ذلك كله.

(8)

وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا على إتمام الآية، ومراعاة المقاطع على وجهها، هذا وأمثاله يخرج على هذا، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون قوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) على إثر قوله: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: هو رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم تعلمون: أنه رب ما ذكر، فكيف تصرفون العبادة واسم الألوهية إلى من ليس برب؟! لما ذكر أن الإيقان هو العلم بالشيء حقيقة. ثم نعت الربّ فقال: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ... (8) فكأنه يقول: لا معبود يستحق العبادة سواه؛ لأن الإله هو المعبود عند العرب؛ يقول: لا تستحق الأشياء التي يعبدون العبادة إنما المستحق لها هو الذي لا إله غيره. ويحتمل أن يقول: لا يستحق اسم الألوهية إلا هو، لا الأشياء التي سميتموها: آلهة، ثم نعته فقال: (يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي: هو يحيي ويميت، وهو ربكم ورب آبائكم الأولين. إن من عادة العرب أنهم كانوا يعبدون ويخدمون شيئًا دون اللَّه - تعالى - رجاء أن تشفع لهم وتقربهم تلك العبادة إلى اللَّه - تعالى - فيقول: إن الذين تعبدون دونه لا يقع لهم العلم بعبادتكم إياها، فاصرفوا العبادة إلى الذي يعلم بعبادتكم على كل حال، وأخلصوا له ذلك، ولا تشركوا غيره. * * * قوله تعالى: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ) أي: في أمر القرآن. ويحتمل: بل هم في شك في أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) اختلف أهل التأويل فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: ليس هو على حقيقة الدخان، ولكن على التمثيل والمجاز. ثم اختلف في كيفية ذلك، مع اتفاقهم أنه قد مضى ذلك وقد كان؛ قَالَ بَعْضُهُمْ:

(بِدُخَانٍ) أي: بجدب وقحط؛ جعل الدخان كناية عن الجدب؛ لوجوه: أحدها: لما يقال: إن الجائع في القحط كان يرى بينه وبين السماء والناس دخانًا من شدة الجوع، كالذي يشتد به العطش يرى السراب ماء؛ وذلك لأنه لما اشتد الجوع ضعفت أبصارهم وغطاها الجوع؛ فيكون الجوع سبب ترائي الدخان، فاستعير له، ولأن في سنة الجدب تيبس الأرض، وينقطع النبات، فيرتفع الغبار، ويصعد الريح ليبسها، فيشبه ذلك الغبار الذي يرتفع من يبس الأرض بالدخان ولذلك قيل للسنة: غبراء، وقيل: جوع أغبر؛ لأن العرب ربما وضعت الدخان موضع الشر إذا علا، فيقولون: لو كان بيننا: أمر ارتفع له دخان، وقالوا: إن هذا القحط الذي جعل الدخان كناية عنه قد كان، فإنه اشتد بهم القحط، وقلت الأمطار، ويبست الأرض، وارتفع الغبار، وصعدت الريح كالدخان، وضعفت الأبصار لشدة الجوع، حتى كانوا يرون السماء كالدخان؛ على ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: كان أحدهم ينظر إلى السماء، فيرى كهيئة الدخان من شدة الجوع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما مثل الأرض يومئذ كمثل بيت أوقد ليس فيه خصاصة. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قد مضى الدخان، وهو سنون كسني يوسف - عليه السلام - فجهد الناس، واللَّه أعلم. ومنهم من يقول: هو على حقيقة الدخان، وأنه لم يمض بعد، وكذلك روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الدخان لم يمض بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينتفخ الكافر حتى ينفذ، وكذلك قال أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والحسن وغيرهم، لكن صرف الدخان المذكور في الآية على التمثيل أشبه؛ لأن الأمر إذا اشتد وبلغ نهايته يشبه بالنار والدخان، كقوله: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ)، وليس هناك نار، لكن وصف شدة الحرب فعلى ذلك جائز تشبيه ما اشتد بهم من الجوع والجدب والقحط بالدخان الذي ذكر، وكذلك يصف الناس الأمر إذا اشتد؛ يقولون: هاج الدخان وثار، واللَّه أعلم.

(11)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) يحتمل قوله: (يَغْشَى النَّاسَ) أي: غشي الناس ما ذكر، وهو عذاب أليم؛ على تأويل من قال: إنه ماضٍ كائن. ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: يغشى، فيقول الناس: هذا عذاب أليم؛ وهو على قول من يقول: إنه لم يمض بعد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلََّ: (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أي: إنا نؤمن بك فيما تدعونا إليه لو كشفت عنا العذاب، في معنى الشرط والجزاء، وهو كقول قوم موسى - عليه السلام - حيث قالوا: (يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ. . .) الآية. ويحتمل أن يكون قوله: (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) على الحال؛ كأنهم قالوا: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون للحال. ثم أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم لا يؤمنون، وأنهم كذبة فيما قالوا؛ حيث قال - تعالى -: (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) يقول: أنى يتوبون؟! أو من أين تنفعهم توبتهم في ذلك بعدما خرجت أنفسهم من أيديهم، وقد جاءهم رسول قبل ذلك الوقت مبين أنه رسول؟! واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ ... (14) يحتمل: أي: أعرضوا عما جاء به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من القرآن. ويحتمل تولوا عما دعاهم إليه رسول اللَّه وأمرهم به. ويحتمل: تولوا عن رسول اللَّه نفسه. وقوله عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ). قولهم: (مُعَلَّمٌ) لأنهم يقولون: إنما يعلمه بشر. وقوله: (مَجْنُونٌ) نسبوه إلى الجنون؛ لوجهين: أحدهما: ما ذكر: أنه إذا نزل به الوحي، تغيرت حاله ولونه؛ لثقل ذلك عليه، فيقولون: به آفة وجنون. والثاني: لما رأوه قد خاطر بروحه ونفسه؛ لأنه خالف الفراعنة منهم والأكابر الذين كانت همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم ودعاهم إلى غير الذي كانوا عليه، إذن نسبوه إلى الجنون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15). قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) في معاصيكم وكفركم الذي كنتم فيه.

(16)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) إلى عذاب يوم القيامة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16). قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك يوم بدر، وهو قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقول عامة أهل التأويل، وقالوا ذلك أشد من الدخان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو عذاب يوم القيامة؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ والحسن، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) يقول - واللَّه أعلم -: ولقد فتنا قوم فرعون بموسى قبل قومك كما فتنا قومك بك. أو يحتمل أن يقول: ولقد فتنا قوم فرعون بمثل الذي فتنا قومك. ثم افتتان قوم فرعون بمثل الذي فتن قومه يخرج على وجوه: أحدها: أن موسى - عليه السلام - قد أتاهم بالبينات المعجزات ما لم يقدر فرعون وقومه على مقابلة تلك الآيات، وعجزوا عن الإتيان بمثلها، فمهما أتاهم بذلك وعرفوا أنها آيات اللَّه - تعالى - كذبوها وردوها ونسبوا موسى إلى السحر والكذب والافتراء على اللَّه تعالى - فعلى ذلك عمل أهل مكة برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعاملوه بالذي عامل أُولَئِكَ موسى من النسبة إلى السحر والجنون والكذب والافتراء على اللَّه - تعالى - واللَّه أعلم.

(18)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن فرعون وقومه ازدروا موسى وحقروه؛ لأنه ولد فيهم كما ازدرى أهل مكة محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: أنت أصغرنا وأفقرنا وأقلنا حيلة، كما قال فرعون لموسى: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا. . .) الآية. ويحتمل أن يكون أهل مكة سألوا اليهود من الأنباء التي يجدونها في كتبهم؛ ليحاجوا بها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يطلبون بذلك ظهور الكذب من رسول اللَّه فيما كان يخبرهم من الأنباء المتقدمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) كان جميع رسل اللَّه - عليهم الصلاة والسلام - كرامًا؛ لأن اللَّه - تعالى - كان بعثهم إلى قوم جهال سفهاء، كان لهم الركون إلى الدنيا، والميل إليها والرغبة فيها، فبعث إليهم كرام الخلق؛ ليداروا أُولَئِكَ الأقوام، ويتهيأ لهم المعاملة لهم والتحمل منهم؛ لسوء ما كانوا يعاملونهم، واللَّه أعلم بذلك؛ ولذلك وصف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالخلق العظيم؛ حيث قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ... (18) يقول: أن أرسلوا معي بني إسرائيل، وخلوا عنهم، ولا تحبسوهم، ولا تستعبدوهم، فإنهم أحرار. ويحتمل أن يقول: أرسلوا معي بني إسرائيل فإنهم يرغبون في إجابتي إلى ما أدعوهم إليه، ويطمعون في اتباعي فيما آمرهم به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي: إني لكم سول أمين على الوحي والرسالة. ويحتمل أن يقول: إني كنت أمينًا فيما بينكم، لا يظهر لكم مني خيانة؛ ولا اطلعتم على كذب قط، فلماذا تكذبونني وتنسبونني إلى السحر؟! واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ... (19) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: وألا تتكبروا، ولا تتعظموا على اللَّه. لكن عندنا معناه: وألا تتكبروا وتتعظموا على رسول اللَّه، ولا تتعظموا على عبادة الله وعلى دينه؛ إذ لا أحد يقصد قصد التكبر على اللَّه - تعالى - وأن ينسب إليه، فهو على إرادة أوليائه أو دينه؛ كقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: آتيكم بحجة بينة أنها من اللَّه، وأني رسول اللَّه، وهو ما آتاهم من الآيات المعجزات أو الحجج والبراهين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) لا يحتمل أن يكون هذا الكلام

(21)

من موسى - عليه السلام - على ابتداء بلا سبب كان من فرعون، ولا أمر سبق، فكأن سببه ونازلته - واللَّه أعلم - هو ما ذكر في سورة أخرى؛ حيث قال: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) الآية، لما قال فرعون ذلك وهم أن يقتل موسى قال له موسى عند ذلك: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) وفي ذلك دلالة آية من آيات اللَّه لرسالته؛ لأنه قال فرعون: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)، ليمنعني عن قتله، فقال: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ. . .) الآية دل هذا القول على أنه علم قول فرعون، وقصده بقتله، وتعبيره بالدعاء إلى اللَّه - تعالى - ليمنعه عن ذلك، وعلم أن اللَّه - تعالى - يعصمه عن شره وكيده حتى قال ذلك. وقوله: (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) يقول: فإن لم تصدقوني فيما أدعوكم إليك وآمركم به فاتركوني فأصدق وأومن به، ولا يضركم تصديقي وإيماني. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: دعوني خفافا جانبًا، لا عليَّ ولا لي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) ولا تقتلون. وقوله: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) وهو كقوله حيث قال: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ)، وكقول نوح - عليه السلام -: (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا)، ونحو ذلك يقولون: يا ربنا إنا قد عاملناهم المعاملة التي أمرتنا أن نعاملهم، واحتلنا الحيل التي علمتنا أن نحتال معهم، فلم ينجع ذلك فيهم ولا تبعونا، ولا أجابونا إلى ذلك، فهل من حيلة سوى ذلك أو معاملة غير ذلك نعاملهم بها، لعلهم يتبعوننا ويجيبوننا، هذا الدعاء وهذا القول منهم يكون بعد ما أجهدوا أنفسهم في دعائهم إلى الحق زمانًا طويلا ليس يحتمل في ابتداء الأمر. وقوله: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) كان في إخراج موسى - عليه السلام - وبني إسرائيل من بين أظهر أعدائهم ليلا من غير أن شعر علم أحد من أعدائهم بذلك، وهم العدد الذي ذكر في القصة أنهم زهاء ستمائة ألف - آية عظيمة عجيبة لموسى - عليه السلام - على رسالته؛ إذ خروج عدد ستين من بين أظهرهم عسير صعب، فكيف خروج العدد الذي ذكر في القصة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: قوم فرعون يتبعونهم؛ ليردوهم إلى الأمر الذي كانوا يستعملونهم من قبل، من نحو الاستخدام والاستعباد، واللَّه أعلم. والثاني: أن يتبعوهم للعناد والحرب؛ لأنه ذكر في القصة أنهم أخذوا أموالهم من

(24)

الحلي واللباس فخرجوا بها، فجائز أن يكون اتباعهم إياهم ليقاتلوهم كما يقاتل الأعداء. وقوله: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) يحتمل قوله: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ) كأن موسى - عليه السلام - كان يضرب البحر بعصا، ليصل الماء بعضه ببعض؛ لئلا يعبر فرعون وقومه، فقال له: اتركه كما هو (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ). ثم اختلف في قوله: (رَهْوًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: هي فارسية عربت؛ أي: اترك البحر " راه ". وقال بعض أهل اللسان: (رَهْوًا) أي: ساكنًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَهْوًا) أي: متصلا؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ. وقال أهل التأويل: (رَهْوًا) أي: يابسًا، وهو كقوله: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا). وقوله - تعالى -: (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) قد وعدهم - جل وعلا - أن يغرق فرعون وقومه ففعل. وقوله: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) أي: ناعمين. وقيل: معجزين. من الناس من قال: إن هذه الآية مخالفة للآية الأخرى في ظاهر المخرج، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -، (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ. . .) الآية، ثم قال اللَّه - تعالى - (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)، فإذا كانت قد أجيبت دعوتهما في طمس أموالهم فطمست لا محالة فكيف ذكر (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. . .) الآية، وما معنى قوله: (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ). لكن عندنا أنه لا مخالفة بين الآيتين؛ إذ جائز أن يكون طمس أموالهم التي كانت لهم من الحلي وغير ذلك من الصامت ونحوه خاصة، فأما الأموال التي كانت لهم بالشركة من نحو البستان والزروع وأمثالها فتلك لم يطمسها، ولكنه تركها على ما هي عليه لبني إسرائيل، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) أي: مثل ذلك أورثناها قومًا آخرين، وهو كما ذكر في آية أخرى حيث قال: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا)، فيه أن بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر،

(29)

ونزلوا أوطانهم ومنازلهم وبساتينهم. وقوله: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض؛ بل سروا بذلك واستبشروا بهلاكهم؛ فيكون ذكر نفي البكاء لإثبات ضده وهو السرور والفرح، لا لعينه، وذلك جائز في اللغة أن يذكر نفي الشيء ويراد به إثبات ضده، لا عين النفي، كقوله - تعالى -: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)، ليس المراد إثبات نفي الربح؛ أي: لم يربح فحسب؛ بل المراد إثبات الخسران والوضيعة، أي: خسرت ووضعت؛ فعلى ذلك قوله - تعالى -: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) أي: ضحكت وسرت واستبشرت بهلاكهم؛ لأنهم جميعًا أبغضوهم وعادوهم لادعائهم ما ادعوا من الألوهية لفرعون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) يحتمل أن المراد به ما روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ما من مؤمن إلا وله باب في السماء يصعد إليه عمله الصالح، وفي الأرض مصلى يصلي فيه، فإذا مات بكى ذلك عليه كذا كذا يومًا " وهم ليس لهم ذلك فلا يبكى عليهم. وجائز أن يكون - أيضًا - قوله - تعالى -: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) أي: لم يبق لهم أحد يبكي عليهم من الأولاد وغيرهم؛ لأنهم استؤصلوا جميعًا من الأولاد وغيرهم، فلم يبك عليهم أحد، فأمَّا سائر الموتى قد يبقى لهم من يبكي عليهم؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يذكر بكاء السماء إذا عظم الأمر على التمثيل، من نحو موت الملوك والقادة ومن عظم قدره عندهم، فيخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن موت فرعون وأتباعه لم يعظم على أهل السماء والأرض؛ لما لا قدر لهم عندهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30). قَالَ بَعْضُهُمْ: (نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ) الذي نزل بفرعون وقومه، وهو الغرق في البحر، أغرق أُولَئِكَ ونجى هَؤُلَاءِ. ويحتمل أن يكون المراد: أنه نجاهم من العذاب الذي كانوا يعذبون؛ من نحو القتل والاستخدام والاستعباد وأنواع العذاب الذي كانوا يعذبون هم ما داموا بين أظهرهم وفي

(31)

أيديهم، فنجاهم من ذلك؛ حيث أخرجهم من بين أيديهم - واللَّه اعلم - وهو أشبه؛ لما قال: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31). قوله: (عَالِيًا) أي: غالبًا عليهم، قاهرًا لهم بأنواع القهر الذي كان يقهرهم، والله أعلم. وقوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) أي: اخترنا بني إسرائيل. وقوله: (عَلَى عِلْمٍ) يخرج هذا على وجوه: أحدها: أي: (اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ) أي: بسبب علم آتيناهم ذلك، لم يؤت ذلك غيرهم؛ لتظهر فضيلة العلم على العالمين وشرفه، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل: (اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ) منا بأسباب فيهم وأشياء لم تعلم تلك الأسباب والمعاني في غيرهم، بها استوجبوا الاختيار على العالمين. والثالث: أي: (اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ) أي: بسبب علم أحوجنا غيرهم إليهم، فصاروا مختارين مفضلين بسبب تعليمهم إياهم ما احتاجوا إليه؛ فيكون لهم فضل الأستاذ على التلميذ، وهذا كما يقال: إن العرب أفضل من الموالي؛ لأن الموالي احتاجوا إلى العرب في معرفة لسانهم، ومعرفة أشياء احتاجوا إليها، فاستوجبوا الفضيلة؛ لحاجتهم إليهم؛ ولذلك فضلت قريش على سائر العرب؛ لما احتاجت سائر العرب إلى قريش في معرفة أشياء لا يصلون إلى ذلك إلا أنهم فضلوا على غيرهم لذلك؛ فعلى ذلك يحتمل أنه أحوج إلى بني إسرائيل غيرهم في معرفة أشياء، فاستوجبوا بذلك الاختيار والفضيلة على غيرهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) من وجهين: أحدهما: أي: محنة بينة، وهي أنواع ما امتحنهم من البلايا والشدائد، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل أن يكون قوله: (بَلَاءٌ مُبِينٌ) أي: نعم عظيمة، وهو ما آتاهم من أنواع النعم من المن، والسلوى، وتظليل الغمام عليهم، وخروج العيون من الحجر، ومجاوزتهم من البحر، وإهلاك عدوهم، وغيرهم من النعم التي آتاهم مما لا يحصى، وهو ما ذكر في سورة البقرة، وهو قوله - تعالى -: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي: نعمة عظيمة من ربكم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا

(34)

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) يقول اللَّه تعالى - وهو أعلم -: إن الذي يحمل هَؤُلَاءِ على الإنكار والكفر بك وترك الإيمان بك - إنكارهم البعث والإحياء بعد الموت؛ كقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، ممن آمن بالآخرة فأما من لم يؤمن بالآخرة لا يؤمن به، واللَّه أعلم. وأصله أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث لدعاء الخلق إلى الزهد في هذه الدنيا، والرغبة في الآخرة، والقطع عن جميع شهواتهم ومناهم في الدنيا، وتأخير ذلك إلى الآخرة، فمن آمن بالآخرة سهل عليه ترك ذلك كله، وهانَ عليه قطع نفسه عن قضاء ذلك كله، ومن أنكر الآخرة وجحدها اشتد ذلك عليه وصعب، وحمله ذلك على إنكارها والجحود لها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) هذا منهم احتجاج عليه، يقولون: لو كنت صادقًا فيما تقول: إنه بعث وإحياء، فأحيي من ذكروا وائت بهم، لكن هذا احتجاج باطل؛ لأن الآيات والحجج ليست تنزل وتأتي على ما تشتهي أنفس أُولَئِكَ، ولكن تنزل على ما توجبه الحكمة، وعلى ما فيه الحجة، لا على ما يريد المقام عليهم الحجة، كما في الشاهد أن الواجب على المدعي إقامة ما هو حجة في ذاتها، لا إقامة ما يريدها المدعى عليه، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد أتاهم من البيان والحجة ما يوجب البعث والإحياء بعد الموت لو تأملوا ولم يكابروا عقولهم، وكون سؤالهم منه آية أخرى مردود عليهم، والله أعلم. وبعد: فإن اللَّه - تعالى عَزَّ وَجَلَّ - قد وعد البقاء لهذه الأمة إلى يوم القيامة، ولو أعطاهم ما سألوا من الآيات ثم أنكروها أهلكوا واستؤصلوا؛ إذ من سنته أن كل آية أتت ونزلت على إثر سؤال كان منهم، ثم أنكروا - كان في ذلك هلاك وعذاب؛ لذلك لم يعطهم ما سألوا، واللَّه أعلم.

(37)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) ليس في هذا جواب لقولهم: (فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، ولم يأت بجواب ذلك، وإنما كان؛ لأنهم لم يستحقوا الجواب لهذا السؤال؛ لأنهم سألوا ذلك تعنتًا وعنادًا. ويحتمل أن يكون في هذا جواب لقولهم وسؤالهم الآية المخترعة، وفي الآية دلالة على البعث أيضًا: بيان الأول: أنه أخبر عن قوم تبع ومن ذكر من الأمم الخالية، كانوا ينكرون رسالة رسلهم، ويكذبونهم، ويوعدونهم الرسل بالعذاب والهلاك، فيكذبونهم - أيضًا - فيما يوعدون من البعث، فجاءهم الهلاك، فيقول: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) ومن ذكر، أي: أُولَئِكَ هم أشد قوة أم هَؤُلَاءِ؟ وهم علموا أن أُولَئِكَ أشد قوة وبطشًا، ثم لم يتهيأ لهم الامتناع من عذاب اللَّه الذي نزل بهم بتكذيبهم الرسل وإنكارهم البعث، فأنتم دون أُولَئِكَ، فكيف يتهيأ لكم الامتناع من العذاب إذا نزل بكم؟! وهو كقوله - تعالى -: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ)، وإذا لم يتهيأ لهم الدفع ومن سنته الاستئصال بالتكذيب للآيات المخترعة، وقد وعد البقاء لهذه الأمة إلى يوم القيامة وكونه رحمة للخلق؛ لذلك لم يعطهم الآية التي سألوا، واللَّه أعلم. وأما الثاني: وهو أنه لما أخبر: أن تعذيب أُولَئِكَ الكفرة؛ لتكذيب الرسل وإنكار البعث؛ فدل أن البعث حق حتى يستحق منكره العذاب، واللَّه أعلم. وذكر أن تبعًا كان رجلا صالحًا، وعائشة - رضي اللَّه عنها - تقول: " لا تسبوا تبعًا؛ فإنه كان رجلا صالحًا ". وذكر أنه كان رسولا، وقد ذكرنا نعته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) وقال في آية أخرى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا): إن الكفرة كانوا لا يطلقون القول، فلا يقولون: إن اللَّه - تعالى - خلقهما وخلق ما بينهما باطلا ولعبًا، لكن خلق ذلك كله على فتياهم وظنهم، وعلى ما عندهم يصير عبثًا باطلا؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، ويقولون: أن لا بعث، ولا حساب، ولا ثواب، ولا عقاب، فإذا كان فتياهم وظنهم أن لا بعث ولا نشور، يكون خلقهم وخلق السماء والأرض وما ذكر - باطلا ولعبًا؛ لأن المقصود بخلق ما ذكر -على زعمهم- لم يكن إلا الإفناء والإهلاك، ومن لم

(39)

يقصد في بنائه إلا النقض في الشاهد والإفناء في العاقبة، كان في بنائه وقصده سفيهًا، غير حكيم، فعلى ذلك اللَّه - سبحانه وتعالى - في خلقه إياهم، وإنشائه لهم، وتحويله إياهم من حال إلى حال أخرى: من حال النطفة إلى حال العلقة إلى حال المضغة إلى حال تصوير الإنسان، ثم إلى حال الكبر، لو لم يكن ما ذكرنا من المقصود سوى الإفناء والإهلاك على ما زعموا - كان سفهًا باطلا، غير حكمة؛ لما ذكرنا: من قصد في البناء الإفناء خاصة لا غير، كان في فعله وقصده لاعبًا عابثًا سفيهًا؛ ولذلك سفه اللَّه تلك المرأة التي لم يكن قصدها في غزلها إلا نقضه في العاقبة؛ حيث قال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا. . .) الآية، فعلى ذلك خلق اللَّه إذا لم يكن بعث ولا نشور -على ما قال أُولَئِكَ الكفرة وظنوا- كان كذلك سفهًا غير حكمة؛ ولذلك قال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، جعل خلقه إياهم لا للرجوع إليه عبثًا، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ... (39) قَالَ بَعْضُهُمْ: إلا لإقامة الحق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إلا لأمر كائن مراد. وأصل الحق: هو أن يحمد عليه فاعله في العاقبة، والباطل هو ما يذم عليه فاعله، وإنما خلق - جل وعلا - ما ذكر؛ ليحمد على فعله، لا ليذم، ولو لم يكن القصد في خلقهم إلا الإفناء والإهلاك لكان لا يحمد عليه، ولكن يذم، على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أنهما لم يخلقا باطلا وعبثًا، وهو ما ظنوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) سمي يوم القيامة مرة: يوم الجمع، ومرة يوم التفريق، ومرة يوم الفصل، فهو يوم الجمع؛ لما يجمع فيه الخلائق جميعًا، وكذلك يوم الحشر. ويوم الفصل يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يفصل بين أوليائه وأعدائه، ينزل أولياءه في دار الكرامة والمنزلة وهي الجنة، وأعداءه في دار الهوان والعقاب، وهو ما قال: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). ويحتمل أن يكون قوله: (يَوْمَ الْفَصْلِ) أي: يوم القضاء والحكم، أي: يقضي ويحكم بين المؤمنين والكافرين فيما تنازعوا واختلفوا في الدنيا بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

(41)

ويحتمل - أيضًا - ما ذكرنا من الفصل بين الأولياء والأعداء ما لو لم يكن ذلك في الآخرة بينهم وإن جامعًا مسويًا بين الأولياء والأعداء، وهم استووا واجتمعوا في الدنيا في ظاهر أحوالهم، ومن سوى بين وليه وعدوه، كان سفيهًا غير حكيم - دل أن هنالك دارًا أخرى يفصل بينهما، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) هذا في الكفار خاصة يخبر أنه لا ولي ينفعهم في الآخرة، ولا يعين بعضهم بعضًا على ما يعان في الدنيا إذا نزل ببعض منهم بلاء وشدة، وهو ما ذكر في آية أخرى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. . .) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَاخْشَوْا يَوْمًا. . .) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، واللَّه الموفق. ثم قوله - تعالى -: (لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا) يحتمل مولى الأعلى ومولى الأسفل، على ما يعين بعضهم بعضا في الدنيا. ويحتمل كل ولي وقريب؛ يخبر أنه لا قريب يملك دفع ما نزل به، ولا ولي، ولا يملك نصره ولا معونته؛ لأن ولايتهم يومئذ تصير عداوة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ. . .) الآية، استثنى المتقين، وعلى ذلك استثنى في هذه الآية أيضًا حيث قال: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ ... (42) ومنَّ عليه، وهداه الإيمان، ورزقه التوحيد فإنه يكون بعضهم لبعض شفعاء وأولياء ينصر بعضهم بعضا، ويشفع بعضهم لبعض، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ): (الْعَزِيزُ) في نقمته من أعدائه لأوليائه (الرَّحِيمُ) للمؤمنين الذين استثنى في الآية؛ حيث قال: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ). وقوله: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) ظاهر الآية أنها طعام كل أثيم، لكنها ليست بطعام كل أثيم؛ بل هي طعام أثيم دون أثيم، وهو الكافر؛ لأن الإثم المطلق هو الإثم من كل وجه، وهو الكافر، فأما المؤمن المسلم لا يكون أثيمًا مطلقًا مع قيام إيمانه وكثير طاعته؛ فلا يكون صاحب الكبيرة داخلا تحت الآية. قال بعض أهل التأويل: إنه لما نزل قوله - تعالى -: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ. طَعَامُ الْأَثِيمِ) أتى بعض الكفار بالعسل والزبد، وقالوا لأصحابهم: تعالوا نتزقم فإن

(45)

محمدًا وعدنا بذلك؛ لما كان الزقوم هو الزبد والتمر والعسل بلغة قوم من العرب، فنزل عند ذلك قوله - تعالى -: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ. . .) الآية، أخبر أنها شجرة أنشئت من النار، بقوله - تعالى -: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) الآية، ليست كسائر الأشجار، ثم شبهها بالمهل بقوله - تعالى -: (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) والمهل: دُرْدِيُّ الزيت. ثم يحتمل تشبيهها بالمهل وجهين: أحدهما: لالتصاقه بالبدن؛ لأنه قيل: إنه ألصق الأشياء بالبدن. ويحتمل أن يشبهها بذلك؛ لكثرة ألوانها وتغيرها من حال إلى حال. ثم الإشكال أنه ليس في أكل دُرْدِيُّ الزيت فضل شدة وكثير مؤنة، فما معنى التشبيه به؟ لكن نقول: إنّه بين أن ذلك المهل والدردي من النار؛ حيث قال: (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ). ثم الإشكال أن شجرة الزقوم كيف تكون للأثيم؟ فيحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أنه يخرج منها شيء ويسيل، فيسقى ذلك الكافر. ويحتمل: أنه يأكلها كما هي، فتذوب في بطنه، فتغلي، فيكون ما ذكر. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رأى فضة قد أذيبت، فقال: هذا المهل، فجائز أن يكون على هذا كل شيء يذاب ويحرق فهو المهل، والحميم هو الشيء الحار الذي قد انتهى حره غايته واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ظاهر هذا أن يكون بعدما أدخلوا في النار، لكن يحتمل أيضًا أن يكون ذلك في أول ما يراد أن يدخلوا النار؛ كقوله: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)، فعلى ذلك (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ). ثم قوله - تعالى -: (فَاعْتِلُوهُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ادفعوه (إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) أي: إلى وسط الجحيم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَاعْتِلُوهُ) أي: قودوه قودًا إلى (إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) يقال: جيء بفلان يعتل إلى السلطان؛ أي: يجرُّ ويُقاد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو السوق الذي فيه شدة وتعنيف؛ أي: سوقوه سوقًا شديدًا عنيفًا.

(48)

وبعضه قريب من بعض. والجحيم: هو معظم النار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) أي: من شراب الحميم؛ جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأهل النار من ألوان الشراب: الحميم، والصديد، ونحوهما، مكان ما جعل لأهل الجنة من أنواع الشراب؛ حيث قال: (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. . .) الآية. ثم في الآية أن الفريقين جميعًا لا يتولون شرابها بأنفسهم، لكنهم يُسقون؛ على ما ذكر في أهل الجنة في غير آي من القرآن؛ حيث قال: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ. . .)، وقوله - تعالى -: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا. . .)، ونحو ذلك كثير، وقال في أهل النار: (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ)، وقوله - تعالى -: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ)، وقال في آية أخرى: (مِنْ غِسْلِينٍ)، وغير ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) قال أهل التأويل: إنما يقال هذا لأبي جهل اللعين، وله ذلك العذاب الذي ذكر في الآية، وهو المراد بالأثيم؛ كان في الدنيا يفتخر، ويقول: أنا العزيز الكريم، وليس فيما بين كذا إلى كذا أعزّ منّي، وأنا المتعزز المتكرم، فيقال له في الآخرة: (ذُقْ) هذا الذي ذكر (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) في الدنيا يصغرونه ويهينونه. ويحتمل أن يكون هذا في كل كافر يتعزز في الدنيا ويتكرّم، وكل رئيس منهم، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي: ذق فإنك لست بعزيز ولا كريم، ثم يقال ذلك له على التهزي به؛ أي: لو كنت عزيزًا كريمًا ما دخلت النار، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) فيه لغتان: (مُقَامٍ) بالرفع،

(52)

و (مَقَامٍ) بالنصب: فمن قرأ بالنصب فهو موضع المقام، وهو المنزل والمسكن؛ معناه: في مسكن أمين؛ أي: آمنوا فيها من الآفات والأوصاب والأسقام. ومن قرأ برفع الميم فهو المصدر؛ يعني: الإقامة؛ أي: يقيمون فيها، آمنين عن الخروج عنها والزوال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)، قالوا: السندس: ما رق من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه. ثم يحتمل أن يكون ما ذكر من اللبس لما رق منه، فأما ما غلظ منه فإنه يبسط، وإن كان ذكر اللبس فيهما -في الظاهر- يتناول ما رق منه وما غلظ، فالمراد من ذكر اللبس يرجع إلى ما يلبس، وهو الذي يرق منه ويدق. وجائز في اللغة أن يذكر الشيئان باسم أحدهما إذا كان بينهما ازدواج في الجملة عادة أو حقيقة، واللَّه أعلم. ويحتمل أنه إنما ذكرهما جميعًا؛ لما يكون من رغبة الناس إليهما جميعًا في الدنيا، فرغبهم في الآخرة، ووعد لهم أن يكون لهم ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَقَابِلِينَ) يخبر أن مجلسهم في الجنة نحو مجلسهم في الدنيا مقابل بعضهم بعضا، حيث قال: (كَذَلِكَ ... (54) على إثر ذلك، يكونون في الجنة كما كانوا في الدنيا من مقابلة بعض بعضًا، واجتماعهم في المجلس في الشراب وغيره، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (بِحُورٍ) أي: ببيض الوجوه، و (عِينٍ)، أي: حسان الأعين. وقال بعض أهل الأدب: الحور في العين هو شدة سواد سوادها وبياض بياضها، ويقال: امرأة حوراء، ونسوة حور، ورجل أحور، وقوم حور، والعيناء: الحسنة العينين؛ يقال رجل أعين، ورجال عين، وامرأة عيناء، ونسوة عين، فالجماعة على هيئة واحدة في هذا الباب في المذكر والمؤنث، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55). تأويله - واللَّه أعلم - أي: ثمار الجنة وفواكهها، ليس لها فساد ولا انقطاع، ولا

(56)

ْنقصان، ولا زوال (يَدْعُونَ) يسألون أن أحضروها، لا يسألون كما يسألون في الدنيا هل بقي شيء، أو هل عندكم شيء من الفواكه؟ ونحو ذلك؛ لما ذكرنا أن لثمار الدنيا انقطاع وفناء، وليس لثمار الجنة وفواكهها كذلك، لذلك ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله: (آمِنِينَ) يحتمل وجهين: أحدهما: (آمِنِينَ) عن انقطاع فواكهها وثمارها وما ذكر. ويحتمل (آمِنِينَ) وفيها في الجنة ليس لهم خوف الخروج عنها والزوال، وآمنون عن جميع الآفات التي تكون في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ... (56) والإشكال: أنه نفى الموت في الجنة واستثنى الموتة الأولى، وليس في الجنة موت أصلا، كيف يستثني الموتة الأولى وأن ظاهر الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى منه، فيوهم أن يكون في الجنة موت؟! قَالَ بَعْضُهُمْ: إن " إلا " بمعنى غير وسوى، وفيه إضمار؛ كأنه قال: لا يذوقون فيها -أي: في الجنة- الموت سوى الموتة الأولى التي ذاقوا في الدنيا؛ لأن الموتة التي ذاقوا وهي الموتة الأولى لا يتصور ذوقها ثانيًا، ولو كان يكون مثلها، ولأن الجنة ليست محل الموت، فكأن المراد ما قلنا، أي: لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموت الذي ذاقوا في الدنيا، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ. . .) الآية؛ أي: سوى ما قد سلف، (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً)، في ذلك الوقت؛ على أحد التأويلين، واللَّه أعلم. وعندنا يخرج تأويله على وجهين: أحدهما: لا يذوقون فيها الموت إلا ما ذاقوا من الموتة الأولى؛ لأنه ذكر في الخبر أنه: " يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح -أو كذا- فيذبح بين أيديهم، فعند ذلك يأمنون الموت هنالك " واللَّه أعلم. والثاني: لا يذوقون فيها الموت ولا يرونه إلا الموتة الأولى التي رأوها في الدنيا، تلك يعرفونها ويذكرونها، فأما سواها فلا، والذوق سبب المعرفة، فاستعير للمعرفة مجازًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) ليس هو تخصيص وقاية عذاب

(57)

الجحيم فحسب؛ بل المراد نفيهم العذاب كله، لكن الجحيم معظم النار، فذكره كناية عن الكل، فضلا منه، ليس باستحقاق منهم بالأعمال، على ما تقدم ذكره في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) الفوز بأحد شيئين: إما الظفر بما يأمل ويرجو، فإذا ظفر بذلك يقال: فاز، وإما النجاة مما يحذر ويخاف إذا حذر أمرًا وخافه فيخلص من ذلك ويقال، فأيهما كان فهو فوز، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْعَظِيمُ) جميع أمور الآخرة وحالها سمي: عظيمًا، من العذاب والنعيم؛ قال اللَّه - تعالى - (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ)، و (عَذَابٌ عَظِيمٌ)، و (فَوْزًا عَظِيمًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ... (58) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: كأنه يقول: فإنما أنزلنا القرآن بلسانك ويسرناه للذكر؛ ليلزمهم التذكر؛ لأنه أنزله بلسانه ويسره لقومه؛ لأنه لو كان منزلا بغير لسانه، لم يكن ميسرًا لهم للذكر، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ)، أخبر أنه يسره للذكر؛ لأنه يسره باللسان، ولكن معناه ما ذكرنا: أنه أنزله بلسانه ويسره للذكر، واللَّه أعلم. والثاني: فإنما يسرناه على لسانك كي تذكره وتحفظه بلا كتابة ولا نظر في كتاب؛ لأنه ذكر أنه كان - عليه السلام -: يحفظ سورة طويلة إذا تلا عليه جبريل - صلوات اللَّه عليه - وقد آمنه اللَّه - سبحانه وتعالى - عن النسيان بقوله - تعالى -: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) هو يخرج على وجوه: أحدها: لكي يلزمهم التذكر. ويحتمل: لكي يتذكروا ما قد نسوا من حق اللَّه الذي عليهم. أو ليتعظوا بمواعظ اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) على وجهين: أحدهما: ارتقب ما وعد اللَّه أن ينزل بهم من العذاب فإنهم مرتقبون هلاكك وانقطاعك ونحوه. أو يقول: ارتقب، ولا تكافئهم، ولا تدع عليهم بالهلاك، فإنهم مرتقبون بما ألقى الشيطان في أمنيتهم بأن ملكك يزول، وأنه يعود إليهم، واللَّه أعلم. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فارتقبهم إنهم مرتقبون) والارتقاب: الانتظار، واللَّه أعلم.

سورة الجاثية

سُورَةُ الْجَاثِيَةِ وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) قد ذكرناه في غير موضع. وقوله: (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) قد ذكرنا - أيضًا - تأويل " العزيز الحكيم " في غير موضع أيضًا. ثم إنما ذكر قوله: (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) على إثر ذلك؛ ليعلم أنه ما أنزل الكتاب، وما أمرهم، وما نهاهم، وامتحنهم بأنواع المحن؛ ليتعزز هو بذلك، أو يزيد له عزَّا وسطانًا أو قوة إذا ائتمروه وأطاعوه، وإذا خالفوه ولم يطيعوه فيما أمرهم، وارتكبوا ما نهاهم يلحقه ذل أو نقصان في ملكه وسطانه؛ بل إنما فعل ذلك من الأمر والنهي وأنواع المحن لمنفعة أنفس الممتحنين، ليتعززوا إذا اتبعوا أمره وأطاعوه، ويلحقهم ذل ونقصان إذا تركوا اتباعه، بخلاف ملوك الأرض، فإنه يزيد لهم اتباع من اتبعهم عزًّا وسطانًا وقوة في ملكهم، وترك اتباعهم إياهم وارتكاب ما نهوهم عنه يوجب لهم ذلا ونقصانًا في ملكهم؛ لأن المخلوق كان عزيزًا بغيره، فإذا زال ذلك زال عزه وصار ذليلا؛ فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - عزيز بذاته فلا يلحقه النقصان بمخالفة من خالفه، ولا يزداد عزه بائتمار من ائتمره. وقوله: (الْحَكِيمِ) والحكيم هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير؛ يذكر هذا؛ ليعلم أنّ من أنشأه من الخلائق على علم منه أنهم يكفرون به ويعصونه لم يزل عنه الحكمة، ولا أخرجه منها؛ لما ذكرنا أنه لم ينشئهم لحاجة له فيهم، أو لمنفعة ترجع إليه، ولكن لحاجة لهم، ولمنفعة ترجع إلى أنفسهم، ومثله في الشاهد يزيل الحكمة ويدخل في حد السفه؛ لما ذكرنا أنهم إنما يفعلون لحوائجهم، فكان الفعل مع العلم بأنه لا منفعة له فيه، بل مضرة لا يكون حكمة منهم؛ لذلك افترق الشاهد والغائب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) و (آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) و (آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ونحو ذلك، يخرج ذكر الآيات لهَؤُلَاءِ على وجوه:

(6)

أحدها: أن يكون ما ذكر من الآيات لهَؤُلَاءِ آيات على أعدائهم يحتجون بها عليهم؛ فتكون هي آيات لهم على أعدائهم. والثاني: أن منفعة هذه الآيات تجعل لهَؤُلَاءِ، وهم المنتفعون بها؛ أعني: متبعها دون من ترك أتباعها. والثالث: هنَّ آيات لمن اعتقد اتباع الآيات والإيقان بها، وهم المؤمنون، فأما من اعتقد ردّها وترك الاتباع لها فليست هي آيات لهم، واللَّه أعلم. وقد ذكرنا في غير موضع، جهة الآيات فيما ذكر من السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به، وإخراج ما أخرج منها، في ذلك آيات هيبته، وآيات وحدانيته، وآيات قدرته وسلطانه، وآيات علمه وتدبيره، وآيات حكمته، وغير ذلك مما يطول بذكرها، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ) إشارة إلى الآيات التي تقدم ذكرها (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) أنها من اللَّه - تعالى - لما عجزوا عن إدراك ذلك من الحكمة البشرية به فيعلموا أنها من اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يقول - واللَّه أعلم -: لو كانوا بالذين يقبلون حديثًا قط، فلا حديث أظهر صدقًا من حديث اللَّه تعالى ولا أبين حقًّا فيه من كلامه؛ لأنها آيات معجزات، عجزوا عن إتيان مثلها. وإن كانوا بالذين لا يقبلون حديثًا فيلحقهم السفه في ذلك، فيكفي مؤنتهم، والله الهادي. * * * قوله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) الأفاك: هو المصروف عن اتباع ما توجب الحكمة اتباعه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأفاك: الكذاب، والأثيم: هو الذي اعتاد الإثم، وهو أكثر من الآثم.

(8)

ثم نعت ذلك الأفاك فقال: (يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8). يحتمل قوله: (آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ) القرآن. ويحتمل: (آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ) آيات وحدانية اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أو آيات رسالة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ثم أخبر عن تعنته وعناده في آيات اللَّه حيث قال: (ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا) أي: يصر مستكبرًا بعد تلاوة الآيات عليه، وبعد معرفته وفهمه أنها آيات اللَّه، كما كان يصر قبل ذلك؛ لأنها آيات خارجات عن وسعهم؛ إذ عجزوا عن إتيان مثلها، فإذا كانت خارجة عن احتمال وسعهم فكذلك هي خارجات عن وسع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ هو واحد من البشر مثلهم، فيعرفون أنه إنما قدر على إتيان مثلها باللَّه - تعالى - بما أوحى إليه وأعلمه بذلك (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)؛ عنادًا منه واستكبارًا. ثم أوعده العذاب الأليم، وهو قوله: (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) أي: مؤلم موجع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) أي: عذاب يهينهم باستهزائهم بالآيات. ثم قال: (مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) أضاف جهنم إلى ورائهم يحتمل أن يكون المراد من ذكر (مِنْ وَرَائِهِمْ) وراء الدنيا؛ كأنه قال: من وراء هذه الدنيا لهم جهنّم، لكنه أضاف ذلك إليهم؛ لأنهم فيها، وهم أهلها. ويحتمل أن يكون قوله: (مِنْ وَرَائِهِمْ) أي: من وراء أحوالهم التي هم عليها جهنم. وقوله: (وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ). يحتمل: (وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا) أي: ما عملوا من القرب التي عملوها؛ رجاء أن ينفعهم ذلك في الآخرة، أو يقربهم ذلك ألى اللَّه زلفى؛ يخبر أن ذلك مما لا يغنيهم ولا ينفعهم في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وعد لهم في كل حال وكل أمر كان منهم عذابًا غير العذاب في حال أخرى؛ ذكر في الحال التي عبدوا الأصنام دونه، واتخذوها أربابًا العذاب العظيم، وذكر لهم باستهزائهم بآيات اللَّه العذاب المهين، عذابًا يهينهم، ويهانون في ذلك، وذكر لهم بإصرارهم بما هم عليه واستكبارهم على آيات اللَّه وعلى رسوله العذاب الأليم، حتى يكون مقابل كل فعل كان منهم نوعًا من العذاب غير النوع الآخر، وبصفة غير الصفة الأخرى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا هُدًى ... (11) أي: بيان لهم.

(12)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي: عذاب من عذاب أليم؛ إذ الرجز هو العذاب، كأنه فسر ذلك العذاب ووصفه بالألم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) يذكرهم عظيم نعمه في تسخير البحار لهم مع أهوالها وكثرة أمواجها، وامتناعها عن منافع الخلق، صيرها بلطفه ورحمته لهم كسائر البقاع في الوصول إلى ما فيها من الجواهر واللآلئ بالغوص فيها، والخوض والاصطياد؛ لما فيها من أنواع الصيد، وغير ذلك من الأشياء، بحيل علمهم، وأسباب جعل لهم، حتى يصلوا إلى ما فيها من أنواع الجواهر والأموال النفيسة، واللَّه أعلم. وسخرها لهم - أيضًا - حتى عبروا البحر ومروا هم عليه بسفن أعطاهم، وحيل علمهم، حتى قدروا على عبوره والمرور عليه؛ ليصلوا إلى قضاء حوائجهم التي تكون في البلدان النائية، وهو ما قال: (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ). ثم قوله - تعالى -: (بِأَمْرِهِ) يحتمل أن يكون عبارة عن تكوينه؛ أي: بما كونه وأنشأه كذلك، كقوله - تعالى -: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). والثاني: يحتمل (بِأَمْرِهِ) أي: بالأمر الذي له على العباد وسائر خلائقه. ويحتمل: (بِأَمْرِهِ) أي: بإذنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:: (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي: لكي يلزمكم الشكر بذلك، أو ما ذكر فيه من الوجوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) أي: سخر لهم ما في السماوات من الملائكة، والشمس، والقمر، والنجوم، وغيرها، وما في الأرض من الأشجار، والنبات، والبهائم، والدواب، حتى استعملوها كلها في منافعهم وحوائجهم، كما استعملوا أملاكهم التي تحويها أيديهم بتسخير اللَّه - تعالى - إياهم ذلك كله، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَمِيعًا) أي: جميع ذلك من اللَّه - تعالى - أخبر أنه سخر جميع ما في هذين في السماوات والأرض، ثم أخبر (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وقد ذكرنا

(14)

جهة الآية في ذلك في غير موضع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - للمؤمنين بالعفو والصفح عمن أساء إليهم وظلمهم حتى أمرهم بالعفو والمغفرة عمن ظلمهم وأساء إليهم من الكفرة؛ ليعلم عظيم موقع العفو والصفح عن المظلمة والإساءة عند اللَّه، وما يكون لذلك من الثواب الجزيل، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: إن هذه الآيات إنما نزلت بمكة، ومن أسلم من أهل مكة بمكة كانوا مستخفين مقهورين في أيدي الكفرة، ثم لا يتهيأ لهم الانتصار منهم والانتقام عن مساويهم، وإنما يؤمر المرء بالعفو عن مظلمة من ظلمه وأساء إليه عند مقدرة الانتقام والانتصار، فأما من لا يكون على مقدرة من ذلك فلا معنى للأمر له بذلك؛ إذ هو عاجز عن ذلك، فيكون الأمر بالعفو والصفح عنهم -وإن كان أهل الإسلام منهم مقهورين مغلوبين في أيدي أُولَئِكَ الكفرة على ما ذكرتم- لوجهين: أحدهما: أنه أمرهم بذلك ليتقربوا بذلك؛ إلى اللَّه - تعالى - ويجعلوا ذلك وسيلة وقربة فيما بينهم وبين ربهم، وإن لم يكن لهم مقدرة الانتقام والانتصار منهم؛ ليكون العفو عنهم بحق القربة، لا بحق التذلل والخشوع؛ إذ يعفو كل عن اختيار وطوع، ويصير على ذلك ابتغاء لوجه اللَّه - تعالى - ويترك الجزع في نفسه والمخاصمة لو قدر على الانتقام، وهو ما أمر رسوله - عليه السلام - بالهجرة إلى المدينة بعدما أخبره أنهم يريدون أن يقتلوه أو يخرجوه؛ حيث قال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ. . .) الآية؛ لتكون الهجرة له إلى اللَّه - تعالى - بحق القربة، لا بحق التذلل بإخراجهم إياه، والله أعلم. والثاني: أن يرجع الأمر بالعفو إلى كل واحد منهم في خاصة نفسه، وقد كان من المسلمين فيهم من يقدر على الانتقام والانتصار من الأفراد والآحاد منهم، وإن لم تكن له القدرة على الانتقام من جملتهم، واللَّه أعلم. ثم قولهَ عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) هذا يخرج على وجوه: أحدها: (أَيَّامَ اللَّهِ) أي: نعم اللَّه الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع، التي وعدها في الآخرة لأهل الإيمان، وهو ما قال في آية أخرى في قصة موسى - عليه السلام - حيث قال: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ)، أي: بنعم اللَّه - تعالى - ألا ترى أن موسى - عليه السلام - فسر أيام اللَّه بالنعمة؛ حيث قال على إثره: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. . .) الآية.

(15)

والثاني: (لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) على حقيقة الأيام؛ لأنهم كانوا يرون هذه النعم والسعة في الدنيا بجهد أنفسهم وكدهم، لا بما أجرى اللَّه - تعالى - النعم إليهم في الأيام، والله أعلم. والثالث: (لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) أي: لا يحذرون نقمة اللَّه وعقوبته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أي: ليجزي كل قوم بما كسبوا من خير أو شر، يجزي من عفا منهم جزاء العفو، ويجزي المحسن جزاء الإحسان، والمسيء جزاء الإساءة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) يخبر أن من عمل من خير فإنما يعمل لنفسه، ومن عمل من سوء فإنما يعمل على نفسه، يخبر أن من عمل من خير أو صالح فلنفسه سعى في الآخرة، ومن عمل من شر فعلى نفسه سعى في الآخرة، كمن عمل في الدنيا من الأكل والشرب فلنفسه يعمل، ومن جنى من جنايات، فعلى نفسه جنى في الدنيا والآخرة؛ حيث تهلك به نفسه، ويرجع إليه وبال ذلك في الدنيا والآخرة، فعلى ذلك ما قلنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي: ثم إلى ما وعد ربكم من الثواب والعقاب ترجعون. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ) قال أهل التأويل: أي: التوراة. والإشكال: أنه آتى بني إسرائيل جملة كتبًا كثيرة، أما التوراة والإنجيل والزبور هي كتب معروفة قد نعرفها، وقد يجوز أن يكون لهم كتب غيرها، فما معنى ذكر الكتاب؟ وما معنى حملهم على أن التوراة هي المرادة، إلا أن نقول: يجوز أن يريد بذكر الكتاب:

(17)

الكتب؛ فإنه أدخل الألف واللام، فيكون لاستغراق الجنس. ويحتمل أنه أراد به التوراة، كما قال أهل التأويل؛ إذ يجوز أن يذكر اسم العام ويراد به الخاص، وهو الواحد منهم. ويحتمل أن تكون التوراة هي الكتاب الذي فيه عامة الأحكام، فإنه قيل: إن الزبور ليس فيه الحكم، إنما فيه التسبيح والتحميد، وكذا الإنجيل ليس فيه إلا أحكام قليلة، فيجوز أن يكون المراد: التوراة لهذا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَالْحُكْمَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالْحُكْمَ) أي: فهم ما فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالْحُكْمَ): فقه ما في الكتاب؛ إذ الحكم الظاهر داخل تحت قوله: (الْكِتَابَ) وبين بقوله: (وَالْحُكْمَ) أنه أعطى الحكم الظاهر فيه، والحكم المستخرج منه بالاستنباط والاجتهاد، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يراد بالكتاب: هو ما يتلى فيما بينهم وبين ربهم، والحكم هو ما أمرهم فيه أن يحكموا فيما بين العباد واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنُّبُوَّةَ) إنما ذكر النبوة؛ لأن النبوة كانت ظاهرة في بني إسرائيل، فإنه ذكر أن في بني إسرائيل كذا كذا رسولا ونبيًّا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) قد كان رزقهم من الطيبات ما ذكر من المن والسلوى، وغير ذلك من الطيبات، ما لا يحصى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) قد ذكرنا تفضيلهم على العالمين في موضعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) قَالَ بَعْضُهُمْ: (بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي: آيات من الأمر. وقيل: (بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي: ما بين لهم من الحلال والحرام والشبه، ونبأ ما كان قبلهم، واللَّه أعلم. ويحتمل (بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي: بيان ما تقع الحاجة إليه من الأمر. وعندنا (بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ) يخرج على وجهين: أحدهما: (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي: بينات التكوين ودلالات لما جعل اللَّه لهم في نفس كل أحد من دلالات وحدانيته وألوهيته.

(18)

أو ما أقام من الآيات في العالم على التكوين يدل على جعل الألوهية والربوبية له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) على ما ذكرنا من أمر التكوين؛ أي: ما اختلفوا في صرف الألوهية والوحدانية عن اللَّه - تعالى - إلى غيره (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي: إلا من بعد ما بين لهم أن الألوهية والربوبية له بالدلالة الواضحة والحجة النيرة، وأن له الخلق والأمر؛ إلا أنه ذكر العلم وأراد به أسباب العلم ودلائله، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل قوله - تعالى -: (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ): أمر المجيء من الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، وبيان ما يؤتى وما يتقى، وما لهم وما عليهم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) واختلافهم فيما امتحنوا يتوجه إلى وجوه: أحدها: ما اختلفوا فيما امتحنوا من الدِّين، أو فيما امتحنوا في اتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والإجابة له إلى ما يدعوهم إليه والطاعة له. ويحتمل: اختلافهم الذي ذكر الاختلاف في القرآن، أو فيما امتحنوا من التحليل والتحريم. ثم يخبر اللَّه - تعالى جل وعلا - أنهم ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بالحق في ذلك والبيان أنه من اللَّه، وأن ما هم عليه باطل مضمحل. ثم أخبر أن اختلافهم إنما هو لبغي بينهم وحسد، حملهم ذلك على الاختلاف فيما بينهم. ثم أخبر أنه (يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). ثم قوله - تعالى -: (يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يحتمل وجهين: أحدهما: أي: يجزيهم في الآخرة جزاء اختلافهم في الدنيا. أو (يَقْضِي): أي: يفصل ويبين لهم يوم القيامة الحق من الباطل، والمحق والمبطل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) يحتمل أن يكون هذا صلة قوله - تعالى -: (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ) كأنه يقول: وآتيناهم بينات من الأمر، وجعلنا ذلك شريعة لك، فاتبعها أنت وإن لم يتبعوها هم. والشريعة: هي الملة والمذهب، وهي ما شرع فيه ويذهب إليه؛ كذلك قاله الْقُتَبِيّ؛ قال: يقال: شرع فلان في كذا إذا أخذ فيه، ومنه: مشارع الماء: الفُرَض التي يشرع فيها

(19)

الناس والواردة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الشريعة: السنة، واللَّه أعلم. ثم أخبر أن الذي هم عليه إنما هو هوى النفس، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ). يحتمل قوله - تعالى -: (لَا يَعْلَمُونَ) لما لم يتأملوا فيه ولم يتفكروا ما لو تأملوا وتقكروا فيه لعلموا؛ لأنه قد ذكر في أوّل الآية أنهم إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم؛ أي: جاءهم من دلائل العلم ما لو تأملوا ونظروا فيها لعلموا. والثاني: نفى عنهم العلم؛ لما لم ينتفعوا بما علموا وما جعل لهم من العلم، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) أي: لو اتبعت أهواءهم (لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ)؛ أي: لم يغنوا أُولَئِكَ عن دفع ما ينزل بك من عذاب اللَّه شيئًا، وهو ما قال في آية أخرى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ. . .) إلى قوله: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ. . .) الآية. ثم أخبر أن الظالمين بعضهم أولياء بعض بقوله: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) يحتمل ولاية الدِّين والمذهب؛ أي: بعضهم يوالي بعضًا في الدِّين. ويحتمل في غيره؛ أي: يلي بعضهم أمر بعض في الإعانة والنصرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) يحتمل: أي: يلي أمور المتقين. ويحتمل: (وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي: ناصرهم ومعينهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) سمى اللَّه - تعالى - هذا القرآن: بصائر، وهو ما يبصر به، ومرة: هدى، وبيانًا، ورحمة، ونورًا، ونحوه، وهو هكذا، هو هدى، وبيان، ونور، وبصيرة لمن اتبعه ونظر إليه بعين التعظيم والتبجيل وقبله. ويحتمل: (بَصَائِرُ): بيان يبين لهم أنه من اللَّه، فيبين لهم الحق من الباطل، ويبين ما لهم وما عليهم لمن ذكر (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). * * * قوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا

(21)

وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21). وقال بعض أهل التأويل: نفر من الكفرة قالوا: واللَّه إن كان ما يقوله مُحَمَّد من الثواب والنعيم في الجنة حقًّا فنحن أولى بذلك منهم، كما كنا في نعيم الدنيا ولذاتها أولى منهم، ولنعطين أفضل مما يعطون، ولنفضلن عليهم كما فضلنا في الدنيا؛ فأنزل اللَّه - سبحانه وتعالى - في ذلك: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. . .) الآية. لكن هذا التأويل ضعيف؛ لأن هذا لا يصلح أن يكون جوابًا للنازلة التي ذكرها أهل التأويل؛ لأن أُولَئِكَ قالوا: نحن أولى بما يكون في الآخرة من النعيم واللذات منهم كما كنا في الدنيا أولى، وكما فضلنا في الدنيا نفضل في الآخرة؛ فلا يكون قوله - تعالى -: (أَنْ نَجْعَلَهُمْ. . . سَوَاءً) جوابًا لما قالوا، وهم إنما قالوا: نحن أولى بذلك، ونحن نفضل فيها كما فضلنا في الدنيا؛ فإذا كانوا حسبوا هم أنهم يفضلون على المؤمنين في الآخرة دون المساواة كيف يخبر عنهم أنهم حسبوا التساوي، ولا خلف في خبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - واللَّه أعلم. لكن الآية عندنا إنما كانت في منكري البعث وجاحديه، يقول - واللَّه أعلم -: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً. . .) الآية أي: لو كان الأمر على ما ظن أُولَئِكَ بأن لا بعث ولا نشور كان في ذلك جعل (الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) -أي: الشرك- (كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)؛ لأنهم جميعًا قد استووا في هذه الدنيا، في لذاتها، ونعيمها، وشدتها، وآلامها، وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما والتمييز، وإنزال كل واحد منهما منزلته، وما يستحقه المسيء العقوبة، وجزاء الإساءة، والمحسن الإحسان والإفضال وجزاء إحسانه، فإذا جمع بينهما في هذه الدنيا على ما ذكرنا دل أن هنالك دارًا أخرى فيها يفرق ويميز بينهما في حق الثواب والعقاب - واللَّه أعلم - وهو كقوله - تعالى -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، لو كان كما ظن أُولَئِكَ الكفرة أن لا بعث ولا نشور كان خلق ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما باطلا على ظنهم، فكذلك قوله تعالى:

(22)

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، صير خلق السماوات والأرض إذا لم يكن هنالك رجوع إليه عبثًا باطلا، فهذا أولى وأحق أن يصرف إليه الآية، وعلى ذلك ما ذكر في قوله - تعالى -: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. . .) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا)، أي: لا يستويان، ولو كان الأمر على ما ظن أُولَئِكَ أن لا بعث ولا نشور ولا حياة، كان في ذلك استواء بين من ذكر، وقد سوى بينهما في الدنيا، وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما والتمييز؛ إذ لا يجوز التسوية بين الولي والعدوّ، وقد سوى بينهما في الدنيا؛ فعلم أن المراد به نفي الاستواء بينهما في دار أخرى، والله الموفق. ثم اختلف أهل الكلام فيما يعطى الولي والعدو في هذه الدنيا من الصحة والسلامة؛ على قول أكثر المعتزلة أن اللَّه - تعالى - لا يعطي أحدًا في الدنيا من كافر أو مؤمن شيئًا إلا وهو أصلح له في الدِّين، ثم على قولهم لا يظهر عفو اللَّه تعالى في الآخرة؛ لأنهم يقولون: إنما يستوجبون الثواب والجنة بأعمالهم، لا برحمة اللَّه - تعالى - فإذا عفَا عن المسيء فلا يعلم أنه كان مستحقًّا لذلك أو يعفو عنه فضلا. وعندنا أن ما أعطاهم إنما يعطيهم إفضالا منه ورحمة، فيعرفون فضله وإحسانه وعفوه، وأكثر أصحابنا يقولون: إن جميع ما أعطى الكافر في الدنيا فهو شر له؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ)، ونحو ذلك ما يخبر أن ما يعطي إياهم يكون شرًّا لهم، وما أعطى المؤمنين يكون خيرًا لهم. ولكن عندنا ليس هذا على الإطلاق والإرسال، ولكن ما كان توفيقًا منه على الخيرات في نفسها فهو خير له، وما كان خذلانًا فهو شر له، وليس على اللَّه حفظ الأصلح لهم؛ على ما يقوله المعتزلة، ولكنه يفعل بهم ما هو حكمة وعدل كما يفعل ما هو إحسان وفضل، واللَّه الموفق. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) أي: اكتسبوها، ومنه قيل لكلاب الصيد: جوارح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) كأنه يقول - واللَّه أعلم -: (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) أي: إنما خلق ما ذكر بالحق لتجزى كل نفس بما كسبت، فلو لم

(23)

يكن جزاء لما كسبوا في الدنيا في الآخرة على ما قال أُولَئِكَ الكفرة أن لا جزاء من الثواب والعقاب؛ لإنكارهم البعث - لم يكن خلقهما بالحق؛ على ما ذكرنا، فتبين أنه إنما صار خلقهما بالحق إذا كان هنالك جزاء؛ وهذا يدل على أن الآية الأولى هي في منكري البعث، ليست فيما ذكر أهل التأويل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على التحقيق؛ على ما قاله عامة أهل التأويل: أنهم عبدوا كل شيء استحسنوه، فإذا استحسنوا شيئًا آخر أحسن منه تركوا عبادة الأول وعبدوا الثاني، فتلك كانت عادتهم، وذلك اتخاذ الآلهة بهواهم؛ إذ الإله هو المعبود عندهم، وهو التحقيق الذي ذكرنا. والثاني: على التمثيل، وهو ما قال قتادة أنهم ما هووا شيئًا إلا ركبوه، لا تمنعهم مخافة اللَّه عما هووه، ولا تردعهم خشيته عما اشتهوا، فصيروا هواهم متبعًا، فهو كالإله لهم، لا يتبعون أمر اللَّه، فلا يكترثون له، أو كلام نحوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) هذا يخرج على وجوه: أحدها: أي: أضله اللَّه على علم من ذلك الإنسان بطريق الهدى والحق، لا أنه أضله على خفاء من ذلك الإنسان بالطريق الحق وسبيله؛ أي: قد بين له السبيل وطريق الحق، لكنه باختياره الضلال أضله؛ لما علم منه أنه يختار الضلال والكفر؛ ليكون ما علم أنه يكون ويختار، واللَّه أعلم. والثالث: أضله اللَّه - تعالى - على علم؛ أي: أنشأ منه فعل الضلال على علم منه بذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)؛ هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: غطى قلبه بما هواه، وجعل فيه ظلمة، فتلك الظلمة وذلك الغطاء أوجب غطاء السمع والبصر، وحال بينه وبين سماع الحجج والبراهين، وصارت ظلمة البصر وغطاؤه مانعًا لهم عن اكتساب التدبّر والتفكر. ويحتمل أن يكون ما هووه مانعًا لهم عن اكتساب الحياة الدائمة لما لو اتبعوا أمر اللَّه - تعالى - وما دعاهم إليه كانت لهم تلك الحياة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، وكقوله - تعالى -: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ)، فما هووه واتبعوه منعهم عن اكتساب الحياة الدائمة المدعو

(24)

إليها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ) هذا - أيضًا - يحتمل وجهين: أحدهما: حقيقة الهداية، وهو التوفيق والعصمة، فكأنه يقول - واللَّه أعلم -: فمن يقدر دون اللَّه على هدايته وتوفيقه بعد اختياره الضلال. والثاني: الهدى: البيان؛ فكأنه يقول: فمن يقدر أن يأتي ببيان أكثر وأبين من بعد بيان اللَّه - تعالى - الذي بين له؟ أي: لا أحد يقدر على ذلك (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) أي: أفلا تتعظون، أو (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) بيان اللَّه أو ما بين لكم، واللَّه أعلم. ثم الآية في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ لئلا يشتغل بهم، ولا يهمّ لهم، ولكن يشتغل بغيرهم، ويقطع طمعه عن إيمانهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) أي: ما قالوا: ما الحياة إلا حياة الدنيا. ويحتمل أنهم يقولون: (مَا هِيَ) أي: لا حياة إلا الحياة التي دنت منا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَمُوتُ وَنَحْيَا) يخرج على وجهين: أحدهما: أي: نموت نحن وتحيا أبناؤنا وأولادنا. والثاني: (نَمُوتُ) أي: كنا ميتين فحيينا (نَمُوتُ) بمعنى: كنا أمواتًا (وَنَحْيَا) أي: فصرنا أحياء، ثم لا حياة بعد تلك الحياة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: ما يهلكنا إلا مرور الأزمنة والأوقات؛ أي: بسبب مرور الأوقات ينتهي آجالنا، ونبلغ إلى الهلاك، وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) أي: إلا مرور السنين والأيام. والثاني: أن يكون الدهر عندهم عبارة عن الأبد؛ فكأنهم يقولون في قوله: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ): وما يهلك أنفسنا إلا الدهر؛ لأن أنفسنا لم تجعل للأبد، ولا للبقاء للأبد، بل جعلت للانقضاء والفناء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي: ما هم إلا على ظن يظنون. والثاني: (وَمَا لَهُم بِذَلِكَ) أي: وما لهم بما قالوا: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) - (مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي: ما هم إلا على ظن يظنون؛ أي: على ظن يقولون ذلك، لا عن علم، واللَّه أعلم.

(25)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) أي: وإذا تتلى عليهم آياتنا في البعث والحياة بعد الموت (بَيِّنَاتٍ) أي: ما يوضح ويبين لهم البعث والحياة بعد الموت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، والإشكال: أنه لماذا ذكر (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ) وإذ لم يعذروا. فنقول: الحجة هي التي إذا أقامها الإنسان وأتى بها عذر في ذلك، وما قالوا لم يكن حجة؛ إذ لم يعذروا، فيكون معنى قوله: (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ) أي: ما كان احتجاجهم إلا أن قالوا كذا. أو نقول: ما كانوا يحتجون إلا أن قالوا كذا. ثم قوله: (ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فيه دلالة ألا يلزم المسئول أن يأتي بحجة وآية يختارها السائل ويشتهيها، لكن يلزمه أن يأتي بما هو حجة في نفسه، ويلزمه الاتباع بها، فأما أن يلزم على ما يختاره السائل أو يتمناه فلا، وقد أتاهم اللَّه - تعالى - من الآيات والحجج ما ألزمهم القول بالبعث والإقرار به. ثم أخبر أن اللَّه - تعالى - هو يحييكم ثم يميتكم، لا الدهر الذي قالوا، وهو قوله: (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) يحتمل قوله: (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ) أي: يحييكم في قبوركم، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وفيها، (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). أو يقول: (اللَّهُ يُحْيِيكُمْ) في ابتداء الأمر، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) في الدنيا عند انقضاء آجالكم، (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أي: ولكن أكثر الناس لا ينتفعون بما يعلمون. أو يقول: ولكن أكثر الناس لا يعلمون؛ لما تركوا النظر بالتأمل في أسباب العلم. * * * قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا

(27)

وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37). وقوله - عَزَّ وجل -: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) هذا يخرج على وجوه: أحدها: ولله ملك كل ملك في السماوات والأرض. أو (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)؛ أي: خزائن السماوات والأرض، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أو يقول: ولله حقيقة ملك السماوات والأرض. فإن كان التأويل هو الأول فإن له ملك كل ملك في السماوات والأرض، ففيه إخبار وإعلام بليغ أتباعَ أُولَئِكَ الملوك، وذوي التعظيم لهم، والإجلال، والخدمة لهم بما في أيديهم من الملك والسلطان وفضل الأموال ألا يصرفوا ذلك إليهم؛ بل فيه الأمر بصرف ذلك كله إلى اللَّه - تعالى - والقيام له بالشكر، لا لأُولَئِكَ؛ لأن الذي في أيديهم لله - تعالى - وهو الجاعل في أيديهم، والواضع عندهم، فإليه يلزم صرف الشكر والعبادة، واللَّه أعلم. وإن كان تأويل الملك: الخزائن، ففيه قطع الأطماع عما في أيدي الناس، والأمر بصرف ذلك إلى اللَّه - تعالى - والرجاء منه دون من سواه، واللَّه أعلم. وإن كان الثالث، وهو أن حقيقة الملك لله - تعالى - ففيه أنه فيما امتحنهم في الدنيا بأنواع المحن لم يمتحنهم لمنفعة ترجع إلى نفسه، أو لمضرة يدفع عنها، وكذلك ما يثيبهم في الآخرة ويعاقبهم، ليس يفعل ذلك لمنفعة كانت له في الدنيا أو دفع مضرة عنه، ولكن لحكمة أوجبت ذلك لهم وعليهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وجل -: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) سمى القيامة: ساعة، فجائز أن يكون سماها بذلك؛ لسرعة قيامها، أو نفاذها؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ). أو أن يكون سماها بذلك؛ لما يكون حسابهم وأمرهم يوم القيامة إنما يكون في ساعة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وجل -: (يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) يحتمل: أي: يومئذ يبين خسران المبطلين في الدنيا، وعلى ذلك يبين خسران كل مشتركين في تجارة الدنيا؛ إذا اشتركوا في عمل عند القسمة يتبين خسران عملهم وتجارتهم. وأصله أن اللَّه - تعالى - جعل الدنيا وما أنشأ فيها من الأموال والأملاك رءوس أموال

(28)

لأهلها يتجرون ويكتسبون بها الربح في الآخرة، وأنه إنما أنشأ الدنيا للآخرة، لا أنه أنشأها لنفسها؛ ولذلك قال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) الآية، وقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)، ونحوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) يحتمل أن يكون ما ذكر من الجثو للركب في الآخرة تعريف لهم وإنباء أنهم يختصمون يوم القيامة جاثين للركب، كما يختصم في الدنيا عند الحكام والأمراء جاثين للركب، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يذكر جثوهم؛ لما لا تقوم بهم الأقدام، أو لا تحملهم؛ لهول ذلك اليوم والخوف فيها؛ فيكونون جاثين للركب ويقومون بها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) يحتمل: (كِتَابِهَا): كتاب كل في نفسه، وهو كقوله - تعالى -: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)، وقوله - تعالى -: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)، و (أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ) ونحوه. ويحتمل أن يكون قوله: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) الذي دعيت كل أمة إليه في الدنيا؛ من نحو القرآن، ونحوه؛ فيقال: يا أهل الإنجيل، يا أهل التوراة، ونحو ذلك، والله أعلم. ويحتمل أن يكون (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) أي: إلى حسابها الذي عملت في الدنيا؛ تفسير ذلك ما ذكر: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ... (29) يحتمل الكتاب الذي أضاف إلى نفسه هو القرآن الذي كان ينطق لهم بالحق؛ أي: بالحق الذي لله عليهم، وما لبعضهم على بعض. أو (بِالْحَقِّ) أي: بالصدق بأنه من اللَّه - تعالى - واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون ذلك الكتاب هو الكتاب الذي يكون لكلٍّ بالانفراد للذي كتبته له الملائكة مما عملوا من خير أو شر، وهو كقوله - تعالى -: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) اختلف في تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الحفظة تكتب أعمال بني آدم ثم يعارضون ذلك بما في اللوح المحفوظ المكتوب فيه: أن فلانًا يعمل كذا وكذا، فلا يؤيد شيء ولا ينقص.

(30)

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول قريبًا من هذا: إن في السماء كتابًا عليه ملائكة، والملائكة الذين مع بني آدم يستنسخون من ذلك الكتاب ما يعملون، ثم قال: وهل تكون النسخة إلا من كتاب أو شيء، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ملكان موكلان بالكتابة، يكتب كل واحد منهما ما يعمله، فإذا أرادا أن يصعدا إلى السماء فيعارض كل واحد منهما كتابه الذي كتبه مع كتاب الآخر فلا يخطئ حرفًا مما كتب هذا ما كتب الآخر، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عرض كتاب الناس الذي عملوا كل يوم أو كل خميس، فينسخ منه الخير والشر، وما يثاب عليه وما يعاقب، ويلقى ما سوى ذلك مما لا ثواب له ولا عقاب، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يراد من الانتساخ: ابتداء الكتابة من غير أخذ من كتاب أو نحوه، فإنه يجوز أن يستعمل الانتساخ في ابتداء الكتابة على غير أخذ من الكتاب أو غيره، نحو أن يقول الرجل: انتسخته، أي: كتبته، فيكون كأنه قال: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) أي: نكتب ما كنتم تعملون ونثبته عليكم من خير أو شر، فيخرج لهم كتبهم التي فيها أعمالهم، فكانت عليهم حجة، وهي التي كتبت عليهم الحفظة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجاثية هي التي جثت واجتمعت، ويقال: تجاثينا: أي: بركنا على ركبنا للخصومة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: جاثية على الركب، يراد: أنها غير مطمئنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) أي: إلى حسابها. وقوله: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) يريد: أنهم يقرءونه فيدلهم ويذكرهم؛ فكأنه ينطق عليهم. وقوله تعالى: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) أي: نكتب على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) أي: آمنوا بجميع ما كان عليهم الإيمان به والتصديق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: عملوا بما فيه صلاحهم، وما يوجبه الحكمة من العمل (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أي: في جنته، سمى الجنة: رحمة؛ لأنها

(31)

تنال برحمته، ويدخل فيها. أو سماها: رحمة؛ لأنها هي النهاية والغاية التي تطلب بالرحمة وتراد بها. وقوله: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) الآية. الفوز: هو الظفر بما يؤمل ويرجو من العمل، أو يقال: الفوز: هو الفلاح الذي لا خوف بعده، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ... (31) كأن فيه إضمارًا؛ لأن قوله - تعالى -: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) إنما هو إخبار عن المعاينة. وقوله - تعالى -: (أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ) خطاب ومشافهة، فليس هو من جواب الأول، ولا من نوعه؛ فكأنه قال - واللَّه أعلم -: وأما الذين كفروا في الدنيا فيقال لهم في الآخرة إذا طلبوا الرجوع والإقالة أو التخفيف ونحو ذلك: (أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ) في الدنيا. ثم يحتمل: آياته: آيات وحدانيته وألوهيته، أو آيات قدرته وسلطانه على التعذيب، أو آيات قدرته على البعث أو آيات رسالته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ) لا أحد يقصد قصد الاستكبار على آيات اللَّه، لكنهم لما كذبوها وردوا آياته ولم يعملوا بها، فكأنهم استكبروا عليها، وهو كما قال: (لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ) ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكنهم لما عبدوا الأصنام بأمر الشيطان فكأنهم عبدوه. ويحتمل أن يكونوا استكبروا على رسله؛ فيكون استكبارهم على رسله كأنهم استكبروا على آياته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ) قيل: المجرم هو الوثَّاب في المعصية، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) كان عندهم فيها ريب، لكنهم لو تأملوا ونظروا فيما أقام من آياته، زال عنهم الريب الذي كان لهم فيها. ويحتمل أن يقال هذا على الإيقان إذا كان القائل به موقنًا، وإن كان الذي يقال له شاكًّا في ذلك. والأول أقرب وأشبه. ثم الناس رجلان في الساعة:

(33)

موقن بها ومتحقق، ولكن في العمل لها والاستعداد لها كالظان. والثاني: ظان بها، شاك فيها جاحد لها ومكذب كالموقن ألا تكون. ثم الإيقان بالشيء هو العلم بالأسباب الظاهرة، وقد يدخل في تلك الأسباب أدنى شبهة وشك؛ لذلك ذكر فيه الظن، واللَّه أعلم. وأما العلم بالشيء قد يكون بالسبب، وقد يكون بالتجلي له بلا سبب؛ ولذلك وصف اللَّه - تعالى - بالعلم، ولم يوصف بالإيقان، ولا يقال: إنه موقن؛ لما ذكرنا: أن أحدهما يكون بأسباب والآخر لا - واللَّه أعلم - فيتمكن في الإيقان أدنى شبهة وشك، وقد يعمل غالبًا لأسباب على حقيقة الأعمال؛ نحو المكره على الشرّ يعلم بما أوعد به بغالب أسبابه ليس على الحقيقة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (33) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: بدا لهم أن الأعمال في الدنيا أنها أسباب في الآخرة؛ لأنهم عملوها في الدنيا وعندهم أنها حسنات، فيظهر لهم في الآخرة أنها سيئات. والثاني: (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) أي: ظهر لهم في الآخرة وتذكروا سيئات ما عملوا في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) أي: نزل بهم، ووجب ما كانوا يستعجلون من الرسل، وهو العذاب الذي كانوا يوعدونهم؛ لأنهم كانوا يستعجلون ذلك استهزاء منهم بهم بأنه غير كائن، ولا نازل بهم ما كانوا يوعدونهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) والإشكال: أنهم كيف ينسون يومئذ؟ لأنهم لو كانوا ينسون، لسلموا من العذاب، لكن ما ذكر من النسيان يخرج على وجهين: أحدهما: كنى بالنسيان عن الترك؛ يقول: اليوم نترككم في النار وفي العذاب كما تركتم أنتم العمل لذلك اليوم والنظر فيه. والثاني: على التمثيل؛ أي: اليوم نصيركم في النار كالشيء المنسي لا يكترث إليكم، ولا يلتفت، ولا يعبأ بكم كما صيرتم أنتم ذلك اليوم كالشيء المنسي، لم تكترثوا إليه، ولم تعملوا له، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) جعل اللَّه - تعالى - النار لهم مأوى بإزاء كل ما افتخروا في الدنيا على رسل اللَّه - عليهم السلام - وأتباعهم من المنازل، والمراكب، والملابس، وغير ذلك، وأخبر أنه لا ناصر لهم يملك إخراجهم

(35)

من تلك النار والمأوى الذي جعل لهم، ولا يقدر دفع ذلك عنهم، واللَّه أعلم. ثم أخبر أن بعض ذلك الذي أصابهم ونزل بهم إنما كان بما ذكر من اتخاذهم آيات الله هزوا في الدنيا، هزوا بها وسُخرًا بالرسل، عليهم السلام. ثم آيات اللَّه يحتمل ما ذكرنا من آيات وحدانيته وألوهيته، أو آيات قدرته وسلطانه على البعث، أو آيات رسالة الرسول، عليه السلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ... (35) قد ذكرنا فيما تقدم معنى نسبة التغرير إلى الحياة الدنيا، وإضافته إليها وإن لم يكن منها على التحقيق تغرير وخداع، وهو أنهم إنما اغتروا بها، فنسب فعل التغرير إليها، هي غرتهم، وقد ينسب الفعل إلى السبب الذي به صار ذلك، وإن لم يكن منه حقيقة ذلك؛ نحو قوله - تعالى -: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)، أي: يبصر به، وذلك كثير في اللغة. أو يقال: إن ما كان منها، لو كان ذلك ممن يحتمل التغرير ويملك ذلك كان تغريرًا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) اختلف في قوله: (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم يعاتبون إلى أن يدخلو! النار: إنكم فعلتم كذا، وتركتم كذا، ولم فعلتم كذا؟ فإذا دخلوا النار يترك العتاب ويجعل كالشيء المنسي فيها، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي: لا يسترجعون إلى ما يطلبون من العود والرجوع إلى العمل الصالح؛ لقولهم: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ. . .) الآية. ثم في قوله: (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)، وقوله: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا. . .) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) - دلالة ألا يجب أن يفهم على ظاهر ما خرج الخطاب؛ لأنه ذكر الظن في المؤمنين، والمراد به: الإيقان، لا ظاهر الظن، وذكر في الكافرين الظن وأريد به الحقيقة، ولا يجوز أن يفهم من الظن في الفريقين معنى واحد، بل يفهم من هذا غير الذي فهم من الآخر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) إن جميع ما ذكر في القرآن من الحمد له فإنما ذكر لأحد شيئين: أحدهما: بما يستحق من الثناء بتعاليه عن جميع معاني الخلق وأوصافهم.

(37)

والثاني: بما يستحق مِن الثناء بتفضله عليهم بالنعم والإحسان الذي منه إليهم، وهو ما قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، ونحو ذلك، واللَّه أعلم. وأصل آخر: أنه إذا أضيفت كلية الأشياء إلى اللَّه - تعالى - ففيه وصف له بالعظمة والجلال وإذا أضيفت جزئية الأشياء إليه وخاصيتها، فإنما فيه تعظيم تلك الخاصية المضافة إليه، وفي قوله - تعالى -: (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إضافة كلية الأشياء إليه والخاصية والجزئية، ففيه الأمران جميعًا، فإن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ) إضافة جزئية الأشياء إليه وخاصيته، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) إضافة كلية الأشياء إليه، واللَّه أعلم. وقد تقدم ذكر الرب في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: وله الوصف بالكبرياء والعظمة على أهل السماوات وأهل الأرض أن يصفوه بالكبرياء والعظمة. أو: من حقه على أهل السماوات وأهل الأرض أن يصفوه بالكبرياء والعظمة والجلال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي: هو العزيز الذي لا يلحقه الذل بخلاف الخلق له ولا بعصيانهم. أو (وَهُوَ الْعَزِيزُ) بما به يتعزز من أعز دونه، ومن وصف بعز دونه، فذلك راجع في الحقيقة إليه، (الْحَكِيمُ) الذي وضع كل شيء موضعه، أو الحكيم الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، واللَّه الموفق، والحمد لله رب العالمين. * * *

سورة الأحقاف

سُورَةُ الْأَحْقَافِ وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) قد ذكرنا تأويله فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ... (3). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا بِالْحَقِّ) أي: ما أخلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الذي صار به إنشاء ذلك وخلقه حكمة؛ لأنه لو كان الأمر على ما ظن أُولَئِكَ الكفرة وتوهموا بأن لا بعث ولا جزاء من ثواب وعقاب كان إنشاء ما ذكر من السماوات والأرض وخلق ذلك كله - عبثًا باطلا على ما تقدم ذكره في غير موضع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) يحتمل (عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) وجوها: أحدها: أي: بما ألزمهم من النظر والتفكر فيما ذكر من خلق السماوات والأرض، وما أنشأ فيهما من المنافع، وجعل ذلك لهم آية، لم يفعل ذلك كله عبثًا باطلا، ولكن لعاقبة تقصد، ولأمر يراد؛ إذ عرفوا بعقولهم: أنه لا يجوز خلق الخلق على أن يهملوا ويتركوا سدى لا يؤمرون، ولا ينهون، ولا يمتحنون، فأعرضوا عما ألزمهم من النظر والتفكر في ذلك فهم معرضون إعراض ترك النظر والتفكر، واللَّه أعلم. والثاني: ما أنذروا بما نزل بمن تقدمهم من مكذبي الرسل، عليهم السلام. والثالث: بما أنذر وأوعد لهم من العذاب في الآخرة، فهم معرضون عن ذلك كله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) يحتمل أن يكون ما ذكر كله موصولا بعضه ببعض.

ويحتمل أن يكون بعضه مفصولا عن بعض. فإن كان على الوصل، فكأنه يقول: أرأيتم ما تعبدون من دون اللَّه من الأصنام وتدعونها آلهة: هل خلقوا مما لكم من المنافع، ومما به حياتكم وقوامكم ومعاشكم مما يخرج من الأرض، أو هل ينزلون لكم من المنافع التي جعلت لكم في السماء من الأمطار وغيرها. أو هل أتاكم كتاب من عند اللَّه فيه أنه أمركم بعبادة من تعبدونه (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) هو يخرج على وجهين: أحدهما: أو جاءكم من الحكماء الأولين المتقدمين كتاب أو قول فيه الأمر بذلك، واستخرجتم من العلوم ذلك؛ ففعلتم به؟ يقول - واللَّه أعلم -: إن الأسباب التي تحمل الناس على العبادة والخدمة لهم هذه الوجوه: إما منافع تتصل بهم منهم مما به قوامهم ومعاشهم وحياتهم وإما كتاب من اللَّه - تعالى - فيه حجة لهم، وأمر لهم في ذلك، أو كتاب من الحكماء والرسل يأمرون لهم، وهم قوم لا يؤمنون بالرسل، ولا بالكتاب، وليست لهم علوم مستخرجة من العلوم، يقول: ليس لكم شيء مما ذكر من الأسباب والعلوم فبم عبدتموها؟ وكيف اخترتم عبادتها على عبادة من عرفتم أن ما به قوامكم وحياتكم منه؟! واللَّه أعلم. وإن كان مفصولا من بعض فيكون كأنه يقول: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) من المنافع وغيرها، (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) فيما ذكر؟ فإن قالوا: قد خلقوا ما ذكر، ولهم شرك فيما ذكر، فقل لهم (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا) من كتاب الحكماء أو العلوم المستخرجة من العلوم (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنهم خلقوا ما ذكرتم، أو لهم شرك فيما ذكر - واللَّه أعلم - وقد علموا أنهم لا يقدرون أن يرونه ما ذكر؛ لما لم يكن لهم من هذه الأسباب شيء؛ إذ هي أسباب العلم، وقد عجزوا عن ذلك كله. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أو خاصة من علم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أو بقية من علم أوائلهم؛ وهو قول الْقُتَبِيّ؛ أي: بقية من علم يؤثر عن الأولين، ويقرأ (أثرة) و [(إثارة)]، وأصله ما ذكرنا من الوجهين: أحدهما: كتاب الحكماء والرسل. والثاني: العلوم المستخرجة من سائر العلوم.

(5)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) هو الخط؛ وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي الله عنه. وذكر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " كان نبي من الأنبياء - عليهم السلام - يخط، فمن صادف مثل خطه علم ". وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي: قديم من علم، قال: ذا الأثارة: الشحم القديم. وقيل: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي: رواية عن الأنبياء عليهم السلام. ثم ذكر سفههم وبين نهاية تعنتهم، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ... (5) لأنه لا يملك إجابته ولا يحتمل ذلك. والثاني: لا يستجيب له إلى يوم القيامة، ثم إذا جاء به يوم القيامة أجابه باللعن والتبري، كقوله - تعالى -: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا)، وقوله - تعالى -: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ)، وغير ذلك من الآيات التي فيها ذكر تبرى بعضهم من بعضٍ، ولعن بعضهم بعضًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) لم يكن منهم لهم أمر بذلك ولا دعاء ولا شيء من ذلك، كقوله - تعالى -: (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) هو ما ذكرنا أنه يصير بعضهم لبعض أعداء يتبرءون منهم، ويلعنونهم، ويكفرون بعبادتهم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ

(7)

كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ... (7) أي: بينات أنها من اللَّه تعالى. أو بينات: واضحات، ما يبين لهم ما عليهم مما لهم، وما لبعض على بعض وما لله عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) يحتمل أن يكون الحق الذي قالوا: إنه سحر، هو تلك الآيات البينات التي ذكر أنها بينت عليهم قالوا لها: إنها سحر، ودل قولهم: إنها سحر، على أنها كانت معجزات خارجات عن وسعهم، حيث نسبوها إلى السحر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) هذا حرف المنابذة، يقول: إن افتريته فلا تملكون أنتم دفع عقوبة ذلك الافتراء عن نفسي، وهو كقوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي)، يقول: عليَّ إثم ذلك وجرمه، وإنَّمَا يقال هذا عند انتهاء الحجج والبراهين غايتها، حتى لا يطمع منهم القبول والنجع فيهم، ويؤيس منهم، فعند ذلك يقال وينابذ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ) أي: بما تخوضون فيه، يقول هذا ويذكر؛ لئلا يقولوا ولا يدعوا غفلته عن ذلك؛ بل يذكرهم أنه كان عالمًا بما يسرون ويعلنون. وقيل: (تُفِيضُونَ) من قولهم: أفاضوا، إذا علموا وتحدثوا؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يخرج على وجهين: أحدهما: أي؛ يشهدون في الآخرة: أنّه قد بلغ رسالته. والثاني: أي: كفى به شهيدًا بيني وبينكم في الدنيا بما علم ما كان منهم من الشرك والتكذيب، ومني من التبليغ، فهو شاهد بما كان مني ومنكم في الدنيا من سرّ وعلانية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ذكر هذا في هذا الموضع على إثر ما ذكر من غاية سفههم وتعنتهم - واللَّه أعلم - كأنه يقول: إنكم وإن بلغتم في السفه ما بلغتم فإنكم إذا رجعتم عن ذلك وتبتم يغفر لكم ما كان منكم، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ)، إن كان على

(9)

حقيقة العبادة فهو صلة قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ. . .) الآية؛ يقول - واللَّه أعلم -: ومن أضل ممن يعبد من لا يملك ما ذكر من خلق الأرض، ولا له شرك في السماوات وما ذكر، وترك عبادة من خلق السماوات، وخلق الأرض، وشهد كل شيء له بذلك، وأتى بالحجج والبراهين على ذلك؛ أي: لا أحد أضل ممن ترك عبادة من هذا وصفه، وصرف العبادة إلى الذي لا يملك شيئًا من ذلك، واللَّه أعلم. وإن كان على الدعاء نفسه فهو صلة ما ذكر من قوله: (لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)، أي: ومن أضل ممن يدعو من دون اللَّه من لا يملك إجابته، ولا يسمع دعاءه، وترك دعاء من يملك إجابته ويسمع دعاءه، ويقدر قضاء ما يدعون ويسألون؛ أي: لا أحد أضل ممن اختار دعاء من لا يملك شيئًا من ذلك على دعاء من يملك ذلك كله؛ يسفههم في صنيعهم واختيارهم على ما اختاروا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) كأن هذا إنما ذكر - واللَّه أعلم - لإنكار أهل مكة الرسل من البشر، واستعظامهم وضع الرسالة فيهم، فقال عند ذلك: (مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) أي: لست أنا بأول رسول من البشر؛ بل لم يزل الرسل من قبل كانوا من البشر في آفاق الأرض وأطرافها، فما بالكم تنكرون رسالتي؛ لأني كنت من البشر وتستعظمونها وسائر الرسل الذين من قبلي كانوا من البشر؟! واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَا كُنْتُ بِدْعًا) أي: ما أنا بأولهم، قد أرسل قبلي. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: وما كنت بدءًا منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) هذا يخرج على وجوه: أحدها: أي: ما كنت أدري قبل ذلك ما يفعل بي ولا بكم: أُرسَل، وأُختَص للرسالة، وأُختار لها، وأبعث إليكم، وتلزمون أنتم اتباعي والإجابة إلى ما أدعوكم إليه، والله أعلم. والثاني: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) من إخراجي من بين أظهركم وإهلاككم كما فعل بالرسل الذين كانوا من قبل وأقوامهم، أمروا بالخروج من بين أظهرهم، ثم تعقب ذلك استئصال قومهم؛ أي: ما أدري أيفعل بي وبكم ما ذكرنا كما فعل بمن تقدمنا من الرسل وقومهم، واللَّه أعلم. والثالث: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) مخافة التغيير عليه والتبديل؛ ولم يزل الرسل - عليهم السلام - يخافون تغيير الأحوال عليهم، وتبديل ما أنعم عليهم، وذهاب

ما اختصوا هم به؛ كقول إبراهيم - عليه السلام -: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، وقال شعيب - عليه السلام -: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) الآية، وما ذكر في سورة يوسف - عليه السلام -: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. . .) الآية، وقول يوسف - عليه السلام -: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، وقول يعقوب - عليه السلام -: (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، وقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك " لم تزل كانت الرسل - عليهم الصلاة والسلام - على خوف من تغيير الأحوال التي كانوا عليها، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) أتغير عليَّ وعليكم الأحوال التي نحن عليها اليوم أم نترك على ذلك؟ وحقيقة هذا الكلام على الاستقصاء قد مرت، واللَّه أعلم. وذكر بعض أهل التأويل: أن أهل مكة كانوا يؤذون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - بأنواع الأذية، فشكوا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما كانوا يلقون منهم، فقال: " إني لم أومر بشيء فيهم من القتال وغيره فاصبروا على ذلك، ولكني رأيت في المنام أن أهاجر إلى أرض أخرى ذات. . . " كذا؛ فاستبشروا بذلك، ومكثوا بعد ذلك زمانًا لا يرون شيئًا مما ذكر، فشكوا إليه ثانيًا بما يلقون منهم، وقالوا: ما نرى ما قلت لنا من الخروج عنهم، فقال: " إنما رأيت ذلك في المنام ولم يأت به وحي من السماء أيكون ذلك أم لا يكون؟ " أو نحو هذا من الكلام، وهذا لا يحتمل أن يكون؛ فإنه لا يُظن بأصحابه - رضي اللَّه عنهم - أن يقولوا له: ما نرى الذي قلت لنا من الخروج عنهم، وفي ذلك اتهامه بذلك، وترك تعظيمه، ولا نظن بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يقول لهم: " أنا رأيت ذلك في المنام، ولم يأت به وحي من السماء "؛ جوابًا لقولهم، ورؤيا الأنبياء - عليهم السلام - كالوحي من السماء، دل أن هذا لا يحتمل أن يصح ويثبت، واللَّه أعلم. وإنما جائز بعض ما ذكر في القصة من الشكاية منهم من الأذى، والوعد لهم بالخروج من بينهم، واللَّه أعلم. والوجوه التي ذكرنا أشبه وأقرب إلى العقل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ظاهر. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ

(10)

عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ... (10) الآية. قَالَ بَعْضُهُمْ: إن عبد اللَّه بن سلام آمن برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وشهد أنه رسول اللَّه، ثم شهد بمثل ذلك ابن يامين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: شهد ابن يامين أولا: أنه رسول، وآمن وصدقه، ثم شهد بمثله ابن سلام، واللَّه أعلم. والأشبه في هذا أن يكون قوله - تعالى -: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) التوراة أو موسى - عليه السلام - على ذلك، كقوله - تعالى -: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا)، شهد كتاب وسول اللَّه ورسوله - عليه السلام - واللَّه أعلم. ولأن عبد اللَّه بن سلام إنما أسلم بالمدينة، وكذلك ابن يامين، وهذه السورة مكية، لكنهم يقولون: هذه السورة مكية إلا هذه الآيات الثلاث، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) يحتمل أن يكون هذا القول من الأجلة والرؤساء منهم الذين كان منهم صلة الأرحام وأنواع الخيرات والأعمال الصالحة، قالوا: إنا قد سبقناهم في الخيرات سوى ذلك، فلو كان ذلك الذي تدعونا إليه خيرًا ما سبقونا كما لم يسبقونا إلى سائر الخيرات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي: وإذ لم يهتدوا به هم من بيننا فيقولون: هذا القرآن إفك قديم، أي: كذب قديم، فكأن قولهم: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) بحق الاحتجاج، وقولهم: (فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) تكذيب منهم ورد لذلك. ثم قوله: (إِفْكٌ قَدِيمٌ) يقولون - واللَّه أعلم -: لم يزل من ادعى الرسالة يدعي على اللَّه ما يدعي مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من إنزال الكتب عليهم، وبعثه إياهم ابن سلام إلى الناس يطلب الرسالة له عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) أي: إمامًا يقتدى به، ورحمة لمن اتبعه في دفع العذاب عنه. وقوله - تعالى -: (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ) ذكر - هاهنا - مصدق، ولم يذكر أنه مصدق لماذا؟ لكن قد ذكر في غير آي من القرآن (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)، ثم

(13)

قوله: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)، يحتمل: أي: موافقًا لما لم يحرف ولم يغير من تلك الكتب؛ لأن تلك الكتب قد حرفوها وغيروها، ولم يحرف هذا الكتاب، وقد حفظه اللَّه - تعالى - عن التبديل والتغيير، فهو مصدق موافق لما لم يغير ولم يحرف من تلك الكتب، واللَّه أعلم. وقوله: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) أي: أنزله بلسان عربي؛ ليعلم أنه لم يأخذه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من تلك الكتب؛ لأن تلك الكتب كانت على غير لسان العرب، ولسانه عربي، ولكن جاءه من اللَّه - تعالى - بلسانه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ) فمن قرأ: (لِتُنذِرَ) بالتاء فتأويله: لتنذر يا مُحَمَّد الذين ظلموا، ومن قرأ بالياء (ليُنذِرَ) أي: لينذرهم القرآن، وقد ذكرنا فيما تقدم تفسير النذارة والبشارة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) الاستقامة تحتمل وجهين: أحدهما: أي: (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) على ذلك القول الذي قالوا، وثبتوا على ذلك، ولم تتغير، ولم تتبدل حالتهم تلك، واللَّه أعلم. والثاني: (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) بحق الوفاء بالعمل بما أعطوا بلسانهم وقلوبهم (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وقد ذكرناه في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) جعل ذلك لهم جزاء أعمالهم بفضله ورحمته، لا أنهم يستوجبون ذلك بنفس عملهم، ولكن بالتفضل والرحمة، وذكر جزاءه الأعمال فضلا منه. * * * قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ

(15)

بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ... (15) و (حُسْنًا)؛ كأنه قال: أمرنا الإنسان أن يحسن إلى والديه، فالحسن: هو اسم ما يقع بهم من البر، وهو المفعول، والإحسان هو اسم فعله الذي يفعل بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا)، وقال في آية أخرى: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ)، وقال في آية أخرى: (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا)، أي: إنها في أول ما حملت أحملت، حملا خفيفًا، فلما كبر أثقلت، وهو وصف الولد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ)، وذلك في الأم؛ لأنها لا تزال تضعف وتوهن من أول ما حملت إلى آخر ما وضعت. وقوله - تعالى -: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) في أول ما تحمل تجد كراهة في نفسها إلى وقت وضعها. والثاني: يشبه أن يكون على الجمع في الأم دون الولد على اختلاف الأحوال، وهو في الابتداء يخف عليها الحمل، ويثقل ذلك عليها إذا دنا وقت وضعها، وما ذكر من الوهن فهو ما ذكرنا أنها لا تزال تزداد ضعفًا فيها ووهنًا من أوّل حملها إلى وقت وضعها، وما ذكر من الكراهة فهو إذا تم حملها شق ذلك عليها، وكذلك الوضع، لا شك أن ذلك يشق عليها. والتأويل الأوّل على التفريق في حال يرجع الوصف إلى الولد، وفي حال إلى الوالدة، والثاني يرجع ذلك كله إلى وصف الأم، وعلى التأويلين حصل التوفيق بين الآيات؛ لرجوعها إلى اختلاف الأحوال، فأمكن الجمع بين الكل في أحوال، والاختلاف إنما يكون في حال واحد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الآية نزلت في أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حملته أمه كرهًا؛ أي: بمشقة، ووضعته بمشقة، ثم وضعته على تمام ستة أشهر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية نزلت في الحسن أو الحسين - رضي اللَّه عنهما - وضعته أمه على ما ذكر في المدة. ثم منهم من يقول: الآية وإن نزلت في نازلة بعينها، لكن ما ذكر من الحكم فذلك في كل إنسان، وهو أن يكون الولد ثابت النسب من الأب بهذه المدة، فإنه روي عن عمر -

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أُتي بامرأة وضعت في ستة أشهر، فأراد أن يرجمها، فقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يا أمير المؤمنين، إن اللَّه - تعالى - قد جعل في كتابه مخرجًا؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)، وقال: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) ستة أشهر لحملها، ورضاعه سنتين، فأخذ بقول ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ودرأ عنها الرجم. وكذلك روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أُتي بامرأة وضعت لستة أشهر، فهمّ أن يرجمها، فقال له ابن عَبَّاسٍ: أما إنها لو خاصمتكم بكتاب اللَّه خصمتكم، ثم تلا هذه الآية. وكذلك ذكر عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما أمر برجم المرأة التي وضعت لستة أشهر، فسمع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأتى عثمان - رضي الله عنه - فقال له: ما صنعت؟ فقال له عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهل تلد المرأة الولد التام لستة أشهر؟ قال: نعم، ثم تلا عليه هذه الآية. فهَؤُلَاءِ الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد رأوا الآية في كل امرأة وضعت لتلك المدة في حق ذلك الحكم الذي ذكر، واللَّه أعلم. ثم روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا وضعت المرأة لستة أشهر أرضعته حولين كاملين؛ لأن اللَّه - تعالى - يقول: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعته ثلاثة وعشرين شهرًا، وإذا وضعته لتسعة أشهر، أرضعته أحدًا وعشرين شهرًا، فعلى قياس هذا جائز أنها إن وضعته لسنتين أن يكفي رضاع ستة أشهر، يزاد وينقص على ذلك القدر؛ ألا ترى أنه روي أن المرأة التي حملت سنتين ولدت وقد ثبتت له سنتان؛ فمثل هذا الولد لا يحتاج من الرضاع ما يحتاج الذي ولد لستة أشهر؛ لذلك كان ما ذكرنا. ثم إذا احتمل النقصان عن الحولين؛ لما ذكرنا جازت الزيادة على الحولين؛ على ما قال أبو حنيفة - رحمه اللَّه - لأن ما ذكر من الحولين إنما هو رضاع أقل الحمل، وهو ستة أشهر؛ لأن الذي ولد لستة أشهر كان إلى الاغتذاء بالطعام أبعد من الذي ولد لتسعة أشهر؛

لضعفه في نفسه، والذي ولد لتسعة أشهر فهو إلى الاغتذاء بالطعام أقرب منه، والذي ولد لسنتين هو أقرب إلى الاغتذاء بالطعام من المولود لتسعة أشهر؛ لقوته وقلة حاجته إلى الغذاء باللبن، فإذا كان قوله - تعالى -: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)، هو أقل رضاع يكون؛ لأنه ذكر للمولود لأقل الحمل؛ حيث قال: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) قال: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)، فإذا كان أقل احتمل الزيادة التي ذكر أبو حنيفة - رحمه اللَّه - وهو ستة أشهر على السنتين، كما يصير رضاع أكثر الحمل ستة أشهر، واعتبر في الباب إلى قوة الولد، واحتمال الغذاء بالطعام، وعدم الاحتمال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. . .) إلى آخر ما ذكر. دلت هذه الآية على أن الآية التي ذكرنا نزلت في نازلة؛ حيث أخبر أنه إذا بلغ ذلك المبلغ قال: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ. .) الآية. ثم قوله - تعالى -: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ذكر أوّل ما يشتد عقله، ويدخل في القوة إلى الوقت الذي يكون على الزيادة، فإذا جاوز ذلك الوقت يأخذ في الانتقاص، وهو أربعون سنة. وقال أهل النأويل: بلوغ الأشد هو ثماني عشرة سنة إلى أربعين، وهو ما ذكرنا: أنه أول وقت دخوله في الزيادة والقوة إلى الوقت الذي إذا بلغ ذلك يأخذ في النقصان، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) دل قوله: (وَعَلَى وَالِدَيَّ) على أن على الرجل شكر ما أنعم على والديه وأحسن إليهما كما يلزمه شكر ما أنعم عليه؛ لما يكون بدء إسلام الأولاد الصغار بالوالدين وما لهما من النعم يصل نفعها إليهم - أيضًا - فيلزمهم شكر ما أنعم عليهم بالإيمان والنعم في وقته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) هذا على كل مسلم أن يدعو بمثل هذا الدعاء، يسأل ربه التوفيق على عمل صالح يرضاه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أي: أصلح لي ذريتي؛ على طرح حرف (فِي) منه؛ كقوله: (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)، واللَّه أعلم. ثم قوله - تعالى -: (أَوْزِعْنِيَ): ألهمني. وفيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه سأل ربه أن يوزعه شكر ما أنعم عليه، ومن قولهم

(16)

أن ليس على المرء الشكر إلا بعد إعطاء جميع ما به يشكر حتى لا يبقى عنده مزيد؛ فيكون مثل هذا الدعاء من العباد ردًّا على قولهم؛ لأنهم يسألون ما يعلمون أن ليس عنده ذلك، وأنّه لا يملكه، وكذلك قوله: (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ)، ومن قولهم أنه ليس عنده ما يغيثه، فيخرج دعاؤهم على ما ذكرنا على مذهبهم، وباللَّه العصمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) كأنْ لهم عملان: حسنات وسيئات، فأخبر أنه يتقبل عنهم حسناتهم، ويجزيهم جزاءها، ويتجاوز عن سيئاتهم ويكفرها، ولا يجزيهم جزاءها؛ فضلا منه ورحمة، والمراد من الأحسن: الحسن، ويجوز ذلك في اللغة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) أي: ذلك الذي أخبر وذكر أنه يفعل لهم هو وعد الصدق يفي ذلك لهم، وهو قادر على وفاء الوعد، ومن يكون منه الخلف في الوعد في الشاهد إنما يكون لأحد وجوه ثلاثة: إما لعجز يمنعه عن وفاء ما وعد. أو جهل وبدو شيء رآه فرجع عن ذلك. أو حاجة. واللَّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك كله؛ للقدرة الذاتية، والغنى الذاتي، والعلم الأزلي، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) إلى آخر ما ذكر. خرج أهل التأويل هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي اللَّه عنهما - ووالدته فلانة، والآية الأولى في أبي بكر الصديق ووالديه، وهي قوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) فيقولون: إن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أطاع والديه وأمر بالإحسان إليهما، والشكر لهما، وسأل التوفيق في الشكر له به على ما أنعم عليه وأنعم على والديه، وعبد الرحمن ابنه قد عصى والديه وخالفهما فيما يدعوانه إليه، وقال لهما قولا [رديًّا]؛ حيث قال: (أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) من القبر وأحيا (وَقَدْ خَلَتِ) من قبلي من القرون فلا أراهم بعثوا، ونحو ذلك من الكلام. إلا أن هذا لا يصح؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في أجلة الصحابة - رضي

(19)

اللَّه عنهم - فالظاهر أنه لم يكن منه مثل هذه المجادلة؛ ولأن أهل التأويل قالوا: إنه كان قال لوالديه: إن كان ما تقولون حقًّا أخرجوا فلانًا وفلانًا؛ ذكر نفرًا من أجداده، فقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. . .) الآية، ولا يحتمل أن يكون هذا جواب ما تقدم من القول؛ لأنه في وجوب ما ذكر -وهو استحقاق العذاب عليهم- منع العود والإحياء في الدنيا، ولأنهم لو كانوا يعادون لا يسقط ذلك الذي حق عليهم؛ إذ هم لا يؤمنون؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - قال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ). لكن جائز أن تكون الآيتان في رجلين من ولد بني آدم مع والديهما: أطاع أحدهما والديه وأجابهما إلى ما دعواه إليه، وأبى الآخر إجابة والديه إلى ما دعواه إليه، وخالفهما في أمرهما فاستغاث والداه ممن عصاهما وخالفهما في أمرهما وقالا ما ذكر في الآية، وقال من أجابهما ما ذكر، وهو كما ذكرنا في قوله - تعالى -: (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا)، صرف أهل التأويل بأجمعهم هذه الآية إلى آدم وزوجته حوّاء - عليهما السلام - وقلنا نحن: جائز أن يكون هذا في كل والد ووالدة يقولان ما ذكر ويدعوان إلى ما ذكر، فلما آتاهما ما ذكر من الصلاح كانا ما ذكر، فعلى ذلك جائز أن تكون الآيتان اللتان ذكرناهما تكونان في كل ولد مع والديه: من أجاب والديه ومن عصاهما - والله أعلم - فلا تصرف الآية إلى من ذكروا إلا ببيان من اللَّه - تعالى - على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنها في كذا وكذا، وفي فلان وفلان، على طريق التواتر، فعند ذلك يقال ما قالوا، فأما إذا لم تثبت النصوص والإشارة إلى قوم بالتواتر فالكف عن ذلك أسلم، واللَّه أعلم. ودل قوله: (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ) أن عند اللَّه لطفا لو أعطى ذلك لآمن. وقوله: (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ) أي:، فيقولان: (وَيْلَكَ آمِنْ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) من خير أو شر (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أي: ليوفينهم أجر أعمالهم، وجزاء أعمالهم من خير أو شر (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أي: لا ينقصون من خيراتهم، ولا يزداد لهم في سيئاتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا)، وقال في آية أخرى: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ) وقال في آية أخرى: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا)، ونحوها؛ يذكرهم بهذه الآيات وأمثالها؛ ليعرفوا ما كان منهم، وما استوجبوا من العقوبات إنما استوجبوا بما كان منهم في الدنيا من التكذيب والاستهزاء بآياته؛ لينزجروا عن ذلك. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) يخرج على

(21)

وجهين: أحدهما أذهبتم طيباتكم التي أعطيتموها في منافعكم وأتلفتموها ولم تؤدوا شكرها، ولم تقوموا بوفائها، واللَّه أعلم. والثاني: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) أي: أتلفتموها، ولم تكتسبوا بها الطيبات الموعودة في الآخرة والنعم الدائمة، فكل ما أعطى في هذه الدنيا من الأموال إنما أعطى ليستعينوا بها على عمل الآخرة، وليتزودوا بها، ويجعلوها زادًا للآخرة، فأما إذا جعلوها في غير ذلك فهو إتلاف، وجعل في غير ما جعل، وذلك وبال عليهم وحسرة، وهو ما قال اللَّه - تعالى -: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)، وكذا ذكر: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ)، فكل نفقة كانت في غير ما ذكر من الاستعانة على زاد الآخرة والتزود لها فهي لحياة الدنيا، وهي لعب ولهو، وهو ما ذكر من الريح فيها صرّ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وجل -: (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) أي: عذاب تهانون فيه، يهينكم ذلك العذاب. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) يحتمل استكبارهم الذي ذكر على الرسل، استكبروا على الرسل فتركوا اتباعهم، فاستكبروا على آياته. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) والفسق هو الخروج عن أمر اللَّه تعالى. * * * قوله تعالى: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ). هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أي: اذكر نبأ أخي عاد، وهو هود - عليه السلام - بما عامله قومه من سوء

المعاملة، وما قاسى هو منهم؛ لتتسلى بذلك عن بعض ما عامل به قومك معك، والله أعلم. والثاني: واذكر نبأ عاد بما نزل بهم من العذاب والاستئصال بتكذيبهم الرسل، والاستكبار عليهم، والاستهزاء بهم؛ لتحذر به قومك في تكذيبك والاستهزاء بك، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ) أي: خوف قومه بالأحقاف. وقد اختلف في تأويل الأحقاف: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو اسم أرض خوفهم بنزول العذاب هنالك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي جبال من رمل مستطيلة مرتفعة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الأحقاف: واحده: حقف، وهو الرمل ما أشرف من كثبانه واستطال وانحنى. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الأحقاف: رمل بشحر عمان، وهي منازل عاد فيما زعموا وشحر تلاوة. وقيل: الحقف: تل معوج. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأحقاف: الجبل حين نضب الماء زمان الغرف كان ينضب عن المكان من الجبل ويبقى أثره، وينضب من مكان أسفل من ذلك ويبقى أثره دون ذلك؛ فذلك الأحقاف. وقيل - أيضًا -: الأحقاف: جبل بالشام. وقيل: هو المكان الذي كان منازل عاد ومقامهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) أي: خلت الرسل من قبل هود ومن بعده، عليه الصلاة والسلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) كأن الخطاب بهذا وقع للكل؛ يقول: ثم الرسل - عليهم السلام - ينذرون قومهم بأنواع العذاب عند تكذيبهم إياهم، ولم يزل الرسل - عليهم السلام - من قبل ومن بعد، دعوا الناس إلى عبادة اللَّه - تعالى - ونهوهم عن عبادة غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يحتمل قوله: (أَخَافُ

(22)

عَلَيْكُمْ) حقيقة الخوف؛ لما لم ييئس من إيمانهم واتباعهم إياه؛ لذلك لم يقطع فيهم القول بنزول العذاب بهم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون الخوف هو العلم حقيقة؛ أي: أعلم أن ينزل بكم عذاب يوم عظيم إن ختمتم على ما أنتم عليه، وقد يذكر الخوف في موضع العلم. وقوله: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا ... (22) أي: قالوا لهود - عليه السلام -: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لتردنا عن عبادة آلهتنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لتكذبنا في آلهتنا، والإفك: الكذب؛ وكله واحد. وأصل الإفك: الصرف؛ كأنهم قالوا: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) كانوا يقولون ذلك استهزاء به منهم، ولم يزل الكفرة يسألون ويستعجلون العذاب الذي كانوا يوعدون استهزاء منهم وتكذيبًا بما يوعدون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23). أجابهم هود - عليه السلام - أن العلم بنزول العذاب ووقته عند اللَّه، وأبلغكم ما أرسلت به من الدعاء إلى توحيد اللَّه - تعالى - والنهي عن عبادة غيره. أو يقول: أبلغكم ما أمرت من التبليغ بنزول العذاب بكم، ولست أبلغكم أنه متى ينزل بكم؟ لما لم أومر به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) دين اللَّه، أو تجهلون آيات الله وقبولها، أو تجهلون نعم اللَّه وإحسانه، أو تجهلون أمر اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24). قَالَ بَعْضُهُمْ: العارض: السحاب، فقالوا: هذا سحاب ممطرنا، وكان حقيقة العارض الريح التي فيها عذاب أليم ظنوا أنها سحاب، ولم تكن سحابًا، ولكن كانت ريحًا، لكن من ذلك الجانب كان يأتيهم السحاب الممطر؛ لذلك، (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) كأن هودًا - عليه السلام - قال لهم: ليس هو بعارض ممطر، ولكن هو ما استعجلتم به من العذاب حيث: قلتم: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) هو ريح فيها عذاب أليم. ثم وصف تلك الريح فقال كما أخبر اللَّه - تعالى - بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ... (25) يخرج قوله: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) على وجهين:

أحدهما: تدمر كل شيء أرسلت وأمرت بتدميره، لا تجاوز أمر ربها، ولا تدمر ما لم ترسل ولم تؤمر بتدميره؛ كقوله - تعالى -: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) هذه الآية تفسر قوله: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) أتت عليه وأمرت بتدميره، فأما ما لم تؤمر بتدميره فلا؛ على ما ذكر في تلك الآية، واللَّه أعلم. والثاني: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) أي: عند من عاينها وتأملها عنده أنها تدمر كل شيء، لا تبقي شيئًا على وجه الأرض؛ لشدتها وقوتها، لكنها لا تجاوز أمر ربها؛ ألا ترى أنها لا تدمر هودًا وأتباعه، وهم فيهم وبقرب منهم، وهو كقوله - تعالى -: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) أي: يأتيه أسباب الموت وما به يموت لو كان فيه أمر الموت، فعلى ذلك قوله - تعالى -: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) أي: تدمر كل شيء عند من عاينها ونظر في أحوالها وأهوالها أن لو كان لها أمر بذلك، لكنها لم تجاوز أمر ربها؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) في ظاهر هذه الآية أنها قد أبقت مساكنهم ولم تدمرها، وكذلك قال في آية أخرى: (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم لما التجئوا إلى مساكنهم وهربوا منها كانت تدخل الريح مساكنهم وتخرجهم منها فتلقيهم في صحاريهم وأفنيتهم موتى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تنزع مفاصلهم، وتقطعها، ثم تلقيهم في أفنيتهم؛ على ما وصف، وشبههم بأعجاز نخل منقعر، فالريح التي تعمل في إخراج أهلها من مساكنهم وإبقائهم في الفيافي، لأن تعمل في هدم المساكن والمنازل أولى، وكذلك إذا عملت في نزع المفاصل وقطعها ففي نقض البنيان والمساكن أولى، ومع ذلك لم تعمل في هدم مساكنهم؛ فدل ما ذكرنا أنها لم تجاوز أمر ربها في الإهلاك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ. . .) الآية. يحتمل: (لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) وجهين: أحدهما: أي: لم تترك الريح من عاد ومما لهم إلا مساكنهم التي ذكر. والثاني: (لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) إلا آثار مساكنهم. فعلى أحد التأويلين تركت لهم المساكن، لم تهلكها، وعلى التأويل الآخر: تركت آثار مساكنهم، فأما نفس مساكنهم فقد أهلكتها. وهذان التأويلان خرجا على ما ذكرنا من التأويلين في قوله - تعالى -: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)، فالأول على التأويل الأول في قوله: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) أرسلت وأمرت

(26)

بتدميره، ولم تؤمر بتدمير مساكنهم، فبقيت، والتأويل الثاني على التأويل الثاني في قوله: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) عند من عاينها ونظر إليها؛ لشدتها وقوتها، فتدمر مساكنهم - أيضًا - فلا ترى إلا آثارها، لكن سماها: مساكن باسم ما قد كان، وأنه أمر مستعمل في عرف لسان اللغة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) كأن المجرم هو الذي يديم اكتساب الجرم والإثم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الوثاب في الجرم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (26) يَرْجِعُونَ (27) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (إِن) هاهنا في موضع " لم " كأنه يقول: ولقد مكناهم فيما لم نمكن لكم من القوة، والشدة، والعقل، والبصيرة، وغير ذلك، وذلك قوله - تعالى -: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي: قد مكنا عادًا فيما ذكرنا ما لم نمكن لكم يا أهل مكة في ذلك؛ ثم إذا أتاهم عذاب اللَّه بتكذيبهم الرسل لم يملكوا دفع عذابه، فأنتم حيث لم نمكن لكم ذلك أحرى ألا تملكوا دفع عذابه إذا نزل بكم بتكذيبكم الرسول، عليه الصلاة والسلام. قَالَ بَعْضُهُمْ: إن حرف (إِن) صلة زائدة؛ فيكون تقدير الآية كأنه يقول: ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه مما ذكر من السمع، والبصر، والفؤاد، ثم لم يملكوا دفع العذاب عن أنفسهم، فأنتم لا تملكون - أيضًا - دفعه عن أنفسكم، وكان لهم ما لكم مما ذكر من السمع، والبصر، والفؤاد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) على التأويل الأول؛ حيث ذكرنا أنهم مكنوا ما لم يمكن هَؤُلَاءِ، يكون ما ذكر من السمع والبصر والفؤاد لا يراد به أعيانها حقيقة، لكن السمع يكون كناية عن العقل؛ كقوله - تعالى -: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ)، ذكر السمع، ثم فسر به العقل، ويكون قوله: (وَأَبْصَارًا) أريد به: البصائر، فالبصر يذكر ويراد به البصيرة؛ إذ قد وصفهم اللَّه - تعالى - بذلك بقوله: (وَعَادًا وَثَمُودَ. . .) إلى قوله: (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)، ويكون قوله: (وَأَفْئِدَةً) كناية عن القوى؛ فالفؤاد يكنى به عن القوة؛ يخبر - تعالى - أنهم مكنوا من العقل والبصيرة والقوة ما لم تمكنوا

(27)

أنتم يا أهل مكة، ثم لم يقدروا على دفع عذاب اللَّه إذا نزل بهم، فأنتم كيف تملكون دفعه، وليس لكم تلك الأسباب؟! وعلى التأويل الثاني، كأن المراد هو حقيقة ما ذكر من السمع، والبصر، والفؤاد؛ فيكون معناه ما ذكرنا: أن لكم هذه الأسباب مثل ما لهم، ثم هم لم يقدروا على دفع ما حل بهم من العذاب، فأنتم لم تقدروا أيضًا بها، واللَّه أعلم. ثم بين اللَّه - سبحانه وتعالى - الذي بهم نزل ما نزل من العذاب؛ حيث قال: (إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) وكان استهزاؤهم مرة بما يوعد لهم الرسل - عليهم السلام - بالعذاب، ومرة كانوا يستهزئون بالرسل - عليهم السلام - لما يدعوهم إلى ما دعوا، واللَّه أعلم. ثم عذب عادًا بالريح التي وصفها اللَّه - تعالى - في سورة الحاقة، وذكر فيها؛ حيث قال: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)، أي: شديدة عادية (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا. . .) الآية، وقال في آية أخرى: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) خلق اللَّه - تعالى - البشر على طبعٍ وبنية وحال يحذرون ما ينزل بأشكالهم وأمثالهم بذنوب ارتكبوها، ويتعظون بغيرهم؛ فكأنه يقول: احذروا صنع الذين أهلكوا من حولكم وبقربكم؛ لئلا ينزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ الذين أهلكوا حولكم؛ ليرتدعوا عن ذلك، وألا يعاملوا رسوله كما عامل أُولَئِكَ حتى لا ينزل بهم مثل ما نزل بأُولَئِكَ بتكذيبهم الرسل وعنادهم واستهزائهم بهم؛ يحذرهم ما نزل بأُولَئِكَ الذين أهلكوا حولهم؛ ليرتدعوا عن ذلك، وألا يعاملوا رسوله كما عامل أُولَئِكَ حتى لا ينزل بهم مثل ما نزل بأُولَئِكَ؛ واللَّه أعلم. وقوله - عز جل -: (وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، قوله: (وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ) يخرج على وجهين: أحدهما: أي: جعلنا للرسل - عليهم السلام - آيات أقاموها على قومهم ما يعلمهم ذلك، ويخبرهم على صدقهم، فردّوها وكذبوهم بها، فعند ذلك أهلكناهم، فعلى ذلك جعلنا لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الآيات ما تعلمكم يا أهل مكة وتخبركم عن صدقه، وتدلكم على رسالته، فلا تردوها حتى لا ينزل بكم ما نزل بهم، واللَّه أعلم. والثاني: (وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ) أي: نشرنا في الآفاق والأطراف النائية ما حل بأُولَئِكَ ونزل بهم بتكذيب الرسل، وما كان منهم من العناد والرد ما يلزم من بلغه ذلك الخبر، واتصل به

(28)

ما نزل بأُولَئِكَ الرجوع عن مثل صنيعهم، ومثل معاملتهم. فأحد التأويلين يرجع إلى انتشار ما نزل بأُولَئِكَ في الآفاق؛ ليرجعوا عن ذلك؛ فيصير ذلك آية لهم؛ فيحملهم على الرجوع عن صنيع أُولَئِكَ؛ ليرجعوا عن ذلك. والثاني: إخبار أنه جعل لكل رسول ونبي آية على صدقه، ودلالة على رسالته؛ أي: لم يهلكهم إلا بعد لزومهم التصديق لهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) هذا يخرج على وجهين، أحدهما: يرجع إلى اللَّه - تعالى - والآخر: يرجع إلى الأصنام التي عبدوها واتخذوها آلهة: فأما الذي يرجع إلى اللَّه تعالى يقول: لولا نصرهم اللَّه؛ أي: هلا نصرهم اللَّه عند نزول العذاب بهم ولا يهلكهم لو كان عبادتهم الأصنام مما تقربهم إلى اللَّه زلفى، ويكونون شفعاء عنده، يقول - واللَّه أعلم -: لو كان ظنكم حقًّا أن ذلك مما يقربكم إلى اللَّه هلا نصركم اللَّه عند نزول ذلك بكم، فإذا لم ينصر اللَّه - تعالى - أُولَئِكَ بل أهلكهم فاعلموا أنه ليس الأمر كما توهمتم وظننتم، واللَّه أعلم. والثاني: يقول - واللَّه أعلم -: لو كان للأصنام التي تعبدونها شفاعة عند اللَّه - تعالى - على ما زعمتم هلا نصروا أُولَئِكَ ودفعوا الهلاك عنهم بشفاعتهم، وإذ لم يفعلوا ذلك، ولم ينصروهم، ولم يدفعوا عنهم، فعلى ذلك لا يملكون دفع ذلك عنكم إذا نزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ، واللَّه أعلم. وتفسير (فَلَولَا) هاهنا: هلا، وهلا تستعمل في الماضي؛ فيكون معناه: لم تفعل؛ أي: لم تنصرهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي: ضل هَؤُلَاءِ عنها. أو ضل الأصنام عنهم، فلم يكن لهم منهم ما طمعوا ورجوا بسبب عبادتهم إياها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) يحتمل أن يكون إفكهم وافتراؤهم هو قولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، ونحوه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ

(29)

أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ... (29) أي: فرغ من قراءته (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ). قَالَ بَعْضُهُمْ: إن النفر من الجن والإنس، والنذر من الإنس، فإن كان ما ذكر فجائز على هذا أن يكون النفر الذي ذكر أنه صرفهم إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليستمعوا القرآن منه هم النذر، يدل على ذلك قوله: (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ). وفي ظاهر قوله - تعالى -: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)، أن قد يكون من الجن الرسل كما يكون من البشر، إلا أن يقال بأنه قد يذكر الاثنان والمراد به أحدهما، وذلك جائز في اللغة؛ كقوله - تعالى -: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)، وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. ثم يحتمل (صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) أي: ألهمنا وقذفنا في قلوبهم حتى صاروا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتوجهوا إليه؛ ليستمعوا القرآن منه. ويحتمل أنه أمرهم في الكتب التي أعطوا معرفتها بالتوجه إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليستمعوا منه القرآن؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ - على إثره خبرًا عنهم: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ... (30) هذا يدل على أنهم قد عرفوا الكتب قبل هذا الكتاب؛ حيث قالوا: (سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) فجائز أن يكونوا أمروا بتلك الكتب استماع هذا الكتاب والعمل به. ويحتمل أن يكونوا عرفوا بذلك لما كانوا يسترقون السمع إلى السماء فيستمعون أخبار السماء، ثم ينزلون فيخبرون أهل الأرض بذلك؛ ليكون العلم لهم بذلك من الوجوه الثلاثة التي ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31). فيه دلالة لزوم العمل بخبر الواحد؛ لأن النفر الذين حضروا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الجن سمعوا القرآن منه وصدقوه كانوا قليلي العدد لما رجعوا إلى قومهم فإنما يرجع كل إلى قومه، وقد يحتمل الاجتماع والتواصل على ذلك، ودعا كل قومه إلى إجابة داعي اللَّه - تعالى - وحذرهم مخالفته، وأنه يحتمل ما ذكرنا من الأفراد والآحاد، دل أن خبر الواحد حجة في حق العمل، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)، فكان العمل بخبر الآحاد والأفراد ظاهرًا مشهورًا في

(32)

الإنس والجن؛ حيث ذكر ما ذكرنا وألزمهم الإجابة والحذر، واللَّه أعلم. ثم قوله - تعالى -: (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) يحتمل الإجابة له في الاعتقاد والإيمان به. ويحتمل في المعاملة في كل أمر، وفي كل شيء، فكذلك قوله: (وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ ... (32) فيما دعاه (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي: ليس بسابق ولا هارب من عذابه؛ يقول - واللَّه أعلم -: أن ليس يقدر أحد التخلص من عذابه بهربه منه والفرار عنه كما يقدر الفرار والهرب بعض من عذاب بعض في الدنيا ربما؛ ولذلك ما قال: (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ) أي: ليس لهم من دونه أولياء ينفعونه ويدفعون العذاب عنهم كما يقوم بعض في دفع ما يلحقهم من البلايا والشدائد في الدنيا؛ إذ ليس قوله: (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ) وأن لا ولاية لهم؛ إذ قال في موضع آخر: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، ولكن لا تنفع ولايتهم يومئذ كما لا تنفع في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: من لم يجب داعي اللَّه فهم في ضلال مبين. * * * قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .) الآية. والإشكال: ما معنى قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا)، وهم لم يشاهدوا خلقهما، ولم يروا، لكن قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أولم يخبروا؟ وقَالَ بَعْضُهُمْ: أولم يعلموا؟ أي: قد أخبروا وعلموا؛ ذكر هذا لأنهم كانوا مقرين جميعًا أن اللَّه هو الذي خلق السماوات والأرض. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) ويقول - واللَّه أعلم - أي: لما علموا أن اللَّه - سبحانه وتعالى - هو خلق السماوات والأرض، ولم يضعفه خلق ما ذكر، ولم يعجزه ذلك عن تدبير ما يحتاج ذلك إليه من الإمساك والقيام بما به قوام ما خلق فيهن من الخلائق وإصلاحهم، فإذ لم يعجز عما ذكره لا يحتمل أن يكون عاجزًا عن إحياء الموتى، أو عن شيء ألبتَّة. أو يقول: حيث لم يعي؛ ولم يظهر فيه الضعف في خلق ما ذكر، ثم لا أحد يملك أن

(34)

يعمل عملا إلا ويظهر فيه الضعف، فإذا لم يعجز ولم يضعف في خلق ما ذكر؛ دل ذلك على أنه إنما لم يضعفه؛ لأن قدرته ذاتية، ومن كانت قدرته ذاتية لا يعجزه شيء، فأما غيره إنما يعمل بأسباب فيقدر على العمل على قدر الأسباب ويعجز ربما عنه، والله أعلم. أو يقول: إذ قد عرفتم أن اللَّه - تعالى - هو خلق السماوات والأرض، ثم لا يحتمل أن يخلقهما عبثًا باطلا؛ إذ لو لم يكن بعث كان خلقهما باطلا عبثًا، وأصله ما ذكرنا بدءًا: أن من قدر على إنشاء ما ذكر من السماوات والأرض وما فيهما بلا احتذاء تقدم ولا استعانة بغير، ثم الإمساك والقوام على التدبير الذي دبر إلى آخر الدهر، لا يحتمل أن يعجزه شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)؛ لأنه قادر بذاته، لا بقدرة مستفادة. قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: قوله: (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) يقال: عييت بهذا: أي: لم أحسنه، ولم أقو عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) مرة قيل لهم: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى)، ومرة قيل لهم: (أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا) يقص هذا عليهم يومئذ ليعترفوا بالذي كانوا ينكرون في الدنيا؛ لأنهم كانوا ينكرون في الدنيا الرسل والآيات، وكانوا ينكرون كون البعث وعذابه، فيعرضون على النار، فيقال لهم: هذا الذي وعدتم في الدنيا، أليس هو حقا؟ فيعترفون ويقولون: (بَلَى وَرَبِّنَا) فيقال لهم: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) يلزم الرسل الصبر من وجوه ستة: ثلاثة مما خصوا هم بها، لا يشركهم غيرهم فيها، وثلاثة مما يشترك غيرهم فيها؛ فأما الثلاثة التي خصوا بها: أحدها: هم بعثوا لتبليغ الرسالة إلى الفراعنة والأكابر والجبابرة الذين كانت عادتهم وهمتهم القتل، وإهلاك من خالفهم وعصى أمرهم ومذهبهم، فلم يعذروا في ترك تبليغ الرسالة إليهم مع ما ذكرنا من خوف الهلاك والقتل، فأمّا غيرهم من الناس قد أبيح لهم كتمان الدِّين الحق منهم حتى لا يهلكوا. والثاني: ألزمهم الصبر بالمقام بين أظهر قومهم واحتمال ما كان يلحقهم منهم من

الاستهزاء بهم، والافتراء عليهم، والتكذيب لهم، وأنواع الأذى الذي كان منهم إلى الرسل، لم يؤذن لهم بمفارقتهم لذلك؛ ولذلك قال: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)، لم يكن منه سوى الخروج من بين قومه لسلامة دينه لو لم يسلموا، ثم أصابه ما أصاب بذلك الخروج لما لم يؤذن له بالخروج، واللَّه أعلم. والثالث: لم يجعل لهم الدعاء على قومهم بالهلاك والعذاب وإن كان منهم من التمرد والتعنت ما كان. فهذه الثلاثة من المعاملة مما خص الرسل - عليهم السلام - بها من بين سائر الناس. وأما الثلاثة التي يشترك فيها غيرهم: أحدها: أمروا بالصبر على ما يصيبهم وينزل من البلايا والشدائد. والثاني: أمروا بالمحافظة على العبادات التي جعلت عليهم، ومحافظة حدودها، والصبر على القيام بها. والثالث: أمروا بالصبر على ترك قضاء الشهوة، وترك إعطاء النفس هواها ومناها. فهذه الثلاثة لهم فيما بينهم وبين ربهم، وهي مما يشترك فيها غيرهم، والثلاثة الأولى لهم فيما بينهم وبين الخلق، وهم قد خصّوا بتلك الثلاثة دون غيرهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أولو العزم من الرسل هم: نوح، وإبراهيم، ويعقوب، ويوسف، وموسى - عليهم الصلاة والسلام - وهَؤُلَاءِ عدوا نفرًا منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الرسل جميعًا. وجائز أن يكون أولو العزم من الرسل هم الذين كان منهم الصبر على ما ذكرنا من المعاملة مع قومهم. وقيل: أولو العزم هم الذين كانوا أبدًا المتيقظين، القائمين بأمر اللَّه، الحافظين لحدوده، وقال في آدم - عليه السلام -: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي: لا تستعجل عليهم بالهلاك والنقمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يقول - واللَّه أعلم -: كأنك لا توعدهم بالعذاب إلا ساعة من النهار،

وعذاب ساعة من النهار مما لا يحملهم على ترك قضاء شهواتهم، ومنع ما هم فيه من الأحوال. والثاني: كأنهم إذا عاينوا عذاب الآخرة وشاهدوه استقصروا المقام في الدنيا، كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ)، استقصروا المقام في الدنيا إذا عاينوا يوم القبامة وأهوالها، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلَاغٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الإبلاغ. وقيل: البلاع من البلغة؛ أي: زاد يبلغ به السفر حيث يريد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) كأنه يقول: لا يهلك الهلاك الدائم المؤبد إلا القوم الفاسقون، وإلا الهلاك الذي ليس هو بالهلاك الدائم المؤبد مما يهلك الفاسق وغير الفاسق إذ يكون حقًّا على الكل. أو يقول: لا يهلك هلاك العذاب إلا الفاسق، فأما الهلاك الذي هو هلاك النجاة والفوز عن شدائد الدنيا فمما يهلك به الصالح، واللَّه أعلم. * * *

سورة محمد

سُورَةُ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) قال عامة أهل التأويل: هم أهل مكة. والأشبه أن تكون الآية في كفار المدينة وهم أهل الكتاب؛ لأن السورة مدنية؛ على ما قال بعض أهل التأويل، لكن جائز أن يكون كما قال أهل التأويل بأنها نزلت في كفار مكة؛ لأن هذه السورة ذكرت على أثر خبرهم وعقيب نبئهم في سورة الأحقاف. ثم إن كانت الآية في كفار المدينة وأهل الكتاب فيكون يحتمل: الذين كفروا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما أنزل عليه (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) أي: أبطل إيمانهم الذي كان لهم بسائر الأنبياء وبمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم كانوا مؤمنين به قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به؛ يقوله - والله أعلم -: قد أبطل إيمانهم الذي كان منهم قبل ذلك بما كفروا بعدما بعث. وإن كانت الآية في كفار مكة على ما قال أكثرهم؛ فيكون قوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا) بوحدانية اللَّه - تعالى - أو كفروا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبما أنزل عليه، أو كفروا بالبعث، ونحو ذلك (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) أي: أبطل حسناتهم التي كانت لهم في حال كفرهم؛ من نحو الصدقات، وصلة الأرحام، وفك الرقاب، وغير ذلك من الأعمال التي كانوا يتقربون بها - واللَّه أعلم - قد أبطل أعمالهم التي كانوا يتقربون بها ويرونها قربة عند اللَّه. أو يقول: قد أبطل عبادتهم التي كانوا يعبدون من الأصنام وغيرها لتقربهم عبادتهم إلى اللَّه زلفى؛ لقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، يقول: قد أبطل ذلك ولم يكن على ما رجوا وطمعوا، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) يحتمل أن صدوا بأنفسهم؛ أي: أعرضوا عن سبيل الله؛ على ما ذكر عنهم. ويحتمل: (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي: صدوا الناس عن سبيل اللَّه، وقد كان منهم الأمران جميعًا (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) أي: أبطل؛ يقال: ضل الماء في اللبن: إذا غلب فلم يتبين.

(2)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) يقول: والذين آمنوا باللَّه وبمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وآمنوا بما نزل عليه، وثبتوا على ذلك - لم يضل أعمالهم، ولم يبطل إيمانهم الذي كان منهم؛ بل يكفر سيئاتهم التي كانت منهم من الكفر وغيره من السيئات. أو يقول: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) وهو الكفر والمساوي التي كانت لهم من الكفر؛ كقوله - تعالى -: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، إن كانت الآية في مؤمني ومشركي العرب وأهل مكة فيكون قوله: (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ): الشرك والمساوي التي كانت لهم في حال الكفر، وإن كان في مؤمني أهل الكتاب، فيكون قوله: (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) في حال إيمانهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: آمنوا بما نزل على مُحَمَّد وهو الحق من ربهم نزل، وكل شيء من اللَّه فهو الحق. والثاني: (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي: وهو الصدق من ربهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) أي: حالهم وشأنهم فيما كان من قبل وفيما بعده. ثم أخبر أن الذي أبطل أعمالهم لأُولَئِكَ الكفرة وما ذكر، وثبت الذين آمنوا ولم يبطل أعمالهم وما ذكر من إصلاح حالهم هو ما قال (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ ... (3) يحتمل: الباطل: الشيطان، أو هوى النفس، أو كل باطل، وهو الذي يذم عليه فاعله ومتبعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) يقول: لهَؤُلَاءِ ما ذكر لاتباعهم الباطل، ولهَؤُلَاءِ ما ذكر لاتباعهم الحق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) أي: مثل الذي بين ما لهَؤُلَاءِ وما لهَؤُلَاءِ، يبين ما لكل متبع الباطل ومتبع الحق، وضرب المثل هو أن يبين لهم ما خفي وأثبته عليهم بالذي ظهر عندهم وتقرر وتجلى لهم؛ ليصير الذي خفي عليهم وأثبته ظاهرًا متجليًا. * * * قوله تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ)، وقال في آية أخرى: (فَاضْرِبُوا

فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، جائز أن يكون قوله - تعالى -: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) في القتال والحرب، وكذلك قوله - تعالى: (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، في الحرب والقتال - أيضًا - يضربون ويقتلون على ما يظفرون ويقدرون بهم من المفاصل، ولكن إبانة من المفصل - واللَّه أعلم - لما روي في الخبر: " إذا قتلتم فأحسنوا القتل " وحسن القتل هو أن يضرب ويبان من المفصل، والله أعلم. فعلى هذا جائز أن يخرج تأويل قوله تعالى: (فَاضْربُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، وتأويل قوله: (فَضَرْبَ الرِّقَابِ). وجائز أن يكون لا على التقديم والتأخير والإضمار، ولكن كل آية على نظم ما ذكر، واللَّه أعلم. ثم إن كان على ما ذكرنا من التقديم والتأخير والإضمار فيكون كأنه قال - تعالى -: فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا الرقاب حتى إذا أثخنتموهم وأسرتموهم، فاضربوا فوق الأعناق؛ لأن الإمام بالخيار عندنا إذا أخذهم وظفر بهم إن شاء قتلهم، وإن شاء منَّ عليهم وتركهم بالجزية، لقوله: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ)، ويكون قوله: (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) على هذا في المنِّ يستوثقهم بالمواثيق، وإن شاء فاداهم، لكنهم اختلفوا في المفاداة: قَالَ بَعْضُهُمْ: يفدون بالأموال وأسراء المسلمين منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يفادون بالأسراء منهم، ولكن لا يجوز أن يفادوا بالأموال، وهو قولنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يفادون بأسراء المسلمين ولا بالأموال؛ وهو قول أبي حنيفة، رحمه اللَّه. واختلفوا في قتل الأسراء منهم: قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يقتلون، ولكن يمن عليهم أو يفادون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإمام بالخيار: إن شاء قتلهم، وإن شاء منَّ عليهم، وإن شاء فاداهم بالأسارى من المسلمين؛ أما القتل فلما ذكرنا من الاستدلال بقوله: (فَاضْربُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ)، ولما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه استشار أبا بكر، وعمر، وسائر الصحابة - رضي اللَّه عنهم - في أسارى بدر، فأشاروا إلى المنِّ عليهم والترك، وأشار عمر إلى القتل فيهم، وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: " لو جاءت من السماء نار ما

نجا منكم إلا عمر " أو كلام نحوه - دل أن الحكم فيهم القتل؛ أعني: في هَؤُلَاءِ الذين حكم فيهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالقتل؛ لذلك قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما نجا إلا عمر " فدل هذا الخبر أن للإمام أن يقتل أسارى أهل الشرك، وله أن يمنَّ عليهم بالترك بالجزية في حق أهل الكتاب والعجم، فإنه لما جاز لنا في الابتداء أن نأخذ منهم الجزية إذا أبوا الإسلام وتركهم على ما هم عليه، فعلى ذلك بعد الظفر بهم والقدوة عليهم. ثم قالا بعضهم: الآية -وهو قوله: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) - تخالف من حيث الظاهر لقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ)، ونحو ذلك، ولكن أمكن التوفيق بين الآيتين: هذه في قوم، والأخرى في قوم آخرين، أو هذه في وقت والأخرى في وقت آخر، واللَّه أعلم. وقوله - عز وجل -: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا). قال بعضهم: حتى يخرج عيسى ابن مريم - عليهما السلام - فعند ذلك تذهب الحروب والقتال، أي: اقتلوهم، وافعلوا بهم ما ذكر إلى وقت خروج عيسى - عليه السلام - وقَالَ بَعْضُهُمْ: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) أي: حتى يضعوا أسلحتهم ويتركوا القتال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حتى يذهب الكفر والشرك، ولا يكون الدِّين إلا دين الإسلام، وهو كقوله - تعالى -؛ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)، أي: شرك وكفر، والله أعلم. قيل: الإثخان: هو الغلبة والقهر بالقتل والجراح. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَثْخَنْتُمُوهُمْ)، أي: أكثرتم فيهم القتل والجراحة، ويقال في الكلام: ضربته حتى أثخنته: حتى لا يقدر أن يتحرك، والوثاق: ما أوثقت به كل يدي الرجل أو رجليه؛ يقال: أوثقته واستوثقت منه. وقوله: (أَوْزَارَهَا) أيٍ: أثقالها، واحدها: وزر، وهو الثقل. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) أي: يضع أهل الحرب السلاح. وأصل الوزر ما حملته، فسمي السلاح: وزرًا؛ لأنه يحمل، واللَّه أعلم.

(5)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) قوله: (ذَلِكَ) أي: ذلك الذي أمرتهم به من أول ما ذكر من قوله - تعالى -: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ. . .) إلى قوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ) لأوليائه من أعدائه بلا قتال، ولا نصب الحروب فيما بينهم، ثم انتصاره منهم يكون مرة بأن يهلكهم إهلاكًا، ويقهرهم قهرًا، ومرة ينتصر منهم بأن يسلط عليهم أضعف خلقه وأخسهم، فيقهرهم بأضعف خلقه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي: يمتحن بعضكم بقتال بعض، وبأنواع المحن: أنشأ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذا البشر في ظاهر الأحوال بعضهم مشابهًا لبعض غير مخالف بعضهم بعضًا فإنما يظهر الاختلاف بالامتحان بأنواع المحن على اختلاف الأحوال، فعند ذلك يظهر المصدق من المكذب، والمحق من المبطل، والموافق من المخالف، والمتحقق من المضطرب، والموقن من الشاك؛ على ما ذكر - تعالى -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وغير ذلك من الآيات التي ذكر الاختلاف والامتحان فيها باختلاف الأحوال التي عند ذلك يظهر ما ذكر من التصديق والتكذيب والتحقيق وغيره. ثم لو كان - جل وعلا - انتصر لأوليائه من أعدائه بما ذكرنا بأن ينصرهم على أعدائهم نصرًا بلا امتحان وكلفة منه لأوليائه - لكان التوحيد له والتصديق لرسله بحق الاضطرار، لا بحق الاختيار؛ لأنهم إذا رأوا أنهم يستأصلون ويهلكون إهلاكًا بخلافهم إياهم لكانوا لا يخالفونهم؛ بل يوافقونهم مخافة الهلاك والاستئصال، فيرتفع الابتلاء والامتحان عنهم، فلا يظهر المختار من غيره؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يقول: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فهزموا وغلبوا وهربوا في وقت أو في قتال، (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) التي كانت منهم من الجهاد مع الأعداء وغير ذلك من الأعمال التي كانت لهم، (سَيَهْدِيهِمْ ... (5) أي: يوفقهم ثانيًا -مرة أخرى- للقتال والنصر لهم على أعدائهم في الدنيا، ويدخلهم في الآخرة الجنة. والثاني: أي: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) في الآخرة، (سَيَهْدِيهِمْ) في الآخرة الجنة.

(6)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: يدخلهم أن جنة التي بينها لهم في الدنيا ووصفها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عرفها لهم في الآخرة حتى يعرف كل منزله وأهله من غير أعلام وأدلة جعلت لهم، كما يعرف كل أحد في الدنيا منزله وأهله وخدمه، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَرَّفَهَا لَهُمْ) أي: طيبها لهم؛ يقال: فلان معرف، أي: مطيب، وطعام معرف، أي: مطيب؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) أي: إن تنصروا دين الله ينصركم. أو إن تنصروا أولياء اللَّه ينصركم على أعدائكم. ثم نصرنا دين اللَّه وأولياءه يكون مرة بالأنفس والأموال ببذلها في سبيله لابتغاء وجهه. والثاني: يكون نصرًا بالحجج والبراهين بإقامتها عليهم بما أمرنا من إقامة الحجج والآيات. ثم يكون نصر اللَّه إيانا من وجهين: أحدهما: ينصرنا على أعدائه بما يغلبهم ويقهرهم، لكن إن كان هذا، فيكون في حال دون حال، وفي وقت دون وقت، لا في كل الأحوال. والثاني: يكون نصره إيانا بما يجعل العاقبة لنا، وإن كنا غلبنا وقهرنا في بعض الحروب والقتال، وكانوا هم الغالبين علينا، قاهرين لنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). يحتمل في الحروب والقتال، أو يثبت أقدامهم في الآخرة؛ كي لا تزول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) أي: هلاكًا لهم. وقيل: أي: محنة عند الهزيمة والقتل. وجائز أن يكون أريد به الهلاك، وأصل التعس هو العثور والسقوط، وهو الهلاك، فيرجع إلى ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أي: ذلك الذي ذكر لهم من التعس والهلاك وإبطال الأعمال بأنهم تركوا اتباع ما أنزل اللَّه على رسوله؛ إذ كل من ترك اتباع شيء اعتقادًا، فقد كرهه، واللَّه أعلم.

(10)

ويحتمل أن يكون قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) أي: كرهوا ما أنزل اللَّه على غير بني إسرائيل، فإن كان هذا فالآية في أهل الكتاب؛ لأنهم لم يروا الرسل من غير بني إسرائيل ولا إنزال الكتب على أحد من غير بني إسرائيل، واللَّه أعلم. وقوله: (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) أي: بتركهم اتباع ما أنزل اللَّه وقبوله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... (10) قد ذكرنا فيما تقدم: أنه يخرج على وجوه ثلاثة: أحدها: أي: لو ساروا في الأرض، لعرفوا ما نزل بأُولَئِكَ بماذا نزل بهم؟ وهو تكذيبهم للرسل وكفرهم بهم، ولعرفوا أن من نجا منهم بماذا نجا؟ وهو التصديق لهم، والإيمان بهم. والثاني: على الأمر؛ أي: سيروا في الأرض، فانظروا ما الذي نزل بمكذبي الرسل ومستهزئيهم؛ ليكون ذلك مؤجرًا لهم عن مثل معاملتهم الرسول؛ عليه السلام. والثالث: أي: قد ساروا في الأرض، لكن لم ينظروا ولم يعتبروا فيما نزل بأُولَئِكَ أنه بماذا نزل بهم، ولو تأملوا فيهم، لكان ذلك زجرًا لهم عن المعاودة إلى مثل ذلك، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) هذا خرج على وجوه: أحدها: أي: (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ) سوى هَؤُلَاءِ الكفار الذين دمر اللَّه عليهم أمثال ما لهم من الهلاك بتكذيبهم الرسل. والثاني: أي: (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) أي: للكافرين من قومك أمثالها، وهذا وعيد لقومه. والثالث: أن يقول: لقومه ولكل كافر أمثال ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) تأويله: أي: ذلك الذي ذكر لهم؛ لأجل أن اللَّه ناصر الذبن اتبعوا أمره، وآمنوا به، وصدقوه، فدفع العذاب عنهم باتباعهم أمره، وإن للكافرين ذلك؛ لما ليس هو بناصر لهم؛ لتركهم اتباع أمره وتصديقهم إياه، فلم يدفع العذاب عنهم. أو يقول: (ذَلِكَ)، أي: دفع العذاب عن الذين آمنوا؛ لما أن اللَّه يتولى أمورهم، ويعصمهم، وأنه لم يتول أمور الكفرة؛ أي: لم يعصمهم، وخذلهم، وتركهم على ما اختاروا؛ لعلمه باختيارهم ما اختاروا من التكذيب، وتولى المؤمنين وعصمهم؛ لعلمه بما يختارون من التصديق والاتباع له، واللَّه أعلم.

(12)

قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15). ثم ذكر عاقبة المؤمنين من الاتباع لأمره والتصديق لرسله وهو قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، وبين ما لأُولَئِكَ الذين اختاروا من الكفر به والتكذيب لرسله في العاقبة، حيث قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) أي: مأوى لهم بما اختاروا، واللَّه أعلم. وذلك أن أهل الإيمان والتوحيد نظروا في جميع أحوالهم وأمورهم إلى ما فيه أمر اللَّه - تعالى - وما يعقب لهم نفعًا في العاقبة، لم ينظروا إلى ما فيه قضاء شهواتهم ومناهم؛ بل اختاروا أمر اللَّه على جميع ما ذكرنا، وأُولَئِكَ الكفرة، لم ينظروا إلى ما فيه أمر اللَّه، ولا يوجب لهم في العاقبة من النفع؛ بل اختاروا لشهواتهم ومناهم، وما فيه هواهم على ما فيه أمر اللَّه ونهيه، فجعل للمؤمنين في الآخرة قضاء شهواتهم التي تركوا قضاءها في الدنيا، وكفوا أنفسهم عن مناها مكان ذلك في الجنة والبساتين التي وعد لهم في الآخرة، وجعل لأُولَئِكَ الكفرة في الآخرة مكان ما قضوا في الدنيا من شهواتهم، وإعطاء أنفسهم مناها النار، وما ينقصهم ما أعطوا أنفسهم في الدنيا. ثم قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ) يحتمل تشبيه أُولَئِكَ الكفرة بالأنعام في الأكل وجهين: أحدهما: يخبر أنهم يأكلون، وهمتهم في الأكل ليست إلا الشبع، وامتلاء البطن، وقضاء الشهوة، لا ينظرون إلى ما أمر اللَّه به ونهاهم عنه، كالأنعام التي ذكر همتها ليست في الأكل إلا الشبع، وامتلاء البطن، واقتضاء الشهوة، واللَّه أعلم. والثاني: يخبر عنهم أنهم لا ينظرون في أكلهم وشربهم إلى عاقبة، ولا إلى وقت ثانٍ؛ بل نظرهم إلى الحال التي هم فيها، كالأنعام التي ذكر أنها تأكل ولا تنظر، ولا تدّخر شيثًا لوقت ثانٍ، ولا تترك شيئًا ما دامت تشتهي، فعلى ذلك أُولَئِكَ الكفرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) كانت سنة اللَّه - تعالى - في الذين كانوا من قبل أنه إذا أخرج الرسل - عليهم

(14)

السلام - من بين أظهرهم أهلكهم، فيخبر أن أهل مكة قد استوجبوا العذاب؛ إذ أخرجت من بين أظهرهم كما يستوجب أُولَئِكَ الكفرة، لكن اللَّه بفضله ورحمته أخر ذلك عنهم؛ لأنه بعثك إليهم رحمة؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، أو أخر ذلك عنهم؛ لما وعد أنه خاتم الأنبياء - عليهم السلام - ليبقي شريعته إلى يوم القيامة، ولو أهلكهم واستأصلهم؛ على ما فعل بأُولَئِكَ لانقطعت رسالته وشريعته، وقد وعد أنها تبقى، وأنه رحمة لهم، وأنه لا يخلف الميعاد. ثم أخبر أن أُولَئِكَ الكفرة أكثر أهلا وأشد قوة وبطشًا من هَؤُلَاءِ، ثم لم يتهيأ لهم دفع ما نزل بهم بقوتهم في أنفسهم وبطشهم، ولا كان لهم ناصر ينصرهم من عذاب اللَّه، ولا مانع يمنعهم عنه، فأنتم يا أهل مكة أولى ألا تدفعوا عن أنفسكم العذاب إذا نزل بكم، والله أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَخْرَجَتْكَ) أضاف الإخراج إلى قومه، وهم لم يتولوا إخراجه بأنفسهم؛ بل اضطروه حتى خرج هو بنفسه، لكنه أضاف الإخراج إليهم؛ لأن سبب خروجه من بينهم كان منهم، فكأنهم قد أخرجوه، وهو كما ذكر من إخراج الشيطان آدم وحواء - عليهما السلام - من الجنة بقوله: (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)، والشيطان لم يتول إخراجهما حقيقة، لكن لما كان منه من أشياء حملهم ذلك على الخروج، فكأنه وجد الإخراج منه، وأصله: أن الأشياء والأفعال ربما تنسب إلى أسبابها، وإن لم يكن لتلك الأسباب حقيقة الأفعال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) هو خبر من اللَّه - تعالى - أي: لا يكون لهم ناصر، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: لا يكون ناصر في الآخرة. والثاني: على إضمار؛ أي: لم يكن لهم ناصر وقت ما عذبوا في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) يخرج لهذا الحرف جواب؛ لما هم عرفوا بالبديهة أن ليس من كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله، واتبع هواه، يعرف ذلك بالبديهة كمن يقول: ليس المحسن كالمسيء، وليس من يحسن كمن يسيء، ونحو ذلك مما يعرفه كل أحد لا يحتاج إلى بيان وجواب، فعلى ذلك هذا. ثم في ذلك وجهان: أحدهما: يذكر سفههم باختيارهم اتباع هواهم وما زين لهم من سوء عملهم على اتباع

(15)

من كان على بينة منه، وبيان، على علم بذلك، ويقين، واللَّه أعلم. والثاني: فيه ذكر دلالة البعث، يقول - واللَّه أعلم -: لما عرفتم أن من كان على بينة من ربه ليس كمن يتبع هوى نفسه، وقد استويا في هذه الدنيا: انتفع هذا كما انتفع الآخر، وفي العقول لا استواء بينهما؛ فدل استواؤهما في هذه الدار على أن هناك دارًا أخرى، ثم يفرق بينهما ويميز، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) هذا يخرج على وجوه: أحدها: أن قوله - تعالى -: (وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) على حقيقة المثل، كأنه يقول: مثل الجنة التي وعد المتقون من جناتكم هذه لو كانت جناتكم في الدنيا على المثل الذي وصف في الآية، أليس كانت نفس كل أحد ترغب فيها، وتحرص في طلبها؛ لتكون تلك الجنة لها، فما بالكم لا ترغبون في تلك الجنة التي وعد المتقون في الآخرة لا ترغبون فيها، ولا تحرصون في طلبها؟ واللَّه أعلم. ويخرج على هذا التأويل قوله - تعالى -. (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) أي: ليس من كان خالدًا في جنة من جناتكم التي ذكر وصفها كمن هو خالد في نار من نيرانكم. والثاني: يحتمل قوله - تعالى -: (الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ما ذكر، فيخرج على الصلة؛ لما تقدم من قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) ثم وصف ونعت الجنة التي أخبر أنه يدخلهم فيها فقال: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي: صفتها (فِيهَآ أَنهَارٌ مِنْ. . .) كذا وكذا الآية، وعلى هذا ما ذكر في آخره من قوله: (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) يحتمل أن يكون صلة قوله: (وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)، ثم وصف تلك النار التي أخبر أنها مثوى لهم ومأوى لهم فقال: (وَسُقُوا مَآءً حمَيمًا. . .) الآية. والثالث: يذكر على أن من وعد له ما وعد للمتقين من الجنة وما فيها من النعم، ليس كمن وعد له النار؛ ألا ترى أنه - جل وعلا - ذكر في آخر ما ذكر من وصف الجنة: (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) أي: ليس هذا كهذا، ولا سواء بينهما، أي: لا مساواة، وهو كقوله - تعالى - فيما تقدم من حيث قال: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)، أي: ليس هذا كهذا؛ فعلى هذا يحتمل ما ذكر من وصف الجنة ووصف النار؛ أي: ليس من وعد له الجنة التي وصفها ونعتها كمن وعد له النار التي وصفها ما ذكر، واللَّه أعلم. ثم قال: (أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ. . .) الآية، يخبر أن ما يكون في الجنة من المياه،

(16)

والخمور، والألبان، وما ذكر ليس كالتي في الدنيا؛ لأن المياه في الدنيا تتغير بأحد وجهين: إما النجاسة وآفة تصيبها، أو لطول الزمان والمكث، فيخبر أن ليس في الجنة شيء يغير مياهها، وكذلك اللبن في الدنيا يتغير ويفسد عن قريب إذا ترك لما ذكر، فيخبر أن ألبان الجنة لا تفسد للترك، ولا يصيبها شيء فيفسدها ويخرجها عن طعم اللبن، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) يخبر أن الخمر في الجنة مما يتلذذ بها أهلها عند الشرب ليس كخمور الدنيا يتكره أهلها عند شربها ويعبسون بوجوههم عند التناول منها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي: أنهار من عسل خلق، وأنشئ مصفى لا كدورة فيه، لا أنه كان كدرًا ثم صفي، أو كان خلق بعضه كدرًا وبعضه مصفى، ولكن خلق كله مصفى من الابتداء، وهو كقوله - تعالى -: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ)، أي: خلقها في الابتداء مرفوعة، لا أنها كانت موضوعة ثم رفعها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) يحتمل: أي: من كل الثمرات التي عرفوها في الدنيا ورأوها. أو يقول: (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) التي يريدون فيها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) أي: ليس من وعد له ما ذكر من الجنة وهو خالد فيها متنعم بما ذكر من ألوان الثمار والتنعم بما ذكر من المياه والخمور والألبان، كمن هو خالد في النار وما ذكر، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا

(17)

قَالَ آنِفًا) جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - آيات رسالة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وحججه على المنافقين - صنيعهم وما أسروا في أنفسهم من الخلاف له والعداوة، فأطلع اللَّه رسوله على ما أسروا في أنفسهم وأضمروه؛ ليكون ذلك آية لرسالته، وحجة لنبوته؛ إذ علموا أن لا أحد يطلع على ما في القلوب إلا اللَّه - تعالى - فإذا أخبر رسول اللَّه لهم بما أسروا وأضمروا، وعلموا أنه إنما عرف ذلك باللَّه - تعالى - كقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا)، وقوله: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)، ونحو ذلك. ثم الناس في الاستماع إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يفرقون إلى فرق ثلاث: فالمؤمنون كانوا يستمعون إليه للاسترشاد واستزادة الهدى، وهو كقوله - تعالى -: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا. . .) الآية، (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. . .) الآية. وقوله - تعالى -: (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17). يحتمل قوله: (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) أي: أعطاهم ما اتقوا مخالفة أمره. ويحتمل: (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) أي: يوفقهم ما يتقون مخالفة أمره من بعد في المستأنف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أعطاهم اللَّه ثواب أعمالهم في الآخرة؛ يقول: كلما جاء من اللَّه أمر أخذوا به، فزادهم اللَّه - تعالى - هدى (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)؛ أي: أجرهم. وفي حرف ابن مسعود - رضي أن له عنه -: (وأنطاهم تقواهم) أي: أعطاهم، وهي لغة معروفة، أنطى: أي: أعطى، وكذلك قرأ: (إنا أعطيناك الكوثر). وقوله - تعالى -: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) كأن هذه الآية نزلت في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون إلا عند قيام الساعة؛ كأنه يقول: ما ينظرون لإيمانهم إلا الساعة أن تأتيهم بغتة، لكن لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت؛ كقوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)، وقوله: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)، كأنه - واللَّه أعلم - يؤيس رسوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الطمع في إيمانهم قبل ذلك الوقت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يحتمل ما ذكر من مجيء أشراطها هو رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه خاتم الأنبياء، وبه ختمت النبوة، وروي عنه أنه قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين "، وأشار إلى

(19)

أصبعين جمع بينهما، فإن كان التأويل هذا فهو على تحقيق مجيء أشراط الساعة؛ أي: قد جاءت أشراط الساعة حقيقة وتحققت. والثاني: يحتمل أن يكون ما ذكر من مجيء أشراطها هي الأعلام والشرائط التي جعلت علمًا لقيامها؛ من نحو نزول عيسى، وخروج دابة الأرض، وخروج الدجال، وغير ذلك، فقد مضى بعض تلك الأعلام؛ فيكون قوله: (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) أي: كأن قد جاء أشراطها؛ إذ كل ما هو آت جاءٍ؛ فكأنه قد جاء؛ كقوله - تعالى -: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ). وقوله - عَزَّ وجل -: (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) يحتمل وجهين: أحدهما: من أنى ينتفعون بإيمانهم في ذلك الوقت؟ وكيف لهم منفعة الذكرى إذا جاءت، والتوبة لا تقبل حينئذ؟ والثاني: من أين لهم الإيمان والتوبة إذا جاءتهم الذكرى؛ أي: ما يذكرهم في الدنيا قبل ذلك فلم يؤمنوا، ولم يتذكروا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وجل -: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ... (19). هذا يخرج على وجهين: أحدهما: اعلم في حادث الوقت أنه لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ كقوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ)، ونحو ذلك. والثاني: يقول: فاعلم أن الإله المستحق للعبادة والمعبود الحق هو الإله الذي لا إله غيره؛ إذ الإله عند العرب هو المعبود؛ يقول: إن المعبود الذي يستحق العبادة هو اللَّه - تعالى - لا الأصنام التي تعبدونها دونه وتزعمون أن عبادتكم إياها تقربكم إليه زلفى. والثالث: أمره أن يشعر قلبه في كل وقت وحال كلمة الإخلاص، والتوحيد له، والقول به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) جائز أن يكون قوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) إنما هو لافتتاح الكلام وابتدائه، على ما يؤمر المرء أن يبتدئ بالدعاء لنفسه عند أمره بالدعاء لغيره، وكان حقيقة الأمر بالدعاء للمؤمنين والمؤمنات دون نفسه، ولكن أمر بالدعاء لنفسه استحبابًا، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون له ذنب فيأمره بالاستغفار له، لكن نحن لا نعلم، وليس علينا أن نتكلف حفظ ذنوب الأنبياء - عليهم السلام - وذكرها، وكل موهوم منه الذنب يجوز أن

يؤمر بالاستغقار، كقول إبراهيم - عليه السلام - حيث قال: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)، لكن ليس ذنب الأنبياء وخطاياهم كذنب غيرهم؛ فذنب غيرهم ارتكاب القبائح من الصغائر والكبائر، وذنبهم ترك الأفضل دون مباشرة القبيح في نفسه، واللَّه الموفق. ثم أرجى آية للمؤمنين هذه الآية؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر رسوله - عليه السلام - أن يستغفر لهم، فلا يحتمل ألا يستغفر وقد أمره مولاه بالاستغفار، ثم لا يحتمل - أيضًا - أنه إذا استغفر لهم على ما أمره به فلا يجيب له، وكذلك دعاء سائر الأنبياء - عليهم السلام - نحو دعاء نوح - عليه السلام -: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، وقول إبراهيم - عليه السلام -: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)، ونحو ذلك، وكذا استغفار الملائكة لهم - أيضًا - لقوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ)، وقوله: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ. . .) الآية، هذه الآيات أرجى آيات للمؤمنين ودعوات الأنبياء - عليهم السلام - أفضل وسائل تكون إلى اللَّه - تعالى - وأعظم قربة عنده، واللَّه الموفق. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) فيه دلالة نقض قول المعتزلة، لأنهم يقولون: إن الصغائر مغفورة، لا يجوز لله - تعالى - أن يعذب عباده عليها، والكبائر مما لا يحل له أن يغفرها لهم إلا بالاستغفار منهم والتوبة؛ فهذه الآية تنقض قولهم ومذهبهم؛ لأنه أمر رسوله أن يستغفر لهم، فلا يخلو إما أن تكون صغائر، وهي مغفورة عندهم؛ فكأنه يقول: اللهم لا تجر؛ لأنها مغفورة لا يسع له أن يعذب عليها، أو كبائر ولا يحل له المغفرة عنها، فيكون قوله: اللهم اغفر لهم، كأنه قال: اللهم جر؛ لأن مغفرته إياهم الكبائر يكون جورًا ووضع الشيء في غير موضعه. فكيفما كان ففيها نقض قولهم وحجة لقولنا: إن له أن يعذبهم عليها وإن كانت صغائر، وله أن يعفو عنها وإن كانت كبائر؛ إذ المغفرة عن الذنب تكون، واللَّه الموفق للصواب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) في النهار (وَمَثْوَاكُمْ) من الليل. وقيل: يعلم ما ينقلبون بالنهار ويسكنون بالليل؛ وهما واحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) في الدنيا (وَمَثْوَاكُمْ) في الآخرة؛ أي: مقامكم

(20)

فيها. وهو يخرج عندنا على وجوه: أحمدها: يحتمل هذا لظن قوم وتوهمهم أن اللَّه - تعالى - يجهل عواقب الأمور؛ حيث أنشأ هذا العالم، فجحدوه وجحدوا نعمه، فلا يحتمل أن ينشئهم، ويجعل لهم النعم وهو يعلم أنهم يجحدون وينكرون نعمه؛ لأن من فعل هذا في الشاهد فهو عابث غير حكيم، فعلى ذلك هذا، على زعمهم، فقال - تعالى - جوابًا لهم: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) أي: على علم بما يكون منهم أنشأهم وخلقهم، لا عن جهل على ما ظنوا هم، لكن ما ينبغي لهم أن ينسبوا الجهل إلى اللَّه - تعالى - لجهلهم بحق الحكمة في فعله؛ لأن اللَّه - جل وعلا - لم ينشئ هذا العالم لحاجة له، أو لمنافع نفسه؛ بل إنما أنشأه لمنافع أنفسهم، ولحاجتهم، فإليهم ترجع منفعة الإجابة والطاعة، وعليهم تكون مضرة الجحود والرد، فأما في الشاهد فمن يأمر أحدًا أو ينهاه عن أمر أو أرسل إليه رسولا على علم منه بالرد والجحود فهو سفيه غير حكيم؛ لأنه إنما يفعل ما يفعل لحاجة نفسه ولمنفعة له، فإذا علم منه الرد والإنكار فهو غير حكيم، فافترق الشاهد والغائب؛ لافتراق وجه الحكمة، والله الموفق. والثاني: قوله - تعالى -: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) أي: يعلم جميع أحوالكم من حركاتكم، وسكونكم، وجميع تقلبكم؛ لتكونوا أبدًا على حذر ويقظة، واللَّه أعلم. والثالث: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) أي: يعلم متقلبكم في الدنيا، ويعلم إلى ماذا يكون مرجعكم في الآخرة؛ أي: أنشأ كلا على ما علم أنه يكون منهم؛ كقوله - تعالى -: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ)، وقال في آية أخرى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، أي: أنشأ من علم أنه يختار الكفر وعداوته لجهنم، وأنشأ من علم أنه يختار التوحيد وولايته للجنة، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) إن الذين آمنوا كانوا يتمنون إنزال السورة، ويقولون: هلا نزلت سورة؛ لوجوه: أحدها: لتكون السورة حجة لهم، وآية على أعدائهم في الرسالة والبعث والتوحيد. والثاني: كانوا يستفيدون بإنزال السورة أشياء ويزداد لهم يقين وتحقق في الدِّين؛ كقوله - تعالى -: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ. . .) إلى قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)، وأما المنافقون (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)

على ما ذكر. والثالث: يتمنون نزول السورة؛ ليتبين لهم المصدق من المكذب، والمتحقق من المرتاب. هذه الوجوه التي ذكرنا تكون لأهل الإيمان؛ لذلك يتمنون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) أي: محدثة، والمحدثة ليست بتفسير للمحكمة، إلا أن يعنوا بالمحدث، الناسخ، والناسخ هو المحدث والمتأخر نزولا، وهو محكم؛ لأنه يلزم العمل به، واللَّه أعلم. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لولا نزلت سورة محدثة)، والوجه ما ذكرنا. والمحكمة عندنا على وجهين: أحدهما: أي: محكمة بالحجج والبراهين. والثاني: لما أنزلت على أيدي قوم وتداولت فيما بينهم فلم يغيروه ولم يبدلوه؛ بل حفظوه؛ ليعلم أنه من عند اللَّه حقًّا ومنه نزل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في القتال خصالا: أحدها: كثرة أهل الإسلام، وكثرة الأموال، وإن كان في ظاهر القتال إفناء الأنفس والأموال؛ لأنه قبل أن يفرض القتال كان يدخل من الإسلام واحد، فلما فرض القتال دخل فيه فوج فوج؛ على ما أخبر: (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا). والثاني: ليتبين المصدق منهم من المكذب لهم، والمتحقق من المرتاب؛ لأنه لم يكن ليظهر ويتبين لهم المنافق من غيره إلى ذلك الوقت، فلما فرض القتال عند ذلك ظهر وتبين لهم أهل النفاق والارتياب من أهل الإيمان والتصديق. والثالث: فيه آية الرسالة والبعث، وأما آية الرسالة فلأن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا عددًا قليلا لا عدة لهم ولا قوة، أمروا بالقتال مع عدد لا يحصون، ولهم عدة وقوة؛ ليعلم أنهم لا بأنفسهم يقاتلون، ولكن باللَّه - تعالى - إذ لا يحتمل قيام أمثالهم لأمثال أُولَئِكَ مع كثرتهم وقوتهم، واللَّه أعلم. وأما آية البعث فلأنهم أمروا بقتال أقاربهم، وأرحامهم، والمتعلق بهم، وفي ذلك قطع أرحامهم، وقطع صلة قراباتهم؛ ليعلم أنهم إنما يفعلون هذا بالأمر لعاقبة تؤمل وتقصد؛ إذ لا يحتمل فعل ذلك بلا عاقبة تقصد، وبلا شيء يعتقد، واللَّه أعلم.

(21)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) كان أهل النفاق يكرهون نزول ما ينبئهم عما في ضميرهم من النفاق والارتياب، كقوله - تعالى -: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ)، وإذا أنزلت السورة يزداد لهم ما ذكر؛ حيث قال: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَوْلَى لَهُمْ) قال أهل التأويل: هذا وعيد لهم؛ كقوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. . .) الآية، لكن ظاهره ليس بتوعد ولا تهدد، إنما ظاهره، أي: أحرى لكم وأولى أن تطيعوه، وأن تقولوا معروفًا، فإذا تركوا ذلك يكون وعيدًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ ... (21) اختلف في تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلة قوله: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ)، وعزم الأمر؛ فعند ذلك كان ما ذكر من المنافقين حيث قال: (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، وليس في نفس ذكر القتال ما ذكر من نظر المغشي عليه من الموت إنما ذلك الوصف وتلك أن حال عند وجوب القتال، ولزومه، وتأكيده عليهم، وذلك في قوله - تعالى -: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي: وجب وفرض، فعند ذلك يكون حالهم ما ذكر، فأما بذكر نفس القتال فلا، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ) هو في الآخرة، أي: فإذا تحقق وظهر ما كان أوعدهم الرسول - عليه السلام - من نزول العذاب بهم في الآخرة (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ) في الدنيا لكان خيرًا لهم في الآخرة؛ حيث كان لا ينزل العذاب بهم في الآخرة؛ أي: لو صدقوا رسول اللَّه فيما يوعدهم من العذاب أنه ينزل بهم في الآخرة وتركوا مخالفته في الدنيا - لكان خيرًا لهم في الآخرة، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)

(23)

اختلف في تأويل هذه الآية: قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) أي: فلعلكم (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي: وليتم أمر هذه الأمة (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قد كان هذا، وهم بنو أمية، ولوا أمر هذه الأمة ففعلوا ما ذكر من الفساد في الأرض وقطع الأرحام، وكان لهم اتصال برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكان منهم ما ذكر، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الآية في المنافقين؛ كانوا يأتون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويسمعون منه ما قال، ثم إذا تولوا عنه كانوا يسعون في الأرض بالفساد وما ذكر؛ كقوله - تعالى -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . .) إلى قوله: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ. . .) إلى قوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أراه إلا نزلت الآية في الحرورية، وهم الخوارج. وجائز أن يكون هذا ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، وقد انقلبوا، على ما أخبر، وهو في أهل الردة، والله أعلم. وقال قتادة: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)، أي: طواعية اللَّه ورسوله، وقول المعروف عند حقائق الأمور خير لهم، (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) يقول: إن توليتم عن كتابي وطاعتي (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) يقول: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب اللَّه، ألم يسفكوا الدماء الحرام، وقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن، وأكلوا المال الحرام؟! ويحتمل أن تكون الآية في الذين آمنوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) اللعن: هو الطرد عن الرحمة، وهو كقوله لإبليس: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)، أي: أنت مطرود عن رحمتي، وقوله - تعالى -: (لَعَنَهُمُ اللَّهُ) أي: طردهم عن رحمته.

(24)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) أي: أصمهم حتى لم يسمعوا سماع الاعتبار والتفكر، وأعمى أبصارهم حتى لم ينظروا فيما عاينوا نظر اعتبار وتفكر ما لو تفكروا وتأملوا ونظروا نظر معتبر، لأدركوا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24). فيه أنهم لو تدبروا وتأملوا فيه، لأدركوا ما فيه. وفيه - أيضًا - أنهم لو تدبروا العذاب لفتح تلك الأقفال التي ذكر أنها عليها، وذهب بها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) أي: على قلوب أقفالها. ثم يحتمل أقفالها: الظلمة التي فيها، وهي ظلمة الكفر، تلك الظلمة تغطى نور البصر ونور السمع. وجائز أن يكون ما ذكر من الأقفال هي كناية عن الطبع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) أي: زين، أضاف التزيين مرة إلى الشيطان، ومرة إلى نفسه، فما يفهم من تزيين الشيطان غير الذي يفهم من تزيين اللَّه - تعالى - كالإضلال المضاف إلى اللَّه - تعالى - والمضاف إلى الشيطان، فالمفهوم من إضلال اللَّه غير المفهوم من إضلال الشيطان؛ فعلى ذلك التزيين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمْلَى لَهُمْ) أي: أخرهم وأمهلهم إلى أجل ووقت؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. . .) الآية، أي: يؤخرهم؛ ليكون ما ذكر، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى. . .) الآية، جائز أن تكون الآية في اليهود؛ لما ذكرنا أنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث؛ كقوله: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. . .) الآية، ارتدوا على أدبارهم من بعد ما آمنوا به واتبعوه. وجائز أن تكون في المنافقين، ارتدوا على أدبارهم، وأظهروا الخلاف بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعدما أظهروا الموافقة في حياته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ) إن كان راجعًا إلى قوله: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ) كان المراد بذلك اليهود - فالمعنى فيه غير المعنى لو كان في المنافقين. وإن كان قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ) راجعا إلى قوله: (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ) فإذا احتمل ذلك

(27)

الوجهين، فلا نفسره أنه إلى ماذا يرجع. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: الذين كرهوا ما نزل اللَّه هم المنافقون، قالوا لليهود: سنطيعكم في تكذيب مُحَمَّد والمظاهرة عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم اليهود، ظاهروا سائر الكفرة على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه رضي الله عنهم. ثم كراهة نزول ما أنزل اللَّه على رسوله - عليه الصلاة والسلام - كان من اليهود وجميع الكفرة؛ لقوله - تعالى -: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) هذا يدل على أنه لا يفسر قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا) ولا يشار على أنه أراد كذا، ورجع إلى كذا؛ لما أخبر اللَّه - تعالى - أنه هو العالم بما أسروا، ولم يبين ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ ... (28) لا أحد يقصد قصد اتباع سخط اللَّه، ولا كراهة رضوانه، لكنهم لما اتبعوا الفعل الذي كان اللَّه يسخط ذلك الفعل، فكأنهم اتبعوا سخطه، وكذلك إذا تركوا اتباع ما كان اللَّه يرضاه وكرهوه فكأنهم كرهوا رضوانه، وهو كقوله - تعالى -: (لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ)، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكنهم لما اتبعوه فيما يأمرهم ويدعوهم إليه فكأنهم عبدوه، وهو تسمية الشيء باسم سببه، واللغة غير ممتنعة عن تسمية الشيء باسم سببه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) التي كانت قبل ارتهدادهم في حال اتباعهم إياه، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) أي: حسب المنافقون أن لن يظهر اللَّه عداوتهم، وأن لن يبدي اللَّه ما في قلوبهم من العداوة؛

(30)

جعل اللَّه - جل وعلا - في إظهار ما أسر أهل النفاق وإبداء ما أخفوه فيما بينهم - آية عظيمة، ودلالة ظاهرة على رسالة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) كأنه على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: ولو نشاء لأريناكهم بسيماهم بالنظر إليهم بالبديهة، ولتعرفنهم - أيضًا - في لحن القول؛ أي: لو نشاء لجعلنا لهم أعلامًا في الوجه والقول لتعرفنهم، ولكن لم نجعل لهم، ولكن جعل معرفتهم بأعمال يعملون فيظهر نفاقهم بذلك - واللَّه أعلم - كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وقال في آية أخرى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)، وقوله: (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. . .) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)، وقوله: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ)، ونحو ذلك من الآيات مما كان يظهر نفاقهم وخلافهم بالأعمال التي كانوا يعملون؛ فدلت هذه الآيات على أنه كان لا يعرفهم بالسيماء والنطق والقول والأجسام، وإنَّمَا يعرفهم بأفعال كانوا يفعلونها، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي: فحوى الكلام، فكان يعرفهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإذا تكلموا؛ فيخرج على هذا التأويل. وقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ) على الوعد؛ أي: تعرفهم في حادث الوقت، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: رجل ألحن بحججه، ويقال: لحن يلحن -إذا أخطأ- لحنًا، فهو لاحن؛ كأنه من العدول والميل عن الحق. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي: في فحوى كلامهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: واللَّه يعلم ما تسرون من الأعمال وتخفونها. والثاني: على الجملة؛ أي: يعلم جميع أعمالهم: ما أسروا وأعلنوا؛ يخرج على الوعيد، كقوله: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) هذا يخرج على وجوه: أحدها: أي: حتى يعلم أولياؤه المجاهدين منكم والصابرين من غير المجاهدين وغير الصابرين، فيكون المراد من إضافة العلم إلى نفسه علم أوليائه؛ كقوله - تعالى -: (إِنْ

(32)

تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)، ونحوه، فالمراد منه أولياؤه على أحد التأويلات، واللَّه أعلم. والثاني: يكون المراد بالعلم: المعلوم، وذلك جائز في اللسان واللغة؛ كقول الناس: الصلاة أمر اللَّه: أي: مأمور اللَّه، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، أي: الموقن به، وقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ)، أي: بالمؤمن به، ونحو ذلك كثير. والثالث: أي: يعلم كائنًا ما قد علمه أنه سيكون؛ إذ لا يجوز أن يوصف هو بعلم ما سيكون بعلمه كائنًا، أو بعلم ما قد كان بعلمه أنه يكون كائنًا، ولكن يوصف بما قد علمه كائنًا أنه علمه كائنًا، أو يعلم ما علم أنه سيكون أنه يكون؛ لأنه يوجب الجهل، ويكون التغير في ذلك المعلوم لا في علمه، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) أي: ونبلو في أخباركم التي أخبرتم عن أنفسكم؛ كقوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ)، وقوله - عز وجل -: (مَن عَاهَدَ اللَّهَ. . .)، إلى آخر ما ذكر، ابتلوا في تلك الأخبار التي أخبروا عن أنفسهم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكونوا ابتلوا في قولهم الذي قالوا لو أعطوا بلسانهم؛ حيث قالوا: آمنا؛ كقوله - تعالى -: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)، فتنوا فيما قالوا وأخبروا؛ أي: ابتلوا، فالفتنة والمحنة والابتلاء والبلاء واحد، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) أي: نظهر نفاقكم للمسلمين؛ إذ كان اللَّه - تعالى - عالمًا قبل أن يبلوهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) قوله: (كَفَرُوا) أي: كفروا بنعم اللَّه؛ من الكفران. أو كفروا بتوحيد اللَّه. وقوله: (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) يحتمل قوله: (وَصَدُّوا) أي: أعرضوا بأنفسهم عن دين اللَّه. ويحتمل: (وَصَدُّوا) أي: صرفوا الناس عن دين اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) أي: عادوه وعاندوه (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى).

(33)

وقوله - عزَّ وجلَّ -: (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) يحتمل: لن يضروا اللَّه بكفرانهم نعمه أو كفرهم بوحدانية اللَّه - تعالى - ومعناه - واللَّه أعلم -: أنه ليس يأمر بما يأمر أو ينهى عما ينهى لدفع مضرة عن نفسه، أو لجر منفعة إلى نفسه، ولكن يأمر وينهى لحاجة أنفس أُولَئِكَ ولمنافعهم، فهم بتركهم اتباع أمره والانتهاء من نهيه، ضروا أنفسهم، واللَّه أعلم. وجائر أن يكون المراد من قوله (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) أي: لن يضروا أولياء اللَّه بما كفروا وصدوهم عن سبيله؛ بل ضروا أنفسهم؛ كقوله - تعالى -: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، أي: إن تنصروا أولياء اللَّه ينصركم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ). يحتمل حبط الأعمال بالارتداد بعد الإيمان، وإحداث الكفر بعد الإسلام. ويحتمل أعمالهم التي كانت لهم بالإيمان قبل بعثه عليه السلام. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38). وقوله - عز وجهل -: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أطيعوا اللَّه في الجهاد، ولا تبطلوا حسناتكم بالرياء والسمعة. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يَا أَيُّهَا الذين آمنوا اتقوا اللَّه وأطيعوا الرسول). ويحتمل: ولا تبطلوا أعمالكم بالارتداد والكفر بعد الإيمان. ويحتمل: أي: لا تبطلوا أعمالكم بالمنِّ على اللَّه، أو على الرسول في الإسلام؛ أي: تسلمون ممتنون على اللَّه أو على رسوله؛ كقوله - تعالى -: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ. .) الآية. وقال قتادة: ولا تبطلوا أعمالكم بالرياء، وقال: فمن استطاع منكم ألا يبطل عملا صالِحًا بعمل شر فليفعل؛ إن الشر ينسخ الخير، وإنما ملاك العمل بخواتيمه، فمن استطاع أن يختم بخير فليفعل، ولا قوة إلا باللَّه.

(34)

وعن عبد اللَّه بن عمر - رضي اللَّه عنهما - قال: ما كنا معشر أصحاب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نرى شيئًا يبطل أعمالنا حتى نزلت هذه الآية، فعلمنا ما الذي يبطل أعمالنا؟! الكبائر الموجبات والفواحش، فكنا على ذلك حتى أنزل اللَّه تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. .) الآية، فلما نزلت هذه الآية كففنا عن هذا القول. وجائز أن يكون قوله - تعالى -: (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) قال: هذا ليكونوا أبدًا على اليقظة والحذر؛ لئلا تبطل أعمالهم من حيث لا يشعرون؛ كقوله: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ). وفي حرف أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ولا تبطلوا إيمانكم). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) تأويلها ظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) أي: لا تضعفوا وتدعوا إلى الصلح، كذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: السِّلم -بكسر السين-: الصلح، ولا أعرف بفتح السين هاهنا له معنى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي: وأنتم الغالبون. فيه النهي عن الدعاء إلى الصلح إذا كانوا هم الأعلون؛ أعني: أهل الإسلام. ثم قوله - تعالى -: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) يحتمل وجوهًا: يحتمل: الأعلون بالحجج والبراهين في كل وقت. ويحتمل: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) بالقهر والغلبة في العاقبة؛ أي: آخر الأمر لكم. ويحتمل (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) في الدنيا والآخرة؛ لأنهم وإن غلبوا في الدنيا وقتلوا كانت لهم الآخرة، وإن ظفروا بهم كانت لهم الدنيا والأموال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي: وأنتم أولى باللَّه منهم، وهو ما ذكرنا في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) في النصر والغلبة.

(36)

ويحتمل معكم في الوعد الذي وعد؛ أي: ينجز ما وعد لكم في الدنيا ويفي بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ أي: لن يجعل اللَّه للكافرين عليكم مظلمة ولا تبعة، وهو يحتمل في الدنيا والآخرة؛ كقوله - تعالى -: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) أي: لن ينقصكم أعمالكم، وكذا قال أبو عَوْسَجَةَ؛ يقال: وتره: أي: نقصه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لن يظلمكم أعمالكم؛ يقال: وترني حقي، أي: بخسنيه، كذلك قال الْقُتَبِيّ، ولكن كلاهما واحد في المعنى، أي: لا ينقص من أعمالهم شيئا، ولا يظلمون فيها، ولا يبخسون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) أي: حياة الدنيا على ما عندهم وعلى ما يقدرون لعب ولهو؛ لأنهم كانوا يقولون أن لا بعث ولا حياة فعلى ما عندهم تكون حياة الدنيا على ما ذكر من اللهو. ويحتمل أنه سماها: لهوًا ولعبا؛ لأنهم على ما يزعمون أنشأها للانقطاع والفناء، لا لتكتسب بها الحياة الدائمة في الآخرة؛ وإنشاء الشيء للانقطاع والفناء خاصة بلا عاقبة تقصد يكون لعبًا ولهوًا، ثم اللعب واللهو يجوز أن يكونا شيئا واحدًا، ويجوز أن يكون أحدهما ما يستمتع بظاهر الأشياء، والآخر ما يستمتع بباطن الأشياء: اللعب هو ما يستمتع بظواهر الأشياء، واللهو هو ما يتلهى ببواطنها، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) أي: وإن تؤمنوا بما أمرتم الإيمان به وتتقوا عما نهيتم عن مخالفة أمره - (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ): جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضله ورحمته لأعمالهم التي يعملون لأنفسهم أجرًا؛ إذ لا أحد يعمل لنفسه ويأخذ الأجر من غيره؛ لأنهم بالأعمال يسقطون عن أنفسهم التكليف بالشكر لنعم اللَّه - تعالى - حيث أسدى عليهم النعم ابتداء، لكنه جعل لأعمالهم أجرًا كأنهم يعملون له ابتداء، وإن كانوا عاملين لأنفسهم في الحقيقة، وإليه ترجع منافع أعمالهم، ولأن أنفسهم وأموالهم - في الحقيقة - لله - تعالى - فكيف يستحقون الأجر على مولاهم بأعمالهم؟ وهذا كما ذكرنا من الإقراض له والاستدانة منه كأنه لا ملك له في ذلك، وأن ليس له ذلك، وإن كانت حقيقة أملاكهم وأنفسهم لله - تعالى - فضلا منه وكرمًا، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.

(37)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: ليس يسألكم الإنفاق من أموالكم، وإنما يسألكم من ماله يستمتعوا بمال غيره لأنفسكم وتجعلون ذخرًا لأنفسكم غير (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا)، أي: لو كان يسألكم من أموالكم لبخلتم وتركتم الإنفاق منها. والثاني: (وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) أي: ولا يسألكم الإنفاق من جميع أموالكم، ولكن إنما يسألكم الإنفاق من طائفة من أموالكم (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ ... (37) أي: لو يسألكم جميع أموالكم، لحملكم ذلك على البخل وترك الإنفاق، فإن يسألكم الإنفاق من جزء من أموالكم فلماذا بخلتم وتركتم الإنفاق؟! وقوله: (فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) يخرج من وجوه: أحدها: أي: يحملكم على البخل لو سألكم جميع الأموال. ويحتمل (فَيُحْفِكُمْ) أي: يجعلكم حفاة لا شيء يبقى عندكم: الإحفاء: أن يأخذ كل شيء عنده، وهو من الاستئصال، ومنه إحفاء الشوارب. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإحفاء: شدة المسألة؛ أي: إن يلح عليكم فيما يوجبه في أموالكم تبخلوا؛ يقال: أحفى في المسألة وألحف وألح واحد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) أي: لو أمر بالإنفاق من جميع أموالكم ومن أموالكم حقيقة يظهر ذلك من أضغانكم التي في قلوبكم؛ لأن ذلك الأمر إنما يجري على ألسن الرسل؛ يوجب ذلك إظهار ما في قلوبهم من الضغائن للرسل، عليهم السلام. فإن كان التأويل هذا فهو في المنافقين؛ فيكون الأمر بالإنفاق سبب إظهار نفاقهم وضغائنهم وعداوتهم، فكان كالأمر بالقتال؛ كان سببًا لإظهار نفاقهم. وإن كان في المسلمين فيحتمل أنه قال ذلك؛ تحريضًا لهم على الإنفاق والتصدق، أي: إنه سبب إخراج الضغائن والعداوة؛ لما فيه من التحبب والتودد بإيصال ما هو محبوب إليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) أي: هأنتم يا هَؤُلَاءِ تدعون لتنفقوا في سبيل اللَّه، أي: في إظهار دين اللَّه، أو في طاعة اللَّه، أو في الجهاد؛ لأن الإنفاق في ذلك كله في سبيل اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: الإنفاق لهم حقيقة إذا أنفقوا فيما أمرهم اللَّه - تعالى - بإلإنفاق في طاعته عند ذلك تصير تلك الأموال لهم؛ لأنهم إذا أنفقوا فيما أمر اللَّه - تعالى - انتفعوا

بها في الدنيا، واستمتعت أنفسهم وتلذذت، وانتفعوا بها - أيضًا - في الآخرة وقت حاجتهم وفقرهم بذلك تتحقق وتحصل لهم تلك الأموال، فأما عند تركهم الإنفاق فيما أمروا بالإنفاق والبذل فلا تتحقق لهم تلك الأموال المجعولة في أيديهم؛ لأنه إما أن تجعل لوارثهم أو يأخذها منهم بلا سبب من غير أن يجعل لهم بذلك نفع يحصل لهم، فيكون ما ذكرنا، فذلك تأويل قوله - تعالى -: (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) - واللَّه أعلم - لما يهلك نفسه بترك الإنفاق منه ولم يتمتع ولم ينتفع به وقت حاجته إليه في الآخرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) عن الصدقة والإنفاق في طاعة اللَّه، (وَمَنْ يَبْخَلْ) بالصدقة في طاعة اللَّه (فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) بالجزاء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) أي: (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ) عن إنفاقكم وعما يأمركم بالإنفاق، (وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) إلى ما تنفقون؛ أي: أنتم المنتفعون بذلك الإنفاق الذي يأمركم به، لا أنه ترجع منفعة ذلك إليه، أو يأمر لحاجة نفسه، ولكن إنما يأمركم بذلك لحاجتكم إليه يومًا، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون يقول: (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ) عنكم وعما في أيديكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) إليه في كل وقت، وكل ساعة، في جميع أحوالكم وأوقاتكم؛ كقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). ويحتمل: (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ) عن أموالكم، (وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) إلى مغفرته ورزقه وجنته ورحمته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: قد تولوا، وهم أهل مكة، واستبدل قومًا غيرهم وهم أهل المدينة، لكن هذا بعيد؛ لأن السورة مدنية؛ فلا يحتمل الخطاب بها لأهل مكة بقوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا). ومنهم من يقول: اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر ووعد أهل المدينة أنهم إن يتولوا استبدل غيرهم أطوع منهم لله - تعالى - فلا تولوا هَؤُلَاءِ ولا استبدل غيرهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على وجهين: أحدهما: قوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)، أي: لم تتولوا ولم يستبدل قومًا غيركم. والوجه الآخر: قد تولوا واستبدل بهم النخع، وأحمس، وناس من كندة، والذين تولوا حنظلة وأسد، وغطفان، وبنو فلان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) أي: لا يكونوا أمثالكم في الطاعة لله -

تعالى - بل أطوع له وأخضع، واللَّه أعلم. وذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن قوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) فضرب بيده على فخذ سلمان الفارسي، وقال: " والذي نفسي بيده، لو كان الدِّين منوطا بالثريا، لتناوله رجال من فارس ". وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رأيت غيما سوداء، ردفها غيم بيض، فاختلطت بها فتعقب بهن جميعًا " قالوا: يا رسول اللَّه، فما أولت؟ قال: " العجم يشركونكم في دينكم وأنسابكم "، قالوا: العجم يا رسول اللَّه؟! قال: " نعم، لو كان الإيمان معلقًا بالثريا، لناله رجال من العجم، وأسعدهم به أهل فارس " فإن ثبت هذا الخبر، فجائز أن يستدل به على جعل العجم أكفاء العرب؛ لأنه قال: " يشركونكم في أنسابكم " فإذا أشركوهم في أنسابهم صاروا أكفاء لهم. ويحتمل أن يكون قوله: " يشركونكم في أنسابكم "؛ لأنهم يسبونهم، فيلدون منهم أولادًا فيشتركون فيما ذكر، واللَّه أعلم. وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: تلا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)، قالوا: ومن يستبدل قومًا؟ قال: فضرب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على منكب سلمان، ثم قال: " هذا وقومه هذا "، وقال في حديث آخر: " والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لناله رجال من فارس "، واللَّه أعلم بالصواب، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله أجمعين. * * *

سورة الفتح

سُورَةُ الْفَتْحِ ذكر أن سورة الفتح مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو فتح مكة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلح الحديبية الذي بين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبين أهل مكة حين صدوهم عن دخولهم مكة، وحالوا بينه وبين زيارة البيت، وكان له فيها -أعني: في قصة الحديبية- أمران وآيتان ظاهرتان عظيمتان: أحدهما: أنه أصابه ومن معه من أصحابه عطش، فأتى بإناء ماء، فنبع من ذلك الإناء من الماء مقدار ما شرب منه زهاء ألف وخمسمائة، حتى رووا جميعًا؛ فذلك آية عظيمة حسية على رسالته. والثاني: أخبر بغلبة الروم فارس، وذلك علم غيب، وكان كما ذكر وأخبر؛ فدل أنه إنما علم ذلك باللَّه تعالى. وقصة الحديبية: روي عن رجل يقال له: مجمع بن حارثة قال: شهدت الحديبية مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلما انصرفنا عنها إذ الناس يوجفون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما للناس؟ قال: أوحي إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: فخرجنا نوجف مع الناس حتى وجدنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واقفًا عند كراع الغميم -اسم موضع- فلما اجتمع إليه بعض ما يريد من الناس قرأ عليهم: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قال: قال رجل من أصحاب رسول اللَّه: أو فتح هو يا رسول اللَّه؟ قال: " إي والذي نفسي بيده إنه بفتح " قال: ثم قسمت الحديبية على ثمانية

عشر سهمًا، وكان الجيش ألفًا وخمسمائة. وفي بعض الأخبار؛ أنه الصلح الذي كان بين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبين المشركين، ولم نر قتالا، ولو نرى لقاتلنا، قال: فنزلت سورة الفتح، فأرسل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأقرأها إياه، فقال: يا رسول اللَّه، فتح هو؟ قال: " نعم ". وعن عامر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان بالحديبية، فأنزل اللَّه - تعالى -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) فقال رجل: إنه فتح هو؟ قال: " نعم ". وعن جابر أنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية. وكذلك روي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: نزلت هذه الآية: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) بالحديبية. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لم يكن في الإسلام فتح أعظم من صلح الحديبية، وضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس كلهم، ودخل في الإسلام في السنتين أكثر مما كان دخل قبيل ذلك، فلما رجع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة من الحديبية. . . وفي الحديث طول تركنا ذكره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) يخرج على وجوه ثلاثة: أحدها: أي: إنا قضينا ذلك قضاء بينًا بالحجج والبراهين على رسالتك ونبوتك؛ ليعلم أنك محق على ما تدعي، صادق في قولك؛ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) بما أكرمك، وعظم أمرك بالرسالة والنبوة؛ أي: أعطاك ذلك وأكرمك به؛ ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. والثاني: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) ما لم يطمع أحد من الخلائق أنه يفتح عليك أمثال ذلك الفتح (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ). والثالث: إنا فتحنا لك جميع أبواب الحكمة والعلوم وجميع أبواب الخيرات والحسنات (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) بما أكرمك من أبواب الحكمة والخيرات. يخرج على هذه الوجوه الثلاثة، واللَّه أعلم.

(2)

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ... (2) يخرج على وجهين: أحدهما: يرجع إلى ذنبه؛ أخبر أنه غفر له. ثم لا يجوز لنا أن نبحث عن ذنبه ونتكلف أنه ما كان ذنبه؟ وأيش كانت زلته؟ لأن البحث عن زلته مما يوجب التنقص فيه، فمن تكلف البحث عن ذلك يخاف عليه الكفر، لكن ذنبه وذنب سائر الأنبياء - عليهم السلام - ليس نظير ذنبنا؛ إذ ذنبهم بمنزلة فعل مباح منا، لكنهم نهوا عن ذلك، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) أي: يغفر ذنبه ابتداء غفران؛ أي: عصمه عن ذلك، وذلك جائز في اللغة، واللَّه أعلم. والوجه الثاني يرجع إلى ذنوب أمته؛ أي: ليغفر لك اللَّه ذنوب أمتك، وهو ما يشفع لأمته، فيغفر له؛ أي: لشفاعته، وهو كما روي في الخبر: " يغفر للمؤذن مدّ صوته " أي: يجعل له الشفاعة، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) أي: يغفر لأمته بشفاعته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) يحتمل إتمام نعمته عليه هو ما ذكرنا من الرسالة والنبوة، وفتح ما ذكر من أبواب الخيرات والحكمة في الدنيا والآخرة، والشفاعة له في الآخرة، أو إظهار دينه على الأديان كلها، وإياس أُولَئِكَ الكفرة عن عوده إلى دينهم؛ كقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. . .) الآية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) يحتمل: أي: ينصرك نصرًا عزيزًا بالغلبة عليهم، والقهر، والظفر، لا صلحًا، ولا موادعة، وعلى ذلك يخرج قول أهل التأويل: نصرًا عزيزًا لا يستذل ولا يسترذل، وظاهر الآية ليس على ذلك؛ لأنه قال على إثره: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ)؛ لأن الخيرات والحسنات تكون سببًا للمغفرة؛ فجائز أن يكون ما ذكر من الفتح له والمغفرة هذا، لا ما ذكره أهل التأويل، إلا أن يقال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يسأل منه الفتح لما أقدم على أسباب الفتح، وهو القتال مع الكفرة، ونحو ذلك، وذلك من الخيرات التي تكون سبب المغفرة، إلا أن اللَّه أضاف الفتح إلى نفسه، والقتال منهم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون ما ذكر من الفتح له ليغفر له هو أن اللَّه جعل رسوله بحيث لا يخط بيده خطًّا، ولا يكتب كتابًا، ولا يفهم كتابه، وهو ما وصفه اللَّه - جل وعلا - بقوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) لدفع ارتياب المبطلين فيه على ما ذكر، ثم مع أنه جعله هكذا أحوج جميع حكماء الخلق إليه،

(4)

وأحوج - أيضًا - جميع أهل الكتب السالفة إليه في معرفة ما ضمن كتابه المنزل عليه، وجعله رسولا إليهم؛ فيكون كأنه قال: إنا فتحنا لك النبوة، والحكمة، وأنواع العلوم، والخيرات، والحسنات؛ (لِيَغْفِرَ لَكَ)؛ أي: إنما فتح لك ما ذكر ليغفر لك ويتم نعمته عليك من النبوة، والحكمة، وإظهار دينه على الأديان كلها، ويهديه صراطًا مستقيمًا، وينصره نصرًا عزيزًا، أعطاه ما ذكرنا، وذلك كله النصر العزيز، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) أي: من ذنب أمتك وما تأخر من ذنبهم؛ على ما قال بعض أهل التأويل، ويتم نعمته عليهم من أنواع الخيرات، والأمن لهم، والإياس لأُولَئِكَ الكفرة عنهم، ويهديهم صراطًا مستقيمًا، وينصرهم نصرًا عزيزًا، أي: فتحنا لك ما ذكر؛ ليكون لأمتك ما ذكرنا من المغفرة لهم، وإتمام النعمة والهداية لهم: الصراط المستقيم، والنصر لهم: النصر العزيز، أي: نصرًا يعزون به في حياتهم وبعد وفاتهم في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم. ومن الناس من يقول: إن اللَّه - جل وعلا - امتحن رسوله - عليه الصلاة والسلام - في الابتداء بالخوف حين قال: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ)، وجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لذلك وجدًا شديدًا، ونزل بعده (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ. . .) إلى آخره، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: " نزلت عليَّ آية أحب إلي مما على الأرض "، ثم قرأها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: هنيئًا مريئًا يا نبي اللَّه، قد بين لك ماذا يفعل بك، ولم يبين ماذا يفعل بنا؟ فنزل قوله - تعالى -: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ. . .) الآية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4). قَالَ بَعْضُهُمْ: السكينة: هي كهيئة الريح لها جناحان، ولها رأس كرأس الهرّ؛ لكن هذا ليس بشيء، فإنه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: (أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) بحقيقة الدِّين، وهو تفسير العلم، وهذا يدل على أن خالق العلم الاستدلالي ومنزله ومنشئه هو اللَّه - تعالى - وهم يقولون: إن خالقه هو المستدل؛ فيكون حجة عليهم. قال بعض المعتزلة: إضافة إنزال السكينة إلى نفسه على سبيل المجاز، ليس على التحقيق، كما يقال: فلان أنزل فلانًا في منزله أو مسكنه وإن لم يكن منه حقيقة إنزاله إياه في المنزل، لكن أضيف إليه ذلك؛ لأنه وجد منه سبب به يصل ذلك إلى نزوله في منزله ومسكنه، فعلى ذلك أضاف إنزال السكينة في قلوب المؤمنين؛ ليزدادوا إيمانًا؛ فلا يقال في مثله لأمر كان منه أو بسبب جعل له ذلك؛ وهو كقوله - تعالى -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ. . .)، وإنما يقال ذلك لتحقيق إنزال ذلك؛ ليكون ما ذكر

(5)

على ما أخبر أنه فتح؛ ليغفر له ما ذكر، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) يخرج على وجوه: أحدها: ما قال أبو حنيفة - رحمه اللَّه -: ليزدادوا إيمانًا بالتفسير على إيمانهم بالجملة. والثاني: ليزدادوا إيمانًا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبكتابه مع إيمانهم بسائر الرسل والكتب التي كانوا آمنوا بها وصدقوها، وهذا في أهل الكتاب خاصة. والثالث: ليزدادوا إيمانًا في حادث الوقت مع إيمانهم فيما مضى من الأوقات، فإذا وصل هذا بالأول فيكون بحكم الزيادة، وإن شئت جعلته بحكم الابتداء؛ إذ للإيمان حق التجدد والحدوث في كل وقت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فإن كان نزوله على إثر قول ذلك المنافق على ما ذكر بعض أهل التأويل؛ حيث قال لأصحابه: يزعم مُحَمَّد أن اللَّه قد غفر له، وأن له على عدوه ظفرًا، ويهديه صراطًا مستقيمًا، وينصره نصرًا عزيزًا، هيهات هيهات، لقد بقي له من العدو أكثر وأكثر، فأين أهل فارس والروم؟! هم أكثر عددًا، فعند ذلك نزل: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فمعناه: أي: لله تدبير جنود السماوات والأرض، ينصر من يشاء على من يشاء، ويجعل الأمر لمن يشاء على ما يشاء، ليس لهم التدبير وإنفاذ الأمر على من شاءوا، ولكن ذلك إلى اللَّه - تعالى - وهو كقوله: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا)، أي: لله تدبير مكرهم، لا ينفذ مكرهم إلا باللَّه - تعالى - فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) أي: عن علم بما يكون منهم من إيثارهم عداوة اللَّه على ولايته، واختيار الخلاف له - أنشأهم لا عن جهل، ليعلم أنه لم ينشئهم ولم يأمرهم بما أمرهم وامتحنهم بما امتحن؛ لحاجة نفسه، أو لمنافع ترجع إليه، ولكن لحاجة أُولَئِكَ ولمنافعهم؛ ولذلك قال: (حَكِيمًا)؛ لأن الحكيم هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، فإذا كان إنشاؤه إياهم وما أمرهم به، ونهاهم عنه، لا لحاجة له في نفسه ولا منفعة، ولكن لحاجتهم ومنفعتهم - كان حكيمًا في إنشائه إياهم على علم منه بما يكون منهم من إيثار العداوة له على ولايته، واختيار الخلاف له والمعصية، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5). كان هذا صلة قوله - تعالى -: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ

(6)

إِيمَانِهِمْ)، (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. . .) الآية، أنزل السكينة في قلوبهم؛ أي: أنزل ما تسكن به قلوبهم؛ ليزدادوا إيمانًا، وأنزل السكينة - أيضًا - ليدخلهم فيما ذكر، كما ذكر في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) فتح له ليغفر له، فعلى ذلك أنزل السكينة في قلوبهم؛ ليزداد لهم الإيمان، وليدخلهم الجنات التي وصف، ثم أخبر أن ذلك لهم عند اللَّه فوز عظيم لا هلاك بعده، ولا تبعة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) ذكر للمنافقين والمشركين من العذاب مقابل ما ذكر للمؤمنين من إنزال السكينة عليهم، وإدخالهم الجنة، حرم هَؤُلَاءِ السكينة التي ذكر أن قلوب المؤمنين بها تسكن؛ لما علم أنهم يختارون عداوته، ويؤثرون عداوة أوليائه على ولايتهم، وعلم من المؤمنين أنهم يؤثرون ولايته على عداوته، وولاية أوليائه على عداوتهم فأنزل السكينة في قلوبهم ولم ينزل على أُولَئِكَ هذا؛ ليعلم أن من بلغ في الإيمان الحد الذي ذكر إنما بلغ ذلك باللَّه - تعالى - وبفضله، وبرحمته، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) جائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) المنافقون الذين ذكرهم في آية أخرى؛ حيث قال: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) ظنوا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يرجع إلى أهله، وكذلك المؤمنون لا يرجعون إلى أهليهم أبدًا، ثم أخبر أن ذلك الظن منهم ظن السوء، فيحتمل ما ذكر - هاهنا - (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) هذا ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ): هم المشركون. ثم إن كانوا من المنافقين فيكون ظنهم باللَّه ظن السوء: ألا يرجع هو وأصحابه إلى أهليهم أبدًا وإن كانوا من مكذبي الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيكون ظنهم باللَّه ظن السوء ألا يكرم محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالرسالة، ولا يعظمه بالنبوة، لا يختاره ولا يؤثره، على غيره من الناس الذين يختارونهم؛ كقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، فيكون ظنهم باللَّه ظن السوء على هذا: ألا يكرم اللَّه - تعالى - محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا يختاره لرسالته ونبوته، واللَّه أعلم. وإن كان ذلك من مكذبي البعث ومنكريه، فيكون ظنهم باللَّه ظن السوء هو ألا يقدر على البعث والإحياء بعد الموت. ثم أخبر أن عليهم دائرة السوء الذي ظنوا ألا يرجع إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فصار عليهم ما

(7)

ظنوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث تفرقوا من أوطانهم، وهتك أستارهم، ونحو ذلك. وإن كانوا من مكذبي الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لا يرسله، فظنهم كان ما ظنوا؛ لأنه بعث هو رسولا ولم يبعث من اختاروا هم. وإن كانوا من منكري البعث فعليهم كان عذاب اليوم، وفيه هلاكهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم استوجبوا غضب اللَّه ولعنه بالذي كان منهم من سوء ظنهم باللَّه ورسوله، وأعد لهم جهنم بذلك، وساءت مصيرًا لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) ذكر على إثر ما ذكر (عَزِيزًا حَكِيمًا)؛ ليعلم أن عزه ليس بما ذكر من الجنود الذين له في السماوات والأرض، ولكنه عزيز بذاته، له العز الذاتي الأزلي، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) قوله: (شَاهِدًا) لله ما لله - تعالى - على عباده، وما لبعضهم على بعض؛ فعلى هذا التأويل يكون قوله: (شَاهِدًا) أي: مبينًا؛ أي لتبين ما لله عليهم، وما لبعضهم على بعض؛ وهو قول أبي بكر الأصم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: شاهدًا للرسل - عليهم السلام - بالتبليغ بالإجابة لمن أجابهم، وشاهدًا على من أبي الإجابة بالإباء والرد، فعلى هذا التأويل يكون قوله: (شَاهِدًا) على حقيقة الشهادة؛ على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أرسلناك شاهدًا على أمتك وعلى الأنبياء - عليهم السلام - بالتبليغ ومن ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا): البشارة: هي تذكر عواقب الخيرات والحسنات، والإخبار عن أحوالها: أنها إلى ماذا يفضي أربابها وعما لهم؛ ليرغبهم فيها. والنذارة: هي تذكر عواقب الشرور والسيئات، والإخبار عن أحوالها أنها إلى ماذا يفضي أربابها ومرتكبيها؛ ليزجرهم عنها، واللَّه أعلم.

(9)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) خاطب بهذا البشر كلهم وفي الأول خاطب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كأنه يقول على الجمع بينهما في الخطاب: أرسلناك رسولا شاهدًا؛ لتؤمنوا أنتم باللَّه ورسوله. ويحتمل أن يكون على الإضمار؛ أي: إنا أرسلناك مبشرًا ونذيرا، وقل لهم: إنما أرسلت لتؤمنوا باللَّه ورسوله، وهو كقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)، معناه: يَا أَيُّهَا النبي، قل لهم: إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن، فعلى ذلك جائز ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقرئ بالياء، وهي ظاهرة. ثم الإيمان باللَّه - تعالى - هو أن يشهد له بالوحدانية والألوهية، وأن له الخلق والأمر في كل شيء وكل أمر. والإيمان برسوله: هو أن يشهد له بالصدق في كل أمر، وبالعدالة له فيما يحكم ويقضي، ويصدقه في كل ما يقوله، ويجيبه في كل ما يدعو إليه، ويطيعه في كل أمر يأمر به، وينهى عنه؛ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتُعَزِّرُوهُ) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تنصروه وتعينوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تطيعوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تعظموه. فمن يقول: إن قوله: (وَتُعَزِّرُوهُ) ليس على النصر والإعانة، ولكن على التعظيم، أو على الطاعة - استدل بما قال في آية أخرى: (وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ)، ذكر التعزير وعطف النصر عليه؛ والمعطوف غير المعطوف عليه، فدل أنه غير النصر، ولكن جائز أن يذكر الشيء الواحد بلفظين مختلفين ومعناهما واحد على التأكيد، وكذلك من يقول بالتعظيم يقول: أمرهم بتعظيمه في الحرفين؛ أعني: قوله: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) وذلك جائز في الكلام. ويحتمل أن يكون التعزير هو الطاعة له، والتوقير هو التعظيم، وفي الطاعة له تعظيمه، واللَّه أعلم. ومن قال بالنصر والمعونة في التبليغ تبليغ الرسالة إلى الخلق، والدفع عنه، والذب،

(10)

والتعظيم له في قلبه وجميع جوارحه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) والتسبيح، أجمع أهل التأويل أن قوله - تعالى -: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً) راجع إلى اللَّه - تعالى - وكذلك ذكر في بعض القراءة (ويسبحون اللَّه بكرة وأصيلا)، والتسبيح هو التنزيه في الأفعال والأقوال، فجائز نسبة ذلك إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان [بريئًا] من العيوب في أفعاله وأقواله لا يدخل في أفعاله وأقواله عيب، وإن كان هو تنزيهًا عن الحدثية، والفناء، وآفات كل في نفسه، فذلك لا يجوز إضافته ونسبته إلا إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فأما غيره لا يجوز إضافة ذلك إليه. وأصله ما ذكر أهل التأويل من صرفه إلى اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) صرف أهل التأويل البكرة إلى صلاة الفجر، والأصيل إلى صلاة المغرب والعشاء، ولكن جائز أن تكون البكرة كناية عن النهار، والأصيل كناية وعبارة عن الليل، فكأنه يقول: سبحوه بالليل والنهار جملة في كل وقت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) أجمع أهل التأويل أو عامتهم على أن المبايعة المذكورة في هذه الآية هي البيعة التي كانت بالحديبية، بايعوه على ألا يفروا إذا لقوا عدوا. قال معقل بن يسار: " لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يبايع الناس، وأنا رافع غصنًا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة؛ أي: ألف وأربعمائة نفر، وقال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر ". وجائز أن تكون المبايعة على ألا يفروا كما ذكر في آية أخرى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ)، والمبايعة هي المعاهدة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ) ذكر في أول الآية المبايعة، وفي آخرها المعاهدة؛ ليعلم أن المبايعة والمعاهدة سواء، واللَّه أعلم. ثم إضافة مبايعتهم رسوله إلى نفسه يحتمل وجهين: أحدهما: لما بأمره يبايعونه. أو ذكر ونسب إلى نفسه؛ لعظيم قدره، وجليل منزلته عنده، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: يد اللَّه في جزاء المبايعة فوق أيديهم في المبايعة؛ أو كلام نحوه. وجائز أن يكون قوله (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي: يد اللَّه في الجزاء إذا وفوا بالعهد فوق

أيديهم عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لما بايعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانت لهم عنده يد، فيخبر أن جزاء اللَّه الذي يجزيهم بوفاء تلك المبايعة فوق أيديهم التي عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويحتمل أن يكون ما ذكر من يد اللَّه وإضافتها إليه يريد بها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كأنه يقول: يد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عندكم فيما بايعكم فوق أيديكم عنده؛ لما يحتمل أن يقع عندهم أن يكون لهم يد عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما بايعوه؛ كقوله - تعالى -: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا. . .) الآية؛ فيخبر أن يد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فوق أيديكم عنده بالمبايعة التي بايعتم، واللَّه أعلم. ويحتمل: أي: يد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالمد والبسط بالمبايعة فوق أيديهم، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي: توفيق اللَّه - تعالى - إياكم ومعونته على مبايعتكم رسوله فوق وخير من وفائكم ببيعته وعهده، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي: يد اللَّه في النصر لرسوله فوق أيديهم؛ كقوله - تعالى - (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، حقيقة النصر إنما يكون باللَّه تعالى، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) أي: من نكث فعليه ضرر نكثه، وإليه يرجع ذلك الضرر لا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - لأن اللَّه - جل وعلا - وعد النصر له والظفر بأُولَئِكَ، فمن نكث فإنما يرجع ضرر نكثه إليه؛ إذ اللَّه يفي لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما وعد اللَّه من النصر له، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ

(11)

تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ ... (11). قوله - تعالى -: (الْمُخَلَّفُونَ) سماهم: مخلفين، ولم يخلفهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا أصحابه، ولكن اللَّه تعالى خلفهم عن ذلك بأن أحدث منهم فعل التخلف؛ لما علم منهم ما كان من اختيارهم التخلف، كقوله تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)، أي: منعهم، فعلى ذلك ما ذكر من المخلفين أن اللَّه - سبحانه وتعالى - خلفهم عن ذلك، وهم اكتسبوا فعل التخلف في أنفسهم؛ دل أن خالق أفعال العباد هو الله تعالى، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - خبرا عنهم: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا). هذا القول منهم قول اعتذار وطلب العذر من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقولهم: (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) طلبوا منه الاستغفار مع إظهارهم العذر في التخلف بقولهم: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) يقولون: وإن حبستنا أموالنا وأهلونا لم يكن لنا التخلف عنك، فاستغفر لنا، ولكن مع هذا لم يقبل عذرهم؛ لأنهم كانوا لا يحققون في طلبهم الاستغفار منه؛ لأنهم أهل نفاق لا يؤمنون برسالته ولا بالبعث كي ينفعهم المغفرة في الآخرة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ. . .) الآية؛ دل هذا الفعل منهم على أنهم كانوا غير محققين طلب الاستغفار منه بقولهم: (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا)؛ حيث قال: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)، أي: يقولون بألسنتهم قولهم: (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) ما ليس في قلوبهم حقيقة ذلك. ولا جائز أن يصرف قولهم: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) إلى قولهم: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) أي: كاذبين في العذر، ولكن طلبوا الاستغفار حقيقة، لا يقال هذا؛ لأنهم كانوا صادقين في أن أموالهم وأهليهم شغلتهم عن ذلك؛ فلا يمكن صرف الآية إلى ذلك، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا). قد ذكرنا أن حرف الاستفهام من اللَّه تعالى يكون على الإيجاب، فينظر أن لو كان ذلك السؤال من مستفهم كيف يجاب له؟ فيكون من اللَّه تعالى على الإيجاب: أن لا أحد يملك لكم نفعًا إن كان اللَّه أراد بكم ضرا، ولا أحد يملك لكم ضرا إن كان اللَّه أراد بكم نفعًا، يخبر أنكم وإن تخلفتم لحفظ أموالكم وأهليكم، فإن اللَّه تعالى لو أراد بكم ضرًّا لا

(12)

تملكون دفعه عن أنفسكم، وإن تتخلفوا ولكن خرجتم معه، فلا يملك أحد الضرر لكم، غير أنه لا عذر له في التخلف عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ثم أوعدهم فقال: (بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنفس المنافقين وصنيعهم آية ودلالة على رسالة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في حق المنافقين، حين كان يطلع رسوله على جميع ما أسروا في أنفسهم وأضمروا في قلوبهم؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك باللَّه - جل وعلا - وجعل الآية له في حق غيرهم من الكفرة من غير صنيعهم وأنفسهم حتى علموا بذلك أنه باللَّه قدر على ذلك، واللَّه أعلم. وقال أهل التأويل: (إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي: الهزيمة (أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) ظهورا على عدوكم وغنيمة، يحتمل أن يكون الخطاب بهذا لأهل الإيمان والوعظ لهم بذلك؛ لأن أهل النفاق كانوا لا يصدقون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا يقبلون ما يقول من المواعظ وغيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12). فَإِنْ قِيلَ: ما الذي حملهم على الظن الذي ظنوا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين لا يرجعون إلى أهليهم أبدا إذا كان ذلك في خروجهم إلى الحديبية -على ما قال أهل التأويل: إن ذلك كان في خروجهم إلى الحديبية- وكان خروجهم للحج وقضاء المناسك لا للقتال والحرب معهم، حتى يقع عندهم أنهم لا يرجعون، بل يهلكون في ذلك، وأهل مكة لم يكونوا يتبعون أحدا من أهل الإيمان يدخل مكة للحج وقضاء المناسك. قيل: لأن أهل النفاق كانوا قد كتبوا إلى أهل مكة وأعلموهم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رضي اللَّه عنهم - خرجوا إليكم للحج وزيارة البيت، فقالوا: إنا لا ندعهم يدخلون مكة بل نقاتلهم ونحاربهم ولا نتركهم يدخلونها، فإذا كان منهم ما ذكرنا، فجائز أن يكونوا ظنوا ما ذكرنا من ظنهم، فأما على غير ذلك فلا يحتمل مع اجتماع أهل التأويل على أن ذلك كان في أمر الحديبية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ). أي: ظننتم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رضي اللَّه عنهم - ظن السوء أنهم لا يرجعون إلى أهليهم. ويحتمل ظننتم باللَّه ظن السوء أنه لا ينصر رسوله ولا يعينه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: (بُورًا) أي: هلكى، أي: تصيرون قوما هلكى؛ فيه دليل أنهم يموتون على نفاقهم.

(13)

وقال الحسن: (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) أي: فاسدون لا خير فيهم، وكذلك يقول ابن عباس - رضي اللَّه عنهما -: إن البور هو الفاسد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البور في كلام العرب: لا شيء. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: البور: الهلكى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) فهو ظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (14) قيل فيه بوجوه: أحدها: ولله خزائن السماوات والأرض، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - أنه كان يقرؤه: (ولله خزائن السماوات والأرض). والثاني: ولله ملك كل ملك في السماوات والأرض، أي: لله حقيقة ملك كل ملك في السماوات والأرض. والثالث: ولله ولاية أهل السماوات والأرض وسلطانه، أي: الولاية والسلطان له على أهل السماوات والأرض. ثم يحتمل ذكره هذا وجهين: أحدهما: يخبر أنه فيما يأمرهم وينهاهم ويمتحنهم بأنواع المحن إنما يأمرهم وينهى ويمتحن لا لحاجة نفسه ولا لمنفعة له؛ إذ له ملك السماوات والأرض، ولا يحتمل من له ملك ما ذكر أن يقع له الحاجة إلى ما ذكر أو المنفعة؛ لأنه غني بذاته؛ ولكن يأمرهم وينهاهم، ويمتحنهم بما امتحن؛ لحاجتهم ولمنفعتهم، واللَّه أعلم. والثاني: يذكر هذا ليقطعوا الرجاء عما في أيدي الخلق، ويصرفوا الطمع والرجاء إلى اللَّه - تعالى - ومنه يرون كل نفع وخير يصل إليهم، ومنه يخافون في كل أمر فيه خوف، لا يخافون سواه، ولا يطمعون غيره، وهو ما أخبر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) يقول - واللَّه أعلم -: هو يغفر لمن يشاء، وهو المالك لذلك، وهو يعذب من يشاء؛ أي ليس يملك أحد مغفرة ذنوب أحد سواه ولا تعذيبه، إنما ذلك منه، وله ملك ذلك، وله الفعل دون خلقه؛ ليصرفوا طمعهم ورجاءهم في كل أمر إلى اللَّه - تعالى - ومنه يخافون في كل أمر فيه خوف، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، وكان اللَّه لم يزل رحيما، لا أنه حدث ذلك له بخلقة، واللَّه الموفق.

(15)

وقوله: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ ... (15) من الحديبية، خلفهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لما علم منهم من اختيار التخلف. وقوله: (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ. . .) الآية. ذكر أهل التأويل: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما صالح أهل مكة عام الحديبية ورجع اشتد ذلك على أصحابه - رضي اللَّه عنهم - لما كانوا طمعوا دخول مكة والزيارة لبيته، فبشره ربه بفتح خيبر والغنيمة لهم، فعند ذلك لما انتهى إلى المنافقين المخلفين عن الحديبية تلك البشارة له بفتح خيبر عليهم - قالوا: ذرونا نتبعكم؛ فنصيب معكم الغنائم؛ وإنما رغبوا في اتباعهم معهم؛ لما علموا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصدق فيما يخبر من البشارة له والفتح والغنيمة له بلا مؤنة قتال ولا حرب تقع هنالك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ)؛ لأن البشارة بفتح خيبر، وجعله غنيمة لمن شهد الحديبية، فأما من تخلف عنها، فليس له في ذلك من نصيب، فأخبر اللَّه - تعالى - أنهم يريدون أن يبدلوا ما وعد اللَّه - تعالى - للمؤمنين الذين شهدوا الحديبية - فتح خيبر خاصة؛ بأن يشركوا فيها، وفي ذلك تبديل ما وعد؛ إذ لم يشهدوا هم الحديبية، والبشارة بالفتح لمن شهدها، فأما من تخلف عنها فلا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تبديل كلام اللَّه ما قال في سورة براءة: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا)، فلما سألوا الخروج إلى خيبر والاتباع لهم، وقد نهاهم عن الخروج معهم أبدا، يريدون أن يبدلوا ذلك النهي الذي نهوا في سورة براءة؛ فيحتمل الأمرين جميعًا؛ كذا ذكر الشيخ - رحمه اللَّه - وعامة أهل التأويل على أن قوله: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا)، نزل في غزوة تبوك، وأنها بعد خيبر، فلم يكن خروجهم مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بخيبر تبديل النهي الذي نهوا عن الخروج معه، لكن كأنه لم يثبت عنده نزول الآية في غزوة تبوك، أو وقع الخطأ من الذين تلقنوا منه وكتبوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ)، يحتمل قوله: قوله تعالى: (كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) هي البشارة التي ذكرنا لمن شهد الحديبية، قال: إن مغانم خيبر لمن شهد الحديبية، وأمَّا من لم يشهد فلا. ويحتمل قوله: (مِنْ قَبْلُ) ما ذكر في سورة براءة: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا)

(16)

واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) كانوا يقيسون أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بأنفسهم؛ لأنهم إذا أصابوا شيئًا -أعني: المنافقين- كانوا يحسدون أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأرادوا ألا يكون لهم في ذلك نصيب ولا حظ؛ حسدًا منهم لهم، فلما منعهم المؤمنون عن الخروج إلى خيبر وقالوا: إن اللَّه نهاكم أن تخرجوا معنا، وقد بشروا بالفتح، قالوا عند ذلك: بل تحسدوننا في إصابة تلك الغنائم، لم ينهنا اللَّه - تعالى - عن الخروج معكم؛ قاسوا المؤمنين بأنفسهم، (بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) الفقه هو الاستدلال بما عرفوه وشهدوه على الذي لم يعلموه وغاب عنهم؛ يخبر أن هَؤُلَاءِ لا يعرفون الاستدلال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفقه هو معرفة الشيء بنظيره الدال على غيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) وهم الذين تخلفوا عن الحديبية (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) على قول ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومقاتل: وهَؤُلَاءِ هم بنو حنيفة، وفيهم مسيلمة الحنفي الكذاب، استقرت إليهم الأعراب بعد نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فدعاهم أبو بكر الصديق إلى قتالهم. وقال الحسن: هم أهل فارس والروم. وقال قتادة وغيره: دعوا إلى قتال هوازن وثقيف يوم حنين. ويروى عن جابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: دعوا يوم حنين إلى هوازن وثقيف، فمنهم من أحسن الإجابة ورغب في الجهاد، ومنهم من أبى. لكن ما قال قتادة غير محتمل؛ لأن قتال هوازن وثقيف يوم حنين كان في زمن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو تولى ذلك، وقال في آية أخرى: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا. . .) الآية، فلا يحتمل أن يدعوا إلى قتال هَؤُلَاءِ وهو تولى قتالهم، وقد قال اللَّه - تعالى - خبرًا عنه: (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)، فإذا لم يحتمل هذا رجع التأويل إلى ما قال ابن عَبَّاسٍ ومقاتل - رضي اللَّه عنهما - أنهم إنما دعوا إلى قتال أهل اليمامة

(17)

وهم بنو حنيفة، دعاهم أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لكن لو كان ما قال أهل التأويل أن قوله - تعالى -: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا)، نزل في غزوة تبوك، وهي بعد يوم حنين، فيكون ما قاله قتادة محتملا، واللَّه أعلم. أو أن يكون قوله: (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)، في قوم خاص، وهو ما قال: (اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ)، أي: أهل الغناء والثروة، إنما قال ذلك لأولي الطول الذين استأذنوه القعود مع القاعدين، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله - تعالى -: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) في أهل فارس والروم؛ على ما قال الحسن، وذلك إنما فتح في زمن عمر، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)، ومن قرأها: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُوا) وبالألف فيكون تأويله: تقاتلونهم حتى يسلموا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا) أي: إن تطيعوا فيما دعيتم إلى الجهاد يؤتكم اللَّه أجرًا حسنًا، ذكر أنه يؤتيهم أجرًا حسنًا؛ لأن توبتهم تكون فيما كان كفرهم وكان نفاقهم إنما ظهر بتخلفهم عن الجهاد، فعلى ذلك تكون توبتهم في تحقيق الجهاد. وقوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) وفيما دعيتم إليه (كَمَا تَوَلَّيْتُمْ) عن الحديبية وغيره (يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا). ثم عذر أهل العذر منهم بقوله - تعالى -: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ... (17) كما عذر أهل العذر من المؤمنين بقوله: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)؛ لأنهم إذا تولوا عادوا إلى ما كانوا. * * * قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) يحتمل قوله: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) لما عزموا على الوفاء على ما بايعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

والصدق لذلك، والتحقيق لما عهدوا من الوفاء لذلك - أخبر اللَّه أن قد رضي اللَّه عنهم لذلك، فنحن نستدل به على صدق ذلك وتحقيقه وإن لم يخبرنا اللَّه تعالى أنهم قد عزموا على ذلك، فيجوز لنا أن نشهد أنهم قد عزموا على الوفاء لذلك والصدق له، وقد يكون من الاستدلال ما تكون الشهادة له بالحق والصدق إذا كان في الدلالة مثل ما ذكرنا، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: ما ذكرنا: علم ما في قلوبهم من العزم على الوفاء والصدق؛ لما أعطوا بأيديهم من أنفسهم. والثاني: علم ما في قلوبهم من الخوف والخشية، وذلك يتوجه وجهين: أحدهما: أنهم خشوا ألا يتهيأ لهم القيام بأهل مكة؛ لأنهم كانوا مستعدين للحرب والقتال، وهم كانوا خرجوا لقضاء المناسك وزيارة البيت، خشوا ألا يقوموا لهم؛ فلم يفوا ما عاهدوا. والثاني: خشوا ألا يقدروا على وفاء ما بايعوا وأعطوه؛ لأن في ذلك مناصبة جميع أهل الأديان والمذاهب، واللَّه أعلم. والثالث: علم ما في قلوبهم من الكراهة التي يذكرها أهل التأويل، لكن تلك الكراهة كراهة الطبع، لا كراهة الاختيار؛ لأنهم طمعوا الوصول إلى البيت، ورجوا دخولها، فلما جرى الصلح بينهم على ألا يدخلوا عامهم ذلك، فانصرفوا، فاشتد ذلك عليهم، فكرهوا ذلك، لكن كراهة الطبع، لا كراهة الاختيار، وقد يكره طبع الإنسان شيئًا والخيار غيره؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)، وكقول يوسف: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، محبة الاختيار، لا محبة الطبع، بل الطبع إلى ما يدعونه أميل من السجن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) أي: أنزل عليهم ما يسكن به قلوبهم؛ لما علم تحقيق الوفاء لما بايعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصدق ما أعطوا من أنفسهم، وأثابهم مكان ما كانوا يرجون ويطمعون من دخول مكة، وما كرهت أنفسهم من الرجوع - فتحًا قريبًا، وهو فتح مكة، أو فتح خيبر، واللَّه أعلم. ثم قوله: (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا. وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا) اختلف فيه:

(19)

منهم من صرف الفتح القريب المذكور في الآية إلى فتح خيبر، وإِلَى مغانم خيبر حين بشروا بالحديبية بفتح خيبر، وجعل المغانم لهم مكان ما منعوا من دخول مكة وحيل بينهم وبين ما قصدوا، أو في الطريق بعد منصرفهم من الحديبية على ما ذكر في القصة، والله أعلم. ومنهم من صرف الفتح إلى مكة؛ لأنه ذكر في القصة أنهم بشروا في الطريق بعد انصرافهم من الحديبية بفتح مكة، ويكون قوله: (وَأَثَابَهُمْ) على هذا التأويل بمعنى: ويثيبهم، وذلك جائز في اللغة: فعل بمعنى: يفعل، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ. . .)، كذا، يعني: يقول له، وقوله - تعالى -: (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) على هذا ينصرف إلى غيره من المغانم؛ لأنه لم يكن بمكة غنائم، واللَّه أعلم. ومنهم من قال: (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) الفتوح كلها التي كانت لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولأمته، وكذلك قوله: (وَمَغَانِمَ). وجائز أن يكون الكفرة جملة، أي: لو قاتلوكم لولوا الأدبار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ... (23) ما سن في كل أمة من هلاك، لم يجعل ذلك الهلاك في غيرها من الأمم؛ نحو ما جعل هلاك قوم نوح الغرق، وكذلك قوم فرعون، وكذلك جعل هلاك عاد بريح صرصر، وثمود بالطاغية؛ جعل اللَّه - تعالى - هلاك كل أمة بنوع لم يجعل ذلك لغيرها؛ يقول: لم يكن لذلك تبديل إلى غيره. وجائز أن يكون قوله: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أي: جعل عاقبة الأمر للمؤمنين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) في أمتك، ولكن جعل عاقبة الأمر لهم كما جعل عاقبة الأمر في سائر الأمم للمؤمنين. * * * قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ

(24)

رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... (24) مع كثرة أُولَئِكَ، وقوتهم، وتأهبهم للقتال، وضعف هَؤُلَاءِ وقلة عددهم؛ لأن أُولَئِكَ كانوا خرجوا للقتال والحرب، مستعدين لذلك، متأهبين، وهَؤُلَاءِ كانوا خرجوا لقضاء المناسك وزيارة البيت، فكف أيدي أُولَئِكَ مع عدتهم وقوتهم وكثرتهم عن هَؤُلَاءِ مع ضعفهم وقلة عددهم، حتى أظفرهم بأُولَئِكَ بما ذكر في القصة أن المسلمين كانوا اشتغلوا بالترامي بالنبل والحجارة حتى هزموهم وأدخلوهم بطن مكة؛ على ما ذكر، ثم أظفرهم بهم، كف أيدي هَؤُلَاءِ عنهم ويتم لهم الظفر بهم؛ ليعلم هَؤُلَاءِ أن التدبير في الأمر إلى اللَّه - تعالى - دونهم، وله السلطان على الخلق جميعًا، لا سلطان لأحد في سلطانه، ولا قوة إلا باللَّه. وأما ما ذكر من الامتنان هو ما ذكر من كف أيدي أُولَئِكَ عن هَؤُلَاءِ عند شدة خوفهم منهم وفزعهم بما ذكرنا من قوة أُولَئِكَ وكثرتهم، وضعف هَؤُلَاءِ وقلة عددهم، حتى أظفرهم؛ يذكر منته عليهم؛ ليستأدي شكره، ويكف أيدي هَؤُلَاءِ عنهم. فَإِنْ قِيلَ: ما كف أيدي أُولَئِكَ عن هَؤُلَاءِ، المنة ظاهرة، ولكن أية منة تكون في كف أيدي المؤمنين عن أُولَئِكَ الكفرة؟ فيقال: جائز أن تكون المنة في كف أيدي المؤمنين عن أُولَئِكَ الكفرة؛ ليستأدي منهم شكره بذلك، وهو الإسلام لله - تعالى - على جميع خلقه منة؛ ليستأدي منهم شكرًا على الكافرين والمسلمين جميعًا. ويحتمل أن تكون المنة في كف أيدي المؤمنين عن أُولَئِكَ على المؤمنين - أيضًا - هو ما ذكر على إثره: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أنه لو لم يكف أيدي المؤمنين عنهم حتى يتم لهم الظفر بهم فدخلوا مكة وهنالك مؤمنون لأصابهم ما ذكر من المعرة وغيره، فكان في كف أيدي المؤمنين عن أُولَئِكَ منة عظيمة عليهم؛ لما بينا من قبل من فيها من المؤمنين من غير علم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِبَطْنِ مَكَّةَ) وهم لم يكونوا في بطن مكة، إنما كانوا بالحديبية، وبينها وبين مكة أميال، لكن يخرج على وجهين: أحدهما: أظفرهم بهم وقهرهم وهزمهم حتى أدخلهم بطن مكة؛ على ما ذكر أنهم هزموهم حتى أدخلوهم في بيوت مكة. والثاني: ببطن مكة؛ أي: بقرب مكة.

(25)

وجائز أن يكنى ببطن مكة؛ أي: قربها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِبَطْنِ مَكَّةَ) أي: الحرم، والحرم كله مكة، والوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) لم يزل اللَّه - تعالى - عالمًا بأعمالهم، بصيرًا. وفيه دلالة خلق أفعالهم؛ لأنه ذكر أنه كف أيدي هَؤُلَاءِ عن أُولَئِكَ وأيدي أُولَئِكَ عن هَؤُلَاءِ، ثم قال: هو عالم بما تعملون بصيرًا؛ ليعلم أن له في فعلهم صنعًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... (25) أي: صدوهم عما قصدوا، وهو الطواف بالبيت والزيارة له، وذلك في المسجد الحرام؛ ذكر صدهم عن المسجد الحرام وصدوهم عما فيه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) وقوله: (مَعْكُوفًا) هو أي: محبوسًا، والمعكوف هو الحبس، ومنه سمي العاكف والمعتكف. ثم قوله: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) محل دم هدي المتعة هو مكة أو منى، فأما الحرم نفسه فليس هو محله؛ فكأنه قال: وصدوا الهدي عن أن يبلغ محله الذي جعل لهدي المتعة وهو منى أو مكة؛ لأنه ذكر في الخبر أنه كان - عليه السلام - معتمرًا، وذكر أنه كان متمتعًا، وفيه أن دم المتعة إن منع عن محله سقط، وخرج عن حكم المتعة، ويعود إلى مكة، وله أن يصرفه إلى ما شاء؛ ألا ترى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نحر تلك البدن التي ساقها عن الإحصار في الحرم؛ دل أن هدي المتعة إذا منع عن المحل سقط، ويخرج عن حكم المتعة. وفيه أن دم الإحصار لا يجوز إراقته إلا في الحرم؛ إذ الحديبية تجمع الحرم والحل جميعًا عندنا، فإنما كان نحرها في الحرم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ) أي: تقتلوهم وتهلكوهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي: لولا ما فيها -أعني: في مكة- من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات، لأتم لكم الظفر بهم، ودخلتم عليهم، لكن منعكم عن دخولكم مكة؛ لما ذكر. ثم اختلف في قوله - تعالى -: (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: لزمكم الدية بقتلهم، وكذا روي عن مُحَمَّد بن إسحاق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكفارة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإثم والذنب؛ أي: يصيبكم منهم الإثم بقتلكم إياهم؛ وهذا لا يحتمل؛ لأنهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون، لا يلحقهم الإثم والذنب؛ لأن اللَّه - تعالى - وضع الإثم عنا فيما لا نعلمه، ولم يضع طريق العلم به، قال اللَّه - تعالى -: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ). وعندنا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: فيصيبكم من الكفرة وأهل النفاق ما يسوءكم بقتلكم إياهم من اللائمة، والتعيير، وغير ذلك من القيل والقال؛ يقولون: إنهم قتلوا أصحابهم ومن كان على دينهم من أهل الإسلام؛ فيجدون بذلك سبيلا إلى ما ذكرنا، فيسوءكم ذلك، واللَّه أعلم. والثاني: يصيبكم الأسف والحزن والندامة الدائمة بقتلكم أهل الإيمان وأهل الإسلام إذا علمتم أنكم قتلتم أصحابكم وأهل دينكم، واللَّه أعلم. ثم المخالف لنا تعلق بهذه الآية في مسألتين: إحداهما: فيمن أسلم ولم يهاجر إلينا: أنه تجب الدية في قتله؛ لقوله - تعالى -: (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وهي غرم الدية. والثانية: هل يباح الرمي على حصون المشركين إذا كان فيها أسارى المسلمين وأطفال المسلمين، وإحراق الحصون أو الرمي على الكفار الذين تترسوا بأطفال المسلمين؟ قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومُحَمَّد وزفر والثوري: لا بأس برمي حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى المسلمين وأطفالهم، ولا بأس بأن يحرقوا الحصن ويقصدوا به المشركين دون المسلمين، وكذلك إحراق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين. وقال مالك: لا يحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين. وقال الأوزاعي: إذا تترس الكفار بأطفال المسلمين، لم يرموا، ولا يحرق الحصن، ولكن لا بأس بأن يرمى الحصن بالمنجنيق، ونحو ذلك. وقال الشافعي: لا بأس بأن يرمى الحصن وفيه أسارى وأطفال المسلمين، ولو تترسوا بهم فله قولان. واحتج هَؤُلَاءِ بأن من عادتهم أنهم كانوا يعبدون ما يهوون ومالت إليهم أنفسهم من الأصنام والأوثان وغيرها، وينصرون من عبدوها، ويدفعون عنهم فيذبون عنها، فجائز أن

(26)

يكون الذي حملهم على ذلك هو نصرهم أُولَئِكَ الأصنام وعبادها، والذب عنهم حمية الجاهلية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) وجائز أن يكون ما ذكر من السكينة التي أخبر أنه أنزلها على رسوله ومن ذكر: هو شيء أنزله من السماء؛ لطفًا منه عليهم حتى سكنت لذلك قلوبهم. وجائز أن يكون لا على حقيقة إنزال شيء من مكان إلى مكان، ولكن أنشأ في قلوبهم ما يسكن به قلوبهم؛ كقوله - تعالى -: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)، أي: أنشأ لكم من الأنعام ما ذكر، وخلقها لهم، ليس أن أنزلها عليهم من مكان إلى مكان، ولكن على الإنشاء والخلق، فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. ثم السكينة تحتمل أسبابًا له بها تسكن قلوبهم وأنفسهم، والأسباب تختلف. ويحتمل شيئًا آخر سوى ذلك، وهو اللطف الذي جعل لهم، فسكن قلوبهم بذلك اللطف، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا). يحتمل هذا وجهين: أحدهما: ألزمهم كلمة بها يتقون النار. ثم يحتمل (كَلِمَةَ التَّقْوَى): كلمة الإخلاص وغيرها وما يقيهم النار، واللَّه أعلم. ويحتمل قوله: (وَأَلْزَمَهُمْ): إظهار كلمة التقوى حتى تصير ظاهرة في الخلق أبدًا إلى يوم القيامة، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَلِمَةَ التَّقْوَى) هي " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وذلك أنه لما كتب كتاب الصلح فيما بين أهل مكة وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كتب: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، فقال ذلك: اكتب كذا، لا ندري ما الرحمن الرحيم. وذلك كلمة التقوى، واللَّه أعلم. والوجه فيه ما ذكرنا. وقوله: (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) أي: بتلك الكلمة، وكانوا أهلا لها (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). وقال بعض أهل التأويل: (كَلِمَةَ التَّقْوَى) هي كلمة الإخلاص (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا

(27)

وَأَهْلَهَا) من الأمم السالفة وأهلها، واللَّه أعلم. أو كانوا أحق بها في الإظهار في الخلق والقيام بذلك، وكانوا أحق بها في إلزامها في أنفسهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27). قال أهل التأويل: قوله: (صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ) أي: حقق اللَّه لرسوله الرؤيا التي أراها إياه بالحق؛ أي: بالوفاء لذلك. ويحتمل: أي: صير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صادقًا عندهم فيما أخبرهم أنه رأى، وجعله صادقًا في ذلك؛ والأول أشبه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على الأمر: أن ادخلوا المسجد الحرام، وإن كان في الظاهر خبرًا؛ كرؤيا إبراهيم - عليه السلام - حيث قال: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، ثم قال اللَّه - تعالى -: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، دل على أن ما رأى إبراهيم - صلوات اللَّه عليه - من الذبح هو أمر بذلك، فإن كان التأويل هذا فيخرج الثنيا المذكور فيه على أثره، كأنه يقول: ادخلوا المسجد الحرام محلقين ومقصرين إن شاء اللَّه أن تأمنوا في دخولكم، وإذا لم تأمنوا لم يشأ أن تدخلوه، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون قوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) على الوعد، فيخرج الثنيا المذكور على وجهين: أحدهما: على التبرك والتيمن، كما يتبرك بذكر اسمه في فعل يفعله، واللَّه أعلم. والثاني: على الأمر لكل في نفسه إذا أخبر غيره أنه يدخل أن يقول: إن شاء اللَّه، كما يؤمر بالثنيا من أخبر شيئًا أنه يفعله، كقوله - تعالى -: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). ويحتمل أن يذكر الثنيا؛ لأن الوعد في الظاهر وإن كان للجملة كقوله: (لَتَدْخُلُنَّ)، فجائِز أن يكون المراد منه بعض منهم، ليس الجملة؛ لاحتمال أن يموت بعض منهم وألا يكون هو مرادًا والمراد، الجملة، فذكر الثنيا؛ لئلا يكون خلف في الوعد من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم ما ذكر من رؤيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأخبر أنه حققها يحتمل ما ذكر من دخول المسجد الحرام على أثره، فإن كان ذلك؛ فيكون قوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) هو تفسير لتلك الرؤيا.

وجائز أن تكون الرؤيا في غير ذلك. وقوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) ابتداء وعد وأمر من اللَّه تعالى، وكذلك ما ذكر من قوله حيث قال: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ). يحتمل ما ذكر في هذه الآية: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. . .) إلى آخر ما ذكر. ويحتمل غير هذا أيضاً، وقد أخبر أنه حققها وصدقها، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ). يخبر أنهم يدخلون المسجد الحرام محلقين مقصرين. ثم يخرج على وجهين: أحدهما: في ابتداء الإحرام، يخرج على التزين على ما يزين المحرم في ابتداء إحرامه من نحو التطيب واللباس والحلق والتقصير، ونحو ذلك، يخبر أنهم يدخلون على التزين في المسجد الحرام آمنين من الكفار، فإن كان على ذلك فهو على الثياب والطيب وغير ذلك. وذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان معتمرا، فسميت تلك عمرة القضاء؛ حيث منع في عام الحديبية وكان معتمرا فسميت، تلك عمرة وإن كان حاجا فيكون قوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) بعد رجوعهم من منى إلى طواف الزيارة في ذلك الوقت يكونون محلقين مقصرين، والله أعلم. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في أمره رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالخروج للحج عام الحديبية على علم منه أنه لا يصل إلى مكة وأنه يحال بينه وبين دخول مكة وقضاء النسك، ولا يحتمل إلى ذلك إلا بأمر من اللَّه تعالى، ليس هو كغيره من الناس أنهم يفعلون أفعالا بلا أمر، ثم يمنعون أو ينهون عن ذلك، فأما رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلا يفعل شيئاً إلا عن أمر منه له بذلك. قيل: يحتمل إنما أمر بذلك مع علمه بأنهم يمنعون عن ذلك؛ تعليما منه رسوله وأمته حكم الإحصار: أن من حصر عن الحج، ومنع عن دخول مكة؛ لقضاء النسك، ماذا يلزمه؟ وبم يخرج منه؟ ولله تعالى أن يعلم خلقه أحكام شريعته مرة بأمر يأمرهم بذلك، أو بخبر يخبرهم، ومرة بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يمتحنهم بما شاء، له الحكم والأمر في الخلق، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَخَافُونَ). أي: تدخلون مكة آمنين، لا تخافون عدوكم، ولا منعهم إياكم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا). هذا يخرج على وجوه: أحدها: أي: علم ما وعد لكم من فتح خيبر وغنائمه ما لم تعلموا. ويحتمل: أي: علم ما أرى وصوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الرؤيا وتحقيقها ما لم تعلموا. ويحتمل: أي: علم في رجوعكم عن الحديبية أشياء لم تعلموها أنتم من إظهار ما أظهر من نفاق أهل النفاق فيهم، وأهل الاضطراب من المحققين والمصدقين وغير ذلك، واللَّه أعلم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله تعالى: (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا) يقول: إن ذلك الدخول أي سنة؟ ولم تعلموا أنتم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: جعل من قبل أن يدخلوا مكة (فَتْحًا قَرِيبًا)، أي: عاجلا فتح خيبر، واللَّه أعلم. وقول أهل التأويل: إنه اشتد على الناس رجوعهم من الحديبية وصدهم المشركون عما قصدوا، بعدما أخبرهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه رأى في المنام أنهم يدخلون على ما وقع عندهم أن رؤيا الأنبياء - عليهم السلام - حق كالوحي. لكن هذا لا يحتمل من المسلمين ما يحتمل من المنافقين على ما ذكر أنهم قالوا حين أخبر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية أن الرؤيا كذب أو كلام نحوه؛ فكل هذا يحتمل من المنافقين، فأما من المسلمين فلا يحتمل أن يقع في قلوبهم شيء من ذلك؛ لما لم يكن في الآية بيان ولا توقيت أنهم متى يدخلون؟ بل فيها الوعد بالدخول ليس فيها أنه متى؟ ألا ترى أن يوسف - عليه السلام - رأى رؤيا وخرجت بعد أربعين سنة أو أقل أو أكثر؛ فعلى ذلك لا يحتمل أن يخفى عليهم إذا لم يكن في الوعد توقيت أنه يجوز أن يتأخر أو يتقدم، واللَّه أعلم. ثم فيما ذكرنا من أمر الحديبية وصد المشركين إياهم عن دخول مكة والحيلولة بينهم وبين ما قصدوا - أنه لا يحتمل أن يخرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لقصد الحج وزيارة البيت مع أصحابه بلا أمر منه بذلك؛ لما ذكرنا، ثم إن ثبت له الأمر بذلك على علم من اللَّه تعالى أنه لا يصل إلى تحصيل المأمور به وما قصدوا من دخول مكة زائرين، وما يكون من المشركين من المنع لهم والصد عن ذلك، وما أرادوا تحصيل ما أمرهم بذلك، فهذا دليل على أن اللَّه تعالى قد يأمرهم ويريد غير الذي أمر به، وأنه يريد ما علم أنه يكون منهم

(28)

الذي أمر به، وهو كما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم كان حقيقة المراد بالأمر بذبح الولد ذبح الشاه والكبش؛ دل أن الأمر بالشيء لا يدل على أنه أراد الذي أمره به، بل يريد ما علم أنه يكون منهم من خلافه وضده، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28). أي: أرسله بالهدى من كل ضلال أو حيرة. أو أرسله بالبيان من كل عمى وشبهة، وهو هذا القرآن الذي سماه مرة: هدى، ورحمة، ونورا، ونحو ذلك، وهو ما وصفه - عَزَّ وَجَلَّ - أن من تمسك به يكون ما ذكر هدى من كل ضلالة وحيرة، ونورا من كل ظلمة، وبيانا من كل عمى وشبهة، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدِينِ الْحَقِّ). جائز أن يكون الحق هو نعَت الدِّين وهو الإسلام، وهو الدِّين الحق، وسائر الأديان باطلة. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: (وَدِينِ الْحَقِّ)؛ أي: دين الإله الذي هو الإله الحق، وهو الإله المستحق الألوهية وغيره من الأديان دين الشيطان، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ). الإظهار: هو الغلبة، ثم تخرج غلبته على الدِّين كله على وجهين: أحدهما: أي: غلب هذا الدِّين على الأديان كلها بالحجج والبراهين أنه حق، وأنه من عند اللَّه جاء، وقد كان بحمد اللَّه كما ذكر، حتى عرف أهل الأديان كلها بالحجج والبراهين أنه حق إلا من كابر عقله وعاند الحق أو غفل عن دلائله، ولا قوة إلا باللَّه. والثاني: يغلب على الأديان كلها، أي: يغلب على أهل الأديان كلهم حتى يصير أهل الإسلام ظاهرين غالبين من بين غيرهم، ويتوارى جميع أهل الأديان ويختفوا، ولكن ذلك في وقت دون وقت، وهو الوقت الذي ذكره بعض أهل التأويل، وهو في وقت خروج عيسى - عليه السلام - يصير أهل الأديان كلهم أهل دين واحد وهو الإسلام. وجائز أن يكون قوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، أي: يظهر ما يحتاج أهل هذا الدِّين كله وما يحدث لهم من الحاجة - على الأديان كلها، بما ضمن في القرآن معاني تقع الكفاية بها في الحوادث كلها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا). هذا يحتمل وجهين:

(29)

أحدهما: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) بأن ما جاء به سيدنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، إنما جاء به من عند اللَّه، فإن كان التأويل هذا، فإنما تكون هذه الشهادة في الآخرة. والثاني: يحتمل قوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) بما أنشأه له من الآيات والحجج شهادة منه على رسالته ونبوته، وذلك في الدنيا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ). من الناس من احتج على تفضيل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غيره من الأنبياء - عليهم السلام - بهذه الآية وبغيرها من الآيات يقول: لم يُذكر مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في القرآن إلا وخاطبه باسم الرسالة والنبوة؛ كقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، و (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)، وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) ونحو ذلك، وسائر الأنبياء - عليهم السلام - إنما خاطبهم بأسمائهم التي جعلت لهم خلقة دون ختم الرسالة والنبوة، كقوله: (يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا)، و (يَا لُوطُ)، و (يَا مُوسَى)، و (يَا هَارُونُ)، و (يَا هُوُدُ)، و (يَا صَالِحُ)؛ جميع من ذكرهم سواه إنما ذكرهم بأسمائهم الموضوعة في أصل الخلقة، ولم يجلُّوا ولم يسموا بأسماء الرسالة والنبوة؛ وذلك لفضل جعل له من بين غيره، وكذلك يحتج لتفضيل أمته وأصحابه على سائر الأمم حيث خاطب هذه الأمة بأحسن الأسماء فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وقوله: (أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ)، وقال في سائر الأمم: (يَا بَنِي آدَمَ)، ونحو ذلك، ومما يدل على فضيلتهم قوله - تعالى -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. . .) الآية؛ أي: كنتم خير أمة في الكتب المتقدمة بما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. . .) الآية، ما وصفهم ونعتهم يرجع إلى أصحابه على الاجتماع، أي: الكل موصوفون بهذه الصفات التي ذكر في الآية، وأنها كلها فيهم، وهو كقوله - تعالى - في صفتهم: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي: أشداء على الكفار، ورحماء على المؤمنين، وصفهم بذلك جملة، فعلى ذلك هاهنا.

ويحتمل أن يكون ذلك وصف بعضهم دون بعض، أو وصف عامتهم، فأما الكل فلا، وذلك نحو ما روي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث قال: لولا قوله - تعالى -: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا)، ما كنا نعرف أحدًا من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يريد الدنيا، فإنما يكون ذلك وصف أمثال عبد اللَّه بن مسعود، رضي الله عنه. ثم قد جعل اللَّه - تعالى - الرحمة والرأفة نعتًا للمؤمنين، يتراحم بعضهم بعضًا، وكذلك روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا " قالوا: كلنا نتراحم ولده، فقال: " ليس ذلك برحمة، إنما الرحمة أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ولولده "، أو كلام نحوه. وروي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " المؤمنون كلهم كرجل واحد، إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى "، وليس فيما وصفهم بالشدة على الكفار دليل على أن ليس لهم شفقة عليهم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - له شفقة عظيمة عليهم، حتى كادت تهلك نفسه، لذلك قال اللَّه - تعالى -: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، وقال: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، فعلى ذلك أصحابه، رضوان اللَّه عليهم أجمعين. ثم القتال الموضوع فيما بينهم رحمة في الحقيقة، وإن كان في الظاهر ليس برحمة؛ لأنه وضع ليضطرهم ذلك إلى قبول الإسلام والتوحيد، وفي قبولهم ذلك نجاتهم، وما وصفهم بالرحمة على المؤمنين، ليس فيه أنهم ليسوا بأشداء عليهم إذا عاينوا منهم المناكير والفواحش حتى يتركوا التغيير عليهم؛ بل من الشفقة لهم عليهم ما يغيرون عليهم المنكر؛ إذ في ذلك نجاتهم، وذلك لا يزيل عنهم الرحمة التي وصفهم بها؛ بل ذلك من الشفقة لهم والرحمة، واللَّه أعلم. ثم نعتهم وقال: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) أن يحتمل وجهين: أحدهما: وصف لهم بالمداومة في إقامة الصلوات بالجماعات، وأراد بالركوع والسجود: هو الصلاة على طريق الكناية. والثاني: عبارة عن الخضوع لربهم، والتواضع للمؤمنين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) يحتمل قوله: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ)

أي: الجنة؛ أي: يبتغون بكل ما وصفهم من الرحمة، والشدة، والركوع، والسجود الجنة، والفضل يذكر عبارة عن الجنة في القرآن في غير موضع. وجائز أن يكون ما ذكر من ابتغائهم الفضل من اللَّه - تعالى - ما يتعايشون به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ) أي: يبتغون ما يتعيشون به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ) أي: يبتغون معيشة يتقوون بها على طاعة اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرِضْوَانًا) أي: رضا ربهم، وهو بمعنى الفضل - أيضًا - على التكرار للتأكيد؛ كقوله - تعالى -: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، لكنه أخبر أنهم يبتغون ذلك الفضل والرضوان من اللَّه - تعالى - واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) اختلف فيه: قال الحسن وغيره: أي: أثر الخشوع والصلاة في وجوههم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الرجل إذا قام من الليل فأطال القيام والسهر، تبين سهر الليل في وجهه إذا أصبح من الصفرة، وتغير اللون، وذلك كله في الدنيا. وكذلك روي عن الحسن قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رحم اللَّه قومًا يحسبهم الناس مرضى وما هم بمرضى " قال الحسن: أجهدتهم العبادة. وقال قتادة: أثر الصلاة في وجوههم، وهو أثر التراب؛ لكن ذلك بعيد. وقال: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يوم القيامة، وهو بياض وجوههم من أثر السجود والوضوء. وكذلك روي في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إني أعرف أمتي من بين غيرها من الأمم " قيل: وكيف تعرف يا رسول اللَّه أمتك من بين الأمم؟ فقال: " أمتي غر محجلون يوم القيامة من أثر السجود " ولا يكون ذلك لأحد من الأمم غيرهم، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون على غير ذلك، يجعل اللَّه - تعالى - في وجوههم من آثار العبادة له، والجهد فيها من النور والحلاوة والحسن ما يعرفون أنهم أهل عبادة اللَّه - تعالى - وطاعته، واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) يحتمل وجوهًا: أحدها: أي: شبههم في التوراة والإنجيل الآحاد والأفراد منهم المختارون من بين غيرهم الذين يعظمونهم الأتباع والملوك ويحلونهم، فما بالكم لا تعظمون أنتم هَؤُلَاءِ ولا تتبعونهم كاولئك، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) أي: ذلك نعتهم ووصفهم في التوراة والإنجيل؛ أي: على ذلك نعتوا ووصفوا في التوراة والإنجيل، وقد عرفتم ذلك، فهلا اتبعتموهم إذا نعتوا ووصفوا في القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ) مقطوع مقصود، وهو ما تقدم من قوله: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ. . .) إلى قوله: (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)، ثم ابتدأ فقال: (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ. . .) الآية، وهذا يحتمل ووجه حسن، وعلى التأويلين الأولين ما ذكرنا من وصفهم، كأنه في التوراة والإنجيل جميعًا، ثم نعتهم - أيضًا - بقوله - تعالى -: (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ)، واللَّه أعلم. ثم ذكر نعت أصحابه - رضي اللَّه عنهم - في هذه الآية، ولم يذكر نعت رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وإِنَّمَا ذكر نعته في آية أخرى، وهو قوله - تعالى -: (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. . .) الآية، ذكر نعته وصفته في الآية - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونعت أصحابه - رضي اللَّه عنهم - في هذه السورة، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ. . .) الآية دلالة الرسالة؛ لأنه أخبر أن نعتهم في الكتب المتقدمة كما ذكر في القرآن، ثم لم يقل أحد من أهل الكتب المتقدمة: أن ليس ذلك نعتهم أو شبههم في تلك الكتب، ثبت أنه بالله عرف، ولا قوة إلا باللَّه. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ. . .) الآية، شبههم بالزرع الذي ذكر - واللَّه أعلم - لأنهم أحيوا سنن الدِّين وشرائعه التي كانت من قبل بعدما درست، وانقطع أثرها؛ لأنه لم يكن فيما بين عيسى ومُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - رسول فقد انقرض ذلك واندرس، ثم جاء مُحَمَّد - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - بعد دروس ذلك وانقراضه كالزرع الذي يخرج وحده، وهو النبت الواحد في أول ما يخرج، فأعانه أصحابه وآزروه كانوا إليه كالخلفة التي تنبت حول الساق تؤازر الخلفة والنبت، فأما (شَطْأَهُ) فقيل: هو مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خرج وحده كما خرج أول النبت وحده، وأما الوالية التي تنبت حول الشطأة فاجتمعت، فهم المؤمنون كانوا في

قلة كما كان أول الزرع دقيقًا، ثم زاد نبت الزرع، فغلظ، (فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ)، كما آزر المؤمنون بعضهم بعضًا حتى استغلظوا واستووا على أمرهم كما استغلظ هذا الزرع واستوى على سوقه. ثم اختلقوا في الشطاة: قال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو قصب الزرع؛ أي: صار له واسط الزرع؛ أي صار له ورق، (فَآزَرَهُ) أي: قواه، (سُوقِهِ) جمع: ساق. وقال أبو عبيدة: شطأ الزرع: فراعه وصغاره؛ يقال: قد أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا فرع. وقال الفراء: (شَطْأَهُ) أي: سنبله، ينبت الحبة عشرًا وتسعًا وثمانيًا (فَآزَرَهُ) أي: أعانه وقواه. وقوله: (فَاسْتَغْلَظَ) أي: غلظ (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) جمع ساق، ومنه يقال: قام كذا على سوقه إذا آذرته وتناهى وبلغ الغاية؛ يقول - واللَّه أعلم -: كما أن الزرع إذا قام على السوق فقد استحكم، فهذا مثل ضربه اللَّه - تعالى - لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أي: خرج وحده، فأيده بأصحابه، فقوى واشتد كما قويت الساق من الزرع بما نبت منها حتى غلظت وعظمت واستحكمت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الزراع هو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعجب محمدًا ما رأى من أصحابه والمؤمنين، ويغيظ الكفار ذلك، من الغيظ، وهو كقوله - تعالى -: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. . .) إلى قوله: (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: الزراع: هو صاحب الزرع، إذا كثر جوانبه ووالياته، وينبت (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)؛ أي: يغيظ ذلك سائر الزراعين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كما يعجب الزراع حسن زرعه حين استوى قائمًا على ساقه، فكذلك يغيظ الكفار كثرة المؤمنين واجتماعهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الزراع، سموا كفارًا؛ لأنهم يكفرون، أي: يسترون البذر في الأرض، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ) من بين غيرهم من الناس (مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)، واللَّه أعلم. وفيه نقض قول الباطنية والروافض - لعنهم اللَّه - لقولهم: إنهم بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

كفروا وارتدوا عن الإسلام جميعًا، أو كلام نحوه؛ في الآية ردٌّ لقولهم؛ لأنه وعد لهم المغفرة وما ذكر من الأجر العظيم، فلا يحتمل أن يكونوا على ما ذكر أُولَئِكَ، ثم تكون لهم المغفرة وما ذكر من الأجر العظيم؛ فدل ما ذكر من الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم أنهم ثبتوا على ما كانوا من قبل في زمن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وفي حياته، واللَّه أعلم، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. * * *

سورة الحجرات

سُورَةُ الْحُجُرَاتِ ذكر أنها مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن أبا بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - اختلفا في شيء بحضرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فارتفعت أصواتهما، فنزل قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. . .) إلى آخر ما ذكر من قوله: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ). وذكر عن الحسن في قوله - تعالى -: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: لا تذبحوا قبل ذبح النبي يوم النحر، وذلك أن ناسًا من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجالا كانوا يقولون: لو أنزل كذا وكذا، أو صنع كذا وكذا، فنزلت هذه الآية، وأمرهم ألا يسبقوا نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقول ولا عمل حتى يبين اللَّه - تعالى - بيانه، وأمثال ذلك قد قالوا، واللَّه أعلم. وأصل ذلك عندنا من قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية، أي: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا اعلموا أن لله الخلق والأمر، لا تقدموا أمرًا، ولا قولا، ولا فعلا، ولا حكمًا ولا نهيًا سوى ما أمر اللَّه - تعالى - به ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وغير ما نهى عنه؛ بل اتبعوا أمره ونهيه، وراقبوه على ما آمنتم به وأقررتم بأن له الخلق والأمر، فاحفظوا أمره ونهيه، ولا تخالفوه ولا رسوله في شيء من الأمر والنهي، فهذا يدخل فيه كل شيء وكل أمر من القول، والفعل، والقضاء والحكم، والذبح، وغير ذلك؛ على ما ذكرنا من إيمانهم بأن له الخلق والأمر في الخلق؛ إذ مثل هذا الخطاب لو كان لواحد خاص لكان حكمه يلزم

(2)

الكل، وكذلك لو كان في أمر واحد وفعل واحد كان يدخل في ذلك جميع الأمور، فكيف والخطاب بذلك عام مطلق؟! فهو للكل، وفي كل الأمور، واللَّه الموقق. وعلى ذلك ما روي عن مسروق أنه دخل على عائشة - رضي اللَّه عنها - فأمرت الجارية أن تسقيه، فقال: إني صائم -وهو اليوم الذي يشك فيه- فقالت له: قد نهي عن هذا، وتلت قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) في صيام ولا غيره. اعتبرت عائشة - رضي اللَّه عنها - عموم الآية في النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ومخالفة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في كل قول أو فعل. وكذلك روي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال في قوله: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي: اتقوا مخالفة أمر اللَّه ونهيه قولا وفعلا، واتقوا مخالفة رسوله فيما يأمركم بأمر اللَّه ونهيه، وفي كل ما دعاكم إليه (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأفعالكم وأعمالكم، ولا قوة إلا باللَّه. ثم لم يفهموا مما ذكر في قوله: (بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) الجوارح ولا العدد في اليد كما فهموا من ذلك في الخلق، فما بالهم يفهمون ذلك من قوله: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، أي: خلقته على علم مني بما يكون منه من خلاف أو معصية، لم أخلقه عن جهل بما يكون منه، وهو ما ذكر في قوله - تعالى -: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، و (خَبِيرٌ)، أي: عن علم بأحوالهم وما يكون منهم أنشأهم لا عن جهل بذلك، فعلى ذلك هذا، كما فهموا من قوله: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ) أمر اللَّه ونهيه دون الجوارح والعدد، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ (2). . .) إلى قوله: (لِبَعْضٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الآية نزلت في أبي بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - اختلفا في شيء بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فارتفعت أصواتهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنها نزلت في قوم كانوا إذا سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن شيء قالوا فيه قبل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وعندنا: لا يحتمل أن يكون ما ذكر من رفع الصوت فوق صوت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والجهر بالقول له، وما ذكر من التقدم بين يدي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الأمر والنهي أن يكون الخطاب بذلك للذين صحبوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واتبعوا أمره ونهيه؛ إذ لا يحتمل منهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته ويجهروا له بالقول أو يقدموا بين يديه في أمر ولا نهي إلا عن سهو، أو غفلة، أو إذن منه بالمناظرة والمحاورة في العلم، فعند ذلك ترتفع أصواتهم؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان أجل في قلوبهم وأعظم قدرًا من أن يتجاسروا التقدم بين يديه بأمر، أو قول، أو رفع صوت، أو جهر القول له، فتكون الآية في أهل الشرك أو في أهل النفاق، واللَّه أعلم. ثم إن كان الخطاب بذلك للذين آمنوا فهو على وجهين: أحدهما: أن ذلك منه ابتداء محنة امتحنهم بذلك وأمرهم به من غير أن كان منهم شيء من ذلك من التقدم بين يديه، ورفع الصوت، والجهر له بالقول، ولله - تعالى - أن يمتحن ويأمر وينهى من شاء بما شاء ابتداء؛ امتحانًا منه لهم، وهو ما ذكرنا من نهي الرسل - عليهم السلام - عن الشرك والمعاصي وإن كانوا معصومين عن ذلك؛ لأن العصمة لا تمنع النهي؛ لأن العصمة إنما تكون عصمة إذا كان هناك أمر ونهي؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من النهي عن التقدم، والرفع بالصوت، والجهر بالقول، وإن لم يكن منهم شيء مما ذكر ابتداء محنة منه لهم، واللَّه أعلم. ويحتمل أنه خاطب هَؤُلَاءِ الصحابة - رضي اللَّه عنهم - بذلك؛ ليتعظ بذلك من يشهد مجلسه من المنافقين وغيرهم من الكافرين؛ إذ كان يشهد مجلسه أهل النفاق وسائر الكفرة؛ لئلا يعاملوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمثل معاملة بعضهم بعضا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) ذكر هذا؛ ليكونوا أبدًا [متيقظين] بين يدي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حذرين، معظمين له في كل وقت؛ لئلا يكون منهم في وقت من الأوقات ما يجري مجرى الاستخفاف به والتهاون على السهو والغفلة فيحبط ذلك أعمالهم؛ لأن هذا الصنيع برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يكفر صاحبه، ولا يكون معذورًا، وإن فعله على السهو والغفلة؛ لأن له قدرة الاحتراز، وأمكن التحذر، وإن كانوا معذورين فيما بينهم على غير التعمد والقصد، ولا مؤاخذة لهم برفع اللَّه - تعالى - المؤاخذة عنهم فيما بينهم، ولم يرفع في حق النبي - عليه أفضل الصلوات - مع أن الكل في حد جواز المؤاخذة، واللَّه أعلم. وذكر الكرابيسي فقال: ومن حكمة الآية عند قوم حبوط الأعمال بالكبائر؛ على ما روي عن الحسن قال: أما يشعر هَؤُلَاءِ الناس أن عملا يحبط عملا، واللَّه يقول: (يَا أَيُّهَا

(3)

الَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية. وقيل: المراد من الآية أن يتأذى بشؤم تلك المعصية إلى أن يهون عليه ارتكاب الكبيرة، يستحقرها حتى يخف عليه الكفر فيكفر؛ فتصير المعصية الأولى -وإن قلت- سببًا لحبوط ثواب أعماله، فإن أساس كل خطير حقير. ونحن نقول: إن المعصية لا تحبط الطاعة، ولكن هو استخفاف بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ونحو ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) دلت هذه الآية أن الآيتين اللتين تقدم ذكرهما من قوله - تعالى -: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)، وقوله: (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) في أهل النفاق، فأما أصحابه الذين صحبوه وآمنوا به، وعرفوا أنه رسول، رب العالمين، فلا يحتمل أن يكون منهم ما ذكر من رفع الصوت عنده، وجهر القول له، والنداء له باسمه من بُعْدٍ، إنما ذلك به فعل من ذكرنا من أهل النفاق والشرك، فأما الذين آمنوا به وصدقوه وعرفوا أنه رسول فلا يحتمل منهم سوى التعظيم له، والتوقير، والتشريف؛ لما عرفوا أن نجاتهم وشرفهم وعزهم في الدنيا والآخرة بتعظيمه وتوقيره، فكيف يحتمل عنهم ذلك؟ بل كانوا لا يتجاسرون التكلم بين يديه فضلا من أن يرفعوا أصواتهم، ويقدموا بين يديه، أو النداء من بعد، والله الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) هذا وصف المؤمنين، امتحن قلوبهم للتقوى فوجدها صافية خالصة لذلك، والامتحان - هاهنا - هو التصفية والإخلاص؛ يقال: امتحن الذهب: إذا أخلص وصفى الصافي منه والخالص من غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) هذا وصف من ذكرنا من أهل الشرك والنفاق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن نفرا من الأعراب جاءوا، وقالوا: ننطلق إلى هذا الرجل - يعنون: محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - - فإن يكن رسولا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكًا نعيش في جناحه، فأتوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فجعلوا ينادونه من وراء الحجرات: يا مُحَمَّد؛ فنزلت هذه الآية.

(5)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سبى ذراري بني تميم ونساءهم، فأتوا يطلبون منه تخلية سبيل أُولَئِكَ وإعتاقهم وردهم إليهم، فنادوه من وراء حجرات، فأعتق بعضهم، وفدى بعضًا؛ فنزلت الآية. وقوله: (أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ). وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ... (5) لأن ذلك أعظم لقدره، وأجل لمنزلته، وأعرف لحقه، وأحفظ لحرمته. ثم قوله: (أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) يحتمل وجوهًا: أكثرهم لا يعرفون قدره ومنزلته، وإن كان قليل منهم يعرفون ذلك، وهم المؤمنون. والثاني: أكثرهم لا ينتفعون بما يعقلون. والثالث: أكثرهم لا يعقلون أنه رسوله، وهم الأتباع والسفلة من الكفرة، وإنما يعرف القليل منهم، وهم الرؤساء المعاندون. وفي هذه الآية وفي قوله - تعالى -: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) دلالة أن قد يلحق المرء حكم الكفر ويحبط العمل إذا خرج مخرج الاستخفاف وإن لم يعلم به ولم يقصد، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) جميع أهل التأويل أو عامتهم على أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى بني المصطلق، وإلى قوم سواهم؛ لجباية الصدقات، وكان بينه وبين أُولَئِكَ القوم عداوة في الجاهلية، فخرجوا يتلقونه، فخافهم، فرجع، فقال: إن القوم قد منعوا الصدقات، فبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إليهم بعد ذلك خالد بن الوليد لجباية الصدقات، فوجدهم يصلون ويعملون الطاعات، واجتمعوا وجمعوا له الصدقات وجبوها وسلموها إليه، فرجع إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بها، فنزل قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ

فَتَبَيَّنُوا) لكن إن كان ما ذكروا فلم يكن في ذلك النبأ التثبت؛ لأن الآية نزلت بعد نبأ الرجل. وفي الآية الأمر بالتثبت في نبأ الفاسق فيما يحدث من الأمور من بعد؛ فدل أن الآية نزلت لبيان الحكم في نبأ الفاسق ابتداء، واللَّه أعلم. ولأنه يحتمل أن يكون ذلك الرجل منافقًا ولم يأمر اللَّه - تعالى - بالتثبت في خبر المنافق، ولم يشرع ذلك؛ لأن النفاق يكون في الضمير فلا يظهر ذلك؛ فأما الفسق فإنه يظهر فأمر لنا بالتثبت فيه؛ فدل أن الآية لم تنزل في ذلك الرجل؛ إذ لا يحتمل عن المنافق أن يزور على المسلمين مثل ما ذكر منه دل أن ما قاله أهل التأويل فيه وهم. ثم في الآية دلالة قبول خبر الواحد إذا كان عدلا؛ لأنه لو لم يقبل خبره إذا كان عدلا لم يكن لذكر الفسق فائدة سوى الشتم، والشتم سفه؛ فلا يجوز أن يوصف اللَّه - تعالى - به فدل ذكر الفسق على أن هذا الحكم وهو رد الشهادة مختص باسم الفسق، وأن العدل لا يشاركه فيه حتى لا يكون ذكر الفسق سفهًا لما تعلق به بيان حكم شرعي يختص بالفاسق، ولا يعرف ذلك دون ذكره، فأما متى كان الحكم عامًّا في الفاسق والعدل عند الانفراد، فكان ذكر الفاسق مع شتمه لا يليق بالحكمة؛ فدل ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) أي: تصيبوا قومًا بجهالة في الظاهر بسبب تهمة الفسق، فأمَّا في الحقيقة فإنه يجوز أن تصيب ذلك بخبر الواحد، لكن الأحكام وقبول الأخبار فيما بين الخلق لم توضع على الحقائق، وإنما وضعت على الظواهر، وكذلك قبول الشهادات، والحكم بها، وجميع الشرائع التي جعلت في الناس إنما هو على الظواهر من الأحوال والأمور، فأما على إصابة حقيقة ذلك فلا؛ إذ قد يجوز أن يحكم الحاكم ويقضي بقتل إنسان ويقطع يده بشهود عنده؛ لما ظهرت عنده عدالتهم، ولم يكن -في الحقيقة- كذلك، وعلى ذلك قول يعقوب - عليه السلام - لبنيه: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ)، لم يأمن عليهم بما

(7)

ظهر له منهم زلة وجناية حين طلبوا منه إرساله ولده يويسف - عليه السلام - في الرعي؛ بل قال هنالك: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)، إنما اعتل عليهم واحتج بأكل الذئب ولم يتهمهم فيه بما لم يكن ظهر له منهم زلة وجناية، فلما ظهر ذلك منهم اتهمهم، وأخبر أنه لا يأمن عليهم بما ظهر له من زلتهم؛ فدل أن التهمة سبب الردّ، وأنه يجب التثبت بدفع الجهالة من حيث الظاهر، لا للحقيقة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) أي: نادمين بما فعلوا على خلاف ما كان في الظاهر، ويندمون لما تركوا التثبت في الخبر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ... (7) أي: لأثمتم. من الناس من احتج بهذه الآية على أن الإجماع ليس بحجة، وقالوا: لو كان لإجماعهم حجة، لكان لا يأثمون لو أطاعهم في كثير من الأمر؛ لأن الحق والصواب مما لا يوجب الإثم لصاحبه فيمن تبعه في ذلك الصواب، ولكن إن كان لا يوجب الثواب دل أنه ليس بحجة يجب اتباعه. ولكن هذا فاسد؛ لأن الحجج والبراهين لم تكن انتهت يومئذ غايتها، ولا أتت على نهايتها، فالإجماع الذي هو إجماع حجة عندنا ويجب اتباعه والانقياد له هو إجماع من استوعب الحجج والبراهين، وأتى على عامتها، أو على الجميع، وكان الوقت وقت نزول الوحي، وإنما تستقر الأحكام بوفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما ينقطع الوحي؛ فيستدل على استيعاب الحجج ونزول جميع ما يحتاج الناس إليه من حيث الإيداع في النصوص، فمتى اجتمعوا على ذلك يكون حجة، ولأنه لا إجماع يتحقق دون رأي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإذا وجد رأيه استغنى عن رأي الغير؛ لما كان ينطق عن الوحي، فإذا لم يكن وقت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - زمان انعقاد الإجماع حجة فبطل استدلالهم بالآية. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) أرسل إليكم ليزيل عنكم إشكالكم وشبهاتكم، فلا عذر لكم في الكفر واعتراض الشبه لكم بما تقدرون أن تسألوه ما أشكل عليكم واشتبه، فيخبركم بذلك فيزيل الشبه عنكم. والثاني: يحتمل: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) يطلع اللَّه - تعالى - إياه على ما تضمرون في أنفسكم، وما تولدون من الأخبار التي لا أصل لها ولا أثر ما لو أظهر ذلك لافتضحهم، وهو صلة ما ذكر من قوله: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)، واللَّه أعلم. ويحتمل: أي: فيكم رسول اللَّه تسألونه ما أشكل عليكم، فيخبركم بالحق والأمر على

الحقيقة كي لا تصيبوا قومًا بجهالة، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) فإليه الرأي والتدبير في الأمور، ومن رأيه وتدبيره يجب أن يصدر، لا عن رأي أنفسكم وتدبيركم، وعلى ذلك يخرج قوله: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ)، على الوجوه التي ذكرنا، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي: لو يطيعكم فيما تدعو إليه أنفسكم من التمويهات والشبهات وهواها. أو يقول: لو يطيعكم في الصدور عن آرائكم وتدبيركم في الأمور لعنتم، ثم قال: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) هذا في الظاهر كناية غير موصولة بقوله: (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)؛ لأنه لا يليق ذلك إلا على الإضمار، كأنه يقول: لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم، وإن اللَّه قد أرسله إليكم رسولا، وحبب إليكم الإيمان به وزينه في قلوبكم حتى صار هو في قلوبكم أحب من أنفسكم ومن كل شيء، فالواجب عليكم أن تصرفوا الأمر إلى رأيه وتدبيره، وأن تصدروا عن رأيه، ولا تعتمدوا على رأي أنفسكم وتدبيركم، واللَّه أعلم. ويحتمل: أي: لا تدعوه إلى أن يطيعكم فيما تهوى به أنفسكم، واشتهت بعدما حبب الإيمان إليكم وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر وما ذكر، واللَّه أعلم بحقيقة جهة وصل هذا بالأول. ثم يحتمل وجهين أيضًا: أحدهما: لو يطيعكم الرسول في كثير من الأمر لعنتم، ولكن اللَّه - تعالى - ألزمكم طاعته في كل أمر، فأطيعوه ولا تطلبوا منه طاعته إياكم في الأمور، ولكن أطيعوه أنتم في الأمور كلها، وقد حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق -وهو الخروج عن أمره- والعصيان. والثاني: يشبه أن يكون موصولا بقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)، و (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)، ثم قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) كأنه يقول: أُولَئِكَ الذين امتحن اللَّه قلوبهم للتقوى، وحبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)، أخبر وشهد لهم بالرشاد، وأخبر أن ذلك فضل منه إليهم ونعمة، لا شيء كان منهم استوجبوا

(8)

بذلك؛ فذلك قوله: (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8). ثم قالت المعتزلة في قوله - تعالى -: (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) وما ذكر، يقولون: لم يحبب الإيمان إلى هَؤُلَاءِ إلا وقد حبب مثله إلى جميع الكفار، وكذلك لم يكره الكفر إلى هَؤُلَاءِ إلا وقد كره مثله إلى جميع الناس، لكن المراد تخصيص هَؤُلَاءِ بما ذكر من التحبيب إليهم الإيمان، وتكريه الكفر هو اختصاصهم بما وعد من الثواب والجزاء الجزيل على الإيمان والمواعيد الشديدة، فحببه وزينه في قلوبهم بما وعد لهم من الثواب، وكره الكفر والعصيان إليهم بما أوعد على ذلك من العذاب العظيم. لكن هذا فاسد؛ لأنه ليس مؤمن به صار حب الإيمان في قلبه لما ذكروا من الثواب والجزاء، ولا كافر أسلم حين أسلم يخطر ثواب الإيمان في قلبه حتى يكون إسلامه لذلك؛ بل كان في قلبه بغض الإيمان قبل الإسلام، فإذا أسلم وجد حبه في قلبه، وكراهة الكفر؛ ليعلم أن ذلك يكون بلطف من اللَّه - تعالى - كان عنده، فإذا أعطاه صار ما ذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ... (9). قَالَ بَعْضُهُمْ: كان بين رجلين مدارة -أي: منازعة- في شيء، فغضب قوم كل رجل حتى كان بينهم خفق بالنعال والأيدي، فنزلت الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان بين الأوس والخزرج قتال بالعِصِي؛ فنزلت عنده الآية بالأمر بالصلح بينهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قتالهم بالعِصِي، والتناجي، ونحوهما. وقال الحسن: إن قومًا من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي، فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية في ذلك. وقال قتادة: كان بين رجلين حق فتدارا فيه، فقال أحدهما: [لأخذته عنوة]-لكثرة عشيرته- وقال الآخر: بيني وبينك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي. وجائز أن تكون الآية فيما كان بين عليَّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبين

الحرورية وأهل النهروان؛ ذكر أن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما قتلهم فقال الناس: هم مشركون، فقال - عليه السلام -: من الشرك فروا، فقالوا: فمنافقون هم؟ قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن المنافقين لا يذكرون اللَّه إلا قليلا، قالوا: فما هم؟ قال: هم ناس بغوا علينا فقاتلونا فقاتلناهم. ويحتمل أنه كان فيما كان بين علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعاوية يوم الجمل ويوم صفين؛ ذكر عن جعفر بن مُحَمَّد عن أبيه أن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمع رجلا يقول يوم الجمل: هم كفروا، فقال: لا تقل ذلك، ولكن هَؤُلَاءِ قوم بغوا علينا، وزعموا أنا بغينا عليهم، فقاتلناهم على ذلك. لكن في الآية الأمر بالصلح إذا كان بينهم -أعني: المؤمنين- اقتتال بأي شيء كان بقوله - تعالى -: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) وكذلك أمر في غير آي بالصلح والإصلاح، قال: يقال: وأصلحوا ذات بينكم، أي: بين المؤمنين. وهذه الآية حجة على المعتزلة والخوارج، فإنه أبقى اسم الإيمان بعد ما كان منهم الاقتتال والبغي، والقتال والبغي مع أهل الإسلام من الكبائر دل أن الكبيرة لا تخرج عن الإيمان، ولا توجب الكفر، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) أي: فإن ظلمت إحدى الطائفتين وطلبت غير الحق (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أي: تظلم وتجور (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) حتى ترجع إلى أمر اللَّه، وإلى الحق، أمر بمعونة الطائفة التي لم تبغ والانتصار لها من الباغية، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ)، وعد - عَزَّ وَجَلَّ - النصر لهم، فيحتمل أن يكون ذلك النصر الموعود في الدنيا، ويحتمل في الآخرة. وفي الآية الأمر بقتال أهل البغي من غير قيد بين السيف وغيره بقوله: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) لكن متى أمكن دفع البغي وكسر منعتهم بغير السلاح فهو الحق، وهو الواجب، لكن إذا لم ينقلعوا عن البغي إلا بالقتال مع السيف فلا بأس به، فإن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قاتل الفئة الباغية بالسيف ومعه كبراء الصحابة - رضي الله عنهم - وأهل بدر، وكان هو محقًّا في قتاله إياهم دل أنه لا بأس بقتالهم بالسيف. وبعضهم قالوا: إن قتال البغاة لا يجوز بالسيف، وقالوا: إن سبب نزول الآية في القتال بالعِصِي والنعال، ولكن لا حجة لهم فيها؛ لأن القتال بين الفئتين وإن كان بالنعال والعصي

(10)

ولكن لم يصيروا بغاة في تلك الحال، وهو القتال الذي أمر اللَّه تعالى فيه أن يصلح بينهم، وإنما يصيرون بغاة بأن لم يجيبوا إلى الصلح ولم يقبل أحد من الطائفتين الصلح، وحينئذ أمر بالقتال معهم مطلقًا من غير قيد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) ذكر أنها وإن فاءت ورجعت إلى ما أمر اللَّه - تعالى - به لا يتركوهما كذلك بغير صلح، ولكن أصلحوا بينهما وألفوا حتى يتآلفوا؛ لأن أهل الإسلام ندبوا إلى التآلف بينهم والجمع، وشرط فيه الصلح بالعدل، فهو - واللَّه أعلم - يقول: إنكم وإن رأيتم صلاحهم في الصلح فلا يحملنكم ذلك على الصلح الذي ليس فيه عدل، ولكن أصلحوا بينهم بالعدل، ولا تجاوزوا الحدّ، وأكد ذلك قوله: (وَأَقْسِطُوا) أي: اعدلوا في الصلح (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي: العادلين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بإصلاح ذات البين بين المؤمنين بقوله: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)، وأمر بالإصلاح بين الطائفتين من المؤمنين إذا اقتتلوا وتنازعوا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) وأمر بالإصلاح بين الآحاد والأفراد بقوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)؛ لأن الإيمان يوجب التآلف، وبالتآلف ندبوا، وإليه دعوا، وبه منَّ اللَّه - تعالى - علينا؛ حيث قال: (مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)، وقال في آية أخرى: (وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، أمر بالتأليف والاجتماع، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، وأمر المؤمنين جملة أن يصلحوا ذات بينهم إذا وقع بينهم تنازع واختلاف واقتتال على ما ذكر، واللَّه أعلم. ثم من الناس من استدل بقوله - تعالى -: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) على أن اسم الطائفة يقع على الواحد فصاعدًا، فقال: إنه ذكر في أول الآية: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، وقال في آخره: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فدل أن اسم الطائفة يقع على الواحد فصاعدًا، فقال: فيستدل بهذا على أن في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)، يراد به الواحد؛ فيدل على لزوم خبر الواحد العدل. لكن عندنا ما ذكر أنه أمر بإصلاح ذات البين بين جملتهم، وأمر بالصلاح بين فريقين، وأمر بذلك بين الآحاد والأفراد، وليس في قوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) دلالة أنه أراد به

(11)

الأخوين، أو ذكر (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، وأراد به الاثنين اللذين كان الاقتتال بينهما، وفيهما هاج القتال بينهم، فأما أن يكون اسم الطائفة يقع على الواحد فلا؛ بل هو في اللغة وعرف اللسان على الجماعة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي: اتقوا مخالفة أمر اللَّه لكي تقع بكم الرحمة، أو لكي يلزمكم الرحمة. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) ظاهر الآية نهي للجماعة عن سخرية جماعة؛ لأن السخرية إنما تقع وتكون في الأغلب بين قوم وقوم، وقلما تقع بين الأفراد والآحاد؛ فعلى ذلك جرى النهي، ولكن يكون ذلك النهي للجماعة والأفراد والآحاد جميعًا، واللَّه أعلم. ثم يحتمل السخرية المذكورة في الآية وجهين: أحدهما: في الأفعال، يقول: لا يسخر قوم من قوم في الأفعال عسى أن يكونوا خيرًا منهم في النية في تلك الأفعال أو خيرًا منهم؛ أي: أفعالهم أخلص عند اللَّه من أفعال أُولَئِكَ، وأقرب إلى القبول. والثاني: سخرية في الخلقة، وذلك راجع إلى منشئها، لا إليهم، وهم قد رضوا بالخلقة التي أنشئوا عليها، وعسى أن يكونوا هم على تلك الخلقة عندهم خيرًا منهم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) يحتمل وجهين: أحدهما: عسى أن يصيروا من بعدهم خيرًا من تلك الأحوال والأفعال التي هم عليها اليوم. والثاني: عسى أن يكونوا هم عند اللَّه خيرًا منهم في الحال؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) أخبر أن الأكرم منهم عند اللَّه - تعالى - هو أتقاهم، لا ما افتخروا بما هو أسباب الفخار عندهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) ذكر سخرية نساء من

نساء؛ لأن النساء ليس لهن اختلاط مع الرجال حتى تجري السخرية بينهم، وإنما الاختلاط في الغالب بين الجنس يكون، فعلى ذلك جرى النهي بالسخرية، واللَّه أعلم. ويحتمل أنه خص هَؤُلَاءِ بهَؤُلَاءِ كما خص القصاص في قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ. . .) الآية، ثم جمع بين الأحرار والعبيد، والذكور والإناث بالمعنى الذي جمعهم فيه، وهو ما ذكر: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)، أبان عن المعنى الذي به وجب القصاص فيما بينهم، فاشتركوا جميعًا في ذلك: الأحرار والعبيد، والذكور والإناث، فعلى ذلك ذكر المعنى الذي به نهاهم عن السخرية، وهو ما ذكر (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) فذلك المعنى يجمع سخرية الرجال من النساء، وسخرية النساء من الرجال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) واللمز: هو الطعن. ثم منهم من يقول: هو الطعن باللسان. ومنهم من يقول: بالشدق والشفة. ومنهم من يقول: بالعين؛ وحاصله هو الطعن فيه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: اللمز: هو العيب؛ أي: لا تعيبوا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو شبه العيب. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْفُسَكُمْ) يحتمل وجهين: أحدهما: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي: تذكروا مساوئ أنفسكم عند الناس. وفيه الأمر بالستر عليهم وعلى أنفسهم، وألا يهتكوا سترهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) أي: لا تدعوا بالألقاب، والنبز: اللقب؛ يقال: نبزت فلانًا: أي: لقبته، وفي الحديث: " قوم نبزهم الرافضة " أي: لقبهم، ولو قال: (وَلَا تَنَابَزُوا) لكان كافيًا، لكن كأنه قال: ولا تظهروا ألقابهم فيسوءهم ما أظهرتم من اللقب، واللَّه أعلم. ثم قال بعض أهل التأويل: إنما نهوا عن ذلك؛ لأنهم يسمونهم بعد إسلامهم بالأفعال التي كانوا يفعلون في حال جاهليتهم من الكفر والفسوق، ويلقبونهم بذلك،

(12)

ويقولون: يا كافر، يا فاسق، ونحو ذلك، ودل على ذلك قوله - تعالى -: (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ). وجائز أن يلقبوا بذلك وبغيره من الألقاب، فنهوا عن أن يسموهم بغير أسمائهم التي كانت لهم، وأن يعرفوا بأسمائهم التي لهم، ونهوا عن التعريف بالألقاب وتغيير الأنساب والأسماء التي لهم إذا كان التعريف بذلك يسوءهم ويغيظهم، واللَّه أعلم. ثم قال اللَّه - تعالى -: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي: واضعون الشيء في غير موضعه، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذكرنا؛ أي: بئس النسبة إلى الفسق التي كانت والتسمية بها بعد الإيمان إلى الاسم والفعل الذي كان له ومنه قبل الإيمان؛ كأنه قال: لا تسموهم بتلك الأسماء بعد الإيمان، واللَّه أعلم. والثاني: (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) أي: بئس ما اختار من اسم الفسق بعدما كان اختار اسم الإيمان وفعله، فهذا يرجع إلى اختيار الفسق بعد الإيمان، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12). هاهنا أسماء ثلاثة يجب أن يتعرف ما محلها؟ وما قدرها؟ وكيف أسبابها؟ أحدها: الظن، والثاني: الشك، والثالث: العلم واليقين. أما الظن فكأنه هو الذي له ظاهر الأسباب التي لها خوف الزوال والانتقال. والشك هو الذي فقد ظاهر أسبابه، أو له استواء الأسباب، ومقابلة بعضها بعضًا، فهو المتردد بين الحالين، لا يقر قلبه على شيء. واليقين هو الذي له الأسباب الظاهرة التي ليس لها خوف الزوال والانتقال، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) كأنه نهى أن يحقق أو يعمل في صاحبه بسوء على ظاهر الأسباب التي هي على شرف الزوال وطرف الانتقال يجوز أن تكون غير متحققة في الأصل أو زائلة، واللَّه أعلم. ثم في الآية دليل على أنه ليس كل ظن يجتنب عنه، ولا كل الظن يكون إثما؛ لأنه استثنى منه بعضه بقوله: (بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فجائز أن يكون ما استثنى من الظن، ولا يأمر بالاجتناب عنه هو ما يغلب عليه الأسباب، وغالب الأسباب ربما تعمل عمل العلم واليقين بحق المكره على شيء يرخص له أو يباح العمل إذا رأى من ظاهر حال المكره أنه فاعل به

(13)

ما أوعده، وإن كان يجوز ألا يفعل به أو لا يقدر على ما أوعده، وعلى ذلك موضوع عامة الأحكام والشرائع بين الخلق أنها على غالب الظن وضعت ليس على التحقيق، والله أعلم. ويحتمل أن يرجع ما استثنى من الظن القليل الذي لا إثم فيه إلى الظن الحسن؛ إذ يجوز أن يظن بالإنسان الظن الحسن؛ ولا إثم فيه، إنما الأمر بالاجتناب إلى الظن بالسوء على غير تحقق أسباب أو غير تحقيق عين ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجَسَّسُوا) التجسس: هو تكلف طلب المساوئ في الناس من غير أن يظهر منهم من أسبابها شيء، فنهى عن تكلف طلب ذلك أو من الإظهار وأمر بالستر، وبمثل ذلك روي في الأخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قيل له: هل لك في فلان يعطر لحيته خمرًا، فقال عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن يظهر لنا شيء نأخذه، وإلا فإن اللَّه - تعالى - قد نهانا عن التجسس، واللَّه أعلم. وفرق بعضهم بين التجسس والتحسس، فقَالَ بَعْضُهُمْ: بالجيم في الشرور والمساوئ، وبالحاء في الخير وفيما يباح طلبه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) الغيبة ترجع إلى وجهين: أحدهما: أن يذكر ما فيه من مساوئ الأفعال التي سترها عن أعين الناس مما يكره إظهار ذلك عنه. والثاني: يذكر ما فيه من قبح الأحوال والأخلاق التي لا يكاد يذكر ذلك منه أو يظهر، وعلى ذلك روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى أن يذكر الرجل أخاه بما فيه مما يكره، فقيل: إنما كنا نذكره بالشيء الذي فيه، لا بما ليس فيه، قال: " ذلك البهتان ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) أي: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد موته، فكأنه يقول: فإذا لم يحب هذا وكرهه؛ بل يستقذره كل استقذار فالغيبة هي تناول من أخيك وهو حي، فهو في القبح يبلغ التناول منه بعد موته، فإن كان لا أحد يتناول من لحم أخيه بعد موته، لا في حال اختياره، ولا في حال اضطراره، فلا تغتابوا ولا تذكروا منه ما فيه؛ فإنه في القبح ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ... (13) تأويل الآية على وجهين:

أحدهما: إنما خلقناكم جميعًا من أصل واحد، وهو آدم وحواء - عليهما السلام - فيكونون جميعًا إخوة وأخوات، وليس لبعض الإخوة والأخوات الافتخار والفضيلة على بعض بالآباء والقبائل التي جعلنا لهم، إنما القبائل وما ذكر للتعارف والفضيلة والكرامة فيما ذكر (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) مع ما لو كان في ذلك فضيلة وافتخار، فالكل في النسبة إليهم على السواء؛ فلا معنى لانفراد البعض بالافتخار. والثاني: يحتمل: إنا خلقنا كل واحد منكم من الملوك والأتباع، والحر والعبد، والذكر والأنثى من ماء الذكر والأنثى، فليس لأحد على أحد من تلك الجهة التي يفتخرون بها الافتخار والفضيلة؛ إذ كانوا جميعًا من نطفة مذرة منتنة تستقذرها الطباع. ذكر هذا؛ ليتركوا التفاخر والتطاول بالأنساب والقبائل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، ثم اختلفوا في تأويل قوله: (شُعُوبًا وَقَبَائِلَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: الشعوب أكبر من القبائل، فالشعوب هم الأصول، والقبائل: الأفخاذ منهم، فالشعوب للعرب، والأمم والقرون للعجم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشعوب للعجم، والقبائل للعرب. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الشعوب: الضروب، وهي القبائل، والواحد: شعب، والشعب الاجتماع؛ يقال: شعبت الإناء: إذا انكسر فجمعته وأصلحته، ويسمى من يصلح الإناء: شَعَّابًا، والشعب: التفريق - أيضًا - والشعوب: المنية، ونحو ذلك. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَعَارَفُوا) أي: جعل فيكم هذه القبائل؛ ليعرف بعضكم بعضًا بالنسبة إلى القبائل والأفخاذ؛ فيقال: فلان التميمي والهاشمي؛ إذ كل أحد لا يعرف بأبيه وجده. ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) بين اللَّه - تعالى - بما به تكون الفضيلة والكرامة، وهو التقوى، لا فيما يرون ويفتخرون بذلك، وهو النسبة إلى الآباء والقبائل؛ بل ذلك لما ذكر من التعارف؛ وهذا لأن التقوى فعله، وهو إتيان الطاعات والاجتناب عن المعاصي، وذلك مما يأتيه تعظيمًا لأمر اللَّه - تعالى - ونهيه. وجائز أن تنال الفضيلة والكرامة بفضل اللَّه وكرمه بناء على فعله، فأمَّا ما لا فعل له في التولد من آباء كرام فأنى يستحق الفضل بذلك لو كان افتخارًا بما يكون للآباء بمباشرتهم

(14)

أسباب حصول الأولاد ليوحدوا اللَّه - تعالى - ويتمسكوا بطاعته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) على الوعيد. * * * قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) هذه الآية وإن خرجت على مخرج العموم، ولكن أراد بها الخاص، وهو بعض الأعراب؛ إذ في الإجراء على العموم يؤدي إلى الكذب في خبر اللَّه - تعالى - عن ذلك؛ إذ لا كل الأعراب قالوا ذلك، ولا كل الأعراب يجب أن يقال لهم: لم تؤمنوا، ولكن يقال لهم: قولوا: أسلمنا، فهو يرجع إلى خاص من الأعراب، فكأنه يرجع إلى أهل النفاق منهم، فإنهم أخبروا أنهم آمنوا، ولما آمنوا فلما أطلع اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله أنهم لم يؤمنوا، ولكنهم استسلموا وخضعوا للمؤمنين ظاهرًا؛ خوفًا من معرة السيف، وطمعًا فيما عند المسلمين من الخير، فنهاهم أن يقولوا: آمنا، إذا لم يكن في قلوبهم ذلك، وأمرهم أن يقولوا: أسلمنا، ومعناه ما ذكرنا؛ أي: خضعنا واستسلمنا، ليرتفع عنهم السيف. ولا يصح الاستدلال بالآية على أن الإسلام والإيمان غيران، فإنه غاير بينهما؛ حيث نهاهم أن يقولوا: آمنا وأمرهم أن يقولوا: أسلمنا، ولو كانا واحدًا لم يصح هذا؛ لأنا نقول: لم يرد بهذا الإسلام هو الإسلام الذي هو الإيمان، ولكن أراد به الاستسلام والانقياد الظاهر، وهو كما يسمى: إسلامًا يسمى: إيمانًا - أيضًا - من حيث الظاهر، فأما حقيقة الإيمان والإسلام ترجع إلى واحد؛ لأن الإيمان هو أن يصدق كل شيء في شهادته على الربوبية والوحدانية لله - تعالى - والإسلام هو أن يجعل كل شيء لله سالمًا، لا شركة لأحد فيه، فمتى اعتقد أن كل شيء في العالم لله - تعالى - وهو الخالق له، وكل مصنوع شاهد ودليل على صانعه فقد صدقه في شهادته على صانعه، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) الإيمان ليس هو محسوسًا مركبًا يدخل في القلب أو لا، ولكن معناه: نفى فعل القلب، وهو التصديق؛ كأنه قال: ولم تؤمن قلوبهم؛ على ما ذكر في آية أخرى (قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).

ثم هاتان الآيتان تنقضان على الكرامية مذهبهم في أن الإيمان لا يكون بالقلب، ولكن باللسان والقول، فإن أهل النفاق قد قالوا ذلك بلسانهم، ثم أخبر أنهم لم يؤمنوا، وهم يقولون: بل قد آمنوا. فيقال لهم: (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)، (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ). وفي هذه الآية آية عظيمة على رسالته؛ حيث قال له: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) وقد قال لهم - عليه الصلاة والسلام - ذلك، ولم يتهيأ لهم إنكار ذلك القول، فعرفوا أنه باللَّه عرف ذلك، ولم يظهروا ما في ضميرهم خوفًا من السيف ليعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) جائز أن تكون الآية صلة ما ذكر في سورة الفتح للمنافقين بعد تخلفهم عن أمر الحديبية مع المؤمنين؛ حيث قال: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)، وما ذكر من أمرهم في غير آي من القرآن، يقول: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) يقول: إن تطيعوا الله ورسوله فيما يدعوكم الرسول إلى الخروج إلى الجهاد والقتال بعد تخلفكم عن الحديبية لا ينقصكم من أعمالكم التي كانت لكم شيئًا، واللَّه أعلم. ويحتمل وإن تطيعوا اللَّه ورسوله بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يلتكم من أعمالكم شيئًا، أي: لم ينقصكم من أعمالكم التي عملتموها من قبل، ولم تضلوا أعمالكم التي عملتم من بعد، وإن عصيتموه وتخلفتم عنه في حياته؛ لأنه قال: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)، قد كان نهاهم عن الخروج معه للغزو أبدًا، فيقول: إن تطيعوا بعد وفاته وتجاهدوا في سبيل اللَّه لم يلتكم من أعمالكم شيئًا؛ بل يقبل ذلك منكم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون في المنافقين، فيكون فيها وعد المغفرة للمنافقين إذا تابوا وأطاعوا اللَّه ورسوله، كما وعد المغفرة لجميع الكفرة إذا تابوا عن الكفر بقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، فعلى ذلك هذا، وهو كقوله تعالى: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، واللَّه أعلم. قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في جميع المؤمنين: إن من أطاع اللَّه ورسوله لا ينقصكم من أعمالكم شيئًا؛ أي: لا يضيع أعمالكم؛ بل يثيبكم؛ كقوله - تعالى -: (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ)، أي: من عمل لله لا يضيع، ومن عمل لغيره قد يضيع، فلا يظفر

(15)

على ثوابه بشيء. ويحتمل أن تكون الآية في المؤمنين الذين أسلموا؛ يقول: إذا أسلمتم فلم ينقصكم من ثواب أعمالكم ما سبق منكم من الكفر، وهو كقوله - تعالى -: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ظاهر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) كأن هذا ذكر مقابل ما تقدم من قول المنافقين؛ حيث قال: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا)، فقال لهم: قل: لم تؤمنوا أنتم، إنما المؤمنون هَؤُلَاءِ، ثم نعتهم فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أخبر أن هَؤُلَاءِ هم الصادقون في إيمانهم، وأنتم يا أهل النفاق بحيث أضمرتم الخلاف له ولم تجاهدوا معه فلستم بصادقين في إيمانكم، فجعل الجهاد دليل ظهور الصدق في الإيمان، لا أنه من شرائط الإيمان الذي لا يجوز الإيمان الذي دونه. ويحتمل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)؛ أي: صدقوا اللَّه ورسوله سرًا وعلانية على الحقيقة، لا الذين أظهروا ولم تكن قلوبهم مصدقة لذلك كالمنافقين؛ ألا ترى أنه قال: (ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا) أي: لم يشكوا في حادث الوقت؛ بل جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللَّه؛ إظهارًا لتحقيق الإيمان وصدقه، وليسوا كالمنافقين الذين ارتابوا وشكوا في إيمانهم، وتخلفوا عن الجهاد مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم. ثم قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) كأنه صلة قوله - تعالى -: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا) حيث قالوا ذلك بألسنتهم، وليس ذلك في قلوبهم، فأخبر أنه يعلم ما في قلوبهم من الإيمان والشك والخلاف، كأنهم حين قال لهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: لم تؤمنوا، فلجوّا في ذلك وقالوا: بل آمنا؛ ظنوا أنه إنما قال ذلك من دأب نفسه، فقال عند ذلك قل: (أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ) يخبر أن الذي أنبأني وأخبرني بذلك هو الذي يعلم غيب ما في السماوات وما في الأرض، وهو بكل شيء مما في القلوب من الصدق وغيره عليم، فكيف تعلمون اللَّه بأنكم مؤمنون، وهو يعلم إنكم لكاذبون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) الذي حملهم وبعثهم على الامتنان عليه بالإيمان الذي أتوا به أنهم قوم لا يؤمنون بالآخرة؛ فيظنون أنهم إذا أظهروا الموافقة لم يلحقهم بسببه مؤنة الخروج إلى القتال.

(18)

أو متى أظهروا الإيمان يصير المسلمون أعوانًا لهم، ونحو ذلك. هذا الذي ذكرنا ونحوه بعثهم وحملهم على الامتنان عليه، ولو كانوا يؤمنون بالآخرة، لعرفوا أن إيمانهم لأنفسهم؛ إذ به نجاتهم، وإليهم يقع نفعه، ليس في الإيمان لله - تعالى - نفع، ولا في تركه ضرر، تعالى عن الضرر والنفع، فيكون الامتنان لله - تعالى - عليهم كما قال: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) نقض قول المعتزلة: إنه يجب على اللَّه - تعالى - أن يهديهم؛ لقولهم بالأصلح، فإنه قال: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) ولو كانت هدايتهم واجبة عليه لا يكون له عليهم منة؛ لأنه مؤد ما عليه لهم من الحق، ومن أدى حقًّا عليه لآخر لا يكون له الامتنان على صاحب الحق، وكذلك في قوله - تعالى -: (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) لو كانت الهداية واجبة عليه لا يكون في فعله متفضلا ولا منعمًا، بل يكون لهم عليه الامتنان، ومنهم الإفضال والإنعام؛ لما عظموه وبجلوه بشيء كان عليه فعل ذلك حقًّا واجبًا لهم؛ فدل على فساد مذهبهم. وفيه دلالة أن الهداية ليست هي البيان فحسب؛ لوجهين: أحدهما: لأن هداية البيان مما قد كان في حق الكافر والمسلم جميعًا، فلا معنى لتخصيص المسلمين بهذه المنة ومثلها موجود في حق غيرهم. والثاني: أن البيان قد عم الكافر والمؤمن، وقد أخبر اللَّه - تعالى - بأن له المنة عليهم إن كانوا صادقين في إيمانهم، فلو كانت الهداية هي البيان لا غير، لكان لا يشترط فيه شرط صدقهم؛ لأن منة البيان تعم الصادقين وغير الصادقين دل أن المراد من الهداية: الإسلام، حتى تتحقق له المنة على الخصوص في حق المسلمين، واللَّه الموفق. ثم الهداية المذكورة - هاهنا - تحتمل وجهين: أحدهما: خلق فعل الاهتداء منهم. والثاني: التوفيق والعصمة؛ كأنه يقول: بل اللَّه يمن عليكم أن خلق منكم الاهتداء أو وفقكم للإيمان، وعصمكم عن ضده، وكذلك يخرج قوله - تعالى -: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) على هذين الوجهين: وفقكم له وعصمكم عن ضده، أو خلق حبه في قلوبكم وزينه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) هذا يخرج على الوعيد؛ أي: هو بصير بما أسروا وأعلنوا، ليكونوا أبدًا على يقظة وحذر، ولا قوة إلا باللَّه، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله. * * *

سورة (ق)

سُورَةُ (ق) ذكر أن سورة (ق) كلها مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) يحتمل أن يكون قوله: (ق) اسم هذه السورة، ولله - تعالى - أن يسمي السور بما شاء: (ق) كناية؛ كما سمى كتابه: قرآنًا، وزبورًا، وتوراة، وإنجيلا؛ أقسم بهذه السورة والقرآن جملة. ويحتمل أن يذكر (ق) كناية عن جميع الحروف المقطعة، والقرآن هو اسم الحروف المجموعة المقطعة؛ أقسم بالحروف المقطعة والمجموعة جميعًا. ومن الناس من يقول: إن (ق) اسم للجبل المحيط بالأرض، وهو ياقوتة خضراء أو ياقوتة حمراء، فخضرة السماء من ذلك؛ أقسم اللَّه - تعالى - به وبالقرآن. والأول أشبه وأقرب؛ لأن العرب لم تعرف جبل قاف، ولم تعرف عظمته، والقسم في الأصل لتأكيد الخبر، فإنما يتحقق بما يعرفه من أريد القسم في حقه، فأما إذا لم يعرف ولم يعظم ذلك في عينه يخرج القسم مخرج العبث تعالى اللَّه عن ذلك، إلا أن يقال: أن يكون هذا القسم في حق أهل الكتاب، فإنه قد كان لهم كتاب يعرفون ذلك، وكانت لهم رسل قد بلغتهم ذلك، وكذا الظاهر أن القسم في حق العرب فدل أن الأول أشبه. ثم هذه الحروف المقطعة لم يظهر في الأخبار تفسيرها عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بطريق التواتر والاشتهار، ولم يثبت عن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - أنهم سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فسبيله الوقف فيها؛ لأنه معلوم ألا يقف أحد على المراد بالحروف المقطعة إلا من جهة السمع، فلما لم يظهر ذلك من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دل أنهم تركوا ذلك، وإنَّمَا تركوه لوجوه: إما لأن هذه الحروف المقطعة كانت بيان أحكام في نوازل عرفوها وتركوا سؤالها؛ لما عرفوا تلك الأحكام والنوازل.

وإما أن تركوا ذلك لما كان ذلك من السرائر التي لم يطلع اللَّه - تعالى - الخلق على ذلك، وهو المتشابه الذي يجب الإيمان به، ولا يطلب له تفسير، وكأن ذلك مما اختص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمعرفته؛ لقوله - تعالى -: (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)، فلم يسألوا منه بيان ذلك. وإما أن كان ذلك عندهم أسماء السور لتعريف السور، وأسماء الأعلام لا يطلب فيها المعاني؛ لذلك لم يسألوا معانيها، ولم يرد التعليم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما أن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تركوا سؤال التفسير للآيات إما لأن في وسعهم الوصول إلى معرفة ما تضمنته الآيات، وعرفوا المراد منها باللسان، وعرفوا مواقع النوازل، ففهموا المواد، فلم يحتاجوا إلى السؤال. وإما أن تركوا لما أنها تضمنت أحكامًا عرفوها، فتركوا السؤال؛ فعلى ذلك هذا، والله أعلم. ثم ذكر القسم ولم يبين موضع القسم، واختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: موضع القسم في آخر السورة: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: موضع القسم قوله - تعالى - (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أقسم بقوله: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) بأن الكفرة في أمر مريج. ويحتمل أن يكون موضع القسم هو ما عجبوا؛ كما قال: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ. أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ذكر - هاهنا - عجبهم من شيئين: أحدهما: ما ذكر (أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي: من البشر (فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) وهو كقولهم: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، وقولهم: (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، لا يزالون ينكرون الرسالة في البشر. والثاني: من الإحياء بعد الموت؛ لقولهم (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) وقد ذكرنا في غير آي من القرآن عجبهم وإنكارهم البعث بعد الموت، فجائز أن يكون موضع القسم ما عجبوا أو أنكروا أن يكون من البشر رسول أو يحيون بعد الموت، أقسم بما ذكر من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أنه يكون ذلك ردًّا لإنكارهم وتعجبهم، والله أعلم.

ثم إنكار الكفرة وعجبهم أن كيف بُعِثَ من البشر رسول؟ أو كيف لا اختار بعث الرسل ممن عنده -وهم الملائكة- وأبدًا إنما يبعث الرسل ممن كان عند المرسل، لا ممن كان هذا مبعوثا إليهم في الشاهد إلا لمعنى، ولا ينبغي لهم أن ينكروا بعث الرسول ممن هو عند المبعوث إليهم، وإن تعجبوا منه؛ لأن بعث الرسول من جنس المرسَل إليهم والمبعوث إليهم في معرفة صدقه وحقيقة دعواه أقرب من أن يكون من خلاف جنسهم؛ لأنهم إنما يعرفون رسالته بآيات ودلالات يقيمها على رسالته بحيث يخرج عن وسعهم إقامتها، ولا يعرفون صدق تلك الآيات وحقيقتها إذا كانت تلك من غير جنسهم بما لعل أن ما آتاهم به وزعم أنها آيات ليست بآيات؛ لما في وسعه إتيان مثلها، وليس في وسعهم ذلك؛ لما أن القوى تختلف عند اختلاف الجنس؛ فدل أن بعث الرسول من جنس المرسَل إليهم أحق وأقرب إلى معرفة صدق الآيات والمعجزات، واللَّه الموفق. ولأن كل ذي نوع من نوعه، وكل ذي شكل من شكله أميل، وبه آنس من خلاف جنسه ونوعه، فكان الغرض وهو التأليف والاجتماع في هذا أقرب إلى الحصول، واللَّه أعلم. ثم قولهم: هلا بعث إلينا الرسل ممن هو عنده فاسد؛ لأن الخلائق جميعًا من حيث العند لله - تعالى - واحد، لا يوصف أحد من الخلائق أنه عنده إلا من حيث القرب به بالطاعة له، والائتمار بأمره، وترك الخلاف له، فأما على ما يوصف المخلوق عند مخلوق فلا؛ إذ ذاك وصف المتمكن في المكان، تعالى اللَّه عن ذلك علوًّا كبيرا. فإذا كان المراد من عنده من حيث القرب به بالطاعة والقيام بأمره مما يثبت أهلية الرسالة وصلاحها فذلك مما لا يوجب الفضل بين البشر والملائكة؛ بل من جهة البشر أحق؛ لما هم يفعلون عن غيب الدلائل أجمع دون العيان - واللَّه أعلم - بحجتهم أنه لو أراد إحياءنا كيف أماتنا؟ ولا أحد في الشاهد يبني بناء فيهدمه ويبني مثله فليس بشيء؛ لأنه لو لم يكن إماتة ثم إحياء لكان الجزاء بالأعمال يكون حضرة الأفعال، وذلك يوجب أن يكون إيمانهم إيمان اضطرار، لا إيمان اختيار وإيثار؛ لأن من عاين أنه يدخل النار يعذب فيها أبد الآبدين لا يعمل ذلك العمل الذي أوعد به؛ بل يتركه، وكذا أن من عاين أن من آمن باللَّه - تعالى - وعمل طاعة وعبادة يدخل الجنة ويكرم أبد الآبدين لا يعمل غير ذلك العمل، فترتفع المحنة، ويكون الإيمان بحق الاضطرار، فأخر ذلك؛ ليكون الإيمان بحق الاختيار حتى يكون له قيمة. ثم قوله: (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وصف القرآن مرة بأنه كريم، ومرة بأنه حكيم، ومرة بأنه مجيد، يحتمل أنما سماه بهذه الأسماء على معنى أن من تمسك به يصير مجيدًا، كريمًا،

(2)

حكيمًا؛ أي: منزلة مجيد، كريم، حكيم. ويحتمل أن تكون هذه صفات القرآن راجعة إلى عينه كما يقال: كلام حكمة، وكلام سفه، وإنما يراد به عينه؛ فعلى هذا يحتمل، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المجيد: الماجد، والتمجيد: التعظيم، وأمجدت الدابة من العلف: إذا أكثرت من ذلك، وأمجد القوم: إذا أكثروا من الطعام والشراب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) قد ذكرنا تأويله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) أي: لا يكون؛ كَنَّوا بالبعيد عما لا يكون عندهم؛ كذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي: رد، يقال: رجع رجعًا: إذا رد، ورجع رجوعًا: إذا انصرف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) ظاهر هذا أن يكون هذا قول أُولَئِكَ الكفرة؛ قالوا ذلك على سبيل الاحتجاج لما أنكروا من البعث؛ أي: قد علمنا ما تنقص الأرض من لحومنا، وتأكل من أنفسنا، فأنى نحيا بعد ذلك؟!! وهو كقولهم: (مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)، ونحوه. لكن أهل التأويل بأجمعهم صرفوا هذا القول إلى اللَّه - تعالى - أنه قال ذلك جوابًا لقولهم: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) فقال: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم أي: عن علم منا بما تأكل منكم وتنقص قلنا: إنكم تبعثون وتحيون، وعلى علم منا بذلك أخبركم الرسل بالإحياء والبعث بعد الموت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) أي: عندنا كتاب يحفظ أحوالهم وأفعالهم وجميع ما يكون منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: مع علمي فيهم هم عندنا في كتاب حفيظ. وقال قتادة: ما أكلت الأرض منهم وكانوا ترابًا، ونحن عالمون، وهم مع علمنا في كتاب حفيظ، وهو مثل الأول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ... (5) أي: بالقرآن. ويحتمل: أي: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد كذَّبوا بهما جميعًا.

(6)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَرِيجٍ) قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي: مختلط؛ يقال: مرج أمر الناس، ومرج الدِّين، وأصل المرج أن يقلق الشيء فلا يستقر، يقال: مرج الخاتم في يدي مرجًا: إذا قلق للهزال؛ أي: تحرك. وقيل: مضطرب مختلف؛ وهكذا كان قولهم مختلفًا مضطربًا مختلطًا في القرآن والرسول جميعًا؛ قالوا في الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أقوالا مضطربة مختلفة: مرة نسبوه إلى السحر، ومرة إلى الشعر، ومرة إلى الجنون، ومرة إلى الافتراء على اللَّه - تعالى - وأنه يتلقاه من فلان، ونحو ذلك من أقوال مختلفة مضطربة فيما يدفع كل واحد من ذلك الآخر، وكذلك قالوا في القرآن مرة: إنه سحر، ومرة إنه شعر؛ وإنه من أساطير الأولين، وإنه مفترى، وإنه اختلاق، وكل ذلك مما يدفع بعضه بعضا، وهذا هو الاضطراب والاختلاف والاختلاط، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي: في ضلال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6). يحتمل أن تكون هذه الآيات صلة ما ذكر من عجبهم من بعث الرسل من البشر، والبعث بعد الموت بقوله: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) كأنه يقول: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها مرتفعة، ملتصقة بعضها ببعض، منضدة بلا فروج ولا عماد مع صلابتها وكثافتها وغلظها، وألم ينظروا إلى الأرض كيف بسطناها وألقينا فيها الجبال الرواسي أوتادًا؛ لئلا تميد بأهلها، حتى عرفوا أن من قدر على رفع السماء بلا عمد مع ارتفاعها وغلظها وصلابتها حتى لا ينتهي أحد إلى طرف من أطرافها، ولا علم نهايتها، وجعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بُعد ما بينهما - لقادر على الإحياء بعد الموت، وأنه لا يعجزه شيء، وأن من فعل هذا لا يفعله عبثًا باطلا، ولكن يفعله عن حكمة وتدبير، ولو كان على ما قالوا أن لا بعث ولا جزاء كان خلق ذلك عبثًا باطلا، ويكون فعل ذلك فعل سفه، لا فعل حكمة، فلما كان فعل ذلك كله على التدبير الذي ذكر، وعلى الاتساق الذي جرى حكمه إن شاء ذلك من غير تفاوت - دل أنه لم ينشئ الخلق من المكلفين ليتركهم سدى، لا يأمر، ولا ينهى، ولا يمتحن، فيكون عبثًا؛ بل ليمتحنهم بالأمر والنهي؛ ليكون فعله في العقلاء على نهج الحكمة كما في غيرهم من

(7)

الخلائق، وإذا كان كذلك فلا بد من رسول يخبرهم ويعلمهم ما لا يقف عليه العقل من كيفية شكر المنعم، ومقداره، ووقته، ونحو ذلك، يؤكد ذلك الأمر والنهي بالوعد والوعيد، ثم كان له وضع الرسالة فيمن شاء، وفي أي جنس شاء؛ لأنه حكيم عليم، لا يكون منه الخطأ في التدبير والجهل بالأصلح والأوفق بالحكمة؛ فدل ذلك على إثبات الرسالة والبعث بعد الموت، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) يخرج على وجهين: أحدهما: أي: انظروا إلى ما ذكر. والثاني: قد نظروا بأبصارهم، لكن لم ينظروا نظر معتبر بنظر القلب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) قيل: من صدوع وشقوق، والواحد: فرج، وهو الموضع بين الموضعين، والفرجة من الفرج، ومنه يقال: فرجت عنه الغمّ؛ أي: كشفت، وهو كقوله - تعالى -: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)، أخبر أنكم لم تروا في السماء شقوقًا وفطورًا، وفي الشاهد البناء وإن عظم وأحكم لا يخلو من نقصان أو شقوق ترد عليه، فإذا لم تروا ذلك فهلا دلكم ذلك على أن خالقه قادر على الكمال لا يعجزه شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ... (7) قد ذكرناه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) اسم الزوج يقع على الشكل والضد، وكل ذي شكل هو ذو ضدّ. والبهيج ما يبهج به، فمعناه: أنبتنا من كل زوج ما يبهج به أهله ويسرون بذلك من ألوان النبات وجواهرها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ما يبهج به أهله؛ أي: من كل جنس حسن؛ يقال: بَهُجَ يَبهُج بهجًا فهو بهيج؛ أي: حسن، وأما من السرور، فيقال: بَهِج يَبهج بهجًا فهو بهيج؛ أي: مسرور. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) أي: تبصر ذلك كل عبد منيب؛ أي: منفعة ذلك تكون لمن ذكر، وهو العبد المنيب إلى اللَّه - تعالى - والمقبل على طاعته، فأمّا من اعتقد الخلاف له فلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) سماه: مباركًا؛ لأنه يستعمل في أمر

(10)

الدِّين والدنيا، ويطهر به كل شيء ويزين، وبه حياة كل شيء ونماؤه، والمبارك كل خير يكون على النماء والزيادة في كل وقت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) يقول: أنبتنا بذلك الماء المبارك المنزل من السماء (جَنَّاتٍ) أي: بساتين، والمكان الذي جمع فيه كل أنواع الشجر سمي: بستانًا وجنة. وقوله: (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي: أنبت ذلك الماء كل حب حصيد، فدخل تحت قوله: (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أنواع الشجر والغرس والنبات. ثم قوله - تعالى -: (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) الحب والحصيد هو الحب نفسه، لكن أضاف الحب إلى الحصيد، ويجوز مثل هذا؛ كما يقال صلاة الأولى، ومسجد الجامع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هما غيران؛ الحب: ما يخرج منه، والحصيد: ما يحصد من العصف الذي يصير [تبنًا]؛ لأن الحب لا يحصد، وإنَّمَا يحصد الساق منه؛ لذلك أضاف الحب إلى الحصيد، وهو شجره وقوامه؛ لذلك أضيف إليه؛ كما يقال: ثمر الشجر، ونحو ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10). قوله: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) أي: طوال؛ يقال: بسق الشيء بسوقًا إذا طال. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (بَاسِقَاتٍ) أي: حوائل. يخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن بركة الماء أنه بلطفه جعل الماء بحيث تظهر بركته ونماؤه وأثره على رأس النخل، وإن طال يسقى الأصل؛ لما جعل في سريته من البركة، والمعنى ما يظهر ذلك، ولا يعلم حقيقة ذلك المعنى. وقوله: (لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) أي: منضود، والطلع: أول ما يخرج من النخل فيحمل، والتنضيد: هو التأليف والتركيب؛ أي: يؤلف بعضه إلى بعض ويركب، ويسمى ذلك: كُفُرَّى، وإذا نضج استوجب الطلع ويعرف وصار رطبًا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ (نَضِيدٌ) أي: متراكم بعضه على بعض، والميل المتراكم يقال له: منضود، والتنضيد: هو جعل الشيء بعضه فوق بعض، ونضد الشيء بنفسه فهو نضيد. وقيل: (نَضِيدٌ) أي: كثير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) أخبر أن ذلك كله إنما أنبته وأخرجه رزقًا للعباد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَحْيَيْنَا بِهِ) أي: بالماء (بَلْدَةً مَيْتًا) أي: أحيا بالماء كل بلدة ميت، وكل بقعة ميتة، وكل غرس، فصار به كل حي ونماء كل شيء. ثم قال: (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)، أي: كما قدر على إحياء ما ذكر من الأرض بعد موتها،

(12)

وإحياء النبات والغرس، وكل شيء بعد موته بذلك الماء، فعلى ذلك قادر على إحيائكم بعد موتكم، وبعدما صرتم ترابًا. والأعجوبة في إحياء ما ذكر كله من الأرض والنبات والغرس إن لم تكن أكثر لم تكن دون ما في إحياء الناس من بعد موتهم، فإذ قد عرفوا قدرته في إحياء ما ذكر وأقروا به، كذلك لزمهم أن يقروا به في إحياء كل شيء، واللَّه الموفق. * * * قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) ذكر هذه الأنباء لوجهين: أحدهما: يصبّر رسوله على أذى قومه وتكذيبهم إياه كما صبر أُولَئِكَ يقول: إنك لست بأول رسول كذبه قومه، بل كان قبلك رسل كذبهم قومهم، فصبروا على ذلك؛ فاصبر أنت - أيضًا - وهو كقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). والثاني: يحذر قومه أن ينزل بتكذيبهم إياه وسوء معاملتهم به كما نزل بمن ذكر من الأقوام بتكذيبهم وسوء معاملتهم. وعلى هذين المعنيين جميع ما ذكر في القرآن من الأنباء، واللَّه أعلم. ثم أصحاب الرس اختلف في الرس: قيل: هو بئر دون اليمامة، وكان عندها أقوام كذبوا رسلهم، فأهلكهم اللَّه تعالى. وقيل: الرس: هو الوادي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرس: هو خد خدوه وجعلوا فيه الناس، وأحرقوا فيها نبيهم، عليه السلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سموا بذلك لأنهم رسوا نبيهم - عليه السلام - في البئر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم قوم الرسل الذين ذكرهم في سورة يس بقوله - تعالى -: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ).

(14)

وعن الأصم أنه قال: الرس: كل موضع خدّ فيه؛ ولذلك سمي الخد: خدَّا؛ لجري الدمع عليه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِخْوَانُ لُوطٍ) أي: قوم لوط. وقوله: (وَقَوْمُ تُبَّعٍ ... (14) قيل: إنه كان رجلا مسلمًا صالحًا، مدحه اللَّه - تعالى - وذم قومه، سمي: تُبَّعًا؛ لكثرة أتباعه. ولا حاجة بنا إلى تفسيره بأنه مَن كان؟ وما اسمه؟ كما ذكر بعض أهل التأويل؛ لما لم يذكر في القرآن، ولم يثبت بالتواتر، فلا نزيد على ذلك القدر؛ احترازًا عن الكذب، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) يخوف أهل مكة أن أُولَئِكَ الذين ذكرهم جميعًا قد أهلكوا بتكذيبهم الرسل، فحق عليهم الوعيد بذلك؛ فعلى ذلك يحق عليكم ذلك الوعيد بتكذيب الرسول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ... (15) هو يخرج على وجهين: أحدهما: (أَفَعَيِينَا) أي: أعجزنا عن الخلق؛ أي: حيث لم نعجز عن الخلق الأول، فكيف نسبونا إلى العجز عن الخلق الثاني؟! والثاني: (أَفَعَيِينَا) أي: أجهلنا وخفي علينا تدبير الخلق الثاني، وابتداء تدبير الخلق الأول وإنشاؤه أشد عندكم من إعادته، والإعادة عندكم أهون، فإذا لم نعجز عن ابتداء إنشائه، ولم نجهل، ولم يخف علينا الابتداء، فأنّى نعجز عن الإعادة؟! ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: الخلق الأول هو آدم، عليه السلام. وقال عامتهم: هو ابتداء خلقهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي: هم في شك واختلاط من خلق جديد؛ لما تركوا النظر في سبب المعرفة؛ ليقع لهم العلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ... (16) هو يخرج على وجهين: أحدهما: يقول: على علم منا بما تحدث به نفسه وتوسوس من أنواع الحديث والوسوسة، لا عن جهل وخفاء فعلنا ذلك، فإن هو كفَّها وحبسها عما تدعو به إليه نفسه وتهواه ويصرفها إلى ما يدعوه عقله وذهنه نجا وفاز؛ لقوله - تعالى -: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ

بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)، وقال: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، وإن تركها حتى تمادى في هواها هلك؛ قال اللَّه - تعالى -: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)، وقال في آية أخرى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، ونحوه كثير من القرآن. والثاني: يذكر (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي: نحن مطلعون على ذلك، ليس علم ذلك إلى الحفظة وهم يتولون كتابته؛ أي: لم يجعل ذلك إلى أحد، إنما ذلك إلى اللَّه - تعالى - هو العالم بذلك، وهو المطلع عليه دون الملائكة، وإنما إلى الملائكة ما يلفظه ويفعل بالجوارح؛ لقوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وقال في آية أخرى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَامًا كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)، أخبر أن الحفظة إنما يعلمون ما يفعلون ظاهرًا، أما ما يسرون في قلوبهم فاللَّه هو المطلع على ذلك العالم؛ ليكونوا أبدًا على اليقظة والحذر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) لا يفهم من قرب الرب - تعالى - إلى العبيد ما يفهم من قرب العبد إلى اللَّه - تعالى - وإنما يكون قرب العبد إلى اللَّه - تعالى - بالطاعة له، والقيام بأمره، والانقياد والخضوع له؛ هذا هو المفهوم من قرب العبد إلى اللَّه - تعالى - لا قرب شيء من شيء آخر؛ فعلى ذلك يفهم من قرب اللَّه - تعالى - إلى العبد الإجابة له، والنصرة، والمعونة، والتوفيق على الطاعات، وعلى ذلك ما يقال: فلان قريب إلى فلان، لا يعنون قرب نفسه من نفسه والمكان، ولكن يعنون نصره له، ومعونته إياه، وإجابته. ويحتمل أن يذكر القرب منه كناية عن العلم بأحواله ظاهرًا وباطنًا، واللَّه أعلم. وأصله أن تعتبر الأحوال فيما ذكر من القرب، فإن كان في السؤال فالمراد أنه قريب منه بالإجابة له؛ أي: يجيبه؛ كقوله - تعالى -: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) وإن كان فيما يسرون ويضمرون فيفهم من القرب في تلك الحالة العلم به؛ كقوله - تعالى -: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ. . .) الآية؛ فعلى ذلك قوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، وقوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ)، يفهم منه النصر والمعونة، أو العلم؛ فيكون قوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) أي: أعلم وأولى به وأحق من غيره في النصر والمعونة، وأولى به في الإجابة، والله أعلم.

(17)

وعلى ذلك يخرج ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من تقرب إلى اللَّه شبرًا تقرب منه شبرين " على ما ذكرنا من قرب الطاعة له، وقرب الرب إليه: بالنصر والمعونة، لا قرب المكان، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَبْلِ الْوَرِيدِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: عرق العنق، والوريد: العنق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو عرق بين القلب والحلقوم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو عرق القلب معلق به، فإذا قطع ذلك العرق يموت الإنسان، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) أي: اذكر تلقي المتلقيين، أو احفظ تلقي المتلقيين، أو احذر تلقي المتلقيين، وهما الملكان المسلطان على أعمالك وأقوالك؛ إذ يتلقيان منك أعمالك وأقوالك، ويحفظان عليك، ويكتبان؛ يذكر هذا ويخبرهم أن عليهم حافظًا ورقيبًا، وإن كان هو - تعالى - حافظًا لجميع أفعالهم وأقوالهم، عالمًا بها فحفظ الملائكة وكتابتهم، وعدم ذلك بمنزلة واحدة في حق اللَّه - تعالى - لكن يخرج الأمر للملائكة بحفظ أعمالهم وكتابة ذلك على وجوه من الحكمة: أحدها: ليكونوا على حذر أبدًا مما يقولون ويفعلون؛ على ما يكون في الشاهد من علم أن عليه حافظًا ورقيبًا في أمر يكون أبدًا على حذر وخوف من ذلك الأمر، وذلك أذكر له وأدعى إلى الانتهاء عن ذلك، فعلى ذلك إذا علم العبد أن عليه حفيظًا ويكتب ذلك عليه، وأنه يكلف تلاوة ذلك المكتوب بين يدي اللَّه - تعالى - فيستحي من ذلك أشد الاستحياء - يكون ذلك أزجر له، وأبلغ في المنع، وإلا كان إحصاء ذلك على اللَّه - تعالى - مع الكتاب وغير الكتاب سواء؛ إذ هو عالم بذاته، لا بالأسباب، وهو تأويل (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى)، واللَّه أعلم. والثاني: من الحكمة امتحان الملائكة بحفظ أعمال بني آدم وأقوالهم، وكتابة ذلك، فيمتحنهم بذلك وأمرهم به، ولله أن يمتحن الملائكة من شاء منهم بالتسبيح والتعظيم، ومن شاء منهم بالركوع، ومن شاء بالسجود، ومن شاء بحمل العرش والكرسي، ومن شاء بحفظ بني آدم، ومن شاء منهم بسوق السحاب وإنزال المطر، مما في ذلك منافع بني آدم، ويكون ذلك كله بحق العبادة؛ ليعلم أن من امتحن منهم بالركوع، والسجود،

والتسبيح، والتكبير، والتهليل، لم يمتحنهم بذلك لمنافع ترجع إليه في ذلك؛ ولكن يمتحنهم بمحن بما شاء؟ وفيم شاء؟ ويكون ذلك كله عبادة، وإن اختلفت أنواعه، فعلى ذلك أمره إياهم بحفظ أعمالهم وأقوالهم وكتابتها، واللَّه أعلم. والمحنة بحفظ تلك الأعمال والأصوات وكتابتها أشد من محنة غيرهم من الملائكة بالركوع أو السجود، أو القيام، أو التكبير، أو التهليل، ونحو ذلك، ومن محنة بني آدم من إقامة العبادات، والامتناع من المحرمات، ونحوها إذ لو اجتمع الخلائق على معرفة كيفية عمل واحد ما قدروا عليه؛ فدل أن هذا التأويل محتمل. والثالث: وهو أن اللَّه - تعالى - أخبرهم بكتابة الملكين لأعمالهم، وبقعودهم عن اليمين والشمال من غير أن رأى أحد من البشر إياهم، ولا رأى كتابهم، ولا سمع صوت كتابتهم، وقد أقدرهم على العلم بما في ضمائرهم وكتابة ذلك كله، وأقدرهم على رؤيتنا، ولم يقدرنا على رؤيتهم، وهم أجسام مرئية؛ ليعلموا بذلك قدرة اللَّه - تعالى - على ما شاء من الفعل، وألا يقدروا قوة كل خلق اللَّه - تعالى - بقوة أنفسهم، ولا رؤية غيرهم برؤية أنفسهم، وأن قوة الرؤية تختلف باختلاف الأوقات والأشخاص، فإن الملائكة يروننا ولا نراهم في الدنيا، وإن كانوا أجسامًا مرئية؛ حيث يرى بعضهم بعضًا. ثم أخبر وقال: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا)، أخبر أنه يرى ذلك الكتاب في الآخرة، وإن كان لا يراه في الدنيا، وكذا يرى الملائكة في الآخرة؛ وهذا لأن هذه البنية لا تحتمل أشياء لضعف فيها، وبحجاب يكون في ذلك في الدنيا، ثم يحتمل أن تكون في الآخرة أقوى في احتمال ذلك؛ فتبصر في الآخرة. وفي هذا ردّ قول المعتزلة في إنكارهم رؤية اللَّه - تعالى - أنه لو كان يرى في كل مكان على ما يرى الملائكة في الآخرة دون الدنيا ونحو ذلك، فعلى ذلك رؤية اللَّه. ثم قراءة العامة: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)، وقرأ ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -: [(إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال)] فعلى قراءته يخرج تأويل الآية على وجه واحد؛ أي: يأخذ الملكان عن بني آدم ما فعلوا وقالوا. وعلى قراءة العامة يخرج على وجهين: أحدهما: أن يأخذ الملكان عنه ما أدى إليهما من قول أو فعل. والثاني: أن يتلقى أحد الملكين عن الآخر ما ألقى عليه ذلك الملك؛ على ما روي عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، وإذا عمل العبد سيئة، قال له صاحب اليمين: أمسك، فيمسك عنه سبع

(18)

ساعات، فإن استغفر اللَّه - تعالى - لم يكتبها عليه، وإن لم يستغفر كتبها سيئة واحدة ". ويجوز أن يكون أحدهما كاتبًا دون الآخر، وإن كانا يتلقيان ويأخذان منه ذلك؛ لما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ)، ولم يقرأ: قال قريناه. ويجوز أن يكون المتلقيان جميعًا يكتبان؛ على ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنه قال: كاتبان: كاتب عن يمينه، وكاتب عن يساره، فيكتبان الحسنات والسيئات، ثم يرفعان إلى من فوقهما كل اثنين وخميس، فيثبتون من ذلك من ثواب أو عقاب، ويلقون ما سوى ذلك. وروي - أيضًا - عنه وعن غيره من أهل التأويل أنهما يكتبان ما كان من خير وشرّ، وما سوى ذلك فلا. ولكن ظاهر الكتاب يدل على أنه يكتب كل شيء، وهو قوله - تعالى -: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) إلا أن يقال: المراد هو قول هو سبب الثواب والمأثم، كما قال في آية أخرى: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)، أي: لا يغادر صغيرة من المأثم ولا كبيرة منها، لا مطلق صغائر الأشياء وكبائرها، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. ثم جعل المتلقيين اثنين يحتمل على ما جعل في الشهادة اثنين فيما بينهم في الأحكام والحقوق يشهدان عليه في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18). في ظاهر الآية أن الملائكة إنما يكتبون ظاهر الأقوال والأفعال، لا ما في الضمائر، لكنه غير مستنكر في العقول أن يكون اللَّه - تعالى - أقدرهم على العلم بما في ضمائرهم، فيعرفون ذلك ويكتبونه، ولكن ظاهر الآية يشير إلى ما قلنا، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) قَالَ الْقُتَبِيُّ: أراد (قَعِيدٌ) من كل جانب منهما، إلا أنه اكتفى بذكر الواحد إذا كان دليلا على الآخر، و (قَعِيدٌ) بمعنى قاعد؛ كما يقال: قدير وقادر، أو يكون بمنزلة أكيل وشريب، أي: مؤاكل ومشارب، (قَعِيدٌ)؛

(19)

أي: مقاعد؛ وبه قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (قَعِيدٌ) من المقاعدة؛ كما يقال: قعيدي وجليسي، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَقِيبٌ عَتِيدٌ) الرقيب: الحفيظ، والعتيد: الحاضر؛ أي: ليس بغائب حتى يغيب عنه شيء، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (سَكْرَةُ الْمَوْتِ) أي: شدته. يخبر أن لا بد أن ينزل بالنفس عند الموت شدة ومشقة. ثم الآية تخرج على وجهين: أحدهما: أن تُجْرى على ظاهرها في الماضي؛ أعني: لفظة (جَآءَت) أي: جاءت سكرة الموت على الذين كانوا من قبلكم، فوجدتهم غير متأهبين ولا مستعدين له، والله أعلم. والثاني: أن يكون قوله: (وَجَآءَت) بمعنى تجيء، وكذلك (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ) وذلك جائز في اللغة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِالْحَقِّ) أي: من أهل الشقاوة أو من أهل السعادة؛ يقول: عند ذلك يبين له ويظهر أنه من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة؟ أو من أهل الجنة أو من أهل النار؟ وأصله عندنا: أن الحق هو ما وعد كل نفس من خير، وما أوعد كل نفس من الشر، إن كان مؤمنًا وقد وعد له الجنة فيتحقق له ذلك، وإن كان كافرًا وقد أوعد له النار فيتحقق له ذلك.

(20)

ويحتمل ما ذكر من الحق - هاهنا - هو الموت نفسه؛ أخبر أنه لا بد من الموت، وأنه كائن لا محالة، وهو كقوله - تعالى -: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ)، يقول: لم يخلق الخلق للخلود في الدنيا، ولكن للآخرة، فلا بد من الموت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) يحتمل وجهين: أي: أتاك ما كنت تكره مجيئه وتنكر، ولم تؤمن به، وهو البعث ويوم القيامة الذي ينكرونه ويكرهونه. والثاني: يحتمل الموت نفسه؛ أي: أتاك ما كنت تكره وتفر منه؛ إذ هم كانوا يكرهون الموت ويفرون منه؛ كقوله - تعالى -: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)، أي: يأتيكم من حيث لا مفر لكم عنده. ثم الحيد: الميل والكراهة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الحيد: الفرار، يقال: حاد يحيد حيدًا فهو حائد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20). يحتمل أن يكون أراد النفخة الأولى، وهي النفخة التي يفزع عندها أهل السماوات والأرض فيموتون. ويحتمل أن يريد النفخة الثانية التي عندها البعث وإدخال الأرواح في الأجساد. ويحتمل أن يريد عندما يوضع كل واحد في القبر، وهو أن يسأل، على ما جاءت الأخبار من سؤال منكر ونكير، وذلك أيضًا هو يوم الوعيد في حق ذلك الرجل، وهذا للكافر خاصة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي: ذلك يوم وقوع الوعيد؛ إذ يوم الوعيد الدنيا، فأما القيامة فهو يوم وقوع الوعيد وتحققه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21). قَالَ بَعْضُهُمْ: السائق: الذي يقبض روحه، والشهيد: الذي يحفظ عمله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: السائق: هو الملك الذي يكتب عليه سيئاته، والشهيد هو الذي يكتب حسناته. وقيل: السائق: هو النار التي تأتي تسوق الكفرة إلى المحشر، والشهيد هو عمله الذي عمل في الدنيا. وقيل: السائق: الكاتب، والشهيد: جوارحه بقوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ

(22)

أَلْسِنَتُهُمْ. . .) الآية. وأصله ما ذكر في قوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كفَرُوا)، (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا)، ذكر السوق في الفريقين، وذكر في الكفرة: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ - (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ)، فالسائق: هو ملك يسوق إلى ما أمر من الجنة أو النار، والشهيد هم الملائكة الذين يكتبون علينا الأعمال، فيشهدون في الآخرة: إن كان شرًّا فشر، وإن كان خيرًا فخير، واللَّه أعلم بحقيقة ما أراد، وإن كان ما قالوا فمحتمل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22). يقول: لقد كنت في الدنيا في غفلة من هذا تعاين وتشاهد. أو في غفلة عما أوعدت من المواعيد والشدائد التي عاينتها (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) أي: كشفنا عنك الشبه التي تمنع وقوع العلم به والتجلي له (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي: ثاقب نيِّر، يبصر الحق؛ كقوله - تعالى -: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا). وقيل: حديد من الحدة؛ أي: نافذ لا يخفى عليه شيء، فكأنه أراد - واللَّه أعلم -: إنك كنت في الدنيا جاهلا عن هذا اليوم، وعن هذه الحال، والآن قد عاينت ما كنت عنه في غفلة وأيقنت به، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أي: يقول الملك الذي كان عليه رقيبا: إن كل ما عمل فهو عندي حاضر من تكذيب وعمل السوء، فيشبه أن تكون شهادة الحفظة عليه هذا القول. ويحتمل أن يكون ذلك على السؤال للملائكة عما كتبوا وحفظوا، يقول كل ملك: (هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي: هذا الذي عمل هذا عندي حاضر محفوظ؛ إذ الكتاب الذي كثبت فيه أعماله حاضر. ثم جائز أن الذي يكتب الأعمال ملك واحد على هذا؛ حيث قال: (وَقَالَ قَرِينُهُ) ولم يقل: قريناه، وإن كان قال: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ)، على ما ذكرنا أنهما ملكان، لكن يجوز أن يتولى الكتابة واحد، والآخر شاهد. وجائز أن يكونا يكتبان جميعًا بقوله: (كِرَامًا كَاتِبِينَ)، لكنه ذكر - هاهنا - بحرف التوحيد فقال: (وَقَالَ قَرِينُهُ لما يقول كل واحد منهما ذلك على حدة، وهو كما ذكرنا، وفي قوله: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)، أي: كل واحد منهما

(24)

قعيد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24). يحتمل أن يكون الخطاب بقوله - تعالى -: (أَلْقِيَا) لاثنين؛ على ما هو ظاهر الصيغة، الذي يسوقه والذي يشهد عليه، حيث قال: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) كأن الأمر بذلك لهما. ويحتمل أن يكون المراد بالخطاب هو القرين الذي سبق ذكره: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) لكن قال: (أَلْقِيَا) لوجهين: أحدهما: ما قيل: إن العرب قد تذكر حرف التثنية على إرادة الواحد والجماعة. والثاني: ما قَالَ بَعْضُهُمْ: إن المراد من قوله (أَلْقِيَا) أي: ألق ألق، على التأكيد؛ كقوله - تعالى -: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ)، على الوعيد في الذم، ويقال في المدح: بخ بخ، ونحو ذلك، على التأكيد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) يحتمل: كل كفار لنعم اللَّه - تعالى - حيث صرف شكرها إلى غيره. أو كل كفار لتوحيد اللَّه، وتسمية غيرٍ: إلها. والعنيد، قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الذي بلغ في الخلاف غايته، والمخالف أشد الخلاف، من عند يعند عنودًا، فهو عاند، وعنيد بمعنى: عاند. وقيل: هو الذي لا ينصف من نفسه. وقيل: هو الذي يكابر ويعاند بعد ظهور الحق له، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ... (25) يحتمل وجهين: أحدهما: مناع عن الخير، وهو منع غيره عن التوحيد وقبول الحق. والثاني: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي: منع ما عنده من الحقوق التي وجبت في أمواله ونفسه. وقال بعض أهل التأويل: أراد به الوليد بن المغيرة المخزومي؛ لكن هذا عادة كل كافر؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)، فلا معنى لتخصيص واحد به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) المعتدي من الاعتداء، وهو المجاوز عن حدود اللَّه - تعالى - والمريب من الريبة، وهو الشك والفساد، فكأن المريب هو الذي فيه الشك والفساد جميعًا. ثم نعت ذلك الإنسان فقال: (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) أي:

(27)

وصف وذكر مع اللَّه إلهًا آخر، وهو كقوله - تعالى -: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ)، وقوله - تعالى -: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا)، أي: قالوا ووصفوا أنهم إناث، وإلا لا يملكون جعل ذلك حقيقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) وصف نار جهنم بالشدة؛ لما أنه لا انقطاع لها، وكل عذاب يرجى انقطاعه في بعض الأزمان ففيه بعض الراحة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) أي: قال شيطانه الذي أضله ودعاه إلى ما دعاه؛ فصار قرينه في الآخرة؛ لقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ). ويحتمل (قَرِينُهُ) أي: رفيقه الذي كان معه يتبعه ويصدر عن رأيه. ثم هذا القول من قرينه إنما كان بعد أن كان منه إنكار لما كان منه من الكفر والشرك عن اختيار، وقال: هذا الذي أضلني وأطغاني، وهو الذي حملني عليه، كقولهم: (هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ)، فيقول رفيقه: (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ)، وكان الكفرة لحيرتهم وقلة حيلتهم أحيانًا ينكرون الشرك؛ كقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)، ثم قال: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ)، وأحيانًا يقولون: هَؤُلَاءِ أضلونا، وأحيانًا يلعن بعضهم بعضا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) أي: ما قهرته على الضلال، ولا لي قوة ذلك، ولكن اتبعني على ما كنت أنا فيه، وأطاعني من غير أن يكون مني إكراه وإجبار على ذلك، وهو ما ذكر: (وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) أي: كان في ضلال لا يرجى الرجوع ولا الانقطاع. وقال بعض أهل التأويل: إن ذلك الكافر يكذب الحفظة بأنهم كتبوا ما لم أعمل، وهم كانوا يكذبون في ذلك اليوم؛ لحيرتهم؛ كقولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، فقال قرينه وهو الذي يكتب أعماله: (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ). لكن هذا فاسد، وهذا القول من الشيطان، لا من الملائكة الإطغاء والإغواء؛ إذ هم لا يدعون على الملائكة الإطغاء والإغواء؛ ألا ترى أنه قال: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) واختصامهم مع الشيطان كما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - في غير آي من القرآن؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ. قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ. . .)

(29)

إلى قوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي. . .) الآية. فهذه الخصومة بينهم وبين قرنائهم، وهم الشياطين (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ): خصومتهم ما ذكرنا، قالت الأتباع: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا)، وما ذكر من لعن بعضهم بعضًا ومن تبري بعض عن بعض، فقال - تعالى عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي: قدمت إليكم من الوعيد في الدنيا، فانقطعت خصوماتكم هذه؛ أي: بينت في الدنيا ما يلحق بمن ضل بنفسه، ومن ضل بغيره. كأن هَؤُلَاءِ الكفرة يطلبون وجه الاعتذار بما لا عذر لهم؛ فلذلك يقال لهم: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي: أرسلت إليكم الرسل معهم الكتب وفيها الوعيد، فلم تقبلوا ذلك كله. فَإِنْ قِيلَ: قال هاهنا: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ)، وقال في موضع آخر: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، قيل: هو يخرج على وجوه: أحدها: أن قوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، في أهل القبلة، وهو في المظالم التي كانت بينهم في الدنيا. والثاني: ما قَالَ بَعْضُهُمْ بأن إحدى الآيتين في موضع، والأخرى في موضع، فيؤذن لهم بالكلام فيه حتى يكون جمعًا بين الآيتين، وهو كقوله - تعالى -: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)، وقال في آية أخرى: (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، وقال في آية أخرى: (يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ الْمُجْرِمِينَ. مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)؛ فعلى ذلك هذا. والثالث: جائز أن يكون قوله - تعالى -: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) في الدِّين فيما بينهم وبين ربهم في دفع عذاب اللَّه عن أنفسهم، وذلك لا يملكونه ولا ينتفعون به، وأما قوله - تعالى -: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، فيما بين أنفسهم في المظالم والغرامات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ... (29) هذا يحتمل وجوهًا: أحدها: ما يبدل ما استحق كل واحد منكم من العذاب والثواب ما سبق مني من الوعد والوعيد في الدنيا بأن أجعل جزاء الكافر الجنة، وجزاء المؤمن النار؛ إذ قد سبق في

(30)

وعدي ووعيدي بأن أجعل الجنة مثوى المؤمنين، والنار مثوى الكافرين؛ فلا يبدل ذلك الوعد والوعيد. والثاني: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) يحتمل أنه أراد به قوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). والثالث: أي: لا يبدل اليوم ما يستوجب به الجنة والخلود فيها، وهو الإيمان عن غيب، كما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ. . .) الآية، فأما الإيمان بعد العيان لا ينفع، كما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا. .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي: في العقل والحكمة تعذيب من أتى بالكفر والشرك، فيكون ترك تعذيبه سفهًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30). هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على تحقيق القول من اللَّه - تعالى - لجهنم: (هَلِ امْتَلَأْتِ)، وعلى تحقيق القول من جهنم والإجابة له: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)، وذلك جائز أن ينطق اللَّه - تعالى - جهنم حتى تجيب له بما ذكر (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) على ما ذكرنا من شهادة الجوارح عليهم، والنطق منها للكل، حتى أجابت الجوارح لهم لما قالوا: (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)، وعلى ذلك ما ذكرنا في قوله - تعالى -: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)، ونحو ذلك، ومثل هذا غير مستنكر في العقول على تقدير إحداث الحياة فيها التي هي شرط النطق عن علم، واللَّه أعلم. والثاني: على التمثيل، لا على تحقيق القول لها: (هَلِ امْتَلَأْتِ) على تحقيق الإجابة منها (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ولكن على التمثيل؛ لوجهين: أحدهما: أي: إن جهنم لو كانت بحيث تنطق وتسمع وتعلم لو قلت لها: (هَلِ امْتَلَأْتِ)، فتقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)؟ يخبر عن انقياد المخلوقات له والطاعة والإجابة، وهو ما ذكرنا في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، لا يكون من الدنيا حقيقة التغرير قولا ولا فعلا، ولكن معناه: إنها بحال من التزين وما فيها من الشهوات لو كان لها تمييز وعقل لغرتهم، واللَّه أعلم. والثاني: وصف لها بالعظم والسعة، وإخبار عن أنها تحتمل المزيد، وإن جمع من الكفرة ما لا يحصى، على التمثيل، وهو كقوله - تعالى -: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ

(31)

لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، وصف لها بالتزين والحسن الظاهر ما لو لم يتأمل الناظر فيها العاقبة لاغتر بها من حسنها وزينتها؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) يخرج على وجهين: أحدهما: هل بقي من أحد يزاد فيَّ فإني قد امتلأت، وليس فيَّ سعة تحتمل غيرهم. والثاني: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أي: فيَّ سعة عظيمة، فهل من زيادة خلق أمتلئ بها؟ لأن اللَّه - تعالى - وعد أن يملأ جهنم، كما قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، فتسأل المزيد من ربها لتمتلئ، واللَّه أعلم بذلك. وقال بعض أهل التأويل بأنها تسأل الزيادة حتى يضع الرحمن قدمه فيها فتضيق بأهلها حتى لا يبقى فيها مدخل رجل واحد، وروي خبر عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، وأنه فاسد، وقول بالتشبيه، وقد قامت الدلائل العقلية على إبطال التشبيه، فكل خبر ورد مخالفًا للدلائل العقلية يجب رده، ومخالف لنص التنزيل، وهو قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ثم هذا القول على قول الشبهة -على ما توهموا- مخالف للكتاب؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، وعندهم لا تمتلئ بهم ما لم يضع الرحمن قدمه فيها. ثم ذكر البلخي أن مدار ما ذكروا من الحديث على حماد بن سلمة، وكان خرفًا مفندًا في ذلك الوقت لم يجز أن يؤخذ منه، مع ما روي في خبر أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " يأتي اللَّه - تعالى - ببشر فيضع في النار حتى تمتلئ " فهذا يحتمل، لا ما رووا، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) أي: قربت، وذكر في آية أخرى: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا)، ذكر - هاهنا - تقريب الجنة إلى أهلها، وذكر ثَمَّ سوق أهل الجنة إليها، فبين الآيتين مخالفة من حيث الظاهر، ولكن يحتمل وجهين: أحدهما: أن أهل الجنة إذا قربوا منها بالسوق إليها قربت هي إليهم؛ لأن أحد الشيئين إذا قرب إلى الآخر قرب الآخر منه، ويزول البعد بزوال المسافة، وذلك معروف. ويحتمل أن يكون إخبارًا عن وصف الجنة أنها بحال تقرب إلى أهلها وتزلف، ذكر في الجنة التقريب؛ وفي النار البروز والظهور بقوله - تعالى -: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ)، فهو - واللَّه أعلم - أن أهل النار كانوا يجحدون النار وينكرونها، وبرزت الجحيم ليرونها ويطلعون عليها، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)

(32)

فأما أهل التوحيد فإنهم كانوا يقرون بالجنة، ولكن لا يرون أنفسهم من أهلها لما بدا منهم من الخطايا والزلات، ويرونها بعيدة من أنفسهم، فذكر اللَّه - تعالى - التقريب لهم، ووعدهم بذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي: غير بعيد منهم، بل بحيث يرونها وقت وقوفهم في القيامة، واللَّه أعلم. والثاني: أي: على بعد منهم في الدنيا؛ أي: يأتونها ويكونون من أهلها عن قريب؛ لأن كل آت فكأن قد أتى، واللَّه أعلم. ويحتمل: أي: غير بعيد منهم في الجنة إذا دخلوها من الثمار والفواكه؛ بل قريب منهم، يتناولون كيف شاءوا واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) الأواب الرجاع، من الأوبة، وهي الرجوع؛ فمعناه: لكل رجَّاع إلى اللَّه - تعالى - في كل وقت، أو رجَّاع إلى أمره وطاعته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَفِيظٍ) أي: يحفظ نفسه عن المعاصي والزلات سرًّا وعلانية والحافظ لحدوده في أوامره ونواهيه، وهو كقوله - تعالى -: (لِلْمُتَّقِينَ)، (لِلْمُحْسِنِينَ)، إذ التقوى هي الائتمار بما أمر والامتناع عما نهى وحظر، والإحسان هو العمل بجميع ما يحسن في العقول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ... (33) أي: خاف وحذر بما أوعد. ثم يخرج على وجهين: أحدهما: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) أي: قبل أن يرد على ظاهر ما ذكر. والثاني: أي: من خشي الرحمن في الدنيا التي هي حال غيب الدلائل بالمواعيد التي أوعدها وحذر منها قبل أن يعاينها؛ إذ هو لم يرد ذلك العذاب فيصدقه فيما أوعد وخافه وهو كقوله - تعالى - (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)، أي: عقوبته ونقمته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) المنيب: هو المقبل على اللَّه تعالى بجميع أوامره ونواهيه، المطيع له في ذلك كله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) كأنه على الإضمار، أي: يقال لهم: ادخلوها بسلام الملائكة: أي: تسلم الملائكة عليهم وقت دخولهم الجنة؛ كقوله: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ). والثاني: السلام: هو اسم من أسماء اللَّه تعالى فيقال لهم: ادخلوها باسم اللَّه تعالى

(35)

على ما هو الأصل، وفي كل خير أنه يبتدأ باسم اللَّه تعالى؛ امتثالا لحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: " كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم اللَّه فهو أبتر ". وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ)، أي: سالمين عن الخوف والحزن، لا آفة تصيبكم فيها، وهو كقوله: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)، عن الخوف والحزن. ويحتمل ادخلوها ولا كلفة عليكم، ولا أمر، ولا محنة، سوى الثناء على اللَّه تعالى والحمد له، وتسليم بعضكم على بعض؛ بل تسقط عنكم جميع المحن والأوامر التي عليكم في الدنيا، وذلك كقوله تعالى: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وكأنه لا شيء ألذ في الدنيا على أهل الإيمان من الثناء على اللَّه تعالى وتسليم بعضهم على بعض؛ فلذلك أبقى ذلك في الجنة، وأسقط ما وراء ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ): يحتمل: أي: ذلك يوم الخلود لأهل الجنة بالسرور والراحة، ولأهل النار بالعقوبة والعذاب. ويحتمل: أي: يوم لا انقطاع لذلك الذي وعدوا، وهي الجنة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) أي: لهم ما يختارون فيها، لا يجبرون، ولا يكرهون فيها على شيء؛ إذ المشيئة هي صفة كل فاعل مختار. وإن كانت المشيئة مشيئة التمني والتشهي، فكأنه قال: لهم ما يتمنون، ويتخيرون كقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) قال بعض أهل التأويل: بأنه تأتيهم سحابة فتمطرهم كل ما يشاءون، وذلك هو المزيد لهم في الجنة.

(36)

وقَالَ بَعْضُهُمْ بأنه تنبت لهم شجرة [فتنفطر] لهم كل ما يشاءون، فذلك هو المزيد. لكن يحتمل وجهين: أحدهما: النظر إلى رؤية الرب - جل وعلا - وهو كقوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، قيل: الزيادة هي رؤية اللَّه تعالى في الجنة. ويشبه: ولدينا مزيد من نعيمها ما لا يبلغ تمنيهم وشهواتهم؛ كقوله - عليه السلام - في صفة نعيم الجنة: " ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "؛ لأن الأماني والشهوات إنما تكون لما سبق لجنسه من الذي تقع عليه الرؤية والنظر، أو الخبر فأما ما لا معرفة به، فلا يتمنى ولا يشتهى، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ)، هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يقول: كم أهلكنا قبلهم من قرن، لم يملكوا دفع ذلك عن أنفسهم، ولا الانتصار من ذلك، فكيف يملك قومك دفع ما ينزل بهم لو أصروا على التكذيب. والثاني: يقول: قد أهلك الذين كانوا قبل قومك: الذين كذبوا رسلهم، أهلكوا إهلاك عقوبة وتعذيب، والذين صدقوا أهلكوا بآجالهم، لا هلاك عقوبة، وقد كانوا جميعا: -المصدقين والمكذبين- سواء في هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما، فدل أن هناك دارا أخرى يفرق بينهما، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ): قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ): أي: صاروا في البلاد هل مِن مَفَرٍّ؟!.

(37)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ)، أي: طافوا، وتباعدوا، (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي: هل يجدون من الموت محيصا؟ أي: مفرًّا. ويحتمل: أي: تقلبوا في البلاد في تجاراتهم، فلا يجدودن ملجأ يرد به هلاكهم. يوعد بما ذكر أهل مكة أنهم لم يجدوا محيصا فكيف تجدون أنتم؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) يحتمل وجوها: أحدها: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى) أي: عظة ممن كان له قلب. والثاني: فيما ذكر من إهلاك الأمم الخالية، وذهاب آثارهم بتكذيبهم الرسل لذكرى لمن ذكر. والثالث: أي: فيما ذكروا من استواء المحسن والمفسد في هذه الدنيا، والصالح والطالح - لذكرى لمن كان له قلب أن هنالك دارا يميز فيها بينهما. وقوله: (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)، أي: عقل وفهم. أو لمن كان له قلب ينتفع به في التأمل والنظر. وإنما كنى بالقلب عن العقل؛ لأن الناس اختلفوا: بعضهم قالوا: إن القلب محل العقل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: محله الرأس، لكن نوره يصل إلى القلب؛ فيبصر القلب الأشياء الغائبة بواسطة العقل؛ فلذلك كنى بالقلب عن العقل؛ لمجاورة بينهما، وهو سائغ في اللغة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)، أي: يستمع وهو شاهد سمعه وقلبه، وأصله: أن القلب جعل للوعي والحفظ بعد الإدراك، والإصابة. ثم أصل ما يقع به العلم والفهم شيئان: الأول: التأمل والنظر في المحسوس. والثاني: أن يلقى إليه الخبر وهو يستمع له، فكأنه يقول - واللَّه أعلم -: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب يطلب الرشد والصواب، وينظر، ويعي، ويحفظ. أو (أَلْقَى السَّمْعَ)، أي: يستمع بما ألقي إليه وهو شاهد السمع والقلب؛ فتكون الذكرى لمن اختص بهذين، أو ينتفع به هذان الصنفان بالتأمل، فيرى بالعقل محاسن الأشياء ومساوئها. أو يستمع حقيقة ذلك بالسمع، فيتذكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) ذكرنا فيما تقدم تأويل خلق السماوات والأرض في ستة أيام.

(39)

وقوله: (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)، أي: من إعياء وتعب ونصب، وفيه نقض قول اليهود -لعنهم اللَّه- صراحًا، ونفي إيهام المشبهة في قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، ويتبين المراد من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أما نقض قول اليهود - لعنهم اللَّه - فإنهم يقولون: خلق اللَّه السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح في يوم السبت، وهم يتركون العمل يوم السبت لهذا، فاللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنه لم يمسه بخلق ما ذكر إعياء ولا لغوب على ما زعمت اليهود - لعنهم اللَّه - فيكون ردًّا لقولهم صريحا. وأما نفي إيهام المشبهة؛ فإنهم توهموا أن قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) على إثر خلق السماوات والأرض وما بينهما في آية أخرى: أن ذلك للراحة، فشبهوا اللَّه تعالى بالخلق: أنهم إذا فرغوا من أعمال عملوها ثم استووا على شيء، إنما يستوون للراحة، فقالوا بالاستواء على العرش حقيقة، فاللَّه تعالى نفى التعب عن نفسه في خلق السماوات والأرض؛ فدل على أن استواءه ليس للراحة حتى يراد به الاستقرار، كما في الشاهد بين الخلق وَبَيَّنَ تعاليه وبراءته عما توهمت المشبهة، وشبهوه بالخلق، وتبين بذكر الاستواء على العرش بعد ذكر خلق السماوات الأرض أن المراد منه التمام، أي: تم ملكه بعد خلق السماوات والأرض وما بينهما بخلق العرش، ويذكر الاستواء ويراد به التمام، واللَّه أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: اللغوب: الإعياء، يقال: لغب يلغب لغوبا فهو لاغب. وأصله ما ذكرنا: أن خلق اللَّه تعالى الأشياء لا لمنفعة له أو حاجة تقع له، ولا بالآلات، والأسباب التي بها يقع التعب والإعياء في الشاهد؛ إذ الإعياء إنما يلحق من فعله الحركة والانتقال والسكون، فأما اللَّه تعالى إنما يخلق الأشياء بقوله: كن، ولا يلحقه شيء من ذلك، وهو قادر بذاته، فاعل لا بآلة وسبب؛ فأنى يقع له الإعياء والتعب، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ... (39) أي: فاصبر على ما يقولون فيك: إنك ساحر، وشاعر، ومجنون، ونحوه، فأمره بالصبر على ذلك، وألا يدعو عليهم بالهلاك. ويحتمل: فاصبر على ما يقولون في اللَّه من معاني الخلق، فلا تحاربهم، ولا تقاتلهم، ولا تدعو عليهم بالهلاك، ولكن اصبر؛ فإن اللَّه تعالى ينتقم منهم لك. وإنما أمره بالصبر؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان سريع الغضب لله تعالى فيما عاين من المناكير وسمع، وكذلك جميع الأنبياء - عليهم السلام - لذلك أمره بالصبر فيما يقولون في اللَّه أو فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ).

(40)

قيل: بحمد ربك، أي: بالثناء على ربك؛ أي: أثن عليه بما هو أهله، وما يليق به. وأهل التأويل يفسرون التسبيح في هذا الموضع وفي غيره من المواضع بالصلاة، فمعنى قوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي: صل بأمر ربك، وإنما صرفوا التسبيح إلى الصلاة؛ لأن الصلاة من أولها إلى آخرها وصف الرب تعالى بالتعظيم والتنزيه والبراءة عن كل عيب قولا وفعلا. ولأنه لو قام إلى الصلاة، فقد فارق جميع الخلائق بما هم فيه، وكذلك إذا جئنا للركوع والسجود فارق جميع الخلائق فيما هم فيه من الأمور، واعتزلهم، واشتغل بمناجاة ربه - جل وعلا - فجائز أن يكون تسميتهم التسبيح: صلاة؛ لهذا. ويحتمل أن سموه: صلاة؛ لما أن في الصلاة تسبيحا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: قبل صلاة الفجر، وقبل غروبها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: صلاة العصر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: صلاة العصر والظهر؛ لأنهما جميعا قبل غروب الشمس. وقوله: (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) قال عامة أهل التأويل: هما ركعتان بعد المغرب، وهو جائز محتمل. ويحتمل أن يكون إدبار السجود ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ)، وتفيؤ الظلال إنما يكون بالنهار، وهو تسبيح الظلال؛ فمعناه: وسبحه وقت إدبار سجود تلك الظلال، والذي أخبر أنه يتفيأ أن تفيؤه هو تسبيحه، وهو ما ذكر في قوله تعالى: (فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ)، إدبار النجوم: هو ذهاب النجوم؛ فعلى ذلك قوله تعالى: (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)، أي: سبحه بعد ذهاب سجود الظلال، فذلك إنما يكون بعد ذهاب الشمس وغيبوبتها، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ)، كأن هذا صلة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -:

(42)

(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)، وانتظر (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ)، ولا تكافئهم، ولا تنتقم منهم، ولكن اصبر وانتظر ذلك اليوم. ثم قوله: (يُنَادِ الْمُنَادِ) يخرج على وجهين: أحدهما: كقوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ)، (يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ)، أي: يوم يدعوهم الداعي إلى شيء أنكروه. والثاني: ما ذكر من نداء بعض لبعض؛ كقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ) الآية، وقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ)، يقول - عَزَّ وَجَلَّ -: انتظر يوم ينادون ويدعون إلى ما أنكروا، ويوم يناد بعضهم بعضا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) أي: من مكان يسمعون ما ينادون ويدعون، ويعرفون ما يراد بالدعاء، ومن يراد به، ينتهي ذلك الدعاء والنداء إلى كل في نفسه حتى يعرفه. وذكر أهل التأويل: أن المنادي هو جبريل - عليه السلام - ينادي عند بيت المقدس بنداء يسمعه كل أحد، وبيت المقدس أرفع مكان في الأرض، وهو يقرب من السماء بكذا كذا ذراعًا، فهو المكان القريب. ولكن هذا لا معنى له؛ فإنه يسمع صوته جميع الخلائق وإن لم يقم في ذلك المكان، وليس المراد من القرب ما ذكروه، ولكن على الإسماع في أي موضع كانوا، ومن يسمع شيئا فذلك منه قريب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ... (42) الصيحة: النفخة، أو النداء الذي ذكر. ثم قوله تعالى: (بِالْحَقِّ)، يحتمل وجهين: أحدهما: أي: يستمعون الصيحة بما أوعدهم الرسل من المواعيد؛ فيتحقق لهم ذلك في ذلك اليوم. والثاني: يحتمل: (بِالْحَقِّ)، أي: تحقق ذلك اليوم؛ لأن الرسل - عليهم السلام - قد أخبروهم بذلك اليوم، وهم أنكروه. أو بالحق الذي لبعضهم على بعض، أي: يستوفي بعض من بعض ما لهم من الحق في ذلك اليوم، وأمروا بأداء الحقوق في ذلك اليوم، واللَّه أعلم.

(43)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) قيل: يوم الخروج من قبورهم. وقيل: يوم الخروج والبروز إلى اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ ... (43) أي: نحيي الموتى، ونميت الأحياء؛ أي: نحن نملك ذلك، لا يملك أحد ذلك غيرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ)، خص ذلك اليوم بالمصير إليه، وإن كانوا في الأوقات كلها صائرين إليه؛ لما ذكرنا من الوجوه في غير موضع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44). يحتمل أن يكون ما ذكر من السراع هو صفة تشقق الأرض، كأنه يقول: يوم تشقق الأرض سراعا، لا تنتظر طرفة عين، ولكن تتشقق أسرع من لمحة البصر. ويحتمل أن يكون وصف سرعة خروجهم من الأرض، يقول: يوم يسرعون الخروج من الأرض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ)، وغير الحشر يسير على اللَّه تعالى - أيضًا - ليس شيء أيسر عليه من شيء، أو أصعب من شيء، لكن خص ذلك بالذكر؛ لأن أُولَئِكَ الكفرة استبعدوا ذلك اليوم، واستعظموا كونه؛ فخص ذلك اليوم باليسير لهذا؛ إذ وجود الأشياء كلها بالتكوين الأزلي، وعبر عن ذلك بحرف (كُن)، لمعرفة العباد، لا أن التكوين الذي به وجود المكونات مما يوصف بالحرف، وفي ذلك يستوي ابتداء الخلق وإعادته، والحشر، وكل شيء، ولا قوة إلا باللَّه. وهو كقوله: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ)، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) يقول - واللَّه أعلم -: اصبر على ما يقولون؛ فنحن أعلم بما يقولون؛ فنكافئهم. أو يقول: عن علم بذلك نتركهم على ذلك، ونمهلهم؛ يصبر رسوله صلى اللَّه عليه وسلم على ذلك؛ ليتسلى به بعض ما يحزن عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: من الجبر والقهر، أي: ما أنت بقاهر عليهم، وجبار يجبرهم على التوحيد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: من التجبر والتكبر، والجبار: هو الذي يقتل بلا ذنب ولا حق.

وقيل: أي: وما أنت عليهم بمسلط، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)، أي: مسلطا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)، أي: بلغ ما أنزل إليك، فعليك التبليغ وأنا المجازي لهم والمكافئ بما يفعلون. ثم ليس يخص بالتذكير من يخاف الوعيد، لكن أمر بتذكير الكل، إلا أن منفعة الذكرى تكون لمن يخاف الوعيد، لا لمن لا يخاف الوعيد؛ فلذلك خصه بالذكر، لكن التخصيص بالذكر لا يكون تخصيصا بالحكم ونفيا عن غيره؛ فيبطل بهذا مذهب من ادعى ذلك، واللَّه أعلم بحقيقة ما أراد، واللَّه الموفق. * * *

سورة الذاريات

سُورَةُ الذَّارِيَاتِ ذكر أن سُورَةَ الذَّارِيَاتِ مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) سئل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن هذه الآية فقال: (وَالذَّارِيَاتِ) هي الرياح، (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا) هي السحاب، (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا) هن السفن، (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) هي الملائكة. وعلى هذا خرج تأويل عامة أهل التأويل، إلا ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه قال: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) هي الملائكة. ثم يحتمل أن تصرف هذه الأحرف كلها من (وَالذَّارِيَاتِ) وغيرها إلى الرياح خاصة؛ فالذاريات من تذرى الأشياء ذروا (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا) هن يحملن السحاب وغيره في الآفاق. وجائز أن يصرف كل حرف من ذلك إلى نوع وجنس، على ما حمله أهل التأويل، وصرفوه إليه. قَالَ الْقُتَبِيُّ: ذرت الريح تذرو ذروا، ومنه قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ)، ومنه ذريت البر؛ لأن التذرية لا تكون إلا بالريح، وتذريت أي: أشرفت من الذروة، وذرى الرجل يذرى ذرى، فهو أذرى أي: أشمط، وشاة ذرا: إذا كان في ذنبها بياض. (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا) أي: سهلا، أي: تجري السفن في الماء جريا سهلا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ، أي: هينا. ثم المقسمات أمرا هم الملائكة، واختلفوا في التقسيم: قَالَ بَعْضُهُمْ: أربعة أملاك يقسمون الأمور؛ فجبريل - عليه السلام - ينزل في إنزال العذاب والشدائد، وميكائيل ينزل في إنزال النعمة والرخاء والرحمة، وإسرافيل في نفخ الصور، وملك الموت في قبض الأرواح؛ فكل واحد من هَؤُلَاءِ موكل في أمر على حدة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الملائكة الذين ينزلون بالوحي، يأخذ هذا من هذا؛ إذ لله تعالى أن يرسل الوحي على يدي من يشاء من ملائكته، واللَّه أعلم. ثم اختلف في ذكر هذه الأشياء من الرياح والسفن، والسحاب والملائكة، لماذا؟ قال عامة أهل التأويل: إنما ذكرها على القسم بها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما ذكرها على سبيل تعداد النعم والمنافع التي جعلها اللَّه لهم. واحتج هَؤُلَاءِ وقالوا: إن اللَّه تعالى نهانا عن القسم بغيره، فكيف يقسم بغيره فيكون ذكر هذه الأشياء على الامتنان، لا على القسم. والقائلون بالقسم اختلفوا: فمنهم من يقول: القسم بأعيان هذه الأشياء؛ لعظم منافع هذه الأشياء عند الخلق. ومنهم من يقول: إن القسم باللَّه تعالى لا بعين هذه الأشياء؛ على الإضمار؛ كأنه قال: والذي ذرا الذاريات ذروا، والذي خلق الحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، والمقسمات أمرا، وهو كقوله تعالى: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)؛ فيكون القسم بخالق هذه الأشياء لا بأنفسها، وكل واحد من الوجهين محتمل؛ لأن القسم خرج لرفع شبهة الكفرة في البعث وارتيابهم فيه بعدما أقام عليهم حجج البعث وبراهينه على أنه كائن لا محالة، ونظروا فيها لزوال ذلك الارتياب والشبهة عنهم، والقسم؛ لتأكيد ما وقع عليه بما يكون عندهم له حرمة وقدر وعظمة، قيد لهم ذلك على تأكيد الخبر المقرون بالقسم، فالقسم من اللَّه تعالى بأنه خالق هذه الأشياء المذكورة مما يجل ويعظم عند الكفرة؛ لما كانوا يقسمون باللَّه تعالى عند عظم الأمور، كما أخبر تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)، فيصلح لتأكيد ما وقع عليه القسم، وكذلك القسم بهذه الأشياء يصلح مؤكدا لعظم خطر هذه الأشياء عندهم؛ لما تجل منافع هذه الأشياء، والعرف في الناس أنهم إنما يقسمون بالذي عظم خطره، وجل قدره عندهم؛ فأقسم اللَّه تعالى بهذه الأشياء؛ لما عرف عظم خطرها وجليل قدرها عندهم، فمنافع الرياح مما يكثر عدها: قد أهلك بها أقواما، وبها استأصلهم، وبها تلقح الأشجار المثمرة وغيرها، وبها يساق السحاب في الآفاق للإمطار، وبها تجري السفن في البحار، وغيرها من المنافع، وبها سبب حياة الحيوانات بالتنفس، ودخول الريح فيهم، ونحوها في تذرية الطعام بحيث لولاها لتحرج الناس في التذرية. وفيها آيات؛ فإن الريح جسم لطيف يرى ولا يدرك؛ ليعلم أن الرؤية لا توجب الإحاطة والإدراك، وغير ذلك من جهة الآيات؛ على ما تقدم. وكذلك أقسم بالحاملات وقرا، وهي السحاب الذي فيه منافع الخلق من حمل

(5)

الأمطار، والتظليل في الحر، ونحو ذلك مع ما فيه من الآيات؛ إذ هو يمسكه في الهواء حيث لا يقع بسوق الرياح مع ما فيه من الحمل والوقر، ثم يرسل المطر حيث أمر؛ إذ قد يوجد السحاب ولا مطر؛ دل أنه لم يرسل بنفسه، بل بالأمر يرفع ويمسك ويرسل، وهو في نفسه مُسَخَّر لا بد له من مُسَخِّر؛ إذ لو كان عمله بالطبع لم يختلف باختلاف الأحوال. وفيه آيات البعث؛ إذ خلق مثله لا يكون إلا لعاقبة، وكذلك أقسم بالجاريات يسرا، وهي السفن؛ لما فيها من منافع الخلق؛ إذ لولاها لانقطع بعض المنافع عن الخلق؛ إذ ما يحتاج المرء من المنافع لا يوجد في مكان واحد؛ بل خلقها متفرقة في أماكن، فطريق تحصيل هذه المنافع والحوائج شيئان: الحمل على ظهور الدواب في البر، وفي السفن في البحار، مع ما فيها من الآية العظيمة بما جعلها بحيث لا تتسفل في الماء مع ثقل الأحمال بل تجري بها الريح حيثما شاءوا بأمر اللَّه تعالى. والملائكة منافعهم عظيمة ظاهرة، وعظم قدرهم وجلالة خطرهم واضح. وإذا كان كذلك، فكان القسم بهذه الأشياء؛ لتأكيد الخبر المقسم عليه مما يعقل، وهو متعارف، ولا معنى لقول أُولَئِكَ: إنه نهى عباده عن القسم بغيره، فكيف يقسم بنفسه؛ إذ يجوز أن يقسم هو بشيء ينهانا عن القسم به؛ إذ القسم بالشيء تبجيل لتلك الأشياء وتعظيمها، وأنها لا تستحق التعظيم بأنفسها، بل باللَّه تعالى، فأمرنا بالقسم باللَّه تعالى؛ إذ هو المستحق للتعظيم بنفسه في الحقيقة؛ إذ هو خالق الأشياء كلها، فأما القسم من الله تعالى بشيء ليس لتعظيم ذلك في نفسه، بل بيان منه قدر منافعه التي للخلق فيه، والتي عظمت، وجلت عندهم؛ فيكون لذكرها خطر عندهم، واللَّه أعلم. ثم ذكر أفعال هذه الأشياء التي أقسم بها، ولم يذكر أنفسها، والقسم إنما يكون بالأنفس، لا بالأفعال، فأما إن عرف أُولَئِكَ الكفرة أنفس هذه الأشياء بذكر أفعالها وقت قرع ذكر هذه الأفعال سمعهم، وإذا لم يعرفوا يسألون عنها، وما أريد بها، واللَّه أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) هذا موضع القسم، والصدق إنما يستعمل في الخبر، فكأنه قال: إن ما أخبركم الرسول بالبعث، أو وعدكم به، لصادق في خبره ووعده؛ إذ الوعد في الجملة مما قد يكون صدقا أو كذبا، فأكد هذا الوعد من الرسول بالقسم: إنه لصادق فيما وعد من البعث وغيره، وكذلك قوله تعالى: (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) موضع القسم: أن الجزاء لواقع كائن. وقيل: إن المراد من الدِّين الحساب، أي: إن الحساب لكائن لا محالة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) أقسم - أيضا - بالسماء

ذات الحبك، وموضع القسم: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ). ثم اختلف في تأويل قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ): روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: (ذَاتِ الْحُبُكِ) قال: حسنها واستواؤها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذات حبك، أي: ذات بنيان متقن محكم. وكلا التأويلين يرجعان إلى واحد؛ فإن حسن خلق السماء بالإتقان والإحكام؛ يقال للحائك إذا أحسن النسج وأحكمه: حبك الثوب. وقال الحسن: حبكت بالنجوم، وحبكت بحسن الخلق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذات الشدة والاستواء، يقال: حبكت الحبل؛ إذا شددت قتله، كذلك قاله أبو عبيدة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (ذَاتِ الْحُبُكِ): ذات الطرائق، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ. ثم هو على ما ذكرنا من الوجهين: أن القسم بعين السماء، أو رب السماء، والله أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) يخرج على وجوه: أحدها: إنكم لفي قول مختلف في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفي القرآن، ما لو كان ذلك القول منكم عن علم ومعرفة؛ لم يخرج مختلفا متناقضا؛ لأنهم قالوا في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون، وإنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه مفترٍ؛ وهذا مختلف متناقض؛ لأن الساحر هو الذي يبلغ في معرفة الأشياء غايتها، وكذا الشاعر، ولا يحتمل أن يبلغ المجنون ذلك المبلغ بحال؛ فيكون نسبتهم إياه إلى هذه الجملة في حال واحدة يخرج على التناقض، وكذلك قولهم في القرآن: إنه أحاديث الأولين، وإنه مفترى، والافتراء خلاف الأساطير، مع أنهم عجزوا عن إتيان مثله؛ فيكون هذا تناقضًا في القول؛ فدل اختلافهم في القول فيهما على أنهم قالوا ذلك عن جهل، لا عن علم؛ إذ لو كان عن علم بذلك، لكان لا يختلف ولا يتناقض، وهذا الخطاب على هذا التأويل يكون للكفرة. والثاني: إنما قال ذلك في الدلالة على البعث: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) أي: في عقولكم الاختلاف والافتراق بين المصلح والمفسد، والمحسن والمسيء، وقد عرفتم الاستواء

(9)

بينهما في هذه الدنيا، دل أن هنالك دارا أخرى فيها يفرق بينهما ويميز. وهذا التأويل لا يختص به الكافر؛ بل يعم الكل، واللَّه أعلم. والثالث: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ)، أي: قول متفرق، ومذهب متناقض؛ فإنهم كانوا يعبدون أشياء على هواهم، فإذا هووا شيئا آخر تركوا ذلك وعبدوا غيره، وكذلك يقولون قولا بلا حجة، ثم يرجعون إلى قول آخر، لا ثبات لهم على شيء، وهو كقوله تعالى؛ (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ). والرابع: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ)، أي: في أمر الآخرة؛ لأن منهم من يدعي أن الآخرة لهم لو كانت، ومنهم من يدعي الشركة مع المسلمين، فرد اللَّه تعالى عليهم بقوله: (يُؤفَكُ عَنهُ مَنْ أُفِكَ)، وهو كقوله تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، وقال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ). والخامس: يحتمل أن مواعيدهم ومنازلهم مختلفة في الآخرة، واللَّه أعلم. وذكر بعض أهل التأويل: أن الناس يأتون مكة من البلدان المختلفة؛ ليتفحصوا عن أخبار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويسمعوا كلامه، فكان كفار مكة يصدونهم عنه، ويقول بعضهم: إنه مجنون، وبعضهم: إنه كذاب، وبعضهم: شاعر، وذلك قوله تعالى: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) يحتمل وجوها: أحدها: أي: يصرف عن الحق من صرف عن النظر والتفكر في العاقبة. والثاني: صرفوا عما رجوا في الآخرة، صرفوا عن الحق في الدنيا؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تقربهم عبادتها إلى اللَّه تعالى وأنها شفعاؤهم عند اللَّه تعالى، يقول تعالى: صرف عما رجا في الآخرة؛ لما صرف عن الحق في الدنيا، واللَّه أعلم. والثالث: يصرف من طمع في الآخرة الشركة مع المسلمين، أو ادعى الخلوص بما صرف في الدنيا عن الإيمان الذي به ينال الآخرة. والرابع: (يُؤفَكُ عَنهُ) أي: عن الحق (مَنْ أُفِكَ)، أي: صرف عن الحق من صرف؛ كقوله تعالى: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. . .) الآية، وقوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللََّهُ قُلُوبَهُم). وقوله تعالى: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) قال أبو بكر الأصم: الخراص: الذي يكذب على العَمْدِ. ولكن عندنا: الخراص: الذي يكذب، ويقطع على الظن، ومنه يقال للذي يقدم

(11)

الشيء ويفرقه بالظن: خراص؛ فعلى ذلك يحتمل قوله: (الْخَرَّاصُونَ). ثم قوله: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) يحتمل حقيقة القتل، وذلك يرجع إلى قوم خاص قتلوا. والثاني: (قُتِلَ)، أي: لعن، واللعن: هو الطرد؛ أي: طردوا عن رحمة اللَّه، وإنما سمي اللعن: قتلا؛ لأن القتل سبب التبعيد عن منافع الحياة، وبالقتل خرج من أن يكون منتفعا به، واللعن هو الطرد عن رحمة اللَّه التي بها تقع وتتحقق المنافع في الآخرة، واللَّه أعلم. وقال أهل التأويل: الخراصون: الكاذبون، وكذا قال أهل الأدب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) اختلف في تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: في غفلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: في غطاء وغشاء، كقوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا)، أي: في غطاء وغلف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: في عماية عن أمر الآخرة. ولكن الكل يرجع إلى معنى واحد. وقوله: (سَاهُونَ)، أي: ساهون عن الحق وعما دعوا إليه. وقيل: (سَاهُونَ)، أي: غافلون. وقيل: أي: لاهون عن التوحيد والإيمان. وقيل: (سَاهُونَ)، أي: تاركون الإيمان. وأصل السهو هو الترك، وهو كقوله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)، أي: تركوا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12). كانوا يسألون عن يوم القيامة سؤال استهزاء وعناد، لا سؤال استرشاد؛ لذلك قال الله تعالى: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) ولو كان سؤالهم سؤال استرشاد، لكان لا يأتيهم ذلك الوعيد؛ ألا ترى أن جبريل - عليه السلام - أتى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وسأله عن الإيمان والإسلام في حديث طويل، وسأله عن الساعة فلم يأته الوعيد؛ فلا ذم في سؤاله ذلك؛

(13)

لأن سؤاله سؤال استرشاد، وقوم موسى - عليه السلام - لما سألوا رؤية الرب تعالى بقولهم: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) فأهلكوا؛ لأنهم سألوا سؤال استهزاء وتعنت، لا سؤال استرشاد، وأصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سألوا - أيضا - الرؤية، فبشروا ووعدوا في الآخرة؛ لما أنهم سألوا سؤال استرشاد، لا سؤال استهزاء، فعلى ذلك أُولَئِكَ الكفرة سألوا عن القيامة سؤال استهزاء متى تكون الساعة التي تعدنا بها؟ وأين وقت العذاب الذي تعدنا به؟ لذلك قال جوابا لهم: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)، واللَّه أعلم. وفي الآية دلالة على أن الحكم لا يبنى على ظاهر المخرج؛ فإنه لا فرق بين سؤال الكفرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن السماعة وبين سؤال جبريل - عليه السلام - عن الساعة، ثم أجاب لجبريل - عليه السلام -: " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " ثم الجواب للكفرة: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)، ثم من شهد النوازل علم المراد من النازلتين: أن أحد السؤالين خرج على الاستهزاء، والآخر على الاسترشاد؛ فحملوا أحد الجوابين على إحدى الحالتين، والآخر على الحال الأخرى؛ دل أن الحكم لا يبنى على ظاهر المخرج، ولكن يجب النظر؛ ليعرف المرادة إما بسؤال من شهد النازلة، أو من حيث المعنى المودع فيه، واللَّه أعلم. ثم قوله: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) يخبرهم عن اليوم الذي يفتنون فيه، وقيل فيه بوجهين: أحدهما: (يُفْتَنُونَ)، أي: يبتلون، ويمتحنون بالشدة والعذاب، والفتنة: هي المحنة التي فيها الشدة والبلاء، فسمي العذاب: فتنة؛ لما فيه من الشدة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يفتنون، أي: يحرقون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ... (14) أي: ذوقوا العذاب الذي فيه الشدة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)، أي: تستعجلون في الدنيا، وتزعمون أنه لا يكون في الآخرة. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)، والإشكال: كيف ذكر أن المتقين في

(16)

جنات وعيون، وهم يكونون في جنات، ويكونون في العيون بحيث يرونها، وتقع عليها أبصارهم، وينتفعون بها؟ وهو كقوله تعالى: (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ)، وإنما هم يلبسون السندس، فأما الإستبرق فهو البسط، وغير ذلك من الانتفاع به؛ فعلى ذلك ما ذكر من كون المتقين في جنات وعيون، يكونون في الجنة، وينتفعون بالعيون، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ)، أي: الذين اتقوا الشرك والكفر. ويحتمل: الذين اتقوا مخالفة اللَّه على الإطلاق: عملا، وقولا، وفعلا، واعتقادا. ويحتمل: أي: الذين اتقوا المهالك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) يحتمل وجهين: أحدهما: أي: قابلين ما آتاهم ربهم في الدنيا من القدرة والقوة والمال بحق اللَّه تعالى، والقيام بشكره، والعبادة له، والاستعمال في طاعته؛ لذلك قال: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ) أي: قبلوا ذلك بحق الإحسان، فاستعملوها في حق اللَّه تعالى والقيام بطاعته. وعلى هذا التأويل كأنه على التقديم والتأخير: إن المتقين في جنات وعيون؛ إنهم كانوا قبل ذلك محسنين، آخذين ما آتاهم ربهم، أي: إنما نالوا الجنة؛ لما أنهم كانوا في الدنيا كذلك. والثاني: ما قاله أهل التأويل: آخذين ما آتاهم ربهم في الآخرة، أي: راضين بما أعطاهم اللَّه من النعيم في الجنة، وهو كقوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)، وعلى هذا يخرج تأويلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ) في الدنيا. ثم نعت إحسانهم فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18). قال أهل التأويل جميعا: أي: يصلون. وإنَّمَا حملوه عليها؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة، وذلك مرة بالصلاة، ومرة باللسان، ومرة بدفع المال. ويحتمل حقيقة الاستغفار أيضا، وإنما مدحهم بذلك؛ لأن أرجى وقت الاستغفار وقت السحر؛ لما روي عن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - أنه قال لنافع: " إذا كان وقت السحر

(19)

فأعلمني به ". فكان هو يصلي إلى وقت السحر، ثم يدعو ويستغفر في ذلك الوقت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الآية في الزكاة، لكن هذا لا يحتمل؛ لأن السورة مكية، ولم يكن بمكة الصدقة المفروضة؛ إلا أن يقال: إن السورة مكية إلا هذه الآيات إن ثبت. وجائز أن يكون ذلك الحق ليس هو المفروض، ولكن حق سوى الفرض. وقيل: إن الآية نزلت في قوم خاص جعلوا على أنفسهم ألا يردوا سائلا ولا محرومًا ولا يمنعوا أموالهم من أحد؛ فمدحهم بذلك؛ ألا ترى أن ذكر الحق للسائل والمحروم؛ وقد بين مصارف الزكاة للأصناف الثمانية بقوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. . .) إلى قوله تعالى: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ). ثم اختلف في تأويل المحروم والسائل: قال عامة أهل التأويل: المحروم: هو الذي لا سهم له في الغنيمة والفيء بألا يحضر وقت قسمة الغنيمة؛ فلا ينال شيئًا منها ويحرم عن ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المحروم: الذي هلك زرعه وكرمه ببلاء أصابه، يحرم عن ذلك، كما وصفهم في سورة الواقعة: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)، فلما حرموا زرعهم وصفوا بذلك. وقيل: المحروم: الذي لا يعلم حرفة، وهو لا يملك كسبا، وهو محارف أيضا. وقيل: المحروم: المتعفف الذي به فقر، لكنه لا يسأل الناس شيئا، والسائل: الطوَّاف. وعندنا: الفقراء ثلاثة: السائل الذي يطوف، ويسأل الناس. والمعتر: الذي يعتر الناس، ويظهر حاجته للناس، ويتعرض للسؤال، ولا يسأل صريحا. والمحروم: هو الذي يستر فقره وحاجته عن الناس، لا يسألهم، ولا يعتر لذلك. ثم جائز أن يكون سماه: محروما، أي: حرم المكاسب وأسباب العيش من التجارة

(20)

والحرفة وغيرهما. وجائز أن تكون له المكاسب والأسباب، لكنه محروم عن إنزال المكاسب والأرباح في التجارة، يكتسب، ويعمل بتلك الأسباب، لكنه محارف، لا يرزق منها شيء، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: في الأرض آيات ينتفع بها الموقنون، وهم المؤمنون الذين علموا الآيات بطريق الإيقان. ويحتمل: في الأرض آيات يعلم الموقنون حقيقة أنها آيات، فأما غيرهم فلا، والله أعلم. ثم يحتمل آيات الأرض: آيات التوحيد، وآيات البعث، وآيات القدرة، وغير ذلك؛ على ما ذكرنا: أنه خلق على وجه الأرض من الدواب، والأشجار، ومن النبات، وأنواع الثمار من غير أن عرف الخلق كيفية وجودها وماهيتها، وأنه لم يخلق مثلها للفناء خاصة؛ فتكون آيات؛ لما ذكرنا. وقيل: أي: في خلق الأرض آيات، وهو أن خلقها، وكانت تميد بأهلها، ثم أرساها بالجبال؛ حتى استقرت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21). صلة قوله: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي: وفي أنفسكم - أيضًا - آيات (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) أي: آيات الوحدانية والربوبية وآيات البعث وآية وجوب الشكر والعبادة والامتحان. أما آيات الربوبية، فهي أن اللَّه تعالى أنشأ هذا البشر من نطفة، ثم قلب تلك النطفة علقة، ثم العلقة مضغة ثم المضغة عظاما ولحما، ثم ركب فيها الجوارح في ظلمات ثلاث، ما رأى المصالح له في الاستواء والصحة، سليمة عن الآفات، غير متفاوتة، فدل أنه فعل واحد، لا عدد، وأن له القدرة الذاتية والعلم الذاتي لا المستفاد، وأن ما قلبهم من حال إلى حال، وما ركب فيهم من الجوارح التي بها يقبضون، وبها يأخذون، وبها يدفعون ويسلمون، وبها يبصرون ويسمعون، وبها يمشون، لم يفعل بهم؛ ليتركهم سدى ويهملهم ولا يمتحنهم، ولا يأمرهم، ولا ينهاهم، وأنه حيث سخر جميع الخلائق من السماء والأرض وما بينهما ما سخر إلا ليمتحنهم، وليستأدي منهم شكر ذلك كله. وفيه آية البعث؛ لأنه لا يحتمل أن يكون منهم ما ذكرنا ثم لا يبعثهم؛ ليثاب المحسن

(22)

منهم ويعاقب المسيء، ويجازي كلا بقدر عمله؛ إذ لو لم يكن، لكان خلقه إياهم عبثا باطلا؛ على ما ذكرنا في غير موضع. وقيل: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أي: في خلق أنفسكم، (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) أنه كيف سوى أنفسكم على أحسن الصور، وأحسن التقويم بعد أن كان أصلها وجوهرها من ماء، وكذلك أصل جواهر الأنعام والبهائم من نطفة أيضًا، ثم ركبكم على صور صالحة لمنافعكم، وركبكم على أحسن الصور، ثم جعل فيكم من العقل والسمع والبصر ما يدرك بها حقائق الأشياء المحسوسة والمعاني الحكيمة؛ لتتأملوا في ذلك كله؛ فتكون آية الوحدانية آية إلزام الشكر والعبادة له، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22). قال أبو بكر الأصم: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) أي: في السماء رزقكم وما توعدون من الخير والشر. وقال الحسن وغيره: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ) أي: المطر الذي ينزل منها في الأرض، فنبت فيها بذلك المطر من أنواع الأرزاق من الحبوب، والثمار، والفواكه، وغيرها؛ كل ذلك سببه من السماء؛ لذلك أضيف إليها، واللَّه أعلم. وجائِز أن يكون ما ذكر من أرزاقنا أنها في السماء: المطر وجميع ما سخر لنا فيها من الشمس والقمر والملائكة؛ حيث جعل صلاح ما في الأرض جميعًا من الأرزاق والأغذية بتلك الأشياء التي في السماء من الإنضاج بالشمس والقمر، وحفظ الأرزاق والأمطار بالملائكة؛ فإنهم جعلوا موكلين ممتحنين بذلك؛ حيث قال - تعالى -: (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا)، هي الملائكة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تُوعَدُونَ) كل موعود: مرغوب أو مرهوب من السماء، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23). يحتمل قوله: (إِنَّهُ لَحَقٌّ) أي: الساعة والقيامة. ويحتمل (إِنَّهُ لَحَقٌّ) أي: جميع ما جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ).

(24)

يحتمل أن يقوله - واللَّه أعلم -: كما أنكم لا تشكون فيما تنطقون؛ فعلى ذلك لا تشكون في أمر الساعة وقيامها وكونها؛ كما يقال: هذا ظاهر بين كالنهار. وقال الزجاج: (إِنَّهُ لَحَقٌّ)، أي: لحق مثل حضوركم ونطقكم ومثل النهار، أو كلام نحوه. ويحتمل أن يقول: إن من قدر على إنطاق هذه الألسن وتكليمها حتى يفهم منها حاجتهم، وهي قطعة، وليس فيها شيء من آثار النطق والكلام؛ إذ يكون مثله للبهائم ثم لا يفهم منه ذلك، ولا يكون منه النطق - قدر على البعث والإعادة؛ إذ هذا في الأعجوبة أكثر وأعظم من ذاك، واللَّه الموفق. * * * قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ). قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع: أن حرف الاستفهام من اللَّه تعالى على الإيجاب والإلزام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ أَتَاكَ)، يخرج على وجهين: أحدهما: أي: قد آتاك حديث ضيف إبراهيم، فحاج به أُولَئِكَ، وخاصمهم. والثاني: لم يأتك بعد، ولكن سيأتيك حديث ضيف إبراهيم، فإذا أتاك به فحاج على أُولَئِكَ الكفرة به، واللَّه أعلم. ثم قوله: (حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ) دل على أن اسم الضيف يقع على من يطعم ويتناول، وعلى من لا يطعم ولا يتناول؛ لأنه سمى الملائكة: ضيف إبراهيم، وإن لم يطعموا، ولم يكن غذاؤهم الطعام. وفيه أن الضيف اسم يقع على العدد والجماعة. وقوله: (الْمُكْرَمِينَ) سماهم: مكرمين؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - كان يخدمهم

(25)

ويقوم بين أيديهم؛ وذلك هو الإكرام الذي صاروا به مكرمين. ويحتمل أن سماهم: مكرمين؛ لأنهم كانوا أهل كرم وشرف عند اللَّه تعالى، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25). وقال في آية أخرى (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ). ذكر هاهنا سلام الملائكة - عليهم السلام - ولم يذكر سلام إبراهيم صلوات اللَّه عليه إنما ذكر وجله منهم، وذكر في الأول سلام الملائكة عليهم السلام وسلام إبراهيم - عليه السلام - وذكر أنهم قوم منكرون، وقال في آية أخرى: (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أوجس منهم الخيفة؛ لما خشي أن يكونوا سراقا لأنه كان بين إبراهيم - عليه السلام - وبين الذي انتابوا منه بصرف بعيد ما يحتاج المنتاب إلى طعام، فإذا امتنعوا عنه خاف أن يكونوا سراقا؛ إذ لا يمتنع عن التناول إلا السراق. لكن هذا ليس بشيء؛ لأنه قد كان منهم السلام، والسلام أحد علامات الأمان لكن يكون خوفه بعدما عرف أنهم ملائكة؛ لما علم أن الملائكة - عليهم السلام - لا ينزلون إلا لأمر عظيم لإهلاك قوم أو لتعذيب أمة، كقوله تعالى: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ)، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ)، هذا يحتمل، واللَّه أعلم. ثم قوله: (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) جائز أن يكون هذا إخبارًا من اللَّه تعالى أنهم قوم منكرون؛ أي: غير معروفين عندنا، لم نعرفهم، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26). قيل: راغ: مال. لكن قوله: (فَرَاغَ) أي: مال إلى أهله على خفاء من أضيافه وسر منهم؛ ولذلك سمي الطريق المختفي: رائغًا، وهو من روغان الثعلب. وقيل: زائغًا بالزاي. وقيل: راغ، أي: رجع. وذكر مُحَمَّد في بعض كتبه: " في زائغة مستطيلة "، وقيل: رائغة، واللَّه أعلم.

(28)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)، وقال في موضع آخر (جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)، والحنيذ: هو المشوي. وقيل: هو الذي يشوى في الأرض بغير تنور، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحنيذ: الذي أنضج بالحجارة. وقيل الحنيذ: هو الصغير الذي كان غذاؤه اللبن لا غير، واللَّه أعلم. وما ذكر أهل التأويل في قصة إبراهيم - عليه السلام - " أنه لما قرب إليهم العجل قالوا: لا نأكله إلا بثمن، قال: قللوه وأدوا، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تسمون اللَّه - تعالى جل وعلا - إذا أكلتم، وتحمدونه إذا تركتم، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: لهذا اتخذك اللَّه خليلا "، وغير ذلك من الكلام فنحن لا نذكر إلا قدر ما ذكره في الكتاب؛ مخافة أن ندخل الزيادة والنقصان عما في كتبهم ويجد أهل الإلحاد في ذلك مقالا، وهذه الأنباء إنما ذكرت حجة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في إثبات الرسالة، فإذا قيل في ذلك ما يخاف أن يكون في ذلك زيادة أو نقصان عما في كتبهم، كان الإمساك والكف عنه أولى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ... (28) لما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا لَا تَخَفْ) لا لذلك أرسلنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) يحتمل قوله: (عَلِيمٍ) وجهين: أحدهما: أي: بشروه بغلام يصير عليما إذا كبر. والثاني: بشروه بغلام يولد عليما، يؤتيه اللَّه تعالى علما في بطن أمه، وإذا ولد في صغره، ولله أن يؤتي العلم من يشاء في حال الصغر والكبر؛ ألا ترى أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ - في عيسى - عليه السلام -: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، فعلى ذلك يحتمل هذا واللَّه أعلم. ثم ذلك الغلام هو إسحاق - عليه السلام - لأنه بين في آية أخرى فيمن كانت البشارة؛ حيث قال: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ)؛ دل أن البشارة إنما كانت بإسحاق. ثم ذكر في سورة هود - عليه السلام - البشارة لامرأته، حيث قال: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ)، وذكر في هذه السورة البشارة لإبراهيم - عليه السلام - بقوله (وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ)، لكن جائز أنه لما بشرها بالولد، بشرها بالولد منه، فإذا بشر إبراهيم - عليه السلام - بالولد منها، وإذا بشر أحدهما بالولد من الآخر؛ فتكون البشارة لهم جميعًا، واللَّه أعلم. قال أبو بكر الأصم: دل قوله تعالى: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ. . .)، إلى أن قال: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا): أن إسحاق أكبر من إسماعيل؛ لأنها لما بشرت بالولد أخبر أنها عجوز، وأنها عقيم وأن بعلها شيخ ولو كان إسماعيل هو الأول، وكان

(29)

الآخر على قرب منه ليس بينهما زمان مديد، لم يكن يبلغ إبراهيم - عليه السلام - في ذلك المقدار من الوقت ما يخبر عن إياس الولد منه؛ دل أن إسحاق هو المقدم، وأنه كان أكبر من إسماعيل - عليه السلام -. إلا أن هذا خلاف ما عليه أهل التأويل: أن إسماعيل - عليه السلام - كان أكبر من إسحاق عليه السلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29). ذكر هاهنا الإقبال، وقال في آية أخرى في سورة هود: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ)، فجائز ألا يكون على حقيقة الإقبال، ولكن لما ذكر فعلها -وهي الصرة، وصك الوجه- ذكر الإقبال، غير أن كان منها الإقبال من المكان أي: أقبلت فصكت وجهها في صرة؛ كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، أمر بالرؤية والنظر إلى الفعل الذي ذكر، وهو مد الظل، وإذا ذكر النفس دون الفعل، فالمراد منه النظر إلى نفسه لا غير، واللَّه أعلم؛ فعلى ذلك هذا. ثم قوله - تعالى -: (فِي صَرَّةٍ) أي: في ضجة. وقوله: (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)، أي: ضربت وجهها بيدها؛ تعجبا منها بتلك البشارة التي بشرت بالولادة. وقوله: (وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)، وكانت كما أخبرت عجوزا عقيما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ... (30) أي: على علم بالحال التي أنت عليها، بشرت بذلك، لا عن جهلٍ. وقوله: (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)، أي: حكيم، واضع الولد في موضعه، العليم بمصالح الأمور وعواقبها، واللَّه أعلم. وقوله: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) أي: ما شأنكم؟ ولأي أمر أرسلتم: بالبشارة خاصة، أو لأمر آخر، أو لهما جميعًا؟ فأجابوا: (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) وقال في آية أخرى: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ)، كأن الاستثناء هاهنا لم يكن مذكورا في خبر الملائكة وإنَّمَا ذكر في الخبر الذي قال إبراهيم - عليه السلام - حيث قال: (إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ)؛ فدل ذكر الثنيا منهم بعد سؤال إبراهيم - عليه السلام - وإخباره إياهم: أن فيها لوطا: أن تأخير البيان عن الكلام جائز، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) دل قوله تعالى: (حِجَارَةً مِنْ طِينٍ) على أن ما ذكر في آية أخرى: (حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) أن السجيل ليس هو

(34)

اسم المكان على ما ذكر بعض أهل التأويل، ولكن السجيل اسم الطين؛ على ما ذكره هاهنا، وهو طين مطبوخ كالآجر؛ إلا أن يقال: هو طين حمل من مكان يسمى: سجيلا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُسَوَّمَةً ... (34) أي: معلمة (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ). ثم الإعلام يحتمل وجهين: أحدهما: معلمة: مسومة باسم من تقع عليه ويهلك بها، أي: مكتوب عليها اسمه. والثاني: معلمة في نفسها حتى يعلم كل أحد: أنها للهلاك جاءت، وأنها أرسلت لذلك مخالفة لسائر الأحجار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36). قوله: (فِيهَا) كناية عن قرية لوط. وقوله: (غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هو منزل لوط - عليه السلام - دل تسمية الملائكة - عليهم السلام - إياهم: مؤمنين، ومسلمين على أن الإسلام والإيمان واحد، وقد بينا جهة الاتحاد في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً ... (37) أي: تركنا في قريات لوط - عليه السلام - التي أهلكتها آية وعبرة لمن بعدهم، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، أي: إنكم لتمرون على أُولَئِكَ الذين أهلكوا أو عذبوا بالليل والنهار، تعلمون أنهم بم أهلكوا؟ وبم عذبوا؟ بالتكذيب والعناد، والذين نجوا إنما نجوا بالتصديق والإسلام، وذلك آية لمن بعدهم. ثم قال: (لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) أي: يكون ذلك آية للذين يخافون العذاب الأليم، وهم المؤمنون، أي: هم المنتفعون بها، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ). فيما ذكر من قصة موسى، ولوط، وقصة إبراهيم، وقصة هود، وثمود، وهذه الأشياء تفسير لقوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ)، ثم الآيات في الأرض

(39)

من وجهين: أحدهما: فيما خلق في الأرض من الخلائق. والثاني: فيما في الأرض من أنباء السلف وأخبارهم من مكذبي الرسل ومصدقيهم، أي: في هلاك من هلك من مكذبيهم، ونجاة من نجا من مصدقيهم آيات لمن ذكر، فهذه الأنباء والقصص التي ذكرت هاهنا تفسير لقوله: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ... (39) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: فتولى هو وركنه، وهم جنوده وقومه عن اتباع موسى - عليه السلام - وما يدعوهم إليه. والثاني: فتولى هو بقوة ركنه، وهم قومه، أي: تولى عن الحق واتباع موسى - عليه السلام - بقوة قومه ومعونتهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ). سماه: ساحرًا بما أتى من الآيات المعجزة، وقومه إنما يعرفون وصف السحر على هذا الوجه، فسماه بذلك وإن أيقن هو أن مثل ذلك الفعل لا يكون سحرًا؛ تمويها على قومه، وسماه مجنونًا؛ لما خاطر بنفسه بمخالفته، مع علمه أن همته القتل لمن خالفه في دينه وملكه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40). وهذا يدل على أن تأويل قوله تعالى: (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أي: تولى هو، وتولى قومه وجنوده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (مُلِيمٌ)، أي: يلام عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مُلِيمٌ)، أي: هو مذموم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: هو مذنب. ثم دل قوله تعالى: (فَنَبَذْنَاهُمْ) على أن لله تعالى في أفعال العباد صنعا؛ حيث أضاف ذلك إلى نفسه، وهم الذين دخلوا في اليم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي عَادٍ ... إذ أرسلنا (41). أي: في أمر عاد بينة وآية وعبرة للمؤمنين؛ كقوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)، أي أهلكوا بالريح، وقد بلغ من

(42)

عتوهم أن قالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، فأذلهم اللَّه تعالى حتى خضعوا لأضعف شيء، وأخافهم منه، وهي الأصنام التي عبدوها، حتى خوفوه وقالوا: (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ)، وذلك غاية الذل والهوان، أن خافوا من أضعف شيء وأعجزه، بعدما بلغ من عتوهم وتمودهم أن قالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً). ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرِّيحَ الْعَقِيمَ). قال أَبُو عَوْسَجَةَ: تفسيرها ما ذكر في الآية: (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ). وقال غيره: العقيم هو الذي لا خير فيه ولا بركة؛ أي: عقمت عن الخيرات؛ ولذلك يقال للمرأة التي لا تلد، والرجل الذي لا يولد له: العقيم؛ لما أنه ليس منهما منفعة الولد ولا بركته؛ فعلى ذلك الريح العقيم، أي: لا منفعة فيها ولا بركة؛ فأما للمؤمنين، فهي نافعة - أيضًا - حيث أهلكت أعداءهم ولم تهلكهم، وفي ذلك تطهير الأرض عن نجاسة الكفر. وفي الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " نصرت بالصَّبا، وأهلكت عاد بالدبور ". وقيل: (الرِّيحَ الْعَقِيمَ): هي الدبور، وهي التي لا تلقح الأشجار والسحاب والنبات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42). أي: ما تذر من شيء أتت عليه، وأمرت هي بإهلاكه، وأذن لها بذلك، إلا جعلته كالرميم؛ ألا ترى أنها أتت على أشياء لم تهلكها، وقد سلم - عليه السلام - وقومه من المؤمنين، وإلى أنهم لما رأوها من بعد قالوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)، فقال هود - عليه السلام - (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وما ذكر (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)، أخبر أنها قد أبقت مساكنهم، وهو ما ذكر في آية أخرى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)، أي: تدمر كل شيء أمرت وأذن لها بالتدمير؛ ليعلم أنها كانت تعمل بالأمر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43). أي: وفي أمر ثمود وإهلاكهم أيضًا آية وحجة للمؤمنين. ثم ذكر عتوهم وتمردهم (إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ)، وهو الثلاثة أيام التي ذكرت في

(44)

آية أخرى، فقال: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)، يخبر أن كان قد بلغ عتوهم أن قد أجلوا ثلاثة أيام لنزول العذاب بهم، فلم يمنعهم ذلك عن عتوهم، ولم ينجع فيهم، وقومك يا مُحَمَّد؛ حيث لم نذكر لعذابهم وقتا ولا أجلا أحق ألا ينجع فيهم ما توعدهم به، ولا ينفعهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ... (44). أي: عما أمروا بطاعة ربهم، والعتو: هو البلوغ في البأس والقساوة غايته؛ كقوله تعالى: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)، أي: [يابسًا]. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ). أي: إلى الصاعقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: ما استطاعوا في الانتصار لعذاب اللَّه والقيام له. والثاني: ما استطاعوا من دفع العذاب عن أنفسهم، لا بأنفسهم، ولا بغيرهم، (وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ) بالأنصار والأعوان، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ... (46). أي: في أمر نوح - عليه السلام - من قبل هَؤُلَاءِ وإهلاكهم آية بينة وحجة للمؤمنين؛ على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) ظاهر. * * * قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ). أي: خلقناها بقوة، (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي: لقادرون. وجائز أن يكون الموسع: الواجد؛ كقوله تعالى: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ)، أي: على الواجد الموسر قدره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) في التدبير، تدبير جميع الخلق عليهم أرزاقهم.

(48)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48). أي: بسطناها ومهدناها (فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) لكم الأرض؛ حيث مهدها لكم مبسوطة مفترشة تجدونها كذلك ما كانوا وأينما كانوا، من غير تكلف، ويستعملونها كيف شاءوا في أي منفعة شاءوا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ... (49). قَالَ بَعْضُهُمْ: صنفين من الحيوان؛ فإنه خلقهم ذكرًا وأنثي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (زَوْجَيْنِ)، أي: لونين، نحو أبيض وأسود، وأحمر وأصفر. والأول قول الزجاج، والثاني قول الْقُتَبِيّ. وأصله: أنه يخرج على وجهين: أحدهما: (زَوْجَيْنِ)، أي: شكلين، فيعلمون ببعضه بعضًا، أو ضدين فيناقض بعضه بعضا، واللَّه - سبحانه وتعالى - ليس بذي شكل، ولا ذي ضد؛ فيدل ما أنشأ من الأضداد والأشكال على وحدانيته وألوهيته. والثاني: خلق الأشياء مختلفين متضادين؛ ليدل على إيجاب المحن عليهم من نحو عسر ويسر، وغناء وحاجة، وخير وشر؛ ليمتحنهم على اختلاف الأحوال وتضادها؛ فيرغبهم في كل مرغوب، ويحذرهم عن كل مرهوب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). أي: تذكرون آيات وحدانيته وألوهيته. أو تذكرون -باختلاف الامتحان- البعث، والثواب، والعقاب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) يحتمل وجوها: قَالَ بَعْضُهُمْ: ففروا إلى توحيد اللَّه من الشرك به؛ دليله قوله على إثره: (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) وهو قول أبي بكر الأصم. ويحتمل (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) أي: ففروا إلى ما دعاكم اللَّه تعالى إليه عما نهاكم عنه؛ كقوله سبحانه: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)، أي: ففروا إلى الأعمال الصالحة من الأعمال القبيحة. ويحتمل: ففروا إلى ما وعد لكم من الثواب عما أوعد لكم من العقاب؛ أي: فروا إلى ثواب اللَّه عن نقمته وعقابه.

(51)

ويحتمل: ففروا إليه في جميع حوائجكم، ولا تطلبوا شيئًا من ذلك من غيره؛ فإنه هو القادر عليها حقيقة؛ فيكون في الآية ترغيب في الرجوع إليه في الحوائج، وقطع الطمع عن غيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) يحتمل وجوها: يحتمل: إني نذير لمن عبد دونه، أو سمى دونه إلها، (مُبِينٌ) آيات ألوهيته ووحدانيته. ويحتمل: إني لكم منه نذير مبين؛ لما يقع لكم به النذارة والبشارة. وقال أبو بكر الأصم: إني لكم منه نذير مبين بما نزل بمكذبي الرسل بتكذيبهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51). أي: لا تسموا مع ألوهية اللَّه تعالى لأحد دون اللَّه: ألوهية، ولا تسموا دون اللَّه: إلها. أو يقول: لا تعبدوا دون اللَّه إلها آخر؛ أي: معبودا آخر؛ فإنه لا يستحق دون اللَّه أحد للعبادة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) قد ذكرناه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) لم يذكر في هذا الموضع القول منهم: إنهم قالوا للرسول: إنك ساحر أو مجنون، ولكن إن لم يكن مذكورا في ظاهره، لكن ما ذكر أن أوائلهم كانوا يقولون لرسلهم ذلك - دلالة أنهم قد قالوا: إنه ساحر، وإنه مجنون؛ حيث قال: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) يصبر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أذاهم بنسبتهم إياه إلى السحر والجنون؛ كقوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالصبر على أذاهم، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ). قال أبو بكر الأصم: إنما قالوا: ساحر أو مجنون؛ لأن السحر والجنون عندهم واحد؛ كقول فرعون لموسى - عليه السلام - لما أتى به من الآيات: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا)؛ فلذلك قالوا مرة: ساحر، ومجنون مرة. ولكن هذا فاسد؛ فإنه لا يحتمل أن يكون الجنون والسحر عندهم واحدًا؛ لأن الساحر هو الذي بلغ في العلم في كل شيء غايته، والمجنون هو الذي بلغ في الجهل غايته، ونسبوهم إلى السحر؛ لما أتى لهم من الآيات ما عجز الناس عن إتيان مثلها، وقد عرفوا هم أنها آيات -أعني: رؤساءهم وأئمتهم- لكن قالوا: إنها سحر؛ على إرادة التلبيس

(53)

على الأتباع والعامة؛ لما عند الناس أن لا كل أحد يقدر على إتيان السحر، فقالوا: إنهم سحرة للرسل لهذا؛ وإنما نسبوهم إلى الجنون لما أنهم خالفوا الفراعنة والأكابر الذين كانت همتهم القتل وإهلاك من خالفههم في المذهب والأمر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53). أي: أوصى أوائلهم أواخرهم في تسميتهم الرسل - عليهم السلام -: سحرة ومجانين؛ وأن يوافق بعضهم بعضا في نسبتهم الرسل إلى السحر والجنون، أي: لم يزل الكفرة يقولون لرسلهم ذلك. ويحتمل أن يكون ذلك على التمثيل، لا على حقيقة القول منهم؛ لما كان اجتماعهم لأجل هذا القول في كل وقت؛ فصار ذلك الاجتماع منهم كالتواصي من بعضهم لبعض، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ). يخبر أنهم لا عن جهل وشبهة قالوا: إنهم سحرة، ولكن عن طغيان، وتعدي [حد الله]- عَزَّ وَجَلَّ - والمجاوزة له؛ لأن الطاغي؛ هو المجاوز عن الحد الذي جعل له، والمتعدي عنه. وقوله تعالى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54). قال بعض أهل التأويل: لما نزل هذا خاف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رضي الله عنهم - أنه ينزل بهم العذاب حتى نزل قوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). لكن عندنا يخرج قوله - تعالى -: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) على وجهين: أحدهما: أي: تولَّ عنهم، فأعرض ولا تكافئهم بإساءتهم إليك بقولهم: إنه ساحر، وإنه مجنون؛ فإن اللَّه تعالى سيكفيهم عنك، ويجازيهم مجازاة إساءتهم. والثاني: يأمره بالإعراض والتولي عن قوم علم اللَّه تعالى أنهم لا يؤمنون؛ يؤيسه عن - إيمانهم، ويقول: لا تشتغل بهم؛ فإنهم لا يؤمنون لك ولا يصدقونك، ولكن اشتغل بمن ترجو منه الإيمان، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون لا على حقيقة الأمر، ولكن على التخيير؛ أي: لك أن تتولى عنهم وتعرض؛ فإنك قد بلغت، وأعذرت في التبليغ والدعاء غايته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ). جائز أن يكون المراد من نفي الشيء إثبات مقابل ذلك الشيء وضده؛ كقوله تعالى: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)، ذكر الربح، والمراد: إثبات الخسران؛ كأنه قال:

(55)

فما ربحت تجارتهم؛ بل خسرت؛ فعلى ذلك جائز قوله: (فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) بل بمحمود، واللَّه أعلم. وقال أبو بكر الأصم: (فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)؛ لأنه قد بلغ الرسالة، وما أمر بتبليغه إلى الخلق، وقام بأمره ونصح خلقه، وخفض جناحه لهم، فكيف يلام؟! أي: ما أنت بالذي تلام على صنيعك وعلى فعلك، وإن كان بعض الناس يلومك، وهم الكفار. وفيه دلالة الحفظ والعصمة له عن الزيغ والزلات؛ إذ لو كان بالذي يحتمل الزيغ والزلة، لكان يحتمل الملامة؛ فدل أنه لا يحتمل الزيغ والعدول عن الحق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55). جائز أن يكون الأمر بالتذكير للكل، ثم أخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين، لا الكل. وجائز: فذكر المؤمنين؛ فإن منفعة الذكرى لهم، ولمن أنصف، دون المكابرين المعاندين، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). إن كان المراد من ذكر العبادة: حقيقة العبادة فيخرج تأويله على وجهين: أحدهما: جوابا لمن لا يرى الجن والإنس يؤمرون بالعبادة ويمتحنون بها، فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، أي: خلقهم على معرفة المحاسن والمساوئ، والتمييز بين ما يؤتى وما يتقى بما ركب فيهم من أسباب التمييز والمعرفة، لا يتركهم سدى مهملين؛ بل لامتحانهم بالعبادة، والقيام بشكر ما أنعمت عليهم من أنواع النعم؛ إذ الحكمة توجب ذلك، وتدفع تركهم سدى هملا، واللَّه أعلم. والثاني: خرج جوابا لمن يرى العبادة دونه جائزا؛ لقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، لم أخلقهم لعبادة غيري، أو لآمرهم بعبادتي، لا لآمرهم بعبادة غيري؛ كما قاله بعض الكفرة بقولهم: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)؛ ردًّا ونقضا لاعتقادهم، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) على حقيقة العبادة؛ لوجهين: أحدهما: على حقيقة فعل العبادة، وعلى هذا الوجه لم تكن الآية معمولا بها على العموم، بل على الخصوص، وهم المؤمنون من الجن والإنس دون الكفرة منهم؛ فإنه لا

يجوز أن يخلق الكفرة الذين علم منهم: أنهم لا يؤمنون للعبادة؛ إذ خلقه، عن اختيار وإرادة، فإذا خلقهم وأراد منهم العبادة لابد أن توجد منهم، وقد علم منهم أنه لا توجد؛ فيصير كأنه أراد تجهيل نفسه، وهذا محال؛ فدل أن المراد منه الخصوص، وقد خص منه البعض بلا خلاف؛ فإن الصغار والمجانين قد خصوا، بأنه لا يتحقق منهم العبادة؛ فجائز أن يخص منه الكفرة الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون، واللَّه أعلم. ويحتمل أن المراد منه الأمر بالعبادة، أي: ما خلقتهم إلا لآمرهم بالعبادة والتوحيد. وهذا التأويل أقرب إلى العمل بالعموم؛ فإنه يدخل فيه العقلاء من الجن والإنس دون الصغار والمجانين. ويجوز أن يأمر بشيء ولا يريد تحصيل المأمور به، وصيرورة المأمور مطيعًا له؛ بل يريد أن يصير عاصيا فيدخل النار، بخلاف إذا خلقه للعبادة وأرادها منه لا يجوز ألا توجد، وحقيقة هذا تعرف في كتاب التوحيد: أنه خلق الإيمان والعبادة؛ إن علم منه أنه يعبد ويختار العبادة له، فأما من علم منه اختيار الضلال والغواية، وصرف العبادة إلى غيره، فإنه خلقه على ما علم منه أنه يختار ويفعل؛ لقوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. . .) الآية. وقال قائلون: لم يرد بقوله تعالى: (لِيَعْبُدُونِ) حقيقة العبادة التي، هي فعل العبد على وجه الاختيار، ولكن معناه: وما خلقت الجن والإنس إلا وقد جعلت في كل أحد منهم دلالة وحدانيتي ودلالة صرف العبادة إليَّ، والقيام بالشكر لي فيما أنعمت عليهم من أنواع النعم ما لو تأملوا فيها ونظروا، تدلهم على ما ذكرنا من العلم بالوحدانية لي، والقيام بالعبادة والشكر، واللَّه أعلم. وعلى هذا التأويل تكون الآية عامة، لا خصوص فيها؛ لأن خلقة كل أحد منهم على أي وصف كان دلالة ما ذكرنا، واللَّه الموفق. ويحتمل أيضًا: وما خلقت الجن والإنس إلا على خلقة تصلح للمحنة بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولتحقيق فعل ذلك بما ركب فيهم العقل، وجعل مفاصلهم لينة، قابلة الأفعال، تصلح للخدمة: من الركوع، والسجود، والقيام، والقعود، ونحوها، على خلاف غير هَؤُلَاءِ من المخلوقات؛ فإنها خلقت على خلقة تصلح لمنافع الممتحنين، لا على وجه يصلح للمحنة، واللَّه أعلم. ثم في العبادة خصوصية معنى، ليس ذلك في الطاعة والخدمة، وغير ذلك من الأفعال؛ كقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)؛ حيث لم يجز

(57)

العبادة لغيره، وأجاز الطاعة والخدمة، والتعظيم، وغير ذلك من الأفعال؛ كقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، دل أن في العبادة معنى ليس ذلك المعنى في غيره؛ لذلك وقعت الخصوصية له؛ ولذلك خص نفسه بتسمية: الإله، لم يجز التسمية به لغيره؛ إذ الإله عندهم: معبود، فكل معبود عندهم يسمونه: إلها، وذلك كما خص نفسه بتسمية: الرحمن، لم يجعل ذلك لغيره، وجاز تسمية غيره: رحيما؛ لما أن في اسم الرحمن زيادة معنى ليس في الرحيم، وكذا خص نفسه بتسميته: خالقا، ولم يجز هذا الاسم لغيره؛ لما أن في الخالق معنى، ليس ذلك المعنى في الفاعل وغيره، فكذلك هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57). قال عامة أهل التأويل: ما أريد منهم أن يرزقوا أنفسهم، ولا أن يطعموا أحدا من خلقي، إنما عليَّ رزقهم وإطعامهم؛ كقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا). ويحتمل: ما أريد منهم أن يرزقوا من لا يقوم بأسباب الرزق وأن يطعموهم؛ إذ ذلك عليَّ، وإنَّمَا أريد منهم العبادة. أو الأمر بالعبادة على الوجه الذي ذكرنا؛ لأنهم لم ينشئوا لأُولَئِكَ الذين لم يجعل لهم المكاسب وأسباب الرزق من الدواب؛ بل هن أنشئن لأجلهم رزقًا ومتعة، واللَّه أعلم. ْويحتمل أن يكون على الإضمار؛ على ما قَالَ بَعْضُهُمْ، أي: قل يا مُحَمَّد: ما أريد منكم فيما أدعوكم إليه من أجر، وما أريد أن تطعمون؛ فيثقل عليكم الإيمان. ويحتمل: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ)؛ أخبار أنه لم يخلقهم لحاجة له في خلقهم من الرزق والإطعام منهم؛ لما أقام من دلالات تبرئه عن الحوائج، وعن الرزق والطعام، وإنما خلقهم للأمر، والنهي، والامتحان - رجعت منافع ذلك إليهم، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أن الأسباب والمكاسب التي بها يرزقون، ويصلون إلى الانتفاع بها، هي فعل اللَّه تعالى وله فيها صنع، صار بذلك رازقًا، لولا ذلك لم يصلوا إلى ذلك، وإن كان الخلق هم الذين يكسبون ويعملون تلك الأسباب والمكاسب، فلما أضيف إليه الرزق؛ لما أنشأ فعل تلك الأسباب والمكاسب منهم، واللَّه أعلم؛ فيكون في هذا دليل على أن

(59)

لله تعالى صنعا في أفعال العبد وهو الخلق والإنشاء؛ حيث سمى نفسه: رازقا، وهم يرزقون بتلك المكاسب والأسباب، وأكثر أرزاقهم بأفعالهم، دل أن له فيها صنعا؛ حتى تصح إضافة ذلك إليه وتسميته: رازقًا، ولا يجوز هذا الاسم لغيره، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل الإضافة إليه؛ لأنه يرزقهم بما جعل في تلك الأسباب والمكاسب من اللطف لا بأنفس الأسباب؛ لأنهم يزرعون ويطرحون البذر فيها، فيهلك ذلك البذر، فيها، وكذلك يسقون الأرض، ويهلك ذلك الماء فيها. ثم إن اللَّه تعالى جعل بلطفه ورحمته في ذلك من اللطف ما يصير ذلك رزقا لهم بعد ذهاب عينه والقوة التي جعلت فيه، وكذلك ما جعل ذلك من الصلاح، والنضج، والطبخ، وما يرجع إلى الإصلاح لذلك، والأكل، والمضغ، والابتلاع، ونحو ذلك، ليس في ذلك إلا امتلاء البطن، وفي ذلك فساد، فجعل فيه من القوة ما ينشر في البدن والأطراف قوة؛ فيبقون بتلك القوة فيهم الحياة والبقاء، لا بنفس الرزق، وهو ما وصف اللَّه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) بتلك القوة يحيون، وبها يبقون. ثم قوله تعالى: (الْمَتِينُ) قيل: المتين هو وصف ونعت لتلك القوة، فيجوز وصف تلك القوة بالمتانة، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - لا يوصف أنه متين، وهو كقوله تعالى: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)، وصف العرش بالمجيد، والعرش غيره؛ فعلى ذلك القوة التي جعل فيها ما ذكرنا غيره يجوز أن توصف بما ذكرنا من المتانة، وهي القوة التي لا يملكها الخلق، ولا يدركون ذلك اللطف الذي جعل في ذلك، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي: ذو البطش الشديد فيما أهلك الأمم الخالية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) كأنهم استعجلوا نزول العذاب، فنزلت هذه الآية على أثر سؤال العذاب؛ كقوله تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)، وقوله تعالى: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، فقال عند ذلك: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ)، أي: لهم نصيب من ذلك العذاب مثل نصيب أوائلهم من العذاب؛ فيكون على التمثيل، كما يقال: حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة، ويقال: صاع بصاع، وكيل بكيل؛ أي: يكال عليه مثل ما كيل لغيره، ونحو ذلك من الأمثال التي تضرب؛ فعلى ذلك ما ذكرنا من الذنوب، واللَّه أعلم.

(60)

وكذلك ذكر عن الأصم قال: ذكر الذنوب، وهو الدلو العظيم الذي كانوا يقتسمون به المياه، وكان من عادة العرب: أنهم يجمعون فيرسلون دلاءهم في البئر، فكان كل واحد منهم يأخذ حظه ونصيبه من الماء، فيقول لأهل مكة: لا تستعجلوا؛ فإن لكم نصيبا من ذلك العذاب كما كان لأُولَئِكَ؛ كالدلاء التي تكون في البئر، فيأخذ كل واحد منهم نصيبه. وكذلك قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ -: الذنوب - الحظ والنصيب. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمي ذلك العذاب: ذَنوبا؛ لما يتبع بعضهم بعضا، واللَّه أعلم. فيقول: يتبع العذاب لهَؤُلَاءِ كما يتبع لأُولَئِكَ؛ كالدلاء يتبع بعضها بعضا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ) أي: قد يبلغون وقته فلا يستعجلون العذاب، وهو الوقت الذي يسألون الرجوع كما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ ارْجِعُونِ). وقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) يوم القيامة، ولكن لم يبين ذلك اليوم ما هو؟ فيحتمل ما قالوا، ويحتمل غيره، والويل قد ذكرنا تأويله فيما تقدم. فَإِنْ قِيلَ: كيف خوف اللَّه تعالى هذه الأمة بما أنزل على الأمم الخالية من الاستئصال والإهلاك، وقد عافى هذه الأمة عن هذا وأمَّنهم منه؟ قيل: إنما خوفهم بما ذكر؛ لأن المعنى الذي استوجب أُولَئِكَ الاستئصال والإهلاك به يحتمل أن يتحقق ذلك في هَؤُلَاءِ. وقد يحتمل ألا يكون، فالتخويف صحيح لهَؤُلَاءِ بهم، وإنما يكون مثل هذا التخويف في أول الأمر، ثم إن اللَّه بفضله ورحمته عفا عنهم بفضل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورحمته؛ كقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ). ويحتمل أن يكون العفو لهم عن ذلك بالتأخير عنهم إلى وقت، وهو وقت قبض أرواحهم وخروجهم من الدنيا، وفي ذلك الوقت يعاقبون بأنواع العذاب، وينزل بهم ما نزل بأُولَئِكَ، لا أنهم عفوا عن ذلك أصلا. ويحتمل أن يكون ينزل بهم ذلك في الآخرة، وذلك كله فضل منه ورحمة، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة الطور

سُورَةُ الطُّورِ ذكر أن سورة الطور كلها مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16). قول - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3). الآية. ثم اختلف بالقسم بالطور وما ذكر؛ قال قائلون: القسم إنما هو بمنشئ هذه الأشياء التي ذكر، لا بهذه الأشياء أنفسها؛ إذ اللَّه تعالى نهى الخلق أن يقسموا بغيره، فكيف يقسم بنفسه. وقال قائلون: يجوز أن يقسم - جل وعلا - بما شاء وبمن شاء، بالذي عظم قدره عندهم. وقد ذكرنا: أن الأقسام إنما تكون بالأشياء التي عظمت أقدارها ومحلها عند الخلق، يقسم بها لدفع الشبه التي تمنع وقوع العلم لهم بذلك والمعرفة بالذي اشتبه عليهم والتبس؛ ليعرفوا أن ذلك كائن لا محالة، وأنه بالذي اشتبه عليهم والتبس، وأنه حق، بما لو تفكروا في تلك الأشياء وأمعنوا النظر فيها على غير قسم، لوقع لهم العلم بذلك وتحقق، واللَّه أعلم. ثم اللَّه تعالى أقسم بأشياء سواه، وليس للخلق ذلك؛ لأن قسم الخلق يخرج مخرج الفزع إليه والتضرع، ولا يجوز الفزع إلا من سواه والاستعانة به، فأما القسم من اللَّه تعالى حقيقة فهو على التذكير والتنبيه للخلق، وتأكيد ما وعد لهم من الجزاء؛ فيجوز له القسم بكل ما يكون لهم التذكير والتنبيه والتأكيد، وإن كان بغيره وسواه مما لذلك خطر ومحل عند الناس وعند اللَّه تعالى، واللَّه أعلم. ولأن القسم المذكور في القرآن لإثبات صدق أخبار الرسل إليهم، وأنهم رسله، وأنهم إذا فعلوا كذا ينزل عليهم من العذاب كذا؛ لأن أُولَئِكَ الكفرة لم يكذبوا اللَّه تعالى في خبر حتى يكون قسمه لإثبات صدق خبره، وإنما يتحقق صدق خبرهم بما أقاموا من المعجزات والبراهين، لكن يتأكد بالقسم فيحصل ذلك بذكر ما له خطر ومحل عندهم،

(2)

فأما قسم الخلق لإثبات أصل الصدق؛ فيجب أن يقسموا بذكر ما هو النهاية في العظمة والقدر في القلوب، وهو أسماء اللَّه تعالى وصفاته، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون القسم بهذه الأشياء من الرسل - عليهم السلام - فإن كان كذلك فهو على الإضمار؛ كأنهم قالوا: بمنشئ الطور، وكتاب مسطور وما ذكر إلى آخره؛ إذ القسم مِن البشر يكون باللَّه - سبحانه وتعالى - وصفاته، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالطُّورِ) جائز أن يكون القسم واقعا بالجبال كلها؛ لما أن الله تعالى أنشأ الأرض خلقًا تميد بأهلها، وأرسى فيها هذه الجبال ووتدها حتى استقرت وسكنت، حتى وصل الخلائق إلى الانتفاع بهذه الأرض والقرار عليها، وصارت مهادا لهم، وفراشا لهم؛ على ما ذكر؛ يتقلبون فيها، ويتصرفون كيف شاءوا وإن أرادوا ذا، أرادوا حيث أحبوا، ثم إذا عرفوا ذلك، لزمهم أن يعرفوا أن عليهم شكر ما أنعم عليهم، فإذا تركوا ذلك لزمهم عقوبة الكفران وجزاؤه، وأوعد لهم ذلك؛ فيؤكد ما ذكر من القسم وقوع ما ذكر من العذاب بهم؛ حيث قال: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8). ويحتمل أن يكون المراد بالطور: هو جبل خاص، وهو الجبل الذي كلم اللَّه - سبحانه وتعالى - موسى عليه، وأنزل عليه التوراة، وهو طور سيناء، وذلك جبل مما عظم قدره عند بني إسرائيل حتى عرفوا قدره وفضله، فأقسم بذلك الجبل (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ). ويحتمل أن يكون المراد بالطور: هو جبال خاصة، وهي الجبال التي أوحى عليها إلى رسله - عليهم الصلاة والسلام - على ما روي في الخبر: " أوحى اللَّه تعالى إلى موسى - عليه السلام - في جبل ساعور، وإلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في جبل فاران "، فأقسم بها أن ما وعد من العذاب واقع بهم، واللَّه أعلم. وفي الآية دلالة إثبات الرسالة؛ فإنه أخبر - عليه الصلاة والسلام - عن أمكنة الوحي، وفضل تلك الجبال ومعرفة ذلك إنما هو من الكتب المتقدمة، وهم قد أحاطوا العلم بأنه لم يكن اختلف إلى أحد ممن له معرفة بتلك الكتب حتى يعلم منه؛ فدل أنه باللَّه - عز وجل - عرف أمكنة الوحي، وفضل تلك الجبال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2). يحتمل القسم بجميع الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إذ بها يوصل إلى معرقة آيات الرسل - عليهم السلام - وإلى معرفة ما يؤتى ويتقى، وإلى أخبار السماء، ومعرفة الأحكام والحدود، وغير ذلك من أحكام من وجوه الحكمة، أقسم بها

(3)

أن العذاب واقع بهم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن القسم يرجع إلى عدد من الكتب: كالتوراة، والإنجيل، والزبور - المعروفة التي عرف أهل الإيمان بها حقها ونزولها من السماء. ويحتمل أنه راجع إلى خاص من الكتب، وهو القرآن بما عظم قدره عندهم؛ لما يعجز البشر عن إتيان مثله؛ على ما ذكرنا في الطور، واللَّه أعلم. ويحتمل ما ذكره أهل التأويل: أنها الكتب التي يكتب فيها أعمال بني آدم، ولم يذكروا جهة القسم بها، ولست أعرف وجهه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) أي: غير مطوي. وقال أبو عبيدة: الرق: الورق. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الرق: الكتاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4). يحتمل البيوت كلها جملة، وهي البيوت التي جعل اللَّه تعالى للخلق، يسكنون فيها، ويتقون بها من الحر والبرد، ويأمنون فيها، وهو ما قال اللَّه تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا. . .) الآية. ما عرف كل منافعها، وعظم نعمة اللَّه تعالى عليهم في ذلك؛ ليستأدي بذلك شكرا، فأقسم بما ذكر أن من لم يقم بوفاء الشكر، استوجب العذاب والعقوبة، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون القسم بالبيت المعمور هو الكعبة، وهو معمور، قد عظم اللَّه شأنه وأمره في قلوب الناس كافة، في قلوب الكفار والمؤمنين جميعًا، حتى كانت قريش وسائر العرب يحجونه ويزورونه، ويعظمونه، فأقسم به؛ على ما ذكر، واللَّه أعلم. وقال أبو عبيدة: البيت المعمور: الكثير الأهل. وأهل التأويل يقولون: البيت المعمور هو في السماء، يزوره أهل السماء، ويطوفونه، لكن القسم به يبعد؛ لما لم يسبق لهم المعرفة والمشاهدة به، فكيف أقسم بشيء لم يعرفوه، ولا وقع لهم العلم بالمشاهدة؛ إلا أن يقال: إن القسم به لأهل الكتاب، وذلك في كتبهم يعرفونه، فأما من لم يسبق له الخبر والمعرفة بذلك مشاهدة فبعيد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) هو السماء التي رفعها بلا عمد يرونها من أسفل، ولا تعليق من الأعلى، على بعدها من الأرض، وسعتها وعرضها وشدتها

(6)

وغلظها؛ ليعلم أن من فعل هذا، لا يفعله لغير شيء؛ بل ليمتحن، ويأمر، وينهى، وليستأدي شكره، فمن خالف أمره ونهيه، وكفر نعمه، وانتهك محارمه، استوجب ما ذكر، واللَّه أعلم. وليعلم أن من قدر على ما ذكرنا قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء، يذكر سلطانه وقدرته وعظمته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6). قال أهل الأدب: هو البحر الملآن الحار؛ لأنه - جل وعلا - منذ أنشأه، أنشأه حارًّا ممتلئًا، عميقا، لم يتغير في وقت من الأوقات، ولا في حال من الأحوال، بل كان على حالة واحدة حارًّا، مالحًا ممتلئًا عميقا عريضا، ليس كسائر الأنهار التي ربما تتغير عن جهتها من قلة الماء وسكونه وغورها في الأرض وامتلائها من الطين، وحاجتها إلى الحفر، وغير ذلك من التغير الذي يكون بها، فأما البحر على حالة واحدة في الأحوال كلها، فأقسم به: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10). بين الوقت الذي ينزل بهم العذاب الموعود حين قال: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)، ودل أن وقت تعذيب هذه الأمة يوم القيامة، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ). وفيه وصف ذلك اليوم بالأهوال والشدة؛ لأنه تعالى ذكر أن السماء تمور مورًا، أي: تستدير استدارة، وتتحرك تحركًا، وذكر سير الجبال وما ذكر، وهذه الأشياء من أشد الخلائق وأصلبها، فهول ذلك اليوم وشدته عمل فيها ما ذكر من التحرك والسير والتغير وغير ذلك. وفيه أن هذا العالم كله أنشأه بحيث يفنيه وينشئ عالمًا آخر؛؛ لأنه ذكر فيه التغير من حال إلى حال؛ لأنه ذكر مرة سيرها وتحركها حيث قال: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ)، وذكر السماء وتحركها ومورها، وذكر للأرض انشقاقها، حيث قال: (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ)، وقال في آية أخرى: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ)، وقال: (يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)، وقال هاهنا: (وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا)، وكذلك قال في السماء والأرض اختلاف الأحوال، فقال: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)؛ فدل إثبات التغير في هذه الأشياء على هلاكها، كما دل أنواع الأمراض والتغير من حال إلى حال في أهلها على هلاكها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) أي: المكذبين لرسلهم،

(12)

عليهم السلام. ويحتمل: لتوحيده، أو لحججه، أو للبعث. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12). نعتهم ووصف أمرهم، حيث قال: (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ)، والخوض: هو البحث عن الشيء، إلا أن الخوض المطلق ذكروه واستعملوه في الباطل خاصة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13). أي: يدفعون في النار على وجوههم. وقال أبو عبيدة: يدفعون دفعًا في القفا خاصة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14). هو على الإضمار؛ كأنه يقال لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15). يقال لهم في الآخرة لما ألقوا في النار: أفسحر هذا؟! مقابل ما قالوا هم للحجج والبراهين في الدنيا إنها سحر. (أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يقال لهم لما أدخلوا النار: لعل ما أنتم فيه ليس بعذاب، وأنها ليست بنار، وأنتم لا تبصرون لذلك؛ كما أخبر عنهم في الدنيا: أنهم يقولون لحججه؛ حيث قال: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا. . .) الآية، فقال مقابل ذلك (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) أي: لعلكم لا تبصرون. والثاني: يقول: (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) في الدنيا: أن هذا ينزل بكم في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ ... (16) هذا كما قال إبليس: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ)؛ فعلى ذلك قوله - عز وجل -: (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ) أصبرتم أو جزعتم؛ فلا ينفعكم ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

(17)

أي: ذلك استوجبتم بأعمالكم، لا أن أوجبت عليكم شيئًا لم تستوجبوه. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. . .) الآية. يحتمل: في جنات وفي نعيم. ويحتمل: في جنات فيها نعيم؛ فتكون الواو بمعنى " مع "، أي: في جنات مع نعيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ناعمين متنعمين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: معجبين وهما واحد المعجب به والناعم سواء؛ لأنه إذا كان ناعما متنعما، كان معجبا مسرورًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَاكِهِينَ): ناعمين، و (فَاكِهِينَ) معجبين بذلك؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. ثم ذكر هاهنا: (فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ)، وذكر في سورة " الذاريات ": (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ)، فالفاكه ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ). أي: آخذين ما آتاهم ربهم بالشكر منه والحمد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)، هذا يخرج على وجهين: أحدهما: وقاهم، أي: عصمهم في الدنيا عن الأعمال التي توبقهم وتهلكم لو أتوا بها وعملوها، فإذا عصمهم عن ذلك، وقاهم عن عذاب الجحيم، واللَّه أعلم. والثاني: وقاهم أي: عفا عنهم في الآخرة، وصفح عما عملوا من الأعمال الموبقات في الدنيا ما لولا عفوه إياهم، لكانت توبقهم، ويستوجبون ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) كأنه على الإضمار، أي: يقال لهم لما أدخلوا الجنة، ونزلوا منازلهم: كلوا واشربوا. وقوله: (هَنِيئًا) أي: ليس عليهم في ذلك خوف التبعة، ولا خوف حدوث مكروه في

(20)

أنفسهم ولا آفة؛ لأن ذلك ينغص عليهم ذلك، ليس كما يؤكل في الدنيا، فيه خوف التبعة، وخوف حدوث المكروه والآفات في أنفسهم والضرر، فأخبر: ألا يكون لهم في الجنة ذلك؛ لئلا ينغص عليهم نعمها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) ذكر أن لهم في الجنة جميع ما ترغب إليه أنفسهم في الدنيا، ويتمنون بها، كقوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ)، وقوله: (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا. وَكَأْسًا دِهَاقًا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)، وأشباه ذلك مما يكثر عده مما تحدث به أنفسهم في الدنيا، ورغبهم فيه؛ ليرغبوا في طلبها وليتركوا ما في الدنيا من ذلك؛ ليصفوا لهم ذلك في الآخرة. وهذه الأحوال التي ذكر وأخبر أنه تكون لهم في الآخرة من الاتكاء على السرر، والمقابلة في المجلس وغير ذلك من الأشياء التي ذكرها في الكتاب. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ). كما يقال: تزوجت بفلانة وفلانة؛ فعلى ذلك هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21). قيل فيه بوجوه: أحدها: ما قال أبو بكر الكيساني: أي: يلحق الأولاد بإيمانهم وأعمالهم درجات الآباء والأمهات، ولو قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء والأمهات لأن الدرجات إنما تكون بالأعمال، فهم وإن لم يبلغوا في الأعمال مبلغ آباهم؛ فإنهم يلحقون بهم في الدرجات، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الذرية التقنوا الإيمان من آبائهم وأمهاتهم، وأخذوه منهم، ولم يبحثوا عن حجته وبرهانه حتى يكون أخذهم وقبولهم عن البحث عن الحجة والبرهان، فهم وإن كانوا مقلدين آباءهم في الإيمان، متلقنين منهم فإنهم يلحقون بآبائهم وإن كان الإيمان عن الحجة أفضل من الإيمان بالتقليد والالتقان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الذرية وإن لم يبلغوا مبلغا يكون منهم الإيمان، فإنهم يلحقون بآبائهم وأمهاتهم في إيمانهم، وإن لم يكن منهم الإيمان ولم يأتوا به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ). على تأويل أبي بكر: أي: وما ألتنا من أعمال الذرية من شيء؛ أي: ما نقصنا أعمال آبائهم في الثواب وإن قصرت أعمالهم عن أعمالهم، بل يبلغون درجات آبائهم، ويوفرون

(22)

كما يوفر على آبائهم؛ وتأويله أبعد هذه التأويلات التي ذكرنا. وعلى تأويل غيره: أي: ما نقصنا من أعمال آبائهم شيئًا، أي: إنهم وإن بلغوا مبلغ الآباء، فإن الآباء لا ينقصون من أعمالهم شيئًا، ذكر هذا حتى لا يظن أنه ينقص من ثواب آبائهم ويعطي ذلك لهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا صلة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)، وهو يرد قول من يقول بأن الرهن لصاحبه، له أن يحلبه، وأن يركبه، وأن ينتفع به، ثم يرد إلى المرتهن، ولو كان له هذا، لكان لا يكون رهنا؛ إذ أخبر: أنه رهين -أي: محبوس- فالرهن هو الذي يحبس في كل وقت، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22). أي: وأمددناهم فاكهة، والباء في (الفاكهة) زائدة كما ذكرنا في قوله تعالى: (بِحُورٍ عِينٍ). ثم يحتمل أن يكون قوله: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ) إخبارًا عن دوامها وكثرتها، أي: لا تنقطع ولا تقل، وليس كفواكه الدنيا أنها لا توجد في كل وقت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ). أخبر أنهم يأكلون جميع ما يشتهون، ويجدون ما يتمنون، ليس كالدنيا، ربما يشتهي شيئًا لا يجده، ويجد ما لا يشتهيه، وهو كقوله - تعالى -: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) أي: يتعاطون فيها كأسا، ويأخذ بعضهم من بعض، كما يكون في الدنيا لا يكون لكل أحد كأس على حدة، وهو كما روي في الخبر: أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل مع بعض أزواجه وربما تتنازع أيديهما. وقال أبو بكر الكيساني: الكأس هو الخمر. وقال غيره: هو الإناء المملوء من الخمر، وأما الذي لا شراب فيه فهو الإناء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا لَغْوَ فيها وَلَا تَأْثِيمَ) قرئ: (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ) بالرفع والتنوين. قال أبو عبيدة: إنه خبر بأنه ليس فيها لغو ولا تأثيم، كما قال: (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ).

(24)

وقرئ بالنصب فيهما على التنزيه، وهو وجه غير مدفوع. وتأويل الآية: أي: لا يكون منهم من اللغو، وما يؤثم من القول؛ كما يكون في شراب الدنيا من اللغو وقول الإثم. وقيل: (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ)؛ لانها أحلت لهم، واللَّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24). يرغبهم فيها كما رغب إليهم أنفسهم في الدنيا من الخدم، والفواكه، والبسط ليطلبوها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25). قال أبو بكر الكيساني: يتساءلون عن المعاصي التي كانت منهم في الدنيا، واستدل بقوله على أثر هذه الآية: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) يحتمل قوله: (فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) وجهين: أحدهما: إنا كنا قبل وأهلنا مشفقين كقوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا). والثاني: أي: إنا كنا قبل على أنفسنا وأهلنا مشفقين، أي: خائفين على ما كان منا من الجنايات والمعاصي. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28). أي - واللَّه أعلم -: إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين على أنفسنا؛ لجناياتنا وراجين رحمته بقوله تعالى: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)، وصف اللَّه تعالى في غير آي من القرآن بالإشفاق والخشية، والطمع والرجاء: كقوله تعالى: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)، وقوله: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)، ونحو ذلك. ثم قوله: (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) قرئ: (أَنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) بنصب الألف وخفضه؛ فمن كسره، حمله على الابتداء؛ أي: ربنا كذلك على كل حال، ومن نصب أراد: يدعوه ثانيا؛ لأنه هو البر الرحيم، أي: يدعوه لأجل أنه كذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ). دل قوله: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ): أن لله أن يعذبهم بعذاب السموم، لكنه بمنِّه وفضله وقاهم، ولو كان عليه ذلك كما قالت المعتزلة لم يكن لذكر المنة معنى. * * * قوله تعالى: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ

(29)

أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43). وقوله: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29). أي: بما أنعم عليك من النبوة والقرآن لست بكاهن ولا مجنون. ثم هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: إنك لم تقابل نعمة ربك بذلك، عوفيت وعصمت عما ذكروا من الجنون، والسحر وغير ذلك، واللَّه أعلم. دلت هذه الآية على أنهم قالوا له: إنه كاهن، ومجنون، وكذا كانت عادة أُولَئِكَ أنهم ينسبون الحجج عند عجزهم عن مقابلتها إلى السحر، والأنباء المتقدمة إلى الكهانة، وخلاف الرسل - عليهم السلام - لقادتهم وفراعنتهم إلى الجنون، والكلام المستملح والنظم الجيد إلى الشعر؛ تلبيسا للأمر على أتباعهم، هذه كانت عادتهم، مع العلم منهم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليس كذلك، ولا اختلف إلى أحد من الكهان ولا السحرة ولا كان القرآن على نظم الشعر؛ إذ عجزوا عن إتيان مثله، وهم عن الشعر غير عاجزين، ثم لما عجزوا عن مقابلة ما آتاهم من الحجج قالوا: (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) أي: عن قريب يرجعون إلى ديننا، وإلى ما نحن فيه، وكانوا يقولون للضعفاء أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إن محمدًا يموت ويصير الأمر لنا؛ فترجعون إلينا؛ فقال تعالى: (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أي: تربصوا ذلك؛ فإني متربص ذلك بكم؛ فكانوا جميعًا أو عامتهم - أعني: الذين قالوا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إنه شاعر نتربص به ريب المنون - أهلكوا قبل وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فحل بهم ما ظنوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم. قَالَ الْقُتَبِيُّ: ريب المنون: حوادث الدهر وأوجاعه ومصائبه، والمنون: الدهر. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: ريب المنون، أي: المنية، وريبها: ما تأتي به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا ... (32) قد ذكرنا في غير موضع معنى حرف " أم " أي: ليست لهم عقول تأمرهم بذلك، أي: من يأمر بهذا فليس بعاقل. والثاني: " على تسفيه أحلامهم، أي: أي عقل يأمر بعبادة الأصنام، وينهى عن عبادة اللَّه تعالى؟! أي: لا عقل يأمر به. وقوله: [(أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)].

(33)

أي: طاغون في ذلك، والطغيان: هو المجاوزة عن الحد في العداوة. وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) أي: يعلمون أنك لست بمتقول، ولكن ينسبونك إلى التقول، لتكذيبهم بآيات اللَّه تعالى؛ وهو ما ذكر في آية أخرى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) -بالتخفيف والتشديد- (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)، يقول: إنهم لا يقولون: إنك كاذب فيما تقول، ولا ينسبونك إلى الكذب، ولكن إنما يكذبون الآيات، ويعتقدون كذبها؛ فعلى ذلك تقوله على علم منهم: أنك لم تتقول، ولكن اعتقدوا تكذيب الآيات والجحود لها، فيقولون: إنك تتقول من أعند نفسك، قال: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أي: لو كانوا صادقين بأن محمدًا يتقول على اللَّه، فليأتوا بمثل ما أتى به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) وإن خرج مخرج الأمر في الظاهر، فهو في الحقيقة ليس بأمر؛ لأنه لا يحتمل أن يأمرهم أن يأتوا بالكذب والافتراء، ثم هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على الإعجاز عن أن يأتوا بمثله. والثاني: على التوبيخ والتوعيد على ما قالوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الافتراء والتقول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35). قال عامة أهل التأويل: أم خلقوا من غير أب، ولكن ليس فيما ذكروا كثير فائدة، لو خلقوا من غير أب، إلا أن يريدوا بذلك: حتى لم يعرفوا من خلقهم، وممن خلقوا، بل كانت لهم آباء عودوهم وأعلموهم بأن لهم خالقا، وأنهم مخلوقون، وليسوا بخالقين، أو كلام نحوه، فكيف يتكلمون بما هو سفه، وكيف يصرون عليه. وعندنا يخرج على وجهين: أحدهما: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي: يعلمون أنهم لم يخلقوا لغير شيء، إذ لو خلقوا من تراب، ولغير معنى وحكمة، لكان خلقهم عبثًا باطلا، وهم يعلمون أنهم لم يخلقوا لعبًا باطلا. والثاني: يقال: لا يخلو إما أن يكون خلقوا من غير شيء، أو خلقوا من تراب وماء، فكيفما كان؛ فدل أن قدرته ذاتية لا مستفادة؛ فلا يحتمل أن يعجزه شيء.

(36)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ). أي: ليسوا هم بخالقين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ... (36) أي: يعلمون أنهم لم يخلقوهما. وقوله: (بَلْ لَا يُوقِنُونَ) يخرج على وجهين: أحدهما: أن ما يقولون إنما يقولون على الظن لا على اليقين. والثاني: (بَلْ لَا يُوقِنُونَ) أي: لا يصدقون، وذلك في قوة علم اللَّه تعالى بأنهم لا يؤمنون. فإن كان التأويل هذا، ففيه دلالة إثبات الرسالة؛ حيث أخبر عن الغيب. وإن كان التأويل هو الأول، ففيه أن جميع ما يقولون، إنما يقولون على الظن والجهل، لا على اليقين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أي: ليس عندهم خزائن ربك؛ على ما ذكرنا في قوله تعالى: (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) أي: لم يخلقوا؛ فعلى ذلك هذا: ليس عندهم خزائن ربك، ولا هم المصيطرون. ثم الآية تحتمل وجوها أيضًا: تحتمل (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ)، أي: الذي منعهم عن اتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو المنعة التي عندهم، ليس ذلك عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فيكونون هم لذلك أحق بالرسالة، أي: ليسوا بأحق. ويحتمل قوله تعالى: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ) أي: علم الغيب، أطلعوا على ذلك فعلموا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد تَقَوَّلَ على اللَّه تعالى؟! أي: ليس لهم علم الغيب. ويحتمل (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ)، أي: علم الغيب، ليس ذلك عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، بل عند رسوله ما يخبره ربه - جل وعلا - ليس عندهم شيء من ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ). أي: ليس هم المسلطين على أرزاقهم، ولا أرزاق غيرهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المسيطر: الرب تعالى، يقال: سيطر فلان، أي: صار ربا؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. وقال الزجاج: المسيطر: المسلط؛ يقال: سيطر، أي: تسلط. وقال أبو بكر: المسيطر: الغالب القاهر، لكن الغلبة والقهر بالحجة عليهم، وهذا يخرج على المقابلة برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما ذكر، ويحتمل على غير المقابلة، واللَّه أعلم.

(38)

وقوله: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38). هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أم لهم سبب وقوة؛ فيصعدون السماء؛ فيستمعون من أخبارها؛ فعلموا بذلك أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تقوَّل على اللَّه تعالى. والثاني: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ)، أي: لهم حجة وبرهان يستمعون فيه أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ما ذكروا، فإن قالوا: نعم لنا ذلك، يقال لهم عند ذلك: (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: بحجة بينة، أي: ليس لهم ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39). هذا ليس من نوع ما سبق ذكره؛ لأن ما تقدم من الآيات بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على المقابلة، وهذا راجع إلى اللَّه تعالى في الظاهر على ما سبق منهم القول: إن الملائكة بنات اللَّه، وهو ما قال: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)، يذكر سفههم في نسبتهم البنات إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وهم يأنفون من نسبتهن إليهم، فيسكن بذلك صدر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويصبره على أذاهم، أي: إنهم يقولون فيَّ ما قالوا؛ فاصبر على ما يقولون فيك، واللَّه أعلم. ويحتمل أن خرج ما ذكرنا من المقابلة برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ومعناه: أم لرسول الله البنات، ولكم البنون؛ فتتركون اتباعه لذلك؟! واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40). أي: لست تسألهم أجرا على اتباعك، فيمنعهم ذلك عن اتباعك، يذكر أن ليس لهم أسباب المنع، وهذه أسباب المنع، وإنما امتنعوا عن الاتباع تعنتا ومكابرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أي: عندهم علم الغيب؛ فيعلمون أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تقوَّله؛ بل ليس عندهم ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42). أي: يريدون كيدا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكن هم المكيدون، أي: إليهم يرجع ذلك الكيد، والذي أرادوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ثم يحتمل ذلك الكيد الذي أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه عليهم في الدنيا؛ على ما قاله أهل التأويل: إنهم قتلوا يوم بدر، ويحتمل ذلك في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43). أي: أم لهم إله يأمرهم بالذي يدعون على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؟ أي: أم لهم إله غير الله

(44)

يمنعهم من عذاب اللَّه تعالى؟! أي: ليس لهم. ويحتمل: أم لهم إله غير اللَّه يأمرهم بالذي يدعون على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من التقول على الله تعالى، أو يطلعهم على ذلك؟ أي: ليس لهم إله يطلعهم على ذلك، ويدفع عنهم ما ينزل من السماء من العذاب، وهو ما قال: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ). ثم نزه نفسه عما أشركوا معه من الأوثان في تسمية الألوهية واستحقاق العبادة، فقال: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ). * * * قوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ. يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ). يخبر عن عناد أُولَئِكَ الرؤساء ومكابرتهم، وإنما قالوا ما قالوا على التعنت، لا على الاسترشاد، وأن هذه الآيات من قوله: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا. . .)، إلى قوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ)، كلها محاجة مع أُولَئِكَ الرؤساء المعاندين؛ يبين ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ) يقول: إنهم وإن يروا ما توعدهم من عذاب ينزل بهم يقولوا -لتعنتهم ومكابرتهم-: إنه سحاب، ليس بعذاب، وهو كما قال: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)، يخبر عن عنادهم، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ)، لا يؤمنون، ويقولون: ما ذكر إنه سحاب مركوم؛ تعنتا ومكابرة. ثم أمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بأن يعرض عنهم وألا يشتغل بهم؛ لما علم اللَّه تعالى أنهم لا يؤمنون، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يؤيس رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن إيمانهم، ويأمره بالصبر على أذاهم، وترك المكافأة لهم، ويخبر أنهم لا يؤمنون إلا في اليوم الذي فيه يصعقون، أي: يموتون. ثم قرئ قوله: (يُصْعَقُونَ) بفتح الياء وضمه؛ فمن قال بالنصب، احتج بقوله: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)، ولم يقل فَصُعِقَ. ثم يحتمل الصعقة التي ذكر: ما ذكرنا؛ أي: يموتون. ويحتمل: أي: تنزل بهم الشدائد والأوجاع، ولكن لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت؛

(46)

لأنه إيمان دفع العذاب عن أنفسهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ... (46). برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عما ينزل بهم يومئذ؛ جزاء على كيدهم برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. ويحتمل ألا يغنيهم من عذاب اللَّه تعالى الأصنام التي عبدوها؛ رجاء أن تشفع لهم، أو تقربهم إلى اللَّه زلفى؛ كما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ -، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47). قال أهل التأويل: أي: لمشركي أهل مكة عذاب دون عذاب النار، وهو القتل بالسيف يوم بدر. ويحتمل أن يكون قوله: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: للكفرة عذاب في الدنيا دون الذي ذكر في يوم القيامة؛ حيث قال: (حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ)، ثم قال: (عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ)، وهم ما داموا كفارا فهم في عذاب، يكونون في خوف وذل وخزي؛ فذلك كله عذاب اللَّه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). أي: لا ينتفعون بعلمهم، أو لا يعلمون حقيقة؛ لما لم ينظروا في أسباب العلم، ولم يتفكروا فيها؛ حتى يمنعهم ويزجرهم عن صنيعهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48). دل هذا الحرف أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد كلف أمرا شديدًا شاقًّا عليه حتى قال: (وَاصْبِرْ)؛ إذ الأمر بالصبر لا يكون إلا في أمور شاقة شديدة؛ ولذلك قال له: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، أمره بالصبر على ما كلفه، كما صبر إخوانه على ما لحقهم من الأمور الشاقة، وما قال (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)، أخبر أنه لو صبر إنما يصبر بتوفيق اللَّه إياه، أو فيه: أنه إذا صبر يكون صبره لله تعالى؛ حتى يسهل عليه احتمال ذلك، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِحُكْمِ رَبِّكَ)، يحتمل وجوها: أحدها: ما أمر من تبليغ الرسالة إلى الفراعنة الذين كانت همتهم القتل لمن خالفهم، فذلك أمر شديد؛ فأمره بالصبر على ذلك، والتبليغ إلى أُولَئِكَ. والثاني: أمره بالصبر على أذاهم واستهزائهم به، وترك المكافأة لهم. ويحتمل أن يكون الأمر بالصبر على الأمور التي كانت عليه في خالص نهيه من احتمال غصة التكذيب، وحزنه على تركهم التوحيد والإيمان، وإنما ذلك كله حكم اللَّه تعالى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا). أي: بمنظر وعلم منا، فإن كان الأمر بالصبر على القيام بتبليغ الرسالة إلى من ذكرنا؛ فيخرج قوله: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) مخرج وعد النصر والمعونة؛ كقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). وإن كان الأمر بالصبر على ترك مكافأتهم، أو على القيام بالأمور التي فيما بينه وبين ربه تعالى؛ فيصير كأنه قال: على علم منا بما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء والأذى، كلفناك، لا عن جهل منا بذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ). أي: نزهه عن معاني الخلق، وعما لا يليق، واذكر الثناء عليه بما هو أهله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حِينَ تَقُومُ). يحتمل: حين تقوم من مجلسك، أو من منامك، أو حين تقوم للتعيش والانتشار. فإن كان المراد: حين تقوم من مجلسك؛ فيكون التسبيح ما ذكر في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من جلس مجلسا كثر فيه لغطه، فليقل قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، غفر له ما كان في مجلسه ذلك " ولم يذكر الآية. وإن كان المراد: حين تقوم من منامك، فجائز أن يكون المراد منه: الصلاة. وإن كان حين تقوم للانتشار والتعيش؛ فيصير كأنه أمر بالتسبيح بالنهار في وقت الانتشار؛ وعلى هذا قوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ) أي: سبح بالليل في وقت الراحة، فيصير كأنه قال: وسبح بحمد ربك في الأوقات كلها، بالليل والنهار، في وقت الراحة، وفي وقت الانتشار. وروى الضحاك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) تقول في الصلاة المفروضة قبل أن تكبر: " سبحانك اللهم وبحمدك. . . " إلى آخره. وروى الضحاك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل في الصلاة، قال ذلك؛ وذلك قوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ). وروى أبو سعيد وعائشة - رضي اللَّه عنهما - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان إذا افتتح الصلاة قال: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ".

(49)

وروي عن مجاهد أنه قال: حين تقوم من كل مجلس، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49). قال أهل التأويل: هو ركعتا الفجر كما روي عن جماعة من الصحابة، رضوان اللَّه عليهم أجمعين. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - مرفوعًا: أنه أراد بإدبار النجوم: الركعتين قبل الفجر، وأدبار السجود: الركعتين بعد المغرب؛ فإن ثبت فهو التأويل، فإن كان على هذا فهو يدل على تأخير صلاة الفجر؛ لأن إدبار النجوم إنما يكون ذهابها وانقضاءها، وذلك لا يكون بأول وقت طلوع الفجر، وإنما يكون وقت الإسفار؛ فيكون حجة لنا، واللَّه أعلم. * * *

سورة النجم

سُورَةُ النَّجْمِ ذكر أن سورة النجم مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1). قيل: المراد: هو النجوم أنفسها، فأقسم بها على أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما ضل وما غوى؛ على ما قاله الكفرة؛ وبه يقول الأصم. وقيل: أراد بقوله: (وَالنَّجْمِ): نزول القرآن نجما فنجما، على التفاريق أقسم بالقرآن: إنه لم يضل، ولم يغو. وقال مجاهد: أقسم بالثريا إذا غاب، والعرب تسمي الثريا -وهي ستة أنجم ظاهرة-: نجما. وقال أبو عبيد: أقسم بالنجم إذا سقط في الغور؛ فكأنه لم يخص الثريا دون غيره. فإن كان التأويل هو الأول فهو لما جعل اللَّه تعالى للنجوم محلاًّ في قلوب الخلق وأعلاما يستخرجون بها جميع ما ينزل بالخلق، وما يكون لهم من المنافع والمضار من كثرة الأنزال والسعة والضيق، وما ينزل بهم من المصائب والشدائد، وما يكون من انقلاب الأمور، وما جعل فيها من المنافع من معرفة القبلة، وطرق الأمكنة النائية، ومعرفة الأوقات وغيرها مما يكثر عدها، فأقسم بنفسها، أو بالذي أنشأ النجوم، وما جعل فيها من المنافع: أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما ضل وما غوى. وإن كان النجم هو النجوم التي أنزل القرآن فيها نجوما على التفاريق، فالقسم بالذي أنزل القرآن على التفاريق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا هَوَى)؛ أي: سقطت، كقوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ

(2)

النُّجُومِ)، أي: بمساقطها. والأشبه: أن يكون قوله: (إِذَا هَوَى) أي: إذا سارت سيرًا دائمًا في سيرها؛ لأنها أبدا تكون في السير، وفي سيرها منافع الخلق من الاهتداء للطرق وغيرها، ولما ليس في مساقط النجوم وغيبوبتها كثير حكمة حتى يقسم بذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2). يخرج على وجهين: أحدهما: أي: ما ضل عما نزل به القرآن، وعما أمر به؛ لأنهم كانوا يدعون عليه الضلال: أن خالف دينهم ودين آبائهم، فقال: ما ضل هو عما أمر به، وما غوى. والثاني: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)؛ إذ ليس بساحر؛ ولا شاعر؛ لأنهم كانوا يقولون: إنه شاعر وإنه ساحر، فقال: ليس هو كذلك ما ضل بالسحر، وما غوى بالشعر؛ على ما قال (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ)، بل رشد واهتدى، وهو ما قال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) أي: ما ينطق عما يهوي به نفسه؛ بل إنما ينطق عن الوحي بقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) وإلَّا جائز أن يصرف قوله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) إلى اللَّه تعالى؛ إذ اللَّه تعالى قد أضاف تعليمه إلى نفسه بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ)، لكن أبان بقوله: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) أن المراد غيره؛ إذ هو لا يوصف بأنه (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى)، وهو جبريل - عليه السلام - على ما قال أهل التأويل. ثم أضاف التعليم مرة إلى جبريل - عليه السلام - ومرة إلى نفسه، فالإضافة إلى جبريل - صلوات اللَّه عليه - لما منه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتلقف. والإضافة إلى اللَّه تعالى تخرج على وجهين: أحدهما: أضاف إلى نفسه؛ لما أنه هو الباعث لجبريل إليه، والآمر له بالتعليم، والخالق لفعل التعليم من جبريل، عليه السلام. والثاني: لما يكون من اللَّه - سبحانه وتعالى - من اللطف الذي يحصل به العلم عند التعليم؛ ولهذا يختلف المتعلمون في حصول العلم مع التساوي في التعليم؛ لاختلافهم في آثار اللطف، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. . .) الآية. قال أهل التأويل: (ذُو مِرَّةٍ) أي: ذو قوة.

(7)

وقيل: (ذُو مِرَّةٍ) أي: ذو إحكام، وأصله من قوى الحبل، وهي طاقته، والواحد: قوة، وأصل المرة: الفَتْل. وقوله: (فَاسْتَوَى) يحتمل (فَاسْتَوَى)، أي: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لنزول الوحي إليه. وقيل: (فَاسْتَوَى)، أي جبريل - عليه السلام - على صورته؛ لما ذكر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سأل ربه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يريه جبريل - عليه السلام - على صورته فاستوى جبريل على صورته، فرآه كذلك، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثم يحتمل (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) أي: أفق السماء. ويحتمل أن يكون الأفق الأعلى مكان الملائكة ومسكنهم، فأخبر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأى جبريل على صورته في مكانه. وجائز أن يكون الأفق ما ذكر في الخبر: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يرى جبريل في صورته، فسأله أن يراه، فقال: إن الأرض لا تسعني، ولكن انظر إلى الأفق الأعلى، فنظر فرآه. وفي بعض الأخبار: إنك لا تقدر أن تراني في صورتي، ولكن انظر إلى الأفق الأعلى. ثم جائز أن يكون ما ذكر من النظر إلى الأفق الأعلى؛ لما أن بصره كان لا يحتمل النظر إليه من قرب، ويحتمل ذلك من البعد، وذلك معروف فيما بين الخلق: أن الشيء إذا كان له شعاع أو نور أو بياض شديد: أن البصر لا يحتمل النظر إليه من القرب في أول ملاقاته، ويحتمل إذا كان يبعد منه؛ وعلى هذا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) يحتمل: دنا منه جبريل - عليه الصلاة السلام - شيئًا بعد شيء، وقرب منه كذلك ليحتمله؛ إذ جبل الإنسان على طبيعة يحتمل الأشياء إذا انتهت إليه على التفاريق ما لو أتته بدفعة واحدة في وقت واحد، لما احتملتها الأنفس؛ كالحر يأتي الخلق بعد شدة البرد شيئًا فشيئًا، وكذلك البرد بعد شدة الحر شيئًا فشيئًا حتى يشتد ما لو أتيا بدفعة واحدة إذا كان قريبا منه. ويحتمل من البعد، ثم يقرب ويدنو قليلًا قليلًا حتى يحتمل من القرب، واللَّه أعلم. ثم من الناس من يقول: إن قوله تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) على التقديم والتأخير؛ أي: تدلى قربا؛ لأنه يكون التدلي أولًا ثم الدنو منه. ومنهم من قال: بل هو على ما قال، وهما سواء -أعني: التدلي والدنو- بمنزلة القرب والدنو، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: القاب: هو صدر القوس؛ أي: فكان قدر صدر القوس من الوتر مرتين.

(10)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: قدر قوسين حقيقة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: قاب: قدر قوسين عربيين. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: القاب: قدر الطول. وقيل القوس: الذراع هاهنا؛ أي: كان قدر ما بينهما ذراعين. قال: والأول أعجب إليَّ؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لقاب قوس أحدكم -أي: موضع قده- خير من الدنيا وما فيها " والقد: السوط. فنقول: أيّ الوجوه كان ففيه دليل: أنه لم يكن جبريل - عليه السلام - يبعد من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بحيث لا يحيط به؛ لأن الشيء إذا بعد عن البصر لعرفه بالاجتهاد، ولا يدركه حقيقة، وكذلك إذا قرب منه، حتى ماسه والتصق به، قصر البصر عن إدراكه، وإذا كان بين البعد والقرب، أحاط به وأدركه، فيخبر اللَّه - تعالى - أنه أحاط به علمًا، وأدركه حقيقة، لا أن كان معرفته إياه بطريق الاجتهاد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ أَدْنَى). قال أهل التأويل: حرف " أو " شك، وذلك غير محتمل من اللَّه تعالى، لكن معناه على الإيجاب؛ أي: بل أدنى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَوْ أَدْنَى) في اجتهادكم ووهمكم، لو نظرتم إليهما، لقلتم: إنهما بالقرب والدنو قدر قوسين أو أدنى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على التقديم والتأخير، أي: فأوحى جبريل ما أوحي إليه إلى مُحَمَّد عبده ورسوله، عليهما السلام. والثاني: فأوحى اللَّه - جل وعلا - إلى عبده جبريل ما أوحى هو إلى مُحَمَّد عليهما الصلاة والسلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11). قرئ: (كَذَبَ) مخفف الذال ومشدده؛ فمن قرأ بالتخفيف، أي: ما كذب عبده فيما رأى؛ أي: ما رأى حق.

وقال أبو عبيد: ما كذب في رؤيته، قد صدقت. ومن قرأ بالتشديد، أي: لم يجعل الفؤاد رؤية العين كذبا. وعندنا: أي: ما رد الفؤاد ما رأى البصر، وأصله: أن الفؤاد مما يوعى به، يقول: قد وعى به ما رأى لم يتركه، ولم يضيعه. وقيل: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)؛ أي: ما علم، والرؤية: كناية عن العلم، لكن لو كان المراد منه: العلم فلا يحتمل ما ذكر (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)، ولا يتصور أن يعلم مرتين؛ وكذا ذكر أنه رأى ربه مرتين، ولا يحتمل العلم مرتين؛ فدل أن الحمل على العلم لا يصح. وأصله عندنا: ما كذب الفؤاد ما رأى من الآيات؛ دليله ما ذكر في آخره: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) وقال: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى). وعن الحسن: أي: رأى عظمة من عظمة اللَّه، وأمرا من أمره. وعن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " رأى جبريل - عليه السلام - على صورته مرتين "، أي: ما كذب الفؤاد ما رأى البصر جبريل - عليه السلام - ولقد رآه أيضًا مرة أخرى عند سدرة المنتهى. ومنهم من قال: إنه رأى ربه على العيان بعينه، فهو خلاف ما ثبت من وعد الرؤية في الآخرة بالكتاب والسنة المتواترة، ولأنه لو رأى ربه تعالى على ما قالوا، لكان لا يحتاج إلى أن يرى آياته الكبرى؛ لأن رؤية الآيات إنما يحتاج إليها عندما يعرف الشيء بالاجتهاد، فأما عند المشاهدة وارتفاع الموانع، لا حاجة تقع إليها، إلا أن يقال برؤية القلب على ما ذكر في الخبر: أنه سئل عن ذلك، فقيل: هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: " رأيته مرتين بقلبي ". وفي بعض الأخبار قال: " أما بعيني فلا، وأما بفؤادي، فقد رأيته مرتين ". ويفسرون رؤية القلب بالعلم، ولكن الإشكال عليه ما ذكرنا؛ فإن ثبت الحديث فهو

(12)

على ما كان وأراد، لا يفسر ذلك، وكذلك قول من يقول في قوله تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى): إنه دنا من ربه - قول [وخش]، فيه إثبات المكان والتشبيه؛ تعالى اللَّه عن ذلك، ولكن المراد ما ذكرنا: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دنا من جبريل - عليه السلام - على ما ذكرنا. ثم في قوله تعالى: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. . .) إلى آخره ذكر خصوصية رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بين غيره من الخلائق، منها: رؤية جبريل - عليه السلام - على صورته، ورؤية الرب تعالى بقلبه؛ إن ثبت الحديث عنه، وبلوغه إلى سدرة المنتهى؛ إذ لم يذكر لأحد من رسل اللَّه تعالى: أنه بلغ هذا المبلغ سواه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12). عن ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنهما قرآ مفتوحة التاء بغير ألف، ومعناه: أفتجحدونه؟!. وعن الحسن بالألف مضمومة التاء، وقال: معناه: أفتجادلونه؟! وعن شريح مثله. قال أبو عبيد: فالأولى أن يقرأ بمعنى الجحود؛ وذلك أن المشركين إنما كان شأنهم الجحود فيما يأتيهم من الخبر السماوي، وهو أكبر من المماراة والمجادلة. وقيل: (أَفَتُمَارُونَهُ) أي: تشككونه على ما يرى؟ وقال أبو بكر الأصم: لا تصح القراءة بغير ألف ولا تأويله، إنما القراءة بالألف، وتأويله: أفتجادلونه؟! ونحن نقول بأن تأويل ما ذكر من الجحود والقراءة صحيح، وتأويل من قال: أفتجادلونه على ما يرى؟! لا يحتمل؛ لأن مجادلتهم لا تكون فيما يرى، لكن يجادلونه على ما يخبر أنه يرى، إذ في الخبر يقع التكذيب، وبه يجادلونه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13). فهو على ما ذكرنا من اختلاف الناس أن ما أيش هو؟ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14). قيل: سمي ذلك الموضع سدرة المنتهى، لما انتهى إليه علم الخلق؛ فلا يجاوزه.

(15)

وقيل: لما انتهى إليه كرامات الخلق، لا تجاوز كراماتهم عنها. وقيل: السدرة: الشجر، ويروون في ذلك خبرًا مرفوعا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رأيت جبريل - عليه السلام - عند سدرة المنتهى، عليه كذا كذا من جناح ". وقيل: سميت سدرة المنتهى؛ لما ينتهي إليها أرواح الشهداء. ثم جائز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأى جبريل - عليه السلام - أولًا عند سدرة المنتهى من الأرض: إما برفع الحجب عنه، وإما بزيادة قوة وضعت في بصره، ثم رآه مرة أخرى هنالك أيضًا بعدما رفع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى سدرة المنتهى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15). قرئت بنصب الجيم وخفضه. روي أنه قيل لسعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن فلانا يقرأ بالخفض (عندها جِنة المأوى)، فقال سعد: ما كذا جنة اللَّه، وقرأ بالفتح. وعن الأعمش قال: قال: من قرأ (جِنة المأوى)، فأجَنَّه اللَّه. وعن أبي العالية قال: سئل عنها ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال لي: كيف تقرؤها يا أبا العالية؟ فقلت: (جَنَّةُ الْمَأْوَى) بفتح الجيم، فقال: صدقت، وهي مثل الأخرى: [(فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى)]. [وعن الحسن أنه قرأ] [(جَنَّةُ الْمَأْوَى)]، وقال: إنها من الجنان، وتصديقها، حديث الإسراء: أنه أُرِيَ الجنة، وأدخلها. قال: ودلت الآية: أن الجنة التي يأوي إليها المؤمنون في السماء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16). قال عامة أهل التأويل: يغشاها فراش من ذهب. وكذا ذكر في خبر مرفوع " غشاها فراشا من ذهب ". ولكن لا نفسر ما الذي يغشى السدرة؛ بل نبهم كما أبهم اللَّه تعالى إلا بحديث ثبت عن

(17)

تواتر، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى): أي: ما يغشى من أمر الله تعالى، ويروون خبرا عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لما انتهيت إلى السدرة رأيت ورقها أمثال آذان الفيلة؛ ورأيت نبقها أمثال القلال، فلما غشيها من أمر اللَّه ما غشيها، تحولت ياقوتًا " إن ثبت هذا الخبر، ففيه دليل: أن السدرة: شجرة، إذ ذكر ورقها، وفيه أن الذي يغشاها أمر اللَّه تعالى. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى): الملائكة، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17). قال أبو بكر: أي: ما قصر البصر عن الحد الذي أمر وجعل له، وما طغى وما جاوز عنه، أو كلام نحوه. ويحتمل (مَا زَاغَ) أي: ما مال وما عدل يمينًا وشمالاً، (وَمَا طَغَى): وما جاوز. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ)، أي: ما مال، (وَمَا طَغَى) من الارتفاع؛ طغى الماء: إذا ارتفع، يطغى طغيانا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18). جائز أن تكون آيات ربه التي ذكر أنه رأى: هو جبريل - عليه السلام - حيث رآه بصورته، وكذلك روي عن عمد اللَّه بن مسعود: أنه رآه بصورته مرتين، وتأول الآية، ويحتمل غيره من الآيات، ولكن لا نفسرها، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى.) الآية. يخرج تأويل هذه الآية على وجوه، وإلا ليس في هذا الموضع لظاهر قوله - عز وجل -: (وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) - جوابٌ، ولا لقوله: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى).

(22)

أحدها: أن يقول: أهَؤُلَاءِ الذين تعبدونهم -من اللات والعزى ومناة- أخبروكم، وقالوا لكم: إنه اصطفى لنفسه البنات، ولكم البنين، وأن الملائكة بنات اللَّه، ونحوه؟ أخذتم ذلك منها أو ممن أخذتم ذلك، وأنتم قوم لا تؤمنون بالرسل والكتب؟ وقد عرفوا أنها لم تخبرهم بذلك، فيذكر بذلك سفههم، ويقول: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) التي سميتموها: آلهة، وعبدتموها دون اللَّه، ونسبتكم البنات إليه، والبنين إلى أنفسكم، ثم لم يذكر جوابها: أنه مَنْ أمرهم بذلك؟ ومن اختار لهم ذلك؟ أو ممن أخذوا ذلك؟ ثم قال: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. . .) الآية؛ كأنه يقول واللَّه أعلم: إنكم سميتموها: آلهة، واخترتم لأنفسكم البنين وله البنات بلا سلطان ولا حجة لكم، إنما هي أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم بلا حجة ولا سلطان، إنما هو هوى النفس والظن. ويحتمل أن يقول: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)، أمروكم بصرف شكر ما أنعم اللَّه تعالى عليكم، وقبول ما وهب لكم من البنات؛ على ما أخبر أنها من مواهب اللَّه بقوله تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)، وبرد مواهبه، ودفنها حيات، ودسها في التراب، وبصرف العبادة إلى غير المنعم، وقسمة البنين لأنفسكم والبنات له. ثم أخبر، وقال: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) أي: تلك قسمة جور وظلم؛ أي: صرف شكر المنعم إلى غير المنعم، وتوجيه العبادة إلى من لا يستحقها، ورد مواهبه. على هذه الوجوه يشبه أن تخرج الآية، وإلا فلا ندري بظاهرها: ما تأويلها؟ وما جواب هذا الحرف؛ واللَّه أعلم. ثم قوله: (اللَّاتَ) قرأ مجاهد وغيره مشدد التاء، فقالوا: هو رجل كان يقوم على آلهتهم، ويلت لها السويق بالزيت، فيطعمه الناس. [وروى ابن الجوزي] (¬1) عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " كان يلت السويق للحاج ". ومن قرأه مخفف التاء جعله اسم الصنم؛ مثل: العزى، ومناة، وهي آلهة كانوا يعبدونها؛ ذكر قتادة في تفسيره: كان اللات بالطائف، والعزى ببطن نخلة، ومناة ¬

_ (¬1) هنا إشكال؛ إذ كيف ينقل الماتريدي عن ابن الجوزي وهو يسبقه بقرون؟!! ولم يشر محقق الكتاب إلى سبب ذلك لا من قريب ولا بعيد، ولعله زيادة من الناسخ، وقد وجدت هذه الرواية نصًّا في زاد المسير لابن الجوزي. 4/ 188). وسيأتي موضع آخر ينقل فيه عن القرطبي. واللَّه الهادي والموفق. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

بقديد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى). قَالَ الْقُتَبِيُّ: هي في الأصل " ضَيزَى " على وزن " فَعْلَى "، فكسرت الضاد للياء، وليس في النعوت " فِعْلى "؛ أي: قسمة جائرة. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ضِيزَى) أي: غير منصفة، والضيز في الأصل: الجور. وقال أبو عبيدة: ناقصة. وقال بعض الناس: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما تلا قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) ألقى الشيطان على لسانه: " تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى، ومثلهن لا تنسى ". ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: الغرانيق العلا: الملائكة. وقال بعصهم: الأصنام التي يعبدونها على رجاء الشفاعة لهم بقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ). لكن لا يحتمل أن يقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو يجري على لسانه ما ذكر، واللَّه - تعالى - قال: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)، ولو جاز أن يجري على لسانه، لتوهم منه التقول، وذلك بعيد، وقال في آية أخرى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ)، ولو جاز ذلك، لجاز أن يجري الله الكذب على لسانه؛ فلا يكون فيمن وجد من الحرج في قضائه ما ذكر، وهو الكفر؛ دل أن ما ذكروه فاسد، فإن ثبت ما ذكر: أنه جرى على لسانه تلك الكلمات، أو ألقى الشيطان في فمه يريد بذلك: الغرانيق العلا شفاعتهن لترتجى عندهم وفي زعمهم، وهو كقول موسى - عليه السلام -: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا)، أي: إلى إلهك الذي هو عندك إله، وإلا لا يحتمل أن يكون موسى - عليه السلام - يسمي العجل: إلها، وكقوله - تعالى -: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ)، أي: إلى آلهة عندهم، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، أنها شركائي، فقد ذكرنا هذا على التمام في سورة الحج في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ. . .) الآية، واللَّه أعلم.

(23)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23). أي: ما أنزل اللَّه على تسميتكم الأصنام: آلهة، وعبادتكم إياها، ونسبتكم البنين إلى أنفسكم والبنات إلى اللَّه تعالى - من حجة وبرهان، إنما هو من هوى النفس والظن، وذلك قوله - تعالى -: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) في قولهم: الملائكة بنات اللَّه، أو قولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، وتسميتهم الأصنام: آلهة، وظنوا أن آباءهم كانوا على الحق، واستدلوا على حقيقة ما كانوا عليه من الدِّين؛ حيث تركهم وما اختاروا ولم يهلكهم، وقالوا: لو كانوا على باطل ما تركهم على ذلك، واستدلوا بذلك - أيضًا - على رضاه منهم بذلك، وأمره إياهم؛ كما أخبر عنهم بقوله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، هذا ظنهم باللَّه تعالى. وقوله: (وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ)، أي: يتبعون هوى النفس، فالنفس ما تعرف إلا المنافع الحاضرة والمضار الحاضرة، فأما ما غاب عنها فلا يعرف، وإنما يعرف ذلك بالتفكر والنظر، وهي لا تعرف؛ لما تكره النظر والتفكر، ولا ترغب في الشدائد، ولا فيما يثقل عليها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى). أي: جاءهم من ربهم ما لو تفكروا ونظروا لاهتدوا، ولو اتبعوا الحق والهدى، لعرفوه. * * * قوله تعالى: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى). أي: للإنسي ما تمنى. ثم يحتمل تمنيهم شفاعة ما عبدوه. أو ما اختاروا من البنين لأنفسهم والبنات لله تعالى.

(25)

أو ما سموا واتخذوا الأصنام آلهة، وما ظنوا على اللَّه وادعوا أمره ورضاه في فعلهم، وغير ذلك مما كانوا يتمنون؛ يقول: ليس للإنسان ما تمنى أن يكون له؛ إنما يكون ذلك له بجعل اللَّه الذي له الدنيا والآخرة، وذلك قوله - تعالى -: (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26). يخرج هذا على وجهين: أحدهما: أي: كم ملك له شفاعة لا تنفع شفاعته وإن يشفع إلا لمن ذكر. والثاني: أي: كم من ملك في السماوات لا شفاعة له، ولا يشفع إلا لمن يشاء الله ويرضى أن يشفع، وهو كقوله - تعالى -: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) و، أي: ليست لهم شفاعة تنفع. وقال أبو بكر الأصم: إنما يشفعون في الآخرة لمن شفعوا في الدنيا واستغفروا لهم؛ كقوله تعالى: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ)، وقوله - تعالى -: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا. . .) الآية، وقولهم: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ)، وقد ذكرنا فيما تقدم الوجه في ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وإنما يسمي ذلك فُؤُم، وقد أضاف ذلك إلى الكل في الظاهر؛ لأن الذين يسمون الملائكة تسمية الأنثى، واللَّه أعلم. ويجوز أن يذكر الكل، ويراد به البعض في اللغة، ومثله في القرآن كثير، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) أي: ما لهم بما يسمون الملائكة تسمية الأنثى من علم؛ لأن العلم بمعرفة الأنثى من الذكر بطريقين: أحدهما: المشاهدة، يشاهد ويعاين فيعرف الأنثى من الذكر، وهم لم يشاهدوا الملائكة، فكيف يعرفون ذلك؟ والثاني: خبر الرسول المؤيد بالمعجزة، وهَؤُلَاءِ قوم لا يؤمنون بالرسل. ولا يعرف بالاستدلال وطرق العلم الثلاثة التي ذكرنا، فإذا كان حصل قولهم بلا علم، ولكن على الظن، وذلك قوله تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)، أي: ما يتبعون في قولهم الذي قالوا إلا الظن، ووجه ظنهم ما ذكرنا. ثم أخبر أن ظنهم لا يغنيهم من الحق شيئًا، فهو يخرج على وجهين: أحدهما: أن الظن الذي ظنوا لا يدفع عنهم ما عليهم من اتباع الحق ولزومه.

(29)

والثاني: أن ظنهم الذي ظنوا في الدنيا لا يدفع عنهم ما لزمهم من العذاب في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ... (29). هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على ترك مكافأتهم؛ أي: لا تكافئهم لصنيعهم وأذاهم. والثاني: يخرج على الإياس له من إيمانهم؛ أي: لا تشتغل بهم؛ فإنهم لا يؤمنون أبدًا؛ فهو في قوم خاص علم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم لا يؤمنون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا). يحتمل أنهم كانوا لا يؤمنون بالآخرة، فلم يريدوا بحسناتهم التي عملوا إلا الحياة الدنيا؛ لأنهم كانوا يتصدقون ويصلون الأرحام، لكن لم يريدوا بذلك إلا ما ذكر في الحياة الدنيا. وجائز أن تكون الإرادة هاهنا كناية عن العمل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا). أي: لم يعمل للآخرة رأسا؛ يخبر عنهم أنهم يعملون للدنيا، لا للآخرة، وهو كقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)، وقوله - عز وجل -: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. . .) الآية، ونحو ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ... (30) بألا يؤمنوا بالآخرة، ولا يعملوا لها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي: ذلك مبلغ رأيهم من العلم: أن الملائكة بنات اللَّه، وأنها تشفع لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى). مثل هذا الكلام إنما يخرج على أثر خصومات كانت من أُولَئِكَ الكفرة مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، كأن أُولَئِكَ الكفرة قالوا: نحن على الهدى، وأنتم على الضلال، فقال عند ذلك: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا)، ثم قال: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى)، أي: هو أعلم بمن ضل عن سبيله؛ فيجزيه جزاء ضلاله في الآخرة، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) فيجزيه جزاء الهدى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يقول: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، وهو غني عن عبادتكم، وإنَّمَا يأمركم وينهاكم؛ ليجزيكم بأعمالكم، لا لمنافع ترجع إليه.

(32)

والثاني: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي: إنما أنشأ أهل السماوات والأرض؛ ليمتحنهم بالأمر والنهي، ثم ليجزي الذين أساءوا جزاء الإساءة والذين أحسنوا جزاء الإحسان، ولو كان على ما قال أُولَئِكَ الكفرة: أن لا بعث ولا جزاء، لكان خلقهم وخلق ما ذكر عبثًا باطلًا، وفي الحكمة التفريق بين المسيء والمحسن، وفي الدنيا تحققت التسوية بينهما، فدل ذلك على دار أخرى يفرق بينهما فيها. ثم يحتمل جزاء إساءة أُولَئِكَ في الدنيا والآخرة: في الدنيا: القهر، والدَّبرة، والهزيمة، وفي الآخرة: النار، وجزاء المحسن في الدنيا: النصر والظفر، وفي الآخرة: الجنة. ثم نعت الذين أحسنوا الحسنى - وهو التوحيد - فقال: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32). ثم يحتمل أن تكون الكبائر ما يعرفها كل أحد: أنها كبيرة، والفاحشة: ما يعرفها كل أحد أنها فاحشة، واللمم -على هذا- يجيء أن تكون من تلك الكبائر والفواحش؛ لأنه استثناها؛ فيجب أن تكون من جنسها، لكنه استثناها وعفا عنها؛ لما يقعون فيها عن غفلة وسهو، أو عن غلبة شهوة، ونحوها، وهو الأشبه بتأويل الآية. وقال أهل التأويل: الكبائر والفواحش هي التي ذكر فيها الحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة، واللمم التي لم يذكر لها حد في الدنيا، ولا عقوبة في الآخرة. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " زنا العين: النظر، وزنا الشفتين: التقبيل، وزنا اليدين: البطش، وزنا الرجلين المشي، ويصدق ذلك ويكذبه الفرج، فإن تقدم فهو زنا، وإلا فهو لمم "، وفي رواية: " إن تقدم كان زنا، وإن تأخر كان لممًا ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة؛ فزنا العينين: النظر، وزنا اللسان: النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه ". وعن أبي هريرة أنه النظرة، والغمزة، والقبلة، والمباشرة.

وعنه أن اللمم: النكاح. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: اللمم: لمم الجاهلية؛ كقوله - تعالى -: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ). وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو أن يلم المرَّة. وقيل: اللمم: الهمُّ بالخطيئة من جهة حديث النفس شيئًا من غير عزم. وقيل: إن اللمم: مقاربة الشيء من غير دخول فيه. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لَاهُمَّ إن تغفر تغفر جمَّا، وأي عبد لك لا ألما؟! ". وقيل: اللمم: الصغير من الذنوب؛ لقوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. . .) الآية. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: اللمم: الصغار من الذنوب، وهو من ألم بالشيء: إذا لم يتعمق فيه، ولم يلزمه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اللمم: ما بين الحدين: حد الدنيا، وحد الآخرة؛ وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذلك يحتمل، والأول أقرب. وقال أبو بكر الأصم: اللمم: التي يتوب عنها؛ فإنهم إذا تابوا عنها يتجاوز عنهم؛ فهو يجعل اللمم من تلك الكبائر والفواحش، لكنه يقول: إنما استثنى؛ لما يتوب عنها؛ لما يقعون فيها على السهو والغفلة، أو لغلبة شهوة على حسن الظن بربه؛ فيغفر له، أو يتوب عليه؛ فيعفو عنها. وعلى تأويل أهل التأويل: اللمم: ما دون الكبائر والفواحش. وجائز أن تكون الكبائر والفواحش التي ذكر كبائر الشرك وفواحشه؛ كقوله - عز وجل -: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً. . .) الآية، وقوله - تعالى -: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا)؛ فيكون اللمم -على هذا-: ما دون الشرك فهو في مشيئة اللَّه - تعالى -: إن شاء عفا عنها، وإن شاء عذب عليها؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ

ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ). أي: هو أعلم بكم، وبأحوالكم، ووقوعكم فيها على السهو والغفلة، عفا عنكم؛ أي: عن اللمم. وعلى قول أبي بكر: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) لمن تاب عنها، و (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) أنكم تتوبون عنها. وعندنا: أن ربك هو واسع المغفرة لمن شاء، تاب عنها أو لم يتب. ثم إن كانت المغفرة هي الستر، فهي تعم المؤمن والكافر في الدنيا، وإن كانت التجاوز فهي للمؤمنين خاصة، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) عندنا: هو أعلم بكم بأنكم تعملون وتقعون فيها عن السهو والغفلة. أو هو أعلم بأحوالكم وأفعالكم، وما يكون منكم، (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) ما لو اجتمع حكماء البشر ما أدركوا معنى الإنسان في ذلك، ولا أدركوا معنى تصوير اليدين، والعينين، وغيرها من الجوارح وقت كونكم أجنة في بطون أمهاتكم. ثم نسبتنا إلى الأرض بقوله - تعالى -: (مِنَ الْأَرْضِ) تحتمل وجهين: إما لخلق أصلنا من الأرض؛ كقوله: (أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، ونحوه. أو لجعل أقواتنا منها؛ لقوله - تعالى -: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا)؛ إذ لا قوام لنا إلا بذلك الغذاء والقوت الذي يخرج من الأرض، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) في ظاهر الآية نهى عن التزكية، وأمر في آية أخرى بالتزكية ورغب فيها؛ حيث قال: (وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، لكن فيما أمر بالتزكية أمر بإصلاح أنفسهم في أنفسهم وتزكيتها فعلا، وفيما نهى عن التزكية نهى عن أن يصفوا أنفسهم بالتزكية والصلاح والتقى والبراءة، لعل ذلك ليس بتزكية في الحقيقة. أو يكون فيهم من الفساد ما لا يستحق التزكية والوصف بالبراءة، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: إن اللَّه - تعالى - لما نهانا عن التزكية، فكيف جاز لنا أن نقول لأنفسنا: إنا مؤمنون ومسلمون؛ إذ ذلك مدح وتزكية. قيل: إنا أمرنا بقول الإيمان والإسلام ابتداء حيث قال: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ. .) الآية

(33)

وقوله: (وَأَسْلِمُوا)، ونحو ذلك، ولم نؤمر بمثله ابتداء في الصلاح ونحوه بأن نقول: نحن صلحاء أتقياء؛ فجاز ألا يمنع في الإيمان، ويمنع في غيره من الطاعات. والثاني: أن ليس في نفس الإيمان تزكية؛ لأن كل أهل الأديان مؤمنون بشيء، كافرون بشيء، بقوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ)، وقول أُولَئِكَ: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ)، وقوله: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)، وفي نفس التقى والصلاح تزكية. وقيل: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أي: لا تزكوا أهل دينكم ومذهبكم، وذلك متعارف في الناس: أنهم يزكون أهل مذهبهم وإن كانوا لا يعرفون صلاحهم وتقواهم، ويذمون أهل خلافهم في مذهبهم وإن لم يعرفوا منهم الشر وما به تجب المذمة، وذلك محتمل يحتمل ما ذكرنا أنه نهى كُلًّا في نفسه أن يزكي، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) أي: اتقى محارم اللَّه ومناهيه. ويحتمل: أي: اتقى الكفر باللَّه والشرك به. * * * قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى. وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أفرأيت الذي تولى كبراء الكفرة وعظماءهم، وأعطى قليلا من المال لضعفة أهل الإيمان؛ ليرجعوا عن الإيمان بمُحَمَّد والتصديق له، ويكذبوا عليه. وقوله: (وَأَكْدَى) أي: قطع عنهم في وقت أيضًا. وكذا قَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَأَكْدَى) أي: قطع، وهو من كدية الركيَّة، وهي الصلابة فيها إذا بلغها الحافر يئس من حفرها؛ فقطع الحفر.

(35)

وقيل لكل من طلب شيئًا فلم يبلغ، أو أعطى فلم يتمم: أكدى. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أكدى: بخل، ورجل مكدٍ: بخيل. وقوله: (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) فهو - واللَّه أعلم -: أعنده علم الغيب؛ فيأمر بتكذيب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويأذن له بالتولي عنه، وإعطاء المال على التكذيب له؛ أي: ليس عنده علم الغيب؛ لأنهم قوم لا يؤمنون بالرسل والكتب، وأسباب العلم هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) كأن هذا مقطوع من الأول؛ كان أُولَئِكَ الكفرة يقولون لأتباعهم: إنا نتحمل عنكم الظلم والوزر؛ فلا تأتوا محمدًا ولا تصدقوه؛ كقوله - تعالى - حكاية عنهم: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ)، فقال عند ذلك: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، أي: قد بينا في صحفهما: ألا تزر وازرة وزر أخرى. ولحيل: إنما سمي: وفيًّا؛ لأنه بلغ ما أمر بتبليغه. وقيل: لأنه كان يصلي أربع ركعات عند الضحى، وعلى ذلك يروون خبرا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أتدرون ما وفَّى؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: " وَفَّى أربع ركعات عند الضحى ". فإن ثبت هذا اكتفي عن أي تأويل آخر، وأصله: أنه سماه: وفيًّا؛ لما قام بوفاء ما أمر به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فيه أن هذا في الكتب كلها: في صحف إبراهيم، وموسى، وغيرهما من الكتب: ألا يحمل أحد وزر آخر، إنما يحمل وزر نفسه. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: لا يؤخذ الرجل بذنب غيره. وعن عمرو بن أوس قال: كان الرجل يؤخذ في الجاهلية بذنب غيره حتى نزلت الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39). يشبه أن يكون قوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) أي: ليس على الإنسان إلا ما

(40)

سعى؛ لأنه - جل وعلا - يثيب ويعطي الزيادة على ما سعى بفضله وكرمه؛ كقوله - تعالى -: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، ونحو الصغار الذين لا سعي لهم، قد يعطيهم الثواب بفضله، وأما جزاء الشر، فإنه لا يكون إلا بالمثل؛ كقوله - تعالى -: (فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا). وجائز أن يكون " له " بمعنى " عليه " في اللغة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، أي: فعليها. ويحتمل أن تكون الآية في أُولَئِكَ الكافرين الذين نزل فيهم قوله - تعالى -: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) يقول: ليس لذلك الإنسان إلا ما سعى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) وحرف (سَوفَ) من اللَّه - سبحانه وتعالى - على التحقيق والإيجاب؛ كحرف " لعل " و " عسى "؛ فيكون قوله - تعالى -: (سَوفَ يُرَى) أي: يرى جزاء عمله لا محالة. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) جزاء الآخرة على الوفاء، لا نقصان فيه، خيرا كان أو شرًّا. ويحتمل أن يكون ذلك للكافر يجزى جزاء الشرك وجميع ما يعمل من السوء، فأما المؤمن، فإنه يكفر سيئاته، ويجزى جزاء الخيرات؛ كقوله - تعالى -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) سمى الآخرة: منتهى، ومصيرًا، ورجوعا. ويحتمل: أي: إلى جزاء ربك يُنْتهى. وقوله: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) بين اللَّه - جل وعلا - قدرته وسلطانه في إنشاء أنفسهم، وأحوالهم، وأفعالهم: أما بيان قدرته في أنفسهم حيث قال: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ). وأما بيان قدرته في أحوالهم ما ذكر من قوله - تعالى - (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى)، (وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا). وأما في أفعالهم قوله: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) يذكر قدرته وسلطانه بما ذكر؛ ليعلموا أنه لا يعجزه شيء. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) يخرج على وجهين:

(44)

أحدهما: على الكناية والاستعارة؛ جعل الضحك كناية عن السرور، والبكاء كناية عن الخوف، وكذا العرف في الناس أنه إذا اشتد بهم السرور ضحكوا، وإذا اشتد بهم الحزن بكوا. والثاني: على حقيقة الضحك والبكاء؛ فهو على وجهين: أحدهما: أي: أنشأهم بحيث يضحكون ويبكون. والثاني: يخلق منهم فعل الضحك والبكاء؛ فهو أشبه التأويلين عندنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44). قوله: (أَمَاتَ) يحتمل وجهين: أحدهما: أي: جعلهم بحيث يموتون، وبحيث يحيون. والثاني: أمات بإخراج روحهم، وأحيا بإدخال الروح فيهم، وهو كقوله - تعالى - (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)؛ فيحتمل إماتتهم في الدنيا وإحياءهم في الآخرة، وأصل ذلك: أنه يفعل بهم كل ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) اسم الزوج يحتمل الشكل، ويحتمل المقابل؛ أي: يجعل أحدهما شكلا للآخر وإن كانا ضدين؛ يقول: جعلهم بحيث يتزاوجون ويتشاكلون، أو يتقابلون ويتضادون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) أي: تقذف. قال الأصم: دل قوله: (نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى): أنها إذا لم تقذف تصير: مذيا، وإنما تقذف التي تخرج على شهوة، فأما التي تخرج لا على شهوة فإنه يكون مذيا، ولا يوجب الاغتسال، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) أي: في الحكمة عليه النشأة الأخرى؛ لأنه لو لم تكن النشأة الأخرى، كانت النشأة الأولى باطلا، عبثا، غير حكمة. أو يقول: إن عليه النشأة الأخرى؛ ليعلم أن له قدرة عليها كما له القدرة على الأولى؛ لأن أُولَئِكَ الكفرة كانوا مقرين بالأولى والقدرة عليها، وينكرون الأخرى؛ فيخبر أن له القدرة عليهما، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48). يحتمل قوله: [(أَغْنَى)]، أي: وسع عليهم (وَأَقْنَى)، أي: سيَّر لهم ما يقتنون من الخدم وغيرها؛ فيكون الإغناء هو التوسيع بأنواع الأموال، والإقناء هو إعطاء القنية من الخادم وما يحتاج إليه للمهنة؛ فيكون في جعل الخدم له فضل حاجة، لا غناء، وذلك

(49)

دليل على صحة مذهبنا في استجازتهم دفع الزكاة إلى من له الخدم. وقيل: (أَغْنَى) أي: أعطى ما يغنيه ويستغني به، (وَأَقْنَى) أي: أقنعه، وأرضاه. وقيل على العكس: أغنى، أي: أرضى، وأقنى: أي: أخدم. [وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَغْنَى)]، أي: أكثر. وقال عطاء: ابنَ آدم، هو أغناك وأقناك؛ أي: أعطاك الخدم؛ على ما ذكرنا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: هو من القنية، وهي الكسب؛ يقال: أقنيته كذا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من القنو؛ قنى: -أعطاه مالًا- يقنى قنوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) قيل: إن الشعرى: اسم كوكب كان يعبده بعض العرب؛ فكأنهم ظنوا أن ما في ذلك الكوكب من الحسن والجمال؛ لِقَدْرٍ له عند الله ومنزلة، وأن تدبيرهم يرجع إليه؛ فعبدوه لذلك. ويحتمل أنهم عبدوه؛ لما لم يروا لأنفسهم أهلية لعبادة الرب - تعالى - فعبدوه من دونه؛ رجاء التقرب إليه؛ على ما يخدم المرء المتصلين بملوك الأرض. ولكن هذا فاسد؛ لأن من خدم المتصلين بملوك الأرض إنما يخدم لما لم يسبق لهم إليهم من خدمة متصلة، ولا الإذن بعبادة أنفسهم وخدمتهم، فأما اللَّه - تعالى - قد أمرهم بعبادة نفسه، ونهاهم عن عبادة غيره؛ فلم يسع لهم بعد الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره عبادة من دونه. ذكر سفههم في عبادتهم الشِّعْرَى وأمثالها؛ أي: اعبدوا رب الشعرى؛ فإن ما فيه من الحسن والجمال هو الذي فعل، فإليه اصرفوا العبادة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) قرئ: (عَادًا الْأُولَى) بإظهار التنوين والهمزة، وبغير الهمزة ولا إظهار التنوين؛ حتى تصير كأنها لام مثقلة. ثم هذا ليس نوع ما ذكر من قبل، إنما ذكر هذا لهم؛ لينزجروا عن صنيعهم؛ أي: إذ أهلك عادا وهم أشد منكم قوة، وأكثر عددًا وأموالًا، فلما لم ينزجروا بمواعظ الرب - تعالى - أهلكهم؛ فعلى ذلك يفعل بكم يا أهل مكة؛ إن لم تتعظوا. أو إنه أهلك عادا فلم يتهيأ لهم القيام بدفع عذاب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مع قوتهم، فكيف أنتم يا أهل مكة؟!

(51)

ثم اختلفوا في قوله - تعالى -: (عَادًا الْأُولَى) منهم من قال: كانوا عادَيْنِ: أحدهما: قوم هود، وهم أول، فأهلكوا بالريح، وكانت أخرى في زمن فارس الأول. ومنهم من قال: عادا الأولى: الذين أهلكوا من قبل من الأمم، وأهل مكة وهَؤُلَاءِ عاد أخرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) أي: أهلك ثمودًا أيضًا. وقوله: (فَمَا أَبْقَى) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: استأصلهم لم يبق منهم أحدًا؛ أي: ما أبقى لهم نسلا يذكرون بذلك بعد هلاكهم، كما أبقى الأنبياء والرسل - عليهم السلام - من النسل. أو ما لهم من آثار الخير شيئًا كما أبقى للرسل وأتباعهم إلى آخر الأبد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) أي: كانوا أفحش ظلما، وأكثر طغيانا؛ لأن نوحا - عليه الصلاة والسلام - دعاهم إلى توحيد اللَّه ألف سنة إلا خمسين عامًا، فما زادهم إلا نفورا واستكبارا؛ على ما أخبر: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) قيل: قريات لوط - عليه السلام - أي: أهلكها أيضًا. وقوله: (أَهْوَى) قيل: أي: أهوى إلى النار. وقيل: أي: أهوى من السماء إلى الأرض؛ على ما ذكر أن جبريل - عليه السلام - رفعها إلى السماء وأرسلها إلى الأرض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54). قيل: غشاها بالحجارة بعد ذلك، فسواها بالأرض. وقيل: غشى بالحجارة مسافريهم ومن غاب عنهم. وقيل: المؤتفكة: المكذبة؛ من الإفك وهو الكذب. وقيل: المنقلبة؛ ائتفكت: أي: انقلبت، (فَغَشَّاهَا) أي: غشى قريات لوط - عليه

(55)

السلام - من العذاب ما غشى أُولَئِكَ الذين ذكر من قبل من عاد، ومن قوم نوح؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. وقال أبو عبيدة: المؤتفكة: المخسوفة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) فظاهر هذا وظاهر قوله - تعالى -: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، مشكل؛ لأنه ذكر آلاء، ولو عرف أنها آلاء ربه، لكان لا يكذبه، لكن يخرج على وجوه: على التقديم والتأخير والإضمار؛ كأنه يقول: فبأي آلاء من آلاء ربكم شاهدتموه وعاينتموه تتمارون، وكذلك: فبأي آلاء ربكما الذي أقررتم ْبه تكذبوني. أو يقول: فبأي آلائه وإحسانه تتمارى، فكيف أنكرتم إحسانه بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؟! أو كيف صرفتم شكر نعمه إلى غيره. أو تكون الآلاء هاهنا هي الحجج؛ يقول: فبأي حجة من حجج ربك تنكر رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو تتمارى فيها؛ أي: لا حجة لك في تكذيبك إياه أو إنكارك رسالته. وقوله: (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أي: الذي يدعوكم وينبئكم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من النذر الأولى التي أنبأها الرسل الأولون، وأوعدوا قومه؛ فيكون صلة قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى. . .) إلى آخره. وقيل: (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى) أي: الرسل الأولى، وتمام هذا التأويل: أي: هذا نذير من البشر كالذين كانوا من قبل. وقيل: هذا الذي ينذر مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو من النذر التي في اللوح المحفوظ، أي: مما ينذر به، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ. أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي: قربت القيامة؛ سمى اللَّه - سبحانه وتعالى - القيامة بأسماء مختلفة: مرة الآزفة، ومرة: الساعة، ومرة: القيامة؛ فسماها: آزفة؛ لقربها إلى الخلق ووقوعها عليهم، وكذلك الساعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) دلت الآية على أن اللَّه - تعالى - لم يؤت علم قيام الساعة ووقوعها أحدًا، وهو كقوله تعالى: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، وللباطنية أدنى تعلق في هاتين الآيتين؛ لأنهم قالوا: إن الآخرة للحال كائنة، لكنها مختفية مستترة، تظهر وتكشف عند فناء هذه الأجسام، وذهاب هذه الأبدان؛ ويستدلون بقوله - تعالى - (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، وبقوله - تعالى -

(59)

(لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ)، ويقولون: إن لفظ التجلي والكشف إنما يستعملان فيما هو كائن ثابت يظهر عند ارتقاع التواتر، وما يخفيها إلا في الإنشاء ابتداء. ولكن عندنا: أن حرف الكشف والتجلي يستعمل في ابتداء الإحداث والإنشاء، وفي إظهار ما كان كامنا خفيًّا، فإذا كان كذلك، بطل استدلالهم بذلك، وهو كقوله - تعالى -: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)، هو عالم بما كان خفيًّا بحق الخلق وما هو شاهد ظاهر، وعالم بما يكون وبما هو كائن للحال، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ) كانوا تعَجَّبوا من أمرين: أحدهما: من بعث الرسل؛ كقوله - تعالى -: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ). ومن البعث بعدما يفنون ويتلفون؛ كقوله - تعالى - (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَضْحَكُونَ ... (60) الضحك - هاهنا - كناية عن الاستهزاء، ليس على حقيقة الضحك. أو يكون الضحك كناية عن السرور؛ أي: تسرون على ما أنتم عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَبْكُونَ) أيضًا ليس على حقيقة البكاء، ولكن كناية عن الحزن، أي: ولا تحزنون على ما فرط منكم من الأعمال وسوء الصنيع والمعاملة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) أي: لاهون، معرضون. وعن الحسن وسعيد بن جبير: سامدون: غافلون. وقيل: سامدون: حزنون على رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وغائظون على ما أنزل عليه. وعن عكرمة، عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله - تعالى - (وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) وقال: هو الغناء بلغة اليمن؛ يقول اليماني: اسمد لنا: أي: غن لنا؛ قال: كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) أي: اخضعوا لله، واستسلموا له؛ إذ الأمر بالسجود عند التلاوة في غير سجود الصلاة، أمر بالخشوع له والاستسلام، والأمر بالسجود - هاهنا - للتلاوة؛ للأحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن الصحابة والتابعين، رضوان

اللَّه عليهم أجمعين: روى الأسود عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ سورة النجم، فسجد فيها، ولم يبق معه أحد إلا سجد، إلا شيخ من قريش؛ فإنه أخذ كفًّا من حصا، فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا، قال ابن مسعود: فلقد رأيته بَعْدُ قُتِلَ كافرًا. وروى أبو هريرة والمطلب بن أبي وداعة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سجد فيها. وروي عن عمر وعثمان - رضي اللَّه عنهما - أنهما سجدا فيها. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " عزائم السجود أربع: تنزيل السجدة، وحم السجدة، والنجم، واقرأ باسم ربك ". وما روي عن زيد بن ثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأها فلم يسجد، يحتمل أن تكون التلاوة واقعة في وقت يكره السجود، والحديث حكاية فعل لا عموم له، واللَّه أعلم بحقيقة ما أراد، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. * * *

سورة القمر

سُورَةُ الْقَمَرِ ذكر أن سورة (اقترب) مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: اقتربت الساعة، واقترب انشقاق القمر. وقيل: على التقديم والتأخير، اقتربت الساعة، وإن يروا آية يعرضوا وإن كان انشقاق القمر. فعلى هذين التأويلين، لم يكن انشقاق القمر بعد، ولكن يكون في المستقبل، وعند قيام الساعة؛ وهو قول أبي بكر الأصم، ويقول: معنى قوله: (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي: سينشق القمر عند الساعة؛ إذ لو كان قد انشق في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لَمَا خفي على أهل الآفاق، ولو كان ظاهرا عندهم، لتواتر النقل به؛ إذ هو أمر عجيب، والطباع جبلت على نشر العجائب. وعامة أهل التأويل على أن القمر قد انشق؛ فكان من معجزاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمنى، فانشق القمر، فذهبت فرقة منه وراء الجبل، فقال - عليه السلام -: " اشهدوا، اشهدوا "، وروي عن غيره أيضًا: عن عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهم - وأنس بن مالك، وحذيفة، وجبير بن مطعم، في جماعة من الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين -: أنهم رأوا انشقاق القمر. وقول أبي بكر: لو كان، لم يخْفَ وظهر؛ فيقال له: قد ظهر؛ فإنه روي عن غير واحد من الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وتواتر الحديث عن الخاص والعام، وفشا الأمر بينهم، حتى قل من يخفى عليه سماع هذا الحديث.

(2)

على أنه قد يطلق ظاهر الكتاب، وإنما يكلف حفظ ما لم ينطق به الكتاب، والعمل بحقيقة اللفظ واجب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يجوز أن يستره اللَّه - تعالى - عن الآفاق بغيم، أو يشغلهم عن رؤيته ببعض الأمور؛ لضرب تدبير ولطف منه؛ لئلا يدعيه بعض الملتبسين في الآفاق لنفسه، وادعى الرسالة كاذبا؛ بناء على دعواه: أنه فعل ذلك؛ فيحتمل أنه أخفى عن أهل الآفاق إلا في حق من تظهر المعجزة عليه من الحاضرين، والكفرة يكتمونه، والصحابة الذين رأوا قد نقلوه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) كأنه يقول: اقتربت الساعة التي تجزون، أو الساعة التي تنشرون فيها، أو الساعة التي تحاسبون فيها. فَإِنْ قِيلَ: أليس روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " بعثتُ أنا والساعة كهاتين "، وأشار إلى السبابة والوسطى، وقد قبض رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولم تقم الساعة بعد. قيل: يحتمل أن مراده - عليه الصلاة والسلام - أنه ختم النبوة والرسالة، وتبقى أحكامه وشريعته إلى وقت قيام الساعة، وبقاء شريعته كبقائه، فصار كأنه قال: شريعتي والساعة كهاتين. ويحتمل أنه لما كان به ختم النبوة والشريعة، صار بعثه ومجيئه - عليه السلام - علامة للساعة وآية لها، وهو كقوله - تعالى - (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا) على تأويل من جعل بعث الرسول - عليه السلام - علَما وآية للساعة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) ذكر تعنتهم وعنادهم: أنهم وإن يروا آية سألوها، يعرضوا؛ فلم يُرِهِم تلك. أو من سنته: أن كل آية جاءت على أثر السؤال، فلم يقبلوها أهلكوا، فإذا كان من سنته هذا، وقد وعد تأخير عذاب هذه الأمة إلى الساعة، وعفا عنهم التعجيل - لم يرهم تلك الآيات المقترحة، واللَّه أعلم. ويحتمل: وإن يروا آية حسية يعرضوا؛ لأن آيات رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عامتها وأكثرها كانت عقلية وسمعية، فيخبر عن سفههم وتعنتهم أنهم وإن يروا آية حسية يعرضوا عنها، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)، وكقوله - تعالى -: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا

(3)

فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)، اختلف فيه: منهم من قال: (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي: ماض، لم يزل الرسل - عليهم السلام - كانوا يأتون بمثله من السحر. ومنهم من قال: (مُسْتَمِرٌّ) أي: قوي؛ مأخوذ من المِرَّة، وهي القوة، وأصل المرة: الفتل. ومنهم من قال: (مُسْتَمِرٌّ) أي: ذاهب؛ يذهب ويتلاشى ولا يبقى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) يحتمل كذبوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما أتى به من الآية على الرسالة. ويحتمل: وكذبوا بالتوحيد (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) يخبر أنهم إنما كذبوا ما ذكر باتباع أهوائهم، لا بحجة وبرهان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ... (5) يحتمل قوله: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) وجاءتهم - أيضًا - حكمة بالغة، وهي القرآن. ويحتمل أن يكون معناه: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) وفي تلك الأنباء حكمة بالغة. ثم الأنباء التي فيها مزدجر حكمة بالغة، وهي ما ذكر في هذه السورة من أنباء عاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم نوح، وموسى، فقد جاءهم أنباء هَؤُلَاءِ، وعرفوا ما نزل بهم من العذاب والإهلاك، وبأي شيء نزل بهم، وهو تكذيب الرسل - عليهم السلام - ليرتدعوا عن مثل صنيعهم، فلا يلحقهم مثل ما يلحق أُولَئِكَ، وفي ذلك حكمة بالغة، والبالغة هي النهاية في الأمر؛ يقال: فلان بالغ في العلم: إذ انتهى في ذلك نهايته. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: مزدجر: أمر متعظ. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: مزدجر: أي: زاجر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ). يقول - واللَّه أعلم -: قد جاءهم ما ذكر من الأنباء التي فيها مزدجر وإنذار، فلم يزجرهم ذلك، ولم ينفعهم، فأنَّى تغني النذر لهم؟ ومن أين تنفعهم النذر؟ أي: لا

(6)

تغنيهم. ثم النذر تحتمل وجهين: أحدهما: النذر: الرسل - عليهم السلام - جمع: نذير. والثاني: ما تقع به النذارة، وهو الأنباء التي أنذر الرسل بها وحذروا بذلك؛ يقول: فما يغنيهم قول الرسول، ولا خوف ما بلغهم من القصص التي فيها تعذيب للكفرة بتكذيب الرسل - عليهم السلام - وترك اتباعهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ... (6) يحتمل وجوها: أحدها: قوله: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي: أعرض عنهم، ولا تكافئهم بإساءتهم. والثاني: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي: لا تقاتلهم، ولا تجاهدهم؛ فإن كان التأويل هذا، فهو يحتمل النسخ على ما قاله أهل التأويل، وإن كان الأول فهو لا يحتمل النسخ. والثالث: يحتمل: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي: لا تشتغل بهم؛ فإنهم لا يؤمنون، وذلك في قوم علم اللَّه - تعالى - أنهم لا يؤمنون، يؤيس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الطمع في إيمانهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي: إلى شيء منكر، فظيع، هائل. ويحتمل: إلى شيء أنكروه في الدنيا -وهو الساعة- فيقرون في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ... (7) وقرئ: (خاشعًا)، بالألف، روي عن أبن عباس، وتصديقها في قراءة عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (خاشعة أبصارهم)، وصفهم بالخضوع في الآخرة مكان استكبارهم في الدنيا، وبالإقرار والتصديق بالساعة مكان إنكارهم في الدنيا، وبالإجابة للداعي مكان ردهم له في الدنيا حيث قال: (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: تشبيههم بالجراد لحيرتهم، لا يدرون من أين يأتون؟ وإلى أين يصيرون؟ كالجراد الذي لا يُدْرَى من أين؟ وإلى أين؟ وهو كقوله - تعالى -: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى). والثاني: تشبيههم بالجراد؛ لكثرتهم، وازدحامهم؛ لما يحشر الكل بدفعة واحدة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) قال عامة أهل التأويل: (مُهْطِعِينَ)،

(9)

أي: مسرعين. وقال قتادة: أي: عامدين. وقال مجاهد: الإهطاع: السيلان، وهو بالفارسية: يويه رفيق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مهطعين: ناظرين، رافعي رءوسهم؛ وهو قول الكلبي. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: مسرعين، مادين أعناقهم. وقيل: الإهطاع: إدامة النظر إلى الداعي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ)، وهو ما قال في آية أخرى: (يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ). * * * قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) يقول - واللَّه أعلم -: كذبت قبل قومك قوم نوح نوحا - عليه السلام - وآذوه، فصبر على التكذيب وأنواع الأذى، ولم يدع عليهم بالهلاك ما لم يرد الإذن بالدعاء عليهم بالهلاك من اللَّه - تعالى - فاصبر أنت على تكذيب القوم وأنواع الأذى، وهو كقوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في تكرار هذه الأنباء في القرآن، ولم يكرر ما فيه من الأحكام؟ قيلَ؛ إن هذه الأنباء والقصص إنما جاءت لمحاجة أهل مكة وأمثالهم من الكفرة في إثبات الرسالة والتوحيد والبعث؛ إذ هم المنكرون لهذه الأشياء، وهم كانوا أهل عناد ومكابرة، وفيهم - أيضًا - مسترشدون، ومن حق المحاجة مع من ذكرنا وأمثالهم أن تعاد الحجة مرة بعد مرة؛ لعلهم يقبلونها في وقت، وتنجع في قلوبهم في وقت، وإن لم تنجع في وقت، ومن حق الموعظة للمسترشدين - أيضًا - أن تكرر ليتعظوا؛ إذ يختلف ذلك باختلاف الأحوال، وقد ذكرنا فوائد تكرارها واقتصار الأحكام فيما تقدم، والله أعلم.

(10)

فَإِنْ قِيلَ: إن نوحا - عليه الصلاة والسلام - قد دعا على قومه بالهلاك. قيل: إنما دعا على قومه بالهلاك بعدما أيس من إيمانهم؛ حيث قيل: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)، أما رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يؤيسه عن إيمان قومه جملة؛ إنما يؤيسه عن بعض بطريق التعيين، وهم قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون، لا عن الكل؛ فلذلك لم يؤذن بالدعاء عليهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا) يحتمل: كذبوه فيما ادعى لنفسه الرسالة. أو كذبوه فيما دعاهم إليه بالتوحيد وتوجيه الشكر إلى الواحد القهار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا مَجْنُونٌ)، أي: قالوا لأتباعهم: إنه مجنون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَازْدُجِرَ)، أي: نوح - عليه السلام - حيث قالوا لقومهم: لا تتبعوه، وزجروهم عنه بقولهم: إنه مجنون؛ فهذا منهم زجر لأتباعهم عن اتباعه؛ فصار لذلك نوح - عليه السلام - مزدجرا عن القوم، وصار القوم مزدجرين عنه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: زجروا نوحا - عليه السلام - أي: منعوه عن إظهار ما أتاهم من الآيات على رسالته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) أي: مغلوب بالسفه والمكابرة وأنواع الأذى؛ إذ لا يحتمل أن يكون مغلوبا بالحجج، فانتصر لعبدك عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) يحتمل قوله - تعالى -: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ) أي: من فوق؛ لأن ما كان من فوقك فهُو سماء؛ فيحتمل أن يكون ذلك من البحر بفوق الذي ذكر أنه بين السماء والأرض. (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا ... (12) أي: أنبعنا الماء من الأرض؛ كأنه قال: أنزلنا الماء من فوق، وأنبعنا من أسفل. ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ) هو حقيقة فتح السماء وإنزال الماء منها، واللَّه - تعالى - قادر أن يرسل الماء مما يشاء، وكيف شاء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) قيل: منصب. وقال أبو عبيد: (مُنْهَمِرٍ)، أي: كثير سريع الانصباب؛ يقال: همر الرجل: إذا أكثر في الكلام؛ فأسرع. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: انهمرت السماء وهمرت، أي: أمطرت؛ فأكثرت.

(13)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) يذكر أن الماءين جميعًا: ما أرسل من الفوق، وما أخرج من التحت - على تقدير وتدبير، لا جزافا، وهو كقوله - تعالى -: (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) أي: على تقدير وتدبير من اللَّه تعالى جئت، لا على غير تقدير منه. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فالتقى الماءان على أمر قد قدر). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي: قد قدر لهم أن يغرقوا بالماء إذ كفروا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (قَدْ قُدِرَ) أي: استوى الماء نصفه من عيون الأرض، ونصفه من السماء، وأصله ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) وذكر في حرف حفصة - رضي اللَّه عنها - (وحملناه وذريته على ذات ألواح ودسر)، ذكر - هاهنا - ذات ألواح، وذكر في آية أخرى السفينة بقوله - تعالى -: (أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)، ونحوه؛ فيكون (ذَاتِ أَلْوَاحٍ) تفسير السفينة، ولو لم يفهم من (ذَاتِ أَلْوَاحٍ) السفينة؛ إذ ذات الألواح قد ترجع إلى الأشجار وغيرها، لكن كان تفسير السفينة بما ذكرنا، واللَّه أعلم. ثم اختلف في قوله - تعالى -: (وَدُسُرٍ): قال أهل التأويل: الدسر: المسامير التي تشد بها السفينة. وقيل: الدسر: أضلاع السفينة. وقيل: صدرها. وقال الحسن: هي السفينة؛ لأنها تدسر الماء بجؤجئها. قال أبو معاذ: واحد الدسر: دسار، وجمع الجؤجؤ: الجآجئ، وهي الصدور. ثم في قوله: (وَحَمَلْنَاهُ)، وتسميته هذه المصنوعة: سفينة - دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله - تعالى - لأنهم هم الذين ركبوا السفينة، ثم أخبر أنه هو الذي حملهم، وكذا الخُشُب المجتمعة لا تسمى: سفينة، إنما سميت بهذا الاسم الخاص بعد الإيجاد والصنعة الموجودة من العباد؛ دل أن لله في فعل العباد صنعا، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ... (14) أي: بتقديرنا وبحفظنا.

(15)

وقوله: (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) أي: حمل نوحًا - عليه السلام - وأتباعه في السفينة ونجاهم من الغرق جزاء ما كفر به قومه؛ كذا قال عامة أهل التأويل: إنه أخبر لنوح - عليه السلام - حين كفر به قومه فلم يؤمن به قومه. وقال مجاهد: جزاء لمن كان كفر باللَّه - تعالى - أي: الغرق جزاؤهم؛ لما كفروا باللَّه تعالى. وقال أبو معاذ: وقرئ: (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ) بنصب الكاف، وتأويل هذه القراءة: أي: إهلاك من أهلك من قومه؛ جزاء لما كفروا باللَّه - تعالى - أو بنوح، - عليه السلام -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً ... (15) يحتمل وجهين: أحدهما: تركنا سفينة نوح - عليه السلام - بعينها مدة طويلة حتى صارت آية لأواخرهم ولمن بعدهم؛ وبه يقول قتادة؛ قال: أبقى اللَّه - تعالى - سفينة نوح - عليه السلام - بينة للمسافرين من أرض الجزيرة حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة كانت بعدها، فصارت رمادًا. والثاني: تركنا آية آثار تلك السفينة وأنباءها آية لمن بعدهم؛ لأن أنباءها قد بقيت في المتأخرين حتى عرفوا أن من نجا لِمَ نجا؟ ومن هلك لم هلك؟ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) عن الأسود قال: قلت لعبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أو (مُذَّكِر)؟ فقال: أقرأني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - (مُدَّكِرٍ) بالدال. قال أبو عبيد: وأصله في العربية: " مدتكر "، فإنه من باب الافتعال على وزن مفتعل، فثَقُل لاجتماع التاء والدال، فأدغم الحرف الأول -وهو الدال- في التاء؛ فانقلب دالا، وهو كقوله: " ادخر "، أصله: " ادتخر "، من " الدخر " لما قلنا، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُدَّكِرٍ) أي: هل من متذكر متعظ، يتعظ بما نزل بأُولَئِكَ فينزجر عن مثل صنيعهم. وقال قتادة: فهل من طالب خير؛ فيعان عليه.

(16)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) يخرج على وجهين: أحدهما: أليس ما وعد لهم رسلي من العذاب بالتكذيب صدقا حقًّا، وأريد بقوله: (وَنُذُرِ) أي: رسلي. والثاني: أليس وجدوا عذابي شديدًا ونذري ما وقعت به النذارة، وهو العذاب الذي أنذروا به، والنذر على هذا التأويل المنذر به؛ كقوله - تعالى -: (وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا)، أي: موعودا، وإلا وعده لا يكون مفعولا؛ إذ هو صفة أزلية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) هذا يحتمل وجوها: أحدها: (يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي: للحفظ؛ أي: صيرناه بحيث يحفظه كل أحد من صغير وكبير، وكافر ومؤمن وكل أحد يتكلف حفظه. والثاني: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي: لذكر ما نسوا من نعم اللَّه - تعالى - عليهم، ولذكر ما أنبأهم فيه من أخبار الأوائل من مصدقيهم مذكر. والثالث: جائز أن يكون لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة؛ أي: يسرناه عليه حتى حفظه كله عن ظهر قلب؛ حتى إذا أراد أن يذكر شيئا منه يذكر في كل وقت وكل ساعة أراد؛ كقوله - تعالى -: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ)، وقوله - تعالى -: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)، أمنه عن أن ينساه، ومَنَّ عليه بالتيسير. وقوله: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) فعلى التأويل الأول - واللَّه أعلم -: أنه وإن يسرنا القرآن للحفظ، ولكن لم ينزل للحفظ، ولكن إنما أنزل ليذكر ما فيه، وللاتعاظ به؛ أي: فهل من متعظ به. وعلى التأويل الآخر: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) خرج مخرج الأمر؛ أي: اذكروا واتعظوا بما فيه من الأنباء، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)

(18)

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) ذكر أنباء الأوائل وما نزل بهم بالتكذيب، والعناد، وسوء معاملتهم الرسول - عليه السلام - وهو صلة قوله: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ)، تأويل الآية يخرج على الوجهين اللذين ذكرناهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) قيل: باردة. وقيل: شديدة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ)؛ إذ استمر بهم العذاب - كما قال اللَّه عز وجل -: (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا). وقيل: (مُسْتَمِرٍّ) أي: ذاهب على الصغير والكبير، فلم تُبْقِ منهم أحدًا إلا أهلكته. وقوله - عز وُجل -: (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) من الناس من قال: لما اشتدت بهم الريح، تنادوا فيما بينهم: البيوت! فدخلوها، فدخلت الريح عليهم، فأخرجتهم من بيوتهم، وألقتهم في فنائهم؛ فذلك النزع. ومنهم من قال: تنزع مفاصلهم فتلقيهم كأعجاز نخل منقعر؛ لأنهم كانوا أطول الخلق، فذكر أن كل رجل منهم كان طوله ستين ذراعا، والنخل لا يبلغ ذلك المقدار إلا بعد قطع المفاصل؛ فجائز التشبيه بأعجاز نخل منقعر بعد انتزاع مفاصلهم، والانقعار: هو الانقلاع. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مُنْقَعِرٍ)، أي: منقطع ساقط. ومنهم من حال: شبههم بأعجاز النخل؛ لعظم أعجازهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: شبههم بأعجاز النخل؛ لطولهم، ولكن ذلك بعد نزع مفاصلهم؛ لما ذكرنا. وفي حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: (تنزع الناس على أعقابهم). وقوله: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) فهو يخرج على ما ذكرنا من الوجهين، وكذا قوله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما: أحدهما: (بِالنُّذُرِ) أي: بالرسل التي دعتهم إلى الإيمان باللَّه تعالى. والثاني: كذبت بما وقعت به النذارة التي أخبرهم الرسل: أنها نازلة واقعة بهم، والله

(24)

أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) لم يزل الأكابر من الكفرة والرؤساء منهم يلبسون على أتباعهم بهذا الحرف: (أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ)، وقالوا: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ)، وقوله - تعالى -: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ)، ونحو ذلك، وذلك تناقض في القول؛ لأنهم كانوا ينهون أتباعهم عن اتباع بشر مثلهم ويدعونهم إلى اتباع آبائهم والاقتداء بهم، وهم أيضا بشر، وليس مع آبائهم حجج وبراهين، ومع الرسل حجج وآيات، فيكون تناقضا في القول ومعارضة فاسدة، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: السعر: الجنون؛ أي: لو اتبعنا بشرا منا، لكنا في ضلال وجنون، وهو مأخوذ من سعر النار؛ إذا التهبت، يقال: ناقة مسعورة، أي: كأنها مجنونة؛ من النشاط. وقيل: الضلال والسعر واحد. ويحتمل: أي: إنا إذا لفي ضلال في الدنيا، وسعر في الآخرة، والسعر: من السعير، وهو النار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا ... (25) فجائز أن يكون هذا القول من أهل مكة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كقوله - تعالى - خبرا عنهم: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا)، والذكر هو القرآن، على هذا التأويل. وجائز أن يكون ذلك من ثمود وصالح - عليه السلام - والقصة قصة صالح؛ فهو الأشبه بالتأويل، ولم يزل الكفرة ينكرون تفضل الرسل - عليهم السلام - على غيرهم من البشر بالرسالة، وإنزال الذكر عليهم من بينهم، ثم يرون لأنفسهم الفضل على أُولَئِكَ الرسل: إما بفضل مال، أو بفضل نسب، أو رياسة، ونفاذ قول، بلا سابقة كانت منهم، ولا تقدم صنع، وما ينبغي لهم أن ينكروا تفضيل الرسل بالرسالة والنبوة بلا سابقة كانت منهم، ولا تقدم صنع؛ إذ هي فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) عن مجاهد: أنه قرأ بفتح الشين، وقرأ العامة (أَشِرٌ) بكسر الشين.

(26)

قال أَبُو عَوْسَجَةَ: وقيل: الأَشِر، والأَشَر هو البطر -كما يقال: حذِر وحَذَر- وهو المرح المتكبر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) قرئ بالياء والتاء؛ فمن قرأ بالياء احتج بقوله (فِتْنَةً لَهُمْ)، ولم يقل " لكم "، ومن قرأ بالتاء جعل الخطاب من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للكفرة، أي: ستعلمون غدا عند نزول العذاب بكم من الكذاب أنا أو أنتم؟ وهذا وعيد منه لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) لنفتنهم بها، ونمتحنهم، لم نعطهم مجانا جزافا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وقوله - تعالى -: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) أي: فارتقبهم بما يكون منهم من التكذيب للناقة والعقو لها. ويحتمل أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْتَقِبْهُم) هو خطاب لرسوله عليه الصلاة والسلام في حق أهل مكة، كقوله (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ). وقوله: (وَاصْطَبِرْ) أي: اصطبر على أذاهم، ولا تكافئهم. أو اصبر على تبليغ الرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) وقال في آية أخرى: (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)، وفيه من الفوائد والدلائل: أحدها: أن تلك الناقة كانت عظيمة على خلاف سائر النوق؛ حتى احتاجت هي إلى الماء مثل الذي احتاج إليه سائر النوق وأهلها؛ حتى قسم الماء يينها وبين سائر النوق. وفيه: أنه لا بأس بقسمة الشرب؛ حيث ذكر في الآية قسمة الماء، وذكر في آية أخرى: (شِرْبُ يَوْمٍ)، وهو قسمة بالأيام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي: كل شرب بحضرة من له شرب ذلك، لا يحضره غيره. وفيه: أن تلك الناقة وإن كانت آية ومعجزة له، فكانت تعتلف وتشرب كسائر النوق التي ليست هي بآيات، وإن كانت تخالف سائر النوق في عظمها، وقدر علفها وشربها. ثم جعل الماء بينها وبين أُولَئِكَ القوم بالقسمة، ولم يجعل العلف بينها وبينهم بالقسمة؛ لاشتراكهم جميعا في الماء -أعني: البهائم والبشر- وحاجة كل منهم إلى الماء، فلذا جعل النبات مشتركا بينها. وبين سائر البهائم؛ لأن في ذلك كثرة، فلا حاجة إلى

(29)

القسمة، فأما في الماء في ذلك الموضع عزة؛ لما يسقون من الآبار؛ فلذلك جعلوا الماء بالقسمة، واللَّه أعلم. وفيه: أن المياه إذا ضاقت قسمتها بالأجزاء تقسم بالأيام؛ من حيث جعل لها شرب يوم معلوم، ولهم شرب يوم معلوم. وفيه: أن الماء وإن كان عينا فهو كالمنفعة في جواز قسمتها بالأيام. ثم قوله: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) جائز أن يكون الخطاب لصالح - عليه السلام - أمره أن ينبئ قومه: أن الماء قسمة بينهم وبين الناقة. وجائز أن يكون الخطاب به لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أمره أن يخبر قومه: أن الماء كان قسمة بينهم وبين الناقة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) أضاف العقر هاهنا إلى واحد، وفي رواية أخرى أضافه إلى الجماعة، وهو قوله: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)، وقال في موضع آخر: (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ)؛ فيكون ظاهر هذه الآيات على التناقض؛ من حيث ذكر الفرد والجماعة. وفيه تناقض من وجه آخر؛ فإنه ذكر في آية: (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)، وقال في موضع: (فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ)، ذكر الندامة، وهي خلاف العتو. لكنا نقول: لا تناقض، ولا اختلاف عند اختلاف الأحوال والأوقات، فقوله: (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)، قبل أن ينزل بهم العذاب، وقوله: (فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ)، إذا نزل بهم العذاب، والتناقض في وقت واحد في حال واحد، وكذلك العقر من واحد على الحقيقة، لكن إنما أضافه إلى الجماعة؛ لأنه عقر بمعاونتهم. أو الواحد هو الذي طعنها، ثم اجتمعوا، فعقروا جميعا، ونحو ذلك؛ فثبت أنه لا تناقض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَتَعَاطَى) وتناول، (فَعَقَرَ) أي: ضرب عرقوبها؛ أي: ساقها. وقيل: العقر: قد يكون جرحا، وقد يكون قتلا. وقوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) يحتمل: أي: أرسلنا عليهم العذاب قدر صيحة واحدة، يخبر عن سرعة نزول العذاب ووقعه عليهم. ويحتمل أن يكون أرسل عليهم الصيحة، وأهلكهم، وصاروا كما ذكر من هشيم

(32)

المحتظر، وهو قوله: (فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ)، قيل: الهشيم: العظام البالية. وقيل: كالشيء المتناثر، من الحائط، وأصل الهشيم: الانكسار، أي: صاروا كالشيء المنكسر المجتمع في موضع. وقوله تعالى: (الْمُحْتَظِرِ) بكسر الظاء ونصبه، روي النصب عن الحسن. قال أبو عبيد: بالكسر يقرأ على تأويل الإنسان المحتظر. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الهشيم: البالي من الشجر، والمحتظر: الذي يتخذ حظيرة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الهشيم: النبت اليابس الذي ينهشم، أي: ينكسر، والمحتظر -بكسر الظاء-: صاحب الحظيرة لغنمه، وبفتح الظاء أراد: الحيطان، وهو الحظيرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ... (32) أي: يسرنا القرآن لذكر ما نسوا من نعم اللَّه تعالى، وأغفلوا عنها. أو يسرنا القرآن لذكر ما أغفلوا من الحجج والآيات ونسوها. أو يسرنا القرآن لذكر ما نسوا من الأنباء، وما نزل بمكذبي الرسل - عليهم السلام - بالتكذيب والعناد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قد تقدم ذكره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)، قال أهل التأويل: أليس الذي أنذروا به وجدوه حقًّا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أليس وجدوا ما وعد لهم رسلي حقًّا. وقد ذكرناه. * * * قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ. نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ)، أي بالرسل - عليهم السلام - أو بما تقع به النذارة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ ... (34) على تأويل من يقول بأن تلك

(35)

القريات قلبت بمن فيها ظهرا لبطن على ما ذكر في آية أخرى: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) - أرسل الحاصب على من غاب عنها في البلدان فأهلكهم بها، يخرج على الإضمار، كأنه قال: قلبناها بمن فيها، وأرسلنا على من غاب عنها حاصبا إلا آل لوط؛ حتى يستقيم الثنيا الذي استثنى، ويكون كقوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ)، كأنه قال: أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد، واللَّه أعلم. وعلى تأويل من يقول بأنها قلبت، ثم أرسل عليها الحاصب، فالثنيا مستقيم؛ فيكون هلاكهم بأمرين، واستثنى آل لوط بالنجاة منهما جميعا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) أي: منعنا عنهم العذاب عند السحر؛ فيكون فيه دلالة: أنه يكون بمنع العذاب عنهم منجيا لهم، وإلا لم يكن بنجاتهم عند السحر منعمًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يكون هلاك أُولَئِكَ على لوط وآله نعمة من اللَّه تعالى عليهم؛ فيكون عليه شكره؛ فهو جزاء شكرهم، وهو كقوله تعالى: (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ)، يحتمل أن يكون هلاك أُولَئِكَ وإغراقهم جزاء ما كفر بنوح، وذلك نعمة منه على نوح، - عليه السلام -. والثاني: أن تكون نجاة نوح ومن كان معه نعمة منه عليهم؛ إذ له أن يهلك الكل من كفر ومن لم يكفر؛ ألا ترى أنه يهلك الدواب والصغار، وإن لم يكن لهم مآثم، فإذا كان كذلك كان إبقاء من أبقى منهم فضلا منه ونعمة عليهم، وإلا لا كل كفر استوجب النجاة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) يخرج على الوجهين اللذين ذكرناهما. أحدهما: تماروا بالواقع من النذارة. والثاني: (بِالنُّذُرِ)، أي: الرسل، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) أي: طلبوا منه التخلية بينهم وبين ضيفه. وقوله: (فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ)، ذكر أن جبريل - عليه السلام - مسح جناحيه على أعينهم فعموا، ثم قيل لهم: (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) أي: نزل بهم صباحا بالبكرة (عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ) العذاب المستقر: هو العذاب الذي نزل بهم، ودام عليهم؛ وأهلكهم وأما طمس الأعين، فقد انقضى.

(39)

وقوله: (عَذَابِي وَنُذُرِ (39) النذر - هاهنا -: ما وقعت به النذارة. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ. أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) يحتمل ما قال من النذر: إنه جاء آل فرعون: موسى وهارون عليهما السلام، سماهما باسم الجمع، وهو النذر. ويحتمل أن يكون المراد من النذر التي جاءتهم هي ما نزل من أنواع العذاب؛ فيكون المراد بالنذر: ما وقعت به النذارة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) يحتمل أنهم كذبوا جميع الآيات التي جاءهم بها موسى - عليه السلام - من آيات الألوهية والوحدانية، وآيات الرسالة. وجائز أن تكون هي جميع ما يدل على وحدانية الرب وألوهيته من الخلائق؛ لأن ذلك اللعين قد ادعى الألوهية لنفسه، وجميع ما في العالم يدل على ألوهية اللَّه تعالى، فهو حيث ادعاها لنفسه وصدقه قومه كذبوا بذلك جميع الآيات التي تشهد على ألوهية الله تعالى ووحدانيته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) أي: أَخْذَ عَزِيزٍ ذليلا، وأخذ غالب مغلوبا، وأخذ قادر عاجزا، وأخْذ قاهرٍ مقهورا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) يقول اللَّه تعالى واللَّه أعلم: أكفاركم يا أهل مكة أقوى في دفع العذاب عن أنفسهم والانتصار منه إذا نزل بهم العذاب من أُولَئِكَ الذين كانوا من قبلكم، أي: ليس كفاركم أقدر منهم، بل أُولَئِكَ أكثر، ثم لم يقدروا على القيام بدفع العذاب عن أنفسهم، ولا الانتصار منه إذا نزل بهم، فأنتم يا أهل مكة أضعف وأقل عددا أحق ألا تقدروا على دفع العذاب عنكم إذا نزل بكم. أو يقول: ليس لكم براءة في الكتب أنكم تقدرون على القيام في دفع العذاب عن

(44)

أنفسكم إذا نزل بكم. أو يقول: ليس لكم براءة في الكتب: أن العذاب لن يصيبكم إذا نزل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) أي: بل تقولون: نحن جميع منتصر؛ أي: لا ينصرونكم كجمعهم. هذه الآيات الثلاث على النفي والدفع، أي: ليس لهم ما يدفعون العذاب عن أنفسهم، وليس لهم ما ينصرون به، ولا كفارهم خير من كفار أُولَئِكَ في دفع العذاب والقدرة على الانتصار، واللَّه أعلم. ثم قال على الابتداء: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) فيه دليلان: أحدهما: أخبر أن لهم جمعا يهزم، ويولون الدبر ما ذكر، وقد قال أهل التأويل: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) هو جمع دبر، أخبر أنهم يهزمون ويولون الدبر، وقد كان ما أخبر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دل أنه علم باللَّه تعالى. والثاني: أخبر أن الساعة موعد إهلاكهم واستئصالهم لا بالدنيا بقوله تعالى: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) وكان كما أخبر. وفيه - أيضا - دلالة إثبات الرسالة، واللَّه أعلم. وقوله: (أَدْهَى وَأَمَرُّ) أي: أعظم وأشد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) جائز أن يكون قوله: (فِي ضَلَالٍ) في الدنيا، وفي السعر في الآخرة، وهو السعير. ويحتمل (فِي ضَلَالٍ) في هلاك، (وَسُعُرٍ) في حيرة وجنون وتيه؛ كقوله تعالى (إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) كأنه يقول له: قل لهم يوم يسحبون في النار على وجوههم إن ختموا على ما هم عليه: (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي: يقال لهم: (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي: ذوقوا عذاب سقر، والسقو هو اسم النار؛ فيصير كأنه على الإضمار؛ أي يقال لهم: ذوقوا عذاب النار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) يحتمل وجهين: أحدهما: على التقديم والتأخير؛ أي: إنا خلقنا كل شيء؛ فإن كان على هذا؛ فيكون كقوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، وفيه إثبات خلق كلية الأشياء. والثاني: على ظاهر ما جرى به الخطاب (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) أي: إن كل شيء بقدر، فإن كان على هذا، فليس فيه إثبات خلق كلية الأشياء، ولكن فيه إثبات أنما خلقه بقدر؛ وإلى هذا التأويل يذهب المعتزلة. والتأويل عندنا هو الأول: إنا خلقنا كل شيء بقدر؛ كقوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ).

(50)

ويحتمل: أي: إنا كل شيء خلقناه بقدر وحَدٍّ ينتهي إليه ذلك، ويبلغ حده، ليس كالمخلوق لا يعرف أحد قدر فعله ولا حده الذي ينتهي إليه، ولا يخرج فعل أحد من المخلوقين على ما يقدرونه، فأخبر أن فعله يخرج على ما يقدره خلافا لفعل غيره؛ فيدل على أنه هو الخالق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ ... (50) الأمر فيما بين الخلق على وجهين: أحدهما: أمر شأن بالفعل. والآخر: أمر تكليف لغير. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ)، إنما هو أمر فعل؛ يخبر عن سهولة ذلك عليه، أي: شأنه وفعله يسير عليه، لا يعجزه شيء ولا يشغله؛ فعلى ذلك أمر الله وخفته عليه، والواحد ليس هو اسم العدد، وإن كان الحساب يبتدئ به إنما هو اسم التوحد والتفرد؛ كما يقال: فلان واحد زمانه، لا يريدون من جهة العدد؛ إذ له أعداد وأمثال من جهة العدد، ولكن إنما يراد بأنه المتوحد في شأنه وفعله، ولا نظير له؛ فعلى ذلك تسميته إياه: واحدا لتفرده وتوحده في ألوهيته وربوبيته، وتسمية أمره واحدا: أن فعله وشأنه لا يشبه أفعال غيره، وأنه لا نظير له في ذلك، وأنه يسير عليه، لا حاجة له إلى الوقت، والآلة، وغير ذلك؛ ألا ترى أنه قال: (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) يخبر عن خفة ذلك عليه وسهولته، من حيث لا يثقل على أحد رد البصر ولا لمحه، هذا وجه. الثاني: فيه إخبار أنه لا يشغله شيء؛ لأن الناس تشغلهم بعض أمورهم عن بعض. وأهل التأويل يصرفون الآية إلى الساعة؛ كقوله تعالى: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)، وهو محتمل؛ فيخبر أن الآخرة ليس على تقدير أمر الدنيا على اتباع بعض بعضا، وعلى إرداف شيء على شيء، وعلى الانتقال والتغير من حال إلى حال، ولكن أمر الآخرة على التكون بمرة واحدة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) يحتمل قوله (أَشْيَاعَكُمْ) على وجهين: أحدهما: إخوانكم وأهل دينكم بتكذيبهم الرسل - عليهم الصلاة والسلام - واذكروا أنتم يا أهل مكة؛ لئلا تهلكوا بتكذيبكم محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: أي: ولقد أهلكنا أشياعكم، وعرفتم ذلك، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يتذكر ويتعظ، ويعتبر به.

(52)

وجائز أن يكون معناه: ولقد أهلكنا جنسكم، والحكيم لا يخلق الخلق للفناء والهلاك، فاعلموا أنه أنشأكم للعاقبة. وفيه إثبات البعث، لكنه لا تدركه أفهام الكفرة وعقولهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) يخرج هذا - أيضًا - على وجهين: أحدهما: كل شيء فعلوه من التكذيب والعناد، كان في الكتب المتقدمة، أي: عن علم بصنيعهم وفعلهم أنشأهم، وبعث إليهم الرسل؛ وهو رد على من يقول: إنه لا يعلم ما يكون منهم حتى يكون منهم ذلك؛ لأنه لو كان يعلم ذلك لا يحتمل أن يبعث الرسل - عليهم الصلاة والسلام - إليهم ويأمرهم، وينهاهم، وهو يعلم أنهم يكذبون رسله، ويخالفون أمره، فرد عليهم وبين أنه لم يزل عالما بما كان ويكون، وقد بينا قبل هذا أنه تعالى بعث الرسل - عليهم السلام - وإن علم منهم التكذيب والخلاف؛ وذلك لأن المنافع والمضار راجعة إليهم دونه، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون معناه: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) أي: في الكتب التي تكتب عليهم الملائكة ويؤمرون بالقراءة في القيامة؛ كقوله تعالى: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) هذا أيضا يخرج على هذين الوجهين: أحدهما: مستطر في الكتب التي قبلهم. أو في الذين يملون على الحفظة؛ كقوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ)، وقال في موضع آخر: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ). ثم اختلف في تأويل قوله: (وَنَهَرٍ (54). قيل: نهر من النور، أي: هم في ضياء ونور وسرور، وهو قول الأصم. وقال الفراء: النهر: السعة؛ يقال: أنهرت الطعنة، أي: وسعتها. وقال أهل التأويل: أي: الأنهار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ ... (55) أي: موعود صدق؛ كأنه كناية عن راحة

وسرور لهم؛ كقوله: (كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا)، أخبر أنهم يستريحون فيها، أو يسكنون ويقرون، لا يريدون التحول منها، وهو مقابل ما ذكر للكفار: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) أي: يجرون، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا)، وقوله تعالى: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا)، يطلبون الخروج منها، وأخبر أنهم يكونون أبدا في عناء وشدة وبلاء حتى لا يقرون في مكان، وعلى هذا يخرج قوله: (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، أي: لهم موعود صدق عند ربهم، أي: تقر أقدامهم في ذلك؛ فيكون هو كناية عن الثبات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ). إن الرجل إذا كان في فضل وخير يضاف بكونه فيه إلى اللَّه تعالى، نحو ما يقال: في سبيل اللَّه، ووفود اللَّه، وغير ذلك من الأمكنة التي هي أمكنة الفضل والخير تضاف إلى اللَّه، نحو: بيت اللَّه، ومساجد اللَّه؛ لأنها أمكنة القرب والفضل، فعلى ذلك قوله: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أضاف بكونهم في أمكنة الفضل والخير والمنزلة عند الله تعالى، لا أنه يوصف بمكان أو مقام؛ بل هو ممسك الأمكنة كلها ومنشئ الأزمنة بأسرها، واللَّه الموفق، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله أجمعين. * * *

سورة الرحمن

سُورَةُ الرَّحْمَنِ مَكِّيَّة، وقيل: بل مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) قد عرفت العرب وعلمت أن " الرحمن " على ميزان " فعلان "، مشتق من الرحمة، لكن أحدا من الخلائق لا يبلغ في الرحمة مبلغا يستحق تسميته به: رحمانا؛ لذلك خص اللَّه تعالى نفسه بتسميته: الرحمن، وإن كان مشتقًّا من الرحمة؛ كالرحيم، وجاز تسمية غيره: رحيما، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَّمَ الْقُرْآنَ)، ذكر أن الرحمن علم القرآن، ولم يذكر لمن علمه؛ فجاز أن يكون المراد منه: أنه - تبارك وتعالى - علم القرآن رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ثم يخرج ذلك على وجوه: أحدها: أنه جبريل - عليه السلام - حيث قال: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ)، لكن خرجت الإضافة إلى اللَّه تعالى؛ لما أنه علمه بأمره. والثاني: أضاف التعليم إلى نفسه؛ لما أنه هو الذي أثبته في قلبه حتى لا ينساه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)، وقوله: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ). والثالث: أضاف إلى نفسه، وإن علمه جبريل - عليه السلام - لأنه هو الخالق لفعل التعليم من جبريل، عليه السلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4). قَالَ بَعْضُهُمْ: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ) أي: آدم عليه السلام، و (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) أي: الأسماء التي ذكر في آية أخرى، (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ)؛ إذ لا سبيل إلى معرفة الأسماء إلا بالتلقين، ليس كالأشياء التي تعرف وتدرك بالاستدلال. ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ) أي: خلق كل إنسان وعلمه البيان: أي: علمه بيان ما يمتحنهم به من الأمر والنهي؛ ليعلم أنه لم يخلق الإنسان ليتركه سدى.

(5)

ويحتمل: علم كل إنسان ما غاب عنهم حتى عرفوا بما شاهدوا -باللون والطعم واللذة- طعم ما غاب عنهم من جنسه ولونه ولذته؛ استدلالا بما شاهدوا. ويحتمل: الاستدلال بالشاهد على معرفة اللَّه تعالى، وهو أنهم لما شاهدوا الإنسان محتاجا، عاجزا، محاطا بالحوائج والحوادث عرفوا أن له خالقا عالما قادرا أنشأه كذلك. ويحتمل: ما ذكر من تعليم البيان بيان القرآن، وذلك راجع إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه علمه القرآن، وعلمه البيان، وهو بيان القرآن؛ حتى يبين للناس كل ما يحتاجون إليه، وما لهم وما عليهم. وجائز أن يصرف بعضه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو قوله: (الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ)، وبعضه إلى آدم - عليه السلام - وهو قوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)، وتفسيره ما ذكرناه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ) آدم، و (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) بيان الدنيا والآخرة. وجائز أن يكون خلق الإنسان كل إنسان علم القرآن، وعلمه البيان أي: علم شيئا من بيان القرآن من الأحكام والشرائع، ونحو ذلك. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) أي: الكلام، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) قال أهل التأويل بوجهين: أحدهما: أي: يحسب بهما عدد الأوقات والأزمنة، ويعرف بهما حساب ذلك. والثاني: يحسب بهما حساب منازلهما التي يطلعان منها ويغيبان فيها، ومجاريهما التي يجريان فيها لا يجاوزانها في شتاء ولا صيف. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: قوله: (بِحُسْبَانٍ) جمع الحساب. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (بِحُسْبَانٍ) بحساب ومنازل لا يعدوانها. وفيه زيادة معنى: أن اللَّه تعالى جعلهما بحيث يعرف بهما حقيقة أعين الأشياء؛ لما جعل فيهما من النور والضياء الذي بهما تتجلى للخلق الأشياء المستورة، فيقال لمنكري الرسالة وتفضيل بعض البشر على بعض: لما شاهدتم أشياء خصت بفضل ضياء وتجلٍّ لم يكن ذلك لغيرها، فلم أنكرتم فضل بعض البشر بفضل بيان وعلم رسالة؟ واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) النجم يحتمل وجهين: أحدهما: الكواكب، فإن كان هو المراد، فكأنه يقول: يسجد له ما به زينة السماء وما

(7)

به زينة الأرض، وهي الكواكب، وهي الأشجار. ويحتمل النجم كل نبت ينبت في الأرض لا ساق له، والشجر هو الذي له ساق؛ كأنه يقول: يسجد له كل ما يظهر من الأرض ويخرج، ما ارتفع وعلا، وما لم يرتفع. ثم سجودهما يحتمل وجوها: أحدها: سجود خلقة؛ قد جعل اللَّه تعالى في خلقة كل شيء دلالة السجود له والشهادة له بالوحدانية. والثاني: سجود هذه الأشياء الموات: طاعتها له عن اضطرار وتسخير؛ نحو قوله تعالى: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ). والثالث: سجود حقيقة، يجعل اللَّه في سرية هذه الأشياء معنى يسجدون به لله تعالى يعلمه هو، ولا يعلمه غيره؛ كقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). وقال بعض الناس: سجودهما: هو تمييل ظلالهما؛ كقوله تعالى: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ). ثم لا يلزم السجود بتلاوة هذه الآية وأمثالها مما ذكر سجود الموات وطاعتها؛ لأنها موات ليست بأهل السجود، وإنَّمَا سجودها عن اضطرار كل مخلوق في معناه في الدلالة على السجود، وإنما يلزم السجود بتلاوة آيات ذكر فيها سجود من هو من أهل السجود، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا ... (7) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أراد حقيقة الرفع، أي: رفعها بغير عمد من الأسفل، ولا تعليق من الأعلى، أي: أنشأها كذلك مرفوعة، لا أن كانت موضوعة فرفعها وأمسكها كذلك؛ ليعلم أن قدرته خلاف قدرة الخلق وقوتهم. والثاني: (رَفَعَهَا) أي: رفع قدْرها ومنزلتها في قلوب الخلق حتى يرفعوا أيديهم وأبصارهم إليها عند الحاجة؛ لما جعل فيها لهم من الأرزاق والبركات التي تنزل من السماء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) يحتمل حقيقة الميزان الذي يزن الناس به الأشياء، وبه يتحقق الإيفاء والاستيفاء، امتحنهم بذلك؛ ليعرفوا بذلك قبح التقصير فيما أمروا به والمجاوزة عما نهوا عنه، وذلك يحتمل في الأحكام، والشرائع والتوحيد، وصرف الألوهية والعبادة إلى غير الذي يستحقه؛ ليعلموا التقصر في ذلك، واللَّه أعلم.

(8)

ويحتمل المراد بالميزان: الأحكام التي وضعت بين الخلق، والشرائع التي جعلت عليهم؛ ليقوموا بوفائها وينتهوا عن التقصير فيها، والتعدي عن حدودها. وقيل: الميزان: العدل، وهو ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وذكر أن الموازين ثلاثة: أحدها: العقول، وهي التي يعرف بها محاسن الأشياء ومساوئها، وقبح الأشياء وحسنها. والثاني: الميزان الذي جعل بين الخلق لإيفاء الحقوق والاستيفاء. والثالث: الذي جعل في الآخرة؛ ليوفى به ثواب الأعمال وجزاؤها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) قوله: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ)، (وَلَا تُخْسِرُوا) أي: لا تنقصوا في الميزان. وقوله: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ) أمر بإقامة الوزن والإتمام في الوزن؛ أَمْر بالإتمام، ونهي عن النقصان، والأمر بالشيء نهي عن ضده، وهاهنا جمع بينهما صريحا؛ تأكيدا لباب الوزن والميزان. ويحتمل الوجوه الثلاثة التي ذكرنا. وعن قتادة: كان ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: يا معشر الموالي، إنكم وليتم أمرين هلك الناس بهما قبلكم، هما: المكيال والميزان. وقال مجاهد في قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) في الميزان باللسان؛ أي: لسان الميزان. وقيل لابن عمر - رضي اللَّه عنهما -: إن أهل المدينة [ليوفون] الكيل، قال: وما يمنعهم، وقد قال اللَّه تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10). قَالَ بَعْضُهُمْ: الأنام: هو كل ذي روح. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأنام: هو جميع الخلق.

(11)

ولكن عندنا: الأنام: كأنه البشر، للآية؛ لأنه أخبر أن الأرض أنشأها للبشر، ووضعها لهم، وهو ما ذكر في مواضع: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) يذكرهم نعمه التي أنشأها لهم في الأرض من الفواكه وأنواع الثمار والحبوب التي جعلها رزقا لهم وقوتا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَاتُ الْأَكْمَامِ) أي: ذات الغلف والأغطية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) برفع النون وكسرها؛ فمن كسرها ذهب إلى أن الريحان: هو الرزق الذي يرتزقون من الحبوب والثمار، والعصف: الورق؛ فيكون المعنى: والحب ذو الورق والرزق. ومن رفعها فعلى الابتداء؛ عطفا على الحب. واختلفوا في تفسير العصف والريحان: منهم من قال: العصف: ورق الزرع من الحنطة والشعير وغيرهما. وقيل: هو التبن. وقيل: هو أول ما ينبت من الزرع. وقيل: العصف: هو الزرع نفسه، ولكن أضاف العصف إلى الحب؛ لما منه ينشأ الحب وما يخرج. وأما الريحان قال: هو خضرة الزرع. وقيل: هو الذي يشتم. وقيل: هو الرزق الذي يرتزقون من الحبوب في الثمار؛ كذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: الريحان: هو الحب. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الريحان الرزق؛ يقال: اطلب ريحان اللَّه، أي رزقه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) هذا خطاب للجن والإنس، وفيه دلالة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان مبعوثا إلى الإنس والجن جميعا؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى:

(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). وقيل: ليس أن يخاطبهما جملة، لكن يخاطب كل إنسي وجني في نفسه؛ كقوله تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، ليس أن قال الفريقان جميعا: كونوا هودا تهتدوا، ولكن قال اليهود: كونوا هودا تهتدوا، وقال النصارى: كونوا نصارى تهتدوا؛ فعلى ذلك هذا. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، عن جابر بن عبد اللَّه قال: خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها، فسكتوا فقال: " لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردودا منكم، كلما قرأت عليهم (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قالوا: لا شيء من آلاء ربنا نكذب؛ فلك الحمد ". ثم فيما ذكر من قوله: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ. . .) إلى آخره، يذكر نعمه، وقدرته، وتدبيره، وعلمه، ووحدانيته. أما نعمه: فإنه بسط الأرض لهم بما فيها من أنواع الحبوب والفواكه التي بها قوامهم، والعصف وأنواع النبات التي بها قوام دوابهم. وأما بيان قدرته وسلطانه: فإنه أنشأ هذه الفواكه والحبوب في أكمامها ما يعجز الخلق عن إحداث شيء وفعله في الغلف؛ ليعلم أن صنعه وفعله خارج عن المعالجات والممارسات التي لا تتحقق مع الأغطية، وأن قدرته وفعله غير مقيسين بأفعال الخلق وقدرتهم، كذلك الأولاد في البطون، والفراخ في البيض، وأمثالها في الظلمات؛ ليعلم أنه لا يخفى عليه شيء، ثم أنشأ هذه الثمار والحبوب في الوقت الذي لا تحتمل البرد والحر في الأكمام من وراء الحجب، وأمسكها فيها في حال ضعفها، فإذا اشتدت وقويت أخرجها من الغلف، وفي ذلك لطف منه ونعمة عظيمة على خلقه. وفيه إثبات البعث من وجهين: أحدهما: أن من قدر على إنشاء هذه الأشياء، لقادر على إعادة الخلق. والثاني: أنه لما أنشأ لهم ما ذكر، ثم منهم من شكر هذه النعم، ومنهم من كفر، ثم استويا في هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما - فلا بد من دار أخرى فيها يفرق بينهما. وفيه لزوم الامتحان؛ إذ لا يحتمل أن ينشئ لهم هذه النعم، ثم يتركهم سدى لا يستأدي

(14)

شكر ما أنعم عليهم. ثم معرفة الشاكر منهم والكافر لا يعرف إلا بمعرف يعرفهم؛ لأن مقدار الشكر وكيفيته لا يعرف بمجرد العقل؛ فيضطرهم إلى رسول يخبرهم عن اللَّه تعالى ذلك؛ فيكون فيه إثبات الرسالة. ثم في إخراج هذه الحبوب والفواكه كلها في وقت واحد من المشرق والمغرب على سنن واحد في زمان واحد من غير تفاوت - دليل أن علمه وتدبيره أزليان ذاتيان؛ إذ لم يمنعه شيء عن شيء. ثم اتساق ذلك واتصال ما ذكر من منابع الأرض بمنافع السماء من غير مدخل من أحد - دليل على وحدانيته؛ إذ لو كان ذلك فعل عدد ما جرى ذلك على سنن واحد؛ على ما هو التدافع والتمانع في الأمر القائم بين اثنين عند الاختلاف، واللَّه الموفق. * * * قوله تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) ذكر في خلق الإنسان أحوالا مختلفة: مرة قال: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ)، والتراب: هو الذي لم يصبه الماء، ومرة قال: خلقه من طين والطين: هو الذي أصابه الماء، واعتجن، ومرة قال: (مِنْ طِينٍ لَازِبٍ)، واللازب: هو الذي يلتصق باليد ويلزقه، وهو الحر الخالص، وقال مرة: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)، وهو الذي اسود وتغير؛ لطول المكث، ومرة قال: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)، والصلصال: هو الذي له صوت إذا حرك، وهو من صلصلة الحديد. ويحتمل صلصال: أي: منتن، يقال: صلَّ البئر؛ إذا أنتن، والفخار: هو الذي تكسر إذا يبس. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الفخار: الذي طبخ. فجائز أن تكون هذه الأحوال التي ذكرت على اختلافها في ذلك الإنسان، كان في الابتداء ترابا، ثم صار لازبا؛ لأنه كان من جيد الطين وحره، ثم صار مسنونا منتنا: أسود؛ لطول المكث، وصلصالًا لكثرة تربيته ولجودته، يكون له صوت. وتشبيهه بالفخار يحتمل وجوهًا:

(15)

أحدها: لتكسره ويبسه. أو لأنه كان ذا جوف كالفخار، أو لطول المكث، وكثرة التربية؛ إذ طين الفخار له هذه الصفات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) ذكر أنه أبو الجن، وأنه لفظ الوحدان، والجن جماعة، وكذا قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجان: الجن. وقوله: (مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: المارج: هو لهب النار صافيًا لا دخان فيه؛ يقال: مرجت النار؛ إذا التهبت، فالمارج على هذا هو النار التي فارقت الحطب والتهبت، وارتفعت منه؛ وكذا قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المارج - هاهنا -: اللهب، من قولك: مرج الشيء؛ إذا اضطرب، ولم يستقر، وعلى ما قَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) إذا خلط وجمع بينهما يجيء أن يكون خلق الجان من نار غير منقطعة من الحطب، ولا خالية من الدخان؛ وكذا قال أبو عبيد: (مِن مَارِجٍ)، أي: من خلط من النار. وعلى تأويل من قال في قوله: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي: أرسل أحدهما في الآخر، فهو يكون من نار منقطعة من الحطب. وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، إنما الحاجة إلى معرفة ما أودع من الحكمة فيما ذكر من خلق آدم - عليه السلام - من تراب، وخلق الجان من نار. والفائدة في ذلك - واللَّه أعلم - يخبر عن قدرته: أن من قدر على خلق الإنسان من ذلك التراب وإخراج جميع ما في الدنيا من الناس من نفس واحدة، لا يحتمل أن يعجزه شيء، وكذلك ما ذكر من خلق ألوان من النار، وإخراج ما أخرج منه من النسل حتى أخذ الدنيا بأسرها لا يعجزه شيء، ولا ما لو اجتمع حكماء البشر والجن، أدركوا المعنى الذي به أنشأ الإنسان منه، وخرج هذا الخلق منه، وفي ذلك وجهان من الحكمة: أحدهما: ما ذكرنا من القدرة على البعث: والثاني: أن كل ما ذكر من النقل والتغير من حال إلى حال، وإخراج ما أخرج منه، لا يحتمل أن يفعل ذلك عبثا باطلا، ولو لم يكن بعث، لكان إنشاء هذا الخلق عبثا باطلا، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) يقول، - واللَّه أعلم -: إذا لم تنكروا شيئا من الآية أنه ليس منه فما لكم تنكرون قدرته في البعث وغيره؟!

(17)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) وقال في موضع آخر: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ)، قد ذكرناه فيما تقدم. ثم دل قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) و (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ)، وذكر الحد لهما -أعني: الشمس والقمر- في الشروق والغروب، وفي أنهما طلعا بأمر، وغربا حيث غربا بأمر؛ إذ لو كان ذلك لا بأمر لكن بأنفسهما، لكانا يطلعان ويغربان في جميع الأوقات والأطراف، ولا يرجعان إذا بلغا مكانا ولا يزدادان، ولا ينتقصان في وقت من الأوقات، ثم هذا كله منشأ للبشر، مسخر لهم؛ فيقول - واللَّه أعلم -: ما بال المجعول لكم أطوع لله تعالى منكم؛ حيث لا يجاوز الحد الذي جعل له، ولا يتعدى أمر خالقه، وأنتم تجاوزون أمره ونهيه، وتتعدون حدوده. وفي الآية دليل على أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه؛ ألا ترى أنه خص رب المشرقين ورب المغربين، ولم يدل على أنه ليس برب ما بينهما، أو ليس برب ما سوى المشارق والمغارب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) قيل: جمع يينهما وخلط. وقيل: أحدهما العذب، والآخر: المالح. وقيل: (يَلْتَقِيَانِ) أي: يتقابلان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) أي: بين البحرين حجاب وحاجز. (لَا يَبْغِيَانِ) قيل: لا يختلطان، ولا يمتزجان، ولا يتغير طعم كل واحد منهما؛ يخبر عن لطفه في منعهما عن الامتزاج، ومن طبع الماء الامتزاج والاختلاط، فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء. وقيل: (لَا يَبْغِيَانِ) أي: لا يجاوزان حد اللَّه الذي حد لهما. ثم اختلف في البحرين: قَالَ بَعْضُهُمْ: أحدهما: بحر الروم، والآخر: بحر الهند، و (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ) أي: سكان، (لَا يَبْغِيَانِ) أي: لا يختلطان، وهو قول الأصم. ومنهم من قال: أحدهما: بحر الروم، والآخر: بحر فارس، (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ)، أي جزيرة العرب.

(22)

وقيل: أحدهما: بحر السماء، والآخر: بحر الأرض، كقوله: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)، و (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ)، وهو: [ .... ] الأرض وسكان الأرض، وهذا أيضًا لطف منه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) منهم من قال: يخرج من العذب والمالح جميعا، كما هو ظاهر الآية. ومنهم من قال: يخرجان من المالح خاصة دون العذب، وإن كانت الإضافة إليهما، وذلك جائز في اللغة، كقوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)، ولم يأت من الجن رسل، وذلك كثير في القرآن. ثم قرئ (يَخْرُجُ) بنصب الياء، ورفع الراء، وقرئ برفع، الياء ونصب الراء، فالأول على جعل الفعل لهما، والثاني على جعل الفعل لغيرهما؛ كقوله تعالى: (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)، ولم يقل: (يخرج منه حلية). ثم اختلف في اللؤلؤ والمرجان، منهم من قال: اللؤلؤ: ما عظم منه، والمرجان ما صغر من اللؤلؤ. ومنهم من قال على العكس، وأكثرهم على الأول؛ كذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ والحسن وقتادة والضحاك، وكذا قال أَبُو عَوْسَجَةَ: المرجان: صغار اللؤلؤ، والواحد: مرجانة. وقيل؛ إن المرجان المختلط من الجواهر، من قولهم: مرجت، أي: خلطت. وقيل: إنه ضرب خاص من الجوهر يخرج من البحر. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: إذا جاء القطر من السماء، انفتحت

(24)

الأصداف؛ فكان من ذلك اللؤلؤ. وقيل: إنما قال تعالى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) وإنما يخرج اللؤلؤ من المالح دون العذب؛ لأن العذب والمالح يلتقيان؛ فيكون العذب لقاحا للمالح؛ كما يقال: يخرج الولد من الذكر والأنثى، وإنما تلده الأنثى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) عن إبراهيم - رحمه الله تعالى -: أنه قرأ: (الْمُنْشِئَاتُ) بكسر الشين، وفسر بعض الناس المنشآت، أي: ظاهرات السير. وعن الحسن أنه قرأها بفتح الشين، قال أبو عبيدة: وبها يقرأ؛ لأن تفسيرها: أنها التي قد رفع قلعها في البحر، فهي الآن مقلوع بها؛ فقيل: المنشآت، وهي المرتفعات، والتي لم يرتفع قلعها، فليست بمنشأة. وقيل: المخلوقات، والجواري: هي السفن المنشآت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَالْأَعْلَامِ) أي: هي في البحار كالجبال في البراري. قيل: وهي الأعلام أنفسها. ثم في هذه الآيات التي ذكرت وجوهٌ من الحكمة وإثبات القدرة لله تعالى وسبحانه: أحدها: أن من قدر على تسخير البحار وإنشاء ما فيها، وعلم إخراج ما فيها للآدمي، واتخاذ السفن وإجراءها في البحار؛ للوصول إلى المنافع التي في البلدان النائية - لقادر على البعث وغيره. والثاني: أن لا سبيل إلى معرفة ما في البحار من الأموال، واتخاذ السفن وإجرائها في البحار، ومعرفة ما وراء البحار من البلدان النائية وما فيها إلا بخبر الرسل، فيقول - والله أعلم -: ما بالكم صدقتم الرسل الأوائل فيما يرجع إلى منافعكم الدنيوية، ولم تصدقوهم فيما يرجع إلى الدِّين والآخرة من الوعد والوعيد. أو يقول: ما بالكم لا تنكرون شيئا من هذه النعم -التي جعلها لكم- أنها من الله تعالى، فكيف تنكرون ما أتاكم به الرسل، عليهم السلام؟! ثم في قوله: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ) دلالة نقض قول المعتزلة في إنكارهم خلق أفعال العباد؛ فإنه أضاف السفن إلى نفسه بقوله: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ)، وقد اتخذها بنو آدم بأفعالهم، فلو لم يكن له في أفعالهم صنعٌ، لكانت السفن لهم لا له، واللَّه أعلم.

(25)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) إذا لم تكذبا شيئا من آلاء ربكما: أنه من اللَّه تعالى، ولم تكذبا ما أتاكم من الأخبار في منافع الدنيا، فكيف تكذبان أخبار الرسل عليهم السلام بعدما جاءوا بالآيات والحجج. * * * قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) يحتمل وجوها: أحدها: أي: مُلْكُ كُلِّ من في الأرض فانٍ، ويبقى ملك ربك أبدا دائما. والثاني: يحتمل سلطان كل من عليها أو قوة كل من عليها وقدرته فان، ويبقى سلطان ربك وقدرته وربوبيته؛ ليعلم أن ملكه وسلطانه بذاته، لا كالخلق؛ حتى يكون فناؤهم وذهابهم يُدْخِل نقصا أو وهنا في ملكه، خلاف ملك ملوك الأرض وسلطانهم. وجائز أن يكون قال هذا على الإياس للكفرة، وقطع الرجاء عن عبادة من عبدوا دونه من الأصنام والملوك والرؤساء، ومن قدموهم، كأنه يقول: كل من عبد دونه أو خدم، أو عمل لا لوجه اللَّه، فكله فان، ذاهب، إلا ما عمل لوجه اللَّه؛ فإنه باق، واللَّه أعلم. والباطنية يقولون: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) أي: النفس الجسدانية، وتبقى النفس الروحانية أبدا؛ لأنهم يقولون: إذا فنيت هذه الأجساد ينشئ اللَّه تعالى من أعمالهم الصالحات أنفسا روحانية تبقى أبدا. ويحتمل (وَيَبْقَى وَجْهُ) أي: كل ما يطلب من العمل وغيره رضاء اللَّه تعالى، فكنى بالوجه عن الرضاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُو الْجَلَالِ) يخرج على وجهين: أحدهما: على خلق إجلال حق اللَّه وأمره وتعظيم ذلك. والثاني: أن يجل اللَّه تعالى من شاء من خلقه؛ أي: منه إجلال من جل في الدنيا، وإكرام من أكرم في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) يخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن فزع أهل السماء وأهل الأرض إليه عند الإياس من الخلق وانقطاع الرجاء عنهم، وهو يذكر أنه

(31)

المفزع في الأحوال كلها، وللخلائق كلهم، ومنه يسألون الرزق والنجاة، وهو ما ذكر: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. . .) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ)، وقوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ)، وقوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ)، هنا صلة قوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) يقول - واللَّه أعلم -: شأنه وأمره باق دائم أبدا، وذهاب الخلق لا يدخل نقصا في شأنه وأمره، ولا وهنا في سلطانه وملكه؛ بل هو في شأنه وأمره عند فنائهم كهو في حال بقائهم. وجائز أن يكون ما قال بعض أهل التأويل: إن اليهود قالت: إن اللَّه تعالى استراح يوم السبت لا يقضي بشيء، ولا يحكم ولا يأمر، ولا يفعل فعلا؛ فنزلت الآية عند ذلك (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) من إحداث لإفناء، وإحياء وإماتة. وأصله: أن اللَّه تعالى إذا وصف بشيء يوصف بالأزل، يقال: عالم لم يزل، قادر لم يزل، رازق بذاته لم يزل، وإذا ذكر بأمر وتدبير مضاف إلى الخلق يوصف على ذكر الوقت؛ فيكون الوقت للخلق لا له، نحو أن يقال: إن اللَّه تعالى لم يزل عالما بجلوسك هاهنا، أو في هذا الوقت؛ أي: لم يزل عالما أنه يجلس الآن، أو يجيء الآن، أو في هذا الوقت، وإذا وصفته بالماضي، قلت: لم يزل عالما بما كان، وبالمستقبل: لم يزل عالما بما يكون أنه يكون في وقت كذا، وللحال: لم يزل عالما بكونه كائنا للحال، ونحو ذلك، نفيا لوهم الخلق: أن المخلوق كيف يكون في الأزل؟! فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ذكر اليوم والوقت؛ لئلا يتوهم بكون الخلق قديما، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) قرئ: (سَنَفْرُغُ) بالنون والياء، وبرفع الراء في الحالين. قال أبو عبيد: بالياء يقرؤها كقوله تعالى: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ذكر على المغايبة، فكذلك هذا الذي قرئ عليه. قال الزجاج: قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) ليس هو الفراغ عن الشغل، لكن كما يقول الرجل لآخر: سأفرغ لك كذا، أي: سأجعل لك، أو كلام نحوه. ومنهم من يقول: هذا على الوعيد في كلام العرب، يقول الرجل: سأفرغ لك، وإني لفارغ، على الوعيد. وقال أبو بكر الكيساني: إن الفراغ ليس يستعمل عند الفراغ عن الشغل خاصة، لكن يستعمل له ولغيره من نحو: إنجاز ما وعد، وأوعد؛ كأنه قال: سننجز لكم ما أوعدتكم أيها الثقلان.

(33)

وعندنا أن الفراغ: هو اسم لانقضاء الفعل وتمامه، لا للفراغ عن الشغل، يقال: فلان فرغ من شغله: إذا فرغ، وفرغ، من بناء داره، إذا أتمه وانقضى ذلك؛ ألا ترى أنه وإن فرغ من شغل تلك الدار وذلك العمل، فهو مشغول بغيره، دل أنه ليس باسم للفراغ من الشغل؛ إذ لو كان اسمًا للفراغ من الشغل لا يوصف به وهو مشغول بغيره؛ دل أنه اسم التمام والانقضاء، لكن فهم الخلق بعضهم من بعض الفراغ من الشغل؛ لما أن فعلهم للشيء لا يلتئم إلا بالشغل في ذلك؛ فيفهم ذلك من فعلهم، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - حيث لا يشغله فعل عن فعل، ولا شيء عن شيء، لم يجز أن يفهم من فراغه من الشغل فراغه، فباللَّه العصمة والتوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) له تأويلان: أحدهما: كأنه يقول: لو مكن لكم النفاذ من أقطار السماوات والأرض ونواصيها، فتنفذون فتجدون هنالك، وترون من آيات من كذب بالرسل وما حل بهم بالتكذيب. ثم قال: (لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) أي: لا تنفذون لو مكن لكم من النفاذ إلا وتجدون حجج من أهلك منهم ظاهرة أنه بم أهلكهم؟ وهو كقوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، أمرهم بالسير في الأرض والتدبر في آثار من أهلك بماذا أهلك من أهلك منهم؟ وبماذا نجا من نجا؟ واللَّه أعلم. والثاني: على الإعجاز، أي: لا تستطيعون أن تخرجوا أو تنفذوا من أقطار السماوات والأرض، ولو مكن لكم من النفاذ والخروج منها لوجدتم ثَمَّ سلطاني وحجتي وملكي هنالك قائما، أي: لا تقدرون على الخروج من سلطاني وملكي حيثما كنتم؛ بل حيثما سرتم كنتم في سلطاني وملكي؛ فلا تتخلصون من الموت والهلاك، وهو كقوله تعالى: (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ. . .) الآية. وقال الضحاك: في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يا معشر الجن والإنس قد جاء أجلكم فانفذوا من أقطارهما لا تنفذوا إلا بسلطان)، يعني: أنه لا يجيركم أحد من الموت وأنتم ميتون؛ أي: لا تأتون قطرا من أقطار السماوات والأرض إلا وجدوا هنالك سلطان اللَّه وملائكته؛ يقول: لا تستطيعون فرارا من الموت ولا محيصا، وإن نفذتم من أقطار السماوات والأرض فلم تخرجوا من سلطاني وأنا آخذكم بالموت حيث كنتم، وهو كقوله: (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).

(35)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يبعث اللَّه تعالى ملائكة عند الحشر، فيحيطون بالدنيا يكونون في أقطارها؛ فلا يستطيع شيطان ولا إنس ولا جان أن يخرج من الأقطار، ولو خرجوا كانوا في سلطان اللَّه. وقيل: (إِلَّا بِسُلْطَانٍ) أي: الحجة. وقال قتادة: [إلا بِمُلْكٍ]. وقال: إلا بقدرة اللَّه تعالى واللَّه أعلم. ثم أوعدهم فقال: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35). قرئ (شُوَاظٌ) بضم الشين وكسرها؛ روي عن الحسن بالكسر، وكذا عن مجاهد. وقرئ (نُحَاسٌ) بكسر السين وضمه، فمن رفع (نُحَاسٌ) عطفه على قوله: (شُوَاظٌ) ومن كسره، عطفه على قوله: (مِن نَّارِ). ثم اختلف في تأويل الشواظ والنحاس: عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: النحاس: الدخان. وقيل: الشواظ: هو لهب النار، الذي لا دخان فيه، والنحاس: هو الدخان. وعن الكلبي: الشواظ: لهب النار، والنحاس: الصفر الذي يذاب، فيعذبون به. وقيل: الشواظ: هو الذي فيه الدخان، والنحاس: هو النحاس المعروف، يذاب ويصب على رءوسهم. وقال الضحاك: الشواظ: الدخان الذي يخرج من اللهب، ليس بدخان الحطب، والنحاس: الصفر: فمن قرأ بالخفض يقول: لهب من نار ومن دخان، ومن قرأ بالرفع أراد به الصفر؛ يقول: يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس ذيب في النار. وقيل: النحاس في القراءتين يحتمل الدخان، ويحتمل الصفر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تَنْتَصِرَانِ) قيل: لا تمتنعان من ذلك. ويحتمل: أي: لا ناصر لكما كما يكون في الدنيا.

(36)

فَإِنْ قِيلَ: إنه قد ذكر في أول الآيات: الآلاء والنعم، فقرن بآخرها: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) وقد انقطع ذكر الآلاء هاهنا، ونذكر المواعيد في هذه الآيات، فما فائدة قران قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) بآخرها. قيل: إن في الوعد ترغيبا، وفي الوعيد ترهيبا؛ فيرغب في الوعد، ويخاف ويرهب من الوعيد؛ فيرتدع ويمتنع عما يوعد؛ فيكون في ذلك نعمة عظيمة؛ إذ بالوعد والوعيد تتم المحنة، وبالمحنة تتم النعمة؛ لذلك ذكر على إثر الوعيد: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ). * * * قوله تعالى: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍءَانٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) يذكر تغير هذا العالم يومِئذ لهول ذلك اليوم، وهو كما ذكر من تبديل السماء والأرض؛ حيث قال: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)، وقوله: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)، في غير ذلك من الآيات، وكذلك ما ذكر من تغيير الجبال من قوله: (هَبَاءً مَنْثُورًا)، وقوله: (كَثِيبًا مَهِيلًا)، وقوله: قوله تعالى: (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)، ونحو ذلك. ثم قوله تعالى: (فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) ومنهم من قال: شبه السماء؛ لكثرة تلونها بفرش الورد يكون في الربيع بلون، ثم يصير إلى لون آخر، ثم إلى آخر؛ فعلى ذلك ما ذكر من تغيير السماء وتلونها. ومنهم من قال: شبهها بالدهان، وهو الدهن؛ للينها وضعفها، وهو قد ذكر في آية أخرى: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)، والمهل: هو دردي الزيت، لكن التشبيه بالمهل إنما يكون؛ لكثرة التلون لا للين؛ فيكون في هذا التأويل نوع وهاء، واللَّه أعلم. وقيل: إنما تحمر وتذوب كالدهن. وروي: أن سماء الدنيا من حديد، فإذا كان يوم القيامة، صارت من الخضرة إلى الاحمرار، وحر جهنم كالحديد إذا حمي بالنار. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: الدهان: جمع الدهن، ويقال: الدهان: الأديم الأحمر، والله أعلم.

(39)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) اختلف في تأويله: قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لا يسأل إنسي ولا جني عن ذنب غيره، إنما يسأل عن ذنب نفسه؛ نحو ألا يسأل من أضل غيره عن ضلال ذلك الغير، إنما يسأل الذي أضله عن إضلاله، ويسأل الضال عن ضلاله كقوله: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا. . .) الآية. ومنهم من قال: لا يسأل بعض عن بعض، أي: لا يسأل جني عن ذنب إنسي، ولا إنسي عن ذنب جني، ومنهم من قال: لا يسألون سؤال استخبار واستفهام؛ أي: لماذا فعلتم؟ ولكن يسألون لم فعلتم يطلبون عن الحجة، لا عن نفس الفعل؛ لأن كل ذي مذهب ودين، إنما يفعل لحجة تكون له. ومنهم من قال: لا يسألون عن ذنوبهم، ولكن يسألون عما في وجوههم من الأعلام من الاسوداد، وزرق العيون، وغير ذلك مما ذكر في الكتاب: أنها تكون للكفار، كقوله تعالى: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ)، وقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ. . .) الآية، وما ذكر من أعلام المؤمنين من قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، وقوله تعالى: (ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يسأل الملائكة عن المجرمين؛ لأنهم يعرفون بسيماهم كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) ذكر اللَّه تعالى في كتابه للمجرمين أعلاما يعرفون في الآخرة بها على ما ذكرنا من اسوداد الوجوه؛ كقوله: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ)، وقوله: (نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا)، أي: على أعقابها، فهو - واللَّه أعلم - تكون وجوههم في بعض الأحوال خاشعة، ثم غبرة، ثم مسودة، ثم تطمس من نظر ذلك، فنعوذ باللَّه من تلك الأحوال التي ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) قيل: بكسر أضلاعهم وظهورهم، فتجمع أقدامهم ونواصيهم، فيرمى بهم في النار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تغل أيديهم إلى أعناقهم، ثم تجمع به نواصيهم وأقدامهم، ثم

(43)

يدفعون إلى النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) أي: إذا وقعوا على الوصف الذي ذكر عند ذلك يقال لهم: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍءَانٍ (44) أي: يطوفون بين جهنم وبين حميم، فيجوز أن يكون عبر بـ " جهنم " عما يأكلون، وهي النار، وبـ " الحميم " عما يشربون، كأنه يقول - واللَّه أعلم -: يطوفون بين ما يأكلون، وبين ما يشربون، لا يشبعون عما يأكلون، ولا يروون عما يشربون؛ بل كلما أكلوا زادتهم جوعا، وكلما شربوا زادتهم عطشا، والحميم: هو الشراب الذي جعل لهم، والآن: هو الذي قد انتهى حره غايته ونهايته. وقوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) من الناس من قال: في قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) على إثر الوعيد، إنما يقال لهم في الآخرة؛ أي: بأي آلاء ربكما تكذبان في الدنيا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ. . .) إلى قوله: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ. . .) الآية. * * * قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)، ذكر الخوف عن المقام بين يدي ربه، ولم يبين خوفه ماذا؟ ولا أنه إذا خافه تركه أو لا؟ فجائز أن يكون ما ذكر من الخوف بين يدي ربه ما بَيّنَ في آية اخرى، وهو قوله: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)، يحتمل وجهين: أحدهما: نهى النفس عما تهواه. والثاني: منع النفس عن أن تهوى ما نهيت عنه، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون في هذه الآية بيان ما ذكر في تلك الآية من الخوف من المقام بين يدي ربه، أي: خاف مقام ربه، وترك ما هم به من المعصية، أو ما هوت نفسه. ثم لسنا نعرف ما فائدة ذكر الجنتين له ليس ذلك في ثلاث أو أربع؟ قال أهل التأويل: إنما ذكر جنتين؛ لأن الجنان أربعة: جنة عدن، وفردوس، وجنة المأوى، وجنة النعيم،

(48)

فجنة العدن وجنة النعيم للمقربين والشهداء والصديقين، والجنتان الأخريان لمن دونهم من المؤمنين الذين هم أصحاب اليمين. وجائز أن يخرج على وجهين: أحدهما: أن يكون بصره إذا نظر يمينا وشمالا لا يقع إلا على جنته، لا يقع على جنة غيره، وكذلك إذا نظر من الأعلى أو من الأسفل يقع بصره على ملكه، لا يقع على ملك غيره، فليس ذلك على تحقيقٍ إخبارا عن عدد الجنتين، ولكن إخبارا أن بصره حيث يقع لا يقع إلا على ملكه وجنته، واللَّه أعلم. والثاني: يكون له جنتان: إحدى الجنتين؛ لترك المساوئ، والأخرى؛ لإتيان المحاسن. وذكر الْقُتَبِيّ عن الفراء في قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قال: قد تسمي العرب الشيء الواحد باسم الاثنين إذا كان رءوس الآي ومقاطعها؛ لتحقيق الموافقة في المقاطع؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ذكر (جَنَّتَانِ)، لموافقة مقاطع الآي، والمراد منه جنة واحدة. لكن الْقُتَبِيّ أنكر عليه ذلك، وذلك إنما يقال إذا انقطع الكلام، فأما إذا كان الكلام غير منقطع؛ فإنه لا يقال ذلك، واللَّه أعلم. ثم سمى البعثَ: مقاما بين يدي ربه، وسماه: رجوعا إليه، ومصيرًا، وبروزا، فهو على وجهين: أحدهما: أنه سماه بما ذكر؛ لأن البعث هو نهاية هذ العالم. والثاني: سماه بذلك؛ لأن لكل أحد يظهر في ذلك اليوم: أن الأمر لله تعالى، وأن التدبير له في الدنيا والآخرة، وأن لا تدبير لأحد سواه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). ثم جائز أن يكون ما ذكر من الجنتين للسابقين والشهداء على ما ذكره بعض أهل التأويل، وما ذكر من قوله: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) لأصحاب اليمين. ثم نعت ووصف ما جعل لكل فريق؛ فأما نعت ما جعل للسابقين والصديقين والشهداء ما ذكر؛ حيث قال: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) قال عامة أهل التأويل: ذواتا أغصان، ولكن ليس في هذا كثير حكمة، لكن يحتمل أن قوله: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) من الفنون، أي: فيهما من كل فن وكل نوع.

(50)

وقال مقاتل: ذلك في الجنتين اللتين جعلهما لأصحاب اليمين مدهامتين، والمدهم: هو الذي تضرب خضرته -لشدته- إلى السواد، وهو دون الأول في الوصف؛ إذ لم يصفهما إلا بصفة واحدة، ووصف تينك الجنتين بالفنون، وقال في تينك: (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) وقال أصحاب اليمين: (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ)، والناضخ: هو الذي لا يتبين جريانه، ووصف تينك بالجريان، والنضخ دون الجريان. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (نَضَّاخَتَانِ)، اللتان تفوران بالماء، والنضح دون النضخ، وهو الرش، وقال في جنتي السابقين: (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) أي: صنفان، أو لونان، من أي شيء كان، وقال في جنتي أصحاب اليمين: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)، ذكر أشياء معدودة، وغمر الأشياء في تينك؛ حيث قال: (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) لتفضيل أُولَئِكَ على هَؤُلَاءِ. وجائز أن يذكر في كل واحدة منهما حكمة على حدة: قوله: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) ما ذكرنا أن فيهما من كل فن وكل نوع، وقوله: (فِيهِمَا عَيْنَانِ)، إحدى العينين هي العين المعروفة الموعودة، والأخرى التي لا يعرفون ولا يوعدون، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) أي: صنفان ولونان على غير تغير الطعم، ولا فساد يدخل في ذلك؛ لأن تغير اللون في الدنيا لا يكون للفواكه إلا بعد دخول فساد فيها، فيخبر أن تغير لونه لا لفساد يدخل في ذلك، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما ذكر الزوجين من الفواكه؛ لما أن قلوب البشر قد خطرت بأحد الزوجين وتمنته أنفسهم، والزوج الآخر هو لطف اللَّه تعالى على عباده؛ فضلا منه إليهم من غير أن يخطر على بالهم، ولا وقعت عليه أبصارهم، ولا انتهت إليه آمالهم؛ إكراما لهم بها وامتنانا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس المراد في هذه الآيات تبيين ما لأهل الجنة، ولكن فيه تبيان فضل السابقين على أصحاب اليمين: أن أُولَئِكَ يعطون من الفضل ضعفي ما أعطي هَؤُلَاءِ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) قال الفراء: يجوز أن تكون البطانة والظهارة جميعا من شيء واحد، ومن جهة واحدة، لكن سمي الجهة التي تلي أجسادهم بطانة، والأخرى: ظهارة، كالسماء؛ أن الجهة التي تلي الملائكة هي بطانتهم، وظهارتنا، وما تلينا ظهارتهم وبطانتنا، وكل شيء يلي إنسانا فهي بطانة، والجانب الذي لا يليه ظهارة، يقال: هذا ظهر السماء، للجانب الذي نراه، والآخر: بطن السماء، والله

(56)

أعلم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: لا، ولكن ذكر البطانة من إستبرق، ولم يذكر الظهارة، والعرف في الناس: أن ظهارة فرشهم أنفس من البطانة، والبطانة دون الظهارة، فعلى ذلك في ذكر البطانة ووصفها بأنها من الإستبرق دلالة أن ظهارتها أرفع وأنفس من البطانة. لكن ما قاله الفراء صحيح، وما ذكره الْقُتَبِيّ هو من صنيع الناس في الدنيا من اتخاذ الظهارة فوق البطانة؛ لما لا تحتمل أملاكهم التسوية بين ما بطن وما ظهر في النفاسة والرفعة، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - فلا نفاد لخزائنه، يفعل ما يشاء كيف شاء. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قد أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهارة؟ ثم الإستبرق اختلف فيه: قيل: هو ما غلظ منه بلسان قوم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما دق ورق، واللَّه أعلم. ولا نفسره نحن: أنه ما هو؟ وكيف هو؟ ولكن نعلم أنه شيء وعد لهم ربهم، وهو شيء ترغب فيه أنفسهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ) جائز أن يكون ذكر هذا في حق السابقين الذين سارعوا في الخيرات، واستبطئوا ما وعد لهم بما لم يروا لطاعاتهم قيمة، ويغلبهم خوفهم في التقصير في العمل لله تعالى الواجب عليهم، وفي أوامره ونواهيه، فقال: (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) اللتين وعد لكم (دَانٍ)، قال أهل التأويل: أي: الشجر دان منهم، قربت حين يتناولها الرجل كيف شاء، لكن يذكر هنا - واللَّه أعلم -: أن الجنتين وإن بعدتا، فإن الثمار منهم دانية. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجني: الحمل، وأجنت الشجرة تجنى؛ إذا حملت وأدرك حملها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) أي: قصرن طرفهن على أزواجهن، ولا ينظرن إلى غيرهم، ولا يشتهينهم، وقال في آية أخرى: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)، ذكر هذا؛ لأن أهل الدِّين يكونون من أهل غيرة، لا يريدون أن تنظر أزواجهم إلى غيرهم، ولا غيرهم ينظرون إليهن، فأخبر بالآيتين: أنهن لا ينظرن إلى غير

(58)

أزواجهن، ولا غيرهم إليهن؛ حيث وصفهن بأنهن قاصرات مقصورات في الخيام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)، قرئ: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) بضم الميم وكسره. قال الفراء: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ)، أي: لم يقبضهن، والطمث: النكاح بالرومية. وقال أهل التأويل: لم يجامعهن إنس قبلهم ولا جان. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: لم يمسسهن إنس في التربية كما يربى الأولاد، ولا جان على ما تمس الجن الأولاد فيفسدوهم، ولكنهم كما وصف: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا. لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) قال أهل التأويل: شبههن بالياقوت؛ لصفائهن، وبالمرجان؛ لبياضهن، وهو كما قالوا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) قيل: هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان لهم في الآخرة؟ أي: هل جزاء فعل الحسن في الدنيا إلا إعطاء الحسن في الآخرة، وهي الجنة. ولكن غيره كأنه أقرب، أي: هل جزاء إحسان اللَّه تعالى بما أنعم عليهم في الدنيا إلا الإحسان له بالشكر والقبول، أي: الإتيان بفعل الحسن، وهو الشكر له، وحسن القبول؛ لأنه ليس يستوجب أحد قِبَلَ اللَّه تعالى بإحسانه في الدنيا جزاء في الآخرة، إنما الجزاء لهم بحق الفضل والإنعام، لا بحق الاستحقاق. ويحتمل أن يكون تأويله: هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان له في الآخرة، واللَّه أعلم. واستدل أبو يوسف ومُحَمَّد - رحمهما اللَّه - بهذه الآية على أن للجن ثوابا؛ كما للإنس؛ فإنه جرى الخطاب من أول السورة إلى آخرها للجن والإنس من قوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)؛ فعلى ذلك يشتركون في الوعد والوعيد. لكن أبو حنيفة - رحمه اللَّه تعالى - يقول: لا ثواب للجن في ذلك من نحو الفواكه

(62)

والسفن الجواري؛ فعلى ذلك ما ذكر من الثواب لهم يجوز الثواب، وللجن يجوز العين، واللَّه أعلم. وقد ذكرناه في غير هذا الموضع. * * * قوله تعالى: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ. فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) فإن كانت الجنتان اللتان سبق ذكرهما للسابقين والصديقين، فهاتان اللتان ذكرهما هاهنا لأصحاب اليمين، على ما ذكره بعض أهل التأويل؛ فجائز أن يكون قوله: (وَمِنْ دُونِهِمَا) أي: في الفضل والقدر والمنزلة؛ لفضل أُولَئِكَ على أصحاب اليمين. وإن كانت الجنتان جميعا لكل فريق منهم؛ فجائز أن يكون قوله: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) في المكان والموضع، لا في الفضل والقدر؛ فكأنه قال: من أي جهة وقع بصرهم يقع في جناتهم، من فوق ومن تحت، وعن يمين وشمال؛ أي يكونون وسط الجنات لا يحتاجون إلى التحويل من مكان إلى مكان؛ كقوله تعالى: (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: (مُدْهَامَّتَانِ (64) على ما ذكرنا هو شديد الخضرة الذي يضرب إلى السواد، فوصف هاتين دون وصف تينك الجنتين بقوله تعالى: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)، على التأويل الأول، وكذلك قوله تعالى: (عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) على ما ذكرنا: أنهما دون الجاريتين، وكذلك روي عن الفراء قال: العينان تجريان أفضل من النضاختين بقوله: (نَضَّاخَتَانِ)؛ لأنهما ينضخان بالخمر والبركة لأهل الجنة. وقيل: ينضخان بالماء وأنواع الفواكه. وروي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: تنضخان بالمسك والعنبر، كما ينضخ طير الماء على بيوت أهل الدنيا.

(68)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) من الناس من احتج لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - فيمن حلف لا يأكل فاكهة، فأكل رمانا، لا يحنث في يمينه؛ لأنه احتج بهذه الآية في أن الرمان والرطب ليسا من الفاكهة؛ لأنه عطفهما على الفاكهة، والشيء لا يعطف على نفسه، إنما يعطف على غيره، هذا هو ظاهر الكلام، إلا أن تقوم الدلالة على أنه مراده بالذكر وإن كان من جنسه؛ لضرب من التعظيم وغيره؛ كقوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) قيل: الحسان الخلق وحسان الوجوه، يقال: امرأة خيرة، ونسوة خيرات؛ يقرأ بالتثقيل والتخفيف جميعا. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لكل مؤمن خيرة، ولكل خيرة خيمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72). قيل: محبوسات في الخيام، لا يخرجن عن الخيام. وأصله: ما ذكرنا أنهن يكن في الخيام لا يراهن غير أزواجهن، وقاصرات الطرف، أي: لا يرفعن بصرهن إلى غير أزواجهن ولا يشتهين غيرهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) هو قراءة العامة بغير الألف. وعن عاصم الجحدري (رَفَارِفَ) و (عباقريّ)، قيل: الرفرف: المجلس، وقيل: المجالس، وقيل: الرياض الخضر، وقيل: الخيام، وقيل: هو فضول الفرش والبسط. وأما العبقري: قيل: هو الزرابي، وهو بالفارسية: النَّخّ. وقال أبو عبيدة: العبقري: الطنافس الثخان، وقيل لكل شيء من البسط: عبقري.

(78)

وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: العبقري في غير القرآن ثياب تتخذ بعبقرى، وهي بلدة، فينسب إليها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) قال أبو بكر الأصم: تنزه اسم ربك من أن يستحق غيره اسمه. وقوله: (ذِي الْجَلَالِ)، أي: استحق على الخلق أن يجلوه ويعظموه من أن يسموا غيره باسمه، والإكرام: هو أن يلحقوا به ما لا يليق به من الولد والشريك وغيره. فَإِنْ قِيلَ: ما فائدة تكرار قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، فبأي آلاء ما في السماوات والأرض تكذبان في الدلالة على وحدانية اللَّه تعالى والشهادة له بأنه خالقه، ومرسل رسله، وما جاءت به عنه، وذلك أن جميع ما فيهما من المال والطعام والشراب، على ما ذكرنا، وذلك كما يقول الرجل لآخر يلومه ويعاتبه: ألم تكن جائعا فأطعمتك؟! أفتنكر هذا؟! ألم تكن ظمآنا فسقيتك؟! أفتنكر هذا؟! ونحو ذلك. وجائز أن تكون فائدة التكرار غير هذا، وهو أنه خرج مخرج العظة والتذكير، ومن شأن الموعظة والذكرى التكرار والإعادة؛ لتكون أنجع وآخذ للقلوب، وأقرب إلى القبول، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة الواقعة

سُورَةُ الْوَاقِعَةِ وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) هذا مما لم يبتدأ به الخطاب، وإنما هو جواب سؤال وخطاب لم يذكر؛ فيحتمل أن يكون المؤمنون ذكروا كراماتهم التي وعدوا في الآخرة، فقال لهم أُولَئِكَ الكفرة: متى يكون ذلك لكم؟ فقالوا: إذا وقعت الواقعة؛ كما يسأل الرجل: متى يكون أمر كذا؟ فيقول: إذا كان كذا، فهو حرف جواب لسؤاله، وعلى هذا يخرج جميع ما ذكر في القرآن من هذا النوع؛ من نحو قوله تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، ونحو ذلك، وقوله: (الْوَاقِعَةُ) كناية عنها، جائز أن يكون تأويله: إذا وقعت المثوبة والعقوبة؛ فتكون الواقعة كناية عنها. وجائز أن تكون الواقعة: اسما من أسماء البعث: كالقيامة والساعة، وغير ذلك، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ليس لوقعتها مَثْنَويَّة ولا ترداد، يقال: حمل عليه فما كذب، أي: فما رجع. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: هي حق، ليست بكذب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لا يكذب بها أحد إذا وقعت، ليست كالآيات التي عاينوها في الدنيا مع ما عرفوا أنها آيات كذبوها؛ كقوله تعالى: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)، وغير ذلك يكذبونها مع العلم بأنها آيات، يقول تعالى: إذا عاينوا القيامة يقرون بها؛ ويصدقونها، ولا يكذبون بها؛

(3)

كقوله: (أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، ونحوه. ويحتمل أن يكون قوله: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ)، أي: ليست الأنباء والأخبار التي جاءت على وقوعها وقيامها كاذبة بل هي صادقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) قَالَ بَعْضُهُمْ: خافضة: تسمع القريب، رافعة: تسمع البعيد؛ وقال صاحب هذا التأويل: إن تفسير الواقعة هو الصيحة، وتلك خافضة رافعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: خافضة أناسا في النار ورافعة أناسا في الجنة. ويحتمل خافضة لمن تكبر وتعظم على الخلق ورده، ورافعة لمن تواضع للخلق وانقاد له وقبله. وقيل: خافضة لأهل النار في النار، كقوله تعالى: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ)، ورافعة لأهل الجنة، كقوله: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ)، وقوله: (لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ). وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) يخرج على السؤال، كأنهم لما سمعوا وصف القيامة والواقعة من المؤمنين، فقالوا عند ذلك: متى تكون الواقعة؟ فعند ذلك قال: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا)، وهو كقوله: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، فزلزلت حتى تلقي ما في بطنها. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) قيل: فتتت حتى تصير كالدقيق، ومنه يقال للطعام المبسوس والبسيسة: سويق يلت به الزيت والخلط. وقال الحسن: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ) أي: سيرت تسييرا. وقوله: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) قيل: الهباء: الذي يكون فوق النار إذا خمدت، لا يكون غيره (مُنْبَثًّا)؛ أي: متفرقا. وقيل: (هَبَاءً مُنْبَثًّا) أي: ترابا.

(7)

وقيل: الهباء المنبث، هو ما يسطع من سنابك الخيل. وقيل: الهباء: الغبار الذي تراه في الشَّمس إذا دخلت من الكوة؛ يخبر تعالى عن شدة ذلك اليوم وهوله أنه يفعل بالجبال كذا مع صلابتها وطاعتها لله تعالى، فكيف يفعل بكم يا بني آدم مع ضعفكم ومعصيتكم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) أي: أصنافا ثلاثة: ما فسر عقيبه؛ حيث قال: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) الآية. وقيل: الأصناف الثلاثة: المكذبون، والمصدقون، والسابقون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) يحتمل وجهين: أحدهما: أصحاب الميمنة من اليمن، وأصحاب المشأمة من الشؤم. والثاني: سموا: أصحاب الميمنة؛ لأنهم أصحاب اليمين، وهي التي تستعمل في الطيبات، والكفرة أصحاب الشمال؛ لأنهم أصحاب الخبائث، والشمال تستعمل في الخبائث. وهو كقوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)؛ لأن في كتبهم طيبات وخيرات، وفي كتب الكفرة خبائث فتؤتى بشمالهم. وقيل: أصحاب الميمنة والمشأمة؛ لما ذكر اللَّه تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)، وقوله: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ. . .)، فكذا؛ فكل من أوتي كتابه بيمينه فهو من أصحاب اليمين، ومن أوتي كتابه بشماله فهو من أصحاب الشمال. وقوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ ... (10) يحتمل وجهين: أحدهما: السابقون في الخيرات، يسبقون الناس في كل خير. والثاني: السابقون في الإجابة لله ورسوله إلى ما دعاهم إليه. ثم جائز أن يكون الخطاب به للناس كافة: الأولين والآخرين؛ فيكون جميعهم أصنافا ثلاثة: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال.

(11)

وجائز أن يكون الخطاب بهذه الآية لهذه الأمة: ففيهم السابقون، وفيهم أصحاب اليمين، وهم أصحاب النظر في الحجج والآيات والتأمل فيها وفيهم أصحاب الشمال، وهم الكفرة. وقوله تعالى: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) على التعجب لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما يكرمهم، أو على التعظيم لأُولَئِكَ لعظم منزلتهم. وكذلك قوله: (وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) يخرج على هذين الوجهين: على التعجب والتعظيم لما يحل بهم. وقوله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) يخرج على هذا أيضا: فلان ما أمر فلان، فيقال: فلان فلان؛ على تعظيم أمره وشأنه. ثم في قوله تعالى: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً) دليل لقول أصحابنا - رحمهم اللَّه - في جعلهم الكفر كله ملة واحدة؛ لأنه جعل اللَّه تعالى الكفرة على اختلاف مذاهبهم وأديانهم زوجا، وأهل الإسلام زوجين، حيث جعل الكل أزواجا ثلاثة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) يحتمل أن يكون وصف القرب لهم لمسابقتهم في الخيرات في الدنيا. ويحتمل: أنهم مقربون في الآخرة والمنزلة، لسبقهم في الخيرات، أو: في الإجابة، والسبق فعلهم، والتقريب بلطف من اللَّه تعالى وفضل منه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) جميع الجنات نعيم؛ لأن فيها نعيما، وله أن يسمى واحدة منها: نعيما، والأخرى: عدنا، والفردوس والمأوى، يسمى ما شاء بما شاء وكيف شاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) اختلف في ذلك: قال بعضهم: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) ممن شهد رسول اللَّه، وقربوا منه، (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ممن بعد من هذه الأمة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بنفسه وإدراك زمانه، وقليل من المقربين من الآخرين، وهو ما ووي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم "، وعلى ذلك قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)، على ما يذكر، واللَّه أعلم. ومنهم من قال: (مِنَ الْأَوَّلِينَ)، أي: جماعة من المؤمنين الذين كانوا في الأمم

(15)

الماضية، (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي: من هذه الأمة، وهكذا يكون عدد أهل الإيمان من هذه الأمة مع الأمم الماضية يكون هَؤُلَاءِ أقل منهم. ويحتمل - أيضا - أن السابقين المقربين من الأمم السابقة أكثر من السابقين المقربين من هذه الأمة؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - كلهم من الأمم السالفة. وقال أهل التأويل لما نزلت: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)، وجد أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وجدا شديدا، وقالوا: لن يدخل الجنة منا إلا قليل؛ فنزل قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ). لكن هذا لا يحتمل؛ لأنه خبر، ولا يرد في الأخبار نسخ، وما قالوه لا يصح، والوجه فيه ما ذكرنا. ويحتمل قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)، هم أصحاب اليمين من الأولين والآخرين، وهم جماعة كثيرة من الأولين، وجماعة كثيرة من الآخرين في المقربين خاصة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) وقال في آية أخرى: (عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ)، والسرر قد تكون في الدنيا مصفوفة، ولكن لا تكون موضونة؛ أي: منسوجة؛ والوضن -هو النسج- لا يكون بين السرر في الآخرة انفصال ولا فروج، كما يكون في الدنيا، لكن موصولة بعضها ببعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا ... (16) أي: على السرر التي ذكر أنها مصفوفة موضونة. وقوله: (مُتَقَابِلِينَ)، أي: يقابل بعضهم بعضا، ولا يرضون، ولا ينظر بعضهم إلى بعض باحتقار كما يجعل أهل المجالس في الدنيا يعرض بعضهم عن بعض ويحقر بعضهم بعضا يخبر أنهم يكونون في الآخرة خلاف ما في الدنيا، لا يتأذى بعض من بعض بوجه ما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) فيه أنهم يعطون في الجنة ما يستحبون في الدنيا من الشرف وطواف الولدان، وكذلك ما ذكر من السرر والفرش، وغير ذلك من أنواع ما ترغب أنفسهم فيه. ثم ذكر أنهم ولدان، وإن لم يكن في الجنة ولاد؛ فهو يخرج على وجهين: أحدهما: أن يكونوا على هيئة الولدان وإن لم يولدوا.

(18)

والثاني: سماهم: ولدانا؛ لولادهم في الدنيا وإن لم يولدوا في الجنة؛ لأن التوالد في الدنيا لحاجة البقاء وأهل الجنة باقون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُخَلَّدُونَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: المقرطون، والخَلَدَة: القرط، وجمعه: الخِلَدَة. قَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الخلود، كقوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا)، أي: باقون. وقيل: مسورون من السوار. وقوله: (بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) الأكواب: هي الكيزان المدورة الرءوس التي لا عرى لها، والأباريق التي لها عرى وخراطيم، وهم يسمون الأكواب: القداح التي يشربون بها؛ لأن في الدنيا يكون لأهل الشراب الأباريق والأقداح يصبون من الأباريق في القدح، ويشربون ولا يشربون من الأباريق، فعلى ذلك وعدوا في الجنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ): الكأس: هو القدح المملوء من الشراب. وأما المعين: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الظاهر من الماء، يقع عليه البصر، فوعد لأهل الجنة ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) قرئ بكسر الزاي ونصبه؛ أي: لا تصدع خمورهم في الجنة رءوسهم كما تصدع خمور الدنيا أهلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُنْزِفُونَ) قيل: بكسر الزاي: لا ينفد شرابهم، وبالفتح: لا يسكرون؛ فيه أنه ليس في خمورهم الآفات التي تكون في خمور الدنيا من ذهاب العقل، والصداع، والنفاد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) جميع فواكه الجنة مختارة، لكن يخرج على وجهين: أحدهما: أن جميع فواكهها مما يتخيرون. والثاني: العرف في الفواكه أن تقدم من أجناس مختلفة وألوان، لا من لون واحد ونوع واحد، فيتخيرون من أي نوع اشتهوا أو شاءوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) إن أهل الجنة إنما يتناولون ما يتناولون على الشهوة، لا على الحاجة وسد الجوع، وهو كما ذكر: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ).

(22)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) يحتمل تشبيه الحور العين باللؤلؤ وجهين: أحدهما: لما لا شيء أصفى من اللؤلؤ والياقوت، فضرب مثلهن بذلك؛ لصفائه وبياضه، وإلا ما خطر اللؤلؤ حتى يشبه الموعود في الجنة من الجواري به؟!. والثاني: أن للؤلؤ فضلا ومنزلة عند العرب، وليس الخطر لغيره من الأشياء، فيشبه ضرب مثلهن به لفضل خطر ذلك عندهم، ليس ذلك لغيره، وهو كقوله تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ)، ضرب مثل من يشرك باللَّه بالذي يخر من السماء، والشرك باللَّه أعظم مما ذكر، لكن ليس شيء أعظم وأبعد من الخر من فوق السماء السابعة؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) إن اللَّه تعالى ذكر للأعمال جزاء كأنهم عملوا له فضلا منه وكرما في حق عباده، وإن كانوا في الحقيقة عاملين لأنفسهم؛ كقوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ)، وكذلك ما ذكر من شرائه أنفسهم وأموالهم منهم، وما ذكر من الإقراض في قوله تعالى: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، وإن كانت أنفسهم وأموالهم له، وإن كان عامَلَ عباده في أنفسهم وأموالهم كأنها ليست له، فضلا وكرما؛ فعلى ذلك ذكر لأعمالهم جزاء؛ كان منهم إلى اللَّه - تعالى - صنعا وإحسانا، وإن كانوا عاملين لأنفسهم ومنافع أعمالهم ترجع إليهم بفضله وكرمه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) هذا يرجع إلى وصف خمور أهل الجنة؛ أي: ليس فيها الآفات التي تكون في خمور الدنيا من ذهاب العقل، وقول اللغو، والهذيان، مثل ما يجري على ألسنتهم في الدنيا حين يشربون الخمور، وما يأثمون به، وذكر لهم هذه الخمور في الجنة؛ لأن قوما يرغبون فيها في الدنيا، فوعد لهم؛ ليرغبوا فيها فيطلبوها بالامتناع عن شربها في الدنيا من الخمور المحرمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) يخرج على وجهين: أحدهما: أي: إلا كلاما فيه سلامة عن جميع الآفات التي ذكر. والثاني: (إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) أي: يحيي بعضهم بعضا بالسلام؛ كقوله تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ). * * * قوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39)

(27)

وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) أصحاب اليمين هم المؤمنون على ما ذكرنا. ثم اختلف في ذكر شجر السدر لهم، وما ذكر من الطلح، وغير ذلك. فمنهم من قال: إنما ذكر هذا لهم لتفضيل المقربين على أصحاب اليمين؛ لأنه قال في المقربين: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. . .)، إلى آخر ما ذكر من عظيم الكرامات التي ذكر لهم، ثم ذكر لأصحاب اليمين دون ذلك؛ ليعلم تفضيل المقربين على أصحاب اليمين. ومنهم من قال: إن قوما من العرب ينتفعون بذلك؛ لأن لها ثمرة، لكن ليست بمرغوبة، ولها شوك، فأخبر اللَّه تعالى أن لهم في الجنة ذلك بلا شوك ولا أذى؛ بل رغب فيه، وهو كما وعد لهم من الخمور، ثم نفى عن خمورها الآفات؛ فعلى ذلك جائز أن يكون شجر السدر فيها بغير آفات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ)، منهم من قال: هو طلع منضود متراكم؛ كما ذكر في آية أخرى (طَلْعٌ نَضِيدٌ)، ذكر في إحدى الآيتين فعيل، وفي الأخرى مفعول، وذلك جائز في اللغة. وقيل: طلح: بالحاء: هو الموز. وذكر أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمع قارئا يقرأ: (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ)، فقال علي - رضي اللَّه عنه -: ما شأن الطلح؟ إنما هو طلع؛ فقيل له: إن في المصحف (وَطَلْحٍ) أفلا نغيره؟ فقال: إن المصحف لا يغير اليوم؛ وهذا يؤيد التأويل. وقال أبو معاذ: الطلح في كلام العرب: شجر عظام، كثير الأغصان، واحدها: طلحة، وقال مخضود: أي: مقطوع الشوك؛ خلقت هنالك هكذا بلا شوك، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - في شجر الحرم: " لا يخضد شوكها، ولا يعضد شجرها ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) يصف أنه ليس فيها شمس يؤذي حرها، ولا برد يؤذي، بل ظل؛ لأن الظل شيء لطيف لا أذى فيه، ولا شيء يثقل على الأبدان؛ بل هو

(31)

شيء يوافق البدن، ويخف عليه. وقيل: ممدود؛ لأنه لا شمس فيها فتنسخه، وبالشمس يعرف الظل هاهنا، وظل الآخرة ممدود أبدا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) قيل: جار غير منقطع؛ وهو قول الْقُتَبِيّ. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: مصبوب. والأول كأنه أقرب؛ أي: جار أبدا، ليس كمياه الدنيا؛ إلا أن يراد بالانصباب صبه من الأعلى إلى الأسفل، وذلك مما رغب إليه في الدنيا. ثم قوله: (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ) جائز أن يكون ذكر هذا لأصحاب اليمين، وما ذكر من قوله تعالى: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ)، وقوله: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ)؛ فيكون للمقربين قوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ)، ولأصحاب اليمين (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ)، وكذلك ما ذكر من (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، للمقربين يكونون في العليين، وتكون الأنهار تحتهم، وما ينسكب وينصب من الأعلى لأصحاب اليمين؛ لأنهم يكونون دونهم في الدرجة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ ... (33) كانقطاع فواكه الدنيا، يخبر أنها لا تنقطع في الجنة في وقت من الأوقات، وأنها كلما قطعت مرة خرجت أخرى مكانها بهيئة الأكل من غير أن يحتاج فيه إلى وقت النضج كما في الدنيا تنقطع من وقت خروجها إلى وقت نضجها، وبعد النضج والإدراك تنقطع إلى وقت وجود حمل آخر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - ": (وَلَا مَمْنُوعَةٍ) أي: لا آفة بها تصير ممنوعة؛ كفواكه الدنيا، إذ هي ربما تمتنع بآفة تصيبها. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (لَا مَقْطُوعَةٍ) أي: لا تحبس، كما يمنع في الدنيا بعضهم من بعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) أي: مرفوعة القدر والمنزلة، أو مرفوعة بنفسها في القيامة، وهو ما ذكرنا في قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا)، وقيل: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) مرفوعة النساء، يقال: امرأه فريش ونساء فرش. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) قال: الأصم وغيره: إن هذا صلة قوله: (وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ)، كأنه قال على أثره. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: إنه لما ذكر على إثر قوله: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ): (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ) دل أن الفرش

(36)

كناية عن الأزواج؛ إذ هن اللؤلؤ يفرش وواحدة الفرش: فريش. وقيل: قد استفرشت الناقة إذا اشتهت العمل. والأشبه أن يكون هذا على صلة (وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ)،؛ إذ ذكر في قوله (وَحُورٌ عِينٌ) على أثر ذكر أثر المجالس والزوجات لا معنى لذكرهن في هذا الموضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) أي: أنشأناهن في الابتداء على هيئة الاستمتاع ليس كنساء الدنيا، وهو كما ذكرنا في قوله في صفة الفواكه: إنها غير مقطوعة ولا ممنوعة؛ أي: إنها تخرج أول ما تخرج على هيئة الأكل، لا كثمار الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) قيل: أي: خلقناهن كذلك، ويكن أبدا كذلك، كلما ذهبت عذريتهن عادت؛ فيكن أبدا على تلك اللذة؛ لأنهن أنشئن هكذا، واللَّه أعلم. وقال عامة أهل التأويل في قوله تعالى: (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا) أي: خلقنا نساء الدنيا من الثيبات والأبكار خلقا جديدا سوى الخلق الذي كان في الدنيا، (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا)، وكن في الدنيا عجائز وثيبات، وروي على ذلك خبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إن ثبت - أنه قال في قوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً): " الثيب والبكر ". وفي بعض الأخبار قال: " إن العجوز لا تدخل الجنة ". ثم قوله: (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا) من قال: هو صلة قوله: (وَحُورٌ عِينٌ)، هو لسِنِّ نساء الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عُرْبًا أَتْرَابًا) بجزم الراء مخففة ومضمومة. وقال أبو عبيد: تقرؤها بالضم لوجهين. أحدهما: التفخيم. والثاني: أنها أقيس في العربية؛ لأن واحدها: عروب، مثل: صبور وصبر، وشكور وشكر وأما الوجه الآخر التخفيف. وقيل في تأويل: (عُرُبًا): عاشقات لأزواجهن.

(40)

وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: العروب: المراحة. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: هي المتحببة إلى زوجها. وقيل: الغنجات لأزواجهن. وقيل: إن أهل مكة يسمونها: العربة، وأهل المدينة الغنجة، وأهل العراق: الشكلة. وقال سعيد بن جبير: عربا: ضبعات، والضبعات: هي التي تعرض للزوج من الشهوة، ويقال للناقة إذا اشتهت الضراب: ضبعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتْرَابًا)، أي: مستويات الأسنان. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الترب واللدة واحد، وهو بالفارسية: همزاد. وأصله: أنهن أنشئن بلا ولاد يتقدم ويتأخر كما يكون في الدنيا يتفاضلن في الأسنان؛ فصرن في الآخرة أترابا. ثم قال: (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) قد ذكرنا تأويله: أنه يخرج على الوجهين: وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " هما جميعا من أمتي "، وكذلك تأويل قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ). * * * قوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ)، وذكر في أصحاب اليمين مثله من التعجب، وأخبر عما يكرمهم ويعطيهم من أنواع النعم، وذكر أصحاب الشمال، وذكر على إثره ما أعد لهم من العذاب والهوان بقوله: (سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. . .) الآية، ثم ذكر في أول السورة أصحاب الميمنة والمشأمة، ولم يذكر لهم الثواب ولا العذاب؛ وذلك - والله أعلم - لأن في ذكر الميمنة والمشأمة دلالة ما لهم؛ لأن الميمنة من اليمن، والمشأمة من

(42)

الشؤم، ففي ذكر ذلك بيان ما لهم من الكرامات، وما لأُولَئِكَ من العقوبات، وليس في ذكر اليمين والشمال بيان العقاب؛ فذكر على أثر ذلك؛ ليعرف ما لكل فريق من الجزاء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) قيل: السموم: هو فيح جهنم، والحميم: هو الذي قد انتهى حره غايته. وقيل: السموم: هو حر النار. وقيل: هو ريح باردة. وقيل: ريح حارة. وأصله: أنه لما أصابهم السموم، اشتد بهم العطش، فعند ذلك يشربون الحميم؛ رجاء أن يسكن به عطشهم، ويذهب ذلك عنهم، فلا يزداد لهم بذلك إلا شدة عطش على ما كان، واللَّه أعلم. وقوله: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) قيل: هو دخان أسود. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اليحموم: هو من الحميم. وقال أبو بكر: أي: ظل من بخار يجعل اليحموم بخارا. ثم الظل الذي ذكر هاهنا يحتمل أن يكون هو الظل الذي ذكر في قوله: (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ)، وقوله: لهم ظلل من النار. وقيل: هو السرادق من النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) (لَا بَارِدٍ)؛ لأنه من النار (وَلَا كَرِيمٍ)؛ لأنه لهوانهم ليس للكرامة. وقال الحسن وقتادة: (لَا بَارِدٍ) المنزل، (وَلَا كَرِيمٍ) المنظر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) أي: هذا الجزاء لهم؛ لأنهم كانوا يقولون في الدنيا: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، وإنما قال ذلك مترفوهم دون السفلة والأتباع؛ لقوله تعالى: (إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَكَانُوا

(47)

يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ)، أي: على الإثم العظيم، وهو الشرك. وقيل: الحنث العظيم: الكبائر، والإصرار: هو الإدامة عليها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يصرون على أنهم يقسمون ويحنثون فيه؛ كقوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ)، أقسموا: أنهم لا يبعثون، فحنثوا في ذلك؛ لأنه تعالى أخبر أنهم يبعثون؛ حيث قال: (بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا). ويحتمل أن يكون قسمهم ما ذكر: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)، وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ)، وقد جاءهم النذير، فلم يكونوا أهدى، وجاءتهم الآيات، فلم يؤمنوا بها، فحنثوا فيها، فإن كان قسمهم بأنهم لا يبعثون حنثوا حين فراغهم من اليمين؛ لأنهم أيسوا عن ذلك. وفيه دلالة لصحة مذهب أصحاينا: أن من حلف: للمس السماء، أنه يحنث عند فراغه من اليمين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قالوا هذا على الاستهزاء والاستبعاد للبعث؛ ألا ترى أنه أجابهم، فقال: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50). ثم قوله: (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) يخرج على وجهين: أحدهما: أي: يجمع الأولين والآخرين في التخليق؛ أي: جمع بين الأولين والآخرين في التخليق؛ حيث خلق الآخرين على إثر الأولين، وإلا لم يكونوا وقتما قال: (لَمَجْمُوعُونَ)؛ إذ الآخرون لم يكونوا مخلوقين بعد. والثاني: مجموعون في الأرض، أي: في القبور (إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) بآيات اللَّه الدالة على توحيده، ورسله، والبعث. وقوله: (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) أخبر أن المكذبين يكونون آكلين من شجر الزقوم؛ فيكون كما أخبر. ثم شجرة الزقوم: هي التي ذكر (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ)، وقد ذكرنا تأويله في موضعه. وقوله: (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) يخبر أن ليس لهم مما يأكلون ويشربون إلا امتلاء

(54)

البطون، لا يدفع عنهم ما يأكلون من الزقوم وغيره الجوع، ولا ما يشربون من الحميم العطش عنهم، بل يزداد لهم بذلك جوع وعطش على ما كان، واللَّه أعلم. وقوله: (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) قيل: الهيم: هو إبل يأخذه الداء، فيشرب حتى يملأ البطن، فلا يروى أبدا؛ للداء الذي فيه؛ فعلى ذلك أهل النار يشربون ويأكلون حتى تمتليء بطونهم، فلا يروون ولا يشبعون، واللَّه أعلم. وقيل: الهيم: الإبل الذي يهيم في الأرض ولا يرد الماء أياما، ثم إذا ورد الماء فيشرب، فتمتلئ بطنه حتى يهلك؛ لامتلاء البطن؛ وهو قول الأصم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) أي: الذي ذكر غذاؤهم ورزقهم يوم الدِّين. * * * قوله تعالى: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ. نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يقول - واللَّه أعلم -: لما صدقتموني ورسلي بأنا خلقناكم في الابتداء، فهلا صدقتمونا ورسلنا بأنا نعيدكم تارة أخرى؛ إذ الأعجوبة في ابتداء الأشياء أكثر منها في الإعادة، وهو ما قال: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ). والثاني: إنكم صدقتموه ورسله: أنه أنشأكم في بطون أمهاتكم في الظلمات الثلاث، ونقلكم من حال إلى حال، لا يحتمل أن يترككم سدى بلا عاقبة؛ فيكون فيه إثبات البعث؛ إذ لولا ذلك لكان خلقهم وتحويلهم من حال إلى حال عبثا؛ كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) قد علموا أنهم لم يخلقوا ما يمنون، ولا خلقوا أنفسهم، فيقول - واللَّه أعلم -: قد أقررتم أنكم لم تخلقوا

(60)

ما أمنيتم، ولا أنفسكم، ولا تملكون ذلك، فقد عرفتم أن اللَّه هو خالقكم وخالق ذلك كله، وهو المالك لذلك؛ فإذا عرفتم ذلك، وأنتم أهل تمييز، وأكمل عقلا من غيركم، فإذا لم تملكوا خلق أنفسكم، فالذين هم دونكم أحق ألا يملكوا خلق أنفسكم وخلق ما ذكر ثبت أن اللَّه تعالى هو خالق ذلك كله؛ فكيف عبدتم غيره، وصرفتم الألوهية إلى غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ... (60) يحتمل وجوها: أحدها: أنه لما كان هو الذي خلقكم وما ذكر، ثم قدر بينكم الموت، وفيكم الولي له والعدو، وقد سوى في الدنيا بين الولي والعدو، وفي الحكمة التفريق بينهما؛ دل أن هنالك دارا أخرى يفرق بينهما. والثاني: (قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)، أي: المعجل والمؤجل؛ أي: لم يجعل موت جميعكم في وقت واحد، بل جعل أجلا مؤجلا في الأصل، وقدر أن تكون مدة أجل هذا أكثر من مدة أجل الآخر. وقيل: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي: سوينا بينكم في الموت بين عزيزكم وذليلكم، ورفيعكم ووضيعكم، لا يسلم أحد عنه. ويحتمل وجها آخر هو -أولى-: وهو أنه قدر بينكم الموت، وكل واحد منكم يكره الموت، ثم لم تملكوا دفع الموت عن أنفسكم؛ دل أن هاهنا قاهرا قادرا يجب القول بوجوده، والانقياد لأوامره ونواهيه. وقوله: (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي: وما نحن بمغلوبين في تبديل أمثالكم. أو يقول: وما نحن بعاجزين على أن نبدل أمثالكم. وقوله: (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) قال أبو بكر الأصم: فيما لا تعلمون من تبديلكم إلى صورة ذميمة قبيحة؛ كصورة القردة والخنازير، ونحوها. وقيل: (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ) في أي خلق شاء؛ وهو أقرب من الأول. وجائز أن يكون معناه (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ) في ظلمات ثلاث الذي لا يبلغه علم البشر، ولا تدبير الحكماء إلى أن بلغوا ما بلغوا، فمن ملك ذلك لا يحتمل أن يعجز عن بعث أو غيره، واللَّه أعلم.

(62)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى ... (62) فهو على ما ذكرنا: إنكم لما عرفتم أنه هو الذي أنشأكم النشأة الأولى لا عن أصل سبق، لا يحتمل أن يعجز عن النشأة الآخرة؛ لأنها مثل الأولى؛ بل في وهمكم أسهل وأهون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) يخرج على ما ذكرنا: هلا تذكرون وحدانيته وربوبيته. أو هلا تذكرون أن قادر على البعث. أو هلا تذكرون أنه هو المستوجب لشكر ما أنعم عليكم، وهلا تذكرون نعمه وإحسانه. ومن الناس من قال: النشأة الأولى هاهنا نشأة آدم - عليه السلام - وخلقه؛ أي: علمتم نشأته لا عن أصل ولا احتذاء لغير، فمن قدر على ذلك فهو على النشأة الأخرى لقادر، وعلى تقدير وهمكم أقدر، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) جائز أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ)، كأنه يقول: أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تخلقون الزرع أم نحن الخالقون له؟ فيكون فيه الذي ذكرنا في ذلك، واللَّه أعلم. والثاني: أفرأيتم ما تحرثون أأنتم جعلتم الحراثة بحيث تنبت أم نحن الجاعلون بحيث تنبت؟ ثم قال: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ... (65) أي: يابسا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: متكسر؛ يذكر نعمته التي أنعمها عليهم؛ يقوله: هو الذي جعله بحيث ينتفع به ويبقى، ولو شاء لجعله بحيث لا ينتفع به، ويخبر عن قدرته: أنه قادر على الإنبات، وعلى الإهلاك؛ فعلى ذلك قادر على الإنشاء والإعادة. وأهل التأويل يقولون: أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تنبتونه أم نحن المنبتون، وأصله ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) قيل: تعجبون. وقيل: تندمون، وهي لغة عكيل. وقال أبو بكر الأصم: أي: صرتم تتنعمون وتتلذذون؛ كما يقول الرجل لآخر: لو أخذت مالك أو سلبته صرت غنيا أو استغنيت. ولكن لا ندري أيقال ما ذكر أم لا؟ فإن كان يقال ذلك، يصير تقديره كأنه يتلذذ؛ لكثرة

(66)

ما يذكره في كل وقت؛ لأن الرجل إذا ذهب ماله لا يزال يذكره كالمتلذذ به والمتنعم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ)، أي: تلاومون. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فصرتم تفكهون)، وقوله: (فَظَلْتُمْ) يستعمل في زمان النهار دون الليل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أي: فظلتم تقولون: إنا لمغرمون. ثم اختلف فيه: قيل: إنا لمعذبون بقوله: (إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا). وقيل: إنا المذمومون الملقون للشر، ونحو ذلك، لكنه من الغرم الظاهر؛ لأن مرتجعه خسران في ماله، أو هلاك يلحقه الغرامة؛ لما يحتاج إلى غيره، وأصله كأنه يقول - واللَّه أعلم -: لو جعله حطاما يابسا لا تنتفعون به، ظلتم تقولون: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ). وقوله: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) قيل: المحروم: هو الذي ينتفى عنه المال أو ما ينتفع به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: محدودون. وقيل: محاربون. لكن المحروم ظاهر، لا يحتاج إلى التفسير، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) يذكر نعمه عليهم بما أنزل لهم من الماء العذب فيشربون، وأخبر أنه لو شاء، لجعله أجاجا مالحًا ما يهلك الأنفس، ولا تقوم به، وكذلك قوله: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا) حتى يخرج من أن يكون غذاء فيه، ولكن بفضله ورحمته أبقى لهم ذلك أغذية وأشربة؛ ولذلك قال في آخره: (فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أي: هلا تشكرون ما أنعم عليكم؟ ثم في هذه الآية دلالة نقض قول المعتزلة في أفعال العباد؛ حيث قال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)، والإمناء: هو فعل العبد؛ إذ هو دفق المني، ثم أخبر أنه هو خالق ذلك؛ حيث قال: (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ)، وكذلك الحراثة والزراعة فعل العباد، وأخبر أنه خالق ذلك. وفي قوله تعالى: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا) و (أجَاجًا) نقض قولهم في الأصلح؛

(71)

فإنه يقال لهم: إن قوله: لو شاء لجعله كذا، ثم لم يفعل ذلك، فقد ترك الأصلح لهم، أو يكون الأصلح لهم في إبقاء ذلك؛ فيصير كأنه قال: لو شاء لجعل ما هو حق وعدل جورا، ولا يجوز أن يقال: إن اللَّه تعالى لو شاء أن يجور لجار؛ فعلى أي الوجهين حمل، كان في ذلك نقض مذهبهم. وفي قوله تعالى: (قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) نقض قولهم من أن المقتول لم يمت بأجله؛ لأنه - تعالى - أخبر أنه قدر الموت بينهم، وعندهم: أن من قتل لم يمت بما قدر الله تعالى، ولم يمت بأجله، وقد أخبر أنه هو قدر ذلك، وأنه لا يسبق في ذلك بقوله: (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)، ولو كان على ما تقوله المعتزلة يموت قبل أجله، فقد قالوا: إنه لم يقدر له الموت، وأن القاتل قد سبقه ومنعه عن وفاء ما جعل له من الأجل والبلوغ إلى ذلك الأجل الذي جعل له وكذبه في خبره: أنه يبلغ إلى ذلك الأجل، واللَّه الموفق. ثم قوله: (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) اختلف في تأويل المزن: قال عامة أهل التأويل والأدب: المزن: هو السحاب. وقال أبو بكر الأصم: المزن: هو الماء العذب؛ فعلى قوله يكون حرف (مِن) صلة، كأنه قال: أأنتم أنزلتم المزن. والظاهر ما ذهب إليه أُولَئِكَ: أنه ينزل من السحاب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) قَالَ بَعْضُهُمْ: توقدون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تقدحون، يقال: قدحت النار، وأوريتها: أي أخرجتها؛ يقال: ورت الناس تري وريا؛ فهي وارية، أي: أضاءت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) قيل: هي الشجرة التي تجعل حطبا، وتوقد بها النار وتحرق. وقيل: هي الشجرة التي فيها النار، وهي التي يتخذ منها الزيوت، والأول أقرب، والله أعلم. وقوله: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) قال بعض أهل التأويل: أي: جعلنا هذه النار تذكرة للنار الكبرى، وهي نار الآخرة. ويحتمل أن يكون (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا)، أي: هذه النعم الحاضرة تذكرة للنعم الموعودة. أو جعلنا هذه الشدائد والبلايا في الدنيا تذكرة لما أوعدنا في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) قال بعض أهل التأويل: أي متاعا للمسافرين، خص المسافرين، لنزولهم القواء، وهو القفر؛ وهو قول الْقُتَبِيّ.

(75)

وقيل: المقوين: المستمتعين. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المقوي: الذي لا زاد له. وقيل: الذي يقع في أرض قواء، والقواء: الأرض الخالية من الناس. وقال أبو عبيد: أرى الذي لا زاد له ليس أولى بالنار، ولا أحوج إليها من الذي معه الزاد؛ بل صاحب الزاد إليها أحوج، ويقال: رجل مقوٍ: إذا كانت معه مطية قوية. قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) عن ابن مسعود وإبراهيم أنهما قرآ: (بموقع النجوم)، على الوحدان. وعن الحسن: أنه قرأها بمواقع على الجمع، وبه أخذ أبو عبيد، وقال: إن بعض أهل التأويل يتأولونها على منازل القرآن، وبعضهم على مغايب الكواكب ومساقطها، وأي الوجهين كان، فالجمع فيه أولى من الوحدان. ثم اختلف في قوله: (فَلَا أُقْسِمُ): منهم من قال: إن حرف (لا) هاهنا صلة؛ كأنه قال: أقسم بمواقع النجوم، وذلك جائز في اللغة، كقوله: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ)، ونحوه، يكون على الصلة والزيادة على التوكيد. ومنهم من قال: على إثبات حرف (لا)، لكنه جعل ذكره لرد قول كان من أُولَئِكَ الكفرة، ولدفع منازعة كانت منهم، لكن لم يذكر ذلك؛ لما كانت معروفة بينهم، فرد ذلك بقوله: (فَلَا) ثم ابتدأ القسم بقوله: (أُقْسِمُ)، كأنه قال: أقسم قسما بمواقع النجوم.

ثم اختلف في تأويل قوله: (بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) على الوجهين اللذين ذكرناهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ): بمواقع نزول القرآن نجومًا؛ دليله: ما ذكر على أثره: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) والثاني: (بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) النجوم المعروفة؛ على ما قَالَ بَعْضُهُمْ. ثم إن كان المراد منه: الكواكب، فالقسم بها يكون على وجوه. أحدها: لعظم موقع النجوم ومحلها في القلوب، وجليل قدرها عند الناس حتى يجعلها بعض الملحدة مدبرة العالم. أو لكثرة منافع الخلق بها من معرفة الطرق بها والسبل، ومعرفة كثرة الأنواء والمياه، ومعرفة الأوقات والأزمنة، وغيرها مما يكثر ذكرها. أو (بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) أي: مساقطها، وفي ذلك إخبار وإنباء عن شدة طاعة النجوم وتسخيره إياها للخلق؛ حيث تملك قطع مسيرة خمسمائة يوم في ليلة واحدة ما لا يتوهم قطع ذلك من سواها من ذوي الأرواح والأجنحة التي هي أسرع لقطع المسافات والوصول إلى مقاصدها، واللَّه أعلم. ثم قال أهل التأويل بأجمعهم بأن القسم بها من اللَّه تعالى. وجائز أن يكون القسم من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكن أضافه إلى نفسه؛ تعلميا منه لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يقسم برب هذه الأشياء؛ وكذلك تعليما لغيره من الرسل القسم برب هذه الأشياء؛ إذ لا تنازع بينهم وبين اللَّه تعالى؛ ليقسم وإنما وضع القسم لتأكيد الخبر عند الإنكار والتنازع، ولكن التنازع فيما بينهم وبين الرسل، وكذلك ما ذكر: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ)، ليس من اللَّه تعالى، ولكن من الرسول؛ إذ لا يحتمل أن يكون الرب - عَزَّ وَجَلَّ - هو المقسم، ويقول: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ)؛ فظاهره أن يكون الرسول هو المقسم بها، فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم. ومن الناس من قال: إن الأقسام التي جرى ذكرها في القرآن بالأشياء التي ذكرها لو لم يكن القسم بها، لكانت تلك الأشياء تؤكد وتوجب القسم، وتؤكد أن لو وقع بها القسم؛ لأن الأقسام فيه إنما جرى أكثرها في إيجاب البعث والتوحيد، وإثبات الرسالة، ونحوها، وما جرى ذكرها لو لم يكن القسم بها، لكانت توجب ما يوجب القسم؛ لأن في هذه الأشياء دلالات على البعث والتوحيد والرسالة، واللَّه الموفق.

(77)

وقوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) على قول من يجعل القسم بالقرآن، فهو ظاهر: أن يقول: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)، أي: الذي أقسم به وأنزله نجومًا هو كريم. وعلى التأويل الذي يجعل القسم بالنجوم المعروفة، يجعل قوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ابتداء ذكر منه له. ثم تسميته القرآن: كريما، يخرج على وجوه: أحدها: وصفه بالكرم؛ لما هو محل لقضاء الحوائج الدنيوية والأخروية، وفي العرف: الكريم: من نصب نفسه وأعدها لقضاء حوائج الخلق والقيام لإنجازها. أو وصفه بالكرم؛ لأن من اتبعه، كرم وشرف. أو كريم عند اللَّه عظيم: لذلك وصفه بالكرم، واللَّه أعلم. وقوله: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) قال أهل التأويل: في اللوح المحفوظ؛ سماه مكنونا: لأنه مستور على خلقه عند اللَّه. وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) يقول: لا يمس ذلك إلا المطهرون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الملائكة الذين يجري ذلك على أيديهم؛ كقوله تعالى: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ)، طهروا من الذنوب والآثام، وكأنه ذكر هذا ليأمنوا عن تحريف هذا الكتاب وتبديله، وهو ما قال على أثره: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أي: أنه مكنون عمن يحرفه ويبدله، وأنه لا يمسه إلا المطهرون من الذنوب، والتحريف: إثم وذنب من رب العالمين، وهو كما ذكر في آية أخرى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ)،، وقال: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)، أخبر أن الذي نزل به من السماء أمين، لا يكون منه التحريف ولا التبديل، وأنه قوي، لا يقدر أحد من جني وإنسي أخذه من يده، ولا تحريفه، ثم تمام الأمن بقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وكل حفظه إلى نفسه؛ لا إلى أحد من خلقه؛ فصار محفوظا عن التبديل والتحريف، واللَّه أعلم. وقوله: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) قَالَ بَعْضُهُمْ: أفبهذا القرآن أنتم كافرون؟ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) اللَّه تعالى جعل هذا القرآن حياة الدِّين وقوامه، والرزق حياة الأبدان وما به قوامها، فكذبوا الأمرين جميعا، ما به حياة الدِّين والأبدان جميعا. ثم يخرج ما ذكر من تكذب الرزق على وجوه: أحدها: ما ذكر بعض الناس أهل التأويل: أنهم كانوا يقولون: رزقنا بنوء كذا؛ كانوا

(83)

ينسبون الرزق لذلك النوء؛ فهذا يخرج على قول المنجمة: إن النجوم هي مدبرة العالم ورازقتهم؛ لا يجعلون لله تعالى في ذلك تدبيرا. فأما من ينسب الرزق إلى اللَّه تعالى، ويقول: رزقنا اللَّه بنوء كذا، فليس في ذلك تكذيبه؛ إنما يخرج ذكر النوء ذكر سبب من الأسباب التي يرزق اللَّه تعالى بها، وكذلك من رأى الرزق من الأسباب خاصة، وأما من يقول: رزقنا تعالى بسبب كذا، فذلك جائز القول به. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي: تجعلون شكر الرزق التكذيب؛ وبه قال أبو عبيدة. وجائز أن يكون تكذيبهم الرزق: صرف تسمية الألوهية إلى غير الذي رزقهم، والعبادة لغير المستحق لها، واللَّه أعلم. وقال الحسن: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) بئسما أخذ القوم لأنفسهم؛ حتى لم يرزقوا من كتاب اللَّه تعالى إلا التكذيب؛ يقول: صار حظكم من القرآن التكذيب، ويجعل هذه الآية مع الآية الأولى: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ). وقال أبو بكر الأصم في هذه الآية: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ)، وهو هذا القرآن الذي خصكم به دون آبائكم، ورزقتم به ما لم يرزق آباؤكم منه، ثم جعلتم تكذبون بذلك الرزق الذي خصصتم به ورزقتم، أو كلام من نحوه، وهو كقوله تعالى: (وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ). وقال في قوله تعالى: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ): هو الذي يرى الموافقة، ويحتال في دفع حجة ما يلزمه ويرد عليه، أو كلام يشبه معناه هذا، واللَّه أعلم. وقال أبو معاذ: مُدَّهِن وَمُدْهِن لغتان، ثم أصل المداهنة من المخادعة، يقال: داهنته وادهنته. ثم الفرق بين المداهنة والمداراة كأن المداهنة؛ لطمع له فيه مخادعة حتى يصل إلى ما يطمع، والمداراة الشفقة، يداريه إشفاقًا عليه ليتحقق له عليه الحق؛ ليسلم له دينه، وإلا هما في الظاهر واحد، وهما الملاينة وخفض الجناح، لكن الفرق بينهما ما ذكرنا، والله أعلم. وقوله: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) ليس هذا الكلام صلة ما تقدم

(85)

من الكلام. ثم يشبه أن يكون صلة ما قال أُولَئِكَ للمؤمنين: (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا)، يقول - واللَّه أعلم -: لو كانوا عندكم لم يموتوا ولم يقتلوا على ما زعمتم، فهلا إذا كانوا عندكم، وقد بلغت الأرواح الحلقوم أن ترجعوها، وتردوها إلى الأجساد التي كانت لو كنتم صادقين في قولكم: (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا. . .) الآية، على هذا جائز أن يخرج تأويل الآية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) يخرج على وجهين: أحدهما: (تَنْظُرُونَ) أي: تنتظرون خروج الروح أنها متى تخرج؟ لا تملكون ردها إلى حيث كانت، ولكن تنتظرون خروجها متى تخرج؟ والثاني: (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) على حقيقة النظر؛ أي: تنظرون إلى سلطاني وقدرتي. وقيل: هو من الانتظار؛ أي: تنتظرون أن يحل بكم الموت، وهو ما ذكرنا. وجائز أن يكون قوله: (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ)؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام رجاء أن تشفع لهم في ضيق الحال، وإنما يضيق الحال عليهم الأمر عند حلول الموت؛ إذ لا بعث عندهم، فيقول: فلولا إذا بلغت الأرواح الحلقوم فتنفع لهم الأصنام التي يعبدونها، وترد الأرواح إلى المكان الذي كانت، فإذا لم تملك ذلك فكيف عبدتموها؟ واللَّه أعلم. وقوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) قال بعض أهل التأويل: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي: ملائكتي ورسلي في ذلك الوقت أقرب إليه منكم (وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ) الملائكة، لكن أضاف إلى نفسه؛ لما أن الملائكة بأمره وتسليطه يعملون. وقيل: نحن أقرب إليه منكم، أي: أولى به في ذلك الوقت؛ لما يعلم هو خطأه، ويتبين له الحق في ذلك الوقت من الباطل: (وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ) أنتم، أي: لا تعلمون ذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) قَالَ بَعْضُهُمْ: (غَيْرَ مَدِينِينَ) أي: لو كنتم غير مملوكين لله تعالى على ما زعمتم، ترجعون الأرواح، وتردونها إلى الأجساد التي كانت فيها؛ إن كنتم صادقين: أنكم غير مملوكين، فإذا كنتم عندكم غير مملوكين، تكونون مالكين؛ إذ ليس إلا المملوك والمالك، فإذا لم تكونوا مملوكين تكونون مالكين فتملكون ردها إلى ما فيها، فإذا لم تملكوا كنتم مملوكين، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (غَيْرَ مَدِينِينَ) أي: غير محاسبين ولا مجزيين، فردوا النشأة الأولى،

(88)

واجعلوها بأنفسكم حتى تكون النشأة الأولى حكمة؛ إذ لم تملكوا رد هذه الأرواح إلى الأنفس، أو اجعلوا النشأة الأولى حكمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) إلى آخره، اختلف في وقت ما ذكر ولمن ذكر ذلك؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إن ذلك يقال لهم عند الموت؛ بشارة لهم بما يكون لهم في الجنة. ومنهم من يقول: إنما يقال ذلك إذا دخل هَؤُلَاءِ الجنة، وأُولَئِكَ النار؛ أعني: الكافرين، وهو ما ذكر، (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ). وجائز أن يكون يقال ذلك لهم عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الجنة، وصفًا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عنده في الجنة، ومكانهم لديه، على ما كانوا عنده في الدنيا السابقين كانوا في الدنيا المقربين عنده، ومكانهم لديه أقرب من مكان غيرهم من المؤمنين؛ فعلى ذلك يخبر أن السابقين في الإجابة يكونون في الآخرة عنده أقرب، ويكون قوله: (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) أي: يستأنس هو بهم ويستأنسون به، لا يفارقونه ولا يفارقهم، على ما كانوا في الدنيا، وسائر المؤمنين يسلمون عليه في أوقات، وهو ما ذكر: و (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) على ما كانوا يفعلون في الدنيا، وهو أقرب من الوجهين اللذين ذكرناهما. ويحتمل ما ذكروا من البشارة عند الموت -أعني للمؤمنين والكافرين- في حق المؤمنين: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ)، (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. . .) كذا، وفي حق الكفرة: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93). . .) الآية. ويحتمل ما ذكر بعضهم: أن ذلك يقال لهم بعدما دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) اختلف في تأويله وتلاوته: أما تلاوته: روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقرأ هذا الحرف (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ) تعني: بضم الراء. وعن الحسن: أنه قرأها بالضم أيضا. وعن الضحاك: بفتح الراء، وعليه جميع القراء. وقال أبو عبيد: لولا كراهة خلاف الأمة، وإلا ما قرأتها إلا بالضم، ولكن لا أجد أحدًا عليها، فأستوحش من مفارقة الناس، ولا يجمع اللَّه تعالى أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الضلالة.

(90)

وأما تأويله: فعلى قراءة الرفع، عن الحسن قال: الروح: الرحمة، والريحان: ريحاننا. وعن أبي عبيد قال: بالرفع: هو الحياة والبقاء. وعن الضحاك: بالفتح: الروح: الاستراحة، والريحان: الرزق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الروح: كناية عن دوام النعمة والسعة، يقال: فلان في روح؛ إذا كان في سعة ونعمة، والريحان: كناية عن الشرف والمنزلة، يقال: فلان ريحاني؛ وذلك لشرفه ومنزلته عنده. ومنهم من قال: الروح: الراحة، والريحان: الرزق في الجنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الروح -بالرفع-: من الرحمة، وبالنصب: الراحة. ونحن نقول: جائز أن يكونا جميعا بالنصب والرفع من الرحمة؛ لقوله: (لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، أي: من رحمته، وقال في موضع آخر: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)، أي: برحمة منه، يخبر اللَّه تعالى أن المقربين يكونون في الجنة في رحمة اللَّه ونعمته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) يحتمل ما وصفنا أن أصحاب اليمين يسلمون على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويحيي بعضهم بعضا بالسلام. ويحتمل (فَسَلَامٌ لَكَ) أي: السلامة لك منهم من جميع الآفات والأذى. وذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فسلام إنك من أصحاب اليمين)، فهذا إن ثبت فهو يخرج على البشارة له عند الموت، واللَّه أعلم. وقيل: يسلم عليهم الملائكة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) يقول: هذا الذي ذكرنا للمقربين، ولأصحاب اليمين، وللمكذبين هو حق اليقين؛ أي كائن لا محالة، لا شك فيه؛ مثل هذا يقال على التأكيد وتحقيق ما سبق ذكره ووصفه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) يقول - واللَّه أعلم - فسبح ربك باسم لا يسمى به غيره؛ أي: نزهه عن جميع ما قالت الملاحدة فيه من الولد والشريك، وتسمية من دونه: إلها وغير ذلك، واللَّه الموفق للسداد وإليه المرجع والمآب. * * *

سورة الحديد

سُورَةُ الْحَدِيدِ وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يجوز أن يقرأ (سَبَّحَ لِلَّهِ) وسبح اللَّه، كما يقال في الكلام: شكر لله، وشكر اللَّه، ونصح لله ونصح اللَّه. ويجوز أن يكون معناهما في الظاهر مختلفا، ويتفق في الحقيقة والباطن؛ لأن التسبيح: هو التخليص والتنزيه والتبرئة، فمتى أضيف الفعل إلى اللَّه تعالى، ووقع عليه، فيقال سبح لله، فمعناه: أنه نزهه وبرأه عن جميع معاني الخلق، وخلصه عن شبه المخلوقين، وإذا قيل: سبح لله، فقد وقع الفعل على الأشياء المخلوقة؛ أي: خلصها كلها له وبرأها عن غيره، وإذا وصف بأن كل الأشياء له، وهو المالك لها، وهم عبيده ومماليكه، خاضعون أذلاء، فقد وصف بالغناء ونفي الحاجة عنه، وأنه متبرئ عن الشبه بمماليكه ومخلوقاته، فهما جميعا من هذا الوجه ينظمان معنى واحدا، وإن كانا مختلفين وفي الباطن مؤتلفين؛ كما أن الإسلام: هو أن يجعل كل شيء من الخلق لله تعالى خالصا سالمًا له، والإيمان: هو التصديق بالربوبية له في كل شيء، فمتى صدق اللَّه تعالى بالربوبية في الخلق والأمر، فقد جعل الخلق سالما له، فمتى جعل سالما له فقد صدقه في الربوبية، فقد اتفقا من حيث المعنى، وإن اختلفا من حيث الظاهر، فعلى ذلك هذا، والله الموفق. ثم يحتمل ما ذكر من التسبيح: هو تسبيح الخلقة، تشهد له خلقة كل شيء بالوحدانية والألوهية، فهذا على خلقة الكافر والمؤمن جميعا وغيرهما من المخلوقات. ويحتمل أن يكون أراد الممتحنين الذين في السماوات والأرض، ويرجع إلى تسبيح خاص، وهو تسبيح النطق واللسان عن اختيار. وجائِز أن يرجع إلى كل ذي روح يجعل اللَّه في سرية هذه الأشياء من التسبيح له ما

(2)

يعلمه هو لا يعلمه غيره إلا بإعلام اللَّه تعالى إياه ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يخرج على وجوه: أحدها: العزيز: هو الذي أفقر الخلق وأحوجهم إليه، والحكيم: هو المحكم للأشياء المتقن لها. أو العزيز: القاهر الغالب، الحكيم: هو العالم بالأشياء على حقيقتها. أو العزيز: هو المالك كل ملك؛ كقوله: (مَالِكَ الْمُلْكِ)، الحكيم: الواضع كل شيء موضعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) جائز أن يكون (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) تفسيرًا لقوله: (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي: يملك أن يحيي هذا، ويميت غيره، أو يحيي من شاء، ويميت من شاء، ويملك إحياء من شاء وإماتة من شاء، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) من الإحياء والإماتة وغيرهما (قَدِيرٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) قالت الباطنية: الأول: معناه: المبدع الأول، والآخر: المبدع الثاني، والظاهر: هو الناطق، وهو الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والباطن: هو صاحب التأويل؛ يقولون: إن المبدع الأول أتم للمبدع الثاني المعونة؛ فيستعين بها المبدع الثاني على خلق هذا العالم وإنشائهم؛ لأنهم يقولون: إن المبدع الثاني هو الذي دبر هذا العالم، وأنشأهم بإعانة المبدع الأول، والناطق هو الذي دبر الشرائع، والباطن -وهو صاحب التأويل- هو الذي يبين الشرائع التي دبرها الناطق وهو الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا يصفون أن اللَّه تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، ويقولون: لا يجوز أن يوصف بهذه الأشياء؛ لأن الأولية تنفي الآخرية، والظاهر ينفي الباطن؛ كل حرف من هذه الحروف يبطل الآخر في الشاهد. وجوابنا: أن ما قلتم من المبدع الأول والثاني والناطق والباطن، ليس بشيء له معنى على ما ذكرنا في موضعه، وأما عندنا: فإن قوله: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) هو حرف التوحيد: هو الأول بذاته، والآخر بذاته والباطن بذاته؛ قال هذا؛ ليعلم ولا يفهم من أوليته أولية غيره، ولا يفهم من آخريته آخرية غيره، فكذلك لا يفهم من ظاهريته ظاهرية غيره، ولا من باطنيته باطنية غيره؛ لأن في الشاهد من كان له أولية لا يكون له آخرية، ومن كان له آخرية لا يكون له أولية، وكذلك من كان له ظاهرية لا يكون له باطنية، ومن كان له باطنية لا يكون له ظاهرية؛ فكل حرف من هذه الحروف مما ينقض

(4)

الحرف الآخر وينفيه في الشاهد، فإنما ذكر هذه الأحرف لنفسه؛ ليعلم ألا يفهم من أوليته أولية الأشياء، ولا يفهم من آخريته ما يفهم من آخرية الأشياء، وكذلك ما ذكر من ظاهريته وباطنيته، وهذا كما ذكر: أنه عظيم ولطيف، وكل واحد منهما في الشاهد مما يناقض الآخر وينفيه: ما عظم ينفي ويناقض ما لطف؛ لئلا يفهم من عظمة ما يفهم من عظمة غيره، ولا من لطافته ما يفهم من لطافة غيره، واللَّه الموفق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأول: الذي لا ابتداء له، والآخر: الذي لا انتهاء له، والظاهر: هو الغالب القاهر، الذي لا يغلبه شيء، والباطن: الذي لا تدركه الأوهام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الأول الذي له أولية الأشياء، والآخر الذي له آخرية الأشياء، والظاهر بالحجج والآيات، والباطن الذي لا تدركه الأوهام، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) كأن خلق ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام: الستة الأيام التي تدور عليها أيام الدنيا، وهي أيام حكمة، فإنما خلق في هذه الأيام كيان الأشياء وأصولها، لا أنه خلق كلية الأشياء فيها، وما يكون أبد الآبدين، فعلى هذا التأويل يكون قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أي: استوى أمره، فخلق الممتحن، وهم البشر؛ إذ المقصود بخلق هذه الأشياء كلها البشر، ولهم إنشاء هذه الأشياء. وإن كان المراد من قوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أيام الدنيا الذي يكون اليوم مقداره ألف سنة؛ على ما ذكره في اية أخرى؛ فيكون ما ذكره من خلق السماوات والأرض وما بينهما خلق أصول الأشياء وكيانها وما يتولد منها، بل يقع ذلك على الكل، فيكون على هذا تأويل قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) البعث؛ أي: استوى خلق ما خلق وأنشأ من العالم بالبعث ما لولا ذلك البعث لم يكن إنشاء هذا العالم الأول حكمة؛ فالمقصود من إنشاء هذا العالم البعث، وله يصير إنشاؤه حكمة، فيكون به استواء الأمر. ثم تأويل العرش: يحتمل الملك؛ استوى ملكه بخلق الممتحن أو بالبعث الذي ذكرنا، ولا نفسر أنه ما أراد بقوله: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)؛ لأنه لا يعلم ما أراد به، إذ قال في ذلك: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) أمر أن يسأل به خبيرا، ولم يرد بذلك: أنه يسأل به عنه؛ فلا يسمع تفسيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)، أي: كثرة ذلك وازدحامه، لا يلتبس عليه ولا يستر عنه شيء.

(5)

والثاني: يخبر أن السماء والأرض مع ثقلهما وكثافتهما لا يستران ولا يحجبان عليه الوالج فيهما، والخارج منهما والنازل منهما، والإحاطة بذلك؛ ليعلم أن لا شيء يحجب عنه، ولا يخفى عليه شيء، ولا يعجزه شيء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) هذا الحرف يخرج على وجهين: أحدهما: (وَهُوَ مَعَكُمْ): أي: عالم بكم وبأفعالكم، ومحيط بكم، وحافظ عليكم. والثاني: (وَهُوَ مَعَكُمْ) يتوجه المعنى فيه لاختلاف الأحوال؛ يقول: إن كنتم محبين له، خاضعين مطيعين، فهو معكم بالنصر لكم والمعونة على أعدائكم، وإن كنتم معرضين عنه معاندين فهو معكم بالمعونة عليكم، والانتقام منكم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وقال أهل التأويل: أي: علمه وسلطانه وقدرته معكم أينما كنتم، وأصله ما ذكرنا فيما تقدم: أنه إذا ذكر - جل وعلا - بلا ذكر الخلق معه، ولا ضم أحد إليه سواه، يوصف بالأزل، فيقال: لم يزل عالما قادرا خالقا، بلا ذكر وقت، ولا حد ولا شيء من المكان وغيره، وإذا ذكر معه شيء من الخلق يذكر على ما عليه هذا الخلق من الوقت والمكان والأحوال للخلق دون اللَّه تعالى، فيقال: لم يزل عالما للخلق وقت كونهم، لم يزل خالقا للعالم وقت كونه؛ حتى لا يتوهم قدم المخلوق، وعلى ذلك قوله تعالى: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) الآية، (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) وقوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ)، وقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. . .) الآية، وقوله تعايى: (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)، ونحوها مما كثر ذكره كذلك على ما عليه أحوال الخلق، فعلى هذا قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) الملك إنما ينسب بحق نفاذ المشيئة والأمر والولاية، فجائز أن يكون قوله: (مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أي: له نفاذ المشيئة، وله الولاية في السماوات والأرض، وعلى أهلهما، وله السلطان عليهم، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله: (مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أي: له خزائن السماوات والأرض، يعطى من يشاء، ويحرم من يشاء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي: إلى اللَّه يرجع تدبير الأمور من إحداث وتكوين وإعطاء وبذل ومنع وحرمان، ليس تدبير ذلك إلى الخلق، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)، أي إلى اللَّه ترجع أمور الممتحنين في الآخرة من الحساب والسؤال، والثواب والعقاب وغير ذلك، واللَّه أعلم.

(6)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ... (6) إيلاج الشيء: إنما هو إدخاله فيه على إبقاء المدخل فيه؛ هذا هو المعروف، لكن ما ذكر هاهنا من إيلاج هذا في هذا، وهذا أن جعل ما كان في حال الاستواء في حد الليل نهارا، وجعل ما كان في حال الاستواء في حد النهار ليلا؛ على إتلاف كل واحد منهما بالآخر، لا على الإبقاء، وفي ذلك وجوه من الدلالة: أحدها: يدل ذلك على أنه فعل واحد عليم له تدبير، لا فعل عدد، أو لا تدبير له؛ لأنه لو كان فعل عدد، لكان لا يجري على سنن واحد وتدبير واحد منذ كان إلى أبد الآبدين؛ بل يقع في ذلك تمانع وتغالب يمنع كل واحد ما له مما لغيره، ولغلبه عليه، ولا يوافقه في تدبيره؛ على ما يكون من عادة الملوك؛ على ما قال: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)، وقال: (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، واللَّه الموفق. وفيه دلالة البعث، وهو إتيان الليل بعد ذهاب أثر النهار، وإتيان النهار بعد ذهاب أثر الليل، ونحو ذلك؛ على ما تقدم ذكره. وقوله: (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، قال أهل التأويل: أي: عليم بما في الصدور. وجائز أن يكون تأويله: وهو عليم بما في الصدور: أرباب الصدور، وهم البشر الذين لهم الصدور والتدبير؛ لأن الصدور إنما يقال للذين لهم تدبير وتمييز، وهم البشر، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) الإيمان باللَّه: هو أن تجعله رب كل

(8)

شيء، وأن له الخلق والأمر، والإيمان برسوله: هو أن صدقه في كل ما يخبر عن الله تعالى وفي كل قول وفعل، وأنه صادق، وأنه محق، وتعلم أنه بأمر اللَّه تعالى ونهيه يأمر وينهى ويفعل لا من ذات نفسه؛ هذا هو الإيمان باللَّه تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) يقول - واللَّه أعلم -: وأنفقوا من المال الذي جعلكم فيه خلفاء من تقدمكم؛ لأن الناس يخلف بعضهم بعضا في هذه الأموال؛ كأنه يقول: أنفقوا من المال الذي جعلكم خلفاء من تقدمكم قبل أن يخلفكم من بعدكم؛ كما ترك الإنفاق من تقدمكم؛ إذ هي إنما أنشئت للإنفاق والانتفاع بها، لا للترك كما هي، واللَّه أعلم. ثم أخبر تعالى بقوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أن من كان أمر به وأنفق، فله أجر كبير: ما أوعد لهم من الأجر على جهة الإنعام منه والإفضال، دون الاستحقاق؛ إذ المال ماله، وهم عبيده، ولا يلزم للعبد أجر على سيده، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) في ظاهره متناقض؛ لأنه يقول: (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ)، ولو كانوا لا يؤمنون بالله كيف يقرون باللَّه وبالرسول، ويصدقونه: أنه رسول اللَّه؛ إذ التصديق بالرسول تصديق بالمرسل، وهم لا يؤمنون باللَّه، فكيف يصدقون الرسول؟ لكنه يخرج على وجهين: أحدهما: أي: ما لكم لا تؤمنون باللَّه؟ أي: بقدرة اللَّه على بعثكم وإحيائكم بعد موتكم قد أتاكم ودعاكم بما تبين لكم من قدرته وسلطانه على البعث، فما لكم لا تؤمنون بقدرته؟ على هذا جائز أن يخرج؛ لأن أهل مكة كانوا أصنافا: منهم من يذهب مذهب الدهر، ومنهم من يذهب مذهب الشرك، ومنهم من يقر بالتوحيد وينكر البعث، والله أعلم. والثاني يقول: أي: عذر لكم في ترك الإيمان باللَّه تعالى والرسول دعاكم، وقد أتاكم من الآيات والحجج ما يدفع عنكم العذر، ويزيح عنكم الشبه؟ فأي عذر لكم من ترككم الإيمان به؟ فما لكم لا تؤمنون؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ) قد ذكرنا فيما تقدم أن أخذ الميثاق من الله تعالى يخرج على وجوه: أحدها: على ألسن الرسل - عليهم السلام - كقوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي. . .)، إلى آخر ما ذكر، وغير ذلك من أمثاله.

(9)

والثاني: أخذ الميثاق ما جعل في خلقة كل أحد من شهادة الوحدانية له. والثالث: عهد إليهم؛ حيث ركب فيهم العقول والأفهام، وجعلهم بحيث يميزون ما لهم مما عليهم، فيما لا يحتمل إهمال مثلهم وتركهم سدى. ويحتمل ما ذكر بعض أهل التأويل من إخراجهم من صلب آدم - عليه السلام -، والوجوه الأول أقرب. وجائز أن يكون قوله: (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) في أهل الكتاب الذين كانوا مؤمنين باللَّه ورسوله مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به؛ يقول - واللَّه أعلم -: ما لكم لا تؤمنون باللَّه والرسول الذي كنتم مؤمنين به؟! ويحتمل أن تكون الآية في أهل النفاق الذين كانوا يظهرون الإيمان به، ولا يحققونه؛ يقول: ما لكم لا تحققون الإيمان باللَّه والرسول يدعوكم لتحققوا الإيمان بربكم؟ وهو كقوله: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ)، أي: لا عذر لكم في الكفر باللَّه ورسوله، وترك الإيمان بهما، فعلى ذلك الأول، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالآيات والحجج. أو يذكر هذا لا على الشرط؛ بل على التأكيد؛ كقوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، لأنهن إذا كن أذعن الإيمان، لم يحل لهن أيضا كتمان ما في أرحامهن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) الآيات في الحقيقة: هي الأعلام، لكن فسرت الآيات بالحجج؛ لأن الآيات حجج من عند اللَّه تعالى جاءت، لا أنها مفتعلات من الخلق. وقوله: (بَيِّنَاتٍ): واضحات أنها من عند اللَّه جاءت، لا من عند الخلق، أو بينات أمره ونهيه، وما لهم وما عليهم، وما يؤتى وما يتقى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) ما أضيف إلى اللَّه تعالى من الإخراج، فهو على وجهين: أحدهما: على حقيقة الإخراج، وهو أن يوفقهم إلى الإيمان، ويعطيهم المعونة والعصمة؛ فيخرجون مما ذكر من الكفر إلى الإيمان. والثاني: يخرج على الأمر به، والدعاء إلى الإيمان، ليس على حقيقة الإخراج، وهو كقوله: (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) في هذه الآية، ونظير حقيقة الإخراج قوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، وعلى هذا يخرج إضافة

(10)

الهداية إلى اللَّه تعالى: على التوفيق وإنشاء فعل الهداية منهم، والثاني: على الدعاء والبيان، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) جائز أن يكون معناه: وإن اللَّه بمن خرج من الظلمات إلى النور لرءوف رحيم، وهو يرجع إلى المؤمنين خاصة. وجائز أيضا أن يوصف بالرحمة والرأفة على الكل؛ أي: بكم لرءوف رحيم بما أرسل إليكم الرسول، وأنزل عليكم الكتاب، وإن كان في أنفسكم وعقولكم كفاية على معرفة وحدانية اللَّه تعالى وربوبيته بدون إنزال الكتاب وإرسال الرسول، لكن بفضله ورحمته أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ ليكون ذلك أدعى لهم، وأوصل إلى إدراك ما دعوا إليه، وأقرب في دفع الشبه والعذر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: ما قال أهل التأويل: إن الخلق يفنون كلهم، ويبقى اللَّه تعالى؛ كقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)، فعلى هذا قوله: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: ما لكم لا تنفقون في سبيل اللَّه قبل أن يزول ملككم ويصير ميراثا لله تعالى. وجائز أن يكون قوله: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إضافة وراثة بعضهم من بعض إليه؛ لما أنهم عبيده وإماؤه، ومال العبد يكون لسيده؛ فيصير كأنه يقول: ما لكم ألا تنفقوا لأنفسكم، وما يرجع إلى منافعكم، قبل أن يصير ذلك ميراثا لغيركم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً. . .) الآية. قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ)، أي: لا يستوي منكم من آمن قبل الفتح؛ لأن قبل الفتح كان على من آمن خوف الهلاك وأنواع العقوبات؛ لأن الغلبة في ذلك الوقت كانت لأهل الكفر؛ لذلك لم يستو من آمن منهم قبل الفتح، ومن آمن منهم بعد الفتح، وعلى ذلك يخرج ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: " لو وزن إيمان أبي بكر بإيمانهم لرجح "؛ لأن إيمانه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في وقت الخوف على متبعي الإسلام. أو لما يكون بإيمانه إيمان نفر كثير؛ لأنه كان رئيسهم، وكذلك الإنفاق في ذلك الوقت أفضل وأعظم، لما في الإنفاق في ذلك الوقت معونة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولمن تابعه. أو لما أن الإنفاق من بعد الفتح يقع به طمع الوصول إلى المنافع والأبدال من الصدقات والمغانم، وقبل الفتح، لم يكن ذلك المعنى، فهو لله خالص بلا بدل ولا طمع كان معه، واللَّه أعلم.

(11)

وقيل: لا يستوي من هاجر ومن لم يهاجر، ولا هجرة بعد فتح مكة؛ فلذلك روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا هجرة بعد اليوم، ولكن جهاد ونية " وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)، أي: وعد اللَّه لكلا الفريقين: من أنفق قبل الفتح وبعده الجنة والثواب الحسن. وقال بعض أهل التأويل: هذه الآية نزلت في فتح الحديبية، فقيل: يا رسول اللَّه، فتح هو؟ قال: " نعم، فتح عظيم ". وعن قتادة: هو فتح مكة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيه ترغيب وترهيب فيما يرغب ويرهب عنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) قد ذكرنا فيما تقدم: أنه - جل وعلا - عامل عباده بكرمه وجوده معاملة من لا حق له ولا ملك في أنفسهم وأموالهم، لا معاملة من حقيقة أملاكهم وأموالهم وأنفسهم له؛ من نحو ما ذكر من الإقراض له، وما ذكر من شرائه أنفسهم وأموالهم منهم بأن لهم الجنة، وما ذكر لأعمالهم من الأجر، وهم عبيده، وأعمالهم التي يعملون لأنفسهم، كأنهم عاملون له، وما يمسكون لأنفسهم ويدخرونه في وقت الحاجة لهم، سماه: قرضا، وما يكتسبون به للحياة الدئمة والنعم الباقية، فهم المنتفعون بها، ولا أحد في الشاهد يستقرض مال نفسه من آخر ببدل ثم يعطي له الأجر على ذلك؛ هذا كله خاج عن عادة الخلق، وطبعهم، وصنيعهم بعضهم مع بعض، لكن عاملهم بما يليق بكرمه وجوده وعد لهم بما أمسكوا لأنفسهم أضعافا مضاعفة. ثم جائز تسميته ما يمسكون لوقت حاجتهم: قرضا؛ لئلا يمنوا على الفقراء وأهل الحاجة بما أعطوهم منه؛ لما عرف - جل وعلا - من طبعهم الامتنان عليهم، أو لما يدفع عنهم مؤنة حفظ ذلك إلى وقت حاجتهم من السرقة، والغصب وغير ذلك من أنواع ما يخاف التلف منها، واللَّه أعلم.

(12)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)، قال أهل التأويل: أي: أجر حسن، والله أعلم. وجائز تسميته: كريما؛ لما أن من ناله يصير كريما، أو لما يؤمل ويرجى أن يكون لهم ذلك، والكريم في الشاهد: هو الذي يرجى منه كل خير ويؤمل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) جائز أن يكون قوله: (يَسْعَى نُورُهُمْ) أي: كتبهم التي يعطون في الآخرة، فإنه يعطى كتاب المقربين والسابقين من أمامهم وقدامهم، وكتاب سائر المؤمنين من أيمانهم، وكتاب أهل الشرك من وراء ظهورهم، يؤيده حرف حفصة - رضي اللَّه عنها -: (نورهم يسعى بين أيديهم وفي أيمانهم) كقوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. . .) الآية. وجائز أن يكون نور إيمانهم ودينهم الذي كانوا عليه في الدنيا. وجائز أن يكون نورهم الذي ذكر كناية عن الطريق الذي يسلك فيه السابقون، يرون ما أمامهم، وسائر المؤمنين عن أيمانهم وما سلكوا في الدنيا، وأهل الشرك بشمالهم، وأهل النفاق من ورائهم. وجائز أن يكون قوله: (وَبِأَيْمَانِهِمْ) كناية عن اليمن والبركة؛ إذ إنما بالأيمان ينال اليمن والبركات فسماها بذلك. ويحتمل ما ذكر أهل التأويل: أنه يرفع لهم نور، فيمشون بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) إنما يقال ذلك قبل دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ وهذا يدل أن النور المذكور لهم يكون قبل دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. وقوله: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)؛ لأنه لا هلاك بعده ولا تبعة، ولا انقطاع لذلك. ثم قوله: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) ليس أن يراه هو خاصة لا يرى غيره ذلك؛ بل يرى ذلك جميع المؤمنين؛ فيبطل به قول من جعل التنصيص على الشيء دالا على التخصيص ونفي غيره. وعن قتادة: أنه قال: ذكر لنا أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن، وإلى صنعاء، فدون ذلك، حتى من المؤمنين مؤمن لا يضيء نوره إلى موضع قدميه، وللمؤمنين منازل لأعمالهم ".

(13)

وروي في بعض الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ): ما أفرطوا من أولادهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) منهم من قرأ: (لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)، ومنهم من قرأ مقطوعة من (أنظرت)؛ قال أبو عبيدة: فالاتصال أحب إلينا؛ لأن تأويلها - واللَّه أعلم -: انتظرونا، يقال منه: نظرت فلانا أنظره. وأما القراءة الأخرى؛ فإنها من التأخير؛ يقال منه: أنظرت فلانا أنظره؛ إذا أخرته، ولا أعرف للتأخير هاهنا موضعا. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أنظرته ونظرته، أي: انتظرته، يقال منه: نظر نظرة. ثم الآية دلت على أن أهل النفاق يكونون ببعد من المؤمنين وألا ينتفعوا بنور المؤمنين، ولكن يرون ذلك اليوم من بعد؛ حيث قالوا: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)، ولو كانوا بقرب منهم أو ينتفعون بنورهم، لكانوا لا يطلبون منهم الانتظار لهم، والاقتباس من نورهم، واللَّه أعلم. وقوله: (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) من الناس من يقول: إن هذا هو الاستهزاء الذي ذكر في آية أخرى: أنه يستهزئ بهم، حيث قال: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)، فقوله: (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) هو ذلك الاستهزاء. وقلنا نحن في قوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)، أي: يجزيهم جزاء استهزائهم، الذين استهزءوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالمؤمنين. وجائز أن يكون قوله: (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ) وليس على الأمر بالرجوع من وراء والتماس النور، ولكن على التوبيخ والتعيير، أي: النور إنما يطلب من وراء هذا اليوم؛ أي: من قبل هذا اليوم، لا يطلب فيه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) الآية. جائز أن يكون السور الذي ذكر الذي ضرب بينهم ما ذكر في سورة الأعراف؛ حيث قال: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ)، السور: هو الأعراف التي ذكر أنها تكون حجابا بين أهل النار وأهل الجنة، يرفع ذلك السور بينهم؛ لئلا ينتفعوا بنور المؤمنين. وقوله: (لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ). جائز أن يكون قوله: (بَابٌ) ليس على حقيقة الباب، ولكن الباب كناية عن الطريق والسبيل؛ يقول: هو طريق وسبيل، من يأخذ ذلك السبيل، أفضاه إلى الرحمة، ومن

(14)

سلك ظاهره، أفضاه إلى العذاب. وجائز أن يُفتح من النار إلى الجنة باب؛ فيرون ما حل بهم من العذاب، ويرون أهل النار أهل الجنة على ما هم عليه من النعيم؛ ليزداد لهم حسرة وندامة. أو يكون اطلاعا لا من باب، ولكن من السور والأعراف الذي ذكر، وهو ما قال: قوله تعالى: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)، والاطلاع في الظاهر إنما يكون من مكان عال مرتفع إلى موضع منحدر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) أي: ينادي أهل النفاق المؤمنين ألم نكن معكم قالوا بلى، جائز أن يكون هذا القول منهم (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) تغرير منهم للمسلمين يومئذ كما كانوا يغرونهم في الدنيا، وهو ما أخبر عنهم، يكذبون في الآخرة كما كانوا في الدنيا؛ حيث قال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)، ثم أخبر أنهم هم الكاذبون في حلفهم؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قولهم: (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) يخرج على تغريرهم إياهم. ثم الإشكال والكلام قول المؤمنين: (بَلَى)، وقد علموا أنهم لم يكونوا معهم، فكيف قالوا: بلى؟ فنقول: جائز أن يكون جوابهم خرج لأُولَئِكَ على ما عرفوا من خطابهم ومرادهم، فأجابوهم على ذلك. أو أن يكون قولهم: بلى إن كنتم تقولون بأنا معكم، ولكن لم تكونوا معنا. أو يخرج جوابهم على ظاهر ما يرون من أنفسهم الموافقة دون الحقيقة. وقوله: (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) يخرج على وجوه: أحدها: امتحنتم أنفسكم في الرجوعِ إلى من جعل لكم المنافع والعاقبة، كقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) أي شدة، وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي: أثمتموها. وقوله: (وَتَرَبَّصْتُمْ) يخرج على وجهين: يحتمل تربصتم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سيموت عن قريب، أو أنه يرجع عن الإسلام إلى دين أُولَئِكَ الكفرة. وقوله: (وَارْتَبْتُمْ)، أي: شككتم وإن قام لكم ما يدفع الارتياب والشك عنكم والشبه. وقوله: (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ) يخرج على وجهين: أحدهما: ما ذكرنا من اتباعهم المنافع التي كانوا يتوقعونها فكيفما كان يتبعون غرضهم في ذلك. والثاني: ما تمنت أنفسهم من موت رسول اللَّه وهلاكه، أو عوده إلى دينهم.

(15)

وقوله: (حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ) أي: الأمر بالهلاك، أو يوم القيامة. وقوله: (وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي: غركم عن دين اللَّه الشيطان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15). قرئ بالياء والتاء، وأكثرهم على الياء، معناهما واحد، أي: لا يكون لهم فدية يومئذ، ليس أنه يكون لهم فدية ولا تؤخذ. أو أن يقول على التمثيل، أي: لو كان لهم فدية، لكان لا تقبل منهم، يخبر أن أمر الآخرة على خلاف ما يكون في الدنيا؛ إذ في [الدنيا] ربما يحتال لدفع البلاء بالفداء مرة وبالشفاء ثانيا. وقوله: (مَأْوَاكُمُ النَّارُ)، أي يأوون إليها. وقوله: (مَأْوَاكُمُ النَّارُ)، أي: أولى بكم وأحق. وقوله: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، أي: بئس ما يصيرون إليها. ثم في الآية دلالة نقض قول المعتزلة في تخليد أصحاب الكبائر في النار؛ لأنه تعالى جعل الناس على ثلاث فرق، وأنزلهم منازل ثلاثة: المنافقين، والكافرين كفر تصريح، والمؤمنين، وجعل النار لأهل الكفر وأهل النفاق، ولم يجعلها لغيرهما، وصاحب الكبيرة ليس هو بمنافق ولا كافر عندهم، وكذلك ما قسم اللَّه تعالى الناس أقساما ثلاثة: السابقين، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال هم المكذبون، وأصحاب الكبائر ليسوا بمكذبين عندهم، وهو ما جعل النار إلا للمكذبين؛ ألا ترى أنه قال في آخره: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95). جعل الجنة للمقربين وأصحاب اليمين والنار للمكذبين خاصة، لم يجعلها لغيرهم، فمن جعلها لغيرهم، فهو مخالف لظاهر هذه الآيات التي ذكرنا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)

(وَمَا نَزَلَ) قرئ مخففا ومثقلا، فمن شدد شدد لما سبق من ذكر اللَّه تعالى، ومن خفف، جعل الفعل للحق. ثم الآية تحتمل وجوها: أحدها: ما قال بعض أهل التأويل: إنها نزلت في المنافقين الذين أظهروا الإيمان، وأضمروا الكفر، (أَلَمْ يَأْنِ)، أي: قد أنى للذين آمنوا ظاهرًا وأظهروا الموافقة للمؤمنين (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)، أي: إذا ذكر اللَّه (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)، أي: القرآن إذا يتلى عليهم، أي: يرق قلوبهم وتؤمن به؛ لأنهم كانوا يتربصون برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والدوائر، ويطمعون هلاكه، أمّن اللَّه تعالى المؤمنين من ذلك الخوف وآيس أُولَئِكَ عما تربصوا فيه من نزول الدوائر، فقال: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ظاهرًا (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) والقرآن، وترق لذلك، وتؤمن به، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ). على هذا التأويل: أي: لا تكونوا كأُولَئِكَ الذين تمادوا في الضلال وقساوة القلوب؛ لما طال عليهم الوقت، وتركوا النظر في الكتب. ويحتمل أن يكون الآية في أهل الكتاب الذين كانوا مؤمنين برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث فيقول: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) به من قبل أن يبعث (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) أي كتابهم (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) وهو القرآن أن يؤمنوا به، كما كانوا آمنوا به لما وجدوا نعته في كتابهم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ. . .) الآية. أي: لا تكونوا كالذين كانوا من قبلكم من أهل الكتاب، (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي: طال عليهم أن ينظروا في كتبهم؛ (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) بطول ترك نظرهم فيها، واللَّه أعلم. ويحتمل أن تكون الآية في المؤمنين الذين حققوا الإيمان باللَّه ورسوله، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: (أَلَمْ يَأْنِ)، أي: قد أنى للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم عند ذكر اللَّه بالنظر والتأمل في ذلك؛ فيحملهم ذلك على خشوع قلوبهم عند ذكر اللَّه، ويزداد لهم الإيمان واليقين؛ للنظر فيه والتفكر، وفهم ما فيه، واللَّه أعلم. والثاني: (أَلَمْ يَأْنِ)، أي: قد أنى للذين آمنوا أن تقطع شهواتهم وأمانيهم في الدنيا، وتخشع قلوبهم لذكر اللَّه، (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)، أي: لا تغفلوا عن كتاب الله وذكره ولا تتركوا النظر فيه والتفكر، كالذين غفلوا عما فيه؛ فقست قلوبهم فلا تكونوا

(17)

أنتم كهم؛ فتقسوا قلوبكم كما قست قلوبهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)، أي: كثير من أُولَئِكَ الذين أوتوا الكتاب فاسقون؛ لتركهم النظر في الكتاب. وجائز (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أي: المعاندون، والقليل منهم المقلدون؛ وهو كقوله: (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)، أي: معاندون، وهم الرؤساء والقادة الذين كابروا الرسل وعاندوهم إلا قليل منهم اتبعوهم وقلدوهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17). ذكر هذا ليس على أنهم لم يكونوا علموا أن اللَّه هو يحيي الأرض بعد موتها، بل كانوا عالمين بذلك، لكنه ذكر كما ذكر لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، أي: أشعر قلبك في كل وقت وساعة الربوبية لله تعالى والواحدانية له؛ فعلى هذا يحتمل قوله: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)، أي: أشعروا قلوبكم في كل وقت جعل الألوهية والربوبية لله تعالى، وصرف العبادة إليه، والتنزيه والتبرئة له عما لا يليق به مما يوصف به الخلق؛ إذ علمتم أنه يحيي الأرض بعد موتها، فاعلموا، أنه يمتحنكم بأنواع المحن؛ إذ لا يحتمل إحياء ما ذكر بغير فائدة وتركهم سدى. أو يقول: قد علمتم أن اللَّه تعالى هو يحيي الأرض بعد موتها، وأنتم ترغبون فيما أحياه، وتصيبون منه، وتجتهدون في نيل ذلك وإصابته، فاجتهدوا في إصابة البركات الدائمة في الحياة الباقية. أو يقول: كما علمتم: أنه قادر على إحياء الأرض بعد موتها، فاعلموا أنه قادر على البعث، واللَّه أعلم. وقوله: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) قد ذكرنا فيما تقدم أن حرف " لعل " من الله تعالى يخرج على الإيجاب، لكن يخرج هاهنا على الترجي وإطماع العقل للآيات والفهم لها إذا نظروا فيها وتأملوا أنها آيات من اللَّه تعالى. أو أن يرجع ذلك إلى خاص من الناس لو خرج حرف " لعل " للإيجاب دون الترجي، وهم الذين علم اللَّه تعالى أنهم يعقلون أنها آيات ويؤمنون بها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ ... (18) قرئ مشدد الصاد والدال، ومخفف الصاد، فمن شدده جعله من التصدق، أي: المتصدقين والمتصدقات، فأدغم التاء في الصاد؛ فيصير الْمُصَّدِّقِينَ، مثل: المزمل والمدثر؛ يؤيد ذلك ما ذكر في حرف أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قرأ بالتاء: (إن المتصدقين والمتصدقات).

(19)

ومن خففه، جعلهما من أن تصديق والإيمان. وقوله: (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ). قد ذكرنا تأويله فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) سمى المؤمنين: صديقين، والصديق لا يقال إلا لمن يكثر منه التصديق، وقد يكثر من كل مؤمن التصديق وإن كان ما يأتي به إنما هو شيء واحد نحو إذا صدق اللَّه - صدق رسله فيما أخبروا عن اللَّه تعالى وفيما دعوهم إلى ما دعوا، وبلغوا عن اللَّه إلى الناس، وصدق الخلائق جميعا فيما شهدوا على وحدانية اللَّه تعالى وألوهيته من حيث شهادة الخلقة وشهادة الأخبار في حق المؤمنين، فتصديقه يكثر، وإن كان الكلام في نفسه يقل، وهو كما قلنا لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - في جواز الخطبة بتسبيحة أو تهليلة: إنها كلمة وجيزة، لو فسرت وبسطت، صارت خطبة طويلة، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: إن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فضل باسم الصديق على غيره من الأمة، فإذا استحق غيره من المؤمنين هذا الاسم لم يختص هو بتلك الفضيلة؟ قيل: إن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمي: صديقا وخص به من بين سائر الصحابة والمؤمنين؛ لمعنى اختص به من بينهم، وغيره من المؤمنين سموا: صديقين من بين سائر أهل الأرض جميعا إلا في مقابلته، كهو اختص بهذا الاسم من بين سائرهم إلا في مقابلة النبي وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هذا هو معنى تفضيله، والفضل عند المقابلة يكون. ويحتمل أن يكون ذلك الاختصاص له للاعتقاد والمعاملة جميعا وسائر المؤمنين سموا: صديقين؛ للاعتقاد خاصة، ومن وفي الأمرين جميعا كان أفضل ممن وفي أمرا واحدًا. وقوله: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من الناس. من جعل قوله: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) على الابتداء مقطوعا من قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ)، ومنهم من وصله به: فمن قطع عنه؛ فإنه يقول: الشهداء هم الرسل؛ لقوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)، ثم أخبر أن لهم أجرهم. ومن قال إنه موصول ذهب إلى أن المؤمنين شهداء على الناس؛ كقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ. . .) الآية، سماهم: شهداء على غيرهم من الأمم، واللَّه أعلم.

(20)

ولأهل الاعتزال أدنى تعلق بظاهر هذه الآية؛ وذلك لأنهم يقولون: إن اللَّه تعالى إذا ذكر المؤمنين على الإطلاق، ذكر على أثر ذلك ما وعد لهم من الكرامات والثواب الجزيل، وإذا ذكرهم مع جريمتهم ذكر الوعيد لهم، يستدلون بذكر الوعيد على أثر ذلك على أنه قد خرج من الإيمان، لكن ليس لهم بذلك دليل وإنما ذكر مقابل ما ذكر للمؤمنين من الكرامات للكفار الجحيم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24). وقوله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ). ففي ظاهر ما ذكر من هذه الآية ونحوها من الآيات لأهل الإلحاد طعن عظيم؛ فإنهم يقولون: إن كانت الحياة الدنيا لعبا ولهوا، فلم أنشأ اللَّه تعالى لعبا ولهوا ولا منشئ سواه؟ فلهم موضع الطعن على هذا الوجه، ولهم دعوى التناقض - أيضا - فيه؛ لما ذكر في بعض الآيات، فقال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)، وقال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا)، وقال في هذه الآية وغيرها: (أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ). فنقول: إن الآية تخرج على وجوه: أحدها: على التقديم والتأخير مع الإضمار: كأنه قال: اعلموا أن مثل الحياة الدنيا وزينتها وتفاخرها وتكاثرها ولعبها ولهوها، أي: يتزينون بها ويتفاخرون بالأولاد والأموال، ويتلهون بها ويلعبون - كمثل الغيث أعجب الكفار نباته، ثم يصير ما ذكر حتى لا ينتفع به؛ فعلى ذلك حياة الدنيا، واللَّه أعلم. والثاني: إنما الحياة الدنيا على ما هي عندكم، وعلى ما اتخذتموها، وعلى ما ظننتم: أنه لا بعث ولا حياة بعده -كان إنشاؤها عبثا ولهوا- إذ لو كان على ما ظنوا لم يكن

إنشاؤها إلا للإفناء والإهلاك خاصة، وبناء البناء المحكم للإفناء خاصة عبث وسفه، ليس بحكمة، وهو ما ذكر: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا)، ذلك ظن الذين كفروا، وكان ظنهم أن لا بعث ولا حياة بعده؛ فعلى ما كان ظنهم، كان إنشاؤها لعبا ولهوا، فأما الحياة الدنيا على ما هي عند أهل التوحيد حكمة وحق وصواب، وعلى ما كان عند أهل الإلحاد، فهي سفه وباطل، وقد رد اللَّه عليهم بقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ). وجائز أن يكون معنى قوله: (أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)، أي: لو قوبلت بحياة الآخرة، لكانت عبثا ولهوا؛ لأن الدنيا بنيت على الفناء والانقطاع والزوال عن قريب، والآخرة على الدوام والبقاء، وهو ما ذكر: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى)؛ لأنها باقية، والدنيا فانية. أو يقول: إنما الحياة الدنيا للدنيا خاصة لعب ولهو، أي: من جعل الحياة الدنيا للدنيا خاصة تكون لعبا ولهوا، ومن جعل الحياة الدنيا زادا للآخرة وبلغة إليها، فهي ليست بلعب، وهو ما قال تعالى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)، أخبر أن الإنفاق للدنيا كمثل ريح فيها صر، وقال في النفقة التي تكون في الدنيا لحياة الآخرة: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ. . .) الآية، واللَّه أعلم. وقوله: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ). والإشكال: أنه كيف خص الكفار بعجبهم ظاهر ذلك النبات وقد يعجب النبات لأهل الإيمان؟ فنقول: لأن الكفار يعجبهم ظاهر ذلك النبات وما يرون من النزهة، لا يرون إلى ما ضمن في ذلك النبات وجعل فيه من المنفعة في العاقبة لكن ينظرون إلى ظاهره، وأما المؤمنون إنما يعجبهم ما في ذلك النبات من المنفعة في العاقبة، وإلى ذلك يكون نظرهم لا إلى ظاهره، وهو كما شبه إنفاق الكفرة بالريح التي فيها صر يصيب حرث قوم؛ لما لا يقصدون بإنفاقهم سوى نفس الإنفاق، وشبه نفقة أهل الإيمان بالحبة التي تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة؛ لما كان مقصدهم في الإنفاق عاقبته، لا عين الإنفاق. ويحتمل أن يكون المراد من الكفار الزراع، وبه فسر بعض أهل الأدب؛ وهو كقوله: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ. . .)، فعلى هذا التأويل، رجع إلى الكل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ)، أي: لهَؤُلَاءِ الذين اتخذوا الدنيا لعبا ولهوا، وصيروها تفاخرا وتكاثرا دون أن يتخذوها زادا وبلغة إلى الآخرة.

وقوله: (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ)، فهو للمؤمنين الذين اتخذوا الحياة الدنيا للآخرة، وعقلوا الآيات التي بينها لهم؛ للنظر فيها والتفكر والتأمل فيها، ووضعوها مواضعها، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) هو يخرج على الوجوه التي ذكرنا في قوله: (أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ). قال الإمام الهندي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ): إن الحياة الدنيا وحبها لنفسه وعلى ما أنشئت وجعلت له -حكمة وحق وسرور ليس بغرور، وأما اختيارها وحبها لغيره واستعمالها لغير الذي أنشئت وجعلت- غرور ولعب ولهو؛ لأن من أحب شيئا استكثر منه، وحبسه لنفسه، وحفظه من نقصه وضياعه، واستبقاه لوقت حاجته ويوم فقره؛ فعلى ذلك من جمع الدنيا لنفسه وأحبها واستعملها فيما أذن له، وهو أن يجعلها زادا للآخرة وبلغة إليها، فإذا علم ذلك استكثر منها عند اللَّه ليوم فاقته، فمن أحبها واختارها لهذا، فليس بغرور، ولا لعب، بل سرور وبهجة، ومن طلبها لغيره واستعملها في غير ما أنشئت، كان غرورا ولعبا، على ما ذكر في قوله: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) على ما يختارون هم ويحبونها؛ وذلك أن اللَّه تعالى أنشأ لنا هذه النعم؛ حيث قال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)، يجب أن ينظر إلى ذلك بالتعظيم لها والإجلال، وليس الاستخفاف والهوان؛ ألا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو أكرم أحدًا بكرامة وأهداه بهدية، ثم علم منه الاستخفاف بها؛ فإنه يسلب منه هديته ويستحقره؛ فعلى ذلك يجب أن نتلقي نعمة اللَّه تعالى بالتعظيم والتبجيل والقبول الحسن، لا على الاستخفاف بها والإهانة. ثم الناس بعد هذا رجلان: رجل يرغب في نعمة الدنيا وجمعها، وجعلها عند اللَّه ذخرًا وزادا لوقت فقره وحاجته. ورجل زهد فيها؛ خوفا من التقصير في عبادة اللَّه تعالى في حقوقه أن يشتغل بها، ويمنعه ذلك عن أداء حقوقه والاقتداء برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما أمره، وله أسوة حسنة بنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وأما من ترك الدنيا وما أنشأ اللَّه تعالى فيها من النعم؛ استخفافا بها وهوانا، فهو الجاهل المستخف بنعم اللَّه تعالى الغافل عما أنشئت له الدنيا وما فيها، فهذا والذي

(21)

طلب الدنيا للدنيا مذمومان، والذي طلبها لنفسه زادا للآخرة والذي زهد فيها محمودان، واللَّه أعلم. وعلى ذلك يخرج " إن حب الدنيا رأس كل خطيئة ": أن من أحبها لغيره ولغير الذي جعلت له تكون رأس كل خطيئة، ومن أحبها لنفسه، واتخذها زادا للآخرة، فهي رأس كل حسنة وطاعة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) يقول: اجعلوا المسابقة فيما بينكم في مغفرة ربكم إلى الجنة، لا إلى جمع الأموال والأولاد، وكان أهل الكفر جعلوا المسابقة في الدنيا في جمع الأموال والتفاخر والتكاثر بها، فيقول لأهل الإيمان: اجعلوا أنتم المسابقة في طلب مغفرة اللَّه وجنته، واللَّه أعلم. ويحتمل تسبقون آجالكم بأعمالكم التي توجب لكم المغفرة واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. . .) الآية، ذكر سعة الجنة؛ لأن العرض إنما يذكر لسعة تكون للشيء، وقد ذكر سعتها فيها؛ حيث قال: (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ)، وقال - تعالى -: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)، ونحو ذلك؛ ذكر ما فيها من السعة وسعتها، واللَّه أعلم. ثم ذكر عرضها كعرض السماء والأرض، وهو يخرج على التحديد والتقدير: أن عرضها مثل عرض السماوات والأرض، لكن لما لا شيء أوسع في أوهام الخلق مما ذكر، وهو كقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)، ذكر دوامهما؛ لما لا شيء أبقى وأدوم منهما في الأذهان، وإلا كانتا تفنيان. ويحتمل أن يقول: (عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، أي: تصير السماوات والأرض جميعا جنة لهم. ثم وصف الجنة بالسعة، ووصف النار بالضيق، حيث قال: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)، وذلك أنه ليس في فضل النار على قدر المجعول الذي يصل إلى المعذب بها فائدة فلذلك تضيقت، ولفضل الجنة على قدر الحاجة لذة وسرور ومنفعة؛ فوسعت لذلك، واللَّه أعلم. ثم أخبر أنها أعدت للذين آمنوا باللَّه ورسوله، والإيمان باللَّه - تعالى -: هو أن يصدق

(22)

كل شيء يشهد على وحدانيته وألوهيته، والإيمان برسله: هو أن يصدقهم فيما أخبروا عن اللَّه تعالى، وكل صاحب كبيرة مصدق بالذي ذكرنا، فهو مؤمن؛ وذلك على المعتزلة؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)؛ دلت الآية على أن ما يعطي من الثواب لعبيده فضل منه وإن سماه: جزاء، وأجرا؛ لأنه قد سبق منه إليهم من الإحسان والنعم ما يصير تلك الأفعال -وإن كثرت- شكرا لأدنى نعمه، وإن طال عمره، فأنى يستوجب الشكر والثواب على تلك الأعمال ثوابا وجزاء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) أي: ذكرها في كتاب، كان ذلك الكتاب قبل أن نبرأ المصائب، أي: نخلقها؛ إذ لا يحتمل كون أنفس تلك المصائب في الكتاب قبل خلقها؛ فدل على كون ذكر المصائب فيه، وهو كقوله: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)، وليست الشجرة في القرآن، ولكن ذكرها فيه من ذلك ما روي في الخبر أنه " نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو "، أي: نهى أن يسافر بالذي كتب فيه القرآن، وإلا لم يكن عين القرآن في ذلك المصحف؛ فعلى ذلك ما ذكر من المصائب، وذلك يخرج على المجاز دون الحقيقة، واللَّه أعلم. ثم اختلف في قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا): منهم من قال: من قبل أن نخلق تلك المصائب. ومنهم من قال: من قبل أن نبرأ تلك الأنفس والأرض؛ والأول أصح. وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) يخرج على وجهين: أي: كثرة ما يصيب الخلق في أنفسهم وأموالهم يسير على اللَّه، غير شديد عليه، ليس كملوك الأرض؛ لأن ما يصيب حشمهم وخدمهم من المصائب يشتد عليهم؛ لما أن قوامهم بحشمهم وخدمهم، ولهم منافع فيهم، واللَّه يتعالى بذاته، ليس له في بقاء الخلق منفعة، ولا في ذهابهم وفنائهم ضرر، فذلك يكون عليه يسير. والثاني: أن كتابه لم يكن بعد ولم يخلق، وعلمه قبل كونه على اللَّه يسير هين، يخبر أنه عالم في الأزل بكون الأشياء في أوقاتها، لا يصعب عليه، ولا يشتد العلم بها قبل

(23)

كونها وقبل ظهورها كما يشتد على الخلق ويصعب عليهم، واللَّه أعلم. وفي الآية دلالة خلق أفعال العباد؛ لأن اسم المصائب يقع على ما للخلق فيه صنع كما يقع على ما لا صنع لهم فيه، ثم أضاف اللَّه تعالى خلقها إلى نفسه مطلقا بقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)، دل أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ ألا ترى أن اللَّه تعالى سمى ما يصيب بأيدي الخلق: مصيبة، فقال: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)، وقال في آية أخرى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ. . .) الآية. قالت المعتزلة: يقال: أصابنا كذا فيما لا صنع للخلق في ذلك، فأما ما فيه، صنع للخلق يقال: " أصبنا ". لكن هذا فاسد؛ فإنه جائز أن يقال في كل ما أصابك: أصبته، وما أصبته أصابك؛ لأنه إذا أصابك شيء فقد أصبته، وذلك جائز في اللغة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) جعل اللَّه تعالى في طباع الخلق الحزن والأسى على ما فاتهم من النعمة وما ينزل بهم من البلاء والشدة، والسعة والفرح والسرور بما ينالون من النعمة، هذا هو المنشأ والمجعول في طباعهم. ثم يخرج تأويل الآية بالنهي عن الأسى والحزن بفوت النعمة، وعن الفرح والسرور عند إصابتها على وجوه: أحدها: يقول - واللَّه أعلم - لكيلا تستكثروا من الأسى والحزن على ما فاتكم، فيحملكم ذلك على الشكوى من اللَّه تعالى، (وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) أي: لا تستكثروا من الفرح والسرور حتى يحملكم ذلك على الطغيان والعدوان، كما ذكر في الخبر: " أعوذ باللَّه من الفقر المنسي والغناء المطغي "، واللَّه أعلم. والثاني: يقول: لكيلا يشغلكم الأسى والحزن على ما فاتكم من النعمة حتى يفوتكم أضعاف ذلك، وهو ما وعد لهم من الثواب إذا صبروا؛ كقوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، ثم قال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، يقول: لا يشغلكم الجزع وترك الصبر عمَّا وعد لكم من الصلاة والرحمة والاهتداء؛ ولذلك الجزع في المصيبة أعظم المصيبتين، ويقول - أيضا -: ولا يشغلكم شدة الفرح والسرور بما

(24)

آتاكم عن الشكر حتى تفوتكم الزيادة على ذلك؛ لأن اللَّه تعالى وعد الزيادة على النعمة إذا شكر بقوله: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)، واللَّه أعلم. والثالث: يقول: لا تأسوا على ما فاتكم، ولكن انظروا إلى ما كان منكم من الجريمة حتى فاتكم ذلك؛ حيث قال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، يقول: لا تأسوا على ما فاتكم، ولكن انظروا إلى تفريطكم في جنب اللَّه، وارجعوا عن ذلك؛ وكذلك يقول: لا تفرحوا بما آتاكم، ولكن انظروا إلى إحسان اللَّه الذي كان إليكم، واللَّه أعلم. ويحتمل: أن يقول: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)، ولكن انظروا إلى ما امتحنكم به وابتلاكم؛ إذ هو امتحن بعضا بالشدائد والبلايا، وأمرهم بالصبر على ذلك، وبعضا بالسعة والرخاء، وأمرهم بالشكر على ذلك، فاصبروا ولا تجزعوا إن فاتكم النعم وأصابتكم المصائب، واشكروا له، ولا تفرحوا عند النعم فرحا يكون بطرا وأشرا. أو يقول: لا تأسوا على ما فاتكم؛ فإن الذي أخذ من النعم لم يكن في الحقيقة لكم، إنما هو لغيركم، ومن كان عنده مال لآخر فأخذه لا يجب أن يحزن على ذلك، ولا تفرحوا بما آتاكم، فإن النعم التي آتاكم يجوز أن تكون لغيركم لا لكم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) قرئ ممدودًا ومقصورا، فمن مده، رد الفعل إلى اللَّه تعالى، ومن قصره جعل الفعل لذلك الشيء؛ لموافقة قوله: (عَلَى مَا فَاتَكُمْ)، ولم يقل: أفاتكم. وقوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، ولكن يحب ضد ذلك وخلاف المختال المتكبر، فيحب المتواضع الخاضع. والفخور هو الذي يفتخر بما أنعم اللَّه عليه على الناس، فيحب الذي يشكره على نعمه بالتوسيع على عباده. وجائز أن يكون هذا كله وصف الكفار؛ كأنه يقول: لا يحب كل كفار؛ كقوله: (صَبَّارٍ شَكُورٍ)، أي: يحب المؤمن؛ لأن المؤمن يكون صبارا على المصائب، شكورا لنعمائه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) جائز أن يكون هذا صلة قوله: (لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) تفسيرا له. وجائز أن يكون على الابتداء، وهو كقوله: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ

كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ)، كأن قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) مفصول من الأول، وكذلك هذا. ثم قوله: (يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) يحتمل ما ذكر من بخلهم في آية أخرى، فقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) بخلوا بالإنفاق على المؤمنين، أو بخلوا بالإنفاق على أتباعهم؛ ليبقى الكرم والرياسة عليهم. وجائز أن يكون ما ذكره بعض أهل التأويل أن ذلك نزل في الرؤساء من أهل الكتاب؛ بخلوا ببيان صفة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - التي كانت في كتبهم، وأمروا أمثالهم وأشكالهم بكتمان ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، أي: ومن يعرض عن ذلك فاللَّه هو الغني الحميد؛ الغني عن عبادتكم وعما دعاكم إليه؛ إذ لم يدعكم إلى ما دعاكم لحاجة نفسه؛ إذ هو الغني بذاته، الحميد بفعاله؛ أي: بما علم منكم من الرد لرسالته لا يخرج فعله من أن يكون محمودا، ولا يصير لفعله إلى أعدائه بما صنع غير حميد، واللَّه أعلم. ثم في قوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) وجوه أيضا: أحدها: أن المصائب ربما تجري على أيدي الناس وتصيبهم منهم، فقال: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) ما جرى ذلك على أيدي الناس؛ لأنه لا يزول منهم؛ فيحملهم ذلك على العداوة والبغضاء، ولكن يرون ذلك مكتوبا عليهم من اللَّه تعالى، وكذلك ما ذكر فيما يؤتيهم من النعم على أيدي الخلق، فلا يزال ذلك منهم؛ فيشغلهم عن القيام بشكر الرب - جل وعلا - ولكن يرونه من فضل اللَّه تعالى ومنه فيشكرونه. والثاني: يحتمل: أن يكون النهي عن الحزن أمرا بالفرح؛ أي: لا تأسوا على ما فاتكم، ولكن افرحوا بالعمل الذي يأتيكم؛ فإنهم لو لم يفتهم لكان يشغلهم عن القيام بحقوق اللَّه تعالى وأداء ما عليهم من الفرائض، واللَّه أعلم. وفي قوله - تعالى -: (وَلَا تَفْرَحُوا) أمر بالحزن، وقد يذكر الشيء ويراد به إثبات ضده؛ كقوله تعالى: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)، أي: خسرت تجارتهم، وينبغي أن تتلقى نعم اللَّه تعالى على وجهين: أحدهما: بحسن القبول لها والتعظيم والشكر للمنعم؛ إذ أغناه بذلك عن النظر لما في أيدي الناس ورفع الحاجة، وذلك من أعظم النعم. والثاني: يخاف؛ لما لعله فعل ذلك به استدراجا وامتحانا؛ إذ الأموال ربما تكون فتنة

(25)

وبلاء أو تشغله عن أداء ما عليه إن كان ذلك سبب استدراجه وبلائه، فأخذ منه. أو لما يصل بذهابه إلى أداء الفرائض من العبادات، وكان ذلك يمنعه. ويحزن من وجهين أيضا: أحدهما: لما لعل قوته يحوجه إلى ما في أيدي الناس، وكان غنيا عنهم. أو لما لعل ذلك عقوبة لتفريط كان منه؛ كقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، واللَّه أعلم. ثم أضاف ما نالوا من النعم إلى نفسه حيث قال: (وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)، ولم يضف ما فاتهم إلى نفسه، وهو كما قال في آية أخرى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)، وهو ما ذكرنا أنه جائز أن يكون ما يفوتهم من النعم باكتساب وسبب كان منهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) يحتمل وجهين: أحدهما: أي: أرسلنا بما يبين ويوضح أنهم رسل اللَّه، وأن تلك الآيات التي أتوا بها من عند اللَّه لا باختراع من عندهم؛ لما هي خارجة عن وسع البشر. والثاني: ما يبين صدق الرسل في خبرهم، وعدلهم في حكمهم، أو يبين ما لهم وما عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، وقال في آية أخرى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ)، ثم يحتمل (وَالْمِيزَانَ): الموازين المعروفة التي بها تستوفى الحقوق فيما بين الناس، وبها يوفَّى وبها تحفظ حقوق الأموال التي بينهم وحدودها. فإن كان المراد هذا فكأنه قال: وأنزلنا معهم الكتاب الذي به يحفظ الدِّين وحدوده، والميزان الذي به يحفظ حدود الأموال، لا يزاد على الحق، ولا ينقص منه، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون المراد بالميزان: الحكمة؛ إذ ذكره على إثر الكتاب؛ كقوله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)؛ كأنه يقول - واللَّه أعلم -: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)؛ فيكون الكتاب ما يحفظ حدود الأفعال والأقوال، وتكون الحكمة ما يقوم الناس بها بالقسط. أو أن تكون الحكمة ما أودع في الكتاب من المعاني. وقال الحسن في قوله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ): إنهما واحد. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) يخرج على وجهين: أحدهما: أنزل ما ذكر من الكتاب والميزان؛ ليلزم الناس القيام بالعدل، وقد ألزمهم ذلك بما أنزل عليهم من الكتاب والميزان وبين الحدود. والثاني: أنزل ما ذكر؛ ليقوم الناس بالقسط؛ على وجود القيام بالعدل. فإن كان المراد منه الوجود فهو راجع إلى خاص من الناس، وإن كان على الإلزام فهو راجع إلى الكل وهو كقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، فإن كان على وجود العبادة فهو يرجع إلى خاص من الناس، وإن كان المراد بقوله: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، أي: لأمرهم وإلزامهم فهو للكل؛ فإنه قد خلقهم ليأمرهم ويلزمهم، وقد أمرهم وألزمهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، خص اللَّه تعالى ذكر الحديد بما جعل فيه من البأس من بين غيره من الأشياء، وإن كان يشاركه غيره في احتمال الأذى والضرر به مما يطعن به فينفذ ويضرب به، ويستعمل في الحروب والقتال؛ لأمرين: أحدهما: أنه هو الكامل في الظفر والنفاذ والجرح، وإن كان قد يتحقق من غيره؛ ولذلك اعتاده الناس آلة القتال والحرب؛ فيكون البأس فيه أشد. والثاني: لما يتحصن به باتخاذ الدرع؛ لقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ)؛ لهذا اختص الحديد، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) جعل اللَّه تعالى في الحديد منافع ليست تلك في غيره، وهو ما يتخذ منه ما يحرز به ويخاط من الخفاف وغيره، مما لا يحتمل هذا النوع لغيره، وكذلك حوائج الخلق لا تقوم في سائر أنواع الحرف والأعمال من التجارة والزراعة والبناء وغيرها إلا به. وفيه خصوصية في حق المحن، وهو ما يظهر عند فرض القتال صدق إيمان المحقق ونفاق المرتاب؛ بقوله: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً)، ونحو ذلك، فظهر الصادق من الكاذب في الحروب، وإنما ذلك

بالحديد؛ فصار مخصوصا في حق المحنة وغيرها من المنافع، حتى لا يلتئم أمر من أمور المعاش إلا به؛ فلذلك خص، واللَّه أعلم. وقال أهل التأويل: أنزل من السماء المطرقة والفلاة والكلبتين. وعندنا ليس على حقيقة الإنزال من السماء كذلك. ومعنى قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ)، أي: خلقنا؛ كقوله: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)، أي: خلقها، وقوله تعالى: (أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ)، ومعلوم أنه لم ينزل اللباس على ما هو عليه؛ ولكن معناه: خلقه لباسا لهم؛ كذلك هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) يحتمل (مَنْ يَنْصُرُهُ) أي: دينه أو أراد بإضافة النصر إلى نفسه نصر رسوله مُحَمَّد وسائر رسله عليهم الصلاة والسلام. ثم نصر الرسل مرة يكون بتبليغ ما أمروا إلى قومهم، ينصرونهم، ويعينونهم على ذلك، ونصر دينه إظهاره في الخلق والذب عن أهله والمعونة لهم؛ هذا يحتمل، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، واللَّه أعلم. وجائِز أن يكون المراد من إضافة النصر إليه نصر أنفسهم ودينهم، إذ هم المنتفعون بذلك، ولهم يحصل ذلك النفع وتلك المعونة، لكنه بفضله وكرمه، سمى ذلك: نصره، وأضافه إلى نفسه، على ما جعل لأعمالهم التي يعملونها لأنفسهم ثوابا، وذكر لهم على ذلك أجرا، كأنهم عاملون له، وهم المنتفعون بها، المحتاجون إليها، فعلى ذلك جائز أن يكون ما عملوا لأنفسهم سماه: نصرا له وإن كان ذلك النصر لهم، وأنه ناصر الكل؛ حيث قال: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ)، أخبر أنه إذا نصرهم لا غالب لهم سواه، وإذا خذلهم لا ناصر لهم دونه، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وجل -: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) يخرج على وجهين: أحدهما: ليعلم من قد علم أنه ينصر: ناصرًا وليعلم من قد علم بالغيب أنه يكون كائنا شاهدا، والتغيير على المعلوم لا على العلم. والثاني: يريد بالعلم المعلوم، وذلك جائز في اللغة، ذكر العلم والفعل على إرادة المعلوم والمفعول: نحو ما يقال: الصلاة أمر اللَّه، أي: بأمر اللَّه؛ لأن الصلاة لا تكون أمره. وقوله - عَزَّ وجل -: (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ذكر هذا؛ ليعلم أنه لم يأمر فيما أمرهم من القتال والنصر لحاجة نفسه، ولا استعملهم فيما استعمل من النصر والمعونة لنفسه، ولا

(26)

أن يكتسب بذلك العز لنفسه؛ حيث أخبر أنه قوي بنفسه عزيز بذاته، ولكن أمرهم بما أمر، واستعملهم فيما استعمل؛ لنصر أنفسهم ولقوتهم، واللَّه أعلم. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) وإنما ذكر نوحا وإبراهيم - واللَّه أعلم - لما أخبر أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب؛ وإلا قد ذكر الرسل بجملتهم في قوله تعالى؛ (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ)؛ فدخل نوح وإبراهيم - عليهما السلام - في قوله: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ)، ثم ذكر أن منهم من اهتدى -أي: من قومهم- وكثير منهم فاسقون بقوله: (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)، يخبر رسوله عليه الصلاة والسلام أنه قد كان في قومهم من اتبعهم؛ فصاروا مهتدين، ومنهم من ترك اتباعهم، وخرجوا من أمر اللَّه؛ فصاروا فاسقين، يصبره، ويسكن قلبه على ما كان في قوم من تقدم من الرسل من المجيبين لرسله والتاركين للإجابة كقومك، أي: لست أنت بأول من كذب ورد قوله؛ تعنتا وعنادا، واللَّه الهادي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) أخبر أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب، وبعث منهم رسلا. ذكر في الآية الأولى أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب، ولم يذكر الرسالة، وذكر في هذه الآية الرسالة فيهم وفي ذريتهم، أي: أرسلنا رسولا على أثر رسول، وأتبعنا بعضهم بعضا: من قفا يقفو. ثم ذكر أنه قفى بعيسى ابن مريم؛ لأن عيسى - عليه السلام - من أولاد إسحاق - عليه السلام - وبعث محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بعد، وهو من ولد إسماعيل، عليه السلام. وقال بعض أهل التأويل: وقفينا أي أتبعنا، ويقال: قفيت فلانا، أي: عينته وسميته، وقفوته أقفوه قفوا وقفيا، واقتفيت به، أي: لزمته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)، وصف اللَّه تعالى الذين اتبعوا الرسل وآمنوا بهم بالرحمة والرأفة فيما بينهم، وهو كما ذكر في آية آخرى: (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)، وقال في آية أخرى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، وقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، ونحو ذلك؛ وذلك لأن السبب الذي جمعهم واحد، وهو التوحيد والإسلام.

قيل: كيف وقع بينهم من العداوة والبغضاء ما وقع وسبب الجمع قائم، حتى استحل بعضهم قتال بعض من نحو الخوارج والمعتزلة؟ قيل: إنما وقع ذلك فيما بينهم وإن كان سبب الجمع قائما؛ لما كانت تلك الألفة والرأفة بلطف من اللَّه تعالى، وقد زال ذلك اللطف وارتفع، وحدث بينهم ما حدث. أو نقول: إن الخوارج قد أحدثوا من أنفسهم أشياء حتى سموا المسلمين كفرة بما ارتكبوا الكبائر، حتى نصبوا القتال والحرب معهم، وكذلك المعتزلة سموا أصحاب الكبائر: فسقة وفجرة ومنزلتهم بين الكفر والإيمان ومن سمى آخر: كافرا أو فاسقا، فلا شك أن يحدث بينهما عداوة وتباغض، فما حدث بيننا وبينهم من العداوة بتسميتهم إيانا فسقة وفجرة وكفرة بارتكاب الكبائر، وإن كان السبب الذي جمعهم قائما عندنا، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ. . .) الآية، ذكر في القصة أن في الفترة التي كانت بين عيسى ومُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - كان من بني إسرائيل ملوك غيروا التوراة والإنجيل، وبقي منهم أناس مؤمنون بعيسى - عليه السلام - ويعملون بما في الكتب، فهم هَؤُلَاءِ الملوك أن يقتلوهم لإبائهم اتباعهم والعود إلى مذهبهم، فخرجوا من بينهم، فترهبوا؛ رجاء أن يتخلصوا منهم، فذلك (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)، أي: فرضنا عليهم تلك الرهبانية، ولم نأمرهم بها، ولكن فرض عليهم وكتب في الجملة أن يطلبوا رضوان اللَّه فابتدعوا تلك الرهبانية؛ رجاء أن يكون فيها رضوان اللَّه، واللَّه أعلم. قال: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)، أخبر أنهم ابتدعوا شيئا لم يكتب عليهم، ثم ذكر أنهم لم يرعوه حق رعايته، ذمهم، لتركهم الرعاية لما ابتدعوه، ففيه دلالة أن من افتتح أمرًا لم يفرض عليه من صلاة أو صوم أو نحو ذلك، ثم لم يقم بوفائه وإتمامه، لحقه ذم كما لحق هَؤُلَاءِ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أخبر أن الذين آمنوا وثبتوا على الإيمان أنه يؤتيهم أجرهم، أي يوجب لهم أجرهم، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)، أي: كافرون. كذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وكثير منهم كافرون). وذكر أن بعضا بعدما ترهبوا اشتد عليهم الترهب؛ فعادوا، ورجعوا، ودخلوا في دين

(28)

أُولَئِكَ الملوك، واللَّه أعلم. قَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَرَهْبَانِيَّةً): أي: العبادة، يعني: الخوف. و (ابْتَدَعُوهَا) الابتداع أن تفعل شيئا لم يفعل قبلك، يقال منه: أبدعت، وابتدعت، وبدعت أيضا. وقيل: الرهبانية اسم مبني من الرهبة، لما فرط فيه وقد نهى اللَّه عنه بقوله: (لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)، ويقال: دين اللَّه بين المقصر والغالي. وقوله: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)، أي: ما أمرناهم بها، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) يقول بعض أهل التأويل: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا بعيسى ابن مريم آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ولكن هذا ضعيف؛ لأن الإيمان برسول من الرسل إيمان بجميع الرسل عليهم السلام. وتأويل الآية: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا بالرسل جملة على غير الإشارة والتفسير، آمنوا برسول اللَّه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الإشارة به؛ لأن الإيمان بالرسل على غير الإشارة أمر سهل وإنَّمَا يصعب الإيمان به ويشتد بالإشارة إلى واحد؛ لأنه لما آمن بالمشار إليه، لزمه اتباع أمره، ونهيه، ولزمه موالاة من والاه واتبعه، ويلزمه معاداة من عاداه وخالفه في أمره ونهيه وترك اتباعه، وإن كان له أبناء وآباء، وذو إحسان، يجب أن يكون أحب الناس إليه وأقرب وأبر، فهذه معاملة الرسول الذي آمن به على الإشارة إليه وأنها تشتد في الطلب. وأما عند الإجمال والإرسال فأمر سهل إنما فيه تصديق كل صادق وتكذيب كل كاذب، وكل الناس قد اعتقدوا أصل تصديق الصادق وتكذيب الكاذب، وليس في الإجمال والإرسال، إلا ذلك، وأما عند التعيين يوجد الامتحان، وبه يظهر نفاق المنافقين وتحقيق المؤمنين المحققين، وذلك قوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ. وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ)، ظهر نفاقهم بما أمروا بالجهاد والخروج معه على الإشارة، وكقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)، وقد وعدوا في الجملة أنه لو أعطاهم كذا من فضله لنصدقن، فلما أوتوا ذلك وأمروا بإخراجه أبوا إخراج ذلك عند الإشارة إليه؛ فعلى ذلك جائز أن يكون تأويله: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا

بالرسل جملة، آمنوا بهذا الرسول المشار إليه؛ لما يصعب الأمر، ولما يلزم في ذلك معاداة من خالفه وترك اتباعه وإن كان أقرب الخلائق إليه، وكذلك عامل أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أقاربهم وأرحامهم لما آمنوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصار عندهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أحب إليهم من أنفسهم وآبائهم وأولادهم، وعادوا جميع أقاربهم الذين خالفوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتركوا اتباعه، وفي ذلك آية عظيمة؛ ولذلك فضل إيمان من آمن في أول خروجه عن إيمان من تأخر منهم عن ذلك الوقت، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ): قوله: (يُؤْتِكُمْ)، أي: يوجب لكم (كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي؛ أجرين: أجر الإيمان بالرسل كلهم على الإجمال، وأجر الإيمان بالرسل على الإشارة والتفصيل؛ ذكر هاهنا (كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)، وقال في آية أخرى: (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا)، يحتمل قوله: (كِفْلَيْنِ): مرتين وقوله: (مَرَّتَيْنِ): كفلين؛ فيكون أحدهما تفسيرًا للآخر. ثم ذكر هاهنا الأجر لهم من رحمته، وذكر هنالك الأجر مطلقا؛ ليعلم أن ما ذكر لأعمالهم من الأجر إنما هو فضل منه ورحمة لا استحقاق على ما ذكرنا، واللَّه الموفق. ثم يحتمل ما ذكر من الأجر مرتين يكون مرة في الدنيا، والأخرى في الآخرة كقوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) الآية، وقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون ما ذكر من الأجر مرتين يكون وعدا في الآخرة، ويكون قوله: (مَرَّتَيْنِ) أي: كفلين، أي: ضعفين، كقوله: (يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ). ثم قوله: (كِفْلَيْنِ) قال أكثر أهل التأويل: أي: أجرين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حظين، ونصيبين. وجائز أن يكون سماه: كفلا؛ لأنه كفله؛ ألا ترى أن ذا الكفل ذكر إنما سمي به؛ لأنه كان يكفل لفلان، فعلى ذلك جائز تسميته هذا كفلا؛ لأنه يكفل به، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: النور كناية عما يبصر به ويتضح، والمشي كناية عن الأمور، يقول - والله أعلم -: يجعل ما تبصرون به السبيل، ويتضح لكم الأمور، ويزول عنكم الشبه؛ فيكون

(29)

المشي كناية عن الأمور، والنور كناية عن البصر، واللَّه أعلم، وهو كقوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ)، أي: لا سواء، وهو كناية عما ذكرنا ليس بتصريح. والثاني: على حقيقة إرادة المشي، وحقيقة النور، وذلك يكون في الآخرة، كقوله: (يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا. . .) الآية. وقال أهل التأويل: النور هاهنا القرآن، أي: أعطاكم قرآنا يفضي بكم إلى سبيل الخير، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) الغفران من الستر، كأنه يقول: يستر علكيم مساويكم بينكم؛ لأن ذكر المساوي ينقصهم النعم، ويحملهم على الحياء من ربهم. وقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، أي: يرحمهم، ويخلدهم في جنته. وقوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) أجمع أهل التأويل واللغة أن حرف " لا " زيادة هاهنا وصلة، أي: ليعلم أهل الكتاب، وقد يزاد في الكلام حرف " لا " ويسقط بحق الصلة، يعرف ذلك أهل الحكمة والفقه؛ كقوله تعالى: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)، ليس يبين لنا أن نضل، ولكن يبين لنا لنعلم ونهتدي، فعرف الحكماء والفقهاء أن كلمة " لا " أسقطت هاهنا؛ فعلى ذلك عرفوا أن حرف " لا " هاهنا في قوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) زيادة، معناه: ليعلم أهل الكتاب: أن لا يقدرون على شيء من فضل اللَّه. ثم لا يحتمل أن يكون ذكر قوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) وعلى غير تقدم قول كان منهم حتى خرج هذا جوابا لهم عن ذلك؛ ولكن يذكر شيئا يشبه أن يكون الذي ذكر هو جواب ذلك الذي كان منهم، وهو أنهم كانوا أهل كتاب وأهل علم بالكتاب، يرون لأنفسهم فضلا على غيرهم وخصوصية ليست لغيرهم عندهم، فلما بعث اللَّه تعالى محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رسولا إليهم وإلى الناس كافة، وأنزل عليه كتابا، وهو أمين عندهم، وذكر في كتابه ما كان في كتبهم، وأمرهم باتباعه والانقياد له والطاعة، وأحوجهم جميعا إليه وإلى ما في كتابه، أنكروا فضل اللَّه عليه وإحسانه إليه، فعند ذلك قال: (يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)، أي: يفضل من شاء على من يشاء، ليس ذلك إليهم. ثم في قوله تعالى: (يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) دلالة نقض قول المعتزلة في أن اللَّه تعالى قد أعطى كل شيء ما يقدر على الوصول إلى جميع فضائله وإحسانه، وقد أخبر (يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، والمعتزلة

يقولون، بل يقدرون فهذا خلاف لظاهر الآية، واللَّه أعلم. وفي قوله: (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) - أيضًا - دلالة نقض قول المعتزلة من جهة أخرى، وهو أنه ذكر المشيئة فيما هو حقه فضل وما هو حقه عدل، حيث قال. (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)، ولم يذكر المشيئة فيما هو حقه عدل، وما هو ظلم وجور، بل أطلق القول في ذلك، فقال: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، وقال: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ)، وقال: (لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، وقال: (لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا)، وغير ذلك من الآيات نفى أن يلحق أحدا منه الظلم والجور؛ ليعلم أن فعل الهدى منه يصل إلى من هداه وأرشده، والإضلال منه عدل، وكذلك قال: (يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، أي: من نال الهدى والرشد إنما ناله بفضله ورحمته، ومن ضل فذلك عدل منه؛ ولذلك قال: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ)، واللَّه الهادي. * * *

سورة المجادلة

سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ وهي مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4). قوله - عزوجل -: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) قال جماعة من أهل التفسير: إنها نزلت في أوس بن الصامت -أخي عبادة بن الصامت- وامرأته، غير أنهم اختلفوا في اسم امرأته. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان اسمها خولة. وعن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها كانت جميلة. وقَالَ بَعْضُهُمْ بأنها كانت تسمى: خويلة على تصغير خولة. وروي في بعض الروايات أنه كان سبب هذا القول من أوس لزوجته لما دعاها ليلة إلى فراشه، وكانت امرأتُهُ بحيث لا يحل له التمتع بها؛ فأبت عليه، وأرادت أن تخرج من البيت؛ فقال لها: " إن خرجت من البيت فأنت عليَّ كظهر أمي "، فخرجت، فلما أصبحت قال لها زوجها: ما أراك إلا قد حرمت عليَّ، قالت: واللَّه ما ذكرت لي طلاقا، قال: فَأْتِي رسولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واسأليه، فإني أستحي أن أسأله عن هذا، فأتت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأخبرته، فنزلت فيهما هذه الآية. وروي في بعض الأخبار أن أول من ظاهر من امرأته أوس، قال: وكان به لمم، فقال في بعض ضجراته ذلك القول، وهذا يرويه مُحَمَّد بن كعب القرظي، لكنه لا يحتمل أن يكون أراد باللمم الجنون؛ لأن المجنون لو طلق امرأته لا يقع الطلاق فضلا أن يكون ظهاره ظهارا.

وتأويل قوله: " وكان به لمم "، أي: فضل غضب وشدة؛ فكأنه لم يكن به حلم، ثم اختلفت الروايات في شأنها وشأن زوجها: منهم من روى -وهو مُحَمَّد بن كعب-: أنها أتت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقالت: إن أوسا أبو ولدي، وابن عمي، وأحب الناس إليَّ، وقال كليمة؛ والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، قال: أنت عليَّ كظهر أمي. فقال لها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه " قالت: يا رسول اللَّه، لا تقل ذاك ما ذكر طلاقًا، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، وكررت المرأة ذلك، ويرد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم قالت: " اللهم إني أشكو إليك شدة وجدي به، وما يشق علي من فراقه، اللهم أنزل على نبيك، فأنزل الله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ. . .) إلى قوله: (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا). وفي بعض الأخبار رواها الكلبي: أنها أتت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول اللَّه، إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني يوم تزوجني وأنا شابة، ذات أهل كثير ومال كثير، فأكل شبابي حتى إذا كبرت عنده سني، وذهب أهلي، وتفرق مالي، وضعفت - جعلني عليه كظهر أمه، ثم تركني إلى غير شيء، وقد ندم وندمت؛ فهل من شيء يجمعني وإياه يا رسول اللَّه؟! فقال - عليه السلام -: " أطلقك؟ " قالت: لا، قال: " ما أمرت في شأنك من شيء، فإن نزل علي في شأنك شيء أبينه لك "، فرفعت يديها إلى السماء تدعوه وتتضرع إليه أن ينزل إليه بيان أمرهما، ثم خرجت من عنده، وأتت زوجها، فنزل جبريل - عليه السلام - بهذه الآية. وروي في بعض الأخبار أنها أتت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وإني شابة ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالي، وأفنى شبابي، وكبرت سني، ورق عظمي، وباد أهلي - جعلني عليه كظهر أمه، ولي منه صبيان إن أنا وكلتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلى نفسي جاعوا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اغربي فلعلك الظالمة لزوجك "، فقالت: يا أمين اللَّه في أرضه، إنه لظالم لي، فقال: " اذهبي؛ فإن فيكن الضعف والعجز " قال: فجعلت تجادله، فلما رأت أنه لا يرفع بها رأسا، ولا تجد عنده مخرجا، خرجت فرفعت طرفها إلى السماء تشكو إلى اللَّه صنع زوجها بها، وقالت: " اللهم إني أتيت أمينك في أرضك، فلم يرفع لي رأسا، فتول اليوم حاجتي، وارحم ضعفي وقلة حيلتي "، فلم تصل منزلها حتى هبط جبريل - عليه السلام - بالوحي: (قَدْ

سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) فدعا أوسا زوجها فقال: " ما الذي حملك على ما صنعت بخولة، وقد أنزل اللَّه فيها ما أنزل؟ "، وبعث إليها فرحب بها، فقال: يا رسول اللَّه عمل الشيطان، فهل من أمر يجمعني اللَّه وإياها؟ قال: نعم، ثم تلا عليهم آية الكفارة إلى آخرها. ثم بين هذه الروايات اختلاف: [ذكر في رواية القرطبي] (¬1) أنه قال - عليه السلام -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، وفي رواية قال لها: " ما أمرت في شأنك من شيء "، لكنه يمكن التوفيق بين الخبرين، وهو أن قوله: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه " على ما كان أهل الجاهلية يرونه محرما، فقال: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه " من ذا الوجه، لكنه لم ينزل علي شيء في بيان هذا، فإن ينزل شيء عليَّ في هذا أبينه لك. والثاني: أن ليس في قوله: " ما أراك " إثبات حرمة، بل هو قول على الظن بما قد كان الناس يعرفون بينهم لذلك القول، ويجوز أن يراد التقرير على ذلك، أو يرد لهذه الحادثة الحرمة بالوحي، فتوقف في الجواب مع الإشارة لها بالامتناع من الزوج؛ احتياطا لباب الحرمة، واللَّه أعلم. ثم إن بعض الفقهاء ذكر الاختلاف بين السلف في حكم الظهار قبل نزول الآية: عن عكرمة أنه قال: كانت النساء تحرم بالظهار حتى أنزل اللَّه تعالى هذه الآية، وكان طلاقا قبل نزول الآية، فجعله اللَّه تعالى بهذه الآية ظهارا. وعن أبي قلابة وغيره: كان طلاقهم في الجاهلية الإيلاء والظهار. وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إنما كان طلاق أهل الجاهلية الظهار، وقد جعل لهذه الأمة حرمة ترتفع وتزول بالكفارة التي أوجب. وعن الحسن أنه قال: كان الظهار أشد الطلاق، وأحرم الحرام، إذا ظاهر من امرأته لم يرجع إليها أبدا. والأشبه أنه لا يكون طلاقا في الإسلام لو كان يكون في الجاهلية، وأنه لا يكون موجبا حرمة لا ترتفع أبدا؛ كما قال الحسن؛ فإنه ذكر في حديث خولة أن زوجها لما قال لها: ما أراك إلا وقد حرمت علي، قالت: واللَّه ما ذكرت لي طلاقا، ولو كان الظهار طلاقا لعرفته، وكذلك لما أخبرت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لي: أنت عليَّ كظهر أمي، ¬

_ (¬1) هذا إشكال آخر يضاف إلى سابقه، إذ كيف ينقل الماتريدي عن القرطبي، وهو يتقدمه بقرون؟!!، وكان الأحرى بمحقق الكتاب التنبيه على ذلك. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

فقال - عليه السلام -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، قالت: يا رسول اللَّه، لا تقل ذاك؛ ما ذكر طلاقا، ولم يرد عليها اعتقادها في أن الظهار طلاق، وكذلك ما روي في رواية أخرى في حديث طويل: جعلني عليه كظهر أمه، ثم تركني إلى غير شيء، فهل من شيء يجمعني وإياه يا رسول اللَّه؟ فقال - عليه السلام -: " أطلقك؟ " قالت: لا، قال: " ما أمرت في شأنك من شيء "، ولو كان الظهار طلاقا بعد الإسلام قبل نزول هذه الآية لما قال: " أطلقك؟ " بعدما قالت: " جعلني عليه كظهر أمه "، ولما قال: " ما أمرت في شأنك من شيء "، وحكم شريعته أنه طلاق مزيل للملك، دل هذا يقرر ما قلنا إنه ذكر في حديث خولة وأوس أنه أول من ظاهر في الإسلام فكيف يكون طلاقا؟! فَإِنْ قِيلَ: أليس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، والحرمة التي لا ترفع النكاح بالظهار إنما ثبتت بعد نزول الآية، والآية نزلت بعد صدور القول من أوس بن الصامت؛ فدل أن مراده تحريم الطلاق، فهذا يدل على أن هذا الحكم كان ثابتا في شريعته قبل نزول آية الظهار بوحي غير متلو وإن كان قبل ذلك في حكم الجاهلية، فكذلك ذلك الزوج قال للمرأة - أيضا -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليَّ "؛ دل هذا على أنه كان طلاقا قبل نزول الآية. قلنا: هذا حجة عليكم؛ فإنه لو كان المراد بقوله - عليه السلام -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه " إثباتا للحرمة فيها بالظهار؛ لكونه طلاقا، فكيف يحكم عليها بالحرمة بالظهار بعد حكمه بالطلاق بذلك القول بعينه في شخص بعينه، وقد صح في الحديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعا أوسا وامرأته بالكفارة، وأبقى النكاح بينهما لو كان ذلك طلاقا؟! والمثبت حكمه إنما ينسخ بالآية الثانية إلى حكم آخر، فظهر ذلك في المستقبل لا في الماضي؛ فدل أن هذا حجة عليه، ولكن إنما قال: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه؛ " للوجهين اللذين ذكرناهما، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يحكم بالطلاق في حقها، مع أن الظهار كان طلاقا بطريق القطع، بل قال: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه " على طريق الظن؛ لأنه جائز أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه سينسخ حكم هذا القول وينقله من الطلاق إلى تحريم المتعة، فلم يقطع القول فيه حتى نزلت الآية.

قيل: لو كان ذلك حكما ثابتا مقررا في شريعته، لم يمتنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن العمل به، وحكمه بذلك ما لم ينزل عليه الناسخ وإن أعلم أنه سينسخ؛ لأنه يجب عليه العمل بما أنزل عليه؛ لقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ)، وقوله: (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)، وإذا ورد الناسخ بخلافه يكون عمله في المستقبل لا فيما مضى، وإنما يستقيم هذا على ما قلنا: إن الظهار قبل نزول الآية لا حكم له في الإسلام، وكان تحريما في الجاهلية؛ فمتى وجد هذا السبب، ووقعت هذه الحادثة، أمرها بالاجتناب عن الزوج؛ احتياطا حتى نزلت الآية؛ فيظهر أن حكمه ما هو؟ من حين وجوده؛ إذ يجوز أن يريد اللَّه تعالى بهذا هذا الحكم، وإن كان لا علم للمباشر به؛ إذا كان بحيث يمكنه الوصول إلى العلم به عند الحاجة إلى العمل به، والحكم كالنص الذي ورد مجملا في إيجاب حكم، ثم ورد البيان متأخرا، والنص العام الذي يتأخر بيانه على خلاف ظاهره؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا)، أي: سمع قولها ومجادلتها في زوجها، ومجادلتها مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في سؤالها إياه عما ابتليت بقول زوجها لها: " أنت علي كظهر أمي ". والمجادلة هي المخاصمة، وهي المحاورة، وكان مجادلتها في زوجها أن قالت: " واللَّه ما ذكرت طلاقا "، حين قال لها بعدما قال لها: " إن خرجت من الدار، فأنت علي كظهر أمى "، وخرجت -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليَّ ". وأما مجادلتها مع النبي - عليه السلام - ومحاورتها هي قولها: " لا تقل ذلك "، وقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، فهذه محاورتهما. ومن الناس من يقول: المحاورة: هي المراجعة في الكلام، وهما يرددان الكلام ويراجعانه ويكررانه، وهو ما ذكر أن النبي - عليه السلام - يكرر قوله: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، وهي تردد وتكرر قولها: " لا تقل ذلك يا رسول اللَّه؛ فإنه ما ذكر طلاقا "، ولكن هذا قريب من الأول. وقال بعض أهل اللغة: (تَحَاوُرَكُمَا)، أي: كلامكما، والتحاور: الكلام بين اثنين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) قيل فيه بوجهين: أحدهما: أن تشتكي إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكن اللَّه تعالى أضاف إلى نفسه؛ لأن مرادها أن تنزل آية من اللَّه تعالى على رسوله بالفرج عنها. والثاني: أن شكواها إلى اللَّه تعالى وتضرعها قد كان حيث لم تجد الفرج والمخرج فيما قال لها رسول اللَّه عليه الصلاة. والسلام: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه "، فاشتكت

إلى اللَّه تعالى، ودعت، وتضرعت؛ حتى أنزل اللَّه تعالى على رسوله الآية فيها، وجاءت الرخصة لهما بالاجتماع بعد التكفير على ما ذكر في الخبر، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا)، أي: سمع لها بما أجاب وأغاث بالفرج فيما اشتكت إليه، وسمع لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما أبان ما ظهر له من الحكم في الحادثة التي أشبهت عليه، وأشكل عليه ذلك. ثم اختلفت الأخبار في أمرهما - أيضا - حيث دعا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أوسًا، وأخبره بالآية التي نزلت في أمرهما: [قال القرطبي] (¬1): لما نزلت الآية دعا زوجها أوسا، فقال له: " أعتق رقبة "، قال: ما عندي رقبة أعتقها، قال: " فصم شهرين "، قال: ما أستطيع يا رسول اللَّه، إني لأصوم يوما واحدا فيشق عليَّ، فكيف صوم شهرين متتابعين؟ قال: " فأطعم ستين مسكينا "، قال: فنعم، قال: فأطعم ستين مسكينا فأمسكها. وفي رواية أخرى ذكرها الكلبي: لما نزلت رخصتهما أرسل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى أوس ابن الصامت فأتاه، فقال: " ويحك ما حملك على ما صنعت وقلت؟ " قال: الشيطان يا رسول اللَّه؛ فهل من رخصة تجمعني وإياها؟ قال: " نعم "، وقرأ عليه هذه الآيات الأربع، وقال له: " هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ " قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، إن المال لقليل غير كثير وإن الرقاب لغالية، قال: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، لولا أني آكل في يوم ثلاث مرات لكلَّ بصري، ولظننت أني سأموت، قال: " فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ " قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، إلا أن تعينني فأعانه عليه السلام بخمسة عشر صاعا، وأخرج أوس من عنده خمسة عشر صاعا فتصدق به على ستين مسكينا، فجمع اللَّه بينه وبينها. وذكر في خبر آخر أن رجلا كان ظاهر من امرأته، وكان هو يصوم عنه، فواقع امرأته في وقت الصوم، فأتى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك، [فعابه] رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على فعله، ثم أمره بأن يكفر بما وصفنا من الكفارات، فقال في كل واحدة: لا أستطيع قال: فأمره - عليه السلام - أن يأتي موضع كذا إلى أبي زريق، ويأخذ منه وسقا من التمر، فيعطي ستين مسكينا كل مسكين ينفقه على عياله، ذكر في الإطعام في خبر: " لا أستطيع "، وفي ¬

_ (¬1) سبق التنبيه إلى مثله، فالماتريدي يتقدم القرطبي بزمان طويل - رحمهما اللَّه -. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

(2)

خبر أنه قال: " أما هذا فنعم "، وفي حديث آخر: " لا إلا أن تعينني "؛ فيشبه أن يكون هذا القول منه: " أما هذا فنعم " بعدما وعده رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الإعانة أو بإعطاء الوسق؛ فتكون الأخبار على الوفاق، واللَّه أعلم. وفي هذه الأخبار دليل على أن الكفارة إذا لزم فيها طعام، فمن الحنطة نصف صاع؛ لأنه جعل نصف صاع من الحنطة طعام مسكين، وأنه يجوز من صدقة الفطر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) قرئ (يُظَّهَّرُونَ) مشددة الظاء بغير ألف، وهو في الأصل: " يتظهرون "، فأدغمت التاء في الظاء، وشددت. وقرئ بفتح الياء وتشديد الظاء بألف، وهو في الأصل " يتظاهر " فأدغمت التاء في الظاء وشددت. وقرئ - أيضا - (يُظَاهِرُونَ)، بتخفيف الظاء بألف من: ظاهر يظاهر مظاهرة. والمعنى واحد فيما اختلف من قراءاتهم يقال: ظاهر الرجل من امرأته، وتظاهر وتظهَّر منها بمعنى واحد، وهو أن يقول لها: " أنت عليَّ كظهر أمي ". وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (يُظَاهِرُونَ)، أي: يحرمون تحريم ظهور الأمهات. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يُظَاهِرُونَ) هذه يمين أن يقول الرجل لامرأته: " أنت عليَّ كظهر أمي "، وأما " يظَّاهرون " من " التظاهر " وهو التعاون، يقال: تظاهروا، أي: تعاونوا، ولكن هو خلاف ما تضمنته الآية واللَّه أعلم. ثم الظهار كان عند أُولَئِكَ القوم ظاهرا، وهو ما روينا في قصة امرأة أوس لما همت أن تخرج من الدار، قال لها: " إن خرجت من الدار، فأنت عليَّ كظهر أمي "، وكذلك هذه الدلالة في قوله: (يُظَاهِرُونَ). والظهار أخذ اسمه من " الظهر "، وكذلك فيما عرف المسلمون فيما بينهم هذا اللفظ، وهو قوله: " أنت عليَّ كظهر أمي "، والآية توجب أن يكون الظهار فيما يقول: " أنت عليَّ كأُمي "، وهو قوله: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ)، ذكر الأمهات، ولم يذكر ظهور الأمهات؛ فصار ظاهر الآية يوجب هذا. وبهذا احتج مُحَمَّد - رحمه اللَّه - لمذهبه فيمن قال لامرأته: " أنت عليَّ كأُمي "، قال: يكون ظهارا. وأما أبو حنيفة - رحمه اللَّه - فإنه قال: لا يكون مظاهرا، إلا أن ينوي بذلك الحرمة، فإن نوى به كان، وذهب في ذلك إلى ما روي من ذلك الحرف -أعني: قوله: أنت عليَّ كظهر أمي- وإنما نزلت الآية فيمن قال ذلك القول، فلا يحل لنا أن نصرفه إلى غيره إلا بدليل.

وقوله: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، أي: ما هن لهم كأمهاتهم؛ لأنه تعالى قال: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) على سبيل الرد لما قالوه، وقوله: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ)، أي: قالوا لنسائهم: " أنتن علينا كظهور أمهاتنا ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) يكون ردًّا لقول من قالوا لنسائهم: " إنهن أمهاتنا " لا لمن قالوا: " إنهن كأُمهاتنا " و " كظهور أُمهاتنا "، فيحتمل بذلك القول تبعا لقوله: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، أي: كأمهاتهم ولكن الإشكال أنه إذا صار تقدير الآية ما هن كأمهاتهم، فما معنى قوله: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ)؛ لأنهم كانوا يدعون التشبيه بالأمهات، واللَّه تعالى نفى ما ادعوا من التشبيه؛ فما معنى البيان حقيقة بقولهم: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ)، وهم يعرفون ذلك ولا ينكرونه، ولا يدعون في نسائهم أنهن أمهاتهم حقيقة؛ حتى يرد عليهم دعواهم. بقوله: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ)؟ وإشكال آخر: أنه قال: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا)، وظاهر هذا القول منهم ليس من الزور، ولا المنكر؛ إذ ليس في قولهم: " ظهرك كظهر أمي " أو " أنت عليَّ كظهر أمي " أو " كأمي " إلا التشبيه وهي لعلها تشبهها، فإن ظهرها كظهر أمه؛ في الشبه والخلقة والتشبيه لا يقتضي العموم، فما معنى تسميته تشبيه المرأة بالأم: منكرا وزورا. وإشكال آخر: أنه جعل الأمهات اللائي ولدنهم أمهات لهم؛ فإنه قال في نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رضي اللَّه عنهن: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، وقال فيمن يرضعن أولاد الغير: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) وإن لم يلدنهم. فنقول - وباللَّه التوفيق -: إنهم كانوا يريدون أن يوجبوا حقوقا وأحكاما ما كانت في أمهاتهم، لم يكن لهم إيجاب ذلك؛ فإنهم كانوا يشبهون النساء بالأمهات، ولم يريدوا بذلك من حيث الصورة، ولكن يريدون بذلك التشبيه في الحرمة، وحرمة النساء في الأصل غير حرمة الأمهات؛ فإن الأم حرام الاستمتاع بها لكن يباح للرجل أن يدخل على أمه، ويخدمها، ويسافر بها، ويباح النظر، والمس، والإركاب، والإنزال، والخلوة بها، والمرأة متى حرمت بالطلاق الثلاث، أو بالبينونة، لا يثبت شيء من هذه الحقوق، والمشابهة بين الشيئين -إن كانت- لا تقتضي مشابهتها من كل وجه، ولكن تقتضي المساواة بينهما في وجه من الوجوه على الكمال - فإن الذات في الشاهد إذا قام به العلم، يسمى: عالما، واللَّه تعالى يسمى: عالمًا ولا يوجب التشبيه؛ لانعدام التماثل بين العلمين، والتساوي من كل وجه، فلم يعد تشابها تعالى اللَّه عن ذلك، وتشبيههم النساء بأمهاتهم أرادوا أن يجعلوا حرمة نسائهم كحرمة أمهاتهم، ويوجبون فيهن حقوقا وأحكاما

كحقوقهن وأحكامهن؛ حتى يباح لهم في المعاملة مع نسائهم ما يباح مع أمهاتهم، ويحرم ما يحرم معهن ويكون احترامهن كاحترامهن، واللَّه تعالى لم يجعل ذلك، ونهاهم عن ذلك، فقال: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، أي: كأمهاتهم في هذه الحرمة التي يريدون إثباتها، وأنه لم يجعل لنسائهم حرمة أمهاتهم، ثم قال: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ)، أي: أن هذه الحرمة التي يريدون إثباتها فيهن مما جعلنا لأمهاتهم اللائي ولدنهم، فما بالهم يخترعون من أنفسهم شيئا لم أجعله، ولم أشرعه؛ فرد صنيعهم بهذا. وعلى هذا يخرج تأويل قوله: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا)، إنما كذبهم بما قالوا من إيجاب تلك الحقوق والأحكام على أنفسهم في نسائهم من غير أن جعل الله تعالى ذلك، أي: وإنهم ليقولون منكرا وزورا في إيجاب الحقوق فيهن كما في الأمهات، وتشبيههم إياهن بالأمهات في الأحكام والحقوق والحرمة، وإن كان كلامهم وقولهم من حيث ظاهر التشبيه ليس بمنكر ولا بزور، وهذا كقوله في وصف المنافقين: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، وهَؤُلَاءِ المنافقون فيما قالوا في الظاهر كانوا صدقة، ولكن لما كان قصدهم غير ذلك، وكان في قلوبهم إيجاب شيء غير ما أظهروا - سماهم: كذبة، فكذلك هَؤُلَاءِ المظاهرون لما أرادوا إيجاب حكم لم يجعل لهم ذلك سمى قولهم: منكرا وزورا. والمنكر: هو الذي لا يعرف في الشريعة، والزور: هو الكذب؛ فنهاهم اللَّه تعالى عن ذلك. وأما قولهم: إن اللَّه تعالى قد سمى غير من يلزمهم: أمهات من نساء النبي - عليه السلام - والمرضعات -: منهم من قال: جائز أن تكون هذه الآية متقدمة على قوله: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)، وعلى قوله: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، فلم يكن في ذلك الوقت أمهات من رضاع، ثم كانت من بعد؛ فيكون الإخبار بهذا مقيدا بذلك الوقت، وهو كقوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ)، لم يجد في ذلك الوقت، ثم وجد من بعد ذلك غيره محرما، فعلى ذلك هذا. وقيل: يحتمل أن يكون قال ذلك في قوم خاص وقبيلة خاصة، لم يكن لهم أمهات من إرضاع؛ فيكون الإخبار بأن أمهاتهم لسن إلا اللائي ولدنهم صدقا. ولكن هذا تكلف؛ لأن قوله: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) يعني: أن هذه الحقوق والأحكام التي يوجبون ليس تثبت إلا في الأمهات اللاتي تلدنهم، أو من كانت في معناهن

(3)

وصرن أمثالهن بأمر يجعله اللَّه تعالى؛ كأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والأمهات بسبب الرضاع، والله تعالى لم يجعل لنسائهم تلك الحقوق التي جعلها لمن لحقن بالأمهات، فيكون تشبيههن بهن في هذه الحقوق منكرا من القول وزورا، واللَّه أعلم. وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) اختلف في حكم العود ما هو؟ وفي تأويل العود عن طاوس قولان: في قول قال: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا): الوطء، فإذا حنث، فعليه الكفارة؛ وهذا تأويل بعيد مخالف للنص؛ لأن اللَّه تعالى يقول: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وإنَّمَا الذي ذهب إليه حكم الإيلاء: أنه إذا وطئ تجب الكفارة، أما في الظهار تجب الكفارة قبل الوطء وفي قول: أنه إذا تكلم الظهار يجب عليه الكفارة، ولم يشترط معه شيء آخر. وعن مالك أنه إذا ظاهر من امرأته، ثم أجمع، وعزم على إمساكها وإصابتها، وجبت عليه الكفارة حتى إذا طلقها أو ماتت المرأة بعد العزم على الإمساك والإصابة، أو بعد الإصابة - بقي وجوب الكفارة عليه. وإن لم يجمع على إمساكها حتى ماتت، تسقط الكفارة. وكذلك إذا طلقها، لكنه إذا تزوجها بعد ذلك، لم يمسها حتى يكفر؛ فيكون العود: هو إمساكها ليطأها. وعن الحسن: أن العود هو العزم على الجماع؛ حتى إذا عزم على جماعها، تجب الكفارة، وإن أراد تركها بعد ذلك. وقال عُثْمَانَ الْبَتِّيُّ فيمن ظاهر من امرأته، ثم طلقها قبل أن يطأها، قال: أرى عليه الكفارة، راجعها أو لم يراجعها، وإن ماتت، لم يرتفع الظهار والكفارة، ولا يرث حتى يكفر. وقال الشافعي: العود هو الإمساك، والكفارة تجب به، وحكم الظهار هو تحريم المتعة؛ حتى إذا أمكنه أن يطلقها بعد الظهار، ولم يطلق، وأمسكها ساعة؛ ليطأها، فقد وجبت عليه الكفارة عاشت أو ماتت، وإذا عاشت طلقها أو لم يطلقها، راجعها أو لا. وإذا طلقها عقيب الظهار بلا فصل يبطل الظهار، ولا تجب الكفارة بعزم إمساك المرأة. وقال بعض المتأخرين في تأويل قوله تعالى: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)، أي: يعودون إلى القول الأول فيكررون ذلك القول، وعندهم لا يكون الرجل مظاهرا حتى يقول: " أنت عليَّ كظهر أمي " مرتين. وأما عندنا فحكم الظهار هو تحريم مؤقت بالكفارة، ولا نرفعه إلا بالكفارة، هكذا

روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " إذا قال أنت عليَّ كظهر أمي "، لم تحل له حتى يكفر. وعندنا لا تجب الكفارة بنفس الظهار، وإنما الظهار يوجب الحرمة لا غير، وإنما تجب بالعود حتى إنها إذا ماتت لا يجب عليه الكفار وإذا ارتفع المعنى الذي يجب، وهو استباحة الوطء وكذلك إذا طلقها بائنا أو ثلاثا، لا تجب الكفارة لهذا؛ حتى إذا عادت إليه بالتزوج، وأقدم على استباحة الوطء، تجب الكفارة. وهو عند أصحابنا أن يجعل المرأة على الحالة الأولى، ويحللها على نفسه على ما كان عليه، ويستبيح وطأها، فإذا أراد أن يحللها على نفسه ويستبيحها ويقدم عليه، يجب عليه أن يكفر، ولا تزول تلك الحرمة عندنا إلا بالكفارة؛ فالتكفير سبب الحل؛ كذا ذكر العمي في تأويل: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)، أي: يعودون إلى فسخ ما قالوا ونقض ذلك، واستدل بما ذكر عن الأصمعي: أن أعرابيا تكلم بين يديه بأنه كان شيء ما ثم يعود إليه، قال له الأصمعي: ما أردت به؟ فقال: أي: أنقضه، وأفسخه؛ فهذا يدل على أن المراد من قوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ)، أي: يعودون إلى استحلال ما حرموا، وينقضون ذلك، ويردون الحل إلى الحالة الأولى، إلا أن ظاهره العود إلى القول بقوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) ولكن أراد به المقول والثابت به وهو الحرمة؛ كأنه قال: ثم يعودون لما حرموا بالقول فيستبيحونه؛ ويجوز أن يذكر الفعل ويراد به المفعول؛ كقوله - عليه السلام -: " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه "، وإنما هو عائد في الموهوب، وقال اللَّه تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، أي: الموقن به، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: العود الذي يوجب الكفارة هو العزم على استباحة الوطء، والقصد على تحليلها على نفسه وإعادة الحل إلى الحالة الأولى، أو الإقدام على الوطء أو مباشرة نفس الوطء، فإن كان المراد هو الأول، يجب أن تقولوا: تجب الكفارة بنفس العزم على الاستباحة والتحليل، كما قال مالك رحمه اللَّه، والحسن رحمه اللَّه. وإن كان المراد إيقاع الوطء يجب أن تقولوا: إنه لا تجب الكفارة إلا بعد الوطء كما قاله قوم، وهو خلاف الآية، وخلاف قولكم. قيل: نعني بذلك: هو الإقدام على استباحة الوطء، والاشتغال بإقامته، فيقدم التكفير، ثم يفعله؛ إذ لا يجب بمجرد العزم، ولا بعد تحقق الفعل، وهذا لأنه إذا ظاهر حرمت المرأة عليه بسبب فعله الواجب عليه توفير حقها في الجماع إن كانت بكرا في الحكم حتى يجبر عليه، وهذا وإن كانت ثيبا وقد وطئها مرة يجب عليه فيما بينه وبين اللَّه تعالى إيصال

ذلك إليها. وعند بعض أصحابنا يجبر في الحكم أيضا على ذلك، فإذا أقدم على ذلك يجب عليه تحصيل الكفارة؛ ليتوصل إلى إقامة ذلك الواجب عليه من الجماع؛ إذ لا يحل ذلك بدون الكفارة، وهذا كالوضوء في باب الصلاة ليس بفرض مقصود بنفسه، لكن يجب لإقامة الصلاة؛ إذ لا يجوز الصلاة بدون الطهارة، فإذا أقدم على الصلاة يجب عليه تحصيل الوضوء؛ ليتمكن من أداء ما عليه، ولا يجب بنفس الإرادة، ولا يجب بنفس الحدث؛ حتى لا يجب الوضوء ما لم يدخل وقت الصلاة، ويقوم إليها، وكذلك المرأة إذا حاضت بعد الوقت حتى سقط عنها الصلاة يسقط الوضوء، فعلى ذلك هذا يجب عند الإقدام على إقامة هذا الواجب وهو الوطء، والظهار شرط؛ ولهذا إذا ماتت المرأة تسقط الكفارة؛ لانعدام ما هو المقصود بالإقدام، وهو الوطء، وكذلك إذا طلقها ثلاثا أو بائنا لكن إذا عادت إليه يلزمه الكفارة إذا أقدم على الوطء، ولم يبطل الظهار؛ لاحتمال حصول الغرض، واللَّه أعلم. ويحتمل وجها آخر: وهو قوله تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ. . .) الآية هذا خبر عن ظهار القوم الذين كانوا يظاهرون في جاهليتهم، أي: ظاهروا في ذلك الوقت، ثم يعودون لما قالوا، أي: لو قالوا ذلك القول بعد إسلامهم فعليهم ما ذكره؛ إذ الظهار كان ظاهرا في الجاهلية من عاد إلى ذلك القول، ورجع إليه وقت إسلامه؛ فعليه ما ذكر، وهو كقوله تعالى: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ)، فهذا يرجع إلى فعل ذلك مرة، وإلى استحلال ما حرم اللَّه ثانيا، وإن عاد إلى الفصل الأول لا من وجه الاستحلال، فينتقم اللَّه منه بالغرامة عليه، وإن عاد إلى استحلال، فينتقم اللَّه منه بالعذاب؛ وكذلك مثل هذا في آية الربا، حيث قال: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ ... )، أي: عاد إلى ما كان يفعله قبل الإسلام، فكذلك هذا العود إلى الظهار على هذا التقرير يخرج تأويل الآية عنده، وهو كقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ)، أي: كانوا يتناجون في الجاهلية، فنهاهم اللَّه تعالى عن العود إلى ما كانوا عليه؛ فعلى ذلك يحتمل هذا، واللَّه أعلم. لكن على هذا التأويل الإقدام على الوطء سببا لوجوب الكفارة لم يثبت بهذا النص، إنما فيه أن الظهار يوجب تحريما مؤقتا بالكفارة، وكذلك الأحاديث التي ذكرنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمر أوسا بالكفارة حين ظاهر من زوجه، وإنما يعرف من حيث الدلالة؛ فإنه لما كان التحريم مؤقتا بالكفارة، يكون رافعه له قائما، ويجب الرافع بالإقدام عليه، لا بسبب سابق

موجب للتحريم؛ لأن رافع الحرمة لا يجب بما يوجب الحرمة؛ كما ذكرنا في الوضوء: أنه لا يجب لما يحدث الذي هو رافع للطهارة، ولكن لما وجب على المكلف الصلاة بالطهارة، ويجب عليه الوضوء بالإقدام على الصلاة التي لا تجوز بدونه؛ فكذلك هذا، واللَّه أعلم. وقول من جعل العود هو العزم على إمساك النكاح والبقاء عليه - فاسد، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أوجب الكفارة على أوس بن الصامت حين ظاهر من زوجه، ولم يسأله الإمساك والبقاء على النكاح. ولأن تفسير العود بالإمساك لا يستقيم؛ لأنه لم يعرف في الأصل إمساك المرأة عودا عليها ولا إمساك شيء من الأشياء يتكلم بالعود إليه؛ فيكون هذا خلاف اللغة، ولما ذكرنا: أن العود إلى الشيء هو الرجوع إلى ما كان عليه؛ فيقتضي انعدامه وزواله حتى يتحقق العود؛ إذ العود هو وجود ثان، وهذا إنما يتحقق فيما قلنا من الجزاء؛ لأنه قد يبدل بالحرمة، فأما العقد فهو قائم لم يزل بالظهار؛ فكيف يعود إلى العقد؟ فلا يكون البقاء على العقد وإمساك المرأة بالنكاح عودا. ولأن اللَّه تعالى قال: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)، و " ثم " يقتضي التراخي. ومن جعل العود هو الإمساك والبقاء على النكاح، فقد جعله عائدا عقيب القول بلا تراخٍ، وذلك خلاف ظاهر الآية. وقول من جعل العود هو العزيمة على الوطء، لا معنى له؛ لأن موجب الظهار هو تحريم الوطء لا تحريم العزم على الوطء وإن كان العزم على المحظور محظورًا؛ لكونه وسيلة إلى المحظور؛ فيكون العود هو الرجوع إلى ما يقوى به مقصودا لا وسيلة إلى حسب الأول. ولأنه لا حظَّ للعزيمة في حق تعلق الأحكام في سائر الأصول؛ ألا ترى أن سائر العقود والتحريم لا يتعلق بالعزيمة، فلا اعتبار بها، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن اللَّه تعالى عفا عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم يتكلموا به ويعملوا ". وقول من جعل العود تكرار القول الأول فاسد أيضا، وإن كان ظاهر اللفظ يحتمل، وهو العود إلى القول الأول؛ لأنه خلاف الإجماع وخلاف أصول الشرع:

أما خلاف الإجماع؛ فإن السلف والخلف أجمعوا على أن هذا ليس بمراد من الآية؛ فيكون قائله خارجا عن الإجماع. وأما مخالفة الأصول؛ فلأن الحل والحرمة إنما تعلق وجوبهما بابتداء القول لا بتكراره في جميع الأصول من البياعات والنكاح والطلاق والعتاق والإجارات، فلما كان الأصل هذا في سائر الأسباب، والمظاهر موجب للحرمة بقوله؛ دل أن الموجب هو القول الأول دون الثاني؛ فيكون تعليق الحرمة بتكرار الموجب؛ مخالفة لسائر الأصول، وبهذا يبطل قول الشافعي في أن تعلق الحرمة بتكرار الرضعات لا برضعة واحدة، واللَّه أعلم. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمر بالكفارة في حق أوس، ولم يسأله عن تكرار القول، ولما لم يسأل دل أن الحكم غير متعلق بالتكرار. وما قاله الشافعي: أنه إذا طلقها بعد الظهار بلا فصل فلا كفارة عليه، وإن لبث ساعة، ثم طلقها، كفَّر راجعها أو لم يراجعها، أو ماتت - قول تفرد به؛ لأن طاوسا أوجب عليه الكفارة طلقها أو أمسكها، وسائر التابعين قالوا: إن ماتت أو طلقها، ولم يراجعها فلا كفارة عليه، ولم يفصلوا بين أن يطلقها على أثر الطلاق بلا فصل، أو بعد ذلك بساعة؛ فيكون الشافعي بهذا القول مخالفا للسلف؛ فلا يعتبر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ظاهره يقتضي أن يكون الوطء محظورا عليه قبل الكفارة؛ لأنه جعل الحرمة مؤقتة بالكفارة، وإذا وطئ يسقط الظهار والكفارة؛ لأن كل ما تعلق بشرط أو توقت بوقت، فمتى فات الوقت، أو عدم الشرط، لم يجب لذلك النص، واحتيج إلى دلالة أخرى في إيجاب مثله في الوقت الثاني، إلا أنه قد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن رجلا ظاهر من امرأته فوطئها، ثم سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال له: " استغفر اللَّه، ولا تعد حتى تكفر "، فصار التحريم الذي بعد الوطء عرفناه بالسنة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) يرجع إلى وجهين: مرة إلى اسم الرقبة. ومرة إلى ما يستحكم حكم الرقبة. فإن كان المراد من ذكر الرقبة اسم الرقبة نفسها، فيجيء أن يجوز كل ما يقع عليه اسم

الرقبة، صغيرا كان أو كبيرا، كافرا أو مسلما، مقطوع الرجلين، أو أعمى، أو كيفما كان. وبشر المريسي: يذهب ويجبر كيفما كانت الرقبة. وإن كان المراد من ذكر الرقبة: ما يستحق حكم الرقبة فيجيء ألا يجوز إعتاق رقبة فيها نقصان؛ إذ الأصل في العبيد والإماء أن النقص فيما دون النفس يوجب نقصانًا في كل النفس؛ فيجيء ألا يجوز؛ إذ يصير معتقًا لبعض الرقبة لا كلها. ثم الدليل على أن النقصان الحال فيما دون النفس في الرقاب جعل كالنقصان الحال في النفس أن العبد إذا قطعت يده أو فقئت عينه يشترى بنصف ما كان يشترى وقت الصحة؛ فصار النقصان فيما دون النفس كتلف نصف القيمة من العبد وإن لم يكن ذلك من نفسه النصف؛ فيجيء على هذا ألا يجوز إذا كان فيه أدنى النقصان؛ إذ الحكم فيما دون النفس محمول على حكم الأنفس، وحكم الجناية عليهم محمول على حكم كمال النفس. لكن هذان التأويلان في الآية لا يصحان. وأما الجواب عن قولهم: إن النقصان الحال في بعض الرقبة كالحال في كلها: أن ذلك النقصان يرتفع بالعتق، وإن كان وقت قيام الرق يحكم عليه بالنقص؛ لما يصير رقبة له بحكم الكمال بالعتق إذا صار هو منتفعًا بالعتق إذ بالعتق جبر النقصان الذي كان به؛ فيسلم له الرقبة كلها من حيث المعنى فيجوز، كما إذا أعتق الرقبة السليمة، والدليل عليه: أنه لو جني عليه بعدما عتق، لم ينقص من ديته شيء في مقابلة النقصان في نفسه وقت العبودة والرق، وثبت بهذا أنه في حق نفسه كامل النفس، وإنما كان ذلك النقص من نقص في قيمته وقت العبودة؛ إذ هو لو كان منقوصًا في حق نفسه لا يرتفع عنه ذلك النقصان أبدًا؛ فلما ارتفع النقصان الذي به بإعتاقه دل أن إعتاقه جائز، والأصل فيما أوجب اللَّه تعالى من هذه الكفارة إنما أوجب ليكفر بها ما ارتكب من المآثم، وما ارتكب من المحظورات التي حظر عليه ارتكابها؛ ليتألم بهذه الكفارة؛ ليكون زجرًا عن العود إليها فعلينا أن ننظر في هذه الكفارة فإن كفر بشيء لا يتألم به نفسه، ولا يفجع عندها، فلا يجوز ذلك عن الكفارة، وإن كان بالذي يلحقه ويؤلمه يجوز. ثم ما يصل إليه من الألم بإعتاقه وجهان: أحدهما: أنه إذا تأمل ذهاب منافع ذلك المملوك عنه بما كان هو يصلح لخدمته يتألم بذلك ويتفجع. والثاني: لما يتأمل منه النفع في العاقبة وإن لم يكن للحال ينتفع به؛ فيتألم - أيضا - بذهاب تلك المنفعة المؤملة، فكل من كان يؤلم من هذين الوجهين جاز عتقه عن

الكفارة، وإلا فلا، واللَّه أعلم. ثم لا يجوز إعتاق الأعمى والمقعد ومقطوع اليدين ونحو ذلك عن الكفارة، ويخرج على هذين المعنيين: أما على الأول: أنه وإن ارتفع النقص الحاصل في نفسه بسبب العبودة عند وجود الإعتاق إلا أن العيب لا يزال قائمًا فلا يجوز لا للنقصان لكن لأنه يصير معتقًا ببدل، والإعتاق ببدل لا يجوز عن الكفارة، وإن كانت الرقبة بصفة الكمال. ومعنى قولنا: إنه يصير معتقًا ببدل: أنه ما دام في ملكه على تلك الحال، فإن مؤنته تلحقه، وبالإعتاق تسقط مؤنته عن نفسه، وتلحق تلك المؤنة المسلمين؛ فلم تجزئ عن الكفارة لهذا. وأما على الثاني: فلا يلزم على الوجهين جميعًا أما على الأول: فلأنه لا يفجع ولا يتألم نفسه بإعتاق مثله؛ لما ليس له منفعة الخدمة؛ ليتألم بفوتها، وعلى الثاني: لما ليس له منفعة تؤمل في المآل؛ فيتألم بذلك - أيضًا - ولا يلزم الصغير على هذا العذر؛ لأنه ليس له منفعة الخدمة ونفقته عليه أيضًا، ومع ذلك يجوز إعتاقه عن التكفير؛ لأنا نقول: إنه إنما ينفق على الصغير، لما تؤمل منفعته في العاقبة، والناس إنما يربون الصغار والصغائر، وينفقون عليهم؛ لينتفعوا بإيمانها وإعتاقها في العواقب؛ فلم يصر عتقه عن هذا الوجه ببدل، والتألم في عتقه موجود، وحسب ما كان في الكبير أو أكثر. والأعور، ومقطوع إحدى اليدين وإحدى الرجلين يجوز عن الكفارة فإنه يمكنه الاكتساب؛ فيتألم مولاه بإعتاقه؛ لما فيه ذهاب منفعته؛ فيصلح أن يكون كفارة لما ارتكب من الشهوة، ولما قدمنا من جبر ذلك النقصان وارتفاعه بالعتق، واللَّه أعلم. وذكر عن الشافعي أنه لا يجيز عتق الرقبة الكافرة عن الكفارة، واحتج بذكر اللَّه - تعالى - في كفارة القتل الرقبة المؤمنة، فكذلك في كفارة الظهار؛ إذ هما كفارتان. ولكن نحن نقول: هذا على أصل مذهبه خطأ؛ لأن مذهبه العموم يعم كل رقبة في دار الدنيا، والأصل في ذلك عندنا أن اللَّه - تعالى - ذكر في كفارة الظهار الرقبة المؤمنة؛ فلا يجوز أن نوجب ما ذكره في كفارة القتل هاهنا؛ والدليل عليه: أنه ذكر في تلك الآية الأشياء، وهو قوله - تعالى -: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ)، فذكر الدية، ثم ذكر الدية في آية القتل - لم يوجبها على المظاهر؛ إذ ترك ذكرها في آية الظهار، ومثله في القرآن كثير. وأيضًا: إن أحق ما يجوز في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة؛ وذلك لما أن المسلم قد يتألم بإعتاق الرقبة الكافرة، ولا يتألم بإعتاق المسلمة؛ لما يأبي طبعه الإحسان إلى

(4)

الكافر، ولا يأبى بمثله إلى المسلم، وقد وصفنا أن الكفارة للتألم بإخراج ما أمر بإخراجه عن ملكه، مع ما في القرآن دليل على جواز اصطناع المعروف إليهم، وهو قوله - تعالى -: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)، ثم قال - أيضًا - بعد ذلك: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ). وذكر في القصة أن بعض أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا قد امتنعوا عن الإنفاق على أقربائهم لما أبوا الإسلام؛ فنزلت هذه الآية؛ فهذا يبين ذلك وأن في الاصطناع إليهم وإعتاقهم يكون تكفيرًا. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) فتأويله عند أبي حنيفة - رحمه اللَّه -: أي: عتقا لا مسيس فيه؛ لأن عنده الإعتاق يحتمل التجزؤ: أنه يعتق نصفه، ثم النصف الآخر؛ فيشترط أن يعتق النصفين جميعًا قبل المسيس، حتى لو مسها فيما بين ذلك يلزمه استئناف العتق، وعلى هذا التأويل قوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ... (4) أي: صوم شهرين لا مسيس فيه، حتى لو واقعها في وقت لم يتم صوم شهرين بعد يلزمه الاستئناف، وكأن معناه: لا مسيس في خلال الكفارة؛ فمتى وجد المسيس في وقت لم يتم الكفارة بعد يلزمه الاستئناف، وتأويل قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) عند أبي يوسف - رحمه اللَّه -: أي: يعتق قبل وقت المسيس، ويصوم كذلك. ويقول بأن الآية خرجت لبيان وقت التكفير فيه: حتى إذا جامع امرأته في صوم الظهار أنه لا يستأنف الصوم، بل يصوم الباقي؛ إذ قد فات عن وقته فصار قاضيًا عما عليه، وليس بعد الجماع وقت لذلك الصوم، بل يكون ذلك على القضاء؛ فيجوز متفرقًا ومتتابعًا؛ كصوم شهر رمضان: لما تعين له وقت الأداء، ثم فات الوقت لا يجب متتابعًا؛ بل يجوز متفرقًا، كذا هذا، ولا يتصور المسألة في الإعتاق؛ لأنه لا يتجزأ عنده. ولا خلاف أنه إذا جامع بعدما أطعم ثلاثين مسكينًا أنه لا يلزمه استئناف الطعام، ولا خلاف أنه إذا جامع قبل الكفارة لا يلزمه شيء سوى التوبة والاستغفار في قول عامة الفقهاء. وعند بعضهم يلزمه كفارتان. لأبي يوسف - رحمه اللَّه - ما ذكرنا، ولأنه قد رأى أداء بعضها في الوقت وبعضها في غير الوقت أولى من أداء الكل بعد الوقت؛ ولهذا المعنى في الطعام كذلك. ولأبي حنيفة - رحمه اللَّه - أن الظهار ليس يوجب الكفارة؛ ولكن يوجب حرمة لا

ترتفع إلا بالكفارة، ولا يؤمر هو بالكفارة مقصودًا، ولكن إذا أراد الاستمتاع بها يقال له: ليس لك ذلك إلا بالكفارة، فإذا كان كذلك فإذا أدى بعضها، ثم ماسها، ثم أدى البقية - لم يصر ما أدى بعد المماسة؛ فضاعف الوقت الذي قبل المماسة، فإذا لم يصر قضاء عن ذلك جعل كالنص إنما جاء في هذه الحالة: أن حرروا رقبة قبل أن تماسوا ثانيًا، وصوموا شهرين متتابعين إذا أردتم العود إليها؛ ولذلك قال - عليه السلام - للمظاهر الذي جامع امرأته: " استغفر اللَّه، ولا تعد حتى تكفر ". لكن يدخل على هذا أمر الطعام أنه إذا أطعم بعض لطعام، ثم ماسها لم يلزمه الاستقبال، والعبارة التي ذكرناها توجب الاستئناف، لكن يستحسن في الطعام؛ لأن الطعام وقع في الأصل متفرقًا؛ إذ لو أطعم بعضه للحال وبعضه بعد سنة فإنه جائز من ذي الجهة، لكن يدخل عليه الإعتاق عند أبي حنيفة - رحمه اللَّه - فإنه إذا أعتق بعضه للحال وبعضه بعد سنة يجوز أيضًا، ومع ذلك إذا وجد المسيس فيما بين ذلك يلزمه الاستئناف. وما ذهب إليه أبو يوسف - رحمه اللَّه - من حمل الآية على بيان الوقت لا يصح؛ لأنا لو حملنا تأويل الآية على الوقت نفسه، لا فائدة تقع في الآية؛ لأن معرفة وقت ذلك ثابتة بدلالة العقل، وذلك أن قد علمنا إيجاب الحرمة بالظهار، وعلمنا أن تلك الحرمة لا ترتفع إلا بالكفارة؛ فصار وقت الحل بذكر الحرمة معلومًا؛ ولذلك هذا في جميع الحرمات من الطلاق وغيره أنه لا يرتفع إلا بسبب رفعه؛ فلو حمل تأويل الآية على بيان الوقت لم تفد شيئًا، ولو حمل على بيان إخلاء الكفارة عن المسيس، وعلى نفي المسيس في خلال الكفارة تفيد فائدة جديدة؛ فيكون هذا التأويل أحق وأولى. ثم في الآية دلالة بأن ليس ذلك على بيان الوقت، وهو قوله - تعالى -: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا)، ثم ذكر في العتق والصوم ترك المماسة، ولم يذكر ذلك في الإطعام، ولو كان ذلك على جعل الوقت له لكان يذكر فيه المماسة؛ إذ الكفارة إذا كانت عن شيء واحد لا يختلف فيه أوقاتها، بل يكون وقتها واحداً، ولا يقال: إنما لم يذكر الوقت في الإطعام؛ لأن ذكره في العتق والصوم: ذكره في الإطعام؛ لأنه من أنواع هذه الكفارة؛ فذكر الوقت في بعض يكون ذكرًا في الباقي، فإذا أدى بعضه في الوقت وبعضه

في غير الوقت كان أولى من أن يؤدي الكل في غير الوقت؛ لأنا نقول: ذكره في العتق والصوم لا يصلح أن يكون بيانًا في الإطعام؛ لأن البيان على وجوه ثلاثة: بيان نهاية، وبيان كفاية، وبيان تفصيل: فأما بيان الكفاية: فهو أن يكتفى ببيان الواحد أو القليل عن الكل؛ ليعرف ذلك بالاجتهاد والقياس على نظائره؛ فيدل ذلك على معنى مودع فيه، وأنه محل الاجتهاد والتقليد. وأما بيان النهاية: هو أن يبين الكل على المبالغة؛ حتى لا يبقى للاجتهاد فيه موضع. وأما بيان التفصيل: هو الذي يبين في أكثره، ولا يبلغ به نهايته؛ فهو فيما يبين لا يتعدى إلى غيره؛ إذ لو كان فيه معنى مودع يجمع الكل لم يكن لذكر الزائد عليه وترك بعضه معنى. وهاهنا بيان تفصيل دون كفاية؛ إذ لم يكتف بذكر في واحد، ولا هو بيان نهاية؛ إذ لم ينه البيان في الكل؛ فهو بيان التفصيل الذي ذكرنا أنه يقر في المذكور، ولا يتعدى إلى آخر، ولو كان ذكر ذلك لبيان الوقت لاكتفى بذكره في الواحد عن الكل؛ إذ ذكر في الكل على المبالغة؛ فلما ذكر على بيان التفصيل دل أنه ليس لبيان الوقت، ولكن لنفي المسيس عن خلال الصوم والعتق المذكورين دون الطعام الذي لم يذكر فيه، وتبين أن إخلاء الصوم والعتق عن المسيس حكم عرفناه بالنص غير معقول المعنى؛ فلا يتعدى عنه إلى غيره، ويكون مثاله ما ذكر في قوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً. . .) الآية، على ما عرف في موضعه، والحاصل في المسألة طريقان: أحدهما: بحق القياس، والآخر: بحق الاحتياط. أما القياس ما ذكرنا أن قوله - تعالى -: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) لإخلاء الصوم عن المسيس عن خلال الكفارة، لكن إنما ذكر في الإعتاق والصوم دون الإطعام؛ فدلنا ذلك على أنه بيان تفصيل؛ فيكون دليلا على قصر الحكم على المنصوص، ومنع التعدية إلى غيره؛ لما هو علم أن العقول تقصر عن إدراك ذلك المعنى، فجعلنا نفي المسيس عن خلال الصوم والعتق واجبًا بالنص؛ حتى لا يكون كفارة بدونه، ولم يجعل في باب الإطعام شرطًا. وأما طريق الاحتياط، فهو أنه لما احتمل أن يكون لبيان الوقت أو لنفي المسيس عن خلال الصوم، فأخذ فيه بالاحتياط، وفي الإطعام أخذ بالقياس؛ لما أنه لم يذكر فيه المسيس، وذكره في الصوم والعتق لم يكن بيان كفاية حتى يكون ذكره ذكرا في الإطعام؛

بل هو بيان تفصيل وأن حكمه القصر على المنصوص دون التعدي، واللَّه أعلم. وفي الآية دلالة لصحة مذهب أبي حنيفة - رحمه اللَّه - في أن العتق يحتمل التجزئة، وهو أن يعتق بعضه، ويبقى الباقي بحاله ثم يعتقه بأوقات بعده؛ إذ قال: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)، أي: تحرير رقبة بلا مماسة في التكفير، ولو كان بعض العتق يوجب عتق الكل لكان لا يفيد قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)، ألا يقع العتق إلا قبل المماسة؛ فلما قال دل أنه أراد - واللَّه أعلم - بألا تمسوهن عندما أعتقتم بعضه ولم تعتقوا الكل حتى يكمل ويتم فيه الإعتاق؛ ولهذا قال بأنه يلزمه الاستئناف في العتق كما في الصوم؛ فدل أن الإعتاق متجزئ، واللَّه أعلم. ثم جعل الكفارة فيه ما ذكرنا، ولم يجعل الكفارة فيه التوبة والاستغفار فقط؛ لوجهين: أحدهما: أنه لو جعل توبته به لكان لا يظهر ذلك، وأنه أمر بينه وبين المرأة؛ فلا يدري أنه تاب أو لم يتب، وربما يظهر التوبة بالقول وإن لم يتب حقيقة بقلبه؛ فتتهمه المرأة؛ فجعل التوبة فيه أمرا ظاهرًا يعرف به توبته؛ دفعًا للتهمة عنه، وتسكينًا لقلب المرأة، والله أعلم. والثاني: أن اللَّه جعل الاستمتاع في النكاح نعمة عظيمة؛ فتشبيهها بالمحرم الذي يتأبد حرمته: أمر فظيع، فلم يجعل له الخروج منه بشيء لا يثقل عليه فيقدم ثانيًا وثالثًا لخفة أمره عليه؛ بل جعل ما يتألم عليه ويشتد عليه زجرا له عن مثله في المستقبل ولغيره: كما في الزنى وغيره من الأجرام. ثم لم يجعل ملك اليمين للاستمتاع خاصة -وإن أبيح لهم ذلك- ولا جعل لهن قبل السادات حق الاستمتاع؛ فلم يصر تشبيههن بمن ذكر كفران نعمة عظيمة، ولا إبطال حق لهن قبل مواليهن؛ لذلك افترقا، واللَّه أعلم. وقيل: إن الظهار كان طلاق قوم، فأبدل إلى تحريم المتعة، ولم يكن للإماء حظ من الطلاق، وهو الطلاق، ولم يكن لهن حظ من الذي صار وانتقل إليه. ولكن إن ثبت هذا كان طلاقًا يوجب حرمة لا ترتفع أبدًا، لا طلاقًا يوجب حرمة ترتفع بالنكاح، على ما تقدم ذكره. والإماء لم يكن لهن حظ من هذا التحريم؛ لعدم تصور ملك النكاح مع ملك اليمين، فأما لهن حظ من الحرمة المؤبدة بالمحرمية: فإن كان تلك الحرمة هي الأصل، وهن أصل لها، مع قيام ملك اليمين، يكن أهلا لما ينتقل إليه من الحرمة المؤقته؛ دل أن الطريق ما قلنا، واللَّه أعلم. وفي الآية دلالة جواز تأخير البيان؛ لأن ذلك الرجل ظاهر من امرأته اشتد بهم

الحاجة إلى معرفة ما يجب فيه من الأحكام، ثم تأخر نزول بيان ما يجب عليهم؛ فطلبوا من عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بيان الحكم؛ فدل أن البيان قد يجوز أن يتأخر عن وقت قرع الخطاب السمع؛ بخلاف الأولى؛ لأن في الأول قد ظهرت الحاجة واشتدت لوقوع النازلة وفي نزول العام الذي أريد به الخصوص لا وكذلك على هذا ما نزل من أحكام الإيلاء والقاذف زوجته بعد وقوع النازلة بأوقات، دليل على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. ثم جعل صيام شهرين بدلا عن العتق في كفارة الظهار والقتل وكفارة الإفطار في شهر رمضان، وجعل في كفارة اليمين صوم ثلاثة أيام بدلا عن العتق، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ). صرح صاحب [(الواضح)] بأن قوله: (ذَلِكَ)، أي: ذلك أمرتم ونهيتم؛ (لِتُؤْمِنُوا). ولكن عندنا تأويل قوله: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّه) هو صلة قوله - تعالى -: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا. . .) الآية، يقول: أخبركم بما كان ذلك منكم في السر، وأطلعكم على ذلك؛ لتؤمنوا باللَّه ورسوله، أي: لتصدقوا وتعلموا أنه لا يخفى على الله من أعمالكم شيء. ومنهم من قال: ذلك راجع إلى قوله: (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) أي: ذلك الفرج والمخرج عما امتحنتم به من الحرمة وما اشتد عليكم؛ لتؤمنوا باللَّه ورسوله لما فرج عنكم بالخروج بما ذكر، واللَّه أعلم. ومنهم من قال: (ذَلِكَ): القول المنكر الزور الذي قلتم وأعلمكم أنه منكر وزور؛ لتؤمنوا باللَّه ورسوله؛ فيخرج ذلك على الأمر بالشكر له ما أنعم عليهم، وجعل لهم من الفرج والمخرج عما امتحنوا بأدائها، وهكذا العبادات التي أمروا بها: أمروا؛ لإحدى ثلاث خلال: إما بحق الشكر بما أنعم عليهم. أو لتسليم الأمر له والخضوع. أو لحق الاستغفار والتكفير بما سبق من التفريط والتقصير، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله - تعالى -: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) على غير هذا، أي: ذلك الذي أنزل؛ لتؤمنوا، أي: لتجددوا الإيمان باللَّه - تعالى - ورسوله في كل وقت وكل ساعة؛ إذ يلزم الناس إحداث الإيمان، وتجديده لإحداث الرخص والعزائم التي تجددت واللَّه أعلم.

(5)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ). قيل: أي الذي افترضه اللَّه عليكم من الأحكام، وقال الزجاج (حُدُودُ اللَّهِ)، أي: موانع اللَّه تعالى؛ لذلك سمي الحاجب: حدادًا؛ لأنه يمنع الناس منه. وعندنا قوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي: زواجر اللَّه وموانعه، على معنى أنه يمنع كل شيء عن الدخول في حد الآخر يمنع الباطل عن الدخول في حد الحق والاختلاط به. وفي الآية دلالة خلق أفعال العباد؛ لأنه أضاف الفرائض، وهي الطاعات إلى نفسه بقوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ)، وأنها أفعال العباد؛ دل أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله - تعالى - وإنما خص هذه الأعمال بالإضافة إلى نفسه، مع أن جميع الأفعال مضافة إليه بخلقه إياها تبجيلا وتعظيمًا لها، كما قال اللَّه - تعالى -: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)، أضاف المساجد لنفسه؛ تبجيلا وتعظيمًا لها. وعلى هذا يخرج تأويل من قال في قوله: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا)، من نفسي؛ فكيف أظهرها لمن دونه أراد بهذه الإضافة تبجيلا وتعظيمًا لأمر الساعة؛ فكأنه يقول: إنما لم أظهر أمر الساعة لذلك الخلق الذي هو بهذه المنزلة، فكيف أظهرها لكم أي: لا أفعل ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ). أي: للكافرين باللَّه وبحدوده عذاب أليم في الآخرة؛ لأن عذاب الكفر إنما يكون في الآخرة عذابًا دائمًا لا انقضاء له، ولا قوة إلا باللَّه. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). قال بعض أهل الأدب: المحاد هو الذي يجعل نفسه في حد غير الحد الذي أمره الله ورسوله، وكذلك قوله: يشاقون اللَّه، أي: يكونون في شق غير الشق الذي عليه رسول اللَّه، أو كلام نحوه.

(6)

ومنهم من قال: حددته عن طريقه، أي: عدلته عنه، وبعضه قريب من بعض. وأصله ما ذكر: (يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، أي: يمانعون الناس ويزجرونهم عن الطريق؛ لئلا يأتوا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويتبعوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). قيل: غلبوا وردوا بغير حاجتهم كما غلب ورد الذين كانوا من قبلهم. وقيل: أهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم. وقيل: أخزوا كما أخزي الذين كانوا من قبلهم. وكله قريب بعضه من بعض. ثم يخرج تأويله على وجهين: أحدهما: أي: كبت هَؤُلَاءِ الذين منعوا الناس عن اتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أهل مكة، كما كبت من قبلهم. أو كبت هَؤُلَاءِ الذين مانعوا الناس عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، كما كبت الذين مانعوهم عنه بمكة؛ لأن هذه السورة مدنية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ). أي: آيات تبين حدود اللَّه من غير حدوده، أو ما يبين الحق من الباطل، والرسول من غيره، أو المحاد من غير المحاد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ). أي: للكافرين كلهم عذاب يهينهم؛ كما أهانوا المؤمنين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6). أي: الأولين والآخرين، والمحادين والموافقين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ). أي: ليبعثهم اللَّه جميعًا، فينبئهم بما عملوا من خير أو شر، أحصى اللَّه ما عملوا، وإن طال ذلك أو كثر، ونسوا هم تلك الأعمال. خرج هذا على الوعيد، وفيه دلالة رسالته؛ إذ أخبر أن اللَّه - تعالى - يحصي ذلك عليهم، وأنهم نسوا؛ فلم يتهيأ لهم أن ينكروا عليه أنهم لم ينسوا؛ دل أنه باللَّه علم ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

(7)

أي: على كل شيء من الإحصاء والحفظ وغير ذلك شهيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7). فإن كان هذا الخطاب لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يكون فيه دلالة رسالته أن أطلعه على ما أسروا فيما بينهم من المكر برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وتناجوا بينهم من الكيد والخداع، أطلع اللَّه - تعالى - رسوله على ذلك؛ ليعلم أنه باللَّه علم ذلك. والثاني: بشارة له بالنصر والمعونة، وهو كقوله - تعالى - لموسى وهارون - عليهما السلام -: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، أي: أسمع ما يقول لكما وما يجيب، أو أرى ما قصد بكما، وأدفع عنكما ما قصد بكما؛ فعلى ذلك ما ذكر له: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) فيطلعك على ما هموا بك وأسروا فيك، فينصرك ويدفع عنك كيدهم. وجائز أن يكون الخطاب ليس لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة؛ ولكن لكل في نفسه؛ فيصير كأنه قال: ألم تر إلى عجائب ما أنشأ من السماوات والأرض قبل إنشاء أهلها فيهما، فإذا رأيت عجائب ما أنشأ من السماوات والأرض وأهلهما، وعلمت ذلك فاعلم أنه بما يكون ومن نجواهم، فيما ذكر عالم؛ فيخرج على التنبيه والزجر عن الإسرار والنجوى. ثم قوله: (رَابِعُهُمْ)، و (سَادِسُهُمْ)، و (مَعَهُم) ونحوه يجب أن ينظر إلى المقدم من الكلام؛ فيصرف قوله: (هُوَ مَعَهُم) إلى ذلك، نحو قوله (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا)، (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)، ونحوه - يكون معهم في التوفيق والمعونة لهم والنصر؛ فعلى ذلك ما ذكر من قوله: هو معهم في النجوى وما أسروا فيما بينهم، أي: شاهد معهم حافظ عليهم، يدفع عنكم كيدهم ومكرهم وينصركم، واللَّه أعلم. وقوله: (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). أي: ينبئهم بما تناجوا وأسروا من الكيد يوم القيامة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8). هذا الخطاب لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: اعلم أن الذين نهوا عن النجوى، (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ. . .) الآية. وفيه دلالة إثبات الرسالة؛ لأنه أخبر أنهم عادوا إلى ما نهوا عنه وهو النجوى، ومعلوم أنهم لا يعودون إلى ما نهوا عنه بحضرة أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولكن عند غيبة منهم؛ دل أنه باللَّه علم.

ثم اختلف في سبب تلك النجوى: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه كان بين اليهود وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - موادعة، فإذا وجد رجل من المسلمين وحده يتناجون بقتله بينهم، أو يظن المسلم أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره؛ فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فنهاهم عن النجوى، فلم ينتهوا، وعادوا إلى النجوى؛ فنزل ما ذكر. ومنهم من قال: إن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا إذا خرجوا من عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قام أناس من اليهود وأناس من المنافقين يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون نحو واحد منهم، فإذا رآهم ينظرون نحوه، قال: ما أظن هَؤُلَاءِ إلا قد بلغهم خبر أقربائي الذين بعثهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في السرايا من قتل أو موت؛ فيقع في قلبه من ذلك ما يحزنه، فلا يزال كذلك حتى يقدم حميمه من تلك السرية. لكن الأولى عندنا السكوت عن ذكر هذا وأمثاله؛ لأنه خرج مخرج الاحتجاج وجعله آية عليهم؛ فيجوز أن يكون على خلاف ما ذكر؛ فيوجب الكذب في الخبر؛ فالإمساك عنه أحق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ). ذكر أنهم كانوا إذا أتوا رسول اللَّه يقولون: السام عليك يا مُحَمَّد؛ فيجيبهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويرد عليهم ويقول: عليكم. ففيه دلالة رسالته؛ لأنهم حيوه شرًّا منه، فأطلعه اللَّه - تعالى - على ما أسروا، وكذلك ما قال: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ): هلا يعذبنا اللَّه بما نقول في السر فيه دلالة الرسالة؛ لأنه معلوم أنهم قالوا ذلك سرا في أنفسهم، فأطلع اللَّه - تعالى - رسوله على ما في أنفسهم، ففيه أنه باللَّه - تعالى - عرف أذلك. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ - خبرا عنهم: (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ). جائز أن يكون من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لهم وعيد بالتعذيب؛ لأجل التناجي الذي كان فلما تأخر ذلك عنهم قالوا عند ذلك: إنه لو كان رسولًا على ما يقوله لعذبنا على ما قال ووعد، لكن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إن كان وعد لهم العذاب لم يبين متى يعذبون، فعذابهم ما ذكر حيث قال: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، واللَّه أعلم.

(9)

ويحتمل أن يكون قولهم: (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) إنما قالوا ذلك عند رد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عليهم بما حيوه حين قال: " وعليكم " يقولون: إنه دعا علينا بقوله: " وعليكم "، فإن كان رسولا لأجيب دعاؤه الذي دعا علينا، لكن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يدع عليهم؛ إنما رد قولهم عليهم ردًّا، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى). إن أهل التأويل صرفوا الآية إلى المنافقين، وعندنا يحتمل صرف النهي إلى المؤمنين عن التناجي بمثل ما تناجوا أُولَئِكَ، أي: لا تتناجوا أنتم يا أهل الإيمان فيهم بالإثم والعدوان كما تناجوا فيكم، يقول: لا تجازوهم بالذي فعلوا هم بكم، ولكن تناجوا فيهم بالبر والتقوى، وهو كقوله - تعالى -: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا): نهى المؤمنين أن يجازوهم جزاء الاعتداء الذي كان منهم من صدهم عن المسجد الحرام؛ بل أمرهم بالتعاون على البر والتقوى، قال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)، فعلى ذلك يحتمل هذا، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون في المؤمنين حقيقة على الابتداء؛ نهيا منه لهم، يقول: إذا تناجيتم فلا تتناجوا فيما يؤثمكم ويحملكم على العدوان: على المجاوزة عن الحد، ومعصية الرسول فيما يأمركم وينهاكم، (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى): يحتمل كل أنواع الخير، وأما التقوى فهو كل ما يقون به أنفسهم عن النار، وقد تقدم ذكره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). جائز أن يكون هذا الخطاب لهم -أعني: المؤمنين والكافرين الذين يقرون بالحشر-

(10)

لأن أهل الكتاب وبعض المشركين يقرون بالبعث، وبعض المشركين ينكرون مع الدهرية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10). أي: النجوى الذين كانوا يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، ليس كل نجوى على ظاهر ما يخرج الخطاب عامًّا؛ ولكن يرجع إلى النجوى التي ذكرنا، وهو الذي نهوا عنه. ثم قوله: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ) جائز أن يكون معناه: ابتداء النجوى في الشر من الشيطان، وهو ما ذكر في بعض القصة أن اللَّه - تعالى - لما خلق آدم - عليه السلام - قال إبليس للملائكة: أرأيتم إن فضل هو عليكم ما تصنعون؟ فأجابوه بما أجابوا؛ فقال هو: إن فضلت عليه لأهلكنَّه، [وإن فضل هو عليَّ لأعصينَّه]، فقد ناجاهم في أمر آدم - عليه السلام - بالشر، فكان أول النجوى في الشر من الشيطان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا). لولا أن الشيطان في حال الحزن يكون أملك على إفسادهم وإخراجهم من أمر اللَّه - تعالى - وإدخالهم في نهيه؛ وإلا لم يكن لقوله: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) معنى؛ فدل أنه - لعنه اللَّه - في حال الحزن والغضب أملك وأقدر من حال السرور والسعة، لكنه بما يدعوه إلى اللذات ويمنيه أشياء كان قصده من ذلك أن يوقعه في الضيق والشدة لما هو عليه أقدر في تلك الحال؛ ولذلك قال لآدم وحواء - عليهما السلام -: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى)، تلقاهم بالغرور بالذي ذكر، ومناهم ما ذكر، وكان قصده من ذلك إبداء عورتهما وإيقاعهما في الضيق والبلاء؛ حيث قال: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا. . .) الآية، مكن اللَّه - تعالى - إبليس من الشر بالذي ذكرنا، ولم يمكن له من إفساد الطعام واللباس والأشربة ونحو ذلك، وهو دون الأول، وذلك أكثر، لكن هذا في الضرر الدنياوي أكثر؛ فلم يمكنه من إفساد هذه الأشياء تفضلا منه وإحسانًا عليهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ). أي: ليسوا بضارين لهم فيما يتناجون من الكيد بهم والمكر، واللَّه أعلم. ثم قال: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). أي: في دفع من قصدهم من الكيد بهم والمكر والهلاك، وعليه يتوكلون في النصر لهم والمعونة على أعدائهم، والتوفيق لهم في كل خير، وكل هذا وصف المؤمنين وأما المعتزلة، فهم بمعزل عن هذه الآية، وكذلك: المؤمنون على قولهم غير متوكلين على ¬

_ (1) في المطبوع هكذا [وإن فضل هو عليَّ لأعاديه] والتصويب من (أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي. 1/ 63).

(11)

اللَّه؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه - تعالى - قد أعطى كلا من النصر والمعونة ما ينتصر على أعدائه وينتقم منهم حتى لا يبقى عنده مزيد ما ينصرهم ويعينهم على شيء؛ فعلى قولهم لا يقع للمؤمنين في التوكل على اللَّه - تعالى - شيء؛ لأنه ليس عنده ما ينصرهم ولا ما يعينهم، فعلى ماذا يتوكلون عليه على قولهم إذا لم يملك ما ذكرنا، ومن قولهم: إن على اللَّه - تعالى - أن يعطي من المعونة والتوفيق حتى لا يبقى عنده مزيد بشيء فلو منع شيئًا من ذلك لم يعطهم يكون جائرًا، ثم إذا أعطاهم ما ذكروا، ولا يهتدون ولا ينتصرون، واللَّه - تعالى - قال: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ)، وقال: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي)؛ فدل أن ما قالوا مخالف للكتاب. ثم اختلف في اشتقاق النجوى: فمنهم من قال: هو من النجوة، وهو المكان العالي المرتفع: وذلك أنهم كانوا يقومون في مكان مرتفع فيتحدثون فيه فإذا رأوا من قصد بهم فيتفرقون، أو كلام نحو هذا معناه. ومنهم من قال: التناجي: التخالي بما ذكروا، فيكون معنى قوله: (إِذَا تَنَاجَيْتُمْ) أي: إذا تحاليتم فلا تتخالوا بما ذكر. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: التناجي من التشاور، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11). يخرج على وجهين: أحدهما: وإذا قيل لكم تأخروا في المجلس فتأخروا، (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا)، أي: ارتفعوا وتقدموا؛ فيكون قوله: (تَفَسَّحُوا) إذا كان الحضور أولا هم الذين همتهم السماع والعمل به ثم جاء من يريد التفقه فيه، فقيل لهم: تأخروا؛ حتى يقرب من يصير إمامًا للناس وفقيهًا لهم. وإذا كان الحضور هم الذين همتهم أن يكونوا هم الأئمة، ثم جاء بعد ذلك من كان همتهم السماع والعمل به، قيل للذين تقدموا أولا: ارتفعوا وتقدموا حتى يسمع من حضر بعدكم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم. والثاني: أنه إذا كان في المجلس أدنى سعة وفسحة ما يمكن تمكين غيره بالتحريك والتفسح دون القيام يقال لهم: تفسحوا. وإذا لم يمكن ذلك إلا بالقيام قيل لهم: قوموا وارتفعوا وتقدموا. وقوله: (يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) يحتمل وجوهًا: أحدها: يفسح اللَّه لكم في القبر، أو في الآخرة في الجنة، أو يفسح اللَّه لكم في

المجلس أو يفسح لكم فسحة القلب وتوسعة للعلم والحكم، واللَّه أعلم. وقال الحسن: (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ)، أي: في القتال والحرب، (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا)، أي: إذا قيل: انهزوا إلى العدو فانهزوا. قال قتادة: أي: إذا دعيتم إلى خير أو صلاة فأجيبوا. وقيل: هو كل خير: من قتال عدو، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو حق كائنًا ما كان، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ). أخبر أنه يرفع اللَّه الذين آمنوا، وأخبر أنه يرفع اللَّه الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات؛ لفضل العلم على سائر العبادات من الجهاد وغيره؛ ألا ترى أنه قال في آية الجهاد: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً)، جعل للمجاهدين على القاعدين فضل درجة، وللذين أوتوا العلم على الذين لم يؤتوا درجات؛ ليعلم فضيلة العلم على غيره، وكذلك قوله - تعالى -: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يجلس قومًا عند نفسه؛ ليتفقهوا في الدِّين، ويبعث قومًا سرايا، حتى إذا رجع السرايا أنذرهم الذين تفقهوا في الدِّين وتعلموا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. فإن كان التأويل هذا؛ ففيه دلالة فضيلة العلم على الجهاد؛ حتى أحوج أُولَئِكَ إليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان ينفر من كل قوم طائفة؛ ليتفقهوا في الدِّين، فإذا رجعوا إلى قومهم أنذروا قومهم. وقال قتادة: إن بالعلم لأهله فضيلة، وإن له على أهله حقًّا، ولعمري الحق عليك أيها العالم أفضل، واللَّه يعطي كلا من فضل فضله. وقتادة يقول في قوله - تعالى -: (إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا): إنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا يضنون بمجالسهم عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأمر اللَّه - تعالى - أن يفسح بعضهم لبعض. وقال مقاتل: أقبل نفر من الأنصار ممن شهد بدرًا، فسلموا على نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومن حوله، فردوا السلام، وضنوا بمجلسهم من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلم يوسعوا لهم؛ فقال لهم رسول اللَّه: " قم يا فلان ويا فلان " لنفر منهم من الذين لم يشهدوا بدرًا؛ فتكلم في ذلك

(12)

المنافقون؛ فنزلت هذه الآية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12). يشبه أن يكون ما ذكر من مناجاة الرسول - عليه السلام - على وجوه، والناس في مناجاته طبقات: أحدهم: يناجيه مسترشدًا في أمر الدِّين، وما ينزل به من النوازل. والآخر: يناجيه افتخارًا به على غيره من الناس ومباهاة منه؛ ليعلم أن له خصوصية عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وفضلا له عنده، وهو صنيع المنافقين. والفريق الثالث: يناجونه؛ ليسمعوا الناس الكذب ويسمعوهم غير الذي سمعوا، كقوله - تعالى -: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ)، وهم اليهود وصنيعهم ما ذكر؛ فجائز أن يخرج المناجاة مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الوجوه التي ذكرنا. ثم ما ذكر من تقديم الصدقة على المناجاة يخرج على وجوه: أحدها: أمر بتقديم الصدقة؛ لعظم قدر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والخصوصية له، يطهر بتلك الصدقة ويصير أهلا لمناجاة بها، وهو كالطهارة التي جعلها سببًا للوصول إلى مناجاة الرب، سبحانه وتعالى. والثاني: لما خصهم بمناجاة الرسول، وجعلهم أهلا لها، أمرهم بتقديم الصدقة؛ شكرًا له منهم بذلك. والثالث: جائز أن يكون أمرهم بتقديم الصدقة؛ امتحانًا منه إياهم؛ ليظهر حقيقة أمرهم، وهو ما جعل الأمر بالجهاد سببًا لظهور نفاقهم وارتيابهم في الأمر؛ فكذلك الأول، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون الأمر بالصدقة لأهل المناجاة على الذين كانت لهم حوائج عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيمنعونه عن قضاء حاجاتهم بالاشتغال بالمناجاة، أمرهم بالصلة لأُولَئِكَ؛ تطييبًا لقلوبهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ). أي: أن تقديم الصدقة أطهر لقلوبكم من ترك الصدقة. وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). جائز أن يكون هذا الأمر لأهل الغناء دون الفقر، حتى قال: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) ما تصدقون به، (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(13)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13). قال عامة أهل التأويل: أي: أبخلتم يا أهل الميسرة أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ). أي: تجاوز عنكم إذ لم تفعلوا. (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ). أي: إذا لم تصدقوا تلك الصدقة فآتوا زكاة أموالكم. قال أهل التأويل: نسخ ما أمروا به من الصدقة عند المناجاة بما ذكر: من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). هذا وعيد، ثم في قوله: (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ) دلالة قبول خبر الواحد؛ لأنه يناجيه ولا يعلم به غيره؛ دل أنه يقبل إذا أخبر به غيره. وفيه أن لا كل مناجاة تكون من الشيطان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ناجى من ذكر؛ فدل أن قوله: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ) مصروف إلى ما سبق ذكره. وفيه ألا يفهم من ذكر اليد الجارحة لا محالة؛ فإنه قال: (بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ)، وليس للنجوى يد ولا بين، وكذلك قوله: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، ولم يشكل على أحد أنه لم يرد باليد الجارحة هاهنا؛ فكيف فهم فيما أضيف إلى اللَّه - تعالى - في قوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، وقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الصدقة تقع في يد الرحمن ": الجارحة، لولا فساد اعتقادهم في اللَّه - تعالى - وتشبيههم إياه بالخلق. وقال قتادة: أكثروا النجوى مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فمنعهم اللَّه تعالى عنه، فقال: (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً. . .) الآية. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أنا أول من عمل بها، تصدقت بكذا، ثم نزلت الرخصة.

(14)

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ). يذكر سفه المنافقين لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لتوليهم قومًا غضب عليهم، على ما علم منهم أن الله - تعالى - قد غضب عليهم؛ لكنهم تولوهم طمعا منهم في أموالهم وفيما كان عندهم من السعة وفضل الدنيا، ثم أخبر أنهم ليسوا منكم، أي: ليسوا على دينكم، ولا أنتم منهم، أي: على دينهم، أي: أُولَئِكَ اليهود؛ لكنهم يتولونهم طمعًا فيما عندهم من فضل الدنيا. (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). كأنه قيل لهم: لم توليتم قومًا غضب اللَّه عليهم؟! فحلفوا أنهم لم يتولوهم؛ فأخبر أنهم كاذبون في حلفهم. وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنهم تولوا اليهود سرًّا من المؤمنين، وحلفوا كذبًا، فأخبرهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتوليهم وكذبهم في الحلف؛ دل أنه - عليه الصلاة والسلام - عرف ذلك بالوحي ثم أخبر ما أعد لهم في الآخرة بتوليهم أُولَئِكَ وحلفهم بالكذب، فقال: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15). أي: قد أساءوا إلى أنفسهم بعملهم الذي عملوا في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ... (16). أي: حلفهم الذي حلفوا: إنهم لم يتولوا أُولَئِكَ اليهود جنة. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). يحتمل: صدوا أنفسهم عن سبيل اللَّه، أو صدوا الناس عن سبيله بما ذكر. (فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).

(17)

أي: يهانون في ذلك العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17). يخبر أن أموالهم التي لأجلها تولوا اليهود وعاندوا المؤمنين لا تغنيهم تلك الأموال من عذاب اللَّه شيئًا إذا نزل بهم، ثم أخبر عن شدة سفههم أنهم يحلفون في الآخرة كما يحلفون لكم في الدنيا بقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ... (18). ثم فيه أن الآية لا تضطر أحدًا إلى الإيمان به والتوحيد؛ لأن الآية ليست أعظم من قيام الساعة، ثم لم يمنعهم ذلك عن الكذب والكفر به، ولا اضطرهم إلى الإيمان به، وكذلك قوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، في الدنيا؛ فإذا كان ما ذكرنا، كان تأويل قوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)، وقوله - تعالى -: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ): أنهم يؤمنون إذا شاء اللَّه، ولا يؤمنون، وإن نزل عليهم الآيات التي ذكر، ولا آية أعظم مما ذكر من إنزال الملائكة، وإحياء الموتى، وتكليمهم أنهم على الباطل، وأن الحق هو الذي دعا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إليه؛ دل هذا كله أن الآية لا تضطر أهلها على الإيمان، واللَّه أعلم. وقوله: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19). قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: (اسْتَحْوَذَ)، أي: غلبهم الشيطان. وقال مقاتل: أي أحاط بهم. وقال الزجاج والْقُتَبِيّ: أي: استولى عليهم. وذلك كله يرجع إلى معنى واحد، وفيه أن الشيطان قد سلط عليهم حتى غلب عليهم بإجابتهم بما دعاهم إليه من معاداة اللَّه ورسوله والمؤمنين، ولكن سلطانه على ما ذكر، وهو قوله: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ)، فعليهم إذا عملوا بما أراد وأجابوه إلى ما دعا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ). يحتمل: أي: أنساهم عظمة اللَّه، أو نعم اللَّه وإحسانه، أو شكر نعمه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ). الحزب هو جمع الفرق؛ تحزبوا، أي: تفرقوا، فحزبه هو جنده كما قال أهل التأويل؛ لأنهم يصيرون فرقًا، ثم يجتمعون، فيكونون جندا له، وجند الرجل هم الذين يستعملهم فيما شاء من القتال وغيره، ويصدرون لرأيه؛ فعلى ذلك أُولَئِكَ الكفرة هم جنده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

(20)

لأنه مناهم في الدنيا أمورا، وأملهم تأميلا فيما اتبعوه، فلم يصلوا إلى شيء من ذلك، وفي الآخرة بقوله: أن لا بعث ولا جنة ولا نار، ولهم فيها عذاب؛ فخسروا الدارين جميعًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20). قيل: في الأسفلين، وقيل: في المهزومين، وقيل: في الآخرين، وقيل: هو في الآخرة؛ كقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وأما في الدنيا فربما يكونون هم الغالبين. ومنهم من يقول: ذلك في الدارين جميعًا هم الأذلاء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21). أي: قضاء اللَّه لأغلبن، ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: ليغلبن مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كقوله - تعالى -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، وفعل ذلك. وجائز أن يكون المراد منه جملة رسله؛ كقوله - تعالى -: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)، وقوله - تعالى -: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا)، ثم الغلبة قد تكون من وجهين: أحدهما: بالحجج والبراهين، وما من رسول إلا وقد غلب على خصمائه بالحجة. والثاني: بالقتال والحرب، وكانت العاقبة للرسل - عليهم السلام - لما لم يذكر أنه قتل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم. وإضافة الغلبة إلى نفسه؛ على إرادة الرسل وأوليائه؛ على ما ذكرنا في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). قوي بذاته؛ لأنه يكون قوة من دونه، وكذلك كل من دونه بتكوينه. أو يكون فيه بشارة لأوليائه أنه قوي عزيز بذاته: أنه ينصرهم على أعدائهم ويقهرهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22). قال عامة أهل التأويل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة؛ لأنه كان كتب إلى أهل مكة: إن رسول اللَّه يقصد إليكم؛ فخذوا حذركم، وكان له بمكة أهل؛ فأراد أن يكون له عندهم يد، فشعر بذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ما حملك على هذا؟ " فقال ما ذكرنا؛ فنزلت الآية فإن كان نزولها فيه على ما ذكروا فهي في براءته من وجهين:

أحدهما: أنه لم يرجع عن الإيمان والتصديق لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأنه لا يعود إلى مثله بعد ذلك أبدًا. والثاني: أنه لم يقصد بصنيعه مودتهم؛ ولكن قصد إلقاء المودة إليهم؛ ليقع عندهم أنه وادهم، وهو في الحقيقة يلقي المودة، وقد يكون ذلك كقوله - تعالى -: (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)، واللَّه أعلم. وإن كانت الآية في غير حاطب فهي للمؤمنين الذين حققوا الإيمان باللَّه - تعالى - وثبتوا عليه؛ لأن أهل الإيمان كانوا أصنافًا ثلاثة: صنف محققون، وصنف يظهرون القتال مع أعدائهم، وصنف منهم لا يقدرون على إظهار ذلك والمناصبة معهم، ولكن يتبعون الأقوياء منهم فأهل الصنف الثالث مترددون يوادون الكفرة في السر، ويظهرون الموافقة للمؤمنين؛ فجائز أن يكون قوله - تعالى -: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... )، أي الذين يحققون الإيمان باللَّه - تعالى - واليوم الآخر لا (يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ)؛ ولكن إنما يوادهم من لم يحقق الإيمان؛ فيكون فيه إخبار عن إثبات الإيمان في قلوبهم كقوله - تعالى -: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ)، أي: أثبت في قلوبهم الإيمان؛ فلا يرجعون عنه، وفيه أن الإيمان موضعه القلب. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ما كان لقوم يؤمنون باللَّه واليوم الآخر أن يوادوا من حاد الله) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ). قيل: أيدهم بنور الإيمان الذي أثبت في قلوبهم، وأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه أثبت المؤمنين على الإيمان (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ)، وقال: (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ). وقيل: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)، أي: برحمة منه. ثم وصف ما أعد اللَّه تعالى لهم في الآحرة فقال: (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ). أي: جند اللَّه، على ما ذكرنا: أنهم يأتمرون بأمره، ويقاتلون أعداءه، ويوالون أولياءه؛ فهم جند اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). قيل: هم الناجون، وقيل: الباقون في نعم اللَّه - تعالى - واللَّه أعلم بالصواب.

سورة الحشر

سُورَةُ الْحَشْرِ وهي مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ. وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). قد سبق تأويل التسبيح وبيان وجوهه. وقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). العزيز: هو الغالب القاهر، وقيل: هو العزيز؛ حيث جعل في كل شيء من خلقه أثر الذل والحاجة، وقوله: (الْحَكِيمُ) له أحد معنيين: معنى الإحكام ومعنى الحكمة: فأما معنى الإحكام فهو أنه أحكم الأشياء على اختلافها وتضادها؛ حيث تشهد له بالوحدانية فهو حكيم؛ حيث وضع الأشياء مواضعها، وخلق الأشياء مواضع. ثم الأصول التي يتولد منها هذه الأشياء والأفعال ثلاثة: الكيانات والطبائع والعقول: أما الكيانات: فنحو النطفة أنها بحيث تصلح أن يكون منها البشر إذا اتصلت بها موادها، ونحو الماء فإنه بحيث يحيا به كل شيء، وبحيث يصلح به كل شيء. والطبائع: حيث خلق في البشر، وهي ما يميلون بها إلى المحاسن والمنافع ويحترزون من المساوي والمضار. والعقول: ليدركوا بها العواقب، ثم إنه علمهم الوجوه التي تتولد من هذه الأشياء؛ فهو حكيم حيث خلق الأصول التي وصفنا، وعلم عباده الأسباب التي بها يولدون، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) [هم بنو قريظة، وقال غيره من المفسرين]: هم بنو النضير وهو أقرب.

ثم المعنى في إضافة الإخراج إليه يخرج على وجهين: أحدهما: أنه اضطرهم إلى الخروج فنسب الإخراج إليه؛ كما قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .) الآية. والثاني: أنه خلق الخروج من ديارهم منهم؛ فأضيف إليه بحكم الخلق، ثم الأصل في إضافة الفعل إلى اللَّه تعالى أنه يجوز أن يضاف إليه على التحقيق وعلى التسبيب، وأما الخلق قلما يضاف الفعل إليهم على جهة التسبيب لا على التمكين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ). اختلفوا فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أول الحشر الجلاء إلى الشام، والحشر الثاني: حشر القيامة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أول الحشر حشر أهل الكتاب وجلاؤهم من جزيرة العرب، والحشر الثاني: حين أجلاهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الشام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي: ما ظننتم أيها المؤمنون أن تنتصروا منهم، فضلا عن أن يخرجوا من ديارهم، ولكن ذلك من لطف اللَّه ومنته عليكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ). لا يحتمل أن يتوهم أحد هذا، والمعنى في ذلك عندنا وجهان - واللَّه أعلم -: أحدهما: أنهم ظنوا أن اللَّه - تعالى - حيث آتاهم القوة والحصون لا يبلغ بهم حكمه المبلغ الذي يخرجون من ديارهم؛ لأنهم كانوا أهل كتاب وكانوا يزعمون أنهم أولى بالله من غيرهم كقوله: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، ويكون قوله: (مِنَ اللَّهِ)، أي: باللَّه وبأمره؛ كقوله - تعالى -: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي: بأمر اللَّه؛ فعلى ذلك، الأول. والثاني: أي: ظنوا أن حصونهم وقوتهم تمنعهم من أولياء اللَّه أن يظهروا عليهم، أو من دين اللَّه أن يظهر فيهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا). يعني: أنه قذف في قلوبهم الرعب من حيث لم يحتسب المؤمن ولا الكافر؛ لأن المسلمين لم يظنوا أن يقهروهم ويغلبوهم؛ مع قلة عددهم وكثرة عدد أُولَئِكَ، وكذا لم يحتسب الكفرة أنهم مع قوتهم وقوة حصونهم يقهرون ويغلبون، حتى منَّ اللَّه - تعالى -

على المؤمنين بأن قذف الرعب في قلوب الكفرة، ذلك لطف عظيم من اللَّه - تعالى - إلى المؤمنين، واللَّه أعلم. ثم الأصل فيما خرج هذا المخرج من نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ)، ومن نحو قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)، ومن نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ)، وما يشاكله أن نحمله على أحد معان ثلاث: أحدها: أن نقول: المراد إتيان آثار فعل اللَّه - تعالى - ويجوز أن يضاف إليه سبيل إضافة حقيقة العمل؛ كما يقال: الصلاة أمر اللَّه، ونحن نعلم أنها ليست بعين أمر اللَّه؛ لكنها أثر أمر اللَّه - تعالى - وكذلك يقال: المطر رحمة اللَّه - تعالى - يعني: أثر رحمته؛ فكذلك إذا نزل بهم آثار حكم اللَّه - تعالى - وتدبيره وفعله: وهو العذاب جاز أن يضاف إليه إضافة حقيقة الفعل، واللَّه أعلم. والثاني: أن يقال بأن ما كان من هذه الأفعال موصولا بصلة فإنه يجوز أن يراد منه تلك الصلة، وإنَّمَا نتكلم بإضافة هذا الفعل إليه مجازا؛ على ما اعتاد الناس من أفعالهم إذا أرادوها أن يأتوها بأنفسهم، وشرح ذلك وبيانه أنه قال: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ)، فكان المقصود من هذا تلك الصلة، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ). وكذلك قوله - تعالى -: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)، وكذلك ما أشبهه من نحو قوله - عز وجل -: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)، ومن قوله - تعالى -: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، أي: استوى تدبيره من حيث وصل منافع الأرض بمنافع السماء، وكذلك ما أشبه، هذا، واللَّه أعلم. والثالث: نقول بأن هذه أسماء مشتركة المعنى، وما كان سبيله هذا السبيل جاز أَن يضاف إلى اللَّه - تعالى - على معنى ليس يقع فيه الاشتراك بالمخلوقين؛ ألا ترى أنه يقال: جاء الليل وذهب النهار، ونحو ذلك على معنى الظهور ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ). هذا يدل على أن الملك للمسلمين في أموال أهل الحرب ليس يقع بمجرد الغلبة ما لم يكن ثم أسر؛ لأنه أخبر أن المؤمنين كانوا يخربون بيوتهم: أضاف الملك إلى الكفرة، مع أن الغلبة للمسلمين؛ فإنكم إذا اعتبرتم علمتم أن اللَّه - تعالى - منَّ عليكم؛ حيث أخرج الكفار من ديارهم؛ فإنه لم يكن ذلك بقوتكم. ويحتمل أن يكون المعنى فيه: فاعتبروا يا أولي الأبصار من أهل الكفار؛ فإن ذلك

(3)

يدلكم ويعرفكم أن اتفاقكم على النصرة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يغنيكم، كما لم يغن هَؤُلَاءِ الذين خرجوا إلى مكة واتفقوا مع المشركين، ثم لم يغنهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ... (3). يعني: لولا أن كتب اللَّه عليهم الجلاء في اللوح المحفوظ، لعذبهم في الدنيا بالقتل. وقوله: (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ). قال هذا في قوم علم أنهم يموتون على الكفر، وما روي أن أحدًا منهم مات على الإسلام؛ فيكون فيه دلالة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يخبر ذلك بالوحي والتنزيل، لا من تلقاء نفسه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4). يحتمل أوجهًا ثلاثة: أحدها: أن يقول: (ذَلِكَ)، يعني: ذلك العذاب في الآخرة بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله، ثم المشاقة والمعاداة والمحادة والمضادة بمنزلة واحدة، وذلك كله: بمعنى المعاداة. وقوله: (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). يحتمل أن يكون على التقديم والتأخير؛ ووجهه أن يقول: إن اللَّه شديد العقاب لمن يشاقق اللَّه ورسوله، أو يكون فيه إضمار كأنه يقول: إن عقوبته لمن يشاق اللَّه ورسوله شديدة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5). وما ذكر أن اليهود نادوا المسلمين: إنكم تزعمون أن اللَّه لا يحب الفساد، وأنتم تفسدون بقطع النخيل لا يحتمل هذا؛ قال اللَّه - تعالى - قبل: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)، فإذا كانت أنفسهم تسخو بتخريب البيوت؛ فما بالها لا تسخو بقطع الأشجار؟! ومعلوم أنه لا يؤمل في البيوت منفعة بعد تخريبها، وقد يؤمل في النخيل منافع بعد قطعها، ولكن إن كان يصح ذلك الخبر فتأويله عندنا أنه يجوز أن يكون المسلمون خوفوهم بالقتل؛ فقالوا على أثر ذلك: إنكم إذا قتلتمونا صارت هذه النخيل لكم؛ فكيف تفسدون أملاككم؟!

(6)

ثم في إذن اللَّه بقطع النخيل أوجه من التأويل: أحدها: أن يكون فيه بيان أن مقاتلة المسلمين إياهم لم تكن لرغبة في أموالهم؛ بل ليستسلموا لله ولرسوله، ويخضعوا لدينه. والوجه الثاني: أن حرمة هذه الأموال إنما هي لحرمة أربابها، وأبيح قتلهم وإتلافهم؛ فما ظنك بأموالهم؟! والوجه الثالث: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كتب عليهم الجلاء، ومعلوم أن أنفسهم بالجلاء إذا خربت بيوتهم وقطعت أشجارهم أسخى منه إذا بقيت ليقطع طمع من أجلي عن المقام؛ فأذن اللَّه - تعالى - في قطع النخيل إتمامًا لما كتب عليهم من الجلاء، والله أعلم. والرابع: أن هَؤُلَاءِ كانوا أئمة اليهود، والتحريف والتبديل للتوراة إنما وقع منهم؛ رغبة في الدنيا وسعتها؛ فأذن اللَّه - تعالى - في قطع النخيل عقوبة لهم، وحزنًا من الوجه الذي وقع له التبديل منهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ). إن كان المراد منه العلم فوجهه أن اللَّه - تعالى - علم منهم ذلك، ولو كان فسادا فيه لنهاهم عن ذلك. وإن كان المراد منه الأمر فهو أن اللَّه - تعالى - أمر بالقطع والترك جميعًا. وإن كان المراد منه المشيئة فهو أن اللَّه - تعالى - قد شاء الأمرين جميعًا، واللَّه أعلم. واللينة: اللون من النخيل؛ كما تقول: فوت وفيتة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ). أي: ليكون كبتًا وغيظًا للفاسقين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6). قال: حق هذه الآية أن تكون مؤخرة، وأن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)، متقدمة؛ لوجهين: أحدهما: أنه ذكر فيه الواو، والواو لا يبتدأ بها إلا في القسم. والثاني: أن قوله: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) حرف كناية، والكناية لا بد لها من معرفة تعطف عليها فترجع إليها؛ فلذلك قلنا: إن حقه التأخير وحق الثانية التقديم، وعلى

ذلك قراءة عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإذا كان كذلك فوجهه: أن الذي وجب صرفه إلى الأصناف التي ذكرنا إنما هو الخمس، وأوجب - هاهنا - من كل الغنيمة، فأبان بقوله: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أنه إنما يصرف هذه الأربعة الأخماس إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دونهم؛ لهذا المعنى: أنهم لم يوجفوا عليه من خيل ولا ركاب، أشار إلى أن استحقاقهم الأربعة الأخماس بسبب إيجاف الخيل والركاب، واللَّه أعلم. وإن كانت القراءة على ما يتلى للحال، ليس على التقديم والتأخير، فإنه يحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) صلة قوله: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. . . وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ)، وإذا كان بناؤه على ذلك، استقام أن يذكر بحرف الواو وحرف الكناية. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن المنافقين وأهل الضعف من المؤمنين الذي آمنوا بالتقليد يظنون في هذا الموضع أن كيف خص هذه الغنيمة قرابته والمهاجرين الذين هاجروا إليه، وكيف آثر بها نفسه؟ والجواب عن هذا: أن هَؤُلَاءِ الأصناف قوم عامة المسلمين تحمل مؤنتهم لولا هذه الغنيمة، ومعلوم أن أنفس المسلمين ببذل ما عليهم من تلك الأمانة أسخى منه لو صرف إلى كل واحد منهم على الإشارة إليه من ملكه الخاص، وعلى هذه العبارة تجري مسائل لنا: أحدها: ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه جعل العقل على أهل الديوان؛ لأن ذلك يخرج مخرج المعونة، ومعلوم أن المعونة على عامتهم؛ فبذل ما رجع من هذا الحق إلى تلك العامة أسهل عليهم لو صرف إلى خاصتهم، وكذلك قوله: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا)، ومعلوم أن منع تلك الزوجة عن أن تذهب إلى دار الحرب بشيء من مال زوجها كان واجبًا على العامة، وكذلك المسلمون إذا أصابوا غنيمة وفيها مال مسلم قد غلب عليه المشركون: أنه ما دام الملك للعامة ولم يقسم يرد عليه من غير بدل، وإذا قسموا، واختص كل واحد بملكه لم يأخذه إلا ببدل؛ فكذلك الأول، واللَّه أعلم. قال الفقيه - رحمه اللَّه -: والذي يجب من جهة العرف والشريعة: أن يكون تحمل مؤنة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أمته: أما من جهة العرف فهو أن من عمل لغيره كان مؤنته على ذلك القول له، وكذلك من جهة الشريعة، ومعلوم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم بأمور أمته في أمور دنياهم وآخرتهم، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا كان أولى ما يجعل لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو مال العامة، وذلك هو الفيء، هذا لو اختصه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لنفسه؛ فكيف وقد قسمه بين

(7)

الفقراء وأهل الحاجة، ولم يأخذه لنفسه؟! ووجه آخر في هذا: ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي "، وقال: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين "، فلو اختص ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لنفسه، لجاز له بما قال، ولكن اللَّه جعل الفيء له بين من كان تحمل مؤنتهم على المسلمين لولا هذا الفيء؛ كي يكون منَّة له على أمته، ولئلا يكون لأحد من أمته عنده - عليه الصلاة والسلام - يد ولا صنيعة، واللَّه أعلم. ووجه آخر: أنه لما لم يؤذن لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في كسب شيء من الدنيا وفضولها؛ حتى يصطنع من فضولها بالمعروف، فجعل اللَّه له الفيء ليكتسب به الفضائل. والمعروف، واللَّه أعلم. وفي قوله: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين ": دلالة أن ما أفاء اللَّه على رسوله وأعطاه فهو له خاصة، يصنع به ما شاء، ويفرقه فيمن شاء، والقول عند أصحابنا في الإمام إذا أعطاه أهل الحرب فيئًا يشترك فيه قومه؛ لأن هبة الأئمة إنما هي لقومهم، وكان هبة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما نصر بالرعب؛ فجاز أن يختص بها قومه واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10). ثم قوله: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى). يعني: رد اللَّه على رسوله من ملك الكفرة، أو ما أعطى اللَّه لرسوله من ملك الكفرة. وقوله: (مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) يجوز أن يكون قرى قد أعطوه، أو يكون هذه بشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في فتح القرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِذِي الْقُرْبَى).

يجوز أن يقال: إن الظاهر من هذه الآية أن يكون المراد منها غير قرابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى "، فقرابة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما تدخل في هذه الآية بالتأويل، وذلك أن المفهوم من ذكر القرابة إنما هو قرابة المخاطبين في الآية، ومعلوم أن الخطاب بالقسم إنما هو للمغتنمين. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) إنما يفهم منه قرابة الرسول - عليه السلام - وذوو القربى من أصحابنا يسلكون في ذلك مذهبين: منهم من يقول: إن هذا الحق في الأصل للمحتاجين من القرابة لوجهين. أحدهما: قوله: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وكان المراد منه منصرفًا إلى المحتاجين؛ فكذلك في القرابة. ومنهم من قال: إن الخمس كان لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصل به إلى قرابته، فلما قبض - عليه السلام - انقطع ذلك الحق؛ لوجهين: أحدهما: قوله - عليه السلام -: " إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة ". والثاني: إنما كانوا يستوجبونه برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإذا قبض انقطع ذلك عنهم؛ على سبيل انقطاع الحقوق عن أصحابها عند وفاتهم، ثم الفائدة في منع ما كان لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الوراثة من وجهين: أحدهما: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يستعمل نفسه في شيء من لذات الدنيا وشهواتها، وكان قائمًا لله تعالى؛ فإذا كان كذلك، جاز أن يكون حقيقة الملك فيه لمولاه، وإن كان في الظاهر له، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: أليست الأملاك كلها لله؟ قيل لهم: نعم، غير أن الإضافة قد تكون خصوصية حال، كقوله - تعالى -: (نَاقَةُ اللَّهِ)، وبيت اللَّه. ووجه آخر: ما كان لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو وقف عليه إلى يوم القيامة؛ ألا ترى أن زوجاته محبوسات عليه لا يحللن لأحد بعده، ونبوته عليه، لم تتحول بعده إلى غيره؛ فلزم - أيضا - أن يوقف عليه ملكه - عليه السلام - ومعلوم أن ما كان موقوفًا فسبيله التصدق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ). له معنيان: أحدهما: أنه لو لم يبين هذه المواضع لكان ذلك الخمس الذي كان لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

(8)

يخلفه فيه الخلفاء من بعده؛ فيداوله الأغنياء بينهم. ومعنى آخر: لو فرق هذا بين الفقير والغني لكان حين يقع هذا للغني بيده كان يكتسب به فضول الدنيا، وأما الفقير فأول ما يقع في يده يستمتع به في منافع نفسه؛ فلذلك فرق في الفقراء، واللَّه أعلم. قَالَ بَعْضُهُمْ: الدولة: هي اسم للذي يدول بين الناس، والدّولة: واحدة، وهي فعلة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). يعني: ما أعطاكم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من هذه الغنيمة فخذوه ولا تظنوا به ظنًّا مكروهًا وما نهاكم عنه فانتهوا، ليس نهي زجر وشريعة، ولكن نهي منع، وما منع منكم من هذا الفيء فانتهوا عنه. وعلى قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)، يحمل معنى الأمر ومعنى الإعطاء، أي: ما آتاكم من الدنيا فخذوه، وما نهاكم من الدنيا عنه -يعني: زجركم عنه- فانتهوا عنه. قال - رحمه اللَّه -: ويروى: أن عامة الفقهاء يحتجون بهذه الآية في موضع الأمر مع لفظ الإيتاء، وليس يوجب ظاهره هذا؛ إذ الإيتاء هو الإعطاء والتمليك، كقوله: (وَآتُوا الزَّكَاةَ)، ولكن وجه الاحتجاج به: أن اللَّه - تعالى - لما أمرنا بأخذ معروفه - عليه السلام - وإن كان في أخذ المعروف من غيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خيار: فلأن يلزمنا الأخذ بأمره والاتباع له أحرى وأولى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). هذا يؤكد ما ذكر من اتباع أمره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8). وما نسق عليه من قوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ. . .)، وقوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ. . .) الآيات ظاهر هذا يقتضي إيجاب حق لهم؛ لأنه إذا قيل: لفلان، لم يكن بد من أن يقال: كذا وكذا، وإذا كان كذلك لم يكن به من حق يذكر لهم، ولا يحتمل أيضًا أن يخفي اللَّه - تعالى - علم ذلك الحق الذي أوجب لهذه الأصناف عن خلقه؛ فالسبيل في ذلك من جهة التأويل عندنا، واللَّه أعلم. ثم يحتمل أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن جوابه: لمن؟ قال: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ). ويحتمل أن يكون الرسول سأل ربه - جل وعلا - عن جوابه: لمن؟ فأخبر: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ).

ثم إنه يجوز أن يكون ذلك الحق، هو ما وظف من الخراج على أهل القرية إذا فتحت وهو ما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لعلي وابن مسعود - رضي اللَّه عنهما - حين فتح سواد الكوفة: أني أستشيركم في أمر، قد أغناني اللَّه - تعالى - عن مشورتكم حين تلوت هذه الآية، ثم تلا: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)، ثم قال: لهَؤُلَاءِ خاصة، وتلا قوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، ثم قال: ليس لهَؤُلَاءِ خاصة، وتلا قوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ. . .). وروي أن بلالا قال له: اقسم بيننا كما قسم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خيبر بين أهل العسكر، وقال: اللهم اكفني بلالا وأهله. ثم قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لو قسمتها بينكم لتركت آخر عصابة في الإسلام لم تصب من هذا، وأخبر اللَّه بقوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) أنهم شركاء هَؤُلَاءِ؛ فجائز أن يكون عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين تلا هذه الآيات تذكر خبرا أخبر به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فعلم أن الحق الذي أوجب اللَّه - تعالى - لهَؤُلَاءِ ذلك. أو يجوز أن يكون اللَّه - تعالى - بلطفه ألهمه وعليا وابن مسعود - رضي اللَّه عنهم - لأنه روي أنهما أشارا عليه بذلك؛ ولذلك قال أصحابنا: إن الإمام إذا افتتح قرية من قرى أهل الحرب فهو فيها بالخيار: إن شاء قسمها بين أهلها ووظف عليهم الخراج، وإن شاء قسمها بين أهل العسكر. وإنَّمَا كان كذلك؛ لأن المقصود من المقاتلة أحد معنيين: إما لتوسيع أمكنة الإسلام أن تضيق، أو يضيق المكان بهم؛ ليستسلموا لدين اللَّه، وينقادوا لأمره، وينظروا في حججه، وليست مقاتلتهم عقوبة كفرهم؛ بل لما وصفنا من المعنى، وهذا المعنى قد يستفاد إذا وظف عليهم الخراج؛ فلذلك كان للإمام الخيار، واللَّه أعلم. ولو فهم بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المعنى الذي لأجله قسم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خيبر بينهم لم يقس سواد الكوفة عليه. والمعنى من قسمته - عليه السلام - خيبر بينهم، عندنا - واللَّه أعلم -: هو أن المسلمين لما صدوا عن البيت بالحديبية بشرهم اللَّه - تعالى - بفتح قريب؛ عوضًا عما نالهم فيما أصابهم، وأما سواد الكوفة فلم يكن فيها شيء من هذا المعنى؛ فلم يجز أن يكون أمره مقيسًا عليه، واللَّه أعلم. وقوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) يحتمل أن يكون المراد منه المجاهدين المقاطعين لأسباب عيشهم من الأموال والديار، أي: لهم هذا الحق الذي سبق وصفه.

(9)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ). لم يخرجوهم من ديارهم في الحقيقة، ولكنهم ضيقوا عليهم حتى خرجوا، فإذن أضيف الإخراج إليهم؛ لما كانوا أسبابًا لخروجهم، وهذا كقوله - تعالى -: (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)، وإبليس -عليه اللعنة- لم يتول إخراجهما من الجنة، ولكن حرضهما على سبب إتيانه؛ فلم يستقرا بعده في ذلك المكان؛ فأضيف الفعل إليه، وقد وصفنا أن هذه الأفعال إذا أضيفت إلى العباد فإنما معنى ذلك أسباب تكون منهم لا حقيقة تلك الأفعال، وما أضيف إلى اللَّه - تعالى - من ذلك فهو يحتمل الأمرين جميعًا: الحقيقة والسبب في ذلك؛ لأجل أن العبد لا يمكنه أن يقدر آخر على فعل في وقت فعله إلا على التسبب، فأما رب العالمين فإنه قادر على إقدار العبد على فعل وقت فعله؛ فلذلك قلنا: إنه يجوز أن يراد حقيقة الفعل فيما يضاف إلى اللَّه تعالى، وهو الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ). يدل على أنه كانت لهم بمكةَ ديار وأموال، ثم مع هذا لم يرو عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رَدُّ شيء من ديارهم عليهم بعد فتح مكة، ولا تضمين أُولَئِكَ شيئًا من أموالهم؛ ليعلم أن أهل الحرب إذا غلبوا على أموال المسلمين ملكوها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ). يعني: أنهم هاجروا لدينهم، وانقطعوا عن أسباب عيشهم من الأموال؛ يبتغون الرزق من اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). دل أن هذا الحق للمجاهدين منهم، ثم قوله: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ)؛ يحتمل وجهين: أحدهما: ينصرون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذكر (اللَّهَ) صلة. والثاني: ينصرون دين اللَّه، ويطيعون رسوله، عليه السلام. وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). يعني: الذين أظهروا صدق الإيمان من قلوبهم؛ لهجرتهم لدينهم وسعيهم إلى ما يزلفهم إلى اللَّه - تعالى - ويقرب إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9). يعني: الذين اتخذوا ديارا واسعة تسعهم والمهاجرين، وهم الأنصار. وقوله: (وَالْإِيمَانَ). أي: أنهم آمنوا قبل هجرة هَؤُلَاءِ، لكي يأمن هَؤُلَاءِ المهاجرون من [إحنهم]، ولا يخافوا

شرهم. وقوله: (مِنْ قَبْلِهِمْ). يعني: من قبل الهجرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)، يعني: أن اللَّه - تعالى - ألقى إليهم محبة؛ حتى أنزلوا المهاجرين ديارهم، وأنفقوا عليهم أموالهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا). يعني: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما قسم خيبر بين المهاجرين، وترك الأنصار لم يقسم بينهم، لم يجد الأنصار في قلوبهم حاجة مما أَعطى المهاجرين، يعني: أن اللَّه - تعالى - أغنى قلوبهم حتى لا يفكروا عن حاجة ولا مقت ألبتَّة. ويحتمل أن يكون المعنى من الحاجة - هاهنا -: الغل والحسد، يعني: أن اللَّه - تعالى - طهر قلوبهم حتى لم يجدوا في صدورهم حاجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ). أي: يؤثرون على أنفسهم في أملاكهم أنهم لا يجدون بما يبذلون هم حاجة مما يملكون، ويؤثرون المهاجرين على أنفسهم، ولو كان بهم حاجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). إن اللَّه - تعالى - خلق في طبع البشر محبة المحاسن والمنافع والطلب لها، وبغض المساوي والمضار والهرب عنها، ثم إنه امتحنهم بالإنفاق مما يحبون، وحمل النفس على ما يكرهون؛ طلبًا لنجاتهم، وتوصلا إلى ثوابهم، ثم وقاية الأنفس من الشح تكون بوجهين: أحدهما: أن يمن اللَّه على عبده ليصير ما هو غائب عنه من الثواب في الأجل كالشاهد؛ فيخفف عليه الإنفاق مما يحب، ويصير ذلك كالطبع له. والثاني: يوفقه اللَّه - تعالى - ويعصمه، ويلهمه تعظيم أمره ونهيه؛ حتى يقهر نفسه ويحملها على الائتمار بأمر اللَّه - تعالى - والانتهاء عما نهى عنه، وإن كان طبعها على خلاف ذلك. ثم إضافة الوقاية إلى نفسه تدل على أنه قد بقي في خزانته شيء لم يؤته عبده، حتى يصف نفسه بأنه يقي عنه شح نفسه، ولولا ذلك لم يكن لوعده بوقاية نفسه عن شحها

(10)

معنى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفلِحُونَ). يعني: الباقون في النعيم الدائم، والفلاح في الحقيقة: هو البقاء في النعيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10). قد علم اللَّه - تعالى - أنه قد يكون في أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من يلعن سلفه حتى أمرهم بالاستغفار لهم. وفيه دلالة على فساد قول الروافض والخوارج والمعتزلة؛ لأن الروافض من قولهم: إن القوم لما ولوا الخلافة أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كفروا. ومن قول الخوارج: إن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كفر بقتاله معاوية وأصحابه. وقالت المعتزلة بأن من عدل عن الحق في القتال خرج عن الإيمان، ولو كان ما ارتكبوا من الزلات يكفرهم أو يخرجهم عن الإيمان لم يكن للاستغفار لهم معنى؛ لأن اللَّه - تعالى - نهى عن الاستغفار للمشركين، فإذا أذن - هاهنا - بالاستغفار لهم تبين بهذا أن ما ارتكبوا من الذنوب، لم يخرجهم من الإيمان، ولأنه أبقى الأخوة فيما بينهم، مع علمنا أنه لم يكن بين الآخرين والأولين أخوة إلا في الدِّين، فلولا أنهم كانوا مؤمنين لم يكن لإبقاء الأخوة معنى، والله أعلم. ولأنه قال - تعالى -: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا)، ولو كان ذلك يخرجهم من الإيمان، لم يكن لهذا الدعاء معنى؛ لأن الواجب أن يكون في قلوب المؤمنين عداوة الكفار ومقتهم، فلما ندب جل شأنه في هذه الآية إلى نفي الغل والحسد عن قلوبهم بتلك الدعوة ثبت أنهم كانوا مؤمنين، واللَّه أعلم. ثم في الأمر بالاستغفار لهم دلالة أنه قد كانت منهم ذنوب يستوجبون بها العقوبة لولا فضل اللَّه ومغفرته، وإن كانوا فيما يتعاطونه مجتهدين؛ ليعلم أنه ليس كل مجتهد مصيبًا. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا). يعني: عداوة يحتمل أن يكون المراد منه المؤمنين الذين سبقوهم. ويحتمل أن يكون هذا في كل المؤمنين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). الرحمة من اللَّه - تعالى - فضل منه على عباده وإحسان إليهم؛ ألا ترى إلى قوله: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ): فأخبر أن رحمته هبة منه وإحسان إلى عبده، واللَّه أعلم.

(11)

ثم الاستغفار في حال الحياة له معنيان: أحدهما: طلب السبب الذي إذا جاءه استوجب المغفرة. والثاني: حقيقة المغفرة. وفي حال الوفاة ليس إلا طلب عين المغفرة، فلما ندب - جل وعلا - إلى الاستغفار لهم بعد وفاتهم، وحال الاستغفار بعد الوفاة على ما وصفنا لا يتوجه إلا على حقيقة المغفرة - ثبت أن ذنوبهم لم تخرجهم؛ لأنه لو كان من حكمه - جل ثناؤه - ألا تحل مغفرتهم إذ ارتكبوا كبيرة لم يكن في الأمر بالاستغفار لهم حكمة، واللَّه أعلم. وقال جعفر بن حرب: إنه ليس في قوله: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا) ما يدل على أنه يجعل في قلوبهم؛ لأنه إذا قيل: لا تفعل بنا شيئًا لم يفهم منه أنه يفعله إذا أحب، ولكن يجاب عن هذا أنه قال تعالى نصا في آية أخرى ما يدل على جعل العداوة؛ ألا ترى أنه قال: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). فإن قال: تأويله: أنه خلى بينهم وبينها، لا أنه جعلها. قلنا: غير محتمل أن يخلق اللَّه - تعالى - العداوة في قلوبهم من غير فعل يكون منهم، وإن كان كذلك ثبت أنه يخلق هذه الأشياء وقت فعل العبد لها، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ). هذه الآية تدل على أن اللَّه - تعالى - جعل حجة رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قول المنافقين في أنفسهم؛ لأنهم قالوا هذا القول سرا منهم إلى أهل الكتاب؛ لأنه لا يحتمل أن يظهروا مثل هذا القول بين يدي المؤمنين؛ ولا كان الكفار يخبرون بهذا أحدًا من المؤمنين، فلما أخبر

(12)

بما قال المنافقون، ثبت أنه ما علمه إلا من الوحي والتنزيل، وذلك علم نبوته عليهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ). يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يجوز أن يكونوا قالوا لهم هذا على أن يتكثر أتباعهم في القتال. والثاني: أنهم قالوا ذلك لأهل الكتاب على حسبان منهم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا علم بحال هَؤُلَاءِ، لم يخرجهم من المدينة؛ خوفًا أن يقال: أخرج أصحابه، وإذن لم يخرج أهل الكتاب ولم يقاتلوا. وقوله: (وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا). يعني: لا ننظر أحدًا فيكم أبدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) يحتمل أن يكونوا وعدوا نصرهم هذا في قرى محصنة، ثم أخبر أنهم: وإن نصروهم ثم انهزموا، هربوا ونفروا وتولوا ولم ينصروهم بعد ذلك أبدًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). لقائل أن يقول: كيف يشهد عليهم بالكذب، والكذب إنما يدخل في الأخبار، وقولهم الذي قالوا إنما هو وعد منهم؛ فحقه أن يقال: إنهم لمخلفو الوعد؟ وبمثل هذه الحجة احتج الخوارج في تكفير من أذنب ذنبًا، وذلك أنهم يقولون: إن من آمن باللَّه - تعالى - فقد اعتقد ألا يعصيه، فإذا عصاه تبين بعصيانه أنه كذب في اعتقاده؛ فكفر لهذا المعنى. ومن جوابنا عن هذا: أن قول المنافقين لأهل الكتاب إخبار منهم عن موالاتهم إياهم، فأخبر اللَّه - تعالى - أنهم كاذبون فيما أخبروا عن الموالاة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12). في هذه الآية حجة رسالته على الفريقين جميعًا وذلك أن هذا خبر عن الغائب، وذلك لا يوصل إلى علمه إلا بالتعليم، ولم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اختلف إلى أحد غيره، ولا تلقن شيئًا من أحد من البشر، فإذا أخبر عما يحدث وعما هو غائب، ثبت أنه ما قاله إلا عن الرسالة والوحي، واللَّه أعلم. قال: ويجوز أن يكون اللَّه - تعالى - ذكر المؤمنين بهذه الآيات على ما لقي الرسول - عليه السلام - ممن كان الواجب عليهم -على ما عليه كانت عادتهم-: الإحسان إليه؛

(13)

وذلك أنه كان من عادة العرب المعونة والنصرة لمن قاربهم في النسب أو القبيلة، وإن كان ظالمًا، ثم إن اللَّه - سبحانه وتعالى - أرسل محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بين أظهرهم من قريش، فأظهروا معه من العداوة ما أظهروا حتى هموا بقتله، وجعل محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين أرسله حجة يظهر لليهود والنصارى وجميع أهل الكتاب ما ذكر في كتابهم من نعته وصفته، فقابلوه بذلك ما قابلوا من سوء الصنيع وإظهار العداوة، وكان هذا كله - واللَّه أعلم - حجة وعلامة، يعلم بها أن رسالته - عليه السلام - لم تظهر بمعاونة أحد؛ بل بنصر اللَّه وفضله وتأييده، واللَّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13). يحتمل أن يكون رهبة هَؤُلَاءِ في صدورهم على التحقيق، ويجوز أن تكون على التمثيل: فأما وجه التمثيل فهو ما قال: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)؛ فأخبر أنهم يعتذرون إليهم بالحلف؛ فيجوز أن يكون معاملتهم هذه -التمثيل- معاملة من يرهبهم؛ فسمى ذلك: رهبة في قلوبهم، وهذا نحو قوله - تعالى -: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ)، يعني: جمع ماله جمع من يحسب أن ماله أخلده؛ فكذلك الأول. ويجوز أن يكون على التحقيق؛ ولذلك أوجه من التأويل: أحدها: أنهم كانوا يظهرون الموالاة لكل فريق، وكان عندهم أن اللَّه - تعالى - ولي أحد الفريقين لا محالة، وإذا نجا أحد الفريقين نجوا هم أيضًا؛ فكأنهم على هذا التأويل كانوا يرهبون الخلق جميعًا، لا أن يختص به المؤمنون، وكانوا لا يرهبون اللَّه؛ لأنهم أمنوا ناحيته من الوجه الذي وصفنا. ويجوز أن يكون رهبتهم من المؤمنين خاصة، وذلك أن أهل النفاق إنما كانوا من أحد الصنفين: أما إذا كانوا دهرية فنافقوا إذا كانوا أهل كتاب، وإن كانوا أهل كتاب فنافقوا، فإن كانوا دهرية فكانوا لا يرهبون اللَّه - تعالى - لما كانوا غير مقرين بالصانع، وإن كانوا أهل كتاب، فإنهم قد أمنوا - أيضًا - لما كانوا يصفون من قولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، وإذا سقطت الرهبة من كلا الجانبين من اللَّه - تعالى - حصلت الرهبة من المؤمنين خاصة، واللَّه أعلم. ويجوز أن يكون تفسير قوله - تعالى -: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) في قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ)، وذلك يحتمل وجهين:

(14)

أحدهما: أنهم لا يفقهون أن البلايا التي في الدنيا ونعيمها تذكير لبلايا الآخرة ونعيمها، وكانوا يرون أنها جعلت لأنفسها، وإذا كان هذا وهمهم وحسبانهم لم يرهبوا من اللَّه تعالى. والثاني: أنهم قوم لا يفقهون من الوعد والوعيد؛ بل كانت رهبتهم ممن كانوا يأملون منهم المنافع ويحذرون مضارهم، فلا يرهبون من اللَّه تعالى. ولقائل أن يقول: إنه لا أحد من أهل الإسلام إلا ورهبته من الناس أشد من رهبة اللَّه - تعالى - لأنك ترى الرجل يمتنع عن الزلة عند اطلاع الناس عليه ما لا يمتنع عن كثير من الزلات فيما بينه وبين اللَّه تعالى. والجواب عن هذا وجهان: أحدهما: أنه ليس بإزاء الخوف من الإنسان رجاء يرجوه، وبإزاء رهبته من اللَّه - تعالى - رجاء يرجوه من رحمته وفضله وإحسانه؛ فيجوز أن يكون الرجاء من رحمته وفضله يغلب عليه؛ فيقترف الذنوب ويرتكبها. والوجه الثاني: إذا كان فيما يرتكبه من الذنب شرك فليس يهابهم، وإنَّمَا خوفه من قوم فيهم سمعة الصلاح وأمارة النصر لدين اللَّه - تعالى - ليس من نفس المخلوقين، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14). قوله: (جَمِيعًا)، أي: لا يقاتلكم أهل النفاق وأهل الكتاب جميعًا معا، وإنهم ليسوا بفاعلين ما وعدوا لأهل الكتاب من النصر والقتال. واحتمل أن يكون استثناؤه من الوعد الذي وعدوا لأهل الكتاب، فإن كان من القتال فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم لا يقاتلون إلا أن يكونوا في قرى أو حصون أو من وراء جدر، لا يعلم بهم أهل الإسلام، واللَّه أعلم. وإن كان من الوجه الثاني فهو يحتمل وجهين أيضًا. أحدهما: أنهم لا يوفون ما وعدوا من النصر في القتال لأهل الكتاب، ولكنهم يلتجئون إلى قرى محصنة؛ ألا ترى إلى ما أخبر اللَّه - تعالى - منهم في ناحية المسلمين: (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ)، فأخبر أنهم قد أظهروا الموالاة للمسلمين كما أظهروا لأهل الكتاب إلى أن جاء القتال التجئوا إلى مكان يستمعون من أخبارهم؛ فعلى ذلك النحو يجوز أن يكون في أهل الكتاب. والوجه الثاني: أنهم لا يقاتلون، ولكنهم يدخلون في قرى محصنة يتربصون لمن يكون

(15)

الظفر والعاقبة؟ كما أخبر عنهم في آية أخرى، وهو قوله - تعالى -: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ): فأخبر اللَّه - تعالى -: أنهم يتربصون العاقبة، فالتجاؤهم إلى قرى محصنة يجوز أن يكون بهذا التأويل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ). يحتمل وجهين: أحدهما: أن يقول: (بَأْسُهُمْ)، يعني: قوتهم (بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)، ما لم يروا أعداء ظاهرة. أو يقول: بأسهم شديد ما دام القتال بينهم؛ لأنه ليس فيهم من أكرم بالرعب مسيرة شهرين، فإذا أكرم بالرعب هذا المقدار من المسير، فلا يحرم ذلك في أهل قريته، وإذا كان كذلك ثبت أن التأويل ما وصفنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى). لأن همة المنافقين سلامة الأنفس وراحة الأبدان، وهمة أهل الكتاب الذب عن المذهب والسعي في إقامته، فإذا اختلف همتهم ومقاصدهم تشتت قلوبهم، وذلك معنى قوله: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ)، يعني: في الهمم والقلوب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ). يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم لا يعقلون حق الوعد والوعيد. والثاني: أنهم لا ينتفعون بما يعقلون. والثالث: أنهم لا يعقلون لمن يكون له العاقبة، وقد وصفنا أن عادتهم التربص لمن يكون الظفر والعاقبة، فإذا اشتبهت عليهم العاقبة ولم يعقلوها لم يوالوا واحدًا من الفريقين في الظاهر والباطن جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15). يجوز أن يكون في هذا إضمار مثل آخر؛ كأنه يقول: مثل هَؤُلَاءِ الكفار كمثل الذين كانوا من قبلهم، وكذلك في قوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً)، يعني: مثل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومثل هَؤُلَاءِ الكفار، على إضمار مثل آخر، ثم التمثيل وكيفيته يحتمل أوجهًا ثلاثة: أحدها: أن يقول: مثل هَؤُلَاءِ الكفار الذين أساءوا لرسوله كمثل الكفار الذين أساءوا

(16)

للرسل من قبله، كان قريبًا أن ذاقوا وبال أمرهم. والوجه الثاني: أن يقول: مثل أهل المدينة من الكفار حين هموا بإخراج الرسول من المدينة كمثل أهل مكة حين أخرجوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من مكة وكان قريبًا، حتى ذاقوا وبال أمرهم من الأسر والقتل، والدليل على أن كفار المدينة هموا بإخراج الرسول على قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا. . .) الآية. ويحئمل أن يكون تخصيصًا لقرية أو قبيلة، ووجه ذلك أن يقول: مثل بني قريظة كمثل الذين من قبلهم وهم بنو النضير، وإن كانوا قريبًا أن ذاقوا وبال أمرهم، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). هذا إخبار أنهم يموتون على الكفر، وفيه دلالة رسالته على حيث أخبر عن الغيب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16). فكذلك المنافقون يظهرون الموالاة والنصر، فإذا جاء القتال امتنعوا وتبرءوا عنهم. ثم قوله: (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) يجوز أن يكون في الآخرة؛ حيث يقول: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ). ويجوز أن يكون في الدنيا، وهو قوله: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) [ ... ]. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ). الأصل إذا ذكرت حال بين العبد وبين سيده، لم يكن بد من إضمار يدخل في ذلك، مثاله قوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا)، يعني: أنه معهم في النصر

والمعونة، وقوله: (لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ): في التوفيق والولاية. وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّقُوا اللَّهَ)؛ لأنه لا يحتمل أن يتقوا اللَّه حتى يكون معهم في التقوى؛ إذ ظاهر اللفظ يقتضي هذا؛ كقوله: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، أي: في الصدق، وإذا ثبت فيه الإضمار كان الوجه في ذلك أحد معانٍ: إما أن يقول: اتقوا حق اللَّه - تعالى - أن تضيعوه، أو اتقوا حده أن تعدوه وتبطلوه، أو اتقوا سخطه واتقوا مخالفته، أو اتقوا الأسباب التي تستوجبون بها مقت اللَّه تعالى. ويحتمل أن يراد من التقوى في هذه الآية أوامره ونواهيه، على ما وصفنا أن لفظ التقوى إذا أطلق جاز أن يراد به الأوامر والنواهي، وإذا ذكر مقابلة أمر كان المعنى منه محارمه ونواهيه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: من عمل بما أمر في هذه الآية سلم من تبعات الآخرة؛ لأنه إذا شعر قلبه أن الذي يفعله يقدمه لغد امتنع عن ارتكاب ما يجب أن يستحي منه أو يخرب عليه في ذلك الوقت، وأتى بما يستر عليه، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون معنى الآية على النظر لما قدمته نفسه للغد، وذلك أنه إذا تذكر، فنظر فيما قدمت نفسه للغد، وذلك أنه دعاه إلى أحد أمرين: إما إلى التوبة عن السيئة التي قدمها أو إلى الشكر على الحسنة التي يتعاطاها، وكل ذلك منه زيادة في الخير، فكان الواجب ألا يغفل المرء عن ذلك، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون هذا على المستأنف من الأفعال أنه ينظر فيما يريد أن يقدمه لغد، فإن كانت عاقبته الهلاك: انتهى عنه، وإن كانت عاقبته النجاة: مضى عليه وأتى به، والله أعلم. ويحتمل قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أن يكون المراد منه: الاتقاء عن ترك النظر لما تقدمه نفسه لغد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اتَّقُوا اللَّهَ): ذكر قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) مرة أخرى، والآية واحدة، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المراد من الأول: أن اتقوا مخالفة اللَّه في أوامره ونواهيه، وفي الثاني: اتقوا سخطه وعقوبته. والثاني: أنه خرج على التكرار على ما جرت العادة في الكلام في التكرير عند الوعيد على التأكيد؛ كقوله - تعالى -: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ)، وكقوله:

(19)

(أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). فيه تحريض على المراقبة والتيقظ وقت فعله؛ لأن علم وقت فعله أن اللَّه - تعالى - مطلع على ما يرتكبه من الذنوب ويقربه من الشرور، امتنع عنها وازدجر، وقالوا: في قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) وعيد من أربعة أوجه: أحدها: في قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ). والثاني: في قوله: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ). والثالث: في قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ). والرابع: في قوله: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). ثم ذكر هذا الوعيد خرج بعدما خاطب المؤمنين، كقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ)، فكان الوعيد في المؤمنين أكثر من الوعيد في الكفرة، لكن المؤمنين يوعدهم عما هي معدة للكافرين؛ لئلا يعملوا عملا يستوجبون بذلك ما أعد للكافرين، وهو كقوله - تعالى -: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، ثم إن اللَّه - عز وجل - سمى الآخرة باسم الغد؛ لسرعة مجيئه، وسمى الدنيا باسم الأمس؛ لسرعة فنائها، وهو كقوله: (فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)، فيذكرهم ويعظهم بهذه الآية؛ ليتفكر كل أحد في نفسه ما به: خلق للعبث، أم خلق لأمر عظيم؟ على ما ذكره اللَّه، تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19). قال بعض المفسرين: (نَسُوا اللَّهَ)، أي: نسوا العمل لله، والنسيان هو الترك، أي: تركوا العمل الواجب لله - تعالى - فأنساهم أنفسهم، أي: خذلهم اللَّه - تعالى - بما نسوا. ثم الوجه عندنا في الآية: أن ليس أحد من البشر يعمل عملا إلا وهو يأمل بذلك نفعًا لنفسه؛ إذ من لا يعمل للنفع فهو عابث في الشاهد في ذلك العمل؛ فهَؤُلَاءِ الكفرة لما لم يأتمروا بأمر اللَّه - تعالى - ولم يطيعوا، وتركوا العمل -صار تركهم العمل لله- والعمل له عمل لأنفسهم - فصاروا تاركين العمل لأنفسهم؛ فكأنه قال: نسوا أنفسهم؛ فصاروا منسيين.

(20)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)، أي: خلق فعل النسيان والترك فيهم: أضاف اختيار النسيان إليهم، ثم أضاف الإنساء إلى نفسه وأثبت فعله فيه، وليس هذا على أن تقدم منهم فعل النسيان، ثم هو أنساهم بعد ذلك؛ لكن على أن خلق ذلك فيهم وقتما اختاروا ذلك الفعل، وهو كقولهم: هداه اللَّه - تعالى - فاهتدى، واهتدى فهداه اللَّه؛ فذلك كله في وقت واحد؛ فكذلك هذا في الخذلان والنسيان: لما اختار هو فعل النسيان خلق اللَّه - تعالى - ذلك النسيان فيه، كما خلق الهداية والكفر باختياره، ولا يجوز أن يحمل ذلك على تقدم بعض على بعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) كقوله: (نَسُوا اللَّهَ)؛ إذ قوله - تعالى - هذا داخل في قوله: (نَسُوا اللَّهَ)؛ إذ العمل لله هو العمل لأنفسهم، والعمل لأنفسهم هو العمل للذي أريد به وجه اللَّه؛ فلذلك قلنا بأن المراد منهما ما في الآخرة. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أنهم لما تركوا طاعة اللَّه فخذلهم اللَّه - تعالى - بتركهم أمر اللَّه تركهم أنفسهم لهم فلم يهتدوا، ثَمَّ للخيرات والطاعات، وهذا من أشد العقوبات. ويحتمل أن يكون معناه: أي: يجازيهم في الآخرة جزاء ما عملوا بأن تركهم في الآخرة في العذاب الدائم؛ فيكون ذلك جزاء لهم بما عملوا في الدنيا وبما تركوا من الإيمان باللَّه تعالى، وهذان التأويلان يرجعان إلى ما ذكر من الخذلان فيما فعلوا، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). فالفسق هو الخروج عن أمر اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20). أي: الناجون، والفوز: هو الظفر بالحاجة، ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) يحتمل وجهين: أحدهما: ألا يستووا في الدنيا، أو لا يستووا في الآخرة، فإن كان على الأول فمعناه: لا يستوي عمل أهل الجنة في الدنيا في العقول وعمل أهل النار، إذ عمل أهل النار بالذي يستقبحه العقول، وأما أفعال أهل الجنة الداعية إليها بالتي يستحسنها العقول؛ لأن عمل هَؤُلَاءِ بالذي ظهر بالبراهين والحجج، وليس لعمل أُولَئِكَ براهين وما أقيم بالبراهين

(21)

والحجج فهو في العقول أحسن من الذي لا برهان عليه، وكذلك كل عمل يستحق صاحبه عليه الثواب فهو في العقول مستحسن، وما يستحق صاحبه عليه العقاب فهو في العقول مستقبح؛ فلم يستويا. وأما الوجه الثاني: لا يستوي جزاء أهل النار وجزاء الجنة؛ إذ في الجنة النعيم الدائم، وفي النار الشدة والنقمة الدائمة؛ فلم يستويا، يذكر اللَّه - تعالى - هذا؛ لينتهوا عن غفلتهم، ويعملوا لله - تعالى - حتى يستوجبوا بها الثواب في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21). اختلف الناس في تأويل هذه الآية: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي التمثيل، وهي على التنبيه والتذكير، وذهبوا في ذلك إلى أن العرب إذا استقبلهم أمر، وأرادوا أن يصفوه بالعظم والشدة كانوا يضربون الأمثال بما يعظم ذلك عندهم وصفه - لم يكن يريدون به الحقيقة في ذلك، وهو كقولهم عند شدة الأمر: أظلم عليَّ ما بين السماء والأرض، وكقولهم: ضاقت علي الأرض برحبها، وكما وصف اللَّه - تعالى - من أمر لوط - عليه السلام -: (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا). فهذا القول من العرب إنما كان على التمثيل فيما يريدون أن يصفوا الشيء بغايتة لا على الحقيقة؛ لأنه معلوم أن الدنيا عليه كما كانت لم تتغير، وكذلك لم يظلم عليه ذلك، لكنهم تكلموا على التمثيل من شدة ما نزل بهم من الأمر، وكذلك قوله - تعالى -: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. . .)، يقول: لو كانت هذه الحجج أنزلت على جبل مع صلابته وشدته، لخضع لله - تعالى - وانصدع؛ من خشيته على وجه التمثيل، لكن قلوب هَؤُلَاءِ أقسى منه؛ حيث لم تخضع ولم تخشع، وهو كقوله: (كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)؛ إذ الحجارة قد تكون فيها منافع: نحو خروج الماء وغيره، فأما قلوب هَؤُلَاءِ الكفرة فليس فيها شيء من المنافع، بل هي قاسية لا تخشع ولا تتصدع، وعلى ذلك حملوا تأويل قوله - تعالى -: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ)، على التمثيل، ليس على حقيقة ذلك. وقال قائلون: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ): إنه حقيقة ذلك الفعل منه: وهو الانصداع والخشوع، وكذلك تأويل قوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ)، فمعناه: لو كان نزول هذا القرآن وما فيه من الأحكام والأمانات التي أوجب على البشر

على الجبل، وكان هو بحيث يملك قبول ذلك باختياره لقيام شرائطه - لكان هو يفزع ويخضع ويتصدع من خشية اللَّه - تعالى - وكان لا يقبل؛ مخافة ألا يمكنه أداء ما لزمه بنزوله، وهو كقوله - تعالى -: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ. . .): فيقول: معناه: لو أنزلنا هذه الأمانات التي في هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا؛ إذ الأمانات التي في هذا القرآن مما قد يلزم المرء لا يمكن أداؤها كلها؛ لأن الأمانات مما يكثر عدها، فضلا من أن يمكن أداؤها؛ فعلى هذا التأويل يخرج على حقيقة التصدع أن لو أنزل عليه -مع عظمه وصلابته- لانصدع؛ فعلى هذا تنبيه للخلق وتذكير لهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن في هذه الآية تذكير الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منته عليه وعلى جميع الرسل: لولا فضل اللَّه ومنته على الرسل، لكان لا يطيق أحد من الرسل حمل ما في الكتب، ولا أداء ما افترض مدَّكرٌ؛ فيسر عليهم وثقل العمل بما فيه، فيقولون كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ): لثقل ما فيه، لكنه نزله عليك، ويسر ذكره ووفقك تبليغ ما فيه إلى أهله. وقال قائلون: إن اللَّه - تعالى - لما أراد أن ينزل التوراة على موسى - عليه السلام - وكانت في لوح من زبرجدة حمراء - أمر الملائكة أن يحملوها فلم يطيقوا حملها، ثم أمرهم أن يحملوا كل حرف منها، فلم يطيقوا ذلك؛ فخفف اللَّه - تعالى - على موسى - عليه السلام - حتى حمل ذلك، فكذلك ذكر ذلك في عيسى وداود - عليهما لصلاة والسلام - ثم خفف ذلك على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فكأنه يقول لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ. . .) كذا، لكنه خفف ذلك عليك كما خفف على الأنبياء من قبلك، وإليه يذهب الكلبي، لكن إن صح هذا الخبر فإن ذلك الثقل لم يكن في تلك الكتابة التي في الألواح، لكن ذلك فيما يلزمهم من العمل بذلك من أداء الأمانات وغيرها؛ لأنه - تعالى - أخبر أنه لو كان أنزل هذا القرآن على جبل (لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، وقال في موضع آخر: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ. . .) الآية. ثم كانت تلك الألواح قد احتملها الأرض، وأمكن لموسى - عليه السلام - حملها؛ فكذلك هذا القرآن كله والتوراة والإنجيل والزبور مما قد يحتمل حقيقة، ويمكن كتابته في قليل الألواح، ثبت أن المراد من ذكره ليس هو الحروف، إنما كان على ما فيه من الأمر والنهي وأداء الأمانات واتقاء اللَّه حق تقاته، لا على نفس تلك الألواح، وهذا الذي ذكرنا

(22)

هو تأويل القوم في نزول هذه الآية، فأما أنا لا علم لي بحقيقة تأويل هذه الآية، ولولا أن في الآية تذكيرًا وتنبيهًا لكنا نقول: هي من المتشابه المكتوم الذي لا يفسر، لكنه لما خرج مخرج التذكير واستئداء شكر ما سهل علينا قراءته - احتجنا إلى تأويله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). هو ظاهر. * * * قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ). فمن الناس من يقول: إن قوله: (هُوَ) من أرفع أسماء اللَّه - تعالى - وذكر عن بعض أهل بيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يدعو بقوله: يا هو، يا من لا إله إلا هو، تأويل هذا الكلام: أن كل شيء بهويته كان. وقوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)، قيل فيه بوجوه ثلاثة: أحدها: أنه عالم بما غاب عن الخلق وبما شهدوا. والثاني: بما قد كان وبما يكون. والثالث: أنه عليم بما قد كان ويعلمه أن كيف يكون إذا كان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) فهما اسمان مشتقان من الرحمة، وفي هذه الآية بيان وجوه أربعة: أحدها: فيها بيان التوحيد، وهو قوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) اسم المعبود: أن كل معبود دونه باطل. والثاني: أن فيها تنبيهًا وتحذيرًا بأن يتذكر الإنسان في جميع أحواله اطلاع اللَّه - تعالى - عليه، وعلمه فيه، وذلك من قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). والثالث: فيها ترغيب في رحمته وإخبار لهم: أن كل نعمة لهم في الدنيا والآخرة من اللَّه تعالى؛ إذ هو - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ).

(23)

والرابع: ما ذكرنا في قوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) (الْمَلِكُ) من الملك، أي: ملك كل شيء له، ليس لأحد سواه حقيقة الملك، (الْقُدُّوسُ) قيل فيه بوجهين: قَالَ بَعْضُهُمْ: القدوس هو المبارك، والبركة اسم كل خير، أي: منه جميع الخيرات، لكن لا يجوز أن يقال لله - تعالى -: يا مبارك، وإن كان المعنى منه يؤدي إلى أن يأتي منه كل خير؛ لأنه لا يعرف في أسمائه هذا بالنقل، وعلينا أن نسكت عن تسميته بما لم يسم نفسه بذلك؛ لذلك قلنا بأنه لا يجوز التسمي بالمبارك، واللَّه الموفق. والثاني: القدوس هو الطاهر، يعني: هو مقدس عما قالت الملاحدة والكفرة فيه من الولد والشريك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (السَّلَامُ). اختلف في تأويله منهم من قال: سمى نفسه: سلامًا؛ لما هو سالم عن الآفات، وغيره من المخلوقين لا يسلمون من حلول الآفات بهم. وقال آخرون: سمى نفسه: سلامًا؛ لما سلم المؤمنون من عذابه. والتأويل الأول أقرب. وقوله: (الْمُؤْمِنُ). اختلف الناس في تأويله: قال قائلون: هو الأمان: أن يؤمن المؤمنين من العذاب، ولا يمكن لأحد أن يؤمن أحدًا من عذابه. وقال قائلون: أصله من الإيمان: وهو التصديق، ثم ذلك يتوجه إلى وجهين: أحدهما: أي: مصدق القول بما وعد للمؤمنين الجنة. والثاني: المؤمن هو المصدق لما قال المؤمنون المصدقون من تصديقهم، فيصدقهم بما قالوا. ومن الناس من قال: سمى نفسه بما أخبر أن هذا القرآن لما بين يديه مصدق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْمُهَيْمِنُ) اختلف فيه - أيضًا -:

قال قائلون: المهيمن هو الأمين. وقال قائلون: المهيمن هو المسلط. وقال قائلون: المهيمن هو الشاهد. فمن قال بالأول فإنه يذهب إلى أن أصل ذلك من المؤتمن، وهو من الأمانة، وإلى هذا التأويل يذهب الْقُتَبِيّ، أي: أمين في كل ما يقول، وفي كل ما يفعل لا يجور. ومن قال بأنه هو المسلط، أصله من: هيمن يهيمن، أي: سلط يسلط، سئل عن تأويل المسلط؛ فقال: هو كالظاهر؛ إذ قهر العباد كلهم، وهم ملك له. ومن فسره بالشاهد فإنه يحتمل تأويلين: أحدهما: أي: شاهد على أفعال العباد من حيث لا يغيب عنه شيء. والثاني: أي: شاهد بما أنزل على رسوله بالصدق، وهو كقوله - تعالى -: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)، أي: شاهدًا عليه. وقوله: (الْعَزِيزُ). أي: ما من عزيز دونه إلا وهو ذليل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْجَبَّارُ)، قيل فيه بوجهين: أحدهما: سمى نفسه: الجبار؛ لأنه هو المجبر لكل كبير. فقال قائلون: سمى نفسه: الجبار؛ لجبروته وعظمته، ولا يجوز لأحد أن يسمى بذلك الاسم إلا هو أي: اللَّه تعالى وتجبر عن أن يكون له أمثال وأشكال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْمُتَكَبِّرُ). من الكبرياء والعظمة، هذا الاسم لا يليق بغيره؛ لأن الخلق بعضهم لبعض أكفاء في الخلقة؛ فلا فضل لأحد على آخر، فلما استووا لم يجز لأحد على آخر التكبر؛ فصار الحق في ذلك لله تعالى، والتكبر على الآخر هو الارتفاع، والأصل فيه واحد، وهو ألا يرى لنفسه شكلا، واللَّه أعلم. إنما سمى نفسه: متكبرًا؛ إذ هو المتكبر لذاته لم يكن تكبره بغيره؛ فلذلك قلنا: إنه لا يستحق أحد من الخلائق التكبر إلا اللَّه - تعالى - إذ لم يكن أحد له شكلا ولا ضدا ولا ندًّا، وأما غيره من الخلائق فكل واحد منهم بالذي له شكل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ). فيه تنزيه لله - تعالى - عما قالت الملاحدة فيه، فهذا اسم سمى به نفسه، وأمر الملائكة والأنبياء والمؤمنين أن يقولوا ذلك، ومعنى قوله: (سُبْحَانَ اللَّهِ)، أي: معاذ

(24)

اللَّه أن يكون ذلك على ما قالت الكفرة، وسمى نفسه: جبارًا؛ لما أنه يجبر الأشياء فيجعلها على ما يشاء، وهو كقوله: (الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ). على ما يريد هو الأشياء، لا على ما يريده غيره. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: إن اللَّه - تعالى - يتعالى بمعان أربعة: أحدها: تعاليه عن الظلم والجور وجميع ما لا يليق. والثاني: تعاليه على الأشياء كلها بقهره لها وتصريفه إياها على ما يشاء، أي: ليس أحد يقهره، بل هو يقهر الخلائق. والثالث: تعاليه عن أن تمسه الحاجة والآفة وكل من هو دونه لا يخلو عن ذلك. والرابع: تعاليه عما قال الظالمون فيه من الولد والأضداد والأشكال والأنداد، وتعاليه عن جميع الآفات التي تصيب الخلق، واللَّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24). فالخالق والبارئ واحد، ويقال: برأ، أي: خلق، والبرية هي الخلق، ويقال: سميت البرية: برية؛ لأنه خلق من التراب إذ البري من التراب. وقوله: (الْمُصَوِّرُ)، والمصور هو الذي يعطي كل شيء صورته، فيصوره على ما هو، فالتصوير هو بيان الحدود، وهو قول الناس: صورت الأمر عند فلان؛ أي: حددته. وقوله: (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى). أي: الأمثال العلا، وهي الصفات؛ إذ الصفة ترجع إلى وجهين: إلى الصفة مرة، وإلى التشبيه مرة أخرى، فإذا رجع إلى الصفة فإنه يرجع إلى حقيقة ذلك، وإن رجع إلى التشبيه فإنه لا يرجع إلى حقيقة ذلك. ثم قوله: (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)، أي: الصفات العلا، أي: لا يسمى بذلك إلا هو؛ إذ لا يقال لغيره: الرب، ولا الرحمن، ولا المالك إلا أن يضاف ذلك إلى شيء، فأما على الإطلاق فلا يطلق ذلك إلا له جل وعلا. ويحتمل وجهًا آخر: أي: لا شبيه له في أسمائه وألا يشركه أحد في تلك الأسماء؛ بل هي له خاصة، واللَّه المستعان. * * *

سورة الممتحنة

سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ، مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ). هذه الآية وما أشبهها من قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ)، وفي كل ما ذكر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) دلالة واضحة أن الإيمان ذو حد في نفسه، وأنه ليس كما قالت الحشوية وأصحاب الحديث: إن الطاعات كلها إيمان، ووجه ذلك أن كلا في نفسه قد فهم من هذه الآية أنه محتمل لهذا الخطاب وأنه له؛ فثبت أنه ذو حد في نفسه وهو التصديق بالقلب، وغيره من الطاعات شرائعه، واللَّه أعلم. وفيما ذكر من قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، وما أشبهها من الآي دلالة على أن الإنسان ما يشاهد، وليس كما قال النظام: إن الإنسان إنما هو جسم آخر سوى هذا الإنسان، ولا كما قال الناشئ: إن الإنسان إنما هو جوهر بسيط في هذا الإنسان. ووجه ذاك: أنه ليس كل أحد يعلم كونه جوهرًا بسيطًا أو جسمًا آخر فيه لطيفًا، وقد فهم الكل من هذه الآيات أنه محتمل للخطاب بها؛ فثبت بما وصفنا أن الإنسان هو ما نشاهده واللَّه أعلم. وفيه دلالة أن ما يفهم من هذه الآيات من عموم أو خصوص ليس يفهم بظاهر الخطاب؛ ولكن بما توجبه الحكمة، فإن أوجبت عمومها أجروها على عمومها، وإن أوجبت تخصيصها أجروها على ذلك، والذي يدل على ما وصفنا أنه قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)، وهذا مخرجه في الظاهر على العموم، ولكنه لما قال: (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)، معلوم أن الذي كان يلقي بالمودة خاص لا كل المؤمنين، فكان يجب أن يكون مجراها على الخصوص؛ لما بين في سياق هذه الآية، ولكن الحكمة توجب تعميم هذه الآية؛ لأنه لو قال لواحد: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) كان هذا الخطاب لازمًا للكل بما توجبه الحكمة، أنه إذا علم من أحد عداوته ألا يتخذه وليا،

وكذلك قوله: (وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ). خرج مخرج العموم في الظاهر، ولكن الذين أخرجوه إنما كانوا أهل مكة خاصة دون سائر الكفرة، فهذا يبين أن ما أجري مجرى العموم لم يجر لظاهر اللفظ، ولكن لما يوجب الحكمة والدليل. وكذلك قوله - تعالى -: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. . .) الآية: ليس أن السعي إنما فرض يوم الجمعة لتخصيصه بالذكر؛ ولكن لما أن النداء في يوم الجمعة إلى ذكرين، وفي غيره من الأيام إلى ذكر واحد؛ ولأجل أن النداء المضيق في يوم الجمعة هو النداء الأول، وفي غيره من الأيام هو النداء الثاني، فإذا جاز أن يكون فرض السعي في يوم الجمعة إنما هو لهذين المعنيين - ثبت أن التخصيص ليس لظاهر اللفظ، واللَّه أعلم. وفي هذه الآية دلالة رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك أن قوله: (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أن ذلك الرجل لم يطلع على سره أحدًا، وقد أطلع اللَّه - تعالى - نبيه؛ حيث أخبرهم بالكتاب؛ فثبت أنه علمه بالوحي، واللَّه أعلم. ثم اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؟ فقال الحسن: إنها نزلت في أهل النفاق. وقال غيره من عامة المفسرين: إنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وهذا أشبه التأويل بالصواب، وأقرب إلى الحق؛ وذلك أن اللَّه - تعالى - قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ): فقد أخبر أن الكفرة عدو لهم، ولو كانت الآية في أهل النفاق لم يكن الكفرة عدوًّا لهم؛ بل كانوا أولياء، فثبت أن المراد منه: المؤمنون، واللَّه أعلم. وفي هذه الآية دلالة أن ذلك الذنب الذي ارتكبه ذلك الرجل لم يخرجه من الولاية؛ لأنه قال: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)، ولو كان ذلك الذنب يكفره ويخرجه عن الإيمان لم يكن ذلك الكافر عدوًّا له؛ بل يكون وليًّا له بقوله: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، ولأجل أنه قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا): سماه: مؤمنًا، والدليل على أن ذلك الذنب كان كبيرة أنه أخبرهم بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جهزهم للقتال، وفيما أخبر: أمر بأن يستعدوا لقتال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وحربه، ولا يشكل أن من أمر بقتال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان مرتكب كبيرة، وإذا كان كذلك، وقد أحله اللَّه - تعالى - في جملة المؤمنين بقوله:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي) وبما وصفناه من الدليل - ثبت أن الكبيرة لا تكفره، ولا تغير اسم الإيمان عنه، واللَّه الموفق. ثم فيما نهانا أن نتخذ عدونا وعدوه أولياء دلالة أن ليس في الحكمة اتخاذ الولاية مع الأعداء. ثم من قول المعتزلة: إن اللَّه - تعالى - أراد من جميع عباده أن يؤمنوا، وإذا أراد أن يؤمنوا فقد أراد أن يواليهم مع علمه أنهم يختارون عداوته؛ فكأنهم وصفوا اللَّه - تعالى - بما يخرجه من الحكمة ويدخل في السفه والجهل بالعواقب، وذلك كله منفي عن اللَّه - سبحانه وتعالى - والمعتزلة فيما وصفوا فجرة فسقة، ويخشى أن يكونوا كفرة، واللَّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)، أي: بما كتب في الكتاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)، وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي). يحتمل أن يكون ذلك فيمن هاجر من مكة إلى المدينة، وهو أقرب التأويلين؛ لأن حاطبًا إنما كان هاجر من مكة إلى المدينة وفيه نزلت الآية. ويحتمل أن يكون ذلك حين أرادوا الجهاد إلى مكة، واللَّه أعلم أي ذلك كان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ). أي: هو (أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ) من كتابة الكتاب إلى أهل مكة، (وَمَا أَعْلَنْتُمْ): بما أظهرتم من العذر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ)، أي: من اتخاذ الولاية مع أعدائه، (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)، في الاعتقاد: إن اعتقد ذلك، وفي الفعل: إن لم يعتقده، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ). التزام مراقبة اللَّه - تعالى - في السر والعلانية، وتحذير لهم؛ ليجمعوا بين السر والعلانية وتخويف لهم عن أن يطلع رسوله - عليه الصلاة والسلام - على سرائرهم كما أطلعه على أمر الكتاب إلى أهل مكة. ثم في هذه الآية أعظم شيء في زجرهم ونهيهم عن المعاصي، وذلك أنه لما أطلعه على جميع ما يتعاطونه من الذنوب سرًّا وعلانية؛ فإذا علموا أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعلم من سرهم ما يعلم من علانيتهم بما يطلعه اللَّه عليه؛ يحملهم ذلك على الانتهاء عن المعاصي في السر والعلانية، وعلى الإجابة إلى ما يدعوهم إليه، واللَّه أعلم.

(2)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2). فوجه ذلك وتأويله عندنا - واللَّه أعلم -: أنه لما رآهم رغبوا في أموالهم ومودتهم رغبة منهم في الكفرة أن يحفظوا أولادهم وأموالهم، أخبرهم أن كيف يرغبون في حفظهم ذلك، وهم لو قدروا عليكم وظفروا بكم قتلوكم وآذوكم بألسنتهم؟! فكأنه يقول: كيف توالونهم من حيث تسرون إليهم بالمودة، وهم لو ظفروا بكم قتلوكم، وكانوا لكم أعداء؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ). يعني: أنهم يودون أن يكفروا، ومع ما يودون أن يكفروا: لو قدروا عليكم قتلوكم، فمن كانت حالهم معكم مثل هذا: فكيف تطمعون أن يحفظوا أولادكم وأموالكم؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) له وجهان: أحدهما: أن كيف توالون الكفرة؛ لمكان أولادكم وأرحامكم، وهم لا ينفعونكم يوم القيامة؟! والثاني: أن أرحامكم لا تنفعكم ولا تشفع لكم يوم القيامة. وقوله: (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) يحتمل - أيضًا - وجهين: أحدهما:، أي: بينكم وبين أرحامكم؛ لقوله - تعالى -: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ). والثاني: أي: يفصل بينكم وبين أرحامكم؛ لاختلاف أعمالكم؛ فينزل كل واحد منكم منزل عمله. * * * قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. . .) الآية. الأصل في أنباء المتقدمين أنها عِبَرٌ لهذه الأمة، فما ذكر منها في المؤمنين منهم فهو تذكير للمؤمنين من هذه الأمة، وتعليم لهم معاملة الكفرة ومنابذتهم على مثل ما فعل المؤمنون منهم بكَفَرتهم من سائر الأمم. وما ذكر منها في الكفرة من الأمم الماضية؛ فهو تخويف لكفرة هذه الأمة لئلا يصنعوا

مثل صنيعهم فيستوجبوا من النقمة مثل ما استوجب أُولَئِكَ. وما كان منها في حق الرسل - عليهم السلام. - فهو في حق التسلي لرسولنا وسيدنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن بعض ما مسه. وأصل آخر: أن الخطاب قد يلزم المخاطب مرة بما يخاطب في نفسه، ومرة بما يؤمر بالاقتداء بغيره إذا كان ذلك الغير لم يفعل ما فعله إلا عن أمر. ثم إن اللَّه - تعالى - أمر المؤمنين من هذه الأمة الاقتداء بإبراهيم - عليه السلام - ومن معه من المؤمنين، وأخبرهم عن معاملتهم إياهم وترك مولاتهم؛ فكأنه قال: اتركوا موالاة الكفرة والإسرار إليهم بالمودة ما داموا على كفرهم، كما فعله إبراهيم - عليه السلام - والذين معه (إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ): فنابذوهم ولم يوالوهم، فافعلوا كفعلهم. (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ). فكأنه قال: اقتدوا بهم إلا بما قال إبراهيم لأبيه: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)، يعني: لا تستغفروا للمشركين مثلما استغفر إبراهيم لأبيه المشرك؛ لأنكم لا تعلمون المعنى الذي استغفر إبراهيم - عليه السلام - لأبيه. ثم اختلفوا في المعنى الذي استغفر إبراهيم لأبيه: فقال أبو بكر: إنه كان - صلوات اللَّه عليه - وعد أن يستغفر لأبيه، ورأى أن إيجاب الوعد لازم عليه؛ فاستغفر لهذا المعنى. وقال الحسن: إنه إنما استغفر له لوقت توبته لا في حال الشرك؛ لأنه لا يتوهم أنه لم يعلم أنه لا يحل له أن يستغفر للمشرك، ومن علم أنه يحل له لم يكن كل سلمًا مؤمنًا؛ فثبت أنه إنما استغفر لوقت إسلامه. وعندنا: الاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة من اللَّه - تعالى - على وجهين: أحدهما: مغفرة رحمة وفضل وكرم. والثاني: أن يوفقه للسبب الذي إذا جاء به غفر له؛ ألا ترى إلى قوله: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، أي: السبب الذي إذا جئتم به غفر لكم، وإذا كان كذلك جاز أن يكون استغفار إبراهيم لأبيه على هذا الوجه أن يكون طلب من اللَّه - تعالى - التوفيق له بالسبب الذي إذا جاء به غفر له، وذلك مستقيم، ولكنه لما تبين أنه لا يوفقه لذلك السبب تبرأ منه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ). أي: لا أملك أن أدفع عنك عذاب اللَّه من شيء، أو لا أملك أن أهديك دون أن

(5)

يهديك اللَّه؛ فكأنه قال: لا أملك سوى أن أدعو لك بالتوفيق للهداية لا أملك لك من عذاب اللَّه من شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا). يجوز أن يكون هذا عند المنابذة وإظهار العداوة مع الكفرة، يعني: عليك معتمدنا في النصر على أعدائنا عند قلة عددنا وكثرة عددهم، وإليك مرجعنا ومفزعنا. (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، إذا قبضنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5). ذكر أهل التفسير أن تأويل هذه الآية يخرج على ثلاثة أوجه: أحدها: أي: لا تسلط علينا أعداءنا؛ فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل. أو لا تنزل علينا العذاب دونهم؛ فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل. أو لا توسع عليهم الدنيا وتضيق علينا؛ فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل. ولو كان التأويل هو الثاني لكان يجيء على هذا أن يكون الواجب على العدول من هذه الأمة أن يسألوا اللَّه - تعالى - العافية؛ لئلا يتوهم فساقهم أنهم على الحق. ولكن الجواب عن هذا أن الفساق من هذه الأمة قد علموا أن الذي هم فيه من الفسق محظور، وأما الكفرة فإن عندهم أن ما يدينون به من الكفر حق؛ فإذا سلطوا على المؤمنين توهموا أن الذي حسبوه حقًّا: حق، وأما الفسقة من هذه الأمة إذ علموا أن الفسق منهي عنه محظور، لا يقع لهم هذا الحسبان، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون المعنى من قوله: (لَا تَجْعَلْنَا)، يعني: عذابًا، أي: سببًا يعذب به الكفرة؛ كما قال: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)، وكان تأويله أن آتنا السبب الذي نستوجب به ما وعدتنا على رسلك، فكذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). يعني: المنتقم من أعدائه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6). يعني: لقد كانت لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة تحسنون بها إذا اقتديتم بهم وأطعتموهم.

وقوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) يحتمل معنيين: أحدهما: أي: لمن كان يرجو ثواب اللَّه تعالى. والثاني: أن يؤمن بالبعث؛ وذلك أن اللَّه - تعالى - وصف أمر البعث في كتابه بصفات مختلفة: مرة أضافه إلى نفسه بقوله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ)، وكان المعنى منه البعث. ومرة وصفه بصفة أخرى. وإن كان المراد: الثواب؛ ففيه إخبار أن الراجي في الحقيقة هو الطالب لما يرجوه بالأسباب التي يرجو الوصول بها إلى ما دعا ورجا، والخائف في الحقيقة هو الحاذر عما حذر، والمنتهي عما نهي عنه وحظر. فإن من اعتمد على مجرد الرجاء والخوف دون التمسك بسببهما، فهو متمن على اللَّه تعالى. والدليل على تأييد ما نقول: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ)، ألا تراه كيف حقق معنى الرجاء بالمجاهدة في سبيل اللَّه والعمل بطاعته، واللَّه أعلم. وإن كان على البعث فكذلك أيضًا؛ لأنه أضرب عما نهي عنه، وطلب لما أمر به؛ فقد تبين أنه يوالي من تفضي موالاته إلى ثواب اللَّه ورحمته، وأنه يعادي من تفضي موالاته إلى نقمة اللَّه وعذابه، ومعلوم أنه لا يفعل ذلك إلا من يؤمن بالبعث؛ فإنما يوالي من رجا منه منفعة الدنيا ويتولى عمن يضره في هذه الدنيا، واللَّه أعلم. رقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَوَلَّ). يعني: من يتول عن طاعة اللَّه فيما أمره من معاداة من عادوا ربهم. (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). يعني: عن طاعة الخلق؛ ليعلم أن ما أمرهم به لم يأمرهم لحاجة له في طاعتهم أو لمنفعة ترجع إليه؛ بل هو غني عن كل ذلك؛ وإنما أمرهم لحاجتهم إلى ذلك، ولما علم أن منافع طاعتهم ترجع إليهم خاصة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَمِيدُ) له معنيان: معنى: الحامد، ومعنى: المحمود. فإن كان المراد منه: المحمود، ففيه أن اللَّه - تعالى - يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم. وإن كان المراد: الحامد، فمعناه: أن اللَّه يحمد الخلق ويشكرهم، حتى يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال فيتفضل عليهم بأعمالهم، فهو حميد من هذين المعنيين.

(7)

قوله تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). إن اللَّه أمر المؤمنين بمعاداة الكفرة ومنابذتهم وترك موالاتهم ما داموا كفارا، ثم وعد أن يجعل بيننا وبينهم مودة إذا آمنوا؛ فكان في هذا أعظم الدليل على أن الخلق عند اللَّه - تعالى - في كل حال على ما هم عليه في أحوالهم وأمورهم. وقال بعض الجهال: إنه من يؤمن في وقت من الأوقات؛ فهو عند اللَّه مؤمن في حال كفره، وهذا خلاف ما وصف اللَّه - تعالى - نفسه في هذه الآية، واللَّه أعلم. ثم المعتزلة قد خالفوا هذه الآيات وعاندوها على قولهم؛ وذلك أن اللَّه - تعالى - قال: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)، ومن قولهم: إن من كان على خلاف مذهبهم فهو عدو لهم، ولا شك أنهم يوالونه ويصافونه، وقد نهى اللَّه - تعالى - عن ذلك فهذا أحد الخلافين. والثاني: أن اللَّه - تعالى - وعد أن يجعل بيننا وبينهم مودة، ومن قولهم: إنه لا يقدر على شيء من أفعال العباد فكأن اللَّه - تعالى - على قولهم وعد ما لا يقدر عليه، وهذا لا يليق بأسفه خلق اللَّه؛ فكيف برب العالمين؟! فثبت أنهم عاندوا الآيات، والله أعلم. وخلاف ثالث: أن اللَّه - سبحانه وتعالى - وصف نفسه بالقدرة، (وَاللَّهُ قَدِيرٌ)، ومن قولهم: إنه ليس بقدير على خلق أفعال الخلق؛ فأي خلاف أشهر من هذا وأظهر؟! والله الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8). لا يحتمل أن يكون النهي في الإقساط؛ لأن الإقساط هو العدل، وليس ينهى عن العدل إلى ما كان وليا أو عدوا؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا)، فقد أخبر أنه لا يحل له ترك العدل لمكان العداوة، وإذا كان كذلك ثبت المراد من هذا النهي وغيره، وهو قوله: (أَنْ تَبَرُّوهُمْ).

ثم الذي لم ينه عنه خلاف ما نهى في الظاهر؛ لأنه قال: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ)، وقال فيما نهى (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ)، ومعلوا أنه قد يجوز أن يبر من لا يجوز أن يتولاه؛ ألا ترى إلى قوله: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)؟! ثم نهى عن تولي الكفار بقوله: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)، ولكنه لما جاز أن يجتمع في نفس واحدة البر وترك التولي؛ فكذلك جاز أن يؤمر بالبر بمن ينهى عن التولي معه، واللَّه أعلم. ثم قوله - تعالى -: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) يحتمل أن يكون المراد منه لا ينهاكم، بل يأمركم. ويحتمل أن يكون معناه: يرخص لكم؛ كقوله: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)، ومعناه: بل خسرت، وإن كان قد يجوز أن يكون التجارة إذا لم تربح لا تخسر؛ فكذلك قوله - تعالى -: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)، بل يأمركم أن تبروهم. ويحتمل أن يكون المراد: بل يرخص لكم أن تبروهم، واللَّه أعلم. ثم اختلفوا فيمن أمر ببرهم ونهى عن توليهم: فقَالَ بَعْضُهُمْ: هم المستضعفون من أهل مكة الذين آمنوا في السر وخشوا إظهاره من المشركين، فأمر اللَّه - تعالى - المؤمنين بالمدينة أن يبروهم بالكتب إليهم؛ ليحتالوا في انقياد أنفسهم؛ لأن المشركين من أهل مكة إذا علموا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ظهر لقتالهم كان يجوز أن يخشى على أُولَئِكَ المؤمنين المستضعفين؛ فأمر هَؤُلَاءِ أن يبروهم بالكتاب إليهم ليتأهبوا في أنفسهم ويحتالوا؛ لما يخشى عليهم من المشركين، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الذين كان بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عهد وذمة؛ فأمر المؤمنين أن يبروا أُولَئِكَ في إيفاء عهودهم إلى مدتهم، ونهاهم عن أن يتولوا من قاتلهم ونقض عهودهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: في النساء والولدان من المشركين: أمر المؤمنين أن يبروهم بترك القتال، وألا يتولوا من قاتلهم من جملة الرجال من المشركين من الرجال، بل يقاتلوهم. ثم قال: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). أي: ومن يقولهم في الاعتقاد فأولئك هم الظالمون في حق الاعتقاد. أو من يتولهم في الأفعال فأُولَئِكَ هم الظالمون في حق الأفعال، كما وصفنا في قوله: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).

(10)

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ). المعنى عندنا - واللَّه أعلم -: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ)، يعني: قائلات: إنهن مؤمنات. (فَامْتَحِنُوهُنَّ). لأنه لو كان على حقيقة الإيمان لم يكن لقوله: (فَامْتَحِنُوهُنَّ) معنى، فلما أمر بالامتحان ثبت أن تأويل قوله: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ) ما وصفنا بدءًا. ومثل هذا ما قال: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)، وكان المعنى منه: من تكلم بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فكذلك يجوز أن يكون المعنى من الأول ما سبق ذكره، واللَّه أعلم. ثم إن المفسرين ذكروا وصف امتحانهن: أنهن يحلفن باللَّه ما أخرجهن من دارهن بغض أزواجهن، أو يحلفن أنهن ما أردن بخروجهن أرضا سوى أرضهن؛ وإنَّمَا أردن بذلك الإسلام. وهذا تأويل فاسد؛ وذلك أنها إذا أسلمت كان الحق عليها في دينها أن تبغض زوجها الكافر، كقوله - تعالى -: (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، فكيف يجوز أن يكون صفة امتحانهن ما ذكروا، وحكم الشريعة والدِّين يوجب ما كن يفعلنه؟! فلذلك قلنا: إن هذا التأويل -الذي ذكره بعض المفسرين في وصف الامتحان- غير مستقيم. ويجوز أن يكون تأويل امتحانهن على وجهين: أحدهما: أن يستوصفن عن الإيمان: ما هو؟ فإذا أخبرن عن حقيقة الإيمان علم أنهن مؤمنات. والثاني: يعرض عليهن ما على المؤمنات في إيمانهن، كما قال - تعالى -: (وَلَا

يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ)، فإذا قبلن ذلك كله كان ذلك امتحانهن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِإِيمَانِهِنَّ). هذا يدل على أن الذي كلف به المؤمنون من امتحانهن؛ إنما هو لما يعلمون من إيمانهن في الظاهر وأن الحقيقة إنما يعلمها رب العالمين، وهذا يبين أن العلم علمان: علم العمل وعلم الشهادة، فعلم العمل: ما يعلمه الخلق في الظاهر فيعملون به، وعلم الشهادة: ما يجوز أن يشهد على اللَّه به، وذلك إنما يوصل إليه، وذلك بما يطلعهم الله عليه نصا إما بكتاب أو بسنة متواترة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وعلم العمل هو الذي يساغ فيه الاجتهاد، نحو: خبر الآحاد وجهة القياس وغير ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ). ذكر في القصة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صالح عام الحديبية مشركي أهل مكة على أن من أتاه من أهل مكة فهو عليهم رد، ومن أتى مكة من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو لهم، وغير ذلك، وكتب بذلك كتابًا وهو بالحديبية، فلما فرغ من الكتاب إذ أتت سبيعة مسلمة، فجاء زوجها إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه، رد علي امرأتي؛ فإنك قد شرطت لنا ذلك، وهذه طيبة لم يخف بعد؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)، يقول: لا تردوهن إلى أزواجهن الكفار. (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ). يقول: لا يحل نكاح مؤمنة لكافر ولا نكاح كافر لمؤمنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا). يقول: أعطوا زوجها الكافر ما أنفق عليها، على ما كان جرى من الصلح بينهم وبين المسلمين: أن ما خرج من نساء أهل مكة إلى المدينة مؤمنات لم يرجعوهن إلى الكفار، وأعطوا أزواجهم ما أنفقوا من المهور، وما خرج من نساء المسلمين مرتدات لم يردوا إلى المدينة، وأعطوا أزواجهن ما أنفقوا. ثم معلوم أنه كان يؤخذ بإعطاء الصداق وإيتاء ما أنفق غير الذي أخذ الصداق، ولكن

كان يؤخذ به من كان من جنسه على ما ذكرنا نظائره فيما تقدم؛ ولذلك قال أصحابنا: إن أهل الإسلام يأخذون من تجار أهل الحرب مجازاة لما يأخذه أهل الحرب من تجار المسلمين، وإنما يؤخذ ذلك ممن كان من نجسه، وأن ذلك غير الذي أخذ منه؛ وعلى ذلك نقول: إن المحنة قد يجوز أن تستوي على البر والفاجر وأن ما ينزل بالآدمي من المحن يجوز ألا يكون جزاء؛ لما تعاطى من الذنوب والسيئات؛ لأن لله - تعالى - أن يمتحن عبده في هذه الدنيا مبتدأ، وأما في الآخرة فلا يؤاخذ فيها أحد بذنب آخر، بل يجزي كل بعمله: إن شرا فشر، وإن خيرًا فخير، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). يقول: لا إثم عليكم -يعني: المسلمين- أن تتزوجوهن (إذا آتيتموهن مهورهن). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ). عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن زينب بنت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أسلمت قبل زوجها، ثم أسلم بعد ذلك زوجها، فردها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنكاح الأول قبل أن ينزل: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)، فلما نزلت كان إذا أسلم الزوج، وخرج إلى دار الإسلام انقطعت الصلة بالإسلام بينه وبين امرأته، وكذلك المرأة إذا خرجت وبقي الزوج. ثم قوله: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: بعقد الكوافر، فمن كانت له امرأة بمكة كافرة فلا يقيدن بالمرأة الكافرة؛ فإنها ليست بامرأة له، وقد انقطعت العصمة بينهما. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ): حظر علينا الامتناع والكف والإمساك من نكاح المهاجرة لأجل زوجها الحربي. وعُصِمتْ والعصمة: المنع، والكوافر يجوز أن يتناول الرجال، وظاهره في هذا الموضع للرجال؛ لأنه في ذكر المهاجرات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا). يقول: إذا لحقت امرأة المسلم بكفار مكة فاسألوا مهرها من أهل مكة، وردوا إلى زوجها، (وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا)، يقول: إن جاءت امرأة من أهل مكة مهاجرة إليكم فردوا على زوجها المشرك ما أعطاها من المهر؛ وذلك من أجل العهد الذي كان بين أهل مكة وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ). يقول: هذا هو حكم اللَّه بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة في أن يرد بعضهم على بعض النفقة، أي: المهر. وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

(11)

أي: فيما حكم بين المسلمين وأهل العهد ما ذكرنا من الحكم. وقوله: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11). يقول: إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار مكة من أهل الحرب ممن ليس بينكم وبينهم عهد، لها زوج عندكم مسلم، (فَعَاقَبْتُمْ): أي: أعقبكم مالا من الغنيمة، (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ)، من المهر مما أصبتم من الغنيمة قبل القسمة. (وَاتَّقُوا اللَّهَ). فيما فرض عليكم من هذا. (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ). أي: مصدقون؛ فلا تنقصوه، واللَّه أعلم. وهكذا روى مسروق، رحمه اللَّه. وعن الزهري أنه قال: من حكم اللَّه - تعالى -: أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم، ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة، فأُمِر المؤمنون إذا ذهبت امرأة مسلمة ولها زوج إلى الكفار: أن يردوا إلى زوجها ما أعطاها من المهر من صداق كان في أيديهم مما يودون أن يردوا إلى المشركين بمهاجرة امرأة مسلمة إلينا، وإن لم يكن في أيديهم صداق وجب رده على أهل الحرب فعوضوهم من غنيمة أصبتموها. وأصل هذا - واللَّه أعلم -: وإن فاتكم شيء مما أنفقتم على أزواجكم، ثم ظفرتم على أعدائكم وغنمتم -فآتوا الذين ذهبت أزواجهم ما فات عنهم مما أنفقوا؛ فكأنه يقول: واسألوا أُولَئِكَ الذين ذهبت نساؤكم إليهم ما أنفقتم، فإن سألتم ولم يعطوكم شيئًا، وفاتكم ذلك من ذلك الوجه، ثم قاتلتموهم وغنمتم- فأعطوا الذين فات عنهم أزواجهم ما أنفقوا. قال المصنف - رحمه اللَّه -: اعلم بأن هذه الآية تنتظم أحكامًا: أحدها: جواز الاجتهاد والعمل بالعلم الظاهر؛ فإنه قال: (فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)، أي: بالاجتهاد والامتحان (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)، وهذا حكم مبني على العلم الظاهر؛ دل أن العمل به جائز. والثاني: أن أحد الزوجين إذا أسلم في دار واحد إما دار الإسلام أو دار الحرب - هل تقع الفرقة بنفس الإسلام أو بانضمام شيء آخر إليه؟ قال بشر المريسي بأن الفرقة تقع للحال من غير انضمام شيء آخر إليه. وقال الشافعي: إن كانت المرأة مدخولا بها لم تقع الفرقة حتى تحيض ثلاث حيض،

وإذا كانت غير مدخول بها وقعت الفرقة للحال. وقال أصحابنا: إذا كانا في دار الحرب، فأسلم أحدهما - لم تقع الفرقة حتى تحيض ثلاثا، وإذا كانا في دار الإسلام ذميين، فأسلم أحدهما - لم تقع الفرقة حتى يعرض السلطان الإسلام على الآخر، فإذا عرض عليه الإسلام وأبي، يفرق بينهما. فأما بشر: احتج بظاهر قوله - تعالى -: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ. . .) إلى قوله: (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)؛ فقد أخبر أنه لا يحل واحد منهما لصاحبه، ولم يذكر شيئًا آخر؛ فلا يقرن به شيء آخر. وأما أصحابنا - رحمهم اللَّه - فإنهم احتجوا، وقالوا: إن الفرقة لا تقع بنفس الإسلام بقوله: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) إذا كانت الفرقة واقعة بمجرد الإيمان لم يكن للامتحان معنى، فلما لم يذكر الحرمة إلا بالامتحان ثبت أن الفرقة لا تقع بمجرد الإيمان. ويجوز أن يكون مثال هذا قوله - تعالى -: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، ثم قال: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ)؛ فلو كان الزنا يوجب الحرمة لم يكن هو راميًا للزوجة؛ بل إذا قال لها: زنيت؛ فكأنه قال: لم يكن بيني وبينك نكاح، ولما ثبت رمي الزوجات بقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ)، ثبت أن الزنى لا يوجب حرمتها عليه؛ فكذلك الإيمان بمجرده لو كان يحرمها على الأزواج لم يكن للأمر بالامتحان معنى، فلما أمر بالامتحان على إيمانها، بعد أن أظهرت في نفسها الإيمان، ثبت أن الحرمة لا تقع بنفس الإيمان حتى ينضم إليه شيء آخر، وتبين أن العمل بظاهر الآية غير ممكن؛ إذ لا يجري على إطلاقها، واللَّه أعلم. ودليل ذلك أن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أولى بتجديد النكاح؛ ثبت أن الفرقة لا تقع بمجرد الإسلام، واللَّه أعلم. والوجه فيه ما روي عن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - على اختلاف الأسباب باختلاف الدارين ونحوه: روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنهما على النكاح حتى تحيض المرأة ثلاث حيض إذا كانا في دار الحرب. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنهما على النكاح بينهما إلى الهجرة. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنهما إذا كانا في دار الإسلام، فأسلم أحدهما فهما على النكاح حتى يعرض السلطان الإسلام على الآخر. فهَؤُلَاءِ قد ثبت عنهم أن الفرقة لا تقع بنفس الإسلام إلا أن يضامه شيء آخر، ولم

يثبت عن غيرهم خلاف ذلك؛ فيكون إجماعا؛ فلذلك أخذ أصحابنا - رحمهم اللَّه - بقولهم، واللَّه أعلم. والثالث: أن أحد الزوجين إذا خرج إلى دار الإسلام مهاجرًا، وبقي الآخر في دار الحرب - تقع الفرقة بينهما عندنا. وعند الشافعي: لا تقع الفرقة بتباين الدارين؛ قال: لأن المسلم إذا دخل بأمان لم يبطل نكاح امرأته، وكذلك لو دخل حربي إلينا بأمان لم يقع الفرقة بينه وبين زوجته؛ وكذلك لو أسلم الزوجان في دار الحرب ودخل أحدهما إلى دار الإسلام لم يقع الفرقة؛ فعلم أنه لا يعتبر باختلاف الدارين في إيجاب الفرقة. ولكن عندنا ليس معنى اختلاف الدارين ما ذكر؛ إنما معناه أن يكون أحدهما من أهل دار الإسلام: إما بالإسلام أو بالذمة، والآخر من أهل دار الحرب أي: يكون حربيًّا كافرًا. فأما إذا كانا مسلمين فهما من أهل دار واحدة وإن كان أحدهما مقيمًا في دار الحرب والآخر في دار الإسلام، وفي هذه الآية دلالة على ما قلنا من وجوه: أحدها: أنه قال: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)، ولو كانت الزوجية باقية بعد التباين، لكان الزوج أولى بها، وبأن تكون معه، فلا معنى للنهي عن الرجوع إلى الزوج الكافر. وكذا قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ): أثبت الحرمة بين المهاجرات وأزواجهن، ولا يتصور بقاء النكاح في غير محل الحل. أو كأن معناه تحريم الاستمتاع، ولكن النكاح لما لم يكن المقصود إلا الاستمتاع وما هذا من آثاره؛ فكان في تحريم الاستمتاع تحريم النكاح. وكذا قوله - تعالى -: (وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا) دليل عليه أيضًا؛ فإنه أمر برد مهرهن إلى الزوج، ولو كانت الزوجية باقية لما استحق الزوج استرداد المهر؛ لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدله. وكذا قوله - تعالى -: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، ولو كان نكاح الأول باقيًا، لما جاز للمسلم في دار الإسلام أن يتزوجها. وكذا قال اللَّه - تعالى -: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ): نهانا عن الإمساك والامتناع من تزويجها لأجل عصمة الزوج الكافر وحرمته؛ دل أن الحرمة تقع بالتباين. ودليل آخر من جهة المعقول على ما ذكرنا، وهو أنهم أجمعوا أنها إذا سبيت وقعت الفرقة حتى يحل للسابي وطء المسبية بعد الاستبراء، فإما أن تقع الفرقة بإسلامها. وقد اتفق الجمهور من الفقهاء على أنه لا تقع الفرقة بنفس الإسلام إذا كان بعد الدخول -ما لم

ينضم إليه شيء آخر- أو بحدوث الملك للسابي، ومعلوم أن الملك لا يمنع النكاح؛ ألا ترى أنه يجوز ابتداء العقد على المملوك؛ ولهذا لو بيعت الجارية لم تقع الفرقة، وإن وجد الملك فيها للمشتري، وكذلك إذا مات رجل وخلف أمة منكوحة: ثبت الملك فيها للوارث ولا يبطل النكاح. وإذا لم يثبت الفرقة بهذين الوجهين - لم يبق إلا تباين الدارين؛ فدل أن سبب الفرقة هو تباين الدارين في المسبية، والتباين موجود في المهاجرة، واللَّه أعلم. [فإن احتجوا بما روي عن عكرمة عن ابن عَبَّاسٍ قال: " رد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول بعد سنين "]، وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة وبقي زوجها مشركًا بمكة، ثم ردها عليه بالنكاح الأول؛ فدل أن اختلاف الدارين لا يوجب الفرقة. فنقول له: لا يصح الاحتجاج به من وجوه: أحدها: أنه ردها بعد ست سنين بالنكاح الأول؛ ولا خلاف بين الفقهاء لا يرد إلى الزوج بالعقد الأول بعد انقضاء ثلاث حيض، ومعلوم أنه ليس في العادة ألا يكون ثلاث حيض في ست سنين؛ فسقط الاحتجاج به. والثاني: أنه روي عن عكرمة عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال في اليهودية تسلم قبل زوجها: " إنها أملك بنفسها "، فكان من مذهبه أن الفرقة وقعت بإسلامها، والراوي متى عمل بخلاف ما روى؛ دل على انتساخ ذلك؛ إذ لا يظن به أنه خالف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. والثالث: أن عمرو بن شعيب رُويَ عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رد بنته زينب - رضي اللَّه عنها - على أبي العاص بنكاح ثانٍ؛ فوقع التعارض بين الحديثين؛ فبطل احتجاجه بالحديث. ثم الترجيح لما رويناه؛ لأن فيما رواه إخبارًا عن كونها زوجة له بعدما أسلم الزوج، ولم يعلم حدوث عقد ثانٍ. وفي حديث عمرو بن شعيب إخبار عن حدوث عقد ثانٍ بعد إسلامه، والثاني: إخبار عن معنى حادث علمه، وهذا كما رجحنا حديث ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو محرم على حديث يزيد

الأصم: أنه تزوجها وهو حلال؛ لأن في حديث ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إخبارا عن حالة حادثة. وأخبر الآخر عن ظاهر الأمر الأول، ولحديث بريرة أنه كان زوجها حرًّا حتى أعتقت، ورواية من روي أنه كان عبدًا يكون الأول أولى؛ لإخباره عن حال حادثة والثاني إخبار عن ظاهر الحال؛ فكان الأول أولى؛ فكذلك هذا. والرابع: أن المهاجرة لا عدة عليها عند أبي حنيفة - رحمه اللَّه - وعلى قولهما: عليها العدة. وهذه الآية دليل لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - من وجوه: فإنه - عَزَّ وَجَلَّ -: قال: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ): نهى عن الرد إلى الزوج الأول، ولو كانت عليها العدة، لكان للزوج أن يردها إلى مسكنه لتعتد؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ): كيف أمر الأزواج بإسكانهن في بيوتهم ما دمن في عدتهن، فلما قال - هاهنا -: (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) دل على أن لا عدة عليها. وكذا قال: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) فأباح نكاحها مطلقًا من غير ذكر العدة. وكذا قال: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)، ولو كانت العدة عليها واجبة لكانت باقية بقوله: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)؛ ألا تراه كيف جعل العدة في حقه، وإذا كان للزوج عليها حق كانت هي في عصمته، وقوله: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) يوجب قطع العصمة، فلما كان في إيجاب العدة إبقاء العصمة بينهما، ونهى الله - تعالى - عن ذلك؛ فقطعناها وأسقطنا العدة عنها، واللَّه أعلم. ولأنهم أجمعوا أنها إذا سبيت وقعت الفرقة وسقطت العدة، والملك ليس بسبب لإسقاط العدة؛ ولكنه سبب لنقض العدة، فلما سقطت العدة عند السبي والمهاجرة، والسبي لا يوجب الإسقاط دل على سقوط العدة لاختلاف الدارين، واللَّه أعلم. والخامس: فيه دليل على أن الكتاب يجوز أن ينسخ حكمه بترك الناس العمل؛ فإن في قوله: (وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا)، وقوله: (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا) الحكم متروك من غير أن يكون في تركه كتاب أو سنة، ولكن الناس إنما أجمعوا على تركه، وهذا وأمثاله في

حكم عرف ثبوته على الخصوص لمعنى، ثم ينعدم المعنى، وما لا يعقل معناه يجب العمل بالكتاب ولا يترك بترك الناس، ولا يجوز لهم الإجماع على تركه، ولا يتحقق الإجماع على ذلك وجماعة من أصحابنا قالوا: إنه صار منسوخًا بقوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)، وبقوله - عليه السلام -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا من طيبة من نفسه "، واللَّه أعلم. والسادس: في قوله - تعالى -: (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا) دلالة على أنه سوى في الحكم بين أموالنا وأموالهم ثم الإجماع جرى على أنا إذا غلبنا على أموال أهل الحرب ملكناها، فكذلك إذا غلبوا على أموالنا يجب أن يملكوها، وفيما أوجب من الحرمة إذا جاءت النسوة إلينا مؤمنات مهاجرات - دلالة على أن الأحكام في الأنفس مختلفة؛ وعلى هذا ما خلف كل واحد منهما من المال في الدار التي هاجر منها إلى أخرى أنه يصير فيئًا؛ لما لم يرو عن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لما فتح مكة أن يكون تفحص عن شيء من ملك الأموال التي كانت مخلفة حين هاجروا إلى المدينة؛ فلا بد أن يكون ذلك للتوارث، أو لما ذكرنا أنها تكون فيئًا لهم، ومعلوم أن التوارث بين أهل الإسلام وأهل الكفر منقطع، وإذا بطل وجه التوارث ثبت الوجه الآخر، واللَّه أعلم. والسابع: في قوله: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) دلالة على وجوب العدل بين الأعداء، وهو كقوله - تعالى -: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا. . .)، وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)، وقال - هاهنا -: (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا) سوى بين أموالنا وأموالهم، وهو العدل؛ فكأنه يقول: ذلك الذي أمر من العدل بينكم وبين أعدائكم حكم اللَّه يحكم بينكم؛ لكي إذا علموا أن العداوة لا تحملكم على ترك العدل - حملهم ذلك على التآلف والتعطف، وعلموا أنكم إذا تركتم شهواتكم وأنفقتم العدل والتسوية: فليس ذلك من عندكم، ولكن من عند اللَّه - تعالى - فرغبهم ذلك في الإسلام؛ فكأنه قال: ذلك الذي أمر من العدل وجعله سببًا، يرغب أعداءكم في الإسلام، ويحملهم على التآلف (حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ)، يعني: بما أمر من العدل والتسوية، (حَكِيمٌ) لا يلحقه الخطأ في التدبير؛ فدل أن العدل واجب بينهم، واللَّه الموفق. والثامن: في الآية دلالة على أن النساء إذا ارتددن لم يقتلن؛ فإنه قال: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)؛ فثبت أنهم إذا لم يعلموهن مؤمنات رجعوهن إلى الكفار؛ لما كان جرى بينهم من الصلح، ومعلوم أنه إذا رجعن إلى الكفار بعدما أظهرن الإيمان كن مرتدات، ولو كانت المرتدة تقتل لكان إذا ظهر ذلك عندهم قتلوها ولم يرجعوها إلى

(12)

الكفار، فلما ثبت بما وصفنا أنهم كانوا يصرفون النساء إليهم مع علمهم أنهن مرتدات ثبت أن المرتدة لا تقتل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12). المبايعة والهجرة كانتا واجبتين في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ومعناهما اليوم واجب أيضًا: وذلك أن الهجرة إنما كانت من مكة إلى المدينة؛ لما كان أحدهم إذا أسلم يخاف على نفسه من فساد الدِّين بالكفران لو أقام بين أظهرهم، وكان أيضًا يحتاج إلى علم الشرائع والأحكام، وإنما ارتفعت الهجرة اليوم من مكة إلى المدينة. فأما واحد من أهل الحرب إذا أسلم وخشي على نفسه فساد الدِّين بالكفران لو أقام بين أظهرهم، فالواجب عليه أن يهاجر منها إلى دار الإسلام؛ ليأمن فساد دينه، ويحصل على علم الشرائع. وأما المبايعة فإن معناها في النساء: ترغيب الكفرة في الإسلام، وفي الرجال: حمل الكفرة إلى الإسلام، وذلك أن الذي أمر به النساء من المبايعة من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، والكفرة إذا علموا أن هذا يؤمر فيه بمحاسن الأمور: رغبهم ذلك في الإسلام. والذي أمر به الرجال إنما هو من جهة النصر والمجاهدة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك يظهر الإسلام ويبين، وهذان المعنيان على كل في نفسه في زماننا هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) يتوجه إلى الاعتقاد والمعاملة جميعًا. وقوله: (وَلَا يَسْرِقْنَ). يتضمن النهي عن الخيانة في الأموال كافة، والنقصان عن العبادة جملة؛ لأنه يقال: أسرقُ السارق من سرق من صلاته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَزْنِينَ). يحتمل أن يكون على حقيقة الزنا وعلى دواعيه؛ على ما روي من قوله - عليه السلام -: " اليدان تزنيان، والعينان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ". وقوله: (وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ). يحتمل أن يكون نهيًا عن إلحاق الولد بأزواجهن وهن يعلمن أنه من الزنا، وهكذا روي عنه ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ).

(13)

فكأنه أمرهن أن ينتهين عن هذه المناهي وأن يتبعن أمره؛ ألا ترى إلى قوله: (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)، يجوز أن يكون هذا كناية عن الأمر؛ لأنه بين النواهي والمناكير، ثم قال اللَّه - تعالى -: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)؛ فكأنه أمرهن أن ينتهين عن هذه المناهي وأن يتبعن أمره؛ ألا ترى إلى قوله: (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ)، ولم يقل هاهنا: امتحنوهن، كما قال في المهاجرات، ومعنى ذلك عندنا وجهان: أحدهما: أنه قد تبين هاهنا وجه الامتحان بقوله: (لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ)، فاستغنى عن ذكر الامتحان. والوجه الثاني: أن المهاجرات إنما كن يأتين من دار الحرب، ولم يكن علمن الشرائع؛ فاحتجن إلى الامتحان، وأما هَؤُلَاءِ: كن في دار الإسلام، وقد علمن شرائعه؛ فلم يذكر الامتحان لذلك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ) هذا يدل على أن الكبائر لا تخرجهن عن الإيمان؛ لأنه يعلم أن الاستغفار لما يجيء منهن من تضييع هذه الحدود ولو كن يخرجن بتضييعها من الإيمان لم يؤمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالاستغفار لهن؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة، ويستحيل أن يطلب منه مغفرة من ليس له غفران؛ فدل على ما وصفنا: أن ارتكاب الكبائر لا يخرج صاحبه من الإيمان، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ). فكأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمَرنا أن نغضب على من غضب هو عليه، وأن نعادي من عاداه، ونوالي من والاه. وقوله: (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) الآية. له تأويلان: أحدهما: يعني به: الذين غيروا نعت نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وحرفوه من التوراة؛ فكأن في التوراة أن اللَّه تعالى آيسهم من ثوابه في الآخرة، كما أيس الكفار من أصحاب القبور أن يبعثوا. ويجوز أن يكون معناه: ييئس هَؤُلَاءِ من رحمة اللَّه، كما يئس الكفار الذين هم في القبور من رحمة اللَّه، تعالى.

سورة الصف

سُورَةُ الصَّفِّ وهي مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). قال هاهنا: (سَبَّحَ)، وقال في موضع آخر: (يُسَبِّحُ)، ليعلم أنه تسبيح غير منقطع، وأنه يسبح من حين كان، ويسبح إلى أن يكون. وفيه تسفيه أُولَئِكَ الكفرة المتمردة؛ وذلك أن التسبيح والثناء في الشاهد إنما يرجعان إلى المسبح والمثني؛ لأنه لا يثني إلا على من يستحق الثناء، ولا يسبح إلا من يستحقه، فإنما تسبيح المسبح وثناؤه خضوع له وتقرب إليه، وذلك يزيده شرفا ونبلا، فكأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنه قد خضع لله تعالى، واستسلم له، وأتى بما فيه شرف له وزين وتقرب إلى ربه - كلُّ شيء إلا الكفرة؛ فإنهم تركوا التسبيح لله تعالى مع ما فيه من نبلهم وشرفهم وزينهم، واللَّه الموفق. ويجوز أن يكون ذكر سفههم أيضًا من وجه آخر، وهو أنه لو كان لله تعالى بتسبيح شيء من الخلائق حاجة، لكان في تسبيح من ذكر كفاية وغناء عن تسبيح الكفرة، ولكنهم تركوا التسبيح، واللَّه تعالى غني عنهم وعن تسبيحهم؛ فما تركوه إلا لسفههم، والله أعلم. وقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ). يدل على أنه عزيز في ذاته، وأن ترك التسبيح من الكفرة إياه لا يذله، بل هو عزيز منيع. وقوله: (الْحَكِيمُ): يعني: حكيم؛ حيث جعل في الأشياء المتضادة علم ألوهيته، وآية وحدانيته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2). قَالَ بَعْضُهُمْ: هذه الآية في أهل النفاق في القتال؛ لأنهم تمنوا القتال، فلما أمرهم اللَّه تعالى به قالوا: (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ)، فأنزل اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

(3)

آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)، أي: لم تعدون ما لا تفون به؟ ومنهم من قال: إنها في بعض المؤمنين في القتال أيضًا، وإنها على التقديم والتأخير. ووجه ذلك: أنهم أحبوا أن يعملوا بأحب الأعمال إلى اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا). فلما يفوا بما وعدوا؛ فأنزل اللَّه تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ). ويجوز أن تكون هذه الآية في كل مؤمن؛ لأنه قد اعتقد كل من آمن بإيمانه الوفاء بما وعده من الطاعة لله تعالى والاستسلام له والخضوع، فإذا لم يف بما وعد، خيف عليه في كل زلة أن يدخل في هذه الآية، وليس أحد من المؤمنين قد وفي بما وعد كله، والواجب عليه أن يتوب من ذلك توبة بليغة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3). المقت: البغض، ومن استوجب مقت اللَّه، لزمه العقاب عنه لا محالة، ولكنه يحتمل أن يكون هذا فيمن اعتقد ترك الوفاء بما وعد واستحلال ما نهاه اللَّه تعالى عنه؛ فيستوجب مقت اللَّه تعالى ونقمته لا محالة. وإن كان فيمن تثبت على اعتقاده، وزل في أفعاله، فالواجب أن يقسم الذنوب؛ فيلزمه الخوف على مراتبها ودرجاتها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4). ليس فيه أن اللَّه تعالى لا يحب المبارز؛ لأن الجهاد والقتال على المبارز أشد، وذلك أنه إذا كان في الصف أعانه على القتال غيره؛ فكان أمنه على نفسه في الصف أكثر، وأما المبارز فإنه وحده ليس له معين؛ فإن ظفر على صاحبه وإلا هلك، والخوف عليه في ذلك أشد؛ فيجب أن تكون المحنة فيه أكثر. ولكنه يجوز أن يكون اللَّه تعالى علمهم بهذه الآية كيفية القتال؛ ليستعين بعضهم ببعض، وليكون كلمتهم واحدة؛ لأنهم إذا تفرقوا اختلفت آراؤهم، فيخشى عليهم الهزيمة والإدبار، وإذا كانت آراؤهم متفقة، وكلمتهم واحدة، وشوكتهم واحدة، فذلك قوة في

(5)

القتال وزيادة نصرة، واللَّه أعلم. ثم قوله: (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب هذا المثل للثبات، يعني: إذا اصطفوا ثبتوا كالبنيان المرصوص الذي يكون ثابتا مستقرًّا لا ينتقض بأدنى شيء. ومنهم من قال: ضرب هذا المثل؛ لأن يكون كلمتهم واحدة، ويعين بعضهم بعضًا. ويشبه أن يكون للأمرين جميعًا؛ لأنهم إذا ثبتوا أعان بعضهم بعضًا، وكانت كلمتهم واحدة، وإذا كانت كلمتهم واحدة، كان ذلك أدعى إلى الثبات وأقرب إليه؛ فلذلك قلنا: إنه يجوز أن يكون للأمرين جميعًا، واللَّه أعلم. ثم المحبة تحتمل وجهين: أحدهما: عن الخلق. والثاني: الثناء عليهم بما يفعلون. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9). وقوله - تعالى -: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ). يحتمل وجهين: أحدهما: تنبيه لهم، وإعلام عن معاملة اعتادوها فيما بينهم من غير أن يعلموا فيها أذى لموسى - عليه السلام - نحو أن قال في حق رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)؛ فيجوز أن يكونوا لا يعدون تلك المعاملة أذى لموسى - عليه السلام - ولا يعلمونها؛ فأخبرهم أنها تؤذيه؛ لينتهوا عن ذلك. والثاني: أنه يجوز أن يكونوا علموا أن ذلك يؤذيه، ولكنهم عاندوه وكابروه، فيخبرهم عن كيف (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)، وقد علموا أن حق رسل الملوك التعظيم والتبجيل؛ فكيف رسول رب العالمين؟! فأخبرهم أنه يؤذونه شكاية منهم إليهم. ثم اختلفوا في الأذى:

فقَالَ بَعْضُهُمْ: إن موسى - عليه السلام - كان لا يكشف عن نفسه؛ فأذوه بأن قالوا: إن في بدنه آفة ومكروها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن موسى - عليه السلام - ذهب مع هارون - عليه السلام - إلى جبل، فقبض هارون في ذلك الجبل، فآذوه بأن قالوا: قتل موسى أخاه. ومنهم من قال: كانوا يؤذونه بألسنتهم حيث قالوا: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً)، وبقولهم: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)، وبقولهم: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ)؛ ولكن الوجه أن لا يشار إلى شيء بعينه. فإن كان التأويل هو الوجه الأول: أنهم آذوه من غير أن يعلموا أن ذلك يؤذيه أن لا يصرف إليه شيء من هذه الأوجه الثلاثة، وإن كان على الوجه الثاني فكذلك، وإن كان على الوجه الثالث جاز أن يصرف إليه أي الوجوه منها، واللَّه أعلم. ثم حق هذه في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخرج على وجهين: أحدهما: أنه يجوز أن يكون بنو إسرائيل آذوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فذكره اللَّه تعالى أمر موسى - عليه السلام - وإيذاءهم إياه؛ ليكون فيه تصبير لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتسكين لقلبه. أو يجوز أن يكون هذا تحذيرًا لأصحابه عن أن يرتكبوا ما يخاف أن يكون فيه أذاه - عليه السلام - واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) له معنيان: أحدهما: أن يقول: (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، يعني: خلق فعل الزيغ في قلوبهم يعني: خذلهم اللَّه، ووكلهم إلى أنفسهم. قالت المعتزلة محتجين علينا: إن اللَّه تعالى قال: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)، ذكر أنه إنما يضله بعدما فسق، وأنتم تقولون: إنه يضله وهو يهدي؟ قلنا: إن هذا تمويه علينا، وذلك أنا نقول: إن اللَّه تعالى يضله لوقت اختياره الضلال، ويزيغه لوقت اختياره الزيغ، وإذا كان كذلك، لم يلزم ما قالت المعتزلة، مع أنهم يقولون: إن اللَّه تعالى يضله بعد ضلالته بنفسه؛ عقوبة له، ويريد له هدى بعد اهتدائه ثوابا له. ولا يستقيم كذلك؛ لأنا قد نراه في الشاهد يكفر بعد إيمان ويؤمن بعد كفره، وإذا كفر بعدما كان مؤمنا، وذلك وقت يريده اللَّه تعالى هُدِي؛ ثوابا لإيمانه المتقدم؛ فإذا كفر فكأن هداية اللَّه تعالى كانت سببًا لكفره، أو إذا آمن بعدما كان كافرا وقت عقوبته بالكفر؛ فكأن عقوبة اللَّه تعالى بالكفر على الكفر المتقدم كان سببا للإيمان، وهذا كلام مستقبح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

(6)

يعني: الذين علم اللَّه منهم أنهم يختارون الضلال والكفر؛ فلا يتوبون منه ولا ينقلعون؛ فلا يهدي أُولَئِكَ، وأما من علم منهم أنه يتوب ويسلم فإنه يهديه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6). قوله؛ (مُصَدِّقًا) يحتمل وجوهًا: أحدها: أن يقول جئت إليكم بالنعت الذي وصفت في التوراة، أو (مُصَدِّقًا) وبالتوراة وبكتب اللَّه تعالى؛ ليعلم أن الرسل كان يلزمهم الإيمان بالكتب المتقدمة والرسل جميعا، كما يلزم ذلك أمتهم. أو يقول: (مُصَدِّقًا)، يعني: آمركم بعبادة اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وتوحيده كما أمرتم به في التوراة؛ ليعلم أن الرسل كان دينهم واحدا، وإن كلهم يدعون إلى التوحيد وعبادة الرحمن، وأما الشرائع فقد يجوز اختلافها ولا يدل ذلك على اختلاف في الدِّين؛ لأن الشرائع قد تختلف في رسول واحد ولا يختلف دينه؛ فكذلك الرسل، واللَّه الموفق. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ). يعني: مبشرا برسول يصدق بالتوراة على مثل تصديقي؛ فكأنه قيل له: ما اسمه؟ فقال: (اسْمُهُ أَحْمَدُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: الذي جاءهم عيسى، عليه السلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: مُحَمَّد، عليه الصلاة والسلام. وقد جاءا جميعًا. وقوله: (بِالْبَيِّنَاتِ)، أي: بالبينات التي تبين أن الذي جاء به إنما جاء من عند اللَّه. وقوله: (هَذَا سِحْرٌ)، و (ساحر مبين)، واختلفوا فيمن قيل له هذا: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو عيسى، عليه السلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو مُحَمَّد، عليه الصلاة والسلام. وقيل: قالوا لهما جميعا. ويحتمل أن يكون هذا قول أكابر الكفرة للضعفاء منهم؛ وذلك أنهم لم يجدوا سببًا للتمويه سوى أن نسبوه للسحر، وهذا يدل أنه جاءهم بالآيات المعجزة؛ حيث نسبوه إلى السحر، وقالوا: (هَذَا سِحْرٌ)، وإنا لا نعلم السحر، ولو كان الذي جاءهم به سحرا كان حجة عليهم؛ لأنهم قد علموا أن الرسل لم يختلفوا إلى السحرة، ولم يتعلموا منهم، وكان لا يتهيأ لهم اختراعه من تلقاء أنفسهم، فلو كان سحرا كان حجة عليهم؛ لأنهم قد علموا

(7)

ما ذكرنا، ولكن اللَّه تعالى برأه ونزهه من السحر، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ). نور اللَّه يعني: دين اللَّه، أو كتاب اللَّه، أو رسل اللَّه. وقوله: (بِأَفْوَاهِهِمْ) أي: ليست عندهم حجة ولا معنى يدفعون به هذا النور، سوى أن يقولوا بألسنتهم: هذا سحر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7). أي: ومن أوحش ظلمًا وأقبح ممن بلغ افتراؤه المبلغ الذي يفتري على اللَّه تعالى الكذب؛ لأنهم قد علموا أن ما نالوا من نعمه وكرمه، فإنما نالوه باللَّه، ثم كفروا به، وكذبوا على اللَّه وعلى رسوله. أو يقول: لا أحد أظلم ممن يفتري على اللَّه الكذب؛ وذلك أن قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ) كلام استفهام، ومعلوم أن اللَّه تعالى لا يستفهم أحدًا، وإذا كان كذلك، كان حق كل ما خرج مخرج الاستفهام أن ينظر إلى جوابه لو كان مستفهمًا؛ فيفهم منه معنى قول رب العالمين، وإنما المفهوم من جواب من يسألهم عن مثل هذا أن يقول: لا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه الكذب، واللَّه يدعو إلى الإسلام، وهو أن يجعل الأشياء كلها سالمة له، فهو إذ علم أن ما ناله من نعمة فإنما ناله باللَّه تعالى، وعلم الأشياء كلها لله تعالى، فكيف افترى على اللَّه تعالى الكذب، وهو يعلم فإنه علم هذا؟! فلا أحد أظلم منه حتى افترى على اللَّه الكذب، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ... (8). له أوجه: أحدها: بالحجج والبراهين. والثاني: بنصر أهله وغلبته. والثالث: بإظهاره في الأماكن كلها. فإن كان على النصر والغلبة، فقد كان حتى كأن المشركين في خوف والمسلمون في أمن؛ ألا ترى إلى قوله: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ)، وإلى ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين ". وإن كان بالحجج فقد كان أيضًا، لأنهم عجزوا عن أن يأتوا بما يشبه أن يكون مثلا له؛

(9)

فضلا من أن يأتوا بمثله؛ فدل أنه قد أتم نوره بالنصر والغلبة والبراهين والحجج. وإن كان المراد منه إظهاره؛ فإنه يرجى أن يظهر؛ على ما روي أنه إذا نزل عيسى - عليه السلام - لم يبق على وجه الأرض دين إلا الإسلام. ثم قوله تعالى (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) ليس فيه أنه كان به شيء من الكدر فصفاه؛ ولكن على ما ذكرناه من التأويل؛ فكذلك لا يجب أن يفهم من قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أنه كان ناقصا فأكلمه بالشرائع؛ ولكنه على هذه الوجوه، يعني: أظهر الدِّين بالشرائع التي وصفناها في قوله: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). وقال حين ذكر الإظهار: (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) لأن هَؤُلَاءِ كفروا بالرسول والكتاب، وذلك نعم اللَّه تعالى؛ فقال: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، وأُولَئِكَ أشركوا به في التوحيد؛ فقال: (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يعني: بما لو اتبعوه اهتدوا به. وقوله: (وَدِينِ الْحَقِّ) له أوجه ثلاثة: أحدها: أن يجعل الحق كناية عن اللَّه تعالى فكأنه قال: ودين اللَّه. والثاني: أن يجعل الحق نعتا للدِّين؛ فكأنه قال: والدِّين الذي هو الحق من بين سائر الأديان. والثالث: أن يقول: الذي يحق على كل أحد قبوله والانقياد له، واللَّه أعلم. وقوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) له وجهان: أحدهما: أن يقول (لِيُظْهِرَهُ)، يعني: يظهر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غيره بما يحتاج في هذا الدِّين من النوازل؛ فيكون فيه بيان أن ما جاء عنه - عليه السلام - في هذه النوازل إنما هو بالوحي وبما أظهره اللَّه تعالى عليه. ويحتمل: بإظهار هذا الدِّين في الأماكن. قال: والدِّين: هو الخضوع والاستسلام لله تعالى، فحقيقته أن يجعل الأشياء كلها سالمة له. وقوله: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ويقتضي هذا: ولو كره المعتزلة؛ لأن إتمام نوره كان بالحجج، أو بالنصر والغلبة، أو بإظهاره في الأماكن كلها فإنما يكون ذلك بأفعال العباد، ثم أضاف اللَّه تعالى إلى نفسه؛ فثبت أن لله تعالى في

(10)

أفعال العباد صنعا وتدبيرا، وإن كان أفعالهم كلها مخلوقة لله لا تخرج عن تدبيره ومشيئته، واللَّه المستعان. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ). الإيمان باللَّه: أن يؤمن بأنه الواحد الأحد، الصمد الفرد، الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ويؤمن بأن له الخلق والأمر، وأنه قادر لا يعجزه شيء، وعليم لا يخفى عليه شيء، وحكيم لا يخرج خلقه الأشياء المختلفة من السراء والضراء، والظلمة والنور، والمرض والصحة، عن حكمته. وأنه ليس كما قالت الثنوية: إن خالق الظلمة والشر والقبيح غير خالق النور؛ بل يعلمه أنه خالق كل شيء، سواء من ظلمة ونور، وشر وخير، وسقم وصحة. ولا على شبيه ما قالت المجوس: إن اللَّه تعالى غفل غفلة فتولد منه الشيطان؛ بل هو لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء. ولا على ما قالت النصارى: حيث شبهوه بالخلق حتى أجازوا أن يكون له ولد. ولا على ما قالت القدرية: إنه لا يقدر شيئا من الشر والسقم والوجع. ولا على ما قالت المعتزلة: إنه ليس له في أفعال العباد صنع وتدبير؛ بل يعلمه عليما بكل شيء، قديرا على كل شيء، متعاليًا عن كل شيء من معاني الخلق، متنزها عن كل آفة وحاجة وعيب، فهذا هو الإيمان باللَّه تعالى عندنا، واللَّه تعالى أعلم. والإيمان بالرسول: هو أن يؤمن بأن ما جاء به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وفهو حق وصدق. وقوله: (وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). هذا على وجهين: أحدهما: أن يقاتلوا أعداء اللَّه تعالى. والثاني: أن يجاهدوا في طاعة اللَّه تعالى، وفيما دعا إليه من الأمر بالجهاد ينصرف

إلى أنواع أربعة: جهاد في سبيل اللَّه بمقاتلة أعدائه، والاستقصاء في طاعته. وجهاد فيما بين الإنسان ونفسه أن يجاهد في قهرها ومنعها عن لذاتها وشهواتها، وعما يعلم أنه يهلكها ويرديها. وجهاد فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع فيهم، وأن يشفق عليهم ويرحمهم، وألا يرجوهم ولا يخافهم. وجهاد فيما بينه وبين الدنيا وهو أن يتخذها زادا لمعاده، أو مَرمَّة لمعاشه، ولا يأخذ منها ما يضره في عقباه. وكل هذه الأنواع يستقيم أن يسميها جهادا في سبيل اللَّه. ثم إن هذه الآية تنتظم مسائل ثلاثًا: إحدها: أن كيف أمرهم بالإيمان بعد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؟ والثانية: أن كيف يرجى له النجاة إذا آمن باللَّه ورسوله، ولم يجاهد في سبيل اللَّه وقد أوجب عليه ذلك؟ والثالثة: أن كيف يخاف عليه العذاب إذا آمن باللَّه ورسوله، وجاهد في سبيل اللَّه، وأتى بالكبيرة مع قوله: (تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)؟ أما الجواب عن المسألة الأولى: أنه يحتمل أن يكون المراد من هذه الآية أهل النفاق؛ فيكون المعنى من قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في الظاهر، (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، أي: تصدقون بقلوبكم. ويجوز أن تكون في أهل الكتاب أيضًا فكأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا بالكتب المتقدمة، آمنوا باللَّه وبمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبهذا الكتاب. هذا إذا كان في الكفار. فأما إذا كان في المؤمنين يجوز أن يكون أمر بالإيمان من بعد ما آمنوا، بمعنى: الثبات عليه أو الزيادة وبحق التجدد، وأن الإيمان في حادث الأوقات له أسماء ثلاثة: الزيادة، والثبات، والتجدد؛ وذلك أن اللَّه تعالى ذكر هذا النوع في كتابه مرة باسم الزيادة؛ حيث قال: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ)، ومرة باسم الثبات بقوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، ومرة بالإيمان بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ). فإن كان على الزيادة والثبات، فذلك لطف من اللَّه تعالى؛ وذلك أن الزيادة والثبات هما اسمان يطلقان على فعل دائم، وفعل الإيمان منقضٍ، ولكنه يجوز أن يكون اللَّه تعالى

(11)

بلطفه جعل المنقضي كالدائم؛ فيخرج هذا الفعل مخرج الزيادة والثبات، واللَّه أعلم. وإن كان على التجدد في الأوقات الحادثة، فذلك مستقيم؛ وذلك لأن المرء منهي عن الكفر في كل وقت يأتي عليه إذا أتى بالإيمان في ذلك الوقت انتهى عن الكفر؛ فصار لإيمانه حكم التجدد، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون المراد بقوله: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... (11) الاعتقاد، وإذا كان المراد منه ذلك، وأتى بما أمر من الاعتقاد بهذه الأمور، ولكنه لم يف بالفعل، فهو في رجاء من النجاة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ). يعني: ذلك الذي أمركم به من الإيمان باللَّه تعالى ورسوله والجهاد في سبيله خير لكم من أن تتبعوا أهواءكم. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). عيانا بعلمكم أن ذلك خير لكم. وقوله تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12). يعني: يغفر اللَّه لكم بتلك النجاة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً). يجوز أن يكون رغبهم في هذه الآية بما أمرهم بتركها؛ وذلك أنه أمرهم بمفارقة مساكنهم وإنفاق أموالهم والجهاد بأنفسهم، ثم أخبر أنهم إذا فعلوا ذلك آتاهم مكان كل ما فات عنهم خيرًا منها: مكان ما فارقوا من المساكن يؤتيهم مساكن طيبة، ومكان ما أنفقوا من أموالهم يؤتيهم النعيم الدائم، ومكان ما أفنوا من حياتهم وأنفسهم يؤتيهم حياة دائمة باقية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). يعني: ذلك الثواب الدائم هو الفوز العظيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13). فكأنه يقول يعطيكم اللَّه بتلك التجارة التي دلكم عليها ما ذكر من الثواب في الآجل، وأخرى تحبونها نصر من اللَّه على أعدائكم في الدنيا، وفتح البلاد. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)، بهما، وقد فعل اللَّه تعالى ذلك بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) هذا كلام يورث شبهة في القلب أن كيف قال (كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ) واللَّه تعالى لا يخاف أحدًا حتى يستنصر عليه غيره؟ ولكن السبيل في كشف هذه الغمة عن القلوب هو أن المعنى في هذا وفي قوله:

(وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، وقد وصفنا في ذلك أن اللَّه تعالى جعل ما يصلون به أرحامهم ويتصدقون على فقرائهم كأنهم أقرضوا اللَّه؛ كرمًا منه وفضلا ولطفا، فكذلك يحتمل أن يكون جعل ما ينصرون به دينه أو رسوله نصرا له تعالى. وكذلك قوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، والمعنى في هذا: إن تنصروا دين اللَّه ينصركم، أو إن تنصروا رسول اللَّه أو تنصروا الحق، واللَّه أعلم أي ذلك كان. ويحتمل أن يكون المراد من ذلك كله، أي: اجعلوا ما تنصرون به دينكم لله تعالى ولوجهه. وكذلك قوله: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ)، تعالى: اجعلوا ذلك لله ولوجهه الكريم، ولا بد من أن يكون في هذه الآية إضمار: إما في الابتداء أو في الانتهاء حتى تستقيم عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ) فكأنه يقول: قل للذين آمنوا: كونوا أنصار اللَّه كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: من أنصاري إلى اللَّه؟ أو يكون معناه وإضماره في حق الإجابة، أي: أجيبوا لله ورسوله وكونوا أنصارا له كما أجاب قوم عيسى بقولهم: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ). والحواريون: المتبصرون المنقون دينهم عن الشبهة، وهم قوم كانوا خيرة عيسى - عليه السلام - وخاصته حيث دعاهم إلى دينه فأجابوه وآمنوا به، ونقوا دينهم عن كل شبهة وآفة وعيب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) هذا يحتمل أن يكون في حياة عيسى - عليه السلام - حين اتبعه الحواريون ثم دعا بعد ذلك قومه إلى دينه فآمنت طائفة وكفرت طائفة، (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ) بالبراهين والحجج على الطائفة الذين كفروا؛ (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) على أعدائهم بالحجج والبراهين. ويجوز أن يكون بعد وفاة عيسى - عليه السلام - حين اختلفوا في ماهيته: فمنهم من قال: هو اللَّه، ومنهم من قال: هو ابن اللَّه؛ فكفرت به هذه الطائفة وآمنت به طائفة أخرى، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم حين وقع لهم قتال؛ فنصروا عليهم وظفروا، والله أعلم. تمت السورة بحمد اللَّه وحسن توفيقه، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحيه أجمعين. * * *

سورة الجمعة

سُورَةُ الْجُمُعَةِ وهي كلها مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). قال: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ)، ولم يقل: يسبح اللَّه، وقد جرت العادة في الناس التسبيح بالإله؛ كقولهم: سُبْحَانَ اللَّهِ، وسبحان ربي العظيم، فكان حق هذا القول على ما جرت به العادة في اللسان أن يقول: يسبح اللَّه ما في السماوات وما في الأرض، ولكنه يجوز أن يكون هذا من نوع ما يجري فيه اللفظان جميعًا؛ كما يقال: شكره وشكر له، ونصحه ونصح له. والتسبيح يحتمل أوجها ثلاثة: أحدها: تسبيح الخلقة: أنك إذا نظرت إلى كل شيء على الإشارة إليه والتعيين، دلك جوهره وخلقته على وحدانية اللَّه تعالى، وعلى تعاليه عن الأشباه وبراءته عن جميع العيوب والآفات؛ فذلك من كل شيء تسبيحه. والثاني: تسبيح المعرفة، ووجه ذلك: أن يجعل اللَّه تعالى بلطفه في كل شيء حقيقة المعرفة؛ ليعرف اللَّه تعالى وينزهه، وإن كان لا يبلغه عقولنا؛ ألا ترى إلى قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). ولكن عندنا بواسطة إحداث نوع حياة فيه؛ إذ المعرفة بدون الحياة لا تتحقق. والوجه الثالث: هو أن يكون التسبيح تسبيح ضرورة وتلقين، ووجهه: أن اللَّه تعالى يُجري التسبيح على ذلك الجوهر من غير أن يكون له حقيقة المعرفة، كما أظهر من آياته وأعلامه على عصا موسى، وكما أجرى السفينة على وجه الماء، وإن لم يكن لها حقيقة المعرفة؛ وذلك تسبيح كل شيء، واللَّه أعلم. وقوله: (الْمَلِكِ). يعني: الملك الذي له ملك الملوك، أو الذي له الملك في الحقيقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْقُدُّوسِ)، له تأويلان: أحدهما: الطاهر من كل عيب وآفة وحاجة، أو الطاهر مما يحتمله غيره.

(2)

والثاني: المبارك، يعني: به ينال كل بركة وخير. ويجوز أن يجمع في المبارك معنى التنزيه من العيوب ومعنى البركة؛ لأنك إذا وصفته بالبركة فقد وصفته بالبراءة من كل عيب وأضفت إليه كل بركة ويمن؛ كما روي في الخبر أن قول: " سُبْحَانَ اللَّهِ نصف الميزان، والحمد لله تملأ الميزان "، وكان معناهما عندنا أن قول: " سُبْحَانَ اللَّهِ " يختص بتبرئته من العيوب، " والحمد لله " ينتظم معنى التنزيه من العيوب، ومعنى إضافة النعم كلها إليه، فإذا كان فيه هذان المعنيان جميعًا، جاز أن يمتلئ به الميزان، ولما اختص " سُبْحَانَ اللَّهِ " بتطهيره من العيوب، ولم يتعده إلى غيره، أخذ نصف الميزان، واللَّه أعلم. وكذلك هذا الاختلاف في تأويل قوله: (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). العزيز: يعني: الغالب القاهر، لا يعجزه شيء. أو يجوز أن يكون العزيز مقابل الذليل، والذليل ينتظم كل فقر وحاجة وضعف؛ فالواجب: أن ينتظم العزيز -إذا كان ضدًّا ومقابلا- كل شرف ومكرمة وغناء وقوة، والله الموفق. والحكيم: قالوا: هو الذي يضع الأشياء مواضعها، فاللَّه تعالى حكيم حيث وضع الأشياء مواضعها التي جعلها اللَّه تعالى مواضع لها، أو الحكيم: هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، وهو معنى المصيب أيضًا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2). احتج أهل الكتاب علينا أن اللَّه تعالى إنما بعث محمدا رسولا إلى الأميين خاصة بهذه الآية، وفهموا منها تخصيص الأميين بإرسال الرسول إليهم، فيقتضي نفيه عن غيرهم. ولكن نقول: لا يجب أن يفهم من الآية نفي ما ذكر في ظاهرها، بل يفهم منها ظاهرها دون النفي، والتخصيص بالذكر لا يحتمل على النفي؛ لأنه إذا حمل التخصيص بالذكر على نفي غيره، أدى إلى ما لا يستقيم ولا يحل؛ ألا ترى إلى قوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)، حيث لم يفهم أنه لم يخطه بيمينه أن كان خطه بشماله، ولا من قوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو)، أنه كان يتلى عليه،

ولكن المعنى من ذلك كله واللَّه أعلم: أن اللَّه بعث رسوله أميًّا في قوم أميين لا يعلمون الحكمة وماهيتها، وجعل ذلك آية لرسالته وحجة لنبوته؛ لأنه إذا كان أميًّا لا يكتب ولا يقرأ الكتب، ثم آتاهم الكتاب مؤلفًا منظومًا يوافق كتب أهل الكتاب دل أنه إنما علم ذلك بالوحي، وأنه لم يختلقه من عند نفسه، واللَّه أعلم. ثم الدليل على أنه كان رسولا إليهم جميعًا قوله: (كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)، وما روي عنه - عليه السلام - أنه قال: " بعثت إلى الأحمر والأسود " يعني: إلى الإنس والجن، ولأجل أنه لما بعث إلى طائفة ليدعوهم إلى طاعة اللَّه تعالى وعبادته، علم أنه رسول إلى غيرهم؛ إذا لم يكن لهم رسول آخر؛ لأن الطائفة الأخرى إذ لم يكن لهم رسول آخر، واحتاجوا إلى معرفة الأمر والنهي وإلى طاعة الرحمن حاجة الطائفة التي بعث إليهم؛ دل أنه رسول إليهم جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله: (بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ). معناه: أنه بعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قوم أميين لا يعرفون عبادة اللَّه ولا يقرءون الكتاب، بل كانت عادتهم عبادة الأصنام. وقيل في تأويل الأميين: هم الذين لم يؤمنوا بالكتب، ولكن هذا فاسد؛ لأن اللَّه تعالى سمى نبيه - عليه السلام - أميًّا بقوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ). وقيل: سماهم: أميين؛ لأنهم لا يقرءون الكتاب ولا يكتبون على الأعم الأغلب، وإن كان فيهم القليل ممن يقرأ ويكتب، ومن هذا سمي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أميًّا؛ لأنه كان لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ولم يعلم ذلك؛ قال اللَّه تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)، وعلى ذلك روي عن النبي - عليه السلام -: " الشهر هكذا وهكذا " وأشار بأصبعه، وقال: " إنما نحن أمة أمية لا تحسب ولا تكتب ". وقال الزجاج: الأمي هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة ولم يتعلم، ويكون على ما

سقط من أُمهِ فنسب إلى حال ولادته التي سقط من أمه؛ لأن ذلك إنما يكون بالتعليم دون الحال التي يجري فيها المولود. ثم وجه الحكمة في جعل النبوة في الأمي أن يكون ذلك سبب معرفة نبوته وعلامة رسالته، بحيث يعلم أنه ما اخترع ذلك من لدن نفسه؛ إذ لم يعرف الكتابة والقراءة ولا اختلف إلى أحد؛ ليتعلم منه، ثم أحوج جميع الحكماء إلى حكمته، وجميع أهل الكتاب إلى معرفة كتابه؛ لحسن نظمه وتأليفه؛ ليعلم أنه إنما ناله بالوحي والرسالة، واللَّه أعلم. وقوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ). الآيات: الأعلام، فكأنه يقول: يتلو عليهم في كتابه أعلاما تبين رسالته وتظهر نبوته. أو يجوز أن يكون الآيات: الحلال والحرام وما أشبهه. أو الآيات: الحجج التي يستظهر بها الحق، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيُزَكِّيهِمْ). قَالَ بَعْضُهُمْ: يصلحهم، يعني: يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون أذكياء أتقياء. ويجوز أن يكون معنى قوله: (وَيُزَكِّيهِمْ) أي: يطهرهم من خبث الشرك وخبث الأخلاق وخبث الأقوال، واللَّه أعلم. وقوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، اختلفوا فيه: قال الحسن: هذا كلام مثنى؛ الكتاب والحكمة واحد. وقال أبو بكر: الكتاب: ما يتلى من الآيات، والحكمة: هي الفرائض. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة: هي السنة؛ لأنه كان يتلو عليهم آياته، ويعلمهم سنته؛ إما بلطف من اللَّه تعالى وإلهامه إياه أو بالوحي. ومنهم من قال: الكتاب: ما يتلى من الآيات نصًّا، والحكمة: ما أودع فيها من المعاني؛ واللَّه أعلم، أي ذلك كان؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). أي: أنهم كانوا عن الكتاب والحكمة لفي ضلال بين ظاهر؛ لأنهم كانوا مشركين عبدة الأصنام، ليس عندهم كتاب، ولا يعرفون الحكمة. ويحتمل أن يكون معنى قوله: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: في الشرك وعبادة الأصنام، فدعاهم الرسول إلى توحيده وترك ما هم فيه من عبادة الأصنام. قال الفقيه - رحمه اللَّه - في قوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ): إن اللَّه تعالى قد

(3)

جعلهم أتقياء أذكياء علماء بعدما كانوا أميين جهالا سفهاء؛ آية ودلالة على حقية دينه - عليه السلام - على سائر الأديان؛ حيث لم يكن أهلها كذلك، ويكون فيه ترغيب للآخرين؛ ليصيروا علماء حكماء. وقوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ). يجوز أن يكون هذا تعليمًا من اللَّه تعالى؛ فيجعلهم علماء بعدما كانوا سفهاء، وأذكياء بعدما كانوا أنجاسًا وأقذارا عبدة الأوثان، وذلك من لطف اللَّه تعالى بهم؛ لأن ما أضيف من هذه الأفعال إلى اللَّه تعالى، فهو على حقيقة الوجود، وما أضيف إلى الرسول فهو على الأسباب، وذلك أنه لا يجوز أن يعلم اللَّه تعالى أحدا فلا يصير عالما؛ لأن تعليمه خلق العلم في المحل الذي أراد، وما أراد وخلق يكون لا محالة، فأما الرسول فيجوز أن يعلم البشر فلا يتعلم؛ لأن تعليمه بسبب؛ لأنه ليس له قدرة الخلق والإيجاد؛ فثبت أنه على جهة السبب، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3). فإن كان معناه الخفض، فهو منسوق على قوله: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) ومن آخرين لم يلحقوا بهم؛ فيكون فيه إخبار أن رسالته تبقى إلى آخر الدهر. وإن كان معناه النصب فهو منسوق على قوله: (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، فيكون فيه بشارة أنه يكون في الآخرين علماء أتقياء حكماء كما كان في هَؤُلَاءِ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحتمل أن يكون هذا في أهل النفاق؛ فيكون معناه: فهو الذي بعث في الأميين رسولا فيصيرون علماء حكماء مؤمنين على الحقيقة في الظاهر والباطن، وآخرين من هَؤُلَاءِ الأميين في الظاهر لما يلحقوا بهم في الباطن؛ والتأويل الأول أصح وأقرب. وقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ) حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الذل به والفقر إليه. وقوله: (الْحَكِيمُ). في أمره حيث أمرهم بالحكمة. أو الحكيم في تدبيره؛ حيث جعل في كل مخلوقاته ما يشهد بوحدانيته وتدبيره فيه. أو هو الحكيم في تقديره؛ حيث خلق الأشياء المتضادة من نحو النور والظلمة والنيل والنهار؛ لأنه وضع كل شيء موضعه، لم يخلط ظلمة بنور ولا نورا بظلمة، ولا ليلا بنهار ولا نهارا بليل. وقوله: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ... (4):

(5)

يعني: ذلك الفضل: -النبوة والرسالة- يؤتيه من يشاء، يعني: يخلق من البشر من يصلح للنبوة والرسالة. أو ذلك الفضل من تعليم الكتاب والحكمة يؤتيه من يشاء. وفيه دلالة على كذب قول المعتزلة؛ لأن من قولهم: إن اللَّه لا يؤتي أحدا شيئًا بفضله، بل حق عليه أن يفعل ذلك، فإذا كان هذا على اللَّه فعله كان ذلك حقًّا يقضيه، ومن قضى حقًّا، فليس يوصف بالفضل، وقد وصف اللَّه تعالى نفسه بالفضل، فثبت بهذا كذب قولهم، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). أي: ذو الفضل العظيم في الدنيا؛ حيث تفضل عليهم بالكتاب والحكمة بعدما كانوا جهالا. أو يجوز أن يكون هذا في الآخرة أن اللَّه يجزيهم عن أعمالهم الجنة؛ فضلا منه عليهم. (الْعَظِيمِ) هو الدائم الباقي، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8). وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا). له أوجه من التأويل: أحدها: يحتمل أن يكون هذا كناية عن العمل، يعني: حملوا ما في التوراة فلم يعملوا بها. والثاني: أن يقول: (لَمْ يَحْمِلُوهَا)، يعني: لَمْ يَحْمِلُوهَا إلى من أمروا بحملها إليهم على ما أمروا؛ لأنهم حرفوا وبدلوا. أو يجوز أن يكون تأويله - واللَّه أعلم - أنهم كذبوا التوراة وتلقوها بالعناد والتكذيب فلم ينتفعوا بها، فمثلهم كمثل الحمار يحمل كتبا لا يعلم قدرها وخطرها كما قال: (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)؛ لأنهم وإن عرفوا التوراة فحين لم يعظموها حق تعظيمها، وكذبوا بما فيها، كانوا كأنهم لا يعرفون قدرها وخطرها، فصار مثلهم كمثل

(6)

الحمار يحمل الكتب، لا يعلم ما قدرها وخطرها؟ وهذا التأويل أقرب؛ لأنه قال في سياق هذه الآية: (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ)، فثبت أن المعنى من الأول التكذيب، واللَّه أعلم. قال: ثم معلوم أن هذا التكذيب والتحريف إنما كان من عمل كبرائهم ورؤسائهم، فأخبر أنهم كذبوا ولم يعرفوا قدرها حين كذبوا؛ ليزجر متبعيهم عن اتباعهم، ويبين أن رؤساءهم ليسوا ممن يستحقون الاتباع. وفيه - أيضًا - زجر للمسلمين أن يستخفوا كتاب اللَّه والعمل بما فيه، واللَّه أعلم. ثم قوله: (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يقول: بئس النعت والصفة صفة الذين بلغ كذبهم مبلغا كذبوا على اللَّه؛ لأن الكاذب في العباد موصوف بالشر، فإذا بلغ كذبه مبلغا يكذب على اللَّه تعالى، علم أنه في النهاية في الشر، فكأنه يقول: صفة الذين كذبوا على اللَّه في الغاية من الشر والقبح. أو يقول: بئس مثل الذين كذبوا بآيات اللَّه؛ لأن اللَّه تعالى ضرب أمثال المشركين بكل ما يستخبث ويستقبح، وضرب أمثال المؤمنين بكل حسن وطيب، فقال: المثل يعني الشبه الذي شبه اللَّه تعالى به المكذبين بآياته شبه قبيح. ثم في هذه الآية دلالة أن اللَّه تعالى يخلق القبيح والحسن والخبيث والطيب جميعًا؛ لأن قوله: (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ)، وذلك المثل الذي شبههم به ما خلقه وقد سماه: بئسا، فثبت أن اللَّه تعالى قد خلق الخبيث والطيب والقبيح والحسن، وعند المعتزلة لم يخلق إلا الحسن، فتكون الآية حجة عليهم. وقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، له تأويلان: أحدهما: أنه لا يهدي القوم الظالمين لوقت اختيارهم الظلم والفسق، أو لا يهديهم بظلمهم الآيات ومكابرتهم وعنادهم إياها؛ فهو لا يهدي هَؤُلَاءِ، وأما من ظلم عن جهل أو فسق ثم استرشد، فإنه يهديه ويرشده، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وقال في موضع آخر: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)؛ فكان في هذا بيان أن من كان من أوليائه فله الدار الآخرة عند اللَّه خالصة، ومن كانت له الدار الآخرة فهو من أوليائه.

(7)

ويجوز أن يكون مآلهما جميعًا، واللَّه أعلم. ثم المباهلة في المتعارف إنما هي المحاجة في بلوغ العناد والتمرد غايته، فكأنه لما قررت عندهم جميع الحجج فلم يقبلوها أمره بالمباهلة؛ فلم يباهله اليهود والنصارى؛ لأنه يجوز أن قد كان في كتابهم هذا أن المباهلة من غاية المحاجة وأن من باهَل، نزل عليه العذاب واللعنة إن لم يكن محقًّا؛ فلذلك امتنعوا من المباهلة، وأما العرب من المشركين فلم يكن لهم كتاب يعرفون به حكم المباهلة فباهلوا، وذلك أنه روي أن أبا جهل كان يقول: " اللهم انصر أحبنا إليك وأقرانا للضيف وأوصلنا للرحم " فنصر اللَّه تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فأبو جهل باهَله؛ لأنه لم يكن له كتاب، ولم يباهله اليهود والنصارى؛ لما كانت لهم كتب عرفوا فيها حكم المباهلة، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7). هذه الآية تدل على رسالة رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه لو كان يقوله من نفسه، لكانوا يبادرون فيتمنون الموت للحال؛ ليظهر كذبه فيه، فلما أخبر أنه لا يتمنونه أبدًا، ولم يتمنوا، تبين أنه قال من الوحي، وأنهم علموا ذلك حتى امتنعوا عن التمني؛ خوفا للهلاك على أنفسهم؛ لعلمهم أنهم لو تمنوا لماتوا، واللَّه أعلم. وقوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). أي: من تحريف التوراة والإنجيل؛ لأن قول النصارى (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، لم يكن في الإنجيل، وقول اليهود: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا)، لم يكن في التوراة، ولكنهم غيروا وبدلوا؛ فلا يتمنون الموت بما قدمت أيديهم من تحريف هذه الآيات وتبديلها وتغيير نعت مُحَمَّد، عليه الصلاة والسلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ). يعني: بظلمهم الآيات، وعنادهم لها، ومكابرتهم إياها. وقوله: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8). أي: الموت الذي تفرون منه بما قدمت أيديكم من تحريف التوراة والإنجيل يلقاكم لا محالة وإن فررتم منه؛ فيكون فيه تذكيرهم إن رجعوا عما يهربون منه، يعني: الموت. وقوله: (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). يعني: إلى عالم ما أشهدتم الخلق من التوراة والإنجيل، وعالم ما غيبتم عن الخلق من

(9)

نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وغير ذلك. أو عالم ما غيبتم في أنفسكم وأسررتم من تكذيبكم بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما أشهدتم عليه ضعفتكم وأتباعكم من نهيكم إياهم عن اتباعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). إما عيانا تقرءونه في كتابكم يوم القيامة، أو ينبئكم بما كنتم تعملون بالجزاء إن خيرا فخير وإن شرًّا فشر، واللَّه المستعان. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)، هذا السعي يحتمل وجهين: أحدهما: أن أقبلوا على العمل الذي أمرتم به وامضوا فيه. والثاني: واسعوا في المشي وأسرعوا، لأن السعي في المشي هو السرعة فيه، والسعي في الأعمال هو الإقبال عليها والمبادرة إليها، فإن كان المراد من هذا السعي في المشي فخروج الآية مخرج الترهيب والتضييق؛ ألا ترى إلى قوله: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) كيف أمرك بترك البيع وقد يمكن البيع في حال المشي، وإلى قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) كيف أمر بالانتشار في الأرض بعد الفراغ من الفريضة دون أن يذكر هنالك شيئًا في أدائها، ولو كان المراد منه الترغيب، لكان يأمره بالعدو إليها؛ فدلت هذه المعاني أن تخرج الآية على الترهيب والتضييق، وإن كان السعي في سائر الصلاة المفروضة غير مندوب إليه؛ على ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون، ولا تأتوها وأنتم تسعون، عليكم بالسكينة والوقار، وما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا " فاختص الجمعة به؛ لما ذكرنا من التضييق هاهنا والتوسيع في سائر الصلاة، ولكن الأشبه أن المراد من السعي هو الإقبال على أدائها والتأهب لها والمبادرة إليها، والسعي مستعمل في هذا؛ قال اللَّه تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)

وقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)، وإنما أراد العمل، وكذلك روي عن عمر وابن مسعود وأبي وابن الزبير - رضي اللَّه عنهم - أنهم قرءوا: (فامضوا إلى ذكر) حتى قال عبد اللَّه: " لو كانت القراءة (فَاسْعَوْا) لسعيت، ولو سقط ردائي لم ألتفت إليه "؛ خوفا من تضييع حقها؛ فذلك يدل على أن تأويل الأول عندهم على الإقبال والمبادرة إليها دون السرعة والمشي، ولأن هذا موافق لسائر الصلوات في أن العدو غير مستحب، واللَّه أعلم. والحديث الوارد في السكينة الوقار مطلق ليس فيه فصل بين الجمعة وغيرها، وعليه إجماع الفقهاء أنه يمشي إلى الجمعة على هينته، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) قال بعض الناس بأنه إذا باع في وقت الجمعة، لم يجز بيعه؛ لهذه الآية. وعندنا أن البيع جائز، لكنه مكروه. والذي يدل على جوازه أن النهي عن البيع في هذه الآية ليس لمكان البيع، ولكن لمكان الجمعة، فالفساد إذا ورد فإنما يرد في الجمعة لا في البيع؛ لأنه إذا باع في الصلاة فالبيع يفسد الصلاة؛ لأن الصلاة تفسد البيع، ولأن الأصل عنذنا أن كل عقد نهي لأجل غيره، فالنقصان إذا ورد من النهي فإنما يرد في ذلك الغير لا في العقد، وعلى هذا ما روي عنه - عليه السلام - أنه قال: " المحرم لا ينكح ولا ينكح " إذ النهي عن النكاح إنما هو لمكان الإحرام ليس لمكان النكاح؛ ولذلك نقول بجواز نكاح المحرم وبفساد الحج إذا جامع بذلك النكاح؛ لأن النهي إذا لم يكن لنفس العقد لم يستقم فساد العقد والنهي ليس من أجله، واللَّه أعلم. ثم لما قال: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) لم يقل: إلى الجمعة، ولا: لها؛ دل أنه قبل الجمعة

ذكر يجب الاستماع إليه والسعي إليه؛ فدل هذا على فرضية الخطبة، ولما ثبت أن المعنى من قوله: (إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) أن المراد بالذكر الخطبة، ثم أمر بترك البيع للسعي إلى هذا الذكر والاستماع له - ثبت أن الكلام في وقت الخطبة مكروه، وفي وقت خروج الإمام إلى الخطبة مكروه أيضًا؛ لأن البيع في ذلك الوقت مكروه، والبيع كلام؛ فيدل على كراهية كل كلام؛ فيدل على صحة مذهب أبي حنيفة - رحمه اللَّه - في أنه يلزم السكوت إذا خرج الإمام حتى يفرغ من الصلاة، وعلى ذلك ورد الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من أتى الجمعة ثم صلى ما شاء أن يصلي، ثم إذا خرج الإمام سكت إلى أن يفرغ من صلاته - كان ذلك كفارة له من الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام بعده "، فلما ألزمه السكوت من حين يخرج الإمام إلى أن يفرغ من الصلاة، ثبت أن الكلام في ذلك الوقت مكروه، واللَّه أعلم. قال: وفي هذه الآية دلالة على كذب من قال: إن الصلاة إنما تفترض في آخر الوقت، وأن من أدى فرضًا في أول وقت فإنما يؤدي تطوعا؛ لأنه أمره بالسعي وفرض عليه إذا نودي، ومعلوم أنه إذا تهيأ للإمام تأخير الصلاة في ذلك الوقت نص عليه مع ذلك؛ فدل هذا على كذب مقالتهم، واللَّه أعلم. وأقبح من هذا أنهم قالوا: إن الصلوات مفروضات على الكفرة في حال كفرهم وعلى المسلمين تطوع مع أنه يجيء على قولهم: إنه ليس أحد من الأمة أدى فرضا ألبتَّة؛ لأنه لم يذكر عن أحد منهم أنه فرط في أداء الصلاة حتى خاف خروج وقتها، فهذا قول قبيح يجب أن يستتاب عنه صاحبه وعن أمثاله، واللَّه أعلم. وفي هذه الآية دلالة على أن الجمعة لا تجب على من بعد من الإمام بفرسخين؛ لأنه أمره بالسعي بعد النداء، ومن بعد فرسخين، قد يخرج وقت الجمعة ولا يدركها؛ فثبث أنه على ما دونه وهو أن يكون في حد الأمصار، واللَّه أعلم. ثم الوقت الذي نهي عن البيع فيه يوم الجمعة: عن مسروق وجماعة: هو وقت الزوال إلى أن يفرغ الإمام من الجمعة. وعن مجاهد والزهري: أنه ينهى عن البيع بعد النداء؛ عملا بظاهر الآية: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)، والأول أشبه؛ لأنه إنما يجب الحضور إلى الجمعة عند دخول الوقت وهو زوال الشمس وإن تأخر النداء؛ ولأن النداء بعد الزوال غير معتبر فكان وجوده وعدمه سواء.

(10)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) أي: رحمة اللَّه؛ هذا خرج في الظاهر مخرج الأمر، ولكنه في حكم الإباحة عندنا؛ لأن هذا أمر خرج على أثر الحظر، والأصل المجمع عليه عندهم: أن كل أمر خرج على أثر الحظر فهو في حكم الإباحة، وما خرج مخرج الإباحة فإن الحكم فيه يتصرف على تصرف الأحوال، فإن كانت الحالة توجب فرضيته كان فرضًا، وإن كانت توجب واجبا فواجب، وإن أدبا فأدب. والدليل على أن كل أمر خرج على أثر الحظر، فهو في حق الإباحة - قوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)، وقوله: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)، ولم يكن ذلك محمولا على الفرض والحتم الذي لا يجوز تركه، ولكن على إباحة الاصطياد، أي: اصطادوا إن شئتم، وأتوهن إن أردتم، فكذلك يجوز أن يكون المعنى من قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) على ذلك الوجه، وإذا كان الأمر على هذا السبيل صار كأنه قال: فإذا قضيت الصلاة التي نودي لها، فانشروا في الأرض إن أردتم أو إن شئتم، واللَّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ). يعني: التجارة والكسب، قال: البيع؛ كأنه ينتظم ابتغاء فضل اللَّه، لكن قال فيما خرج مخرج الإذن والإطلاق: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، وقال فيما نهى عن ذلك: (وَذَرُوا الْبَيْعَ)، وإن كان المراد منهما جميعًا البيع؛ لأن كان يقبح أن يقول: وذروا ابتغاء فضل اللَّه؛ ولأن ابتغاء الفضل يتضمن البيع وغيره؛ فلا يستقيم أن يقال: " وذروا ابتغاء فضل اللَّه "، فقال هاهنا (وَذَرُوا الْبَيْعَ)؛ ليلحقه النهي خاصة، وأما الإطلاق والإذن، فإنه يستقيم في البيع وغيره، فقال: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، واللَّه المستعان. وقوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)، يحتمل وجهين: أحدهما: اذكروا اللَّه كثيرا بألسنتكم وقلوبكم. والثاني: اذكروا اللَّه بالإقبال على الطاعات التي فيها تحقق ذكر اللَّه. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، له أوجه: أحدها: على رجاء الفلاح. والثاني: أي: لكي تفلحوا. والثالث: على قطع وجوب الفلاح إذا فعل ذلك؛ بما قالوا: إن (لعل) و (عسى) من اللَّه تعالى واجب. وقوله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11).

التجارة واللهو لا يريان في الحقيقة، وإنما يرى اللاهي والتاجر، ولكنه ذكر فيه الرؤية؛ لقرب اللهو من اللاهي والتجارة من التاجر، كما قال تعالى: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، وكما يقال: سمعت كلام فلان، والكلام ليس بمسموع في الحقيقة، وإنما المسموع في ذلك الصوت الذي به يفهم كلامه، ولكن أطلق لفظ السماع في ذلك لتقاربهما، واللَّه أعلم. وبعد، فإن المعنى من هذا - واللَّه أعلم - ليس نفس الرؤية؛ وإنما المعنى منه عندنا: كأنه قال: (وإذا علموا)؛ وذلك أنهم كانوا لا يرون التجارة، ولكن ينهى إليهم خبرها فيعلمون بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْفَضُّوا إِلَيْهَا). ولم يقل: (إليهما) وقد ذكر شيئين، ولم يلحق ما بعدهما من الكناية بهما، بل بأحدهما، ويجوز مثل ذلك؛ كقوله: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا)، ولم يقل: (ولا ينفقونهما) لرجع الكناية إلى جميع ما سبق ذكره، وكما قال: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)، وقد رجعت الكناية إلى أحد المذكورين لا إليهما، وكذلك هذا، وهذا؛ لأن المقصود من خروجهم إنما كان هو التجارة دون اللهو، ولكنهم إنما يعلمون ما يجلب إليهم بذلك اللهو؛ فجاز أن يكون ذكر اللَّه لهذا المعنى، وإنما المقصود من ذلك التجارة، وكذلك قوله: (وَلَا ينُفِقُونَهَا)، فذكر حق الإنفاق فيما كان الإنفاق منه أيسر وأسهل في المتعارف وذلك الفضة، وإن كان الحق واجبا فيهما جميعًا؛ لما أن المقصود واحد وهو الصرف إلى الفقراء فعلى ذلك هاهنا، وأما المعنى منه عندنا: إنما خص الصلاة برجوع الكناية إليها؛ لأنها ثقلت على اليهود؛ لأن القبلة كانت أولا إلى بيت المقدس فلما حولت إلى الكعبة ثقلت الصلاة إلى الكعبة على الكفار، فقال: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ)، يعني: الصلاة إلى الكعبة، واللَّه أعلم. فَإِنْ قِيلَ: كيف جاز أن ينفر أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو في الخطبة إلى اللهو والتجارة، مع جلال قدرهم وتعظيمهم للنبي عليه السلام، وكذلك السؤال عن ضحكهم حين دخل الأعمى المسجد فوقع في بئر؟! والجواب عن هذا أن القوم كانوا حديثي عهد بالإسلام، وكانوا من سوقة القوم ومن سفلتهم، ولم يكونوا عرفوا حق الخطاب وحق الخطبة عليهم، وكانت تلك تجارة يأملون منها منافع لو لم يبادروا إليها ذهبت عنهم، فإنما خرجوا من المسجد؛ جهلا منهم بحق

الخُطْبة والخاطب. وبعد فإنهم لم يكونوا من أجلة القوم، ولا صَاحَبُوا أجلتهم؛ ليعرفوا حق الخُطْبة والخاطب، فانفلت منهم الزلة، ومن مثلهم هذه، فأما الذين كانوا من أجلة الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - ومن علمائهم، فلم ينفر واحد منهم. وكذلك الضحك أيضًا يجوز أن يكون من ضحك من أتباع القوم وسفلتهم، ولم يكونوا من الأجلة والنجباء، ولا يستنكر من مثل أُولَئِكَ هذا الصنيع، واللَّه أعلم. قال: والمعنى من ترك النبي عليه السلام نهيهم عن الخروج - وجهان: أحدهما: أن يكون الكلام كان محرمًا وقت الخطبة؛ فلم ينههم للنهي عن الكلام في ذلك الوقت. والثاني: يجوز أن يكونوا أسرعوا الخروج؛ فلم يبلغهم نهيه، أو لم ينههم؛ لما علم أنهم لم يسمعوا، واللَّه أعلم. وفي الخبر أنه عد الذين ثبتوا معه بعدما فرغ من الصلاة فوجدهم اثني عشر رجلا، فقال: " لو لحق آخركم بأولكم لاضطرم الوادي نارا " أي: المدينة، ففي هذا دلالة على أن الجمعة تقام بدون الأربعين؛ لأنه - عليه السلام - جمع باثني عشر رجلا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا). هذا يدل على أن الخطبة إنما تكون قائما. وقوله: (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ). قال إمام الهدى: ولولا هذا قد كان يعلم أن ما عند اللَّه خير من اللهو ومن التجارة، ولكن المعنى من ذلك - واللَّه أعلم - أن الدنيا كلها متجر، وأن أهلها فيها تجار: إما تجارة الدنيا، أو تجارة الآخرة؛ لأن الطاعة والعبادة في الاعتبار كأنها تجارة؛ لأنه يكتسب بها منافع الآخرة، وتجارة الدنيا يكتسب بها منافع الدنيا، فقال؛ التجارة التي عند اللَّه في طاعته واكتساب منافع الآخرة خير من اللهو، ومن التجارة التي يكتسب بها منافع الدنيا، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون معناه كأنه قال: اتقوا اللَّه؛ فإنكم إذا اتقيتموه اكتسبتم به المنافع في الرزق وغيره، والتجارة الدنيوية لا يكتسب بها إلا منافع الدنيا؛ ألا ترى إلى قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، وقال في

موضع آخر: (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ)، فإذا كانت التقوى يستفاد بها الرزق والبر في الأمور وكفارة الذنوب، والتجارة لا يكتسب بها إلا منافع الدنيا، فرغبهم فيما فيه جملة المنافع وهو التقوى؛ ليمكثوا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فيقول: رغبتكم فيما يكسبكم جملة المنافع إن اتقيتم ومكثتم عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خير من اللهو ومن التجارة التي تُكْسِبكم منفعة واحدة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). ليس يقتضي ذكر هذا أن هناك رازقا آخر؛ ليكون هو خيرهم، ولكن المعنى من هذا كالمعنى في قوله: (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، و (أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)؛ لأنه كان هو خير الرازقين، وأحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين؛ لأنه لا يحكم إلا عدلا، ولا يخلق إلا ما فيه حكمة؛ فكذلك قوله: (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). وجائز أن يضاف الرزق والخلق والحكم إلى العبيد مجازا، فقال: (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ممن يرزقكم؛ لأن غيره من الخلق إنما يرزق غيره من رزقه، ويعدل بحكمه، ويفعل بتوفيقه وتسديده، فقال: (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) الذين يرزقون من رزقه، واللَّه أعلم. * * *

سورة المنافقون

سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ). اختلفوا في تأويل قوله تعالى: (نَشْهَدُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: (نَشْهَدُ) بمعنى: نقسم ونحلف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (نَشْهَدُ) على ابتداء الشهادة. فمن حمله على القسم قرأه (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) يعني: حلفهم، ومن حمله على الشهادة ابتداء قرأ: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ) يعني: تصديقهم، ليس أنها قراءة واحدة فقرئت بلفظين، ولكنهما كانا جميعا فقرئت بالمعنيين جميعًا، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ). والإشكال أن كيف قال اللَّه تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، وهم إنما قالوا: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ)، ومعلوم أن هذا القول منهم صدق، ولكن المعنى من هذا - واللَّه أعلم - أنهم طعنوا فيما أظهروا من الخلاف والتكذيب عند غير رسول اللَّه، فحسبوا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اطلع على صنيعهم فأتوا رسول اللَّه يعتذرون إليه، ويقولون: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) وأن ما بلغك منا من القول كذب وما قلناه، فأخبر اللَّه تعالى أنهم لكاذبون فيما أخبروا أنهم ما قالوه، ألا ترى إلى قوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ). ويحتمل أن يكون معناه: إنا نشهد أن في قلوبنا إنك لرسول اللَّه كما نظهره بألسنتنا،

(2)

فأخبر تعالى أن المنافقين لكاذبون فيما يشهدون بالإيمان في قلوبهم، ويعلم أن يكون المعنى من قوله: (نَشْهَدُ) أي: نعلم برسالتك في قلوبنا، واللَّه يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما أخبروا أنهم يعلمون رسالته في قلوبهم، وقد كان ألزمهم برسالته من جهة الآيات والحجج، ولكن تعاموا عن ذلك العلم استخفافا منهم وتعنتا؛ فصار ذلك العلم كالجهل الحقيقي، ثم أخبروا هم عن أنفسهم وضمائرهم أنهم يعلمون، وأخبر اللَّه أنهم لكاذبون أنهم يعلمون برسالته، واللَّه أعلم. ثم الواجب أن يعلم ما الذي أحوجهم إلى أن قالوا: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ)، وقد كان كثير من المؤمنين يلقون رسول اللَّه ولا يقولون ذلك، فكيف قال المنافقون ذلك؟! فمعناه عندنا - واللَّه أعلم -: أنهم حيث اعتادوا مخادعة اللَّه ورسوله امتحنهم اللَّه تعالى بهذه المقالة. ويحتمل أن يكونوا جروا على عادتهم أنهم إذا لقوا المسلمين قالوا: بمثل ما آمنتم، وإذا لقوا المشركين قالوا: (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)، فإذا لقوا رسول اللَّه قالوا: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) على عادتهم في كل جنس بما يليق به وبمذهبه، واللَّه أعلم. ويجوز أن يكونوا يخافون أن قد بلغ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خلافهم وتكذيبهم؛ فكانوا إذا لقوه قالوا: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ)، اعتذارا عن ذلك الخلاف لو بلغه؛ ألا ترى إلى قوله: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) وكانوا يحسبون من سوء ما يضمرون في قلوبهم من النفاق أن كل من كلم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإنما كلمه بسببهم، فكذلك الأول، واللَّه أعلم. ثم قال هاهنا: (نَشْهَدُ) ولم يقل (نشهد بالله)؛ لأن المعنى من هذا الحلفُ، والحلف من المؤمنين في المتعارف إنما يكون باللَّه تعالى؛ فلذلك أجزئ بقوله: (نَشْهَدُ) وعن قوله: (بالله) فيكون هذا دليلا لقول أصحابنا: إن قوله: (نَشْهَدُ) يكون يمينا حيث ذكر هاهنا بطريق القسم، والمعنى ما أشير إليه، واللَّه أعلم. وقوله: (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... (2) له تأويلان: أحدهما: (فَصَدُّوا) أي: أعرضوا بأنفسهم عن طاعة اللَّه والإيمان برسوله. والثاني: أن صدوا الضعفة عن اتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعن الإيمان. وقوله: (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). أي: بئس ما كانوا يعملون من الإعراض عن الآيات والحجج، وحيث آثروا الكفر على الإيمان. ويحتمل: بئس ما كانوا يصنعون من صد الضعفة والأتباع عن الإيمان برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

(3)

وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) له تأويلان: أحدهما: ذلك بأنهم آمنوا بلسانهم ثم كفروا بقلوبهم. والثاني: على حقيقة الإيمان والكفر، وذلك أنهم لما رأوا قلة المسلمين وضعفهم في أنفسهم يوم بدر، ثم رأوهم مع هذه القلة والضعف غلبوا على الكفار مع كثرتهم - آمنوا برسول اللَّه ورأوا أنهم لا يغلبون أبدًا، ثم إن المسلمين لما غلبوا يوم أحد وأصابهم الكفار، اضطربوا في إيمانهم وشكوا وكفروا؛ وذلك بمعنى قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ)، فكذلك تأويل قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا). وقوله: (ذَلِكَ) إشارة إلى أن السبب الذي تولد منه نفاقهم وحلفهم. وقولهم: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) هو أنهم آمنوا ثم كفروا. وجائز أنه لم يكن منهم حقيقة إيمان ولا كفر، ولكنهم كانوا أقواما همتهم الدنيا وسعتها، وكانوا يكونون مع من يكون معه الدنيا إن رأوها مع المؤمنين أظهروا من أنفسهم أنهم مؤمنون، وإن رأوها مع الكفار أظهروا أنهم كفار دون أن يكون منهم حقيقة إيمان أو كفر، واللَّه المستعان. وقوله: (فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ). الطبع يجوز أن يكون كناية عن ستر وظلمة في قلوبهم؛ فلا يرون بها الحق وحججه. قال: ويجوز أن يجعل اللَّه تعالى الكفر ظلمة في القلب لا يبصرون به الحجج والآيات. أو يجوز أن يجعل الكفر كنًّا في قلبه؛ ليضيق؛ فلا يرى من بعد ذلك منافعه ومضاره إلا من ذلك الوجه فيكفر، وأيهما كان فذلك معنى الآية، يعني: أن اشتغالهم بالكفر وكسبهم إياه غطى قلوبهم وسترها عن أن يبصروا الحق وحججه، واللَّه أعلم. قال الفقيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) أن المنافقين لم يجيئوا بأجمعهم رسول اللَّه، وإنما جاءه بعضهم، وكذلك في قوله: (نَشْهَدُ) أن المعنى من قوله: (نَشْهَدُ) في بعض التأويلات: نقسم، والقسم ليس من فعل الأتباع والسفلة، وإنما ذلك من فعل الأجلة والرؤساء؛ فدل أنه إنما تعاطى هذا الفعل بعض المنافقين، ثم ذكر اللَّه تعالى ذلك البعض بصيغة الكل؛ فعلم أنه ليس كل ما خرج في الظاهر مخرج العموم يتناول كل من دخل تحت ذلك الاسم، ولكنه ينظر في معنى اللفظ وحقيقته، فإن كان الدليل يوجب تعميمه أجري على عمومه، وإن كان يوجب

(4)

تخصيصه أجري على خصوصه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ). يحتمل أن يكون معناه، أي: لا يفقهون؛ لأنه طبع على قلوبهم، وإلا لم يعرضوا عن الحق والآيات، وذلك بأنهم كانوا يظنون أنهم كانوا على الحق، فأخبر أنهم لا يفقهون أنه طبع على قلوبهم حتى ظنوا أنهم على الحق، وجعلوا جميع همتهم في المنافع والمضار الدنيوية، وإلا لو فقهوا أن لله دارا أخرى يجازون فيه بأعمالهم، لعلموا أنه لا بد من دين يدينون به، ولم ينظروا إلى منافعهم ومضارهم، واللَّه المستعان. ويحتمل: أي: لا يفقهون عن اللَّه تعالى، وأن تعبدهم وأمرهم بطاعة رسوله واتباعه ويحتمل أي: لا يفقهون أنهم يتعبدون، وأن لله دارا أخرى يسألهم عما فعلوا، ويجازيهم على جميع ذلك. ثم قال هاهنا: (لَا يَفْقَهُونَ)، ولم يقل: (لا يعلمون)؛ لأن الفقه إنما هو الذي يعرف به الشيء بالشيء، فأخبر أنهم لا يعرفون الآخرة بالدنيا. وقال ابن الراوندي: الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره. وعندنا أن الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على غيره كان ذلك نظيرا له أو لم يكن؛ لأن من عرف الخلق بمعناهم دله ذلك على معرفة الصانع، ومن عرف الدنيا دله ذلك على معرفة الآخرة، وليسا بنظيرين. ثم بين الفقه والعلم فصل من وجه وإن كانا جميعا في الحقيقة يرجعان إلى معنى واحد؛ لأن العلم إنما يجلي الشيء له، وظهوره بنفسه، والفقه يعرف بغيره استدلالا؛ ولذلك جاز أن يقال: اللَّه تعالى عالم؛ لتجلي الأشياء له، ولم يجز أن يقال: إن الله فقيه؛ لأنه لا يعرف الأشياء بالاستدلال، واللَّه الموفق. والحكمة: وضع الأشياء موضعها، والإيقان: إنما هو يتولد عن ظهور الأسباب؛ ولذلك جاز أن يقال: إن اللَّه تعالى حكيم، ولم يجز أن يقال: إنه موقن، واللَّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4). في هذا بيان أن اللَّه تعالى قد كان آتاهم حسن الصورة وحسن البيان، وأنه قد آتاهم العلم؛ لأن حسن البيان لا يكاد يكون إلا عن علم؛ فكأن اللَّه تعالى ذكر نعمه التي آتاهم؛ فإنهم لم يشكروا نعمه وأساءوا صحبتها، فكأنه يقول: كيف ترجو منهم حسن الصحبة لك، وإنهم لم يحسنوا صحبة نعمة رب العالمين؟! فيكون له بعض التسلي؛ لما اهتم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من سوء صنيعهم به، وإعراضهم عن اتباعه وطاعته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ). يعني: وإن يقولوا تحسب قولهم حقًّا؛ فتسمع لقولهم لتقبله. ويحتمل: تسمع لقولهم لما يعجبك قولهم، أو تسمع لقولهم على ما كانت عادته - عليه السلام - في كل من كلمه أنه لا يغير عليه ولا يقطع عليه كلامه حتى يفرغ منه، ثم قبله إن كان مما يجب قبوله، وغيره على صاحبه ورده إن كان مستحقًّا للتغيير عليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ). يقول: إنهم فيما يكون من جانبهم وناحيتهم من حسن الصورة والبيان بحيث يعجبك، وفيما يلقى إليهم من الحق والدِّين والحكمة كأنهم خشب مسندة لا ينجع فيهم الحق ولا يقبلونه كالخشب المسندة. ويحتمل هذا تمثيلا بالخشب؛ من حيث إن الخشب المسندة في الظاهر هي الخشب اليابسة التي لا أجواف لها فيوضع فيها شيء، فكذلك المنافقون كأنهم لا أجواف لهم يوضع فيها الحكمة والدِّين والحق، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون معناه: كأنهم خشب مسندة؛ من حيث إن الخشب المسندة، ليس لها أسماع ولا أبصار ولا قلوب، فكذلك المنافقون كأنهم بكم عمي في ناحية الحق وقبوله، واللَّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ)، يحتمل وجهين: أحدهما: يحسبون كل صيحة سمعوها كلمة تهتك عليهم سرهم وتفضحهم؛ ألا ترى إلى قوله: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ)، فأخبر أنهم كانوا يحسبون فضيحتهم وهتك أستارهم والاطلاع على ما في قلوبهم، فكذلك يحسبون أن من كلم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإنما تكلم بما يهتك عليهم أستارهم ويفضحهم، واللَّه المستعان. والثاني: يحتمل أن يكون ذلك في الحرب: أنهم كلما سمعوا صيحة في الحرب خافوا أن يكون فيه هلاكهم، وذلك أنهم كانوا يظهرون الموافقة لكل فريق على حدة، وإذا وافقوا هذا الفريق صاروا حربًا للفريق الآخر، وإذا وافقوا الآخر صاروا حربًا لهَؤُلَاءِ، فأخبر الله تعالى أنهم يحسبون من كل صيحة سمعوها أن يكون ذلك سببًا لهلاكهم. ويحتمل أن يكون اللَّه تعالى عاقبهم بالخوف الدائم؛ لتأميلهم الأمن من وجه لم يؤذنوا فيه؛ وذلك لما وصفنا أنهم كانوا يظهرون الموافقة لكلٍّ؛ رجاء أمنهم، وكان جميع مقاصد في ذلك تحصيل منافع الدنيا دون الديانة بدين من الأديان، وذلك غير مأذون

(5)

فيه، فلما آثروا ذلك واختاروه من غير أن يؤذن لهم، عاقبهم بالخوف الدائم إما من الافتضاح والاطلاع على ما في قلوبهم أو من الهلاك، واللَّه أعلم. وقوله: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)، له أوجه من التأويل: أحدها: أن يقول: هم العدو، يعني: أنهم أدنى عدوكم؛ فاحذرهم في جميع أحوالهم في المطعم والمشرب وغيره؛ لأن الحذر عمن قرب من الأعداء ودنا أوجب ممن بعد ونأى. أو احذرهم أن تطلعهم على سر فيما تراه وتضمره من الجهاد والحرب؛ فيحتالون به على هلاكك، أو يطلعون الكفرة على سرك. أو احذرهم أن تقبل منهم قولا يقولونه عن أصحابك؛ لأنهم يغرون أصحابك عليك، فاحذرهم أن تقبل قولهم على أصحابك. وقوله: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ) يعني: لعنهم. وقوله: (أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، له تأويلان: أحدهما: أن يقول: أي سبب يمنعهم عن الإيمان بك وطاعتك، وقد أتيتهم بالآيات والحجج في اطلاعك على سرائرهم، وذلك لا يكون إلا عن الوحي. أو يقول: (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) يعني: أنى يكذبون؛ تقليدا لأُولَئِكَ الكفرة من غير أن يظهر لهم في ذلك آية وحجة، ولا يقلدون البرهان والحجة فيتبعونك، واللَّه أعلم. وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5). ظاهر هذه الآية أن هذا القول منه إنما كان لجملة المنافقين، وكذلك قوله تعالى: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ). وروى في الخبر أن هذه الآية نزلت في عبد اللَّه بن أبي ابن سلول المنافق؛ لأنه روي أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان كلما قام يوم الجمعة قام عبد اللَّه بن أُبي ابن سلول في ناحية المسجد، وقال: هذا رسول اللَّه، فوقروه، وعظموه، حتى نزلت هذه السورة، فقال بمثل مقالته، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " اجلس يا كافر؛ فإن اللَّه تعالى قد فضحك "، قال: فخرج من المسجد قبل أن يصلي الجمعة، فاستقبله بعض القوم فسألوه عن خروجه من المسجد قبل أداء الجمعة، فأخبرهم عن القصة، فقالوا: ارجع إلى رسول اللَّه وسله أن يستغفر لك، فلوى رأسه وقال: ما لي إلى استغفاره حاجة. وروي أنه لما قال: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)، ثم أراد دخول المدينة من بعد هذه المقالة، فحبسه ابنه وقال: لا أدعك تدخلها ما لم تقر أنك الأذل وأن

رسول اللَّه هو الأعز، فبلغ ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأمره أن يخلي عن أبيه، ثم قال له: " إنك أولى أن تسمى: عبد اللَّه بن أبيك "، فسمى من بعد ذلك: عبد اللَّه، وكان يسمى حبابًا. فهذان الخبران يدلان على أن هذه الآية إنما نزلت في واحد منهم، وظاهرها يدل على أن ذلك كان في جملة المنافقين. ولكن الوجه في ذلك عندنا - واللَّه أعلم - أنه يجوز أن يكون اعتقاد جملتهم على ذلك، فذكرهم اللَّه تعالى؛ لاعتقادهم عليه، وذلك أنهم كانوا أقوامًا لا يؤمنون بالآخرة. والاستغفار إنما هو طلب المغفرة، وذلك إنما يتحقق في الآخرة، فإذا كان على هذا أصل اعتقادهم جملة ذكرهم اللَّه تعالى على ذلك؛ وكذلك قوله: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) كان عندهم أن اللَّه تعالى إنما آتاهم العز والغناء والشرف؛ لفضيلة لهم على مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فكانوا ينكرون عليه من ذلك الوجه، ثم إن اللَّه قد ذكر في هذه الآية أنباء أنه قد كان آتاهم جميع ما به العز والشرف في الدنيا؛ ليمتحنهم بحقوق هذه النعم وتعظيمها وشكرها، وأنهم بلغوا في كل ذلك غاية ما عليه عمل الكفرة في سوء الصحبة بالنعم، وذلك أنه لما قال: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)، دل أنه كان آتاهم حسن الصورة وحسن البيان، ولما قال: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا)؛ دل أنه قد كان آتاهم الغناء، ولما قال: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) دل أنه قد كان آتاهم العز والشرف، ومعلوم أن هذه الأسباب التي وصفنا هي أسباب العز والشرف في الظاهر، ثم أخبر أنهم تركوا شكر ما أنعم عليهم في تعظيم الحق ولم يؤدوا شكره، وأنهم بلغوا في الباطن في كل شيء من ذلك غايته في سوء الصنع؛ لأنه دل بقوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا) على غاية البخل؛ حيث امتنع عن الإنفاق بنفسه، وأمر غيره ألا ينفق أيضًا وذلك في غاية البخل، ولما قال: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ)، فكأنهم كانوا في الغفلة عن ذكر اللَّه وقبول الموعظة غايته، ولما قال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) دل أنهم كانوا في الاستخفاف به -حيث تركوا الإنصاف، وأخذوا سبيل الاعتساف والاستكبار عليه- غايته، ولما قال: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) دل أنهم كانوا في سوء السريرة غايته. قال: ويجوز أن يقع ذلك منهم لوجهين:

(6)

أحدهما: أنهم رأوا ذلك حقًّا لهم على اللَّه تعالى. أو يروا أن اللَّه تعالى آتاهم ذلك؛ تفضيلا لهم على غيرهم، فكانوا يتكبرون ويستعظمون على غيرهم، ويستخفون برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لذلك الوجه، ولم يتأملوا ولم يتفكروا فيتبين لهم أن اللَّه تعالى آتاهم جميع تلك النعم محنة عليهم، تعبدهم بأداء شكرها وتعظيم حقها، وذلك معنى (لَا يَفْقَهُونَ) أي: لا يستعملون النظر في هذه النعم، وذلك أنه لو لم يكن رسول اللَّه، كان يلزمهم أن يتأملوا فيما أوتوا من النعم وينظروا، فإذا تفكروا في ذلك، ولم يجدوا لهم عند اللَّه صنعا استوجبوا به عنده مكافأة لذلك، ولا لهم فضل يفضلهم اللَّه به على غيرهم؛ فكان يتبين لهم أن اللَّه تعالى إنما أعطاهم هذه النعم محنة؛ ليتعبدهم بأداء شكرها؛ ولذلك وقع الفصل فيما بين العلم والفقه: أن ما كان حقه التأمل والنظر، فحق اللفظ فيه أن يقال: يفقهون، ولا يفقهون، وما كان حق العلم به السماع والخبر، أطلق فيه لفظ (العلم)؛ ولذلك قال عند العزة والغلبة والنصر: (لَا يَعْلَمُونَ)؛ لأنهم لم يكونوا يعلمون النصر والغلبة لو لم يكن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)، له وجهان: أحدهما: رأيتهم يصدون عن طاعتك واتباعك. والثاني: يصدون ضعفتهم عن اتباعك. وقوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) لأنهم لم يعدوا ذلك زلة وذنبا؛ لأنه كان عندهم أنهم على الحق. والثاني: ما قلنا: إنهم كانوا لا يؤمنون بالآخرة، والمغفرة إنما تطلب من اللَّه، ويتحقق ذلك في الآخرة. وقوله: (لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم). على ذلك أيضًا أنه لا يغفر أَستغفرت أم لم تستغفر. قال - رحمه اللَّه -: ورسول اللَّه - عليه السلام - كان لا يستغفر للمنافقين بعدما ظهر عنده نفاقهم، ولكنه يجوز أن يكون هذا قبل ظهور نفاقهم، واللَّه أعلم. ثم قوله: (لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم) يحتمل وجهين: أحدهما: يقول: لن يغفر اللَّه لهم ما داموا على النفاق، ولم يتوبوا عنه. والثاني: أن يقول: لن يغفر لهم في قوم علم اللَّه منهم: أنهم لا يؤمنون أبدًا، فقال في أُولَئِكَ: لن يغفر اللَّه لهم؛ وكذلك هذا في قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).

(7)

وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ). فيه أن اللَّه تعالى يملك هداية وراء هداية البيان؛ لأن من لم يملك شيئًا لم يستقم أن يوصف بالتعظيم أنه لا يفعل؛ لأنه يعلم إذا لم يقدر ولم يملك لا يفعل، وإنَّمَا يوصف بهذا من يملك ذلك، ولكن لا يفعل، فلو لم يملك ولم يقدر خلق فعل الاهتداء فيمن أراد، لم يوصف بأنه لا يهدي الفاسقين؛ فدل أنه يملك هداية وراء هداية البيان، وهو خلق الاهتداء فيمن علم منه ذلك، واللَّه الموفق. وقال أبو بكر: معنى قوله: (لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي: لا يهديهم لفسقهم. وقالت المعتزلة: أي: لا يسميهم مهتدين إذا فسقوا وضلوا. وأيهما كان فهو محال؛ لأن من هدى ضالا لضلالته فهو سفيه، فكأنه يقول: لا يسفه: ومن سمى الضال: مهتديا فهو كاذب، فكأنه قال: لا يكذب، وهما جميعا غير مستقيم؛ لأنا نعلم أنه لا يسفه ولا يكذب، فثبت أن في ملكه هداية يهدي من يشاء من عباده سوى هداية البيان، وإذا ثبت ما وصفنا أن في ملكه هداية سوى هداية البيان، ثبت أن له فيها مشيئة؛ لأن من ملك سببًا لم يجز أن يقطع عنه سببه؛ فلذلك قلنا: إن اللَّه تعالى يضل من يشاء من عباده لمن علم أنه يؤثر الضلال ويختاره على الهدى، ويهدي من يشاء لمن علم أنه يؤثر الهدى على الضلالة؛ فيهديه لذلك ويوفقه ويسدده، واللَّه المستعان. وقوله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7). قد وصفنا أن هذا من غاية بخلهم. وقوله: (حَتَّى يَنْفَضُّوا) دلالة أنهم أرادوا إطفاء هذا النور وإخفاءه، فأبى اللَّه تعالى إلا إظهاره. وقوله: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). يبسطها على المنافقين؛ ليمتحنهم بالإنفاق على المؤمنين. أو لله خزائن السماوات والأرض يضيقها على المؤمنين؛ ليمتحنهم بالصبر في حال الضيق. أو يجوز أن يكون هذا بشارة للمؤمنين بأن اللَّه تعالى يوسع عليهم الدنيا بعدما ضاقت، وقد جعل حيث فتح لهم الفتوح وآتاهم النصر والغلبة على أعدائهم، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8).

(9)

الأعز قد يحتمل معاني: أحدها: الأغلب، وإلا فهو على مثال قوله: (فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)، أي: غلبنى في الخصومة. والثاني: الأقوى والأشد، على مثال قوله - تعالى -: (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، يعني: أقوياء وأشداء. والثالث: الأعلى الأجل، وكذلك قوله: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، فإن كان الأعلى والأجل فذلك أن المؤمنين أعلى وأجل؛ لأنهم اتبعوا الحجة بالحجج، والكفار اتبعوا أهواءهم. وإن كان على الأغلب والأقهر فذلك للمؤمنين بالغلبة والنصرة على أعدائهم. وإن كان على القوة والشدة، فقد كان ذلك للمؤمنين؛ لأنه لو لم يوجد ذلك للمؤمنين لم يكن أهل النفاق يظهرون الوفاق للمؤمنين، ولكنهم لما رأوا القوة والشدة للمؤمنين مرة، وللكفار أخرى - أظهروا الموافقة للفريقين جميعًا؛ ولذلك قال ذلك المنافق: قوله تعالى: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)؛ لأنه لما رأى العزة والشدة للكافرين يوم أحد، توهم أنهم يغلبونهم أبدًا؛ فأظهر النفاق، وقال عند ذلك: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)، واختلف فيه: فمنهم من قال: هذه الآية في المنافقين. ومنهم من قال: في المؤمنين. فإن كانت في المنافقين، فكأنه يقول؛ يا أيها الذين أظهرتم بلسانكم الإيمان، لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر اللَّه. وإن كان في المؤمنين، فكأنه قال: يا أيها الذين حققوا الإيمان، لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر اللَّه.

(10)

ثم اختلفوا في معنى ذكر اللَّه: فمنهم من قال: معناه القرآن على مثال قوله: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا. رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ. . .)، يعني: قرآنا ورسولا. ومنهم من قال: معنى الذكر التوحيد. فإن كان تأويله القرآن، فهو يتوجه إلى المنافقين والمؤمنين جميعًا، فإن كان في المنافقين فكأنه قال: لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن النظر والتأمل في القرآن؛ لأن الله تعالى بين في القرآن أمورًا تطهر سرائرهم وما يظهر عندهم أن الرسول لا يختلقه من تلقاء نفسه، وأنه إنما يقوله بالوحي، فكأنه يقول: إذا تأملتم النظر في القرآن، حملكم ذلك على التحقيق في الإيمان، فلا يحملكم حب المال والولد على ترك التأمل في القرآن؛ لأنكم إذا نظرتم فيه، وتأملتم، حصلتم منه على تحقيق الإيمان، واللَّه أعلم. وإن كان في المؤمنين، فمعناه: ألا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن النظر في القرآن؛ فإنكم إذا نظرتم فيه، صرتم من أهله، وجل قدركم. وإن كان المراد من الذكر التوحيد، فهو راجع إلى الناس كافة: فأما المؤمنون، فكأنه حذرهم عن حب المال والولد أن يحملهم غاية حبهما على أن ينسوا وحدانية اللَّه تعالى والإيمان بالرسل والبعث، فكأنه يقول: لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم كما ألهى الكفرة، فيحذرهم عن أن يقعوا في الهلاك من حبه كما قال: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، يعني: اتقوا السبب الذي يفضي بكم إلى النار المعدة للكافرين، فكذلك الأول. وإن كان في المنافقين فكأنه قال: لا يحملكم حب المال والولد أن تتركوا حقيقة الإيمان به والتوحيد له والطاعة لرسوله، عليه السلام. وقوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). فعلى ما ذكرنا من التأويلين في إنكار البعث والتوحيد ظاهر، وإن كان في المؤمنين فمعنى الخسار: هو الخوف من أن يقع به الوعيد. وقوله - تعالى -: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10). يجوز أن يكون صلة قوله: (لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) فيمنعكم ذلك عن الإنفاق؛ فإنكم إذا امتنعتم عن الإنفاق ازداد حبكم، فتنسون وحدانية اللَّه تعالى وطاعة رسوله، عليه السلام.

(11)

وقوله - تعالى -: (لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: تمنى الرجعة؛ لما رأى من الهلاك والعذاب حيث ترك الحقوق. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " لو كان ثمة خير لما تمنى الكرَّة ". ولكن المعنى في ذلك عندنا - واللَّه أعلم - أنه يتمنى الرجوع؛ ليتصدق ليس الإنفاق خاصة، ولكن ليتصدق، وليكون من الصالحين، أي: من الموحدين، وذلك مستقيم أن يقال إذا ترك التوحيد فنزل به الموت: إنه يتمنى الرجوع؛ لما يرى من الهلاك والعقوبة. ويجوز أن يكون المعنى في هذا إن كانت الآية في المؤمنين الموحدين: أنهم يتمنون الرجوع؛ حياء من ربهم؛ لما ارتكبوا من الزلات وتركوا ما يستوجبون به الحسنات، وقصروا فيما فرض اللَّه عليهم من العبادات، وحق على كل مؤمن أن يستحي من ربه إذا لقيه بما ترك من حقوقه التي ألزمها عليه والأسباب الواجبة. وقوله: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11). ليس يحتمل تأخير اللَّه تعالى أجله إذا جاء؛ لأنه لو أخره، دل على أنه بدا له في أجله، ومن بدا له في أمر فذلك دليل الجهل بالعواقب، ولا يوصف رب العالمين بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). أي: لا يخفى عليه شيء من أعمالكم: سركم وعلانيتكم، واللَّه أعلم بحقيقة ما أراد، والحمد لله رب العالمين. * * *

سورة التغابن

سُورَةُ التَّغَابُنِ مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) الآية. والتسبيح يحتمل أوجهًا ثلاثة، وقد سبق ذكره. وقوله: (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) يحتمل وجهين: أحدهما: يحتمل الملك: الولاية والسلطان. والثاني: يقول: (لَهُ الْمُلْكُ) يعني: ملك كل الملوك، كما قال في آيات أخرى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ. . .) الآية، فأخبر أن ملك الملوك كلها له، وأن من استفاد الملك إنما يستفيده باللَّه تعالى، وبامتنانه عليه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ). يحتمل أوجها ثلاثة من التأويل: أحدها: أن يقول: (وَلَهُ الْحَمْدُ) يعني: له الثناء الحسن بصفاته العلا وأسمائه الحسنى. والوجه الثاني: أن يقول: (وَلَهُ الْحَمْدُ) يعني: حمد كل من يحمد، فحقيقة ذلك الحمد له بما أحسن إلى عباده وأنعم عليهم، وذلك معنى قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، أي: الحمد والثناء الحسن لله تعالى على إحسانه إلينا وإنعامه علينا. والثالث: أن يجعل معنى الحمد معنى الشكر؛ لأن الحمد قد يستعمل في موضع الشكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). يحتمل أن يكون معناه: وهو على كل شيء أراده قدير، وهو حجة على المعتزلة؛ لأن اللَّه - تعالى - لا يزال يمدح نفسه بأنه بصير عليم وأنه على كل شيء قدير، وأقرت المعتزلة بأنه بصير عليم، وأبت عن الإقرار بأنه قدير على أفعال العباد، أو على إصلاح

(2)

أحد من العباد، وهذا خلاف ما مدح اللَّه أتعالى نفسه به، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) يحتمل أن يكون تأويله: فمنكم من يدين بدين الكفر، ومنكم من يدين بدين الإسلام، ودل هذا على أن المعصية والطاعة يجتمعان في دين واحد، وأن المعصية لا تخرجه من دينه؛ لأن المعصية، لم يرتكبها تدينا بها، ولكن لغلبة شهوة أو غضب عليه، وأما الكفر والإيمان فإنه يأتي بهما المرء اختيارا ويتدين بالكفر والإيمان؛ لما عنده أنه حق، وفي هذه الآية دلالة أنه ليس بين الكفر والإيمان منزلة ثالثة، وليس كما قالت المعتزلة: إن صاحب الكبيرة بين منزلتين بين الكفر والإيمان، واللَّه تعالى قسم الناس صنفين: فمنهم من خلقه كافرا، ومنهم من خلقه مؤمنا، ولم يجعل فيما بينهما منزلة ثالثة، فلا يجب أن نجعل، واللَّه الموفق. وفيه أيضًا وجه لطيف سوى ما ذكرنا، وهو أن كل أحد في الدنيا مؤمن وكافر في الحقيقة؛ لأن من كان مؤمنا باللَّه فهو كافر بالطاغوت، ومن كان كافرا باللَّه فهو مؤمن بالطاغوت، وإذا كان كذلك، وجب أن يبحث عن معنى قوله: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ومعناه عندنا: أن الحقيقة وإن كانت كذلك فالإيمان إذا ذكر مطلقا لم يفهم منه إلا الإيمان باللَّه تعالى، والكفر إذا أطلق أيضًا لم يفهم منه إلا الكفر باللَّه تعالى، وإذا كان كذلك، جاز أن يكون لفظ الكتاب خارجا على ما عليه المعهود من المتعارف المعتاد، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) في الأزل بما يعمله العباد، وأنه ليس كما قال بعض الناس: ألا يعلم فعل العبد إلا وقت فعله، واحتجوا في ذلك أنا لو قلنا إن اللَّه تعالى بصير في الأزل بما نفعله، لكان قولا بما لا يستقيم في المعقول؛ ألا ترى أنا لا نرى في الشاهد من يبني بناء يعلم أنه يضره أو يشتري عبدا يعلم أنه يعاديه، فكذا لا يستقيم أن يقال إن اللَّه تعالى خلق عبدًا قد كان يعلم من قبل أنه إذا خلقه عاداه.

(3)

والجواب عن هذا: أن هذا الذي وصفه غير مستقيم في الشاهد؛ لأن منافع ما يفعله العباد ومضاره ترجع إلى أنفسهم، وليس من العقل أن يفعل المرء فعلا يعلم أنه يضره، وأما رب العالمين فإنه لا يرجع شيء من المنافع والمضار إليه؛ فجاز أن يخلق خلقا يعلم أنه يختار عداوته؛ ليظهر عند الخلق أنه لا يرجع شيء من المنافع والمضار إليه بعد أن يكون في الحكمة ذلك، واللَّه أعلم. ثم في قوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) و (عَلِيم)، و (وَكِيل)، و (حَفِيظ)، إلزام المراقبة والتحفظ والتيقظ وبيان الترغيب والترهيب؛ لأنه إذا علم المرء أن عليه في كل ما يفعله رقيبًا يتيقظ، ولم يفعل إلا ما يُرضي به ربه، واللَّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3). قد وصفنا أن الحق إذا جرى ذكره يصرف في كل شيء إلى ما هو أليق به؛ فإذا ذكر في الأخبار أريد به: الصدق، وإذا ذكر في الأحكام أريد به: العدل، وإذا ذكر في الأقوال أريد به: الإصابة، فلما قال: (بِالْحَقِّ) هاهنا أفكأنه، أراد به: الحكمة، كأنه يقول: خلق السماوات والأرض بالحكمة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِالْحَقِّ) يعني: للحق، وهو البعث، فكأنهم عنوا به: أن اللَّه تعالى لم يخلقهما عبثًا بل خلقهما للعبادة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: (فَأَحْسَنَ)، أي: أتقن، وأحكم، ومعنى ذلك: أن اللَّه تعالى خص صور بني آدم في الاستدلال بوحدانيته وربوبيته في أن جعل في أنفسهم حقيقة المعرفة والاستدلال بأنفسهم على وحدانية اللَّه تعالى، وأما غيرهم من الصور فإنما يقع الاستدلال لغيرها بما ليس لنفس تلك الصور حقيقة المعرفة والاستدلال بوحدانية الله تعالى؛ ولذلك كان خلق صور بني آدم أتقن وأحكم، واللَّه أعلم. والثاني: أن يصرف الحسن إلى حسن المنظر، ومعنى ذلك: أن اللَّه تعالى خلق بني آدم على صورة لا يودون أن يكون صورتهم مثل صورة غيرهم من الخلائق، فثبت أن صورتهم في المنظر أحسن صورة، فذلك معنى قوله تعالى: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، واللَّه أعلم.

(4)

وقوله: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يعني: البعث، وأضاف ذلك إلى نفسه؛ لأنه هو النهاية والمقصود في خلقهم، ولما لم يفهم أحد من قوله: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) معنى الانتقال والتحول من مكان إلى مكان من حيث إنه يضاف إلى اللَّه تعالى؛ لأن هذا فعل يكون باثنين، فإن من صار إلى شيء صار ذلك إليه، مثل الملاقاة والإتيان ونحو ذلك، فلما لم يفهم منه الانتقال لم ينبغ أن يفهم من قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)، معنى الانتقال، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4). في إخباره عن علمه بذلك كله إيجاب المراقبة والتيقظ والتبصر، والمحافظة على ما أمره اللَّه تعالى ونهاه، وفي هذا إخبار أن اللَّه تعالى مطلع على ما يضمرون، محصٍ عليكم جميع ما تظهرون، فاحذروا أن ترتكبوا ما فيه سخطه في الحالين جميعًا، واللَّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِذَاتِ الصُّدُورِ) قال أهل التفسير: أي: بما في الصدور. ويحتمل أن يكون المراد منه بالأنفس التي لها أن صدور، وكل من كان ذا فكرة وتدبير فإنه يسمى: ذات الصدور، ومعناه: أن التدبير إنما يصدر عن ذلك الموضع، ويرجع إليه، وكل بنو آدم خصوا بهذا المعنى؛ فلذلك ذكر هذا فيهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5). فتأويله عندنا - واللَّه أعلم - أي: قد أتاكم نبأ الذين كفروا من قبل، وماذا نزل بهم حين كفروا وعاندوا، ومعنى ذلك أن اللَّه تعالى قد حذرهم بما يكون في الآخرة من ألوان العذاب، فلم يتعظوا، لما لم يكونوا يؤمنون بالبعث، فلما لم ينجع فيهم

(6)

ذلك، حذرهم بعقوبات تنزل بهم لو لم ينتهوا عما هم فيه من الطغيان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ)، أي: شدة أمرهم، ويحتمل أن يكون عاقبة أمرهم. وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فيه إخبار أن ما نزل بهم من العذاب في الدنيا، لم يكفر عنهم الذنب، أعني: ذنب الكفر، وأن عذاب الدنيا إنما كان جزاء شرهم في الكفر، وأنه يعذبهم في الآخرة عذاب الكفر والشرك، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6). فكأنه يريد بقوله: (ذَلِكَ) أي: تلك العقوبات التي نزلت بالأمم الماضية، إنما كان سببها: أن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات، (فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)، وكان قولهم: (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا) تلقين إبليس؛ حيث لقنهم مخالفة الرسول وتكذيبه، وأنكم لو احتجتم إلى طاعته ففيكم من هو أعظم منه درجة وأكثر منزلة، فإذا لم تطيعوه فكيف تطيعون بشرًا مثلكم؟! وهذا كله عناد وخطأ، وذلك أنهم قد كانوا يعبدون الأصنام؛ تقليدا منهم لبشر؛ ألا ترى إلى قوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، ومعلوم أن جعل الأصنام معبودا يعبدونه بقول البشر؛ تقليدا له - أكثر وأعظم من تصديق البشر: أنه رسول من عند اللَّه - تعالى - عند قيام الدليل المعجز، فإذا استجازوا تقليد البشر في ذلك، فكيف لا استجازوا تصديق الرسول فيما يدعوهم إلى توحيد اللَّه وطاعته فيما يرجع إليهم من المنافع والمضار، ولكنهم كانوا قوما سفهاء، فاتبعوا سفههم وعنادهم، واللَّه أعلم. وكذلك قولهم: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، وكيف يكون سحرًا، وقد أتاهم بآيات أعجزتهم وأعجزت السحرة أن يأتوا بمثلها؟! ولكنهم عاندوا، ولم يجدوا حيلة سوى أن قالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). وقوله: (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ). أي: كفروا بالرسل (وَتَوَلَّوْا): أعرضوا عن طاعته، وطاعة رسوله. وقوله: (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) لم يسمع من أحد من المتكلمين يقول: (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) على الابتداء إلا ما ذكر في ظاهر هذه الآية، والقول في الاستغناء فيما يريد به الإخبار جائز؛ نحو قولك: اللَّه مستغن، فأما أن تبتدئ، فتقول: اللَّه مستغن، فيما فيه شك وريب، فإنه لا يجوز البداية به.

(7)

وقد غلط بعض المفسرين حيث قالوا: استغنى اللَّه: بطاعة من أطاعه عن معصية من عصاه؛ لأن اللَّه تعالى لم يمتحن عباده بالطاعة والمعصية لمنافع يأملها أو مضرة يخشاها ويخافها، بل هو مستغنٍ بذاته عن ذلك في الأزل، واللَّه أعلم. ويجوز أن يكون في هذا إضمار، يعني: واستغنى الرسول عن طاعتهم باللَّه تعالى، أو يصرف الاستغناء إلى الإخبار عن ذاته: أنه مستغنٍ بذاته في الأزل، لا تمسه حاجة، وأنه لا يضره كفر من كفر، ولا ينفعه إيمان من آمن، بل إنما يحصل ذلك كله للممتحن بهما، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ). قد وصفنا معنى الغني، وأما الحميد يحتمل وجهين: أحدهما: يعني: المحمود، أي: المستحق للحمد بذاته؛ إذ يستحق من كل أحد الحمد على ما يحسن إليه، أو يحمل معنى الحميد على معنى الحامد، ووجه ذلك أن الله تعالى يحمد محاسن الخلق وآثار أفعالهم، وأن حقيقة تلك الأفعال من جهة التوفيق والتسديد إنما كانت به، وذلك غاية الكرم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7). قوله: (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يجوز أن يكون هذا تعليما لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يعلمه القسم تأكيدا؛ لما كان يخبر عن البعث، وكذلك جميع ما ذكر من القسم في القرآن يجوز أن يكون على هذا المعنى؛ لأن القسم إنما هو لنفي تهمة تمكنت، واللَّه تعالى لا يتهم في خبره، والرسول هو الذي كانوا يتهمونه فيما يخبر؛ لما لم يثبت عندهم رسالته لعدم تأملهم في دلائله، فعلمه القسم؛ تأكيدا لما يخبر ونفيا للتهمة عما يقوله، واللَّه أعلم. ويجوز أن يكون هذا قسمًا مقابلا لما أقسم به الكفرة في أمر البعث؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) يحتمل وجهين: أحدهما: أن أمر البعث على اللَّه يسير هين لأنهم أنكروا البعث بعدما صاروا ترابا؛

(8)

فأخبر أن بعثهم وإعادتهم أهون في عقولهم من إنشائهم، ولم يكونوا شيئًا؛ فكيف أنكروا قدرته على إعادتهم بعد أن صاروا ترابا، فأخبر - جل وعلا - أن ذلك على اللَّه يسير. والوجه الثاني من التأويل: أن يذكر ما عملوا من خير أو شر أحصاه عليهم كل سر وعلانية وكل صغير وكبير؛ ليعاينوا ذلك في كتبهم، ويعلموا تحقيقًا: أنها على اللَّه يسير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8). يجوز أن يكون هذا صلة ما تقدم، وذلك أن اللَّه تعالى ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية، وأن ذلك إنما نزل بهم؛ لكفرهم باللَّه تعالى، وتكذيبهم الرسل، فآمنوا أنتم باللَّه ورسوله لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من البأس والعقوبة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) النور: هو القرآن، ويجوز أن يكون سماه: نورًا؛ لأنه يبصر به حقيقة المذاهب في الطاعة والمعصية والإحسان والإساءة والإيمان والكفر كما يبصر بنور النهار حقيقة الأشياء من جيدها ورديئها، كذلك يبصر بهذا منافع الطاعة ومضار المعصية، فسمي: نورًا من هذا الوجه، واللَّه أعلم. وقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). أي: أن اللَّه خبير بما تسرون وما تعلنون، فراقبوه وحافظوه في الحالين جميعًا، وفي هذا بيان أن اللَّه تعالى عالم بما يعمله العباد في الأزل، وبما يكون منهم، وأنه ليس كما وصفه بعض الجهال، واللَّه المستعان. وقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9). ذلك اليوم في الحقيقة يوم جمع وتفريق، وهو أيضًا في الحقيقة يوم تغابن وترابح، وإن ذكر أحدهما؛ دليل ذلك ما ذكر في غيرها من الآيات؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، وإلى ما ذكر في عقيب قوله: (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) من قوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، وهذا هو معنى الترابح، ولكنه - جل ثناؤه - يجوز أن يكون اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر.

ثم الغبن يذكر في التجارات، والأصل في ذلك عندنا أن كل سليم طبعه لا يخلو من عمل، وعمله لا يخلو من إحدى ثلاثة أوجه: إما أن يكون في مباح أو أمر أو نهي، ومعلوم أن من استعمل المباح فهو يستعين به في إقامة الأمر، إذ لا بد من البقاء لإقامة الأمر؛ وذلك باستعمال المباح والاشتغال بأسبابه، فكأنه في إقامة ذلك الأمر؛ فحقيقته ترجع إلى أن الأعمال في الحقيقة تنصرف إلى نوعين: إلى أمر ونهي، ومعلوم أن من كان في أمر، فهو تارك لما نُهِي عنه، ومن كان في نهي فهو تارك لما أمر به، والتجارة في الحقيقة هو أن يأخذ شيئًا ويترك شيئًا آخر، وإذا تحقق معنى التجارة في أعمال بني آدم، أطلق لها لفظ: التجارة. قال: والدنيا لها ثلاثة أسماء: المتجر، والمزرع، والمسلك، وقد وصفنا معنى التجارة، وأما معنى المزرع؛ فلأجل أن كل من يعمل في الدنيا فإنما يعمل لعاقبة، ولا بد أن تكون عاقبته خيرا أو شرًّا، فكل من كانت عاقبته الخير فهو زارع للخير، ومن كانت عاقبته الشر، فهو زارع للشر، واللَّه أعلم. وأما معنى المسلك والطريق، فلأجل أن الخلق لم يخلقوا في هذه الدنيا ليقروا فيها، وإنما خلقوا لأحد أمرين: إما للثواب أو للعقاب، فكل من عمل عملا يفضي به إلى الثواب والجنة فكأنه يسلك طريق الجنة، وكل من عمل عملا يفضي به إلى النار؛ فكأنه يسلك طريق النار؛ فلذلك سمي: مسلكا وطريقا، واللَّه أعلم. ثم التغابن عندنا يجوز أن يكون معناه: أن أهل الكفر يغبنون في أهلهم وأموالهم في الدار الآخرة؛ لأنهم كانوا يتعاونون بهم في الدنيا، فحسبوا أنهم يكونون كذلك في الآخرة، فإذا لم يجدوا وصاروا يلعن بعضهم بعضا، غبنوا ما كانوا يأملونه منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن لكل كافر في الجنة قصرا وبيتا وأهلا، فإذا صاروا إلى النار، ورث المؤمن أهله وقصره الذي كان له في الجنة؛ فهذا هو التغابن، ولكن هذا غير صحيح عندنا؛ لأنه لا يحتمل أن يبني اللَّه تعالى للكافر في الجنة بيتا مع علمه أنه لا يأتيه؛ لأن

(10)

هذا فعل من لا يعلم العواقب ومن هو عابث في فعله، جل اللَّه تعالى عن مثل هذا الوصف، إلا أن يحمل على الوعد إن ثبت الخبر، أي: إن أسلم الكافر كان له ذلك المنزل في الجنة، وإن ارتد المسلم عن الإسلام، كان له ذلك المنزل في النار، وهو عالم أن عاقبة أمره ماذا: الكفر أو الإسلام؟ وأن مأواه النار أو الجنة وحكمه على ما علم وأراد، ولكن اللَّه تعالى عالم بما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون، فأخبر على ذلك، وإلا لم يصح، لما ذكرنا من المعنى، واللَّه الموفق. ويحتمل: أنه إنما سماه: يوم التغابن؛ لأن الدنيا جعلت أسواقا، والأحوال التي تكون لهم رءوس الأموال، والأعمال التي يعملون فيها ويكتسبون تجارة؛ قال اللَّه تعالى: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، ثم قال: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. . .) الآية، وقال في آية أخرى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ. . .) الآية، وقال (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى)، وقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ)، فإذا كانت الدنيا متجرًا فالآخرة هي التي يقسم فيها الأرباح، وفي ذلك يقع الربح والخسران، ويظهر الغبن والفضل أو النقصان والزيادة، واللَّه أعلم. أو سماه: يوم التغابن؛ لما يظهر لهم في ذلك أنهم خسروا أو ربحوا، ولا يظهر لهم ذلك في الدنيا، ثم بين العمل الذي يربح عليه، والعمل الذي يخسر به، والتجارة التي يوصل بها إلى الأرباح، والتي يلحق بها الخسران، وهو ما قال: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .) الآية (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا. . .) الآية. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا). يعني: ومن يؤمن باللَّه على ما جاءت به الرسل جملة، وأن له الخلق والأمر، ويؤمن بالرسل والبعث - فذلك هو الإيمان باللَّه تعالى. وقوله: (وَيَعْمَلْ صَالِحًا). يعني: ومن يؤمن باللَّه ويعمل، في إيمانه صالحا إلى أن يموت. وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10). يعني: كفروا بوحدانية اللَّه تعالى وبقدرته، وكذبوا بآياته، أي: بحججه، أو كذبوا بالبعث (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

(11)

قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ). قَالَ بَعْضُهُمْ: (بِإِذْنِ اللَّهِ) يعني: بأمر اللَّه، وهو قول الحسن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِإِذْنِ اللَّهِ) يعني: بعلم اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِإِذْنِ اللَّهِ) يعني: بمشيئة اللَّه. ولكل من ذلك وجه: فأما من قال: بأمر اللَّه، فمعناه وحجته: أن هذه المصائب كلها عقوبات؛ ألا ترى إلى قوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ). ومعلوم أن جزاء ما كسبت يده عقوبة له، والتعذيب والعقوبة إنما يكون بأمر اللَّه؛ فلذلك قال: معنى قوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بأمر اللَّه. لكن عندنا هذا يرجع إلى ما يصيبهم من أيدي الخلق، كقوله تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)، وقوله: (هَلْ تَرَبَّصُونَ. . .) إلى قوله: (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)، ونحو ذلك، وهذه المصائب لا تحتمل تأويلاً للأمر من اللَّه تعالى. ومن قال: بعلم اللَّه، فوجه ذلك: أن هذه المصائب فيها إهلاك العبيد، وفي الشاهد أنه لا يحب أحدًا أن يعلم بما فيه هلاك عبيده وخدمه، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن هذه المصائب وإن كان فيها هلاك عبيده فإنما يكون ذلك بعلمه، وأن هلاكهم لا يضره، ولا ينقص من ملكه؛ لأن اللَّه - سبحانه وتعالى - أنشأ ما أنشأ من الخلائق لحاجة لهم، ولمنفعة ترجع إليهم ومضرة تلحقهم؛ فحلول ما يحل بهم من المصائب لا يضره ولا ينفعه لذلك كان علمها ما ذكر. ومن قال: بمشيئة اللَّه وإرادته فوجه ذلك: أن اللَّه تعالى وعد وأوعد، ولا محالة يريد من عبيده ما يكون بوعيده عادلا وأن يضع وعده موضعه، وإذا كان كذلك ثبت أنه يريد من كل أحد ما يعلم أنه يكون منه؛ لأنه إذا خلق النار، وأوعد عليها، فلو أراد من كل منهم الطاعة، لكان إذا أحرق بالنار أحرق من أراد منه الطاعة فدخل في حد الجور، ولو كان

يريد من كل منهم المعصية، لكان إذا أنجز وعده، وأدخله الجنة كان يضع ثوابه غير موضعه ويخرج عن حد الحكمة، وإذا كان كذلك، ثبت أنه أراد من كل ما علم أنه يختاره، ويكون منه ليخرج فعله على الحكمة، واللَّه الموفق. ونحن نقول: قد ذكر اللَّه تعالى الإذن في مواضع مختلفة، ولكل من ذلك وجه غير وجه صاحبه، فالواجب أن يصرف معناه في كل موضع إلى ما يليق به، واللَّه أعلم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ). قال أبو بكر: أي: من آمن بما شاهد من التدبير، يهديه اللَّه تعالى؛ ليعلم أن من دبر هذا التدبير هو الذي ابتلاه بهذه المصيبة. ويجوز أن يكون تأويله على وجه آخر، وهو أن يقول: من يؤمن باللَّه أن له الخلق والأمر - يهدِ قلبه؛ ليسكن، ويعلم أن اللَّه أولى به؛ فيسترجع عند ذلك، وذلك تأويل من قرأ (يهدأ قلبُه) أي: يسكن؛ من الهدوء وهو السكون، واللَّه أعلم. والثاني: يحتمل أن تكون هذه الهداية وإن خرجت على لفظ الإحداث، فليس على الإحداث ولكن معناه: أن إيمانه باللَّه تعالى إنما كان بهدايته منه؛ لأنه لا يجوز أن يكون الإيمان متقدما والهداية متأخرة، ولكن حين هداه، آمن بما هداه؛ وهذا على ما قال اللَّه تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، فهذا خرج في الظاهر على لفظ الإحداث، ولكنه في الحقيقة ليس عليه ولكن على معنى أنهم لما آمنوا، أخرجهم بالإيمان من الظلمات إلى النور بعد الإيمان، فكذلك الأول، واللَّه أعلم. ويجوز أن يكون تأويله: أن اللَّه يهدي قلبه، أي: يتوب عليه من الزلات عند الموت؛ على ما قال اللَّه تعالى: (وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ). وقيل: فيه لغات أربع (يَهْدِ قَلْبَهُ) بنصب الياء والباء جميعًا، و (يُهْدَ قَلْبُهُ) برفع الياء والباء جميعًا، و (يَهْدَ قلبُه) بفتح الياء وضم الباء، أي: يهتدي، و (يَهْدِ قَلْبَهُ) من السكون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). الأصل في الأسماء المشتركة إذا أضيف شيء منها إلى اللَّه تعالى، فحق التخصيص في

(12)

الإضافة إليه أن يضاف بحق الكليات ليكون فرقا بينه وبين العباد فيقال: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، ويقال في الخلق: فلان عليم بكذا على الخصوص، وليعلموا أن العبيد إنما يعملون ما يعملون بعلمه، وكذلك هذا في قوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وهذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ليس بقادر على كثير من الأشياء فكأنهم أشركوا في اسم القدرة غيره؛ لأنه لا أحد من الخلق إلا وله جزء من القدرة، فلو قلنا: إن اللَّه تعالى يقدر على بعض ولا يقدر على بعض لسوينا بينه وبين خلقه، وشبهناه بهم، جل اللَّه - سبحانه وتعالى - عن مثل هذا الوصف، واللَّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... (12). يعني: أطيعوا اللَّه فيما تعبدكم به، وأطيعوا الرسول فيما أخبر عنه. أو أطيعوا اللَّه فيما أمركم وأطيعوا الرسول فيما دعاكم إليه، وهذا كله واحد إلا التعبد؛ فإنه لا يجوز أن يضاف إلى الرسول، وما سواه من الألفاظ من الأمر والدعاء والإخبار، فهو جائز أن يضاف إلى اللَّه تعالى وإلى الرسول - عليه السلام -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ). يعني: توليتم عن إجابة الرسول إلى ما دعاكم إليه وعن طاعته. وقوله: (فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). فيه بيان: أن توليهم عن إجابته وكفرهم به، لا يوجب تقصيرا في التبليغ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13). يجوز أن يكون هذا صلة ما تقدم من الآيات من قوله: (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، و (عَلِيمٌ) و (يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)، ثم قال اللَّه الذي له الأوصاف التي تقدمت هو الذي لا إله إلا هو، أي: لا معبود إلا هو، وأن معبودهم ليس يجوز أن يكون معبودا؛ لتعريه عن هذه الأوصاف التي تقدم ذكرها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

(14)

فيه بيان: أن معتمد المؤمنين على اللَّه تعالى، وإن قلت أعوانهم وأنصارهم، وأنهم ليسوا كالمنافقين والكفرة؛ حيث تركوا اتباع المؤمنين لما رأوا من قلة الأتباع والأعوان لهم وأخبر أن المؤمنين بخلاف تلك الصفة، وأن ثقتهم واعتمادهم على اللَّه تعالى ليس على كثرة الأنصار، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ). يحتمل أن يكون على تحقيق العداوة، ويحتمل أن يكون على فعل العداوة؛ فإن كان على تحقيق العداوة فهو يحتمل وجهين: أحدهما: عداوة ظاهرة، وهي عداوة الكفر والشرك؛ وذلك أنه كان في ذلك الزمان يسلم الرجل ويبقى ولده وزوجته على الكفر، فعلمهم اللَّه تعالى صحبة الأولاد والزوجات: أنه إذا دعوكم إلى الكفر والشرك، فاحذروهم أن تطيعوهم وأن تعفوا عن عقوبتهم على ما دعوكم إليه، وتغفروا؛ فإن اللَّه غفور رحيم. ثم ذكر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في صحبة الأولاد والزوجات إذا كانوا كفارا - العفو والصفح، ولم يذكر ذلك في الوالدين المشركين، ولكنه أمره أن يصاحبهما في الدنيا معروفا لقوله: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، فوجه ذلك - عندنا والله أعلم -: أن يجري سلطانه وغلبته وقهره على زوجته وولده، فأمره هاهنا بالعفو والصفح، وأما في الوالدين فليس يجري له عليهما السلطان والقهر والغلبة؛ فلا معنى للعفو والصفح عنهما، لكنه أمر أن يصاحبهما في الدنيا معروفا وألا يطيعهما فيما أمراه من المنكر، واللَّه أعلم. ويحتمل أن تكون هذه العداوة عداوة مستورة، وهي عداوة النفاق، فكأنه قال: إن من أزواجكم وأولادكم عدوًا لكم وأنتم لا تشعرون، وإن تعفوا عن جنايتهم ولم تؤذوهم

(15)

عليها وتصفحوا وتغفروا؛ فإن اللَّه غفور رحيم؛ ألا ترى إلى ما حذر اللَّه المؤمنين من أهل النفاق مع أنهم من الضعف والفشل؛ كما أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عنهم بقوله: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) فكذلك الأزواج والأولاد وإن كانوا تحت قهره وغلبته، أمره بالحذر عنهم، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون على فعل العداوة، ليس أنهم أعداء في الحقيقة، وذلك أنهم في المتعارف والمعتاد يدعون الآباء إلى البخل والمنع عن الإنفاق على غيرهم، ويشتد عليهم صنع أبيهم من الإحسان والبر في حق الناس، ويكرهون ذلك، وهذا في الظاهر فعل العدو؛ فيجوز أن يكون اللَّه تعالى علم صحبة هَؤُلَاءِ أن من أزواجكم وأولادكم من يظهر فعل العداوة فاحذروهم أن تمتنعوا عن وجوه الإحسان إليهم والتبرع بقولهم، وإن تعفوا عن صنيعهم بكم وتغفروا (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15). المفتون: هو المولع بالشيء العاشق له، فكأنه قال: إنما أموالكم وأولادكم معشوقكم؛ فلا يحملكم حبهم على أن تتركوا ابتغاء الأجر العظيم عند اللَّه تعالى. ويحتمل أن يكون معناه: أن اللَّه تعالى لم يخلق الأزواج والأولاد لكم مجانا، وإنما خلقهم ليبتليكم، ويمتحنكم: أن كيف تعاملون اللَّه تعالى فيما أمركم به ونهاكم عن حبهم، ثم أخبر أن اللَّه عنده أجر عظيم؛ ليتحملوا المؤنة العظيمة في أوامره ونواهيه عن حبهم الأولاد والأموال، وهذا معنى ما قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الأزواج والأولاد كانوا يتعلقون بهم، ويقولون: ننشدك باللَّه أن لا تذرنا وتضيعنا، إذا أراد الرجل أن يهاجر إلى المدينة. والأشبه ألا يكون هذا؛ لأن هذه الآية نزلت بالمدينة وأفعالهم هذه إنما كانت بمكة، إلا أن يكونوا كتبوا إليهم بها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16). قَالَ بَعْضُهُمْ: نسخت هذه الآية قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، حيث أمر هاهنا بالاتقاء على قدر الاستطاعة، وثم بخلافه، ولكن هذا لا يستقيم؛ لأن قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعون لا فوق

الطاقة والاستطاعة، لكنه إن كان فوجهه: أن (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، وإن هلكت فيه طاقتكم؛ لأنهم أمروا بتقوى تهلك به طاقتهم على ما قال: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ)، ولو كتب عليهم أن يقتلوا أنفسهم جاز ولكنه تهلك طاقتهم فيه، فكذلك الأول، ثم قال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) تخفيفا عليهم وتيسيرا واللَّه أعلم. ولكن الكلام في أن كيف قال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ولم نكن نتقي لولا هذه الآية إلا ما استطعنا، ولكن معناه - واللَّه أعلم -: على جهة البشارة: أنكم إذا قصدتم قصد التقوى، آتاكم اللَّه - تعالى - الاستطاعة في تقواه، وهو كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى). وهذه الآية على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن الاستطاعة تتقدم الفعل، وهي تزول عن الفاعل وتقدم عند الفعل، ولو كان كذلك كان يجعل قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) واستطاعة زالت عنهم، وكذلك قوله: (فَخُذهَا بِقُوَّةٍ)، وكذلك قوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)، زالت عنهم هذا مستحيل، والذي يؤيد قولنا قول اللَّه جل ثناؤه: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا)، والحاجة إلى هذه الاستطاعة تقع عند أداء البدل عن الأصل، فأما قبل ذلك إن كان مستطيعا أو غير مستطيع فهو سواء. قوله تعالى: (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا). أي: اسمعوا إلى ما أمركم اللَّه تعالى به ورسوله. أو يكون قوله: (وَاسْمَعُوا) بمعنى: أجيبوا لما أمركم اللَّه به، وإلى ما دعاكم الله ورسوله؛ كقوله: " سمع اللَّه لمن حمده "، أي أجابه. وقوله - تعالى -: (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ). أي: وأنفقوا مما رزقناكم خيرا لكم من أن تدعوا الإجابة لما أمركم والإنفاق مما رزقكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ). قال سفيان بن عيينة: أي: ومن يوق ظلم نفسه، والشح: الظلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشح: البخل، الذي فيه الحرص. قال: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أضاف الوقاية إلى نفسه؛ ليعلم أن من اتقاه فإنما اتقاه بما وقاه اللَّه تعالى بلطفه وكرمه، ألا ترى إلى قوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، كيف علمهم ذلك التقوى بقوله: (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أن قولوا: وقنا عذاب النار؛ ليعلم أن جميع أفعال العباد إنما تقوم وتصح بتدبير اللَّه - تعالى - وتوفيقه وتسديده وتقديره، واللَّه أعلم. ثم قوله: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فيه أوجه من الدلالة: أحدها: أن قوله: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) لم يبين فاعله، ففيه بيان أن في سلطان الله وملكه ما يقي به شح عبده، وأنه إذا وقاه شح نفسه أفلح، وكذلك في قوله: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ)، إخبار أن من ينصره اللَّه فلا يغلب، وقد يرى في الشاهد من لا يوق شح نفسه ألبتَّة، ومن قد يوق شح نفسه ولا يفلح، وقد نرى من يجاهد أعداءه فيغلب، مع ما وعده وأخبر أنه هو الغالب وأنه لا يغلب، فلا بد في ذلك من أحد وجهين: إما أن لم يكن لله تعالى النصرة في ملكه وسلطانه كما ادعى، فهو كاذب فيما ادعى، وإما أن آتاه من القوة ما يقي به شح نفسه فلم يفلح؛ فصار كاذبا في خبره. فأما المعتزلة فإنهم زعموا أن اللَّه تعالى قد آتى عبده جميع ما يقي به شح نفسه حتى لم يبق في خزانته شيء يؤتيه ليقي به شح نفسه - كذبة، وإذا لم يكن بد من نسبة الكذب إلى اللَّه تعالى أو إلى المعتزلة، كانت المعتزلة أولى أن ينسبوا إلى الكذب من رب العالمين فيما أخبروا هم، وأن اللَّه تعالى فيما أخبر صادق، وأن في ملكه وسلطانه ما لم يؤت عبده ليقي به شح نفسه، واللَّه المستعان. وفيه دلالة على إبطال قول من قال: إن على الكفرة أداء هذه العبادات، والحقوق واجبة، وذلك أن اللَّه تعالى وعد في هذه الآية أن من وقي شح نفسه، وأدى ما وجب عليه من هذه الحقوق فقد أفلح، وقد ترى الكافر في الشاهد يوقى شح نفسه، ويؤدي

(17)

حقوق أمواله ويسخو بماله على الناس، ولا يفلح ولو كان عليه هذه الحقوق واجبة، لكان يحصل له الفلاح، ثبت أنه ليس عليه أداءها وإنما عليه قبولها، واللَّه أعلم. وفيه أن صاحب الكبيرة قد يرجى له الفلاح وإن لم يتب عن الكبيرة حتى مات؛ لأنا قد نرى صاحب الكبيرة قد يوقى شح نفسه، وقد وعد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن من وقي شح نفسه، فهو من المفلحين، فإذا كان صاحب الكبيرة قد يوقى شح نفسه؛ فقد ثبت أنه يرجى له الفلاح، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) تولد من هذه الآيات ظنون فاسدة: أحدها: ظن اليهود، حيث قالوا: إن اللَّه فقير ونحن أغنياء؛ وذلك أنهم لما سمعوا أن اللَّه تعالى يقول: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) والاستقراض في الشاهد يدل على الحاجة إلى ما يستقرض، وكذلك قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ)، والشراء يدل على حاجة في المشتري، وحيث استعمل عبيده في الأعمال، ثم قال: (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)، ورأوا أن من يستعمل آخر فإنما يستعمله في عمل ترجع منفعته عليه ويحتاج إلى عمله، ظنوا بذلك أن اللَّه فقير وأنه محتاج. وظنت المعتزلة أن أنفس العبيد وأملاكهم ملك لهم حقيقة ليس لله - تعالى - في شيء من ذلك ملك ولا تدبير، قالوا: وذلك أن اللَّه تعالى استقرض من عبيده، والمرء في الشاهد لا يستقرض ملك نفسه، فلما استقرض واستباع دل أن هذه الأشياء كانت ملكا لهم حقيقة. والذي يدل على أن قول المعتزلة على ما وصفنا: أن من قولهم: إن ليس لله تعالى أن يمرض أحدًا ولا يؤلم ذاته إلا بعوض، ومن لم يملك فعل شيء إلا بعوض أو بدل تبين أنه لا يملكه؛ فثبت على أن عندهم أنه لا يملك حقيقة، وأن حقيقة الملك فيه للعبيد. ويشبه أن يكون ظن اليهود والمعتزلة، جميعًا إنما تولد من قولهم: إن ليس لله تعالى أن يفعل بعبيده إلا ما هو أصلح لهم في دينهم، فذهبت اليهود إلى أن هذا لما كان حقًّا على اللَّه أن يفعله لا محالة حتى إذا لم يفعله يكون جائرا، ومن كان مأخوذا بحق أو

بشيء يفعله، ففيه بيان أن حقيقة ذلك الفعل لغيره حتى أخذ به لا محالة؛ لذلك قلنا: إن ظنونهم تولدت عن القول بالأصلح، واللَّه المستعان. وأما الحكماء وأهل العقل ومن انتفع بعقله، حمل هذه الآيات من اللَّه تعالى على نهاية الكرم وغاية الغناء؛ لأن اللَّه تعالى أعطى عبده، ثم استقرض منه ذلك الذي أعطاه؛ ليصير ذلك العطاء دائما ببدله الدائم، وهو النعيم في الآخرة، ومعلوم أن من أراد دوام عطاء من أعطاه فهو في غاية الكرم، وكذلك اشترى منه حياة فانية؛ ليعطي له حياة دائمة، وهذا من غاية الجود، ومن استعمل عبده في عمل يوصف بأنه جواد سخي ويشرف به، ويكرم ثم وعد له على ما فيه شرفه أجزا دائمًا، دل على غناه، فثبت أنه أراد بهذه الآيات أن يعلمنا غاية كرمه وغاية جوده ونهاية غناه، وأن جوده وكرمه مما لا تدركه عقولنا، والله المستعان. والذي يدل على غاية كرمه وغاية جوده: أن جعل ما نتصدق به على فقرائنا وما نصل به أرحامنا قرضا حسنا على نفسه، ووعد الأجر بعمل يعمله العبد لنفسه، وعلى عمل على العبد فعله لا محالة، ولا شك أن ذلك من غاية الجود والكرم، والله المستعان. ثم قوله: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: القرض: هو القطع، كأنه قال: اقطعوا شيئًا من أموالكم لله تعالى قطعا حسنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اقرضوا، أي: اجعلوا ما تتصدقون به مما فضل عن حاجاتكم على فقرائكم قرضا حسنا على اللَّه تعالى يؤتكم أجره عند حاجتكم إليه. وقوله: (يُضَاعِفْهُ لَكُمْ). يعني: يضاعف ما يعطيكم في الآخرة من الثواب الذي تكرمون به، بما شرفتم به، وتزينتم في الدنيا بالتصدق. وقوله: (وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ). يعني: شكور؛ حيث شكر لكم على ما أعطيتموه شيئًا هو أعطاكم إياه.

(18)

وقوله: (حَلِيمٌ). وصف نفسه بالحلم، وعلى قول المعتزلة لا يتحقق هذا الوصف؛ لأنهم يقولون: إنه إذا وجبت العقوبة، فليس لله تعالى أن يؤخرها كرمًا منه، وأنه فيما أخرها كان ذلك حقًّا عليه؛ حيث رأى الأصلح في تأخيرها، ومعلوم أن من أدى حقًّا عليه لم يوصف بالحلم، ولكنه يقال: إنه ينفي الجور، والحليم من يحلم عن عقوبة لزمت فيؤخرها ويتركها ويعفو صاحبها عنها؛ فيوصف بالحلم عند ذلك، وأما أن يكون عليه تأخيرها، فلا يوصف بالحلم في هذا الموضع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ... (18). يعني: عالم ما غاب من أفعال الخلق عن الملائكة، وعالم بما شهدوا من أفعالهم، وعالم بما غاب عن العباد، وبما شهده العباد. وقوله: (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). العزيز: الذي لا يعجزه شيء، والحكيم: الذي لا يلحقه الخطأ في تدبيره، ثم المعتاد في القرآن أنه يذكر العزيز الحكيم بعد ذكره خلق الكفرة؛ ليعلم أن فسادهم لا يوجب وهْنًا في حكمته وتدبيره، ولا يبطل عزه وسلطانه؛ لأن من صنع إلى آخر شيئًا يعلم أنه يفسد؛ دل ذلك على جهله بالتدبير وإذا استعمل عبده بما يهلكه؛ دل على ذله فأخبر بعد خلق الكفرة: أنه عزيز ليعلم أن كفرهم لا يوجب نقصا في عزه، ولا يدخل ذلا عليه، وأن فسادهم لا يخرجه عن الحكمة والتدبير، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة الطلاق

سُورَةُ الطَّلَاقَ وهي مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ): فإنه يخرج على الإضمار - واللَّه أعلم - كأنه يقول: يا أيها النبي قل لأمتك: إذا أردتم أن تطلقوا نساءكم فطلقوهن لعدتهن؛ والدليل على أنه هكذا؛ فإنه يخرج الخطاب بعده كله للجماعة؛ حيث قال: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أو خاطب به النبي والمراد أمته، وذلك كثير في القرآن. ثم قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أمر بالطلاق للعدة، ولم يبين أن الطلاق للعدة كيف يكون؟ وذكر في بعض القراءات (فطلقوهن لِقُبُلِ عدتهن)، ثم ترك بيان ذلك لا يخلو: إما أن يكون الرسول - عليه السلام - قد بين ذلك لهم، فعرفوا ذلك؛ فلم يبين لهم ذلك في الآية، أو جعل معرفة بيان ذلك إليهم؛ ليعرفوا بالاجتهاد. ثم قوله: (لقبل عدتهن) يحتمل أول عدتهن، ويحتمل ما يقابل عدتهن وهو الحيض من المقابلة فمن يقول: الاعتداد بالأطهار يجعل القبل كناية عن أول الطهر، ومن

يقولها بالحيض يجعل القبل ما يقابل العدة وهو الحيض، ثم لنا أن ننظر أي التأويلين أقرب؟ وقد أجمعوا أن له أن يطلقها في آخر الطهر إذا لم يجامعها فيه، دل أن تأويل القبل بما يقابل العدة أحق وهو الحيض، والاعتداد به أولى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ). يخرج على وجهين: أحدهما: احفظوا الحقوق والأحكام التي تجب في العدة؛ فأدوها. والثاني: احفظوا نفس ما تعتدون به، وهو عدد الحيض الذي بها تعتدون؛ لئلا تزاد ولا تنقص. ثم جعل الإحصاء إلى الأزواج، يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم هم الذين تلزمهم الحقوق والمؤن. والثاني: أنه بهم يقع تحصين الأولاد في العدة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ). دل قوله: (مِنْ بُيُوتِهِنَّ) على صحة مسألة لأصحابنا - رحمهم اللَّه - فيمن حلف ألا يدخل بيت فلان، فدخل بيتا هو فيه بإعارة أو إجارة أنه يحنث. ووجه ذلك: أن اللَّه تعالى أضاف البيوت إليهن وإن كان حقيقة الملك للأزواج فيها، ألا ترى إلى قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ)، ثم قال: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)؛ فدل قوله (مِنْ بُيُوتِهِنَّ): أنه أراد به البيوت التي أسكنهن الأزواج فيها، وإذا صحت هذه الإضافة؛ دل على صحة المذهب. وقال الشافعي فيمن حلف لا يدخل مسكن فلان، فدخل مسكنا هو فيه بإعارة: إنه يحنث، وقال فيمن حلف لا يدخل بيت فلان: إنه لا يحنث، واحتج في المسكن: أنه إنما يحنث؛ لأنه وجد حقيقة السكنى من المحلوف عليه، فإن كان هذا هو الدليل على الحنث، فالواجب عليه أن يحنثه في البيت؛ لوجود البيتوتة على ما حنثه في المسكن،

لوجود السكنى. وبعد: فإن الحنث أقرب في البيت؛ لأن اللَّه تعالى أضاف البيوت إليهن في كتابه وإن كن هن فيها بإعارة ولم يوجد في السكنى ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ). (مُبَيِّنَةٍ) قرئا جميعًا: فمنهم من حمل الاستثناء بقوله: (إِلَّا) على قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)، وصرفه إليه. ومنهم من صرفه إلى قوله: (وَلَا يَخْرُجْنَ) ولكل من ذلك وجهان: فأما من حمله على قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ) فإنه جعله استثناءً، وللاستثناء وجهان: أحدهما: لا تخرجوهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أي: بزنى يزنين، فتخرجوهن؛ لإقامة الحد عليهن. أو لا تخرجوهن إلا أن يظهر منهن بذاءة اللسان على أهل أزواجهن فتخرجوهن؛ لمكان البذاءة التي في لسانهن. ومن حمله على قوله: (وَلَا يَخْرُجْنَ)؛ فإنه يجعل معنى قوله: (إِلَّا) على معنى: لكن؛ كما قيل في قوله تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)، أي: لا يسمعون فيها لغوا، ولكن سلاما، إذ لا يحتمل استثناء السلام من اللغو؛ لما ليس في جملة اللغو سلام؛ فيستثنى منه فكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) فكأنه قال: لا يخرجن، ولكن إذا خرجن فخروجهن فاحشة، ويدل هذا على أن النهي لنفس الخروج، لا للانتقال. ووجه آخر في ذلك، وهو: ألا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة، فإنهن إذا خرجن، خشي عليهن أن يأتين بفاحشة مبينة كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر "، وكان المعنى من ذلك: أنه إذا تزوج فوطئ فهو عاهر، ولكن نهي عن النكاح؛ لأنه يخشى عليه في النكاح أن يطأها فيصير عاهرا، لا أن يكون نفس التزوج منه زنى، فكذلك (وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) فيكون النهي لا عن نفس الخروج، ولكن لكونه سببا للفاحشة في الجملة، وطريقا إليها. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُبَيِّنَةٍ).

فمن قرأ (مُبَيِّنَةٍ) بالخفض فمعناه: أن نفس الفاحشة إذا تفكر فيها المرء، ونظر تبين له: أنها فاحشة. ومن قرأ (مُبَيَّنَةٍ) بالفتح، عني به: أنها مبينة بالبراهين والحجج. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ). الحدود: الموانع والنواهي، لا يحل مجاوزتها، ومن ذلك سمي الحداد: حدادًا؛ لأنه يمنع تحديده كل أنواع أمتعته أن تجاوز حدها الذي جعل لها، والحد في الحقيقة هو: النهاية التي يُنتهى إليها فلا يجاوز، وإذا كان كذلك كان الخيار إلى صاحب التأويل: فإن شاء حمله على الحد بين الطاعة والمعصية أو بين الحلال والحرام؛ حيث ذكر في هذه الآية أنواعا من النهي؛ فسمي ذلك كله: حدودًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). أي: ضر نفسه، ويجوز أن يكون المعنى منه، أي: إن جاوز هذا الحد الذي جعله لله تعالى، فقد وضع نفسه مكانا لم يضعه فيه ربه، والظلم في الحقيقة وضع الشيء في غير موضعه. والتأويل الآخر: أن من جاوز موانع اللَّه ونواهيه، فقد ظلم نفسه؛ دل هذا على أن منافع هذه النواهي ومضارها لا ترجع إلى اللَّه، بل ترجع نفس الممتحنين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا). أي: لا يطلق؛ فإنه إذا طلق لا يدري لعل اللَّه يحدث بعد ذلك ندامة على ما سبق من فعله أو رغبة فيها؛ فيكون فيه دلالة النهي عن نفس الطلاق، وقد بينا كراهة نفس الطلاق في الحكمة في أنه ليس من نوع ما يتقرب به؛ فيكون فيه الزيادة في القربة ولا مما يستمتع به فيكون فيه زيادة في الاستمتاع، بل المقصود منه التأديب والمَخْلَصُ، وفي الواحدة كفاية عما زاد عليها؛ فكان في هذه الآية دلالة النهي عن نفس الطلاق، وعن الزيادة على الواحدة واللَّه أعلم.

(2)

قال: فإن كان تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) هو الرغبة فيها أو الندامة على ما سبق منه؛ فإنه دلالة على إبطال قول المعتزلة؛ لأن الرغبة والندامة جميعًا من فعل العباد، واللَّه تعالى قد أضاف ذلك إلى نفسه بقوله: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)، وإذا كان كذلك، ثبت أن لله تعالى في إحداث أفعال العباد صنعا وتدبيرا، واللَّه أعلم. وقال أصحاب الشافعي: إن قوله (فَطَلِّقُوهُنَّ) يدل على تعليم الوقت في الطلاق دون العدد، فله أن يطلقها في الوقت أي عدد كان، ولا يستقيم ذلك؛ لأن التأويل إنما يستقيم على أحد وجهين: إما على ما جرى به التفاهم في العادات بين العباد، وإما على ما جرى به التفاهم في حق الحكمة، وليس يفهم من قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ) العدد الثلاث على واحد من الوجهين اللذين وصفناهما؛ ألا ترى أن من قال لآخر: طلق امرأتي، لم يجز أن يطلقها ثلاثا إلا أن يكون نوى ثلاثًا؛ فثبت أنه لا يفهم به في عبارته لفظ الثلاث. وأما وجه الحكمة؛ فلما ذكرنا: أن الطلاق ليس مما يتقرب به رغبة في الاستكثار منه زيادة في القربة، ولا مما يستمتع فيستكثر منه زيادة في الانتفاع، وإنما المراد منه التأديب والمخلص، وما كان مخرجه هذا المخرج، كان في حد الرخصة وما خرج مخرج الرخص، لم يعتد به عما وقعت به الرخصة، وإذا ثبت ما وصفنا، ثبت أنه لا يجوز الفهم من قوله تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) الثلاث، والتعليم في العدد أليق به من الوقت؛ لأنه لا ضرر يلحقه في تعديه عن الوقت المجعول له فيه الطلاق، ولا شك أنه يلحقه الضرر في تعديه في العدد والزيادة منه، واللَّه أعلم. ومما يدل على أن المراد من قوله (فَطَلِّقُوهُنَّ) ليس عدد الثلاث قوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، ولا شك أنه إذا أوقع عليها ثلاثا، لم يملك إمساكها، ومعلوم أن قوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الطلاق المتقدم من قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ)، ولو كان المراد عدد الثلاث، لم يكن لقوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ) معنى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ... (2)، فيه فوائد

شتى، وأدلة متفرقة من الفقه والأحكام: أحدها: أن اللَّه تعالى قال: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) والمعروف إليها في المتعارف من نوع الفعل أظهر من نوع القول؛ لأنه إنما يحسن إليها، استمتاعا وإنفاقا ونحو ذلك، فذلك نوعه نوع الفعل؛ فثبت أن حقيقة الإمساك بالمعروف في الأفعال؛ فلذلك قلنا: إنه إذا رأجعها بالفعل يكون مراجعًا؛ فَإِنْ قِيلَ: أليس قال اللَّه تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) والإشهاد على الفعل غير صحيح؟ فجوابه أن يقال: إن اللَّه تعالى قال: (وَأَشْهِدُوا)، ومعلوم أن هذا لو كان بحضرة الشهود، لم يكن للإشهاد معنى، بل إذا سمعوا ذلك، صاروا شهداء أشهدوا أو لم يشهدوا، وإذا كان كذلك، ثبت أن المعنى من هذا الإشهاد على الإمساك المتقدم، وذلك في الأفعال مستقيم، واللَّه أعلم. ووجه آخر: وهو أن كل عقد استقام بغير شهود جرى فيه الأمر بالإشهاد نحو قوله: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)، وكل ما جعل الشهود فيه شرطا لقوام العقد، جرى الذكر فيه " لا. . . إلا " بشهود، نحو قوله: " لا نكاح إلا بشهود "، فلما جرى الذكر في هذه الآية بالأمر بالإشهاد بقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، ثبت أنه يستقيم من غير شهود، واللَّه أعلم. ثم في قوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) دليل على أن المراد من الأقراء هو الحيض؛ فإنه ذكر نوع هذا في كتاب اللَّه في مواضع؛ قال اللَّه تعالى في موضع: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وقال في آية أخرى: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ)، وقال في هذا الموضع: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، ومعلوم أن معاني هذه الألفاظ مختلفة وإن اتفقت مخارجها، واختلافها: أن يكون المراد ببلوغ الأجل في أحد النوعين على التمام وانقضاء الأجل، والثاني على الإشراف عليه، وأحق ما يكون في حق الإشراف على البلوغ هو ما يرجع إلى الأزواج؛ لأنه قد كان لهم حق الإمساك قبل انقضاء الأجل، وهم أحق بهن ما لم يتم بلوغ الأجل لا بعده، وإذا ثبت أن المعنى من قوله: (فَإِذَا فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) في هذا الموضع هو الإشراف على البلوغ والقرب من انقضاء الأجل دون التمام، ثبت أن الأقراء: هي الحيض؛ لأنه لو كان المراد منها الأطهار لم يعرف إشراف الأجل

على البلوغ؛ لأنه لا نهاية لأكثر الطهر، وأما الحيض فإنه له غاية معلومة؛ لأن أيامها لا تخلو إما أن تكون عشرا أو دون العشر، فإن كان عشرا فيعرف بالعد، وإن كان دون العشر فإن دمها إذا انقطع راجعها قبل أن تغتسل، وذلك وقت إشراف أجلها على البلوغ، والأطهار ليس يتحقق فيها المعنى الذي وصفنا، واللَّه أعلم. ثم قال هاهنا: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)؛ فدل الأمر بالإمساك في الظاهر أنها ما دامت في العدة، فهي على ملكه، وقال في موضع آخر: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ)؛ فدل على أنه قد وقع شيء من الزوال حتى أمره بردها؛ فيكون حجة للشافعي في أن الطلاق الرجعي يحرم الوطء، ولكن المعنى عندنا في هذا - والله أعلم -: أنا قد عرفنا بقوله: (أَوْ فَارِقُوهُنَّ) بعد وجود الطلاق المتقدم: أنه لم يرد به الفرقة للحال، ولكن معناه: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن، فتفارقوهن؛ فثبت أنه قد وقع شيء من شبهة الفراق بالطلاق، وهو أن صار الفراق مستحقًّا لازما حال انقضاء العدة؛ فيكون له عَرَض الوجود للحال، فقال: (فَأَمْسِكُوهُنَّ) على إبقائهن على أصل الملك، وقال: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)، في ذلك؛ لرفع تلك الشبهة الواقعة بالطلاق؛ وهذا على سبيل ما قال تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). وكان الفيء هو الرجوع، ومعلوم أنه لم يقع بالإيلاء شيء من الفرقة، ولكن لما كان الإيلاء موجبا للبينونة في العقد، أوجب في الحال شبهة الفرقة، وهو استحقاق الزوال، فذكر الفيء؛ لرفع تلك الشبهة؛ وكان تركها منه لا يفيء إليها عزم منه على الطلاق، فكذلك الأول واللَّه أعلم. والمعروف إذا صنع إليك إنسان صنيعة، فعرفتها واستحسنتها، فهو معروف، وما دفعته وأنكرته، فليس بمعروف. أو هو الذي عَرَّفَنا اللهُ - تعالى - من المراجعة والمفارقة. ثم المعروف في الحقيقة ما تطمئن إليه القلوب وتسكن عنده الأنفس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ). دل قوله - تعالى -: (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أن قد يكون منا فساق، وأن الفسق لا يخرجه من الإيمان، وكذلك قوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ)، فثبت أن قد يكون منا من لا يرضى، وأن خروجه ممن يرضى لا يخرجه من الإيمان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ). حيث أضافها إلى نفسه هو أنه لا بد في الشهادة من نفع يقع لأحد الخصمين، وضرر يرجع إلى الآخر، فكأنه قال: لا ينظر بعضكم إلى رضا من تنفعه الشهادة وإلى سخط من تضره، ولكن اجعلوها لله تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). الموعظة وإن كانت لمن يؤمن ولمن لا يؤمن، فالمعنى في هذا: ذلكم يتعظ بما يوعظ به من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر كما كان المعنى من قوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)، أي: إنما ينتفع بالإنذار من يتبع الذكر، وكما كان في قوله: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، أي: ينتفعون بتلاوته فكذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله: (يُوعَظُ بِهِ). أي: بما أمر فيما تقدم من الآيات من الطلاق للعدة، والنهي عن إخراجهن من البيوت والإنفاق عليهن، ونحوه إنما يوعظ به -أي: يأخذ بما أمر به، ونهي عنه في هذه الآيات- من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا). قد بينا أن التقوى إذا ذكر مفردًا انتظم الأوامر والنواهي، وإذا ذكر معه البر والإحسان، صرف التقوى إلى معنى، والبر إلى معنى، وذكر في هذا الموضع مفردا؛ فجاز أن ينتظم الأوامر والنواهي، ثم جاز أن يكون المعنى من قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) فيما بين له من الحدود، فلم يضيعه، (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) فيما لم يبين له، وفيما اشتبه من الحد. أو يجوز أن يكون المعنى من قوله (وَمَن يَتَقِ اللَّهَ)، أي: يجاهد فيما أمره ونهاه، يجعل له مخرجا في أن يهديه، ويبين له السبيل؛ ألا ترى إلى قوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا). قال: ويجوز أن ينال من يلزم التقوى خير الدنيا والآخرة؛ لأن اللَّه تعالى ذكر التقوى، وما يليه بألفاظ مختلفة، فقال في موضع: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) وقال: في موضع آخر (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)، وفي موضع آخر (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) وفي موضع آخر (إِنَّ

(3)

اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)، أي: إن اللَّه مع الذين اتقوا في النصرة والمعونة أو التوفيق والعصمة، ومن نصره اللَّه - تعالى - فلا يغلبه أحد، ومن يعصمه اللَّه تعالى فلا يضله أحد، وإذا نال هاتين الخصلتين، فقد نال خير الدنيا والآخرة. أو يجوز أن يكون قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) يعني: يتقي عقابه، يجعل له مخرجا من الشدة في الدنيا وعن سكرات الموت وغمراته وعن شدائد الآخرة وأهوالها. ويجوز أن يكون قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) في مكاسبه، يجعل له مخرجا من الشبه والحرمات فيسلم منها. أو يجوز أن يكون قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) فيما بين له من الحدود في هذه الآيات المتقدمة، فحفظها من صحبة النساء على ما أمر به، (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) مما أهمه من ناحيتهن، (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ... (3) يجوز أن يكون هذا فيما بين له من الحدود إذا حفظها أن يرزقه ما وصفنا من المرأة والمال. ويجوز أن يكون هذا في جميع الأمور من المكاسب والتجارات؛ لأن التجار يظنون أنهم إنما يرزقون الفضل والربح؛ لما يدخلون فيها من الشبه والحرمات، وأنها إذا نُفِيَت من تجاراتهم لا يرزقون مثل ذلك؛ فأخبر - جل ثناؤه - أنهم إذا اتقوا في تجاراتهم تلك الشبه والحرمات، رزقهم من حيث لم يحتسبوا. أو يجوز أن يكون هذا خطابا للكفرة؛ وذلك أنهم كانوا يخافون أنهم إذا آمنوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حرموا من الرزق، وابتلوا بالضيق، ألا ترى إلى قوله: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا. .) الآية، فكأن اللَّه - تعالى - أمنهم عما يخافون بسبب الإسلام، وأخبرهم أنهم إذا وحدوا اللَّه تعالى وآمنوا برسوله، رزقهم من حيث لم يحتسبوا، ووسع عليهم الرزق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ). يجوز أن يكون معناه: أي: من يعتمده في كل نائبة، ويفوض إليه كل نازلة. والوكيل: هو الموكول إليه الأمور. وقيل الوكيل: هو الحافظ؛ فكأنه قال: ومن يعتمد على اللَّه فيما نابه كفى به وكيلا موكولا إليه أمره، وكفى به حافظا وناصرا ومعينا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ).

أي: فيما أخبر من حكمه ووعده ووعيده: أن ينزل بهم. ويجوز أن يكون (بَالِغُ أَمْرِهِ)، أي: مبلغ ما أمر رسوله بتبليغه إلى آخر عصابة تكون من أمته في تسخيرهم؛ ليصيروا كأن الرسول بلغهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا). قال الحسن: جعل لكل شيء من أعمال العباد قدرًا وثوابًا في الآخرة. والوجه عندنا: قد جعل اللَّه لكل شيء مما كان ويكون إلى يوم القيامة من حسن وقبيح في الحكمة قدرا؛ ألا ترى إلى أفعال العباد أنها كيف تخرج عن تدبيرهم من زمان إلى زمان ومكان ونحو ذلك؛ ليعلم أن اللَّه - تعالى - هو الذي قدر ذلك المكان والزمان والفعل، حتى خرج فعل هذا العبد عن تقديره الذي قدره، واللَّه أعلم. وفي قوله - تعالى -: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) وجه آخر، وهو أنه لو جعل جميع الرزق من حيث لا يحتسب، جاز؛ لأن الرزق في الحقيقة هو الذي يتقوى به الإنسان ويتغذى به، وليس ذلك في عين الأكل والشرب، ولكن فيما يتفرق من قوة الطعام والشراب في الأعضاء، وذلك باللطف من اللَّه تعالى، فثبت أن قوة الأكل والشرب إنما تصل إلى الأعضاء من حيث لا يحتسب الإنسان، واللَّه أعلم. ثم ليس في قوله - تعالى -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) تخصيص أن من لا يتقيه لا يرزقه من حيث لا يحتسب؛ لأنا قد نرى في الشاهد من يرزق من حيث لا يحتسب اتقاه أو لم يتقه؛ فثبت أن فائدة التخصيص ليس نفي غير المذكور، ولكن فائدة تخصيص المتقي بالذكر هو أنه يرزقه من حيث يطيب له، ولا يلام عليه، وليس ذلك في غير المتقي، واللَّه المستعان. ثم ليس في قوله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ما يدل على ترك الأسباب، ولكن لما رأى الناس يفزع بعضهم إلى بعض ويستغيث بعضهم ببعض، أمرهم أن يجعلوا المقصد والمفزع إلى اللَّه تعالى، وأن يصيروا هذه الأسباب كلها محنة عليهم، لا أن يروا أرزاقهم معصومة متعلقة بها، ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) كيف أمر بإدراك فضله من تلك التجارة؛ فثبت أن هذه المكاسب كلها أسباب للخلق، بها يتوصلون إلى فضل اللَّه تعالى، وأن المقصد والمفزع فيها إلى الله

(4)

تعالى، واللَّه أعلم. ثم اختلفوا في أن عدة: فمنهم من قال: هي استبراء الرحم. ومنهم من قال: هي عبادة تتبع النكاح الذي استوفي فيه المقصود بالنكاح، وهذا القول عندنا أصوب؛ لأوجه: أحدها: أن الاستبراء واجب في حق السنة والأدب قبل الطلاق؛ فإن من أراد أن يطلق امرأته فالواجب عليه أن يستبرئها بحيضة ثم يطلقها، وأما العدة فإنها لا تجب إلا بعد الطلاق، فثبت أنها على ما ذكرنا من العبادة التي تتبع النكاح الذي المتوفي فيه المقصود، واللَّه أعلم. ومعنى آخر: وهو أن العدة لو كانت استبراء، لكانت تكتفى بالحيضة الواحدة، فلما قرنت بالعدد، وفي الواحدة مندوحة عما سواها في حق الاستبراء، ثبت أنها على الوجه الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4). هذا يدل على أن المراد من الأقراء الحيض؛ وذلك لأن الأصل عندنا في الأصول أن الشيء متى ذكر باسم مشترك، ثم جرى البيان له عند ذكر البدل باسم خاص؛ دل على أن المراد من الاسم المشترك هذا الاسم الخاص المذكور عند البدل؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)، وكان اسم الغسل مشتركا يتناول الماء وكل مانع، فلما قال عند ذكر البدل: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا)، تبين أن المراد من ذلك الاسم المشترك هو هذا الاسم الخاص المذكور عند البدل، فكذلك الأول، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ). اختلفوا في قوله: (إِنِ ارْتَبْتُمْ): أنه أريد به: إن ارتبتم في حيضهن أو في عدتهن؟ وعندنا الارتياب في عدتهن؛ لأنه لو كان المراد منه الارتياب في حيضهن، لكان من حق الكلام أن يقول: " إن ارتبتن " أو يقول: " واللائي ارتبن " ليكون منسوقا على قوله: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) فلما قال: (ارْتَبْتُمْ) وثبت أن المراد: إن ارتبتم في عدة الآيسات والصغائر، فهي ثلاثة أشهر، واللَّه أعلم. أو لأن المرتابة إذا رأت الحيض ارتفع ريبها، وصار عدتها بالحيض، وخرجت من ْالعدة بالشهور، وأما الآيسة والصغيرة؛ فإنه لا يتوهم عليهما ارتفاع الإياس والصغر؛

فيكون عدتهما بالأشهر؛ فلذلك قلنا: إن هذا الارتياب في عدة الآيسات والصغائر. ثم من قول أصحابنا: إن الرجل إذا طلق امرأته الآيسة أو الصغيرة أو الحامل للسنة يطلقها متى شاء، وليس له وقت معين في طلاقها للسنة، وإنما كان كذلك؛ لأنا قد وصفنا في قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ): أن المراد منه: لقبل عدتهن، ومعلوم أن عدة التي ترى الحيض أحد شيئين: إما الدم ولم يعتبر ما يقابله وهو الطهر من العدة، وكذلك من جعل عدتها بالأطهار لم يعتبر ما يقابلها وهو الحيض من العدة، وإذا كان كذلك لم يكن بد من أن يكون هاهنا شيء يقابل عدتها؛ فثبت فيه معنى قبل عدتها؛ فجعل ذلك الطهر، وأما الآيسة والصغيرة والحامل فجميع أيامها من عدتها، وهي ثلاثة أشهر، وليس في أيامها شيء يقابل عدتها، فلذلك قلنا: إن له أن يطلقها في أي وقت شاء، وكذلك له أن يطلق الحامل التي من ذوات الأقراء؛ وذلك لأنه إنما نهي -عندنا- عن الطلاق على أثر الجماع في التي تحيض؛ لتوهم أن يكون الجماع أحبلها، فإذا طلقها ثم أراد نفي الحبل في العدة، لم يتهيأ له ذلك، وأما الآيسة والصغيرة والحامل، فليس فيهن هذا التوهم، واللَّه أعلم. ثم إن هذه العدة وإن ذكرها في هذه السورة على أثر الطلاق الواحد؛ فكأنها في التطليقات الثلاث؛ لأن هذه العدة مكان العدة التي ذكر اللَّه تعالى في سورة البقرة من قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)؛ لأنه ذكر هاهنا: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) على الإجمال وذكرها ثَمَّ على التفسير؛ فإذا التحق التفسير بالمجمل يصير في المعنى والحكم كأنه واحد، ومعلوم أن تلك في الواحدة والثلاث؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، وقوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) هي التطليقة الثالثة. وإذا كان الأمر على ما وصفنا، ثبت أن للمرء أن يطلق امرأته الحامل للسنة ثلاثا، والله أعلم. قال - رحمه اللَّه -: في قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ) أوجه من الفقه:

أحدها: أنه لما قال: (مِنْ بُيُوتِهِنَّ) دل أنه ألزمهن السكون في بيوتهن التي كن فيها في حالة قيام النكاح؛ فيكون دليلا لقول أصحابنا: إنه ليس للزوج أن يسكنها معه في بيته الذي هو فيه، بل يتركها في ذلك المسكن، وينتقل هو بنفسه إن كان يريد الانتقال؛ يصحح هذا قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) فلما أدخل حرف (من) في هذه الآية دل أن الواجب على الزوج أن يسكنها في بيت من بيوته، ولا يدخل عليها في ذلك البيت إلى أن تنقضي عدتها، واللَّه أعلم. ثم المعنى عندنا في قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)؛ ليَحْصِنَّ ماءكم، ولا يخرجن؛ خوفا من وطء غير الأزواج واشتباه النسب لو حبلن، وإذا كان النهي عن إخراجها من البيت لهذا المعنى، لم يكن بد من إيجاب النفقة عليه؛ لأنها إنما تكتسب نفقتها بالخروج، فإذا نهيت عن الخروج؛ لتحصن ماءه، لم يحتمل أن تكون النفقة على غيره، واللَّه أعلم. ثم قوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ). روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من شاء باهلته أن قوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ) نزل بعد قوله في سورة البقرة: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، وجعل عدة الحامل بوضع الحمل، ولا يعتبر أبعد الأجلين، لكن إن كان ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يباهل، فعلي - رضي اللَّه عنه - لا يباهَل، ويقول بأن قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ)، لا يجوز أن يدخل في قوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ)؛ وذلك لأن قوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ) إنما ذكر في عدة الطلاق، وعدة الطلاق لا تتضمن عدة الوفاة إذا كانت بالحيض، لم تدخل عدة الطلاق في عدة الوفاة؛ ألا ترى أن من طلق امرأته وهي حائل ممن تحيض، ثم مات عنها زوجها قبل انقضاء عدتها، لم تدخل عدة الوفاة في الحيض الثلاث، بل الحِيَضُ هي التي تدخل في عدة الوفاة في الحيض، وتؤمر: أن تعتد بأبعد الأجلين، فكذلك أمر الحامل، وإذا اشتبه الحال أمرت فيه بالاحتياط أن تعتد بأبعد الأجلين،

ولأن عدة الوفاة لم تلزم لوطء متقدم؛ ألا ترى أنها قد تلزم من لم يكن زوجها من أهل الوطء، وأما عدة الحبل والحيض، إنما لزمت لوطء متقدم، وإذا لم تكن عدة الوفاة من جنس العدة بالحبل، لم تدخل في عدة الحبل فلا نوجب فيها الاحتياط، وذلك في الاعتداد بأبعد الأجلين. ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحوامل يحتمل أن يكون بمعنى أنها في الحقيقة لا تدخل في قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ)؛ لأنا قد وصفنا أنها إنما نهيت؛ لتحصين ماء الزوج، وإذا مضت تسعة أشهر، فقد خرجت عن التحصين، فكان الواجب أن تسقط النفقة بعد التسعة، لكن اللَّه تعالى حث على الإنفاق في جميع المدة؛ لأنها لا محالة إنما بقيت في هذه المدة؛ لوطئه المتقدم؛ فلذلك حث اللَّه تعالى في الإنفاق على الحوامل فيما يقع عندنا، واللَّه أعلم. وأما ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه يجوز أن يكون قوله - تعالى -: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ) عنده مبتدأَ خطاب، ليس بمعطوف على قوله: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ)؛ لأنا نعلم أنه لا يجوز أن يقع الارتياب فيمن تحتمل القروء؛ وذلك لأن الأشهر في الآيسات إنما أقيمت مقام الأقراء في ذوات الحيض، وإذا كانت الحامل ممن تحتمل القروء لم يجز أن يقع لهم شك في عدتها؛ ليسألوا عن عدتها. وإذا كان كذلك، ثبت أنه خطاب مبتدأ، وإذا كان خطابا مبتدأ تناول العِدد كلها، ومما يدل على أنه مبتدأ خطاب ما روي في خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية: أنها وضعت بعد وفاة زوجها بخمس عشرة ليلة، فأمرها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن تتزوج؛ فدل إباحته النكاح قبل مضي أربعة أشهر وعشر على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال. وقال الحسن: إن الحامل إذا وضعت أحد الولدين، انقضت عدتها، واحتج بقوله: (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، ولم يقل: " أحمالهن "؛ ولكن لا يستقيم ما قاله؛ لوجهين أحدهما: أنه قرأ في بعض القراءات (أن يضعن أحمالهن). والثاني: أنه قال: (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، ولم يقل: " يلدن "، بل علق بوضع حملهن، والحمل اسم لجميع ما في بطنهن، ولو كان كما قاله، لكان عدتهن بوضع

(5)

بعض حملهن، واللَّه تعالى جعل أجلهن أن يضعن حملهن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا). فقد وصفنا أن التقوى إذا ذكر مطلقًا مفردًا، تناول الأوامر والنواهي، فكأنه قال: ومن يتق اللَّه في أوامره أن يضيعها أو في نواهيه أن يرتكبها، يجعل له من أمره يسرًا. ثم قوله: (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا). له وجهان: أحدهما: له من أمره يسرًا في نفس التقوى أن نيسره عليه، كما قال في قوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)، وفي قوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، يعني: ييسر عليه فعل التقوى والطاعة، فكذلك الأول. ويحتمل أن يكون في جميع الأمور في المكاسب والتجارات وغيرها: أن من اتقى الله من الحرام ييسر اللَّه عليه الحلال، ومن اتقى اللَّه من الشبه يسر عليه في المباح، ومن يتق اللَّه في تجارته، رزقه ما يرجو من الربح ويأمله، وكذلك جميع الأمور على هذا السبيل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معنى قوله: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ) أي: ذلك التقوى أمر اللَّه أنزله إليكم. ويحتمل أن يكون أراد بقوله: (ذَلِكَ) ما تقدم من الآيات في المراجعة والإشهاد والطلاق والعدة وغير ذلك: أنها وإن خرجت في الظاهر مخرج الخبر، فإنها كلها أمر الله تعالى، أنزله إليكم؛ فاتبعوها وخذوا بأمره فيها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا). هذا يدل على ما وصفنا: أن التقوى إذا ذكر مفردا انتظم الأمر والنهي جميعًا، ألا ترى إلى قوله: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، وقال هاهنا: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ). فجعل التقوى تكفر السيئات، فلولا أن في التقوى أعظم الحسنات، لم يكن لقوله: (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) معنى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - -: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) وفي قراءة عبد اللَّه بن

مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم) ويجوز أن تكون قراءة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضًا؛ ألا ترى أنه قال: " لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة؛ لا ندري أصدقت أم كذبت "، فالكتاب هذا، والسنة يجوز أن يكون سمعها من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك. أو يجوز أن يكون عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في هذا تلاوة قد رفع عينها وبقي حكمها؛ لذلك قال: " لا ندع كتاب ربنا " ألا ترى إلى ما قاله عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أمر الزنى: " سيأتي على الناس زمان يقولون: لا نجد الرجم في كتاب اللَّه، وإنا كنا نتلو من قبل في سورة الأحزاب: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما ألبتَّة؛ نكالا من اللَّه، واللَّه العزيز حكيم " فقد رفعت التلاوة، وبقي حكمها؛ فكذلك في أمر النفقة يجوز أن تكون التلاوة مرفوعة وحكمها باقٍ، واللَّه أعلم، وقوله: " لا ندع كتاب ربنا " في الخبر دلالة أن الكتاب قد ينسخ بالسنة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما احتج في امتناعه عن ترك كتاب اللَّه، بقول امرأة لم ندر أصدقت أم كذبت؟ ولولا أن الكتاب قد ينسخ بالسنة، وإلا لم يكن احتجاجه بقوله: " لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة " معنى، بل كان يقول: " لا ندع كتاب ربنا بالسنة "، فلما قال: " لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة؛ لا ندري أصدقت أم كذبت "؟ دل أن السنة قد تنسخ الكتاب، واللَّه أعلم. وروى أبو بكر الأصم أن فاطمة بنت قيس لما أنكر عليها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حديثها تركت روايتها إلى زمن مروان، فلما استخلف مروان جعلت تروي حديثها، فأخبر بذلك مروان، فدعاها فروت هذا الحديث، فقال لها مروان على ما كان يقول لها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالت له: أين كتاب ربنا؟ فتلا عليها قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)، فقالت: كيف يحتمل أن يكون هذا في المطلقة ثلاثا، واللَّه يقول في هذه (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)؛ ومعنى الإمساك في المطلقة ثلاثًا معدوم؛ فأفحم مروان، ولو فهم مروان ما فهمه عمر لم يفحم؛ وذلك أن هذه العدة المذكورة في هذه الآيات إنما هي مكان قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، ولا فرق هناك بين المطلقة الواحدة والثلاث، وإذا كان المذكور في هذه

العدة مكان تلك، فالمذكور في النفقة في هذه كالمذكور في تلك، وليس في تلك الآية ذكر الفرق بين الثلاث والواحدة؛ فلذلك قلنا: في كتاب اللَّه تعالى دلالة إيجاب النفقة للمبتوتة والمطلقة ثلاثًا، واللَّه أعلم؛ فيكون حجة على الشافعي؛ ومما يدل عليه هو أنه لما استدل بذكر الإنفاق في قوله: (فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) على وجوب الإسكان والنهي عن الإخراج مع توهم الإنفاق دون الإسكان، فلأن يستدل بذكر الإسكان على الإنفاق ولا يكون الإسكان، إلا بالإنفاق؛ لاتصاله به - أحرى، فصار قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ) دليلًا على وجوب الإنفاق، وإنَّمَا قلنا: إن الإنفاق متصل بالإسكان؛ لأنه إذا نهي عن إخراجها عن بيته وأمر بإسكانها فلا يحتمل أن يؤمر بالإنفاق؛ لأن في ذلك تضييقًا عليها وتعسرًا؛ ألا ترى: أنها إنما تكتسب النفقة بالخروج، فإذا نهى الزوج عن إخراجها، ونهيت هي عن الخروج، لم تصل إلى نفقتها إلا بالزوج ضرورة، واللَّه أعلم. ولأجل أنا نظرنا: أن النفقة في الحامل للحمل أو العدة، فوجدنا أنها لو كانت واجبة للحمل، لم تجب إذا كان حملها بحيث لو وضعته، لم يلزم نفقته عليه، وقد وجدنا هذا الحكم، نحو: حر يتزوج أمة رجل بإذن سيدها فولدت ولدا: أن نفقة الولد على السيد، وكان يجب عليه ما دام في بطن أمه، فلما استقام وجوب النفقة على الزوج ما دامت حاملا، وإن كان الحبل بحيث لو وضعته لم يلزمه نفقته - ثبت أن النفقة في الحامل؛ لمكان العدة لا للحبل، والعدة في الحائل والحامل واحدة؛ فكذلك كان حكمهما واحدًا، واللَّه أعلم. ثم الأصل عندنا ما وصفنا: أن النفقة إنما وجبت؛ لاستمتاعه المتقدم، فما دامت محبوسة؛ لاستمتاعه السابق أوجبت النفقة عليه، وإذا كانت محبوسة لا بهذا الحق لم يكن عليه النفقة، واللَّه أعلم. ولأن في قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)، إضمار النفقة، كأنه يقول: أسكنوهن من حيث سكنتم، وأنفقوا عليهن من وجدكم؛ لأنه لولا هذا الإضمار، لم يكن

لقوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) على الظاهر معنى؛ لأنه لما قال: (أَسْكِنُوهُنَّ)، علم أنه جعل الإسكان عليهم، ومن كان عليه الإسكان، فإنما يكون من وجده، فلم يكن في قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) إلا إعلام ما قد علمناه، وإذا كان كذلك ثبت أن في قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) إضمارًا يستقيم عليه المعنى في قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ)، وليس بين القراءتين اختلاف، ولكن إحداهما خرجت على الإجمال، والثانية على التفسير على ما قرئ في قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)، و: (أَيْمَانَهُمَا)، ولم يحمل ذلك على الاختلاف، بل حملت إحداهما على الإجمال والثانية على التفسير، فكذلك الأول، واللَّه أعلم. مع أنه لم يثبت اللفظ في قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأقله أن يكون من خبر الآحاد، ومعلوم أن خبر ابن مسعود وإن كان من خبر الآحاد فما يسنده إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مقبول، ولما وجب قبول خبر أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع ما قيل فيه من الضعف، فلأن يقبل خبر ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع فضله وورعه وكثرة صحبته مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتبحره في الفقه أولى، ومن هجر قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خيف عليه الزلة، ألا ترى إلى ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه سأل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ما تعدون آخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: كلا، كان يعرض القرآن على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كل عام مرة، وعرض عليه في العام الذي قبض فيه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مرتين، وقد شهدهما جميعا ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإذا كان ابن مسعود قراءته آخر القراءات، وهو الذي شهد قراءة القرآن على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آخر مرة لم ينبغ أن نعرض عن قراءته، ونهجره، واللَّه أعلم. وفي قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) دلالة أنه إنما يسكنها في جزء من أجزاء مسكنه، لا في الموضع الذي يسكنه هو؛ لأن حرف (من) للتجزئة والتبعيض. وقوله: (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ). يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما: أي: لا تضاروهن في الإنفاق عليهن فتضيقوا عليهن النفقة، فيخرجن، أو لا

تضاروهن في المسكن، فتدخلوا عليهن من غير استئذان؛ فيضيق عليهن المسكن؛ فيخرجن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). دل الأمر بالإنفاق على النهي عن الإخراج، كما دل النهي عن الإخراج على وجوب الإنفاق. ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحامل يحتمل أن يكون لمعنى: أنها في الحقيقة، لم تدخل في قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ)؛ لأنا قد وصفنا أنها نهيت عن الخروج لتحصين ماء الزوج، وإذا مضت تسعة أشهر فقد خرجت عن التحصين؛ فكان الواجب أن تسقط النفقة بعد التسعة، وقد ذكرنا هذا المعنى فيما تقدم. ويحتمل أن يكون الفائدة في تخصيص الحوامل بالإنفاق عندنا - واللَّه أعلم - أنه لولا هذه الآية، لكانت الحوامل يخرجن عن قوله - تعالى -: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)، ومن قوله: (وَلَا يَخْرُجْنَ)؛ لأن الأزواج لهم أن يحتجوا عليهن بأن حرمة النكاح في ذوات الأحمال ليس لحق الأزواج، ولكن لحق ما في بطنها من الولد؛ ألا ترى أنه يحرم عليها النكاح وإن كان الولد من غيره، وقد قلنا: إن النفقة إنما وجبت في غير الحوامل؛ لأنهن يحبسن عن نكاح الأجانب بحق الأزواج، فإذا كان الحبس في الحوامل لا لحق الأزواج، جاز أن يكون هذا حجة لهم في إسقاط النفقة عنهم، وإذا كان كذلك، حث اللَّه لهم في الإنفاق على الحوامل ما لم يضعن حملهن؛ لأن ذلك الحمل من أثر استمتاعهم المتقدم؛ ففائدة تخصيص ذكر الحوامل هذا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). هذا يتضمن أوجهًا من أدلة الفقه: أحدها: أنه قال: (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، ثبت أن الإرضاع كان بإجارة، وأنه إذا استأجرها ليرضع ولده منها بعد المفارقة، جازت الإجارة وحل لها أخذ الأجر، وأنه إذا استأجر امرأته في صلب النكاح على إرضاع ولده منها لم يجز، ولم يكن لها أخذ الأجر؛ لأن اللَّه - تعالى - ذكر بدل الرضاع في صلب النكاح بلفظ: (الرزق) بقوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ

(7)

رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، فإذا سمى ما ذكره اللَّه تعالى رزقًا: أجرًا، لم يكن أجرًا وكان بحق الرزق والكسوة؛ فلذلك لم تجز الإجارة في صلب النكاح، واللَّه أعلم. ثم قوله: (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). دليل على أن اللبن وإن خلق لمكان الولد فهو ملك لها، ولولا ذلك، لم يكن لها أن تأخذ الأجر على لبن ليس لها فيها ملك، وفيه دليل على أن حق الإرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات، ولولا ذلك لكان لها بعض الأجر دون الكل، فلما أمر بإيتاء كل الأجر، ثبت أن حق الإرضاع على الأزواج وعلى الزوجات الكفالة والإمساك، واللَّه أعلم. ولأجل أنا لو جعلنا اللبن ملكًا للولد مخلوقًا له، وجعلنا النفقة على الأم من مال نفسها، لكانت نفقتها تفنى ولا يتهيأ لها كسب النفقة؛ لاشتغالها بالإرضاع؛ فتجوع وتهلك ويذهب لبنها؛ فيبطل الإرضاع؛ فإذا كان إيجاب الإرضاع عليها يسقط من حيث يراد جعل النفقة، فأسقطنا عنها، وجعلنا ملك اللبن لها؛ لتأخذ الأجر عليه، واللَّه أعلم. وفي هذه الآية دلالة على أن الأجر إنما يجب بعد استيفاء المنافع، فإنه قال: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) إنما أوجب الإيتاء بعد الإرضاع. وفي قوله: (أُجُورَهُنَّ) دلالة على أن الإرضاع إنما هو بإجارة قد سبقت؛ لذلك قال أصحابنا: إن الأجرة إنما تجب عند استيفاء العمل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: - (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ)، له وجهان: أحدهما: أن يقول: (وَأْتَمِرُوا) يعني: تشاوروا في إرضاعه إذا تعاسرت هي. والثاني: (وَأْتَمِرُوا) أي: اعملوا بأمر من جعل اللَّه تعالى إليه الأمر بالمعروف، وهو الحاكم، إذا أمركم في أمر الولد بالمعروف. وقوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى). يعني: إذا تنازعتم في الرضاع، وأبت الأم أن ترضعه، فاطلبوا أخرى ترضعه عندها. وقوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7). أي: من وسع اللَّه عليه في الرزق، فلينفق نفقة واسعة، (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ)، يعني: ضيق عليه و (قُدِرَ) هاهنا بمعنى: ضيق عليه، وهو كما قال: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)

(8)

أي: فظن أن لم نضيق عليه، وكذلك قوله: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ)، يعني: ويضيق عليه، أي: من ضيق عليه، فلينفق نفقة ضيقة؛ فذلك قوله: (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا). فهو يدل على أن العباد ما اكتسبوا من الأموال، فهي كلها مما آتاهم اللَّه تعالى، وأن لله - تعالى - في أفعال العباد وفيما يكتسبونه من الأموال صنعا وتدبيرًا؛ لأنه لولا ذلك، لكان يجوز أن يكلفه اللَّه تعالى وإن لم يؤتها لهم، إذا كان في قدرته أن يكتسب ما لم يؤته اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا). هذا دليل على أنه إذا عجز عن نفقة امرأته، لم نفرق بينها وبينه؛ لأنه إذا فرق بينهما، لم نصل إلى زوج ينفق عليها للحال، بل نحتاج فيه إلى انقضاء العدة، وقد يتوهم في خلال ذلك أن يوسر الزوج؛ لأن إنجاز وعد اللَّه تعالى في اليسار بعد العسر أقرب من قدرتها على زوج ينفق عليها، وليس هذه كالأمة؛ لأنه إذا باع الأمة دخلت في ملك آخر ينفق عليها، واللَّه أعلم. ثم يجوز أن يكون قوله: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) وعدًا لجميع الأمة أن من ابتلى بالعسر يتبعه اليسر. ويجوز أن يكون خطابا لأصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين كانوا في عسر وضيق عيش، فوعدهم اللَّه - تعالى - بعد ذلك العسر الذي كانوا فيه يسرًا، وقد أنجز ذلك الوعد حيث فتح لهم الفتوح، ونصرهم على أعدائهم؛ فغنموا أموالهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ)، وصف اللَّه تعالى القرية

بالعتو، ومعلوم أنها لا تعتو، ولكن المراد منه، أي: عتا أهلها عن أمر ربهم، وقد يجوز أن يكنى بالمكان عن الأهل، كما قال في آية أخرى (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا)، يعني: واسأل أهل القرية وفي هذا دلالة أن ما خرج مخرج الكناية في الحقيقة، لم يكن كذبا، وإن كان في ظاهره يرى أنه كذب؛ ألا ترى إلى قوله: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً)، ومعلوم أنه لم يكن هناك نعجة، ولكن كناية عن النساء، فخرج على الصدق في الحقيقة؛ كأنه قال: إن هذا أخي، لو كان له تسع وتسعون امرأة، فكذلك الأول واللَّه أعلم. والعتو: النهاية في الاستكبار؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا): له أوجه من التأويل: أحدها: يقول: (فَحَاسَبْنَاهَا)، أي: بلغوا في الكفر والعتو والاستكبار مبلغا صاروا من أهل الحساب الشديد والعذاب المنكر. أو يجعل ما ذكر اللَّه تعالى من نزول النقمة بالأمم الماضية؛ لعتوهم واستكبارهم حسابًا شديدًا لهذه الأمة؛ ليتذكروا ويتعظوا. أو يكون معناه (فَحَاسَبْنَاهَا) أي: سنحاسب حسابًا شديدًا في الآخرة، كما كان معنى قوله - تعالى -: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ)، بمعنى: وإذ يقول اللَّه، فكذلك الأول، واللَّه أعلم. ووجه نزول هذه الآيات: أن يكون له معنيان: أحدهما: تخويف أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والكفرة من أهل مكة بما نزل بالأمم الخالية حين تركوا اتباع رسلهم والإيمان بهم، واستكبروا في أنفسهم، وعتوا لكي ينتهي أهل قريته - عليه السلام - عما هم فيه من الكفر والعتو، [ويحذروا] الوقوع فيه في حادث الأوقات. ويحتمل أن يكون هذا تسكينا لقلب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتهوينا عليه ما يلقى من كفر قومه وعصيانهم وعتوهم، وليعلم ما لقيت الرسل المتقدمة من أممهم حتى بلغ كفرهم واستكبارهم المبلغ الذي وقع اليأس منه عن إيمانهم، حتى أنزل اللَّه تعالى بهم ما أنزل من

(9)

النقم والعقوبة. ويجوز أن يكون هذه محنة امتحن بها رسوله؛ ليعلم شفقته على أمته في ترك الدعاء عليهم بالإهلاك، واللَّه أعلم. وقوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا ... (9). أي: شدة أمرها، أو نقمة أمرها، وعقوبة كفرها. وقوله: (وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا). أي: عاقبة عتوها خسارة في الآخرة. وقوله: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10). أي: فاتقوا اللَّه يا من تدعون أن لهم لُبًّا، فاتقوه عن أن تكفروا به وبرسوله. وفيه دلالة: أن خطاب اللَّه إنما يتناول العقلاء منهم، وأن من لا عقل له لا خطاب عليه. وقوله: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا)، له وجهان: أحدهما: أن يجعل الذكر والرسول كله واحدًا، فيقول: أنزل اللَّه إليكم ذكرا، وهو الرسول، وإنما سماه: ذكرا؛ لوجهين: أحدهما: أن من اتبعه شرُفَ وصار مذكورا. أو سماه: ذكرا؛ لأنه يذكرهم المصالح والمضار، وما يرجع إليهم من أمر دينهم وعقباهم. ويجوز أن يكون فيه إضمار، وهو أن يقول: أنزل اللَّه إليكم ذكرًا، وأرسل إليكم رسولا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ ... (11). بالخفض؛ فمعناه أنه يبين الحلال والحرام والأمر والنهي ونصب، الآيات والأعلام والحجج. فمن قرأ (مُبَيِّنَاتٍ) بالخفض، فمعناه: أنها تبين الحلال والحرام والأمر والنهي. ومن قرأ بالنصب؛ فكأنه يريد به: أن اللَّه - تعالى - أوضح آياته وبينها، حتى إن من تفكر فيها وفي جوهرها، علم أنها من عند اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) كل من

(12)

آمن، فقد خرج من الظلمات إلى النور. وإذا كان هذا هكذا فحق هذا الكلام أن يقول: ليخرج الذين كفروا من الظلمات إلى النور، ولكن يحتمل أن يكون معناه: ليخرج الذين يؤمنون؛ على ما جاز أن يراد من الماضي المستقبل. وقوله - تعالى -: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ). أي: إذ يقول اللَّه: يا عيسى ابن مريم، جاز أن يراد من المستقبل الماضي، وهذا سائغ في اللغة. ويحتمل أن يقول: ليخرج الذين آمنوا من ظلمات تحدث لهم بعد إيمانهم إلى النور، واللَّه أعلم. وقيل قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا) يعني: الذين وحدوا اللَّه، وعظموه وبجلوه من معاني الشبه ووصفوه بالتعالي عن العيوب والآفات، وعملوا في إيمانهم صالِحًا إذا خافوه ورجوه بإيمانهم وذلك عملهم الصالح في الإيمان، وذلك معنى قوله: (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)، ومعنى ذلك الكسب: ما وصفنا من التعظيم والتبجيل والرجاء والخوف في نفس الإيمان، واللَّه أعلم. ويجوز أن يكون معنى قوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) في أداء الفرائض التي افترض الله عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا). أي: طاعة في الدنيا وثوابا في الآخرة؛ وذلك معنى قوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، وفي هذه الآية دلالة أن من نال الإيمان، فإنما ناله بفضل اللَّه تعالى وبرحمته، لأنه لولا ذلك، لم يكن ليمن اللَّه - تعالى - عليه بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12). اختلفوا في قوله: (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ): منهم من قال (مِثْلَهُنَّ) أي: طباقًا مثل السماوات بعضها طباق فوق بعض. ومنهم من قال (مِثْلَهُنَّ) يعني: سبع جزائر، على مثل ما قال: (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ)، فكذلك خلق سبع جزائر. ومنهم من قال: خلق هذه الأرض التي نشاهدها على حد السماء ومقدارها، والست من وراء هذه السماء، واللَّه أعلم.

وليس بنا إلى أن نعرف ما بينها وكيفيتها وعددها حاجة؛ لأنه ليس في تعرفها حكم يتعلق به، واللَّه أعلم. وقوله: (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ). له تأويلان: أحدهما: ينزل الوحي بينهن، وما ينزل اللَّه تعالى من الكتب والرسل بينهن، ومعناه: أن اللَّه تعالى ذكر أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنهم لم يخصوا بمحنة الرسل والكتب والوحي، بل كل من في السماوات والأرض ممتحن بذلك. والثاني: (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) يعني التكوين، ووجه ذلك: أنه لا يخلو مكان في السماوات والأرض في كل وقت من مكون يكونه اللَّه تعالى، أو محدث يحدثه، وذلك قوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)؛ فيجوز أن يكون المراد بالأمر في قوله: (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ): أمر التكوين، ومعناه: ما وصفنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). أي: لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السماوات والأرض، وما جرى من التدبير فيهما أن من بلغت قدرته هذا المبلغ كانت قدرته ذاتية، لا يعجزه شيء عما أراده. أو يدل هذا التدبير أنه خرج عن عالم لا يخفى عليه شيء، واللَّه أعلم. قوله: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). يحتمل أوجها: أحدها: أن اللَّه تعالى على خلق فعل كل فاعل من خلائقه قدير. ووجه ذلك: أن اللَّه تعالى قد كان أعلمهم بخلق السماوات والأرضين بقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) فلما قال: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، لم يكن بد من أن يكون هذا في غير خلق السماوات والأرضين؛ فثبت أن فيه دلالة قدرته على خلق فعل كل مخلوق. ولأنه لما بلغ قدرته وتدبيره في السماوات والأرضين مع عظم أمرهما وشأنهما، ومع عجز البشر عن تدبير مثلهما؛ فلأن يبلغ قدرته وتدبيره فيما يقع فيه تدبير البشر -وهو أفعالهم- أحق، واللَّه المستعان. ووجه آخر: أن يقول: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بما وعد وأوعد أو على كل

شيء من منافع العباد ومضارهم قدير، وعلى قول المعتزلة: إن اللَّه تعالى لا يقدر على فعل بعوضة فما فوقها، ولا يقدر على إصلاح أحد من خلقه وإن أنفد جميع خزائنه، وإن من صلح فإنما يصلح بنفسه، ومن فسد فإنما يفسد بنفسه؛ وهذا خلاف ما وصف الله به نفسه من أنه على كل شيء قدير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا). يعني: أن علمه لا يشذ عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء من الفعل والأمر وغيره، واللَّه أعلم. تمت السورة. * * *

سورة التحريم

سُورَةُ التَّحْرِيمِ وهي مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ). هذا في الظاهر فظيع بأن يحرم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما أحل اللَّه له، ومن قال بأنه حرم ما أحل اللَّه، فقد قال قولا منكرًا، ولو اعتقد ذلك كان كفرا منه؛ إذ من حرم ما أحل الله تعالى كان كافرا، ومن كان اعتقاده في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هذا، فهو كافر. وقال أبو بكر الأصم: دلت هذه الآية على أن ليس لأحد أن يحرم ما أحله اللَّه تعالى؛ لأن اللَّه تعالى منع رسوله عن ذلك. لكن الأمر عندنا ليس على ما ظنه أبو بكر، ولا على ما سبق إليه ظن بعض الجهال: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حرم شيئًا أحله اللَّه تعالى، ومن توهم هذا في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقد حكم على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالكفر. وتأويله عندنا - واللَّه أعلم -: على وجهين: أحدهما: أن تحريم ما أحل تعالى هو أن يعتقد تحريم المحلل، وتحليل المحرم فيما حرم اللَّه تعالى مطلقًا، فمن اعتقد تحريمه حكم عليه بالكفر، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يعتقد تحريم ما أحل اللَّه تعالى؛ إذ لم ير جماعها عليه محرما، بل امتنع عن الانتفاع بها باليمين، والحرمة التي ثبتت بسبب اليمين، لم تكن من فعل الآدمي، وإن ثبتت بمباشرة السبب منه؛ كالتحريم بالطلاق وبغيره من الأسباب، وإنَّمَا تثبت من اللَّه تعالى عقيب مباشرة الأسباب من العباد، كسائر الأحكام، كيف وأنه باليمين لا تثبت حرمة نفس

الفعل، وإنما المحرم ترك تعظيم اللَّه تعالى الواجب بسبب اليمين، وهذا لا يعد تحريم الحلال وتحليل الحرام. أو أريد بالتحريم منع النفس عن ذلك مع اعتقاده بكونه حلالا، لا أن يكون قصد به قصد تحريم عينه، وقد يمتنع المرء عن تناول الحلال؛ لغرض له في ذلك؛ وهو كقوله تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ)، ولم يرد به تحريم عينه، ولا التحريم الشرعي؛ إذ الصبي ليس من أهله، وإنما أريد به امتناعه من الارتضاع إلا من ثدي أمه، فعلى ذلك هاهنا، واللَّه أعلم. والثاني: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان ندب إلى حسن العشرة مع أزواجه، وإلى الشفقة عليهن، والرحمة بهن، فبلغ في حسن العشرة والصحبة معهن مبلغا امتنع عن الانتفاع بما أحل اللَّه له، وأباح له التلذذ به؛ يبتغي به حسن عشرتهن، ويطلب به مرضاتهن، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)، أي: لا يبلغنَّ بك الشفقة عليهن وحسن العشرة معهن مبلغا تمتنع عن الانتفاع بما أحل اللَّه لك؛ فيخرج هذا مخرج تخفيف المؤنة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في حسن العشرة معهن، لا مخرج النهي والعتاب عن الزلة؛ وهو كقوله تعالى: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، تخفيفًا للأمر عليه، وكذلك قال: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)، ليس في الحقيقة نهيًا عن السخاء على النهاية، لكن تخفيفًا للأمر عليه: أن ليس عليك الإسراف في السخاء والنهاية في ذلك؛ بحيث لم تُبق لنفسك وعيالك شيئًا وتؤثر غيرك؛ فعلى ذلك قوله: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) خارج مخرج تخفيف المؤنة عليه في حسن العشرة، لا مخرج النهي، واللَّه أعلم. ثم اختلف أهل التأويل في سبب التحريم: فمنهم من ذكر أن حفصة - رضي اللَّه عنها - زارت أهلها، والنبي - عليه السلام - في بيت حفصة، فجاءت أم إبراهيم مارية القبطية حتى دخلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فواقعها، فجاءت حفصة، وهما نائمان فرجعت إلى بيت أهلها، فمكثت عامة الليل ... القصة، وقالت حفصة في آخر هذا الخبر: ما رأيت لي حرمة، وما عرفت لي حقًّا، فقال لها النبي - عليه السلام -: " اكتمي عليَّ، وهي علَيَّ حرام "، فنزلت هذه الآية.

(2)

ومنهم من يذكر: أن ذلك اليوم كان يوم عائشة - رضي اللَّه عنها - فاطلعت حفصة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وجاريته مارية، فأمرها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن تكتم عليه، فأخبرت حفصةُ بما رأت عائشةَ - رضي اللَّه عنها - فغضبت عائشة، فلم تزل بنبي اللَّه حتى حرمها، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية. وقال عكرمة: نزلت الآية في امرأة يقال لها: أم شريك وهبت نفسها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فلم يقبلها النبي - عليه السلام - طلبا مرضاة أزواجه؛ فنزلت الآية، واللَّه أعلم. ومنهم من قال: إن الذي حرمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان عسلا، كان رسول اللَّه - عليه السلام - شربه عند بعض نسائه، فقالت امرأة من نسائه لصاحبتها: إذا جاءك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقولي له: ما ريح المغافير فيك؟ فقالت للنبي؛ فحرمه النبي - عليه السلام - فنزلت هذه الآية. وليس لنا إلى تعرف السبب الذي وقع التحريم به، ولا إلى تعيين الشيء الذي حرمه النبي - عليه السلام - حاجة، ولكنا نعلم أن الأمر الذي كان فهو جرى بينه وبين زوجاته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أي: غفور لما تقدم من ذنبك وما تأخر لو كان. أو يكون رحيما؛ حيث لم يعاقبك بما اجترأت من الإقدام على اليمين؛ لا بإذن سبق من اللَّه تعالى لك فيه. أو غفور رحيم عليك وعلى زوجتيك إن تابتا ولم تعودا إلى صنيعهما. أو غفور رحيم بما خفف عليك من مؤنة العشرة، ولم يحمل عليك ما حملت على نفسك. وقوله - تعالى -: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2). فمنهم من يحمل هذا على ابتداء الخطاب، ويصرف المراد إلى غير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ بحكم وعد اللَّه - تعالى - فلم يكن يحتاج إلى التكفير، لإزالة المأثم. ولكن نحن نقول: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إن كان هذا محله، فهو وأمته في أحكام الشرائع مأخوذون، ويكون على هذا مغفرة زلاته: ما تقدم وما تأخر بمباشرة أسبابها من التوبة والكفارة، ونحو ذلك؛ فيكون قوله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) منصرفا إلى

النبي - عليه السلام - وأمته. ثم يجوز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قصد إلى التحريم أعني: منع نفسه عن الانتفاع بها مع اعتقاد الحل لا إلى اليمين؛ فجعل اللَّه تعالى ذلك منه يمينا؛ فيكون فيه دلالة على أن التحريم يمين؛ ولهذا قال أصحابنا - رحمهم اللَّه -: إن من قال لامرأته: " أنت عليَّ حرام "، ولا نية له، فهو يمين. وجائز أن يكون أفصح بالحلف؛ فكنى عنه باليمين. ثم قوله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) على قراءة العامة، وفي بعض القراءات: (قد فرض اللَّه لكم كفارة أيمانكم). ووجه الفرض فيه: أن الأمم من قبل، لم تكن يؤذن لهم بالحنث في اليمين، ولا أن يحلوا منها بالكفارة، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ)، فلم يأذن له بالحنث وأباح له الضرب، ثم أباح لهذه الأمة حل اليمين بالحنث والكفارة، فنسب الحل إلى الكفارة، ومرة إلى انحلالها بنفسها من جهة الحنث. ثم قوله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ) أي: وسع عليكم، وأحل لكم تحلة اليمين؛ ففي هذا أن كل ما ذكر فيه (كتب لكم)، أو: (فرض لكم)، فهو في موضع الإباحة والتوسيع، وما ذكر فيه (عَلَيْكُمُ) فهو على الإيجاب والإلزام؛ قال اللَّه تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، وقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)، وذلك كله في موضع الوجوب، وقال اللَّه تعالى: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، معناه: أباح لكم الدخول فيها. وقوله تعالى: (وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ). أي: أولى بكم فيما امتحنكم من الكفارة وغيرها. أو (وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ)، أي: أولى بكم في نصركم والدفع عنكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). أي: (الْعَلِيمُ) بمصالحكم أو مقاصدكم، أو بما تسرون وما تعلنون، أو بما كان ويكون، (الْحَكِيمُ): هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، أو حكيم بما حكم عليكم من تحلة الأيمان، واللَّه أعلم. ثم في قوله: (الْعَلِيمُ) إلزام المراقبة والمحافظة، ودعاء إلى التبصر والتيقظ في

كل ما يتعاطاه المرء من الأفعال، ويأتي به من الأقوال. وفي قوله: (الْحَكِيمُ) دعاء إلى التسليم بحكم اللَّه تعالى؛ إذ الحكيم لا يحكم على أحد إلا بما فيه حكمة وفائدة؛ فلزمه تسليم النفس لحكمه على وجه الحكمة فيه أو جهله. ثم الأصل بعد هذا: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أبيح له نكاح التسع، وأمر بأن يحسن صحبتهن ويبتغي مرضاتهن، والمرء يعسر عليه صحبة الأربع بحسن العشرة، ويتعذر عليه القسم والقيام بمرضاتهن جميعًا، فكيف إذا امتحن بصحبة التسع؟! فكانت المحنة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أمر النساء أعسر منه على غيره، وأمر مع هذا أيضًا بمعاملة الخلق مع اختلاف هممهم وأطوارهم بأحسن المعاملة، ولكن اللَّه تعالى لما امتحنه بما ذكرنا آتاه من الأخلاق الحميدة والشمائل المرضية ما خف بها عليه هذه المحنة، وسهل عليه المعاملة مع الجملة، وآتاه من القوة ما ملك بها حفظ حقوقهن وإرضاء جملتهن، حتى بلغ في حسن العشرة وابتغاء المرضاة ما عوتب عليه، وبلغ من جهده في الإسلام إلى أن قيل: (عَبَسَ وَتَوَلَّى)، وبلغ في الشفقة والرحمة على الأمة إلى أن قيل له: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، وقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وكان من عظيم خلقه ما جاوز خلقه قوة نفسه، فكادت نفسه تهلك فيه. ثم في قيامه - عليه السلام - بما يوفي حقوق التسع ويرضيهن دلالةُ نبوته ورسالته؛ لأن الناس إنما يقوون على الجماع بما يصيبون من فضل الأطعمة والأغذية، ثم هم مع أصابتهم فضول الأطعمة والأشياء اللذيذة يفْتُرون عن إيفاء حقوق الأربع، وقد كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آثر الزهدَ في الدنيا، وقلت رغبته في مطاعمها ومشاربها، وكان مع ذلك يفي بحقوقهن، فعلم بهذا أنه إنما وصل إلى ما ذكرنا بما قواه اللَّه - تعالى - عليه وأقدره، لا بالحيل والأسباب، ثم أزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - امتُحِنَ بالقيام بوفاء حق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأن ينظرن إليه بعين التبجيل والتعظيم، فكانت المحنة عليهن أشد من المحنة على غيرهن من النساء مع أزواجهن؛ لأن المرأة قلما تسلم عن رفع [صوتها] على صوت زوجها، إذا لم يكن له امرأة سواها، فكيف إذا كانت معها أخرى، ثم هن لو رفعن أصواتهن على صوت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أوجب ذلك إحباط عملهن؛ على ما قال تعالى: (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ

بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)؛ فلا يجوز أن يمتحن بهذه الكلفة الشديدة والمحنة العظيمة إلا بما شرح اللَّه تعالى صدورهن ويفسح قلوبهن؛ لاحتمال ذلك. ثم المحنة علينا بعد هذا أشد من المحنتين اللتين ذكرناهما؛ لأنا امتحنا بمعرفة ما ضمنته هذه الآية والاعتقاد بذلك وهي قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) فالذي علينا من المحنة أن نصرف الأمر إلى وجه لا يلحق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - به ثَمَّ بنقص؛ فيسلم من المؤاخذة؛ فجائز أن يصرف إلى ما ذكرنا من تخفيف الأمر على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتكون الآية في موضع تخفيف الأمر عليه ليس في موضع النهي، وإن خرجت مخرج النهي في الظاهر. وجائز أن يكون العتاب؛ لمكان مارية، إن كانت قصة التحريم من أجلها؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما أذن له بإمساك مارية، ولم يندب إلى تزويجها لتصل إلى قضاء شهوتها من قبل الأزواج، فإنما تتوصل إلى قضاء شهوتها برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم هو بتحريمها على نفسه لم يمنع عنها الحق، إذ الأمة لا حظ لها في القسم؛ فيلحقه العتاب من هذه الجهة، ولكن لما كان لها فيه مطمع، وهو بالتحريم قطع طمعها، فقيل له: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) قضاء تلك الشهوة، أي: لم تمنع نفسك عن قضاء شهوة أباحها اللَّه تعالى لها، فيكون في العتاب دعاء له إلى أن يعمل بأحد الوجهين: أحدهما: وهو أن يوصلها إلى ما طمعت منه لا أن يقطع طمعها عنه، وإن لم يكن لها فيما طمعت حق، واللَّه أعلم. والمحنة الثانية علينا: ألا ننسب إلى أزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما تكره أنفسنا نسبة مثله إلى الأمهات؛ لأن لأزواجه علينا حق الأمهات، فإن أمكنا أن نخرج من أمرهن وجهًا يسلم عن تنقصهن فعلنا، وإلا أمسكنا عن ذكره؛ خشية التنقص، وترك التبجيل والتعظيم؛ ألا ترى إلى قول اللَّه تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)، وهكذا الواجب على كل مؤمن ألا يظن بأزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورضي عنهن إلا خيرًا، وألا ينظر إليهن إلا بعين التعظيم، وقال أيضًا: (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)، وإذا كان هذا حقهن علينا فلا يجب أن نذكر زلتهن كانت كيت وكيت؛ لما يتوهم أن يكون زلتهن دون الذي خطر على بالنا فنكون قد أعظمنا القول

فيهن؛ فيصيبنا من ذلك عذاب عظيم؛ كما قال: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). ولقائل أن يقول في قوله: (هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ): من أي وجه صار بهتانا عظيما، ونساء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن معصومات، بل كان يتوهم منهن الصنع الذي رمين به؟! فجوابه: أن أزواجه كن بالمحل الذي إذا ابتلين بزلة: سرًّا، أو جهرًا أطلع اللَّه تعالى ذلك نبيه - عليه السلام - ألا ترى أن إحداهن لما أفشت سر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى أخرى أطلع اللَّه - تعالى - نبيه على ذلك، فإذا كان لا يستر عليهن هذا القدر من الزلة، فكيف يستر عليهن فعل الزنى منهن؟! ولو وجد من التي رميت فعل الزنى، لكان يسبق الاطلاع من اللَّه تعالى لرسوله - عليه السلام - قبل أن يجري به التحدث على ألسن الخلق، فإذا لم يسبق أوجب ذلك المعنى براءة ساحتها عما رميت به، وصار الرامي لها به قائلا بالبهتان والزور. وفي هذه الآية دلالة جواز العمل بالاجتهاد لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا بإذن سبق من الله تعالى؛ إذ لو كان الإذن سابقًا، لما عوتب عليه؛ لما ذكرنا: أنه لم يعاتب لزلة ارتكبها حتى يكون فيه منع عن العمل بالاجتهاد، وإنما عوتب لمكان ما حمل على نفسه من فضل المؤنة في العشرة. ثم الأصل: أن الإماء لا حظ لهن في القسم، ولسن لهن من الأيام ما يكون مثله للحرائر حتى كان يقسم لها فيؤدي فيه حقها، وقد أذن له في إمساكها وألا يزوجها؛ فلا يجوز ألا يؤمر بتزويجها، ثم هو لا يسكن شهوتها، ثم هو إنما يصل إلى قضاء وطرها وتسكين شهوتها في يوم ذلك اليومُ لزوجة من زوجاته، فجائز أن يكون اللَّه تعالى أكرمه أن يسكن شهوتها ويأتيها من حيث لا يعلم أزواجه بذلك، ثم أطلع بعض نسائه على فعله ليعلمن أن المحنة عليهن بعد العلم وقبل العلم واحدة، وأن عليهن أن يعظمن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وألا يحملهن الغيرة على الاستقبال له بالمكروه والنظر إليه بالتنقص؛ إذ لم يكن عليهن فيما يأتي تلك الأمة في أيامهن تقصير في حقهن؛ إذ كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعطي من القوة في الجماع ما يطوف على جميع نسائه في ليلة واحدة.

(3)

وأما ما ذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان كف نفسه عن شرب العسل، فذلك يحتمل أيضًا، ولكن ما ذكر من تحريم مارية أمكن؛ لأنه لا يحتمل أن يكون لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في شرب العسل من الرغبة ما يدخل على نسائه المكروه لأجله، وجائز أن يلحقهن في استمتاعه بأمته مكروه فيحملهن ذلك على ما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3). دل قوله: (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أنه قد طلب منها إسرار ذلك الحديث الذي أسر إليها، وليس بنا حاجة إلى تعرف الحديث الذي أسر إليها. وفيه دلالة: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما علم بإفشائها سره إلى صاحبتها باللَّه تعالى، وهو قوله: (وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ). فقوله: (عَرَّفَ) قرئ بالتخفيف والتشديد، فمن قرأه بالتشديد، فهو على أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عرفها بعض ما أنبأت من القصة التي أسر إليها، ولم يعرفها البعض؛ لأنه لم يكن القصد من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يخبرها بذلك النبأ الذي أسر به إليها، وإنما كان المقصود منه تنبيهها بما أظهرت من السر، وأفشت إلى صاحبتها؛ لتنزجر إلى المعاودة إلى مثله، والبعض من ذلك يعلمها ما يعلم الكل، فلم يكن إلى إظهار الكل حاجة. وذكر في بعض الأخبار أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لها: " ألم أقل لك "؟! وسكت عليه، وفي هذا آية لرسالته ومنعهن عن إسرار ما يحتشمن عن إبداء مثله لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإنهن إن فعلن ذلك، أظهر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك؛ فيعلم ما يسرون. ومن قرأه (عَرَفَ) بالتخفيف، فهو يحمله على الجزاء فيقول: (عَرَفَ بَعْضهُ) أي: جزى عن بعض ما استوجبته بإفشاء السر، وأعرض عن بعض الجزاء؛ يقول الرجل لآخر: عرف حقي فعرفت له حقه، أو عرفت حقي فسأعرف حقك، أي: أقوم بجزاء ذلك، وذكر في الأخبار أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - طلق حفصة تطليقة، ثم نزل جبريل - عليه السلام - فقال له: راجعها؛ فإنها صوامة قوامة، وإنها لزوجتك في الجنة؛ فجائز أن يكون، طلاقه إياها جزاء لبعض صنيعها.

(4)

ثم من الناس من يختار إحدى القراءتين على الأخرى، فيقرأ إحداهما ويرغب عن الأخرى، وذلك مما لا يحل؛ لأن الأمرين جميعًا قد وجدا، وهو الجزاء والتعريف، فجمع اللَّه تعالى الأمرين جميعًا في آية واحدة، وفصل بين الأمرين بالإعراب؛ فليس لأحد أن يؤثر إحدى القراءتين على الأخرى؛ وهذا كقوله تعالى في قصة موسى - عليه السلام - (لقد علمتُ)، و (عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقد علم موسى - عليه السلام - وعلم فرعون اللعين، فقد كان الأمران جميعًا، فجمع اللَّه تعالى بين الأمرين جميعًا في آية واحدة؛ فلا يحل لأحد أن يقرأ بأحد الوجهين ويمتنع عن الوجه الآخر؛ فكذلك هذا في قوله تعالى: (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، و (بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، فمن قرأه (بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) حمله على الدعاء، ومن قرأه (باعَدَ) حمله على الإخبار، وقد كان الأمران جميعًا: الدعاء والإخبار؛ فليس لأحد أن يؤثر أحدهما على الآخر، فعلى ذلك الحكم في قوله: (عَرَفَ بعضه) و (عَرَّفَ بَعْضَهُ)، واللَّه أعلم. وقد وصفنا تأويل قوله: (الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) فيهما ما يدعو الإنسان إلى المراقبة والتيقظ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4). في هذه الآية دلالة أن الحديث الذي أفشي كان بين زوجتين؛ لأن قوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ويدل على ذلك، فإنه كان أسر النبي - عليه السلا - عند إحداهما، ومنعها أن تفشي إلى الأخرى فأفشت، لكنا لا نعلم أن ذلك الحديث كان ماذا؟ لكنه كان منهما ما يجوز أن تعاتبا به وتدعيا إلى التوبة؛ لقوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ)، وإن خفي ذلك علينا، ثم إذا عرفنا أن اللَّه - تعالى - جعل عقوبتهن وتأديبهن أشد من العقوبة على غيرهن بقوله: (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)، فيجوز أن يندبن إلى التوبة بأدنى زلة حقها التجاوز عن غيرهن. ثم قوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) فجائز أن يكون قوله: (إِن) زيادة في الكلام، وحقه الحذف، فيكون معناه: توبا إلى اللَّه؛ فقد صغت قلوبكما، ويوقف عليه ثم يبدأ بقوله: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ). وجائز أن يكون حقه الإثبات، فلا يكون حرف (إِن) زيادة، ويكون معناه: إن تتوبا

إلى اللَّه، وإلا فإن اللَّه هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين فيكون الجزاء فيه مضمرًا. وجائز أن يكون جزاء صنيعهن أن يطلقهن، فكأنه قال: إن تتوبا إلى اللَّه وإلا طلقكن، فيكون في هذا أنه حبب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إليهن حتى اشتد عليهن الطلاق، وخرج الطلاق مخرج العقوبة لهن على صنيعهن، واللَّه أعلم. وقوله: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا). أي: مالت عن الحق الذي لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عليكما، وحق الرسول - عليه السلام - حق عظيم يرد فيه العتاب بأدنى تقصير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ). هذا في الظاهر معاتبة؛ فينبغي أن يذكر على المخاطبة، فيقال: وإن تظاهرتما عليه، كما قال تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ)، قيل: جائز أن يكون معنى قوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) تامًّا ورجعت على إرادة المعاتبة، وإن كان اللفظ لفظ المخاطبة، ولكن الصحيح: أن قوله: (وَإِنْ تَظَاهَرَا) على المخاطبة، معناه: وإن تتظاهرا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ). حق هذا أن يقف عليه ثم يقول: (وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)؛ حتى لا يتوهم أن غير اللَّه تعالى مولاه، ثم ذكر هذا إبلاغ في التهويل، وإلا فالواحد من هَؤُلَاءِ المذكورين يكفي لأزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك في ذكر عقوبتهن إذا وجد منهن الخلاف في قوله: (يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ). والأصل: أن المبالغة في التأديب مما يعين المؤدب على حفظ الحدود، وكذلك المجاوزة في حد العقوبة معونة له في تأديب النفس؛ حتى يملك حفظ نفسه عما تدعو إليه نفسه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ). قيل: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ): أبو بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - وذكر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما طلق حفصة دخل عليها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: " لو علم اللَّه - تعالى - في آل عمر خيرا ما طلقك رسول اللَّه "، فنزل جبريل - عليه السلام - على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

(5)

يأمره بمراجعتها، وذكر أنها صوامة قوامة؛ فجائز أن تكون حفصة - رضي اللَّه عنها - تصوم النهار وتقوم الليل في غير نوبتها؛ فلا يعلم بذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأطلعه جبريل - عليه السلام - على ذلك. وروي عن أبي أمامة الباهلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أبو بكر وعمر "، رضي اللَّه عنهما. وقيل: هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. وذكر عن الحسن أنه قال: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) من لم يسر نفاقا ولا أظهر فسقا، ثم خص من المؤمنين الصالحين منهم، ولم يعم جملة المؤمنين، فهذا - واللَّه أعلم - لأنه لو ذكر المؤمنين على الإجمال لدخل فيه الزوجان اللتان تظاهرتا؛ لأن إصغاء القلب لا يخرجهما عن أن تكونا من جملة المؤمنين؛ ولأنه ذكر هذا في موضع المعونة في أمر الدِّين، وصالح المؤمنين هم الذين يقومون بالمعونات في أمر الدِّين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5). وعلى قول المعتزلة: لا يملك أن يبدل خيرا منهن؛ إذ لا يقدر على أن يجعل في أحد خيرا على قولهم، ولا يملك أن يبدله أزواجا؛ لأنه لا يقدر -على زعمهم- على أن يجعل أحدا من النسوان زوجة لأحد من الرجال، وإنَّمَا المشيئة والاختيار إلى المتزوج والمتزوجة، والفعل منهما. وعلى قولنا: يملك أن يجعل الخير لمن شاء فيما شاء، وله أن يجعل من النسوان زوجة لمن شاء من الرجال، فهذه الآية تشهد بالصدق؛ لمقالتنا، وترد على المعتزلة قولهم؛ لأنه جعل الإبدال إلى نفسه؛ بقوله: (يُبْدِلَهُ)، وعلى قولهم لا يملك أن يفي بما وعد، ثم في هذه الآية إباحة الإبدال وإباحة الطلاق لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفي قوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)، حظر الإبدال؛ فجائز أن يكون قوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)، مقدما، وقوله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) متأخرًا؛ فيصير ما تقدم منسوخا بهذه الآية، والذي يدل على صحة هذا ما روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: " ما خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الدنيا حتى أحلت له النساء "، فثبت أن الحظر كان متقدما ثم وردت الإباحة من بعد، فتحمل الآيتان على التناسخ؛ ليرتفع التناقض من بينهما.

وجائز أن يكون حظر عليه الإبدال إذا قصد بالطلاق قصد الإبدال بما أعجبه من الحسن؛ كما قال: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ. . .) الآية، فإذا كان قصده من الطلاق الإبدال، كان ذلك محظورا عليه، وإذا لم يقصد بالطلاق قصد الإبدال، ولكن يقصد به قصد المجازاة للخلاف الذي ظهر، أبيح له ذلك، ثم اللَّه تعالى يبدله خيرا من المطلقة وهو ليس يقصد بالطلاق في قوله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) قصد الإبدال، وإذا كان كذلك، سلمت الآيتان عن التناقض. وذكر عن أُبي بن كعب - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه سئل: أكان يحل لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إبدال امرأة بامرأة؟ فقال: بلى، فسئل عن قوله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)، فقال: هذا منصرف إلى من هن من وراء المسميات؛ وهو كقوله تعالى: (وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ. . .) إلى قوله: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ)، فذكر بنات العم وبنات الخال والأجنبيات، وحظر عليه من سواهن من المحارم، فيكون فيه إبانة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد كان حظر عليه تزوج محارمه من ذوي الرحم كما حظر على غيره؛ إذ هو موضع الإشكال: أنه لما حل له زيادة على الأربع، يحل له ذوات الأرحام من المحارم، فزال الإشكال به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَيْرًا مِنْكُنَّ). فجائز أن يكون خيرا منهن للرسول - عليه السلام - لا أن يكن خيرا في أنفسهن؛ لأنه قال: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ)، وقد كان أزواجه على هذا الوجه: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ)؛ ألا ترى إلى ما ذكر أن جبريل - عليه السلام - قال لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: راجع حفصة؛ فإنها صوامة قوامة، والذي يدل على هذا أيضًا في آخر هذه الآية: (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) وقد وجدت هاتان الصفتان في أزواجه؛ فثبت أن معناه ما ذكرنا. وجائز أن يكن خيرا منهن أيضًا في أنفسهن من حيث الجمال والنسب، ونحو ذلك. أو يصرف (خَيْرًا مِنْكُنَّ) لما يتركن الخلاف لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا يتظاهرن عليه، ويكن هَؤُلَاءِ دونهن إذا التزمن الخلاف، ودُمْنَ على التظاهر، فأما إذا أمسكن عن الخلاف وتُبْنَ عما سبق من الخلاف فهن وغيرهن بمحل واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ).

قد بينا أن كل مسلم مؤمن في التحصيل؛ لأن معنى الإسلام والإيمان واحد؛ إذ الإسلام: هو أن يجعل الأشياء كلها لله خالصة سالمة لا يشرك فيها غيره، والإيمان: التصديق، وهو أن يصدق أن اللَّه تعالى رب كل شيء، وإذا صدقته أنه رب كل شيء فقد جعلت الأشياء كلها سالمة له، أو تصدق كلًّا فيما يشهد لله تعالى في الربوبية بجوهره، فثبت أن كل واحد منهما يقتضي ما يقتضيه الآخر من المعنى، فإذا ذكر أحدهما بالإفراد، فقي ذكره ذكر الآخر، وإذا جمع في الذكر، صرف هذا إلى وجه، وهذا إلى وجه، وهذا كما ذكرنا في التقوى أنه يقتضي معنى الإحسان إذا ذكر مفردا؛ لأن التقوى هو أن يتقي من المهالك، والاتقاء عن المهالك يقع باكتساب المحاسن، وإذا ذكرا معا صرف التقوى إلى الاتقاء من الكفر والإحسان إلى فعل الخيرات، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لم يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه "، وقال: " المسلم من سلم الناس من لسانه ويده "، فصرف هذا إلى وجه وهذا إلى وجه، وهما في التحصيل واحد؛ لأنهم إذا أمنوا بوائقه فقد سلموا من لسانه ويده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَانِتَاتٍ). قيل: مطيعات. وقيل: القائمات بالليالي للصلاة، وهذا أشبه؛ لأنه ذكر السائحات بعد هذا، والسائحات الصائمات، وذكر الصيام بالنهار، فيكون تأويل القانتات راجعا إلى قيام الليل؛ ليكون فيه إحياء الليل والنهار بالعبادة؛ ولذلك قال جبريل - عليه السلام - في وصف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " إنها صوامة قوامة " أي صوامة بالنهار وقوامة بالليل، وذكر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن أفضل الأعمال، فقال: " طول القنوت "، وهو القيام بالليل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَائِبَاتٍ). هن اللائي لا يصررن على الذنب، بل يفزعن إلى اللَّه تعالى بالتوبة والتضرع إذا ابتلين بالخطيئة. وقوله: (عَابِدَاتٍ).

(6)

ذكر أبو بكر أن العابد لا يسمى: عابدا حتى يتطوع، فإن كان على هذا، ففيه أنهن يقمن بأداء الفرائض، ويتطوعن مع ذلك. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: " كل عبادة في القرآن فهي توحيد؛ فالعابدات: الموحدات "، والموحد هو الذي يصدق أن خالق الخلق كله واحد لا شريك له؛ فجائز أن يكون العابد موحدا؛ لأنه يعمل لله تعالى خالصا لا يشرك في عبادته أحدا؛ فيكون فيه معنى التوحيد ولكن من حيث الفعل؛ فيكون أحد التوحيدين بالقول والثاني بالمعاملة والفعل. وقيل: العابد هو الذي يؤدي الفرائض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَائِحَاتٍ). هو الذي يسيح في الأرض بغير زاد، فسمي الصائم: سائحا؛ لما كف نفسه عن التناول من الزاد، فقوله: (سَائِحَاتٍ) أي: صائمات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) ولم يرد بهذا أنه ينشئ نسوة أبكارا وثيبات، ولكن معناه: أنه يبدله من كن بهذا الوصف، ثم جمع بين الثيبات والأبكار؛ لأن الثيبات مما يقل رغبة الخلق فيهن، وينفر عنه الطبع، فجمع بينهما في موضع الامتنان على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لئلا تصرف كل الرغبة إلى الأبكار، بل يتزوجوا الثيبات كما يتزوجون الأبكار، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).

يحتمل أن يكون معناه: قوا أنفسكم مما تدعو إليه أنفسكم؛ لأن الأنفس تأمرهم بالسوء وتدعوهم إليه؛ كما قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ). وجائز أن يكون قوله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ)، أي: قوها عن الطريق الذي إذا سلكتموه أفضى بكم إلى النار، وقوا أهليكم - أيضًا - عن ذلك الطريق، وذلك يكون بالعمل؛ لأن العمل على ضربين: عمل يفضي بصاحبه إلى الجنة، وعمل يفضي بصاحبه إلى النار، فيكون التقوى في هذا الوجه راجعا إلى الأعمال، وفي الوجه الأول إلى الأنفس. ويحتمل قوا أنفسكم باكتساب الأسباب التي هي أسباب النجاة عن العطب والهلاك، وأهليكم في أن تعلموهم الأسباب التي هي أسباب الخلاص من النار. وقال مجاهد: تأويله: قوا أنفسكم وأهليكم النار، ثم علمنا وجه الاتقاء بقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). قال: من التضرع إليه والفزع لديه؛ ليكون هو بفضله يقي عنا النار؛ لما علم ألا نصل إليه بقوى أنفسنا وحيلنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ). فهذا على المبالغة في وصف شدة النار، وأخبر أن شدتها تنتهي إلى هذا في أن صير الناس وقودا لها وكذلك الحجارة، والناس والحجارة لا يتقدان في النار؛ لأن النار إذا عملت في الإنسان حرقته ولم تبقه؛ فلا يصير وقودًا، وكذلك إذا أصابت الحجارة رضَّتها ولاشتها، فيكون فيه تبين شدتها؛ إبلاغا في الزجر. وجائز أن يكون أريد بالحجارة: التي اتخذوها أصناما يعبدونها من دون اللَّه، فكانوا يعبدونها لتنصرهم وتدفع عنهم العذاب؛ كما قال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ)، وقال: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)، أي: تصير عذابا عليها، وهم رجوا أن تكون سببا لخلاصهم؛ فصارت عليهم ضدًّا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ).

فجائز أن يكون هذا وصفهم: أنهم خلقوا غلاظا شدادا. وجائز أن يكونوا أشداء على الكفار وأعداء اللَّه تعالى، رحماء على أوليائه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، فبين أن اشتدادهم؛ لمكان الأمر؛ وهو كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، وصفهم بالشدة على الكفرة وبالرحمة على المؤمنين؛ فجائز أن يكون الملائكة كذلك في الآخرة، وفي هذا دلالة أن الملائكة امتحنوا بالأمر والنهي في الآخرة؛ لأن ملائكة الرحمة امتحنوا بإتيان التحف والكرامات إلى أهل الجنة، وملائكة العذاب امتحنوا بتعذيب أهل النار وبالغلظة عليهم والشدة، وإذا أمر كل واحد من الفريقين بما ذكرنا، فقد نُهي عن تركه. قال أبو بكر الأصم: في قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، وفي قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا. . .) الآية إلزام الوعيد بأهل الصلاة لأنه ألزمهم الاتقاء من النار، وألزمهم التوبة؛ ليكفر عنهم سيئاتهم، ولو لم يكن الوعيد لازما عليهم لم يكونوا يحتاجون إلى الاتقاء، وهذا منه ومن جملة أهل الاعتزال تحريف الكلام عن مواضعه؛ لأن اللَّه تعالى ذكر هذا الوعيد في أهل الإيمان بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)، ولم يذكر اللَّه - تعالى - أهل الصلاة، ولا ألحق بهم الوعيد، فهم يقطعون الوعيد عمن ألحق اللَّه تعالى بهم الوعيد وهم المؤمنون، ويلزمونه على من لم يجر ذكره في القرآن من أهل الصلاة ولا ألحق به الوعيد، وهذا تحريف الكلام وقلب القصة؛ ولأنه صار من أهل الصلاة بإيمانه؛ إذ لولا إيمانه لما كان هو من أهل الصلاة، فإذا ألحقوا الوعيد بأهل الصلاة فقد ألحقوه بأهل الإيمان؛ فلم يبق بيننا وبينهم إلا سوء الخلق، وإلا فلا معنى لقلبه عن أهل الإيمان وإلحاقه بأهل الصلاة، وأهل الصلاة هم أهل الإيمان. ثم الوعيد على قولهم إنما يلزم أهل الإيمان في وقت خروجهم من الإيمان، ونحن

(7)

نقول في الوعيد المذكور في أهل الإيمان: إنه يجوز أن يلحقهم وقت إيمانهم، ويعذبهم اللَّه تعالى بإجرامهم. ويحتمل أن يقع لهم الوعيد إذا خرجوا من الإيمان، وهم يقطعون الوعيد عن أحد الوجهين ويجعلونه على الوجه الآخر، ونحن نلزمهم الوعيد إذا خرجوا من الإيمان، أولا ننفي الوعيد عين لم يخرج بعد من إييانه، فصرنا نحن أشد استعمالا لما يقتضيه ظاهر الآيات منهم؛ فصار العموم حجة عليهم لا علينا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7). ليس في هذا نفي قبول العذر لو كان لهم عذر، ولكن اعتذارهم هو الندم عما كانوا فيه والإنابة إلى اللَّه تعالى والتوبة إليه، وليس ذلك وقت قبول التوبة؛ لأن ذلك الوقت هو وقت خروج ملك أنفسهم عن أنفسهم، فلا يقبل في ذلك الوقت إيمان ولا عمل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). يعني: أن عملكم السوء هو الذي ألزمكم العذاب في الحكمة؛ فتجزون بعملكم ولستم تجزون بمنفعة ترجع إلينا أو بما حملتم من أوزار الغير، ولكن بأعمالكم الخبيثة التي في الحكمة التعذيب عليها، وفي هذا دلالة نفي العذاب عن أطفال المشركين؛ لأنه لم يوجد منهم عمل؛ فيجزون بعملهم، ولا يجوز أن يعذبوا بذنوب آبائهم؛ لأنه أخبر أن كلًّا يجزى بعمله لا بعمل غيره، واللَّه أعلم. وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8). ففي هذه الآية إلزام التوبة على بقاء اسم الإيمان؛ لأنه ألزمهم التوبة بعد أن سماهم مؤمنين، وأخبر أنه يكفر عنهم سيئاتهم بالتوبة، ومن مذهب الاعتزال: أن الصغائر مغفورة لأربابها إذا اجتنبوا الكبائر؛ فلا يحتاجون إلى التوبة عنها، وإذا كان كذلك فالآية في الكبائر عندهم، والكبائر تخرج أهلها -على قولهم- من الإيمان، واللَّه - تعالى - قد أبقى لهم اسم الإيمان، فمن أزال عنهم الإثم، فقد خالف نص القرآن. وإن زعموا أن الآية في الصغائر ففيه دلالة على أن اللَّه تعالى يعذب على الصغائر وأنها

غير مغفورة، حتى وقعت لهم الحاجة إلى التوبة وطلب المغفرة، وقال أيضًا في آية أخرى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فإما أن يكونوا أمروا بالتوبة عن الصغائر؛ فيكون فيه دلالة على أنها ليست بمغفورة؛ إذا احتاجوا إلى التوبة عن الصغائر، أو عن الكبائر؛ فيكون فيه دلالة بقائهم على الإيمان! وكذلك قال: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، وإن كان استغفاره هذا عن الصغائر، ففيه دلالة على أنها غير مغفورة؛ لحاجته إلى طلب المغفرة، ولو كان الأمر على ما ظنت المعتزلة، لكان سؤاله المغفرة يخرج مخرج الاستهزاء برب العالمين؛ لأنه يطلب منه ما لا يملك، وذلك في الشاهد هزء واستخفاف بالمسئول. وإن كان في الكبائر، ففيه دلالة بقائهم وثباتهم على الإيمان؛ لأنه قال: (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ). ثم قوله تعالى: (تَوْبَةً نَصُوحًا). قرئ بنصب النون وضمها: (نُصُوحًا)، والضم يخرج مخرج المصدر، والنصوح -بالفتح-: يخرج مخرج النعت للتوبة، والفَعُول من الأفعال هو اسم للمبالغة في الأمر، فكأنه يقول: توبوا توبة تناهت في نصحها، والمبالغة في النصح أن يكون صادقا في توبته، وعلامة الصدق أن يكون نادما بقلبه عما فعل، عازما على ألا يرجع إليه، وأن يقلع يديه عما كان فيه من المعاصي، وأن يستغفر اللَّه بلسانه؛ فيستعمل كل جسده في الندم والانقلاع، كما استعمل سائره في التلذذ بالمآثم؛ فذلك هو المبالغة في النصح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) بالتوبة، ففي هذا إبانة أن من السيئات سيئات لا تكفر إلا بالتوبة، ومنها ما يكفر باجتناب الكبائر بقوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)، لا أن يكفر كلها بالاجتناب عن الكبائر كما زعمت المعتزلة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). وقد سبق بيان هذا. وقوله - تعالى -: (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). وللمعتزلة بهذه الآية تعلق، وهو أن قالوا بأن اللَّه تعالى أخبر أنه لا يخزي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -

(9)

والمؤمنين، والإخزاء يقع بالعذاب؛ فقد وعد ألا يعذب الذين آمنوا، ولو كان أصحاب الكبائر مؤمنين لم يخف عليهم العذاب؛ إذ قد وعد ألا يخزي المؤمنين ومن قولكم: إنهم يُخاف عليهم العقاب؛ فثبت أنهم ليسوا بمؤمنين. ولكن نقول: إن هذا السؤال يلزمهم من الوجه الذي أرادوا إلزام خصومهم؛ لأن في الآية وعدا بألا يخزي الذين آمنوا، وهم مقرون بأن أهل الكبائر ممن قد آمنوا، ولكنهم بعد ارتكابهم الكبائر ليسوا بمؤمنين، والآية لم تنطق بنفي الإخزاء عن المؤمنين؛ لأنه لم يقل: يوم لا يخزي اللَّه النبي والمؤمنين، وإنَّمَا قال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)، وهم يقطعون القول بإخزاء من قد آمن؛ فصاروا هم المحجوجين بهذه الآية، ثم حق هذه الآية عندنا أن نقف على قوله: (النَّبِيَّ)، أي: لا يخزيه اللَّه تعالى في أن يرد شفاعته أو يعذبه، وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)، ابتداء كلام وخبره (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ)؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ). أو لا نخزي الذين آمنوا بعد شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويحتمل أن الإخزاء هو الفضيحة، أي: لا يفضحهم يوم القيامة بين أيدي الكفار، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا يقف عليه الكفرة، والخزي: هو الفضيحة، وهتك الستر، ولا يفعل ذلك بالمؤمنين بفضله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ). أي: بين أيديهم إذا مشوا، وبإيمانهم عند الحساب؛ لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم، وفيه نور وخير، أو يسعى النور بين أيديهم في موضع وضع الأقدام وبأيمانهم؛ لأن ذلك طريقهم وشمالهم طريق الكفرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا). جائز أن يقولوا هذا عند انطفاء نور المنافقين؛ فيخافون انقطاع ذلك النور عنهم أيضًا. أو يقولون هذا عند ضعف النور، فيسألونه إتمامه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) قيل: جاهد الكفار

بالسيف، والمنافقين بإقامة الحدود عليهم؛ وذلك أن المنافقين هم الذين كانوا يرتكبون المآثم التي أوجب فيها الحدود ففيهم نزلت الحدود، وأما أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقد عصموا عن المآثم التي لها الحدود. وقالت الباطنية في قوله: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) أي: جاهد الكفار والمنافقين بالقتال، فكان مأمورا بالقتال مع الفريقين جميعًا، ولكنه اشتغل بقتال أهل الكفر، ولم يتفرغ لقتال أهل النفاق فتولى قتالهم علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وما ذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه حين رأى عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخصف نعله: " إن خاصف نعله يقاتل على التأويل كما نقاتل نحن على التنزيل "، وقتاله على التأويل قتال أهل النفاق، فإن كان الأمر على ما ذكروا من القتال فأبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو الذي تولى قتال أهل النفاق لا عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه ذكر أن العرب ارتدت بعدما قبض رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقاتلهم أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وارتدادهم يدل على أنهم لم يكونوا محققين في إيمانهم؛ إذ لو كانوا كذلك لم يرجعوا بل كانوا منافقين، وأما الذين قاتلهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يكونوا منافقين بل كانوا يدعون عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أن يحكم بكتاب اللَّه تعالى، والمنافق هو الذي يظهر من نفسه أنه يعمل بحكم اللَّه تعالى، ثم يسر بخلاف حكمه، لا أن يدعو إلى العمل بحكم اللَّه تعالى، وهذه السمة ظهرت في الذين قاتلهم أبو بكر دون الذين قاتلهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم مجاهدته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تقرير الحجة في قلوب الكفرة والمنافقين وإلزامها عليهم، وذلك يكون مرة بالسيف ومرة بإلزامها باللسان. ووجه إلزام الحجة بالسيف ما ذكرنا أن غلبته على الأعداء مع كثرتهم وقوة شوكتهم وقلة أنصار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يظهر لهم نصر اللَّه إياه وكونه على الحق، فيحملهم ذلك على الإيمان باللَّه تعالى، وإذا كان كذلك فقوله: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) في إلزام الحجة؛ فإن كانوا في موضع أمن فمجاهدتهم في إلزام الحجة عليهم من جهة القول، وإن كانوا في موضع المحاربة والقتال، فمجاهدتهم في قتالهم، وقد كان من المنافقين من قد لحق بالكفرة وذب عنهم، ألا ترى إلى قوله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ)، فمن لحق بهم قاتلهم مع الكفرة، ومن لم يلحق بهم ألزمهم الحجة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).

(10)

أي: اشدد عليهم، والتشديد عليهم: أن يسفه أحلامهم، ويهتك أستارهم، وهو أن يبين لهم ما هم عليه من النفاق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، قد تقدم ذكر هذا. ثم في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ)، دلالة فضيلة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على من تقدمه من الأنبياء والرسل - عليهم السلام - لأنه ذكر موسى - عليه السلام - في التوراة: يا موسى، وفي الإنجيل: يا عيسى، وفي مخاطبات آدم: يا آدم، فسمى كل نبي باسمه سوى نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإنه ذكره وخاطبه بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)، وبالنبوة والرسالة استحق الفضيلة، فذكره باسم فضله وخاطبه به، وذكر غيره من الأنبياء - عليهم السلام - باسم شخصه. * * * قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ). فجائز أن هذا المثل لمكان الكفرة الذين لهم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اتصال من حرمة القرابة، فكانوا يطمعون منه الشفاعة في الآخرة إن كان الأمر على ما ذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لهم؛ لأنهم عرفوه بالشفقة والرحمة على الخلق جملة، فكيف يدع شفقته ورحمته على قرابته وهو يراهم يترددون في الهلاك؟! فبين لهم شأن امرأة نوح وامرأة لوط وما كان بينهما وبين نوح ولوط - عليهما السلام - من الاتصال؛ لئلا يغتروا باتصالهم بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وجائز أن يكون هذا في بدء الإسلام، في الوقت الذي يتفرد الآباء بالإسلام دون الأبناء، والأبناء دون الآباء؛ فيكون المثل لمكان أُولَئِكَ الذين التزموا وداوموا عليه،

ولم يتبعوا آباءهم وأبناءهم فيقول: لا ينفع من دام على الكفر إسلام من أسلم منهم، وإن كان بينهما قرب من جهة الأبوة والبنوة؛ لأن رحمة الإنسان وشفقته على زوجته أكثر من شفقته على من ذكرنا، وكذلك الاتصال، فإذا لم ينفعهما إسلام زوجيهما، فكذلك لا ينفع أُولَئِكَ الذين داموا على الكفر إسلام من أسلم من آبائهم وأبنائهم. وجائز أن يكون هذا المثل؛ لمكان أهل النفاق فيما أظهروا موافقة المؤمنين، وأسروا الخلاف لهم، فيخبر أنه لا ينفعهم إظهار موافقتهم في الدِّين إذا كانوا على خلافه في التحقيق؛ كما لم ينفع زوجتي نوح ولوط - عليهما السلام - إظهار الموافقة منهما لزوجيهما إذا كانتا على خلافهما في السر، واللَّه أعلم. قال أبو بكر الأصم: في هذه الآية دلالة أن صلاح الصالح لا ينفع للطالح؛ كما لم ينفع صلاح نوح ولوط - عليهما السلام - للزوجين إذا كانتا في أنفسهما فاسدتين، وأراد بهذا نفي الشفاعة لأهل الكبائر. وليس كما ذكر؛ لأن هذا المثل ضرب للكافرين لا للعصاة؛ إذ لم يقل: " ضرب الله مثلا للذين عصوا "، فليس له تعلق في هذه الآية. ثم قد نجد صلاح الصالح في الشاهد ينفع الطالح وإن لم ينفع الكافر؛ لأن المرء قد يكون له زوجة طالحة تمتنع عن كثير من الشرور؛ لمكان زوجها إذا كان زوجها من أهل الصلاح والبر؛ وكذلك الولد ينفعه صلاح والديه في الدنيا؛ إذ بخشيتهما ينتهي عن كثير من المناهي لصلاحهما، فقد نفعه صلاح والديه ونفعها صلاح زوجها، فجائز أن ينفع الطالح أيضًا في الآخرة صلاح الصالحين، وأما الكافر فهو لم يمتنع عن الخلاف لمكان أبويه ولا لمكان أحد من الخلق؛ فلم ينفعه إسلام أبويه ولا صلاحهما في الدنيا فكذلك لا ينفعه في الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ). أي: فخانتاهما في الدِّين. ومنهم من يذكر أن خيانة امرأة نوح هي أن أخبرت قومه بجنون زوجها، وكانت خيانة

(11)

امرأة لوط هي أن أخبرت قوم لوط بشأن أضيافه. ولكن إن كان هذا صحيحا، فهو يرجع إلى الأول؛ لأن الذي حمل كل واحدة منهما على الإخبار بما أخبرت موافقَتُهَا أُولَئِكَ القوم وخلافها لزوجها في الدِّين، ولا يجوز أن نشهد بهذا إلا بتواتر جاء. وذكر بعضهم: أنهما زنيا، فخيانتهما زناهما، وهذا غير ثابت؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - عصموا عما يوجب عليهم [العار والشنار]، والزوج يعير بزنى زوجته وفراشه، وفيه توهم التهمة في أولادهم؛ فدل أن هذا التأويل غير صحيح، وحاجتنا إلى وجود الخيانة منهما دون التفسير، ولا يجب أن نشهد بهذا إلا بتواتر جاء مزيدًا في الحجة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11). وجه ضرب المثل بها هو أن يعلم المقهور تحت أيدي الكفرة أن لا عذر له في التخلف عن الإيمان باللَّه تعالى؛ إذ كانت امرأة فرعون مقهورة تحت يديه، وكانت بين ظهراني الظلمة، ولم يمنعها ذلك عن الإيمان باللَّه - تعالى - وعن التصديق برسوله موسى - عليه السلام -. والثاني: أنها لم تشاهد من زوجها ومن القوم الذين بين ظهرانيهم سوى الكفر بالله تعالى، ثم اللَّه تعالى بلطفه ألهمها الإيمان به فآمنت، وكانت امرأة نوح - عليه السلام - تحت نوح ولم تشاهد منه سوى الطاعة والعبادة لربه - جل وعلا - ثم لم ينفعها إيمانه وعبادته؛ ليعلم أنه لا ينفع أحدا إسلام أحد، ولا يضر أحدا كفر غيره، وإنما يصير مؤمنا بفعل نفسه كافرا بفعل نفسه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ). وهي لم ترد بقولها: (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا) بقيام الوجه الذي عرفت بناء زوجها وغيره من الخلائق، وإنما أرادت بقولها: (ابْنِ لِي)، أي اخلق لي بيتا في الجنة ولذلك لم يفهم أحد من قوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) ما فهم الخلق من النفخ في الأشياء، وإنما فهموا به الخلق والإنشاء، فما بال المشبهة فهموا من قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، ومن قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، ما فهموا من

الاستواء المضاف إلى الخلق لولا ضعف اعتقادهم وجهلهم بصانعهم في التحقيق. ثم الأصل أن ينظر في الأسماء التي هي أسماء الأفعال المشتركة فيما بين الخلق إذا أضيف شيء منها إلى اللَّه تعالى، فنعرضها على الأسماء التي هي أسماء الأفعال المخصوصة لله تعالى، فما أريد بالاسم المخصوص من ذلك، فذلك المعنى هو المراد بالاسم المشترك؛ فالاسم المخصوص لفعل اللَّه تعالى هو الخلق، إذ لا أحد من الخلائق يسمي أحدا من الخلائق: خالقًا، فيفهم بقوله (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) أي: اخلق لي، ويفهم بقوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) الخلق والإنشاء، والذي يبين أن الأسماء المشتركة يجب عرضها على الأسماء المخصوصة ويفهم بها ما يفهم بالأخرى قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، ومعناه: هو الذي خلق سيركم في البر والبحر، وقال: (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، يعني: هو الذي يخلق الموت والحياة، وقال: (يُضِلُّ مَن يَشَآءُ)، أي: يخلق الضلال (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، أي: يخلق هدايته، ومن حمل الأمر على ما ذكرنا سلم من الشبه كلها ووسواس الشيطان، وسلم من التشبيه، واللَّه الموفق. وفي هذا دلالة إيمانها بالبعث والحساب. ثم من الجائز أن تكون وصلت إلى علم البعث والحساب بالتلقين، أو بنظرها وتفكرها في الحجج والبراهين. وذكر أهل التفسير أنها قالت ذلك عندما عذبها فرعون، واختلفوا في صفة العذاب من أوجه، وحق مثله الإمساك عنه، وألا تشتغل بتفسيرها؛ لما يتوهم من وقوع زيادة فيها أو نقصان على القدر الذي بين في الكتب المتقدمة، وهذه الأنباء جعلت حججا لرسالة نبينا - عليه السلام - على أهل الكتاب لما وجدوها موافقة للأنباء التي ذكرت في كتبهم، وإذا وقع فيها زيادة أو نقصان وجدوا فيه موضع الطعن في رسالته؛ فلهذا المعنى ما يجب ترك الخوض فيها والإعراض عن ذكرها. وذكر عن الحسن وغيره أنه قال: ما من مؤمن ولا كافر إلا وبُني له بيت في الجنة، فإن مات على الإسلام سكن البيت، وإن قبض كافرا ورثه غيره. وهذا لا يحتمل؛ لأن اللَّه - تعالى - إذا علم أنه يموت على الكفر فهو يبني له ذلك

(12)

البيت كي لا يسكنه، ومن بني لنفسه في الشاهد وهو يعلم أنه لا يسكنه، صار عابثا في فعله، وجل اللَّه تعالى عن أن يوصف بالعبث. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). أي: نجني من شر فرعون وجوره، ومن عمله أي: من كفره؛ فيكون قولها: (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ) راجعا إلى نفسه، والآخر راجعا إلى عمله، (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ) راجعا إلى قومه، فسألت النجاة عنهم جملة، لما كانوا يمنعونها عن عبادة اللَّه تعالى، فكانت تخاف ناحيتهم، ولا تأمن وتخاف منهم، فسألت النجاة منهم؛ لتصل إلى عبادة ربها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12). فأخبر عنها بإحصانها فرجها، وذلك بالأسباب، وهي ما اتخذت بين نفسها وبين الناس حجابا؛ لئلا يقع بصر الناس عليها، ولا يقع بصرها عليهم لتصل به إلى تحصين فرجها؛ قال اللَّه تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، وهم إذا غضوا الأبصار، وصلوا إلى حفظ الفروج؛ ففي الحجاب غض البصر، وفي غض البصر وصول إلى حفظ الفرج وإحصانه، وقال في آية أخرى: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ)، وتطهيره إياها في أن طهرها من الفواحش والزنى، فأضاف الإحصان إليها في الآية الأولى، وأضاف التطهير هاهنا إلى نفسه، فوجه إضافة الإحصان إليها ما ذكرنا: أنها تكلفت الأسباب التي هي أسباب الموانع للزنى، الدواعي إلى الإحصان، وأضاف إلى نفسه التطهير؛ لأن وقوع ذلك وحصوله كائن به، ففيه دلالة أن كل فعل من أفعال العباد لا يخلو من أن يكون لله - تعالى - فيه صنع وتدبير. وقوله - تعالى -: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا). أي: خلقنا فيه ما به تحيا الصور والأبدان. وقوله: (فِيهِ)، أي: في عيسى، وقال في آية أخرى: (فَنَفَخْنَا فِيهَا)، أي: في نفس عيسى - عليه السلام - والنفس مؤنث. ثم تشبيهه بالنفخ: أن الروح إذا خلق فيه انتشر في الجسد كالريح إذا نفخت في شيء انتشرت فيه. أو التشبيه بالنفخ لسرعة دخوله فيما نفخ فيه كالريح، واللَّه أعلم. وقوله: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا).

فجائز أن يكون الكلمات هي التي بشرت بها مريم من قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ)، وقوله: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ)، وقوله: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ)، وقوله: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ)، فصدقت بجملتها أنها من عند اللَّه، لا شيء ألقى إليها الشيطان. أو (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا) أي: بحجج ربها وبراهينه؛ لقوله: (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)، أي: بحججه: وأدلته. ثم تكون الحجج حجج البعث أو حجج الرسالة أو الوحدانية، أو يكون قوله: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا)، أي: بالكلمات التي يستعاذ بها من الشرور، فصدقت أنها تعيذ من تعوذ بها، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (وَكُتُبِهِ)، وقرئ (وَكِتَابِهِ). وفي تصديقها بالكتاب تصديق منها بالكتب؛ لأن من آمن بكتاب من كتب اللَّه تعالى، فقد آمن بسائر كتبه؛ لأنها يوافق بعضها بعضًا، ومن آمن بكتبه فقد آمن بكل كتاب له على الإشارة إليه؛ فثبت أن في الإيمان بكتاب إيمانًا بسائر الكتب، فكل واحدة من القراءتين تقتضي معنى القراءة الأخرى؛ فإن قوله: [(وَكِتَابِهِ)] أي بالإنجيل، وقوله [(وَكُتُبِهِ)] أي: بالإنجيل وسائر الكتب المتقدمة المنزلة من عند اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ). قيل: من المصلين؛ لأنه قال في آية أخرى: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)، وإذا وصف الصلاة، فالتزمت هذا الأمر؛ فصارت من القانتين. وقيل: أي: من المطيعين لربها، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة الملك

سُورَةُ الْمُلْكِ وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ). قيل: تعالى وتعاظم، و (تَبَارَكَ) تفاعل من البركة، والبركة كناية عن نفي كل عيب؛ قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا)، أي: ماء لا كدورة فيه ولا قذر، بل هو ماء مطهر من كل آفة وعيب، فمعنى قوله: (تَبَارَكَ) أي: تعالى من أن يكون له شبيه وعديل، وتعاظم عما قالت فيه الملاحدة ومن أن يلحقه المعايب والآفات. وقوله: (بِيَدِهِ الْمُلْكُ). أي: الذي له ملك الملك؛ لأنه قال في موضع آخر: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) أي: الذي له الملك، فذكر اليد هاهنا مكان المالك هناك؛ فامتدح - جل وعلا - بملك الملك وكونه مالكا له. والمعتزلة يقولون بأن مِلكَ مُلْكِ الكفرة ليس له، وأنه لا يولي الملك للكافر، ويقولون في قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)، أن الذي آتاه اللَّه الملك هو إبراهيم - عليه السلام - والهاء تنصرف إليه، لا إلى الذي حاجه، وإذا لم يجعلوا مِلْكَ مُلْكِ الكافر في يده، لم يصر ممتدحا بما ذكرنا؛ لأنه يكون في يده بعض الملك لا كله، وقال في آية أخرى: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)، وعلى قولهم يصير الملك في يد من لا يشاء؛ لأنه لا يشاء الملك للكافر، ومع ذلك يوجد فيهم الملك. ثم ما ينبغي لهم أن يقطعوا القول بأن اللَّه تعالى لا يؤتي الملك للكافر، بل عليهم أن يقولوا: إن كان إيتاء الملك أصلح لهم آتاهم إياه، وإن كان شرًّا لهم لم يؤتهم؛ إذ من

مذهبهم أن اللَّه لا يفعل بعبده إلا ما هو الأصلح له في الدِّين والدنيا في حقه، فهذا جملة اعتقادهم، ثم هم لا يعرفون الوجه الذي صار أصلح في كل شيء على الإشارة إليه؛ لأنهم يقولون: في إبقاء إبليس اللعين إلى اليوم المعلوم صلاح، وإن كنا لا نعرف الوجه الذي لأجله صار أصلح، وإفناء الأنبياء والرسل - عليهم السلام - كان أصلح وإن لم نعرف من أي وجه صار أصلح؟! فليقولوا هاهنا بأن إيتاء الملك إن كان أصلح لهم لم يكن له ألا يؤتيهم، وإن كان شرًّا فعليه ألا يؤتيهم؛ لئلا يجعلوا الأمر على النفي. ثم الملك اسم عام، وهو عبارة عن نفاذ التدبير والسلطان والولاية، والملك هو أن يكون للمالك خاصة في الشيء، لا يتناول من ذلك الشيء إلا بإذنه، وقد يكون المرء مالكا، وليس بملك، وقد يكون ملكا ليس بمالك، فكل واحد من الوجهين يقتضي معنى غير ما يقتضيه الآخر. وجائز أن يكون تأويل قوله: (بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، أي: ملك كل من ملك من أهل الأرض بيده؛ لأنه إن شاء أبقى له الملك، وإن شاء نزعه؛ فما من ملك في دار الدنيا إلا وملكه في الحقيقة لله تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). امتدح نفسه تعالى بأنه على ما يشاء قدير، وذلك من أوصاف ربوبيته أيضًا ومن قول المعتزلة: إنه على أكثر الأشياء غير قدير؛ لأنهم يجعلون المعدوم شيئًا؛ فشيئية الأشياء كانت بأنفسها لا بإنشاء اللَّه تعالى، ويجعلون ظهورها باللَّه - تعالى - فقط، وإذا كان كذلك فإنه لم يصر قادرا على شيئية الأشياء، وكذلك ينفون الخلق والقدرة على أفعال العباد. ومن قولهم - أيضًا -: إن إقدار العبد بيد اللَّه، وإذا أقدر عبدًا من عبيده على الهداية، خرجت القدرة من يده؛ فتصير هذه القدرة مستفادة لا ذاتية، وإذا كان كذلك فقد نفوا

(2)

عنه القدرة عن أكثر الأشياء، فلا يصير هو قادرا على كل شيء، وإنما هو قادر على البعض، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2). قال أبو بكر الأصم: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) أي: خلقكم أمواتا: نطفة وعلقة ومضغة، ثم أحياكم (لِيَبْلُوَكُمْ). وقال غيره: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) ليجزيكم بعده، والحياة؛ ليبتليكم بها، واستدل بقوله - تعالى -: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فصرف المحنة إلى الحالة التي أنشأهم على وجه الأرض، وهي حالة الحياة، ثم أخبر بعد ذلك أنه يجعلهم صعيدا [جرزًا] بعد الابتلاء بقوله: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا). وعندنا: أنه خلقهما جميعا للابتلاء؛ لأن اللَّه - تعالى - خلق الموت على غاية ما تكرهه الأنفس، وتنفر عنه، وخلق الحياة على غاية ما تتلذذ به الأنفس وترغب فيها، والمحنة في الترغيب والترهيب، فثبت أن في خلق الموت محنة؛ فيكون قوله - تعالى -: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) كأنه يقول: خلق الموت مرهبا، وخلق الحياة مرغبة؛ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، أي: ليبلوكم أيكم أرهب من الشر، وأرغب في الخير؟ ثم الموت مما لا مهرب منه لأحد، ولا مخلص لمخلوق، وكذلك الحياة، وإن كانت من أرغب الأشياء إلى الأنفس، فليست هي بحيث يتهيأ للمرء أن يزيد منها بالطلب، ولا مما يوجد بالكد والسعي؛ فصارت هي مرغبة في الحياة الدائمة وهي نعيم الآخرة، وصار الموت مرهبا عن الموت الدائم، والموت الدائم هو العذاب الدائم، الذي لا ينقطع كما قال - تعالى -: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ)، أي: لا تنقضي عنه الآلام والأوجاع بل يبقى فيها أبدا، وإذا ثبت أن الموت صار مرهبا عن العذاب الدائم، والحياة صارت مرغبة في مثلها، فنقوم بطلبه، ووجب القول بالبعث أيضًا؛ إذ الراغب إنما يصل إلى ما يرغب فيه بالبعث، والآخر إنما يصير إلى العذاب الدائم بالبعث. وفيه إيجاب القول بالرسالة؛ لأنه إذا ثبت الرغبة في الموعود من الثواب والرهبة عن العذاب، وهما جميعًا غائبان، فاحتيج إلى من يظهرهما ويحضرهما ويخبر عنهما، فلم يكن بد من رسول يخبرهم ويحضر علمه لهم.

ثم الأصل في قوله - تعالى -: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أنه إنما يحسن عمله بحسن رغبته وسوء عمله بسوء رغبته ورهبته، فخلق الحياة والموت ليتفكر فيهما المرء، ويعتبر بهما، فمن حسنت رغبته ورهبته حسن عمله، ومن لم يتفكر فيهما، ولم يعتبر بهما، ساء عمله، فالموت والحياة أنشئا مرغبين ومرهبين، وكذلك الدنيا وما فيها أنشئت دلالة على طريق الآخرة، فالسمع يدل على السمع، والبصر على البصر، وآلامها تدل على آلام الآخرة، ونعيمها دليل على نعيم الآخرة، واللَّه أعلم. ثم قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) فيه دليل على إضمار قوله: وأيكم أسوأ عملا على مقابلة الأول، إلا أنه اكتفى بذكر أحد المتقابلين عن الآخر، واللَّه أعلم. فإن قال قائل: كيف أضاف الابتلاء إلى نفسه بقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ)، والابتلاء في الشاهد؛ لاستظهار ما خفي، ولاستحضار ما غاب، واللَّه تعالى لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه أمر، فكيف أضيف إليه الابتلاء؟! فجوابه أن نقول: إن الابتلاء في الحقيقة كناية عما به ظهور الشيء وبروزه. فاستعمل الابتلاء في كل ما فيه ظهور الأمر، وإن كان الذي ظهر من الأمر عند المبتلي ظاهرا، وهذا كما أضيف الاستدراج والمكر إلى اللَّه تعالى؛ لوجود معنى المكر والاستدراج فيه، وإن لم يكن المقصود من ذلك المكر والاستدراج، وفي الشاهد المكر أن تحسن إلى عدو ليقع عنده أنك تركت عداوته، فيعتبر بإحسانك إليه، ثم تأخذه من وجه أمنه، ومن حيث لا يشعر به، هذا هو معنى المكر في الشاهد، وقد وجد الإحسان من اللَّه تعالى إلى أعدائه، ووجد منهم الاغترار بالنعم، ووقع عندهم أنهم من جملة أوليائه ثم أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون؛ فوجد معنى المكر وإن لم يقصد بإحسانه إليهم المكر بهم. والثاني: أن من أمر في الشاهد فإنما يأمر؛ لمصلحة أو لمنفعة تعود إليه، وإذا نهى عن شيء فإنما ينهى؛ لنفي مضرة تصل إليه، واللَّه تعالى لم يأمر الخلق ولم ينههم

(3)

لمنفعة يجلب بها إلى نفسه، أو لمضرة يدفعها عن نفسه، وإنما أمرهم ونهاهم؛ لمنافع ترجع إليهم ومضار تلحقهم، ثم أضيف إليه الأمر والنهي وإن كان لا منفعة له ولا مضرة عليه؛ فكذلك ابتلى خلقه؛ ليظهر للمبتلى عداوته وولايته، لا لتظهر له، وأضاف الابتلاء إلى نفسه وإن كان هو مستغنيا عن الابتلاء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ). ففيه إبانة أنه لم يبتلنا لمنفعة أو لعز يرجع إليه، أو لذل يدفع عنه، ولكن لعز يحرزه الممتحن إذا أحسن العمل وذنوب تغفر له وتستر عليه، وهو عزيز بذاته. وجائز أن يكون معنى قوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ)، أي: القوي على الانتقام ممن ساء عمله، واختار عداوته، (الْغَفُورُ): الستور على من حسن عمله، يستر عليه ذنبه، ويجزيه بحسن عمله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3). ففي ذكر السماوات السبع إيجاب القول بتصديق ما يأتي به الرسل؛ لأن كون السماوات سبعا لا يعرف إلا من طريق الخبر، وقد ثبت وجود هذا القول على ألسن الرسل وهذه الآية أثبتت تصديق ما يأتي به الرسل؛ فليس منا القول في السماوات أنها سبع وإن لم تشاهد. ثم يحتمل قوله: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)؛ ليبلو أهلها: أيهم أحسن عملا؛ لأنه بين أنه لم يخلق السماوات والأرضين باطلا، ثم السماوات بأنفسها لا تمتحن، وإنما يمتحن أهلها، لكنه اقتضى ذكر السماوات ذكر أهلها، واقتضى ذكر الأرض ذكر أهلها، فأخبر بذكر الأرض عن ذكر أهلها، وبذكر السماوات عن ذكر أهلها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ). أي: انظر في خلق الرحمن، هل ترى فيه من تفاوت أو فطور؟! فإنك إن رأيت فيه فطورًا، ظننت أن في مدبره عددًا، وإن رأيت فيه تفاوتا، ظننت في منشئه سفهًا، فإنك

إذا رأيت فيه فطورا وشقوقا رأيت فيه تمانعا وتدافعا، وفي حصول التمانع والتدافع حصول العدد؛ لأن التدافع والتمانع إنما يقع عند ثبات العدد؛ لأن ما يبني هذا يهدمه الآخر، وما يهدمه الآخر وينقضه يبني الآخر، فعند ذلك يقع التدافع، وإذا لم ير فيه فطورًا أو شقوقًا، بل رآه متسقا مجتمعا؛ دل على وحدانيته وقدرته وسلطانه. وكذلك التفاوت يدل على السفه ونفي الحكمة، وارتفاع التفاوت يدل على حكمته وعجيب تدبيره؛ فيكون في ارتفاع الفطور والتفاوت إثبات القول بالوحدانية وإيجاب القول بالبعث من حيث ثبت حكمته، وفي نفي القول بالبعث زوال الحكمة، وفيه إيجاب المحنة والابتلاء؛ لأن العدد إذا ثبت، كان للممتحن ألا يعمل حتى يتبين له الغالب من المغلوب فلا يضيع عمله. أو يشتغل كل بإقامة سلطانه ونفاذ تدبيره، فلا يتفرغ للأمر بالمحنة؛ ألا ترى إلى قوله: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ)، قيل: يذهب كل واحد منهم بالجزء الذي خلقه؛ فيظهر عند ذاك فطور وشقوق؛ لأن ما خلق هذا يمتاز من الذي خلقه الآخر، فارتفاع الفطور يدل على وحدانية الصانع جل جلاله. وقيل في قوله: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) أي: من حيث الدلالة على وحدانية الرب - تعالى - أو من حيث الحكمة والمصلحة؛ فالخلائق كلها في المعاني التي ذكرناها غير متفاوتة، لا أن تكون الأشياء المحدثة غير متفاوتة في أنفسها؛ لأن بين السماوات والأرضين تفاوتًا، وكذلك بين الحياة والموت تفاوت، ولكن منافع السماء متصلة بمنافع الأرض، ومنافع أهل الأرض متصلة بالأرض وقوامهم ومعاشهم بما يخرج منها، وكل ذلك يدل على وحدانيته وعلى حكمته ولطائف تدبيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ). فجائز أن يكون هذا على رجوع بصر الوجه. وجائز أن يكون على رجوع بصر القلب.

(4)

أو يكون أحدهما على بصر الوجه، والثاني على بصر القلب. والأشبه أن يكون على بصر القلب؛ لأنه قد سبق منه النظر إلى السماوات والأرضين ببصر الوجه، وسبق منه العلم من حيث النظر أنه لا تفاوت فيها ولا فطور، فدعاه إلى أن ينظر ببصر القلب؛ ليدله ذلك على المعاني التي ذكرناها؛ وهو كقوله - تعالى -: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)، ولم يرد به السير بالأقدام؛ إذ قد سبق منهم السير فيها، ولكن معناه: أو لم يتفكروا في عواقب من تقدمهم من مكذبي الرسل أنهم بأي سبب أهلكوا؛ ولأي معنى عوقبوا واستؤصلوا؟ ثم قوله: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ. . . (4). الآية منهم من قال: إن الكرتين هاهنا كناية عن مرة بعد مرة، ليس على تثنية العدد، فكأنه أمره أن يكون أبدًا معتبرا ناظرا في خلق الرحمن؛ وإلى هذا يذهب الحسن والأصم. وجائز أن يكون قوله: (كَرَّتَيْنِ) مرتين، ولكن على اختلاف الوقتين؛ فيكون أحد النظرين بالليل والآخر بالنهار؛ لأنه يرى بالليل آيات وبالنهار آيات سواها، وثبوت كل ذلك يدل على وحدانيته وعجيب حكمته ونفاذ قدرته وسلطانه. أو أن تكون النظرة الأولى ببصر الوجه والنظرة الثانية ببصر القلب؛ لأنه إذا نظر النظرة الأولى ببصر وجهه، فرأى ما فيه من العجائب أشعر قلبه ما رأى، فينظر فيه مرة أخرى ببصر القلب؛ ليتأكد ذلك ويتكرر. ويجوز أن يكون النظران جميعا ببصر الوجه؛ لأنه لا يستوعب النظر بالجملة في المرة الأولى؛ فينظر مرة أخرى؛ ليدرك ما غاب عنه في المرة الأولى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَاسِئًا). أي: صاغرا مستسلما معترفا بالقصور عن درك كنه سلطانه والإحاطة بعظمته وجلاله. (وَهُوَ حَسِيرٌ). أي: منقطع عن درك بلوغ حكمته ونفاذ أمره.

(5)

ثم الأشبه أن يكون المراد بهذا الخطاب المكذبين بالبعث؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإن كان الخطاب متوجها إليه في الظاهر؛ لأنه إنما أراد بالنظر في خلق اللَّه تعالى؛ ليتقرر عنده عظمة اللَّه تعالى وسلطانه وعجيب حكمته ونفاذ تدبيره، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد كان تقرر عنده علم ذلك كله؛ فلم يكن يحتاج إلى النظر فيما ذكر؛ ليتقرر صرف النظر إلى المكذبين بالبعث، فأمروا بالنظر في ذكر؛ ليتقرر عندهم سلطانه ونفاذ تدبيره، وأنه ليس بالذي يعجزه أمر وأن قدرته ليست بمقدرة بقوى البشر، وهم كانوا ينكرون البعث والإحياء على تقرير الأمور بقوى أنفسهم، فإذا نظروا في هذه الأشياء وعرفوا فيها لطائف وحكمًا لا تدركها عقولهم وقوة لا تبلغها حيلهم، أدى ذلك إلى رفع الإشكال عنهم وإزاحة الريب الذي اعتراهم في أمر البعث؛ فيحملهم على الإيمان. وقوله - عَزَّ وجل -: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5). سماها: سماء الدنيا؛ لدنوها إلى المخاطبين الممتحنين، لا أن تكون السماء الثانية سماء الآخرة، والذي يدل على صحة ما ذكرنا: أن مقابل الآخرة ليست هي الدنيا بل مقابلها الأولى، ومقابل الدنيا القصوى؛ فثبت أن ليس فيها تثبيت أن السماء الثانية هي سماء الآخرة، والمصابيح هي النجوم، فذكر عباده عظم ما أودع من النعيم في النجوم عليهم، فجعل فيها ثلاثة أوجه من النعيم: أحدها: أنه جعلها زينة للناظرين؛ كما قال - تعالى -: (وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ)، ثم هذه الزينة إنما تظهر عندما تخفى على الناظرين زينة الأرض، وذلك في ظلم الليالي؛ فأبدل اللَّه لهم زينة في السماء مكان الزينة التي أنشأها في الأرض، وفضل هذه الزينة على سائرها؛ لأن سائرها لا يظهر إلا بالدنو إليها والقرب منها، ثم جعل هذه الزينة بحيث تظهر فترى من البعد؛ فثبت أن لها فضلا وشرفا على زينة الأرض. والنعمة الثانية: ما ذكر في قوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)؛ فجعلها هدى من ظلمات أحوال تقع فيسلم بها المرء عن الوقوع في المهالك. والنعمة الثالثة: ما ذكر من قوله - تعالى -: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)، وفي جعلها رجوما للشياطين رفع الاشتباه عن الخلق وإخراجهم من ظلمات الأفعال إلى النور، وذلك أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء؛ فيستمعون إلى الأخبار التي يتحادث بها أهل السماء، فيما بينهم مما يراد بأهل الأرض، فيسترقون السمع منهم، فيأتون بها أهل

(6)

الأرض ويلقونها إلى أهل الأرض بعدما يخلطونها بأكاذيب من عند أنفسهم فيشبهون على الخلائق ويضلونهم بذلك عن سبيل اللَّه تعالى؛ فملأ اللَّه - تعالى - السماء بالحرس والشهب؛ ليدفعوا الشياطين عن استراق السمع؛ ليكون تبليغ الأخبار إلى أهل الأرض بمن يؤمن عليه الكذب، وهو الرسول - عليه السلام - فتسلم تلك الأخبار عن التخاليط والشبه؛ فيسلم الناس عن الوقوع في الظلمات. ثم يكون في جعل النجوم زينة للسماء: أن أهل السماء ابتلوا أيهم أحسن عملا؟ كما ابتلي به أهل الأرض؛ ألا ترى إلى ما ذكر في أهل الأرض من قوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فأخبر أن الزينة للامتحان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ). ففيه أنهم وإن عذبوا بالنيران التي جعلت في النجوم الرجوم، لا يدفع عنهم ما استوجبوا من العذاب الدائم، بل قد أعد لهم عذاب السعير، كما أعد لغيرهم من الشياطين وأهل الكفر. * * * قوله تعالى: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ. تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14). وقوله: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فالمصير: هو الطريق، أي: فبئس الطريق طريق من سلكه أفضى به إلى عذاب السعير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7). الشهيق: هو الصوت المنكر. ثم من الناس من يقول: (سَمِعُوا لَهَا)، أي: لجهنم. ومنهم من جعل الشهيق من أهلها، وقد يجوز أن يذكر المكان والمراد منه الأهل؛ كما قال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا)، وكلا الأمرين يحتمل عندنا، ولا

(8)

نحتاج إلى معرفة ذلك؛ لأن الصوت المنكر أمر ظاهر ممن لا يعقل الصوت كهو من الذي يعقل، فليس الذي يعقل الصوت أولى أن يجعل الفعل له من الذي لا يعقل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ). أي: تغلي، ثم النار بنفسها لا تغلي، وإنما تغلي بالذي يجعل فيها؛ ففيه أن طعامهم وشرابهم في النار النار فيغلي النار بطعامهم وشرابهم. وقوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8). فجائز أن يكون هذا كناية عن الخزنة. وجائز أن يكون هذا وصف النار، ولله تعالى أن يجعل في جهنم، وفيما شاء من الأموات ما يعرف به عظمته وجلاله، فيغضب له على أعدائه غضبا يكاد أن ينقطع في نفسه؛ ويسلم لأوليائه. ثم في ذكر غضبها تذكير أن من حق اللَّه تعالى على أوليائه أن يغضبوا له على أعدائه غضب جهنم عليهم، بل جهنم أبعد عن أن تمتحن بذلك منا، ثم هي بلغت من الغضب على أعداء اللَّه تعالى مبلغا كادت تتقطع بنفسها، فالأولياء أحق أن يوجد منهم هذا الوصف، وقد مدح اللَّه تعالى الذين مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لما أوجد، فيهم من الشدة على الأعداء، وذلك قوله - تعالى -: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) وقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، وهكذا الحق على كل مؤمن أن يكون على هذا الوصف. وفيه حكمة أخرى: وهي أنه ذكر شدة النار على أهلها؛ لئلا يقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) ينذركم لقاء يومكم هذا (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ). وهذا هو إخبار عن نهاية أمرهم وآخر شأنهم؛ وذلك أنهم فزعوا في الآخرة إلى اليمين بالكذب، فقالوا: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)؛ رجاء أن ينفعهم ذلك

(9)

في الآخرة كما كانت تنفعهم في الدنيا، فلما ألقوا فيها، أيقنوا أن أيمانهم لا تدفع عنهم العذاب؛ ففزعوا إلى الاعتراف والصدق؛ رجاء أن يتخلصوا من العذاب، فقالوا: (بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ ... (9) ينذرنا عن لقاء هذا اليوم، (فَكَذَّبْنَا) بالذي كان ينذرنا النذر، وقلنا: (مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) مما تنذروننا به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ). فجائز أن يكون القائل لهم بهذا هم الخزنة، أو هذا خطاب في الدنيا (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10). ففي قوله: (بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ) اعتراف منهم بأنهم قد سمعوا وعقلوا، فقوله: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ)، ليس هو على نفي السمع والعقل؛ إذ قد أقروا أنهم سمعوا وعقلوا، وإنَّمَا هو على نفي الانتفاع بما سمعوا وعقلوا؛ لأن الانتفاع بالمسموع هو الإجابة لما سمع، والانتفاع بالعقل أن يقوم بوفاء ما عقل، وهم لم يجيبوا لما سمعوا، ولم يقوموا بوفاء ما عقلوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ): في الدنيا كما نسمع الآن، أو كنا نعقل كما نعقل الآن (مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ). وهذا غير مستقيم؛ لأن تلك الدار ليست بدار إسماع وإفهام، وإنَّمَا المعنى ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11). أي: بعدا، على معنى الدعاء عليهم. وقيل: السحق: واد في جهنم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12). يحتمل: أي: الذين يخشون عذاب ربهم والعذاب عنهم غائب، فأهل الإسلام يخشون عذاب اللَّه وهو غائب عنهم، والكفرة لا يخشونه إلا أن يعاينوه. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي: يخشون اللَّه - تعالى - أن يعذبهم.

أو أن يخشوه فيما أوعدهم. ثم الأصل: أن ما من مؤمن بالبعث -سوى المعتزلة- إلا وهو يخشى اللَّه تعالى، لكنهم يتفاوتون في الخشية. ثم الخشية تقتضي الرجاء والخوف، ليس كالأمن والإياس الذي لا يقتضي كل واحد منهما إلا وجها واحدًا، وإذا كانت الخشية تقتضي ما ذكرنا، فكل مؤمن يخاف عذاب الله تعالى؛ لما رأى من كثرة نعم اللَّه تعالى وغفلته عن حقوق تلك النعم؛ لأن من حقها أن يشكر اللَّه تعالى عليها، وقد عرف كل مؤمن تقصيره في أداء الشكر وتفريطه في قضاء الحقوق؛ فيرجو رحمته، لما عرف من سعة رحمته، وعرفه متفضلًا عفوًّا غفورا، لكن فيهم تفاوت في الخشية والرهبة: فمن كان أذكر لغفلته، فهو لعقوبته أكثر خشية، ومن كان أقل ذكرًا لغفلته فهو أقل خشية؛ فيتفاوتون على تفاوتهم في الذكر، وهو كالموت الذي يرهبه الناس جميعًا ويتيقنون بحلوله، لكنهم يتفاوتون في ذلك: فمن كان له أكثر ذكرا، كان أبلغ في التيقظ، وأكثر رهبة، ومن كان أغفل عن ذكره فهو له أقل رهبة. ولقائل أن يقول: كيف جعلتم كل مؤمن خائفًا راجيًا، والراجي: هو الذي يطلب، والخائف: هو الذي يهرب، فكل من رجا شيئًا يعلم أنه لا وصول إليه إلا بأعمال وأسباب، فهو يقوم بتلك الأعمال، بغاية ما يحمله وسعه؛ ليصل إلى مأموله، وإذا لم يقم بها لم يكن راجيا في الحقيقة، بل كان متمنيا، وكذلك من خاف حقيقة الخوف، وعلم أن المخوف نازل به إن لم يهرب؛ فهو يهرب مما يخافه أشد الهرب. ثم كثير من المؤمنين تراهم مقصرين في الأعمال التي يتوصل بها إلى بلوغ الآمال، ولا يهربون مما يخافون منه أشد الهرب وغاية الخوف، فكيف وصفتم كل مؤمن بالخوف والرجاء وكثير منهم لا يتحقق فيهم هذا الوصف؟! واستدل على صحة ما ذكر بقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ)، فالراجي لرحمة اللَّه من دأب في طاعته، وقال - تعالى -: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)، فقيل: يا رسول اللَّه، هم الذين يزنون ويسرقون؟! فقال: " بل هم الذين يصومون ويصلون وقلوبهم وجلة "، وقال - تعالى -: (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ).

فجوابه: أن المؤمن ليس يرى كل خلاصه من العذاب وأمنه من العقاب بعمله حتى إذا وجد التقصير في العمل أظهر ذلك المعنى فساد الرجاء والخوف، وإنما يتوقع خلاصه بتوفيق اللَّه وعفوه، ويرجو رحمته؛ بكرمه وجوده؛ لذلك لم يوجب التقصير في العمل إبطال الرجاء والخوف، وهذا إذا كان غير معتزلي المذهب ولم يكن من الخوارج، فأما إذا كان الراجي والخائف أحد هذين؛ فتقصيره في العمل يدل على فساد الرجاء والخوف؛ لأن كل واحد منهما ليس يرى لنفسه شفيعا إلا عمله، به ينجو وبه يهلك، فإذا لم يبالغ في الطلب من جهة العمل، ولم يبالغ في الهرب من الخوف بالعمل - ظهر أنه ليس براجٍ ولكنه متمنٍّ، وتبين أنه غير خائف في الحقيقة. ثم المعتزلة لا يخافون اللَّه تعالى ولا يرجون رحمته في الحقيقة؛ لأنهم يزعمون أن العبد إذا ارتكب الكبيرة، فليس لله - تعالى - ألا يعذبه عليها وأن يغفرها له، وإذا اجتنب الكبيرة استوجب المغفرة وإن ارتكب الصغائر، وليس لله - تعالى - أن يعذبه عليها، والقائل بهذا غير راج لرحمة اللَّه تعالى، ولا خائف من عذابه، وإنما يقع الخوف والرجاء من عند نفسه؛ لأن الزلة التي استوجب بها العذاب فهو الذي اكتسبها، ولو لم يعملها، لم يعذب، وفاز بالنجاة؛ فصار رجاؤه وخلاصه بعمله، لا برحمة اللَّه تعالى وفضله، ولا بذلك وصف اللَّه تعالى المؤمنين في كتابه، ولأن اللَّه تعالى أثنى على الذين يدعونه؛ خوقا وطمعا ورغبا ورهبا، وعلى قول أهل الاعتزال لا يدعو أحد ربه على الرغبة والرهبة والخوف والطمع؛ لأن الداعي إن كان صاحب كبيرة فهو فيما يدعو اللَّه تعالى؛ ليغفر له، إنما يدعو ليجور عليه؛ إذ لا يسعه أن يغفر له ولا يعذب عليه، فدعاؤه بالمغفرة معناه يقتضي أن جُرْ عليَّ، وذلك عظيم، وإن كان صاحب صغيرة فهو فيما يطلب المغفرة منه - تعالى - يسأله ألا يجور عليه؛ لأنه ليس له أن يعذب على الصغائر على مذهبه ولو عذب صار به جائرًا، فإذا خاف عذابه حتى إذا فزع إلى الدعاء، فقد خاف جوره، ومن لم يأمن من ربه الجور بل خاف ذلك منه، فهو لم يعرف ربه حقيقة المعرفة؛ وكذلك من دعا اللَّه تعالى؛ ليجور عليه، فقد دعا إلى أن يسفه، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها؛ فثبت أن الداعي على الرغبة والرهبة غير ممدوح عنده، ولا هو ممن يستحق الثناء عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). أي: من يرجو اللَّه تعالى ويخافه، فله مغفرة لذنوبه، وأجر كبير، وهو الجنة.

(13)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13). فهذه الآية كأنها في إلزام الوعيد؛ يقول: إنه عالم بالأنفس التي فيها الصدور بما يضمرون فيها، وما يودعون، وما يكتمون، وما يخبرون عما أودعوا فيها ويظهرون. والصدر: هو ساحة القلب، سميت صدرا؛ لأن الآراء تصدر عنها؛ فهو عالم بالأنفس التي لها الصدور بما يصدر عن آرائهم، وعالم بما يضمر فيها من الأسرار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ... (14). تأويله عند أهل الإسلام: ألا يعلم من خلق ما أسروا أو جهروا، و (من) راجع إلى اللَّه تعالى دون الخلق، كأنه يقول: ألا يعلم الخالق (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، وفيه إثبات خلق الأفعال والأقوال وخلق الشر؛ فيكون حجة لنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد. وقال جعفر بن حرب وأبو بكر الأصم: إن حرف (مَن) لا يرجع إلى اللَّه تعالى، وإنما يرجع إلى الخلق؛ فكأنه يقول: ألا يعلم اللَّه مَن خلق؛ على إضمار اسم اللَّه تعالى فاحتالا بهذه الحيلة لنفي الخلق عن الأفعال؛ لأن حرف (مَن) يرجع إلى الأنفس دون الأفعال والأقوال. وذلك فاسد؛ لأن الآية في موضع الوعيد، ولو كان قوله: (مَن خَلَقَ) وراجعا إلى الأنفس، لزال موضع الوعيد؛ إذ ليس في خلق الأنفس وعلم اللَّه بها إثبات العلم بأفعال وجدت منهم، ولا في خلق الأنفس إيجاب الوعيد بالأفعال؛ ولأنه لو لم يكن اللَّه تعالى خالقا لما يجهر به العبد ولما يخفيه لم يكن ليحتج به على عمله؛ إذ قد يجوز جواز الجهل من غير الذي يفعله؛ فلا يجوز أن يحتج عليهم بفعل غيره؛ ولأنه ليس في إثبات العلم بخلق الأنفس إثبات العلم بما أسروا أو جهروا، كما لم يكن عند المعتزلة في إيجاب الخلق لنفس الإنسان إيجاب الخلق لأفعالهم، ومعلوم بأن الآية في تحقيق العلم بما أسروا أو جهروا؛ لأن قوله: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) مذكور على أثر قوله: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ)، وقوله: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي: عليم بما تسرون وما تجهرون؛ فثبت أن الخلق راجع إلى ما أسروا أو جهروا، ثم إن الناس على اختلافهم اتفقوا أن كل واقع بالطبع والضرورة مخلوق لله تعالى، وإنَّمَا اختلفوا في الفعل الواقع بكسب العبد: فمنهم من أثبت فيه الخلق وهو قول أهل الهدى، ومنهم من أبى القول بخلقه. ثم المرء لا يتهيأ له استعمال اليد إلا في العمل الذي جعل في طبع اليد احتمال ذلك العمل، ولا يتهيأ له أن يستعمله في الوجه الذي لم يجعل في طبعها احتمال ذلك؛ لأنه لو أراد أن يرى بيديه، أو يسمع بهما لم يملك ذلك؛ فثبت أنه ملك استعمالهما في القبض

(15)

والبسط، والأخذ والتسليم؛ بما جعل في طبعهما احتمال ذلك، وإذا كان كذلك، فقد ثبت الخلق فيما يعمل بيديه وفيما يرى بعينيه ويسمع بأذنيه، واللَّه الموفق. وقوله: (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). في تدبيره؛ إذ دبر لسان الإنسان على ما إذا استعمله يخرج منه الكلام، وإذا أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي به صلح للنطق، لم يقف عليه، ودبر قلبه على أن يصور ما يقع فيه من الخيال، فيؤديه بلسانه، ودبره على وجه يصلح أن يدع الأسرار والودائع من وجه لو أراد الخلائق أن يتعرفوا الوجه الذي صلح القلب أن يكون مصورا وحافظا ومعدنا للأسرار، لم يقفوا عليه. وقيل: اللطيف: هو الذي لا يعزب عنه علم ما جل ودق. وقيل: اللطيف بعباده في الإحسان إليهم والإنعام عليهم، الخبير بما فيه مصالحهم. * * * قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا. . .) الآية. وإذا ذلل لكم الأرض؛ لتمشوا في مناكبها، وتأكلوا من رزقه، فلا يجوز أن يكون خلقًا عبثا باطلا، فلا بد من الرجوع إليه، ليسألكم عما له خلق، أوفيتم بالذي خلق له، أو لم تفوا؛ وذلك أن المرء في الشاهد إذا أعطى إنسانا مالا استعمله في جهة من الجهات، فلا بد من أن يرجع إليه فيسأله هل استعمله في الذي أذن له فيه أم لا؟ وإذا ثبت أنه لم يخلقها عبثا باطلا، وإنما خلقت للمحنة؛ فلا بد من أن ينشروا إليه؛ ليخبروه عما بلاهم به وامتحنهم. ثم احتمل أن يكون هذا صلة قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ)،

(16)

وقوله: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)، فخلق تلك الأشياء كلها؛ ليمحتن أهلها بها، فعلى ذلك خلق الأرض ذلولا ليبلوكم بها. ويحتمل أن يكون هذا صلة قوله: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)، فأمر هناك بالنظر مرة بعد مرة هل ترى فيه تفاوتا أو فطورا؛ ليتبين عنده إذا لم ير فيه تفاوتا ولا فطورا وحدانية الرب وقدرته وسلطانه وحكمته، فأمرهم - أيضًا - بالمسير في الأرض والمشي في مناكبها وهي أطرافها - هل يرون فيها فطورًا أو تفاوتا؟ فإذا لم يروا فيها شيئا من ذلك، تقرر عندهم بجميع ما ذكرنا من الحكمة هناك، فهو في قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا) موجود؛ ولأنه ذكرهم لطيف خلقه وتدبيره في خلق الأرض، وما له على الخلق من عظيم النعمة في حقهم، وهو أنه قدر لهم فيها أرزاقهم إلى حيث يمشون فيها، وهيأ لهم الرزق هنالك، ولا يحتمل أن يذلل لهم الأرض؛ فيضربون فيها حيث شاءوا ويستخرجون منها أقواتهم أينما تصرفوا عبثا باطلا، بل لا بد أن يستأديكم شكر ما أنعم عليكم به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16). هذه الآية في موضع المحاجة على منكري البعث، فكأنه يقول - واللَّه أعلم -: إذا أنكرتم البعث وقد عرفتم الفرق بين العدو والولي وبين المطيع والعاصي، فكيف أمنتم عذابه في الدنيا أن ينزل بكم من فوق رءوسكم أو من تحت أرجلكم. أو قد عصيتموه وعاديتموه بتكذيبكم رسوله واختياركم عبادة غيره، فكيف أمنتم نزول عذابه عليكم في حالتكم هذه، وأنتم لا تقرون بالآخرة؛ ليتأخر عنكم العذاب؟! ثم قوله: (أَأَمِنْتُمْ) أي: قد أمنتم. والثاني: أنكم كيف أمنتم عذاب اللَّه تعالى وأنتم تنكرون البعث؛ لتكون المحنة في الدنيا للجزاء في الآخرة، وهم يرون المحنة في الدنيا للجزاء في الدنيا؛ لأنهم كانوا يزعمون أن من وسع عليه في رزقه والنعيم في الدنيا فإنما وسع جزاء لعمله، ومن ضيق عليه العيش فإنما ضيق عقوبة له بما أساء من عمله، كما قال اللَّه تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)، فكانوا يعدون التضييق والتوسيع في الدنيا جزاء لصنيعهم، وكانوا

يقرون بالمحنة في الدنيا، والمحنة تكون من الرجاء والخوف، وقد رجوتم إنزال الرزق عليكم من السماء، ورجوتم أن يخرج لكم من الأرض ما تتعيشون به وترزقون منه؛ فكيف لا تحذرون نزول العذاب عليكم من السماء أو إتيانه من الأرض، كما رجوتم النفع منهما جميعًا؟! والثالث: أنكم إذا أنكرتم الرسول وجحدتموه، وقد انتهى إليكم حال من سبقكم من مكذبي الرسل، كيف عذبوا واستؤصلوا: فمنهم من أهلك بإمطار الحجارة عليه من السماء، ومنهم من أهلك بالخسف بالأرض، فكيف أمنتم أنتم أن ينزل عليكم ما نزل بهم وقد أوجدتم أنتم وتعاطيتم ما تعاطاه الذين أهلكوا من التكذيب؟! ثم قوله: (مَنْ فِي السَّمَاءِ) أراد نفسه تعالى، أخبر أنه إله السماء، لا على تثبيت أنه في الأرض سواه وعلى النفي أن يكون هو إله الأرض، بل هو في السماء إله وفي الأرض إله؛ وهو كقوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) ليس فيه أن النجوى إذا كانت بين اثنين فهو لا يكون ثالثهم. وجائز أن يكون قوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: أأمنتم من في السماء ملكه وسلطانه، ولم تروا أحدا انتهى ملكه إلى السماء، فكيف تأمنون ممن بلغ ملكه السماء؛ فكيف تأمنون مكره وتعادونه، وأنتم لا تجترئون على معاداة ملك من ملوك الأرض، الذي لا يجاوز ملكه الأرض؛ هيبة منه وخوفًا من سلطانه، فكيف تأمنون عذاب من بلغ ملكه ما ذكرنا؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا هِيَ تَمُورُ). قيل: تهوي في الأرض أبدًا إلى أسفل السافلين. وقيل: تمور بأهلها في قعرها على ما كانت من قبل تمور على ظهرها قبل أن توتد بالجبال، والحاصب: الحجارة.

(17)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17). أي: ستعلمون حال نذري الذين أنذروكم بالعذاب أنهم كانوا محقين فيه ولم يكونوا كاذبين كما زعمتم. أو ستعلمون ما أنذركم به إذا وقع العذاب. وقوله: (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18). يذكرهم حال من تقدمهم من المكذبين وما حل بهم من النكير؛ ليرتدعوا عن التكذيب؛ فلا يحل بهم ما حل بأُولَئِكَ. ثم قوله: (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) أي: كيف كان إنكاري عليهم أليس وجدوه شديدا وحقا؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19). قيل: صافات بأجنحتها لا يتحرك منها شيء، ويقبضن فما يمسكهن إلا اللَّه تعالى في الحالين جميعًا، أعني: القبض والبسط. وقال في آية أخرى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، والجو: هو الهواء. ثم قوله: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، أي: لآيات للمؤمنين على الكفرة، وهكذا شأن الآيات إنما جعلت آيات للمؤمنين والأولياء على الكفرة والأعداء؛ لأن الكفرة تصل إليهم الآيات على ألسن الرسل والأنبياء والأولياء، فجعلت الآيات آيات للمؤمنين؛ ليحتجوا بها على أهل الكفر. ثم الهواء ليس بمكان يمسك ما عليه من الأشياء مثل السماء والأرض فيما أنشئتا على حد يمسكان الأشياء ويقر عليهما الخلائق، وإذا كان كذلك فإن اللَّه تعالى بلطفه أمسك الطير وقت طيرانها ووقت قبضها في الهواء، ومن قدر على إمساك الطير مع ثقله وتقريره في مكان لا تقر فيه الأشياء، لقادر على ما يشاء. ثم في هذه الآية إنباء: أن لله تعالى في أفعال الطير صنعا وتدبيرا على ما يشاء؛ لأن

الفعل الذي يوجد من الطائر الطيران إذا طار والوقوف إذا قبض، ثم أضاف فعل الإمساك؛ وكل ذلك إلى نفسه. وذكر عن جعفر بن حرب في قوله: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ): أن الإمساك كناية عن التعليم وعبارة عنه؛ لأنه قد يعبر بالإمساك عن التعليم؛ يقول الرجل لآخر فيما يعلم الرماية: أمسكت على يده حتى رمى، فيريد به، أي: توليت تعليمه الرماية، فقوله: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) أي: ما يعلم إمساكهن وقت الطيران إلا اللَّه تعالى؛ وكذلك وقت القبض. والجواب عن هذا أن القائل يقول: (أمسكت على يده حتى رمَى)، إنما يستجيز إطلاق هذا اللفظ من نفسه إذا وجد منه فعل الإمساك في وقت ما يهم الرامي بالرمي، وأما إذا لم يوجد منه في ذلك الوقت فعل الإمساك، لم يستقم أن يقال: أمسكت على يده، وإن كان هو الذي علمه الرمي؛ ألا ترى أن من علم آخر الخياطة حتى اهتدى الخياطة إذا خاط ثوبًا، لم يستجز أستاذه أن يقول: أنا الذي خطته، وإن كان هو الذي علمه الخياطة؛ وكذلك من بنى بناء، لم يستقم من أستاذه أن يضيف فعل البناء إلى نفسه؛ فيقوله: أنا الذي بنيته، ويريد به: أنا الذي علمته، وإذا لم يستقم هذا، بطل أن يضاف فعل الإمساك إلى اللَّه تعالى، ولا فعل له في ذلك سوى التعليم، فلو كانت الإضافة إليه من حيث التعليم، لجاز أن ينسب إليه فعل الخياطة وفعل البناء والحياكة، فيقال: خائط وبانٍ وحائك؛ لأنه هو الذي علم، وإذا بطل أن ينسب إليه ما ذكرنا من الأفعال وإن كان هو الذي علم الخلق، بطل أن ينسب إليه فعل الإمساك من حيث التعليم، واللَّه الموفق. واحتج جعفر بن حرب - أيضًا - في نفي الفعل عن اللَّه تعالى، فقال: إن اللَّه - تعالى - لم يقل: ما خلق طيرانهن إلا اللَّه ولا خلق القبض إلا اللَّه، وإنما قال: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ)، فثبت أنه لا صنع له في الإمساك، وبَان أن الذي أضيف إليه من الإمساك هو على الوجه الذي ذكرنا. فالجواب عن هذا: أن الأمة فهمت من قوله: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) ما يفهم من قوله: ما خلق طيرانهن وقبضهن إلا اللَّه؛ إذ هو يقتضي ما يقتضيه ذكر الخلق، وإذا كان كذلك، فلا فرق بين أن يضيف الخلق نفسه، وبين أن يضيف فعل الإمساك، ثم لو ذكر

الخلق مكان الإمساك، أمكن جعفرًا أن يتأول في الخلق ما تأول في الإمساك، فيقول: معنى قوله: خلق طيرانهن، أي: علم طيرانهن، وقوَّاهن على الأسباب التي بها تطير، فلا يتهيأ لله تعالى على قوله أن يثبت لخلقه ولا يقرر عندهم خلق شيء من الأشياء. ثم الأصل أن الآيات المذكورة في القرآن إنما ذكرت لإثبات أوجه خمسة: أحدها: في تثبيت القدرة على البعث، وهي لا تثبت القدرة، ولا توجب القول بالبعث على قول المعتزلة؛ وذلك أن اللَّه تعالى احتج في تثبيت القدرة على البعث بقدرته على ابتداء الخلق، فقال: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، فاحتج بأمر الابتداء على تثبيت القدرة على الإعادة، وليس فيه ما يثبت القدرة على الإعادة عندهم؛ لأنهم نفوا خلق الأفعال عن اللَّه تعالى مع إقرارهم أن اللَّه تعالى هو الذي ابتدأ الخلائق، وهو الذي أنشأهم، ولم يكن في إثبات القدرة على خلق الأعيان إثبات قدرة منه على خلق الأفعال، وإن كان خلق الأفعال دون خلق الأنفس، فكيف ذكر قدرته على ابتداء الخلق على تثبيت القدرة على الإعادة، وإن كان أمر الإعادة أيسر من الابتداء، مع أن آثار الخلق في أفعال العباد وإثبات التدبير فيها أوجد منه في أمر البعث؛ وذلك أنك تجد من الأفعال أفعالا هي مؤذية لأهلها متعبة مؤلمة، ومعلوم بأن قصد أربابها أن يتلذذوا بها ويتمتعوا بها؛ فثبت أن لغيرهم فيها تدبيرا وصنعا حتى صارت كذلك؛ ولأنه يوجد في أفعالهم أحوال لا تبلغها أوهامهم ولا تقدرها عقولهم؛ لأن الفعل يأخذ من الجو والمكان والوقت ما لا تقدره الأوهام ولا تبلغه العقول؛ فثبت أن لغيره فيه صنعا وتدبيرا؛ ولأن فعله يخرج على قبيح وحسن، لا يبلغ علم فاعله أنه يبلغ في الحسن والقبح ذلك المبلغ، وينتهي في الحسن مبلغا لو أراد أن يخرج على ذلك الحد في المرة الثانية لم يخرج كذلك، فكل ما ذكرنا يبين أن جميع أفعالهم على ما هي عليه ليست لهم، ثم مع ذلك أنكروا أن تكون الأفعال من جهة الخلق لله تعالى، ولم يظهر شيء من أمارات البعث ولا وجد فيه التدبير؛

فصارت الكفرة في إنكارهم أمر البعث أعذر من المعتزلة في إنكارهم خلق الأفعال، ولم يوجب القول بالقدرة على ابتداء الخلق قولا بالقدرة على إنشاء البعث والإعادة بعد الإفناء؛ فثبت أن ليس في الآيات التي جعلها اللَّه تعالى دلالة إثبات البعث على قولهم. والوجه الثاني: في تثبيت الوحدانية، وجعل دليل وحدانيته توحده بخلق الأشياء وتفرده بإنشائها؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ)، وقال: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ)، وعلى قول المعتزلة: هو غير متوحد بخلق الأشياء، بل أكثر خلق الأشياء كان بالعباد لا باللَّه تعالى، وإذا لم يوجد منه التوحد والتفرد بخلق الأشياء ارتقع وجه الاستدلال من هذا الوجه على معرفة الصانع ووحدانيته، وإذا كان كذلك، لم تثبت وحدانية اللَّه تعالى -على قولهم- من الوجه الذي جعله دليل الإثبات. والوجه الثالث: وهو أن الآيات ذكرت في إثبات حكمة اللَّه تعالى، وجعل دليل حكمته خلق السماوات والأرضين وغيرهما من الأشياء، ونحن إنما عرفنا خلق السماوات والأرضين بما شاهدناهما مجتمعين، والاجتماع حادث فيهما، وما لا ينفك عن الحادث فهو حادث، والحادث لا بد له من محدث، ولولا ذلك لم نعرفه ولا يثبت لنا خلقهما، وعلى قول المعتزلة: الجمع والتفريق لا يدل على الخلق؛ لأن كل من له القوة يقدر على جمع الأشياء وتفريقها، والاجتماع والتفريق فعل الجامع والمفرق؛ لقولهم بالمتوالدات، فمن استحكمت قوته أمكنه جميع الأشياء؛ لقوته ومن ضعفت قوته جَمَعَ على قدر ما ينتهي إليه قوته، وإذا كان كذلك لم يتبين عند الخلائق على قولهم: إن اللَّه - تعالى - هو الذي خلق السماوات والأرضين؛ إذ خلقهما لا يعرف إلا من الوجه الذي ذكرنا؛ وذلك مما لا يجوز تحققه إلا باللَّه تعالى. وجائز أن يكون اللَّه تعالى أقدر ملكا من ملائكته وقواه على خلق السماوات والأرض، وإذا كان كذلك لم يظهر بما ذكرنا: أن اللَّه تعالى هو الخالق لهما؛ فبطل أن يكون في خلق السماوات والأرضين وفي خلق سائر الأشياء - دلالة حكمته وقدرته ووحدانيته، وقد جعل اللَّه تعالى خلقهما دلالة لهذه الأوجه التي ذكرناها.

والثاني: أنه جعل إتقان الأشياء وإحكامها علما لحكمته، وقد يقع الإتقان والإحكام للأشياء لا به، ثم لم يجعل اللَّه - تعالى - لشيء مما أتقن وأحكم علما يتميز من بين ما أتقنه غيره وأحكمه، فصار الإتقان والإحكام غير دال على حكمته، بل صار دليلا على عجزه وضعفه، حيث لم يتهيأ له تمييز ما صار به متقنا وما بغيره صار كذلك؛ ولأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه ويتبين ما له مما ليس له، ومن قولهم: إن اللَّه تعالى أعطى الكافر قوة الإيمان، ولم يبق في خزائنه ما جعل سببا يتوصل به إلى الإيمان إلا وقد أعطاه، مع علمه أنه لا يؤمن به، وهذا من أعظم الجهل وأبين السفه في الشاهد؛ لأن المرء إذا قام بسقي أرض وعمارتها بالكِرَاب والبنيان وألقى البذر فيها مع علمه أنها لا تنبت شيئًا عد ذلك منه سفهًا وجهلًا، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها حكيمًا، وقال - تعالى -: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وعلى قول المعتزلة: قد خلق غيره الحياة والموت جميعًا؛ لأن القتيل ميت بالاتفاق، ثم لا يجعل أهل الاعتزال لله - تعالى - في موته صنعًا، ويزعمون أنه مات قبل أجله، فإذا قدر غيره على الإماتة، ويقدر غيره أيضًا على الإحياء بالأسباب؛ لأنه يسقي الأرض والزرع ويكون في سقيه إحياؤها، فلم يتفرد هو بخلق الموت ولا بالحياة على قولهم، بل شركه غيره في خلق الأشياء، فيبطل امتداحه -على قولهم- نفسه بأنه خالق الأشياء. والوجه الرابع: أنه احتج بعلمه بأفعال الخلق بخلقه تلك الأفعال، وذلك قوله: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ)، وهم قد نفوا الخلق عن الأفعال، وإذا انتفى لم يقع له بها علم؛ فصارت الآيات التي فيها إثبات العلم لا تثبت علما على قولهم، ويكون فيه كذب في الخبر، تعالى اللَّه عن ذلك. والوجه الخامس: أنه سمى نفسه: محسنا منعما، وأثبت إحسانه وإنعامه بآيات احتج بها على خلقه، وما من نعمة أنعم بها على العباد إلا وقد كانوا لها مستوجبين على الله تعالى؛ فيصير اللَّه تعالى بإعطائهم ذلك قاضيا ما عليه من الحق بالنعمة، ومن قضى آخر حقًّا كان عليه لم يصر به منعما مفضلا، وإنما صار قاضي حق، فصارت الآيات التي فيها إثبات النعم غير مثبتة على قولهم، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

(20)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ). أي: بكل شيء لَطُفَ أو جل أو استتر أو ظهر أو اختلط بغيره أو تميز، فهو بصير يبلغه إلى أجله الذي ضرب له، ويأتيه بالرزق الذي قدر له. أو بصير بأفعال الخلق ما كان وما يكون؛ لأنه ذكر على أثر ذكر الأفعال، وهو قوله: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ). ثم في قوله: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) ترهيب وترغيب وإلزام المراقبة والتيقظ والتبصر؛ وكذلك في قوله: أنه (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)، و (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)؛ لأن من علم أن عليه حافظا ورقيبا يعلم بكل شيء يتعاطاه فهو لا يتعاطى إلا المحمود من الفعال والمرضي منها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20). فهذا صلة قوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ)، وقوله: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا)، ثم قال: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ) وإذا خسف بكم الأرض وأرسل عليكم حاصبا من السماء. وجائز أن يكون على التقديم والتأخير؛ فيكون معناه: أمن هذا الذي هو جند لكم من دون الرحمن ينصركم من عذاب اللَّه إن حل بكم. أو يكون قوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) يدفع عنكم العذاب من دون اللَّه إذا حل بكم. وجائز أن يكون أريد بالجند: آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه تعالى، فكانوا يعبدونها لتنصرهم ويعزوا بها؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)، وقال: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ)، ثم هم قد علموا أنها لا تقوم بنصرهم ولا تدفع الذل عنهم فيعزوا بها؛ لأنهم كانوا يفزعون إلى اللَّه تعالى عندما يحل بهم الشدائد والذل، كما قال - تعالى -: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ)، ويتركون الفزع إلى آلهتهم؛ لعلمهم أنها لا تعزهم ولا تنصرهم، فذكرهم في حالة الأمن ما قد عرفوا وقوعه في حالة الخوف؛ لينقلعوا عن عبادة الأصنام ويقبلوا على عبادة رب الأنام؛ ليدفع عنهم الشدائد والأهوال والآلام إذا حلت بهم من خاص أو عام، ويقوم بعزهم إذا لحقهم الذل.

(21)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ). أي: اغتروا في عبادتهم آلهتهم؛ لتقوم بنصرهم وعزهم، مع ما علموا أنها لا تدفع عنهم شدة ولا تحصل لهم عزًّا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ... (21). هم كانوا يرجون رزقهم من السماء والأرض، فيقول: من ذا الذي يرزقكم إن لم يرسل عليكم من السماء مطرا، ولا زلل لكم الأرض للنبات. وقد علموا أيضًا أن لا رازق لهم غير اللَّه تعالى؛ لأنهم كانوا يفزعون إليه بالسؤال للرزق عندما يبلون بالقحط والجدوبة، فذكرهم في حال السعة ما له عليهم من عظيم النعمة في توسيع الرزق عليهم؛ ليشكروه ولا يكفروه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ). فالعاتي: هو المارد الشديد السفه؛ فكأنه يقول: لجوا وعتوا في قبول الحق، وتمادوا في طغيانهم، ولم يتذكروا ولم يراقبوا اللَّه تعالى، ولم يشكروا له، بل بعدوا عن قبول ذلك كله، فقوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ)، وقوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) يخرج على أوجه ثلاثة: أحدها: على التخويف والتهويل. والثاني: على التنبيه والتذكير، وتسفيه أحلامهم. والثالث: على البشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر له وبإجابة دعوته على أهل الكفر. فوجه التنبيه والتذكير وتسفيه الأحلام ما ذكرنا: أنهم قوم كانوا يعبدون الأصنام لتنصرهم وتعزهم في الدنيا، وليبتغوا به الرزق من عندها؛ إذ هم كانوا لا يؤمنون بالبعث؛ ليطلبوا بعبادتها عين الآخرة والنصر فيها، وإنما كانوا يطمعون ذلك منها في الدنيا، ثم هم في الدنيا كانوا إذا نزلت بهم الشدة والفزع تضرعوا إلى اللَّه تعالى، كما قال: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، ولم يكونوا يفزعون إلى أصنامهم؛ فكيف اتخذوها جندا ينصرهم عند النوائب، وقد أحاط علمهم أنها لا تنصرهم

(22)

ولا تغني عنهم من عذاب اللَّه شيئًا؟! فيكون فيه تسفيه أحلامهم، وتنبيه من عذاب اللَّه؛ ليمنعهم ذلك عن عبادة غير اللَّه تعالى، ويدعوهم إلى عبادة من يملك دفع الشدائد عنهم إذا حلت بهم. وأما وجه التخويف، فهو: أنه يجوز أن يكون قيل لهم هذا عندما ابتلوا بالشدائد وضيق العيش، فيقول لهم: استنصروا من آلهتكم واسألوا الرزق من عندها، هل يملكون لكم رزقا أو يدفعون عنكم ذلا، وهل يقوون على نصركم؟! وجائز أن يكون فيه بشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر له وبإجابة دعوته وقد وجد النصر له؛ لأنه غلب عليهم يوم فتح مكة، ولم يتهيأ لأهلها أن ينتصروا، بل غلبوا وقهروا وفاز رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالغلبة والقهر ومن كان معه حتى استكانوا ولانوا وتضرعوا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك حتى دعا لهم، وابتلوا أيضًا بالقحط والسنين؛ بدعاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حتى رفع اللَّه عنهم القحط. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22). ففي هذه الآية تذكير وتنبيه وتخويف وتهويل وتعريف حال هي على خلاف ما هم عليها في الحال. ثم ذكر الصراط في الذي يمشي سويًّا، ولم يذكر الصراط في الذي يمشي مكبًّا، فهو على الإضمار كأنه يقول: أفمن يمشي مكبًّا على غير الصراط أهدى، أمن يمشي سويًّا على صراط مستقيم؟! فيكون هذا تذكيرًا وتنبيهًا وتسفيهًا لأحلامهم؛ لأن الذين آثروا الإيمان وسلكوا طريقه، فإنما سلكوا بالحجج والبراهين، والذين آثروا الكفر آثروه من غير حجة، بل حيرتهم وسفههم هما اللذان دعواهم إلى التزام الكفر والتدين به، ومن آثر الحيرة والعمى على الهدى والرشاد فهو سفيه. وجائز أن يكون قوله: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى) أي: أهدى طريقا، أم الذي يمشي سويا على صراط مستقيم، وحق هذا الكلام أن يقال: بل الذي يمشي على صراط

(23)

مستقيم هو الأهدى من الذي يختار الطريق المعوج الزائغ عن الرشاد، فيكون في الوجه الأول معنى التخويف والتذكير والتنبيه جميعًا، وفي الوجه الثاني تذكير وتنبيه. وقولنا بأن فيه تعريف حَالٍ خلاف الحال التي هم عليها: أن كل واحد من الفريقين -أعني به: أهل الإسلام وأهل الكفر- يزعم أنهم على الهدى، والفريق الآخر على الضلال، وإذا اتفقت الدعاوي على تضليل أحد الفريقين، ثم لا بد أن يكون جزاء الضال غير جزاء المهتدي، وجزاء الولي غير جزاء العدو. ثم الدنيا تمر على الفريقين على جهة واحدة؛ فلا بد من تثبيت دار أخرى، والقول بها للجزاء، فيكون فيما ذكروا إيجاب القول بالبعث والإقرار به، فهذا الذي ذكرنا هو يعرفهما خلاف الحالة التي هم عليها؛ ولأن الذي يمشي مكبا على غير الطريق هو الأعمى الذي لا يبصر، والمقعد الذي لا يقوى على المشي، والذي يمشي سويا على صراط مستقيم هو الذي ليست به زمانة ولا به عمى يمنعه عن الصراط؛ فيكون قوله: (يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ) هو الأعمى، والذي يمشي سويا على صراط مستقيم هو السميع البصير؛ فيكون معناه ما قال في سورة هود: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا). * * * قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30). وقوله - عَزَّ وجل -: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ). فهذه الآية صلة قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)، وصلة قوله: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)، وقوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا)، ثم في ذكر الإنشاء وجعل السمع والأبصار والأفئدة تذكير قوته وسلطانه وعلمه وحكمته وآلائه وتعاليه عن الأشباه والأمثال: فوجه تذكيره القوة والسلطان والعلم والحكمة ما يوصف بعد هذا، ويذكر في

سورة المرسلات وفي سورة (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) وسنذكر طرفا من ذلك هاهنا بعون اللَّه تعالى وتوفيقه، فنقول بأن اللَّه تعالى أنشأنا في أظلم مكان وأضيق موضع، بحيث لا ينتهي إليه تدبير البشر وعلومهم وحكمتهم وقواهم؛ لأن علم الخلق لا يجد نفاذا في الظلمات، وكذلك حكمته، ثم إن اللَّه تعالى أنشأه في تلك الظلمات كيف شاء، وأجرى سلطانه وتدبيره على ذلك الشيء؛ ليعلم به أن علمه بالخفيات من الأمور كعلمه بما ظهر منها، ويعرف الخلائق أنه لا يخفى عليه شيء، فيدعوهم ذلك إلى المراقبة في كل ما يسرون وما يعلنون، ويوجب ما ذكرنا نفي تقدير قوته وعلمه وسلطانه بقوى البشر وعلومهم وسلطانهم؛ فيكون فيه إيضاح عن الشبه التي اعترت منكري البعث في أمر البعث، ويحملهم على الإيمان به إذا أمعنوا النظر فيه، وليعلموا أن من بلغت حكمته ما ذكرنا لا يجوز أن يخلقهم سدى لا يخاطبهم ولا ينهاهم بل يتركهم هملا. وأما وجه تعاليه عن الأشباه والأشكال: هو أنه أنشأ الخلق في أظلم مكان وأضيقه كان فيه إبانة أنه لا يوصف بالكون في ذلك المكان الذي ظهر فيه آثار فعله؛ لأنه في وقت ما خلق عمرا في بطن أمه، فقد خلق زيدا في ذلك الوقت في بطن أمه، وخلق خلائق في بطون الأنعام والسباع وبطون بنات آدم، وأنشأ النبات في الأرضين في ذلك الوقت، ولو كان يوصف بالكون في مكان الفعل، لكان إذا أخذ في خلق هذا لا يخلق في ذلك الوقت في أقطار الأرض أمثاله من الخلائق؛ فدل أن الفعل ليس يتحصل منه بشهوده المكان الذي ظهر فيه فعله، وإنما يكون بما ظهر لنا بمقتضى قوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). وأما سائر الفَعَلة فهم لا يتمكنون من الفعل إلا بشهودهم مكان الفعل؛ فهذا الذي ذكرناه ينفى عنه شبه الخلق، ويوجب تعاليه عن الأشكال، وفيه تذكير نعمه ومننه على خلقه؛ ألا ترى أنه قال على أثر هذا: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)؟! ولو لم يكن منعمًا مُفْضِلًا، لم يكن يستأدي منهم الشكر. ووجه النعمة: هو أنه قدره في تلك الظلمات وصَانه عن الآفات، وعن كل أنواع

(24)

الأذى، وغذاه في ذلك الموضع بما شاء من الأغذية، وستره عن أبصار الناظرين، وغيبه عن أعينهم؛ لأنه في تلك الحال بالمحل الذي يستعاف ويستقذر منه، ولا يمكن أن يدفع عنه المعنى الذي وقعت به الاستعافة والاستقذار بالتطهير، وأنشأ له السمع والبصر والفؤاد؛ ليصل بها إلى أنواع العلوم والمصالح؛ فلزمهم أن يقوموا بشكر ذلك. وفيما ذكرنا نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يزعمون أن اللَّه تعالى لو خلقهم على غير الوجه الذي ظهر، لكان جائرًا؛ لأن من مذهبهم: أنه لا يفعل بهم إلا ما هو أصلح لهم. وإذا كان خلقهم هو الأصلح، ومن شرطه فعل الأصلح، فإذن هو صار قاضي حق، وليس لقاضي الحق على المقضي موضع منة، ولا منه بمكانة ولا نعمة يلزمه شكرها له. ثم قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ): أي: جعل لكم السمع؛ لتسمعوا ما غاب عنكم ونأى، فتعرفوه بالسمع، وأنشأ لكم الأبصار؛ لتبصروا بها ما حضر من الأشياء، وتعرفوا بها ما ينفعكم وما يضركم، وما خبث منها وما طاب، وأنشأ لكم أفئدة تدركون بها حقائق الأشياء، ومبادئ الأمور ومآلها، وما حل منها وما حرم. ثم خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر؛ لما بها يتوصل إلى العلوم ومعرفة الأشياء؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، ومعناه: أنه أنشأ لكم هذه الأشياء؛ لتهتدوا بها، وتصلوا بها إلى أنواع العلوم؛ فثبت أن هذه الأشياء هي التي يتوصل بها إلى العلم والحكمة، وإلى ما به المصلحة والمنفعة؛ ولذلك قال: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، فلو لم يقع بها الوصول إلى علم الأشياء، لكان لا يخص بالسؤال عنها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) جمع في هذه الآية بين خبرين: أحدهما: مما قد نوزع فيه، وهو قوله: (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فإن بعض الكفرة ينكرون الحشر والبعث. والثاني: مما لم يقع فيه التنازع، وهو قوله: (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ). ثم إن اللَّه - تعالى - جعل ابتداء الخلق دلالة القدرة على الإعادة بقوله: (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).

(25)

وإذا جعل الابتداء دليل الإعادة، لزمهم أن يستدلوا به، فهو وإن ذكره على وجه الجمع لا على وجه الاحتجاج، ففيه موضع الاحتجاج عليهم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فِي الْأَرْضِ) فيه إخبار أنه خلقهم في الأرض؛ ليشاهد بعضهم خلق بعض في الابتداء؛ فيعلموا أنهم لم يكونوا على الحالة التي هم عليها للحال، بل كانوا نطفًا وعلمًا وأطفالًا إلى أن انتهوا إلى الحالة التي هم عليها، فإذا تقرر عندهم أمر الابتداء، أوجب لهم ذلك علما بالقدرة على الإعادة. أو يكون قوله: (فِي الْأَرْضِ) أي: أنشأكم، وجعل لكم مساكن في الأرض، وبسطها لكم لتنتفعوا بها، وجعلها لكم كِفَاتًا؛ فيكون فيه تذكيره النعمة والقدرة والسلطان. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (ذَرَأَكُمْ) أي: كثركم من أصل واحد، كما قال - تعالى -: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً). ومعلوم بأن الخلق على كثرتهم، لم يكونوا في نفس واحدة، ومن قدر على خلق الأنفس من نفس واحدة، لقادر على إعادة ما قد سبق كونه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) فقولهم هذا خرج مخرج الاستهزاء، أو الاستخفاف برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأمر اللَّه - سبحانه وتعالى - نبيه - عليه السلام - أن يجيبهم بالجواب الذي يليق من الحكماء، ولم يأذن له أن يجازيهم باستخفافهم إياه استخفافًا مثله؛ فقال: (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) يبين لهم أنه لا ينذرهم إلا بالذي أمره به، ولا يبلغ إليهم إلا ما قد أنزل إليه، وأمر بتبليغه، وفي هذه الآية دلالة نبوته، وآية رسالته؛ لأنه لو لم يكن رسولًا -كما زعموا- وكان مختلًقا من تلقاء نفسه، لكن يمكنه أن يحيل ذلك إلى وقت لا يظهر غلطه فيه، ولا كذبه لديهم، وهو أن يحيله إلى وقت لا يعيش إلى مثل ذلك الوقت، فإذا لم يفعل، بل قال: (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) دلهم ذلك على رسالته، وأنه إذا كان رسولًا، لم يكن له أن يزيد في الرسالة، ولا أن يتكلف من عنده فيها زيادة؛ كما ذكر في قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى)، أن فيه ما يقرر رسالته عندهم من الوجه الذي يذكر في تلك السورة، إن شاء اللَّه تعالى. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)، أي: لا أزيد في الإنذار على القدر الذي أمرت به. وقوله - تعالى -: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) جائز أن يكون قوله تعالى: (رَأَوْهُ)، أي: رأوا الذي وعدوا، وقوله: (زُلْفَةً)، أي: قريبة. ثم أنث " الزلفة "؛ لما أريد بها الأحوال التي تكون في ذلك اليوم من الأهوال

(28)

والشدائد، ويكون قوله: (رَأَوْهُ) كناية عن ذلك اليوم، فذكر؛ لأن اليوم مذكر، وجعل " زلفة " بلفظ التأنيث؛ لأنها كناية عن الأهوال التي تكون في ذلك اليوم. وجائز أن يكون قوله: (زُلْفَةً)، أي: رأوا تلك الأهوال والشدائد قريبة عن الأوقات التي وعدرا فيها، فعلموا أنها كانت قريبة منهم وإن كانوا يستبعدونها في هذا اليوم، وهو كقوله: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)، وقال: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا). وكذلك إذا رأوا شدائد ذلك اليوم وأهواله، علموا أن الوقت الذي كان يوعدهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان قريبًا منهم. وقوله: (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا). فسيئت، من ساءت، أي: ساءت وجوههم، أو قبحت وجوههم بتغير ألوانها. وقوله - تعالى -: (وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ). قال أبو بكر الأصم: معناه: تمنعون وتدفعون كقوله تعالى: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، وقوله: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا): دفعًا. وليس الأمر كما ذكره؛ لأنه لو كان من الدفع والمنع، لكان حقه أن يشدد العين، لا الدال كما شددت في قوله: (يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، فإذا شددت الدال دون العين، ثبت أن اشتقاقه ليس من " الدع "، ولكنه من " الادعاء "؛ إذ الدال هي المشددة؛ فتأويله - والله أعلم -: (هَذَا الَّذِي كنُتُم بِهِ تَدَّعُونَ)، أي: هذا الوقت الذي كنتم تكذبون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتدعون عليه أنه كاذب في الإخبار. وجائز أن يكون قوله: (تَدَّعُونَ)، أي: تَدْعُون، وقد يستعمل الإدعاء مكان الدعوة؛ كما يقال: ذكر واذَّكر، وخبر واختبر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28). ففي هذه الآية دلالة أن في حكمة اللَّه مشيئة المغفرة والعقاب لمن ارتكب غير الكفر من الزلات، وإيجاب العقاب على من اعتقد الكفر والتزمه، وأن ليس في الحكمة عفو مثله من العقوبة؛ لأنه قال: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا) فأثبت فيه خيار الإهلاك ومشيئة الرحمة والمغفرة، ومعلوم بأنه يهلك ومن معه أو يرحم عندما يبتلى بالزلات؛ وكذلك قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)؛ فجعل لنفسه مشيئة المغفرة لمن توقَّى الكفر، وحكم بإيجاب العقاب على من أشرك به.

والذي يدل على أن الحكمة توجب ما ذكرنا: أن الكفر لنفسه قبيح لا يحتمل الإطلاق ولا رفع الحرمة؛ لما فيه من السفه؛ لأن من رضي بشتم نفسه فهو سفيه، فعلى ذلك عقوبته لا تحتمل في الحكمة رفعها والعفو عنها. أو لما كان الكفر لا يحتمل الإباحة ورفع العقوبة، والإفضال بالمغفرة يخرج مخرج الإباحة لذلك - لم يجز القول فيه بالمغفرة والعفو، وسائر المآثم جائز رفع الحرمة عنها. ولأن الكافر اختار عداوة اللَّه تعالى وكفران نعمه، والذي اعتقد الإسلام اختار ولايته، والحكمة توجب التفرقة بين العدو والولي، وفي العفو عنه وإكرامه والإحسان إليه تسوية بين الولي والعدو، وفي ذلك تضييع الحكمة؛ ولأن الكافر عند نفسه أنه على الحق والصواب وغيره على الباطل والضلال، وأنه غير مستوجب للعذاب؛ يدل على ذلك حكايته عن أهل الكفر: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، فاللَّه تعالى إذا أنعم عليه بالعفو وتطول عليه بالإحسان، لم يقع ذلك عنده موقع التجاوز والغفران، بل يقع عنده أنه إنما أحسن إليه؛ لاستحقاقه الإحسان، وعفا عنه لما سبق منه ما يستوجب به العقاب، وإذا كان كذلك أدى ذلك إلى تضييع الإحسان وتضييع العفو وإبطال النعمة؛ فثبت أن الحكمة لا توجب العفو عن الكافر؛ إذ يحصل بذلك العفو في غير موضعه، وأما أهل الإسلام الذين سبقت منهم الأجرام فقد علموا أن الذي سبق منهم زلات ومآثم، وأن العذاب قد لزمهم، وأنهم مستوجبون للعقاب، فإذا عفا عنهم، علموا أنهم إنما نالوا العفو بفضل اللَّه تعالى فيقع الإحسان موقعه. ولأن من أحسن إلى عدوه في الشاهد، ولم يقصد بإحسانه إليه قصد استدراجه والمكر به، فهو إنما يحسن إليه لما يخاف ناحيته، ويخرج فعله هذا مخرج التذلل له، فلو لم يؤاخذ اللَّه الكافر بما تعاطى من الكفر، بل أحسن إليه من غير تبعة عليه، خرج عفوه وإحسانه إليه مخرج الخوف وإظهار التذلل، واللَّه تعالى يجل عن هذين الوصفين؛ فثبت أن الحكمة توجب القول بالتخليد وتمنع القول بالعفو، واللَّه أعلم. وفي قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا) دلالة أن لله تعالى أن

يعذب على الصغائر؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع من سبقه من الأنبياء - عليهم السلام - قد عصموا عن ارتكاب الكبائر؛ فلا يجوز أن يرتكبوا الكبائر فيهلكوا لأجلها؛ فثبت أنهم لو أهلكوا لأهلكوا بالصغائر، فلو لم يكن لله - تعالى - أن يعذب أهل الصغائر، لصار هو بإهلاكه إياه بمن معه جائرا ظالما، وجل اللَّه تعالى عن الوصف بالجور، وقال - تعالى -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، ولو لم يكن لله - تعالى - أن يعذب على الصغائر أحدًا، لم يكن له على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - موضع الامتنان بما غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ثم الحق أن يقال: إن جميع الخوارج والمعتزلة لا يجوز أن يغفر اللَّه تعالى لهم؛ لارتكابهم الكبائر، وإنما هذا الرجاء الذي ذكرنا لغيرهم من منتحلي الإسلام؛ لأنهم يقولون: لا يجوز أن يغفر اللَّه تعالى لأهل الكبائر، ولا أن يتطول عليهم بالعفو، بل حق أمثالهم أن يخلدوا في النار أبد الآبدين، وإذا كان هذا هو الحكم فيهم، فاللَّه تعالى إن غفر لهم ومن عليهم بالعفو، وقع عندهم أنه إنما عفا عنهم؛ لأن الذين ارتكبوا من المآثم لم تكن كبائر بل كانت صغائر؛ إذ لا يجوز المغفرة عن الكبائر؛ فيحصل العفو في غير موضعه والإحسان في غير موقعه، وأما غيرهم من منتحلي الإسلام فهم يرجون عفوه وسعة رحمته في كل آثامهم، فإذا تفضل عليهم بالمغفرة وقع العفو عندهم موقعه؛ فلا يكون فيه تضييع الإحسان، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا. ثم قوله عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا). أي: قل إن أهلكني اللَّه ومن معي بما سبق من الأجرام والزلات، أو رحمنا بما سبق منا من الإيمان به والانقياد لأمره والخضوع لطاعته، (فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ) أي: أي شيء يجير الكافرين من عذابه، ولم يسبق منهم إلى ربهم حسنة يرحمون لأجلها، ولا طاعة يستوجبون الغفران بها؟! أو فمن يجيرهم من عذاب اللَّه تعالى إن حل بهم؟! فكأنه قيل له: قل لهم: هذا لأنهم كانوا يعبدون الأصنام؛ رجاء أن تنصرهم من العذاب الأليم، فيقول: لا تجيرهم تلك الأصنام من العذاب الأليم، واللَّه أعلم.

(29)

وقوله - تعالى -: (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29). فجائز أن يكون معناه: أن الذي خلق الموت والحياة وخلق سبع سماوات طباقًا، وجعل الأرض ذلولا، ويعلم السر والجهر -هو الرحمن؛ فيكون فيه إنباء أن خالق السماوات والأرض وخالق الموت والحياة وخالق أفعال العباد وأفعال الطير- هو الرحمن جل جلاله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آمَنَّا بِهِ) أي: آمنا أنه خالق ما ذكرنا، وأنه المتعالي - عن الأشباه والأمثال والبريء من كل العيوب. وجائز أن يكون هو اسمًا من أسماء اللَّه تعالى على ما نذكره في سورة الإخلاص؛ فيكون هو والرحمن اسمين من أسمائه. وقوله: (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا). فجائز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خوفه المشركون بأنواع من المخاوف، فقيل له: قل: عليه توكلنا، أي: اعتمدنا عليه؛ هو الذي يدفع عنا شركم وينصرنا عليكم. وقوله: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). فجائز أن يكونوا نسبوه أيضًا إلى الضلال وادعوا أنهم على الهدى ولم ينظروا في آيات اللَّه تعالى ليتيقنوا بها من المهتدي منهم ومن الضال؟ فقال: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) إذا جاءكم بأس اللَّه، وذلك عند الموت أو في الآخرة. وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30). فهذا صلة قوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ)، فيقول أيضًا: من الذي يأتيكم بماء معين إذا أصبح ماؤكم غورًا. والمعين: هو الماء الذي تقع عليه العين فيراه البصر، واللَّه أعلم. * * *

سورة القلم

سورة (ن والقلم) وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ن)، اختلف في تأويل نون: فمنهم من يقول: هو الحوت؛ كقوله: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)، فنسبه إلى النون وهو الحوت؛ ألا ترى إلى قوله: (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ). ومنهم من يقول: " النون " هو الدواة، فتأويل هذا على جهة الموافقة؛ لأنه ذكر القلم وما يسطر به، فلم يبق هاهنا سوى الدواة؛ فحمله على الدواة؛ لأجل الموافقة، لا أن يكون فيه معنى يدل على إرادة الدواة منه، واللَّه أعلم. ومنهم من يقول: هي فارسية معربة " أنون كن "، أي: اصنع ما شئت، يقال هذا عند الإياس: أن المرء إذا أيس عن آخر قال له: اصنع ما شئت إذن. ومنهم من يقول: هو من الحروف المقطعة، ويشبه أن يكون كذلك؛ لأنه ذكر القلم وما يسطر على أثره، وإنما يكتب بالقلم ويسطر الحروف المعجمة، فأخبر - تعالى - عظيم صنيعه ولطفه بإنشائه هذه الحروف وخلقه القلم وما يسطر عليه؛ حيث يوصل بها إلى معرفة الحكمة وكل ما يكون به المصلحة من الدِّين والدنيا، بل جعل قوام الدِّين والدنيا بها. ومنهم من يجعل كل حرف من الحروف المعجمة اسما من أسماء اللَّه تعالى، أو افتتاح اسم من أسمائه، وكذلك يُروى عن بعض الصحابة - رضي اللَّه عنهم - أنه قال

(2)

ذلك. فإن كان النون اسما من أسماء اللَّه تعالى، فالقسم به قسم باللَّه تعالى، وإن كان على غيره من الوجوه التي ذكرناها، فالقسم جار بما به قوام سائر الخلق ومصالحهم، وقد ذكرنا أن القسم لتأكيد ما يقصد من الأمر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2). فموضع القسم هذا أقسم بما ذكر (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ): ما أنت بما أنعم الله عليك بمجنون؛ وهذا يحتمل أوجهًا: أحدها: أي: نعمة ربك حفظتك عن الجنون؛ فنفى عنه الجنون بقوله: ما أنت بما أنعم اللَّه عليك بمجنون، وهذا كما يقال: ما أنت بحمد اللَّه بمجنون، يراد به نفي الجنون. والثاني: أنك لست ممن خدعته النعمة واغتر بها حتى شغلته عن العمل بما له وعليه، والمجنون في النعمة هو الذي غرته النعم وألهته عن التزود للمعاد. أو ما أنت بغافل عن نعمة السيد، وهو الرب - جل جلاله - بل تذكرها وتشكر اللَّه تعالى عليها، والمجنون من غفل عن النعمة وأعرض عن شكرها. ثم الكفرة كانوا ينسبونه إلى الجنون: إما لما كان يغشى؛ لثقل الوحي، فكانوا ينسبونه لهذا، وإما لما رأوا أنه خاطر بنفسه وروحه حيث خالف أهل الأرض، وفيها الجبابرة والفراعنة، وانتصب لمعاداتهم، ومن قام بخلاف من لا طاقة له معه وانتصب لمعاداته، فذلك منه في الشاهد جنون، فأجاب اللَّه تعالى للفريقين جميعًا: أما للأول بقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ). أي: كيف تنسبونه إلى الجنون وعند الإفاقة من تلك الغشية يأتيهم بحكمة وموعظة يعجز حكماء الجن والإنس عن إتيان مثله، وليس ذلك من علم المجانين، ولا مما يمكن تحصيله في حال الجنون؛ لأن المجنون إذا أفاق من غشيته، تكلم بكلام لا يعبأ بمثله، ولا يكترث له.

(3)

وأجاب لمن كان نسبه إلى الجنون؛ لما خاطر بروحه ونفسه بقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)، فأخبر أن الذي حمله على المخاطرة بروحه وجسده هو أنه مأمور بالتبليغ والنذارة، فهو يقوم بما أمر، وإن أدى ذلك إلى إتلاف النفس، ثم - بحمد اللَّه تعالى - لم يتهيأ للفراعنة أن يقتلوه ولا تمكنوا من المكر به، بل أظفره اللَّه تعالى عليهم حتى قتلهم ورد كيدهم في نحورهم؛ فصار الوجه الذي استدلوا به على جنونه آية رسالته ودلالة نبوته، واللَّه الهادي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3). قال الحسن: أي: لا يمن عليك المنة التي تؤذيك، ولكن يمن عليك منة رحمة وكرامة، والمن المؤذي كما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)، فليس لأحد عليك منة تؤذيك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي: غير مقطوع، أي: إن أجرك غير مقدر بالأعمال حتى يجري بقدر الأعمال، فإذا انقطعت الأعمال انقطع الأجر وانقرض، بل يتتابع عليك ويدر، يقال في الكلام: مننت الحبل، أي: قطعته. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي: غير محسوب، أي: لا نحسب عليك النعم؛ فتفنى بفناء الحساب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4). خلقه العظيم: هو القرآن، ومعناه ما أدبه القرآن؛ وذلك كقوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)؛ وكقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)؛ وكقوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)، فأخذه بالعفو وأمره بالعرف، وإعراضه عن الجاهلين، ودفعه السيئة بالتي هي أحسن، وخفضه الجناح للمؤمنين - من أعظم الخُلُق. وتخلق بهذا كله بما أدبه القرآن، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخلق العظيم: هو الإسلام، والإسلام هو الاستسلام والانقياد لأمر اللَّه تعالى، وقد استسلم لذلك، وسلم الناس من لسانه ويده، ومن كل أنواع الأذى، وذلك من أعظم الخلق.

(5)

والأصل أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كلف معاملة أعداء اللَّه تعالى ومعاملة أولياء الله وأنصاره، وكلف أن يرفض الدنيا ويتزهد فيها، وكلف معاملة الصغير والكبير والعالم والجاهل والجن والإنس، وكلف معاملة نسائه، ومن كلف المعاملة مع هَؤُلَاءِ، لم يقم بها إلا بخلق عظيم، ورزقه اللَّه تعالى خلقًا عظيمًا حتى احتمل المعاملة، وقام معهم بحسن العشرة، وحتى عوتب على عظيم خلقه بقوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)، وبقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)، وقال: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ)، وقال (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، فالذي حمله على هذه المشقة والكلفة العظيمة حسن خلقه وفضل شفقته ورحمته، فعظم خلقه أن خلقه جاوز قوى نفسه حتى ضعفت نفسه عن احتماله وكادت تهلك فيه، وغيره من الخلائق تقصر أخلاقهم عن قوى أنفسهم، وأنفسهم: تحتمل أضعاف ما هم عليه من الخلق وتضيق أخلاقهم عن ذلك، فهذا الذي ذكرنا هو النهاية في العظم، وباللَّه التوفيق. * * * قوله تعالى: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6). قال جعفر بن حرب: (الْمَفْتُونُ) في هذا الموضع هو المفتون بضلالته، المعجب بخطئه المشغوف بجهله. وقال الحسن: (الْمَفْتُونُ) هو الذي معه الشيطان. وقيل: (الْمَفْتُونُ) من به الفتنة كما يقال: فلان لا معقول له، أي: ليس له عقل. وقيل: (الْمَفْتُونُ): المعذب؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)، أي: يعذبون؛ فكأنه يقول: ستعلمون أيكم المعذب؟ وأيكم الضال؟ إن حمل على ما ذكر الحسن، وأيكم المغتر إن كان معناه على ما ذكروا أن المفتون من الفتنة.

(7)

وجائز أن يكون نسبوه إلى الاغترار فيما كان يدعي من الرسالة، ويزعمون أنه مغتر بها، ويغر بهما غيره كما قال المنافقون: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)، فحق هذا عندنا ألا يتكلف تفسيره؛ لأنه قال: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)، فذكر هذا جوابا عما وقعت فيه الخصومة، فكانوا يزعمون أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو المفتون، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يذكر أنهم هم المفتونون، فخرج هذا جوابا عن تلك الخصومة: أنهم وأنت ستبصرون، وقد وقعت الخصومات من أوجه: فمرة كانوا يدعون أنه ساحر، ومرة كانوا يدعون أنه مجنون، ومرة بأنه ضال، ومرة أنه مفترٍ وغيرها من الوجوه، فإذا ثبت أن الآية نزلت في حق الجواب فما لم يعلم بأن الخصومة فيم كانت، لم يعلم إلى ماذا يصرف الجواب، واللَّه أعلم. ويشبه أن تكون الخصومة الواقعة في الضلال والهدى، فكانوا يدعون أنهم على الهدى، وأنهم باللَّه أحق وإليه أقرب من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يدعي أنهم على الضلال، وأنه على دين الحق والهدى، يدل على ذلك ذكر الضلال والهدى بعد ذكر المفتون، وهو قوله: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7). ثم هذه الآيات كأنها نزلت جوابا من اللَّه تعالى عما كان يحق لمثله الجواب عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن اللَّه تعالى لما امتحن رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالعفو والإعراض عن المكافأة في الجواب، تولى اللَّه تعالى الجواب عنه بقوله - تعالى -: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ)، أي: قد تعلمون أن ربكم أعلم، (بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، وسنبين لكم ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وقال في موضع آخر: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)، ليس في قوله: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أمر من اللَّه تعالى بأن يطيع المصدقين؛ لأن من صدقه وآمن به لا يجوز له أن يتقدم بين يديه فيأمره أو ينهاه عن

أمر، ويدعوه إلى الطاعة، بل ينظر إلى أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونهيه؛ فيأتمر بأمره، ويطيعه فيما يدعوه إليه، وأما من كذبه، فقد يدعوه إلى طاعته؛ فخص ذكر المكذب عندما نهاه عن طاعته؛ لأن الدعاء إلى الطاعة لا يوجد من المصدق دون أن يتضمن قوله: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أمرا بطاعة المصدق؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ)، فليس فيه أنه إذا لم يخش الإملاق يسعه قتله، ولكنه خص تلك الحالة؛ لأن تلك الحالة هي التي كانت تحملهم على القتل، ولم يكونوا يقدمون على القتل عند الأمن من الإملاق، وفي هذا دلالة إبطال قول من قال بأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على أن الحكم فيما غايره بخلافه، واللَّه أعلم. وقوله: (الْمُكَذِّبِينَ) هم المكذبون بآيات اللَّه تعالى أو بوحدانيته أو برسله أو بالبعث. ثم يجوز أن يكون هذا الأمر منهم في أول الأحوال؛ فكانوا يطمعون من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الإجابة لهم فيما يدعونه إليه؛ إذ كانوا يرجون منه الموافقة لهم بما يبذلون له من المال؛ فيكون النهي راجعًا إلى ذلك الوقت، فأما بعدما ظهرت منه الصلابة في الدِّين والتشمير لأمر اللَّه تعالى فلا يحتمل أن يطيعهم أو يخاف منهم ذلك فينهى عنه. وجائز أن يكون دعاؤهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما ذكر من قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) والمداهنة هي الملاطفة والملاينة في القول. ثم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يذكر آلهتهم بالسوء ويسفههم بعبادتهم إياها ويسفه أحلامهم ويجهلهم، وهم لم يكونوا يجدون في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -مطعنا؛ فكانوا ينسبونه إلى الكذب مرة وإلى الجنون ثانيا وإلى السحر ثالثا، وكانوا يتخذونه هزوا إذا رأوه، وكانوا يطعنون فيه من هذه الأوجه بإزاء ما كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يسفههم ويذكر آلهتهم بسوء، مع علمهم أنه ليس بكذاب ولا ساحر ولا كاهن؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ)، فأخبر - تعالى - أنهم ليسوا يكذبونه لما وقفوا منه على الكذب، بل قد كانوا عرفوه بالأمانة والصدق، ولم يكونوا وقفوا منه على كذب قط، وإنما الذي حملهم على التكذيب واتخاذهم إياه هزوا ذكر آلهتهم بسوء، وكذلك قال: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)، فكانت معاملتهم هذه مجازاة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

(9)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9). يخرج على هذا - إن شاء اللَّه تعالى -: هو أنك لو تركت ذكر آلهتهم بسوء، ولم تسفه أحلامهم؛ لامتنعوا هم أيضًا عما هم عليه من نسبتهم إياك إلى الجنون والسحر والكذب وغير ذلك، ولكنه كان يذكرهم بما يذكرهم وهو في ذلك محق، وهم كانوا يذكرونه بما قالوا بالباطل والزور؛ فيكون قوله: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) فيما يدعونك إلى المداهنة، ثم هم لو داهنوا كانوا في مداهنتهم محقين، فإذا تركوا ذلك فقد تركوا الحق الذي كان عليهم، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لو داهنهم، لم يكن في مداهنتهم محقًّا؛ فلذلك نهِي عن المداهنة. وقال بعض أهل التفسير: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)، أي: لو ترفض ما أنت عليه من الدِّين؛ فيرفضون ما هم عليه من الدِّين؛ وهذا لا يستقيم؛ لأنه إذا رفض ما هو عليه من الدِّين كفر، وهم لو تركوا ما هم عليه، صاروا مسلمين، فيبقى بينهم الاختلاف الذي لأجله دعوا إلى المداهنة وودوها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10). قيل: إن هذه الآيات نزلت في واحد يشار إليه، وهو الوليد بن المغيرة المخزومي، وفيما يشار إلى واحد لا يطلق فيه لفظة " كل " فيقال: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)، والحلاف المهين ليس إلا واحدًا، ولكن معناه: ولا تطع هذا ولا كل من يوجد فيه هذه الصفة، ثم ذكر المرء بقوله: (حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) يخرج مخرج الهجاء والشتم في الشاهد؛ لأن ذكر المرء بما هو عليه من ارتكاب الفواحش والمساوئ تهجينٌ له وشتم، وجل اللَّه ورسوله أن يقصدوا إلى شتم إنسان، فالآية ليست في تثبيت فواحشه، وإنما هي في موضع التوبيخ والزجر عن اتباع مثله، وذلك أنه كان من رؤساء الكفرة، وممن بسطت عليه الدنيا؛ فكان القوم يتبعونه وينقادون له فيما يدعوهم إلى الصد عن سبيل اللَّه، فذكر اللَّه تعالى فيه هذه الأشياء، وأظهرها للخلق؛ ليزهدهم عن اتباعه؛ إذ كل من كانت فيه هذه الأحوال، لم تسْخُ نفس عاقل باتباعه، ولا احتمل طبعه طاعة مثله؛ فلا يتمكن من صد الناس عن سبيل اللَّه تعالى،

(11)

فكان في ذكره بالعيوب التي هي فيه زجر الناس عن طاعته؛ فذكرها لإثبات هذا الوجه، لا أن يكون فائدتها تحصيل الشتم والهجاء؛ وكذلك ذكر أبا لهب بالتب والخسار وما هو عليه من الفواحش؛ ليزجر الناس عن اتباعه. وفي هذه الآيات دلالة نبوة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الوجه الذي نذكره في سورة " تبت " إن شاء اللَّه تعالى. ثم قيل: المهين من المهانة، ومن المهنة، ومن الوهن، وهو الضعف. ثم قوله: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) جائز أن يكون استوجب المهانة؛ لكونه همازا مشاء بالنميم وبمنعه الخير واعتدائه؛ فيكون هذا كله تفسير (مَهِينٍ)، فإن كان هكذا فقوله: (مَهِينٍ) من المهانة هاهنا. ثم لا يجوز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخشى عليه طاعة من هذا وصفه، وأن يميل قلبه إليه، ولكن النهي لمكان غيره وإن كان هو المشار إليه بالذكر. وجائز أن يكون قوله: (كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) تمام الكلام، ويكون قوله: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) على الابتداء؛ فكأنه يقول: لا تطع كل حلاف مهين، وكل هماز مشاء بنميم، وكل معتد أثيم، وكل عتل زنيم. وتفسير الهمز يذكر في تفسير سورة الهُمَزَة، إن شاء اللَّه تعالى. والمشاء بالنميم: هو الذي يسعى في الفرقة بين الإخوان، ويقوم فيما بينهم بالقطيعة. والمناع للخير: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه كان يمنع أهل الآفاق مَنْ كان بحضرته عن اتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويقول: إنه ضال مضل، فقيل: مناع للخير؛ لهذا. ومنهم من ذكر: أنه كان يمنع ولده من الاختلاف إلى مجلس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وجائز أن يكون منعه للخير هو امتناعه عن أداء الحقوق التي لله تعالى الواجبة في ماله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُعْتَدٍ). أي: معتد حدود اللَّه تعالى، أو ظالم لنفسه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَثِيمٍ).

(13)

الأثيم: هو المرتكب لما يأثم به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13). العتل: الفظ الغليظ، والشديد الظلوم. وقيل: هو الفاحش اللئيم الضريبة. وقال مجاهد: العتل: الشديد الأشر، أي: الخلق، وقد روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم "، فقال رجل من المسلمين: يا رسول اللَّه، وما الجواظ، والجعظري والعتل الزنيم؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أما الجواظ فالذي جمع ومنع تدعوه لظى نزاعة للشوى، وأما الجعظري: فالفظ الغليظ؛ قال اللَّه تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، وأما العتل الزنيم: هو الشديد الخلق، الرحيب الجوف المصحَّح، الأكول الشروب، الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس "، وأما الزنيم: هو الدعي الملصق بالقوم الملحق في النسب. واستدلوا على ذلك بقول الساعر: زَنِيمٌ ليس يُعْرَفُ مَنْ أبوه؟ ... بَغِيُّ الأمِّ ذو حسب لئيم ويقول آخر: زَنِيمٌ تَداعاه الرجال زِيادَة ... كَمَا زِيدَ في عرْض الأدِيم الأكَارعُ ومنهم من قال: إنه كانت به زنمة في أصل أذنه يعرف بها. ومنهم من يقول: الزنيم: هو العلَم في الشر. ولقائل أن يقول: إذا كان تأويل العتل ما ذكر في الخبر، ومعنى الزنيم: الدعيّ أو ما

(14)

ذكر من العلامة، فكيف عير بهذه الأشياء، ولم يكن له في ذلك صنع، والمرء إنما يعير بماله فيه صنع لا بما لا صنع له فيه؟! فيجاب عن هذا من وجهين: أحدهما: ما ذكرنا: أن ذكره بما فيه من العيوب ليس لمكان المذكور نفسه، ولكن لزجر الناس عن اتباعه؛ لأن من اشتمل على العيوب التي ذكرها، وكان مع ذلك عتلا زنيما، فأنفس الخلق تأبى عن اتباعه، ففائدة تعييره بما أنشئ عليها ما ذكرنا من الحكمة لا تعييره. والثاني: أن ذكر أصله كناية عن سوء فعله؛ ليعلم أن خبث الأصل يدعو الإنسان إلى تعاطي الأفعال الذميمة، وصحة الأصل وحسنه ونقاوته يدعو صاحبه إلى محاسن الأخلاق وإلى الأفعال المرضية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14). فيخبر أن من يتبعه، يتبعه لكثرة أمواله وبنيه؛ وذلك لأن كثرة المال للإنسان مِن أحد ما يستدعي قلوب الخلق إلى تعظيمه، فذكر ما فيه من العيوب والمساوئ؛ لئلا يستميل قلوب الضعفة إلى نفسه بماله، فيقول: كيف تتبعونه وهو بهذا الوصف الذي وصفه الله تعالى؟! ثم أخبر عن معاملته رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) ثم قوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، وإن كان عامًّا بظاهره، لكن لم يرد به العموم؛ لأن قوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، ليس في كل الآيات، وإنما هو في الآيات التي هي في حق الإخبار عن الأمم السالفة، وأما إذا تليت عليه الآيات التي فيها دلالة إثبات الرسالة ودلالة التوحيد ودلالة البعث، فقوله فيها ما قال في سورة المدثر: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ)، وهذا دليل على أنه لا يجب اعتقاد ظاهر العموم ما لم يعلم بيقين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16). قيل: شَيْنًا لا يفارقه، فجائز أن يكون جعل هذا في الدنيا؛ لكي يعلمه ويذكره من رآه فيجتنب صحبته؛ فهو يصير شَيْنًا من هذا الوجه؛ فيخرج هذا مخرج العقوبة لشدة تعنته

(17)

على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعظيم أذاه له. وجائز أن يكون هذا في الآخرة، فيجعل اللَّه تعالى في أنفه علما يتبين به، ويمتاز من غيره يوم القيامة؛ زيادة له في العقوبة، كما جعل لآكلي الربا يوم القيامة علما يعرفون به، وذلك قوله: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ). وجائز أن يكون: نسم خرطومه خصوصا له من بمن الكفرة، فيحشره ولا أنف له؛ لأنه ذكر أن سائر الكفرة يحشرون يوم القيامة عميا وبكما، وصما، ولم يذكر في أنوفهم شيئا، فجائز أن يكون يحشر ولا أنف له، وذلك هو النهاية في القبح، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ)، فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون أهل مكة ابتلوا بالإحسان إلى أتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كما ابتُلي أصحاب الجنة بالإحسان إلى المساكين ثم أخبر أن أُولَئِكَ امتنعوا عن الإحسان إلى المساكين فحل بهم من البلاء ما ذكر؛ لامتناعهم عن الائتمار، فيذكر أهل مكة: أنهم إن امتنعوا عن الإحسان إلى أتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، حل بهم ما حل بأُولَئِكَ، وقد وجد منهم الامتناع فابتلوا بسنين كسني يوسف - عليه السلام - حتى اضطروا إلى أكل الجيف والأقذار. ثم إن أصحاب الجنة لما مسهم العذاب، وأيقنوا به أنابوا إلى اللَّه تعالى، وانقلعوا عن مساويهم، فتاب اللَّه عليهم ورفع البلاء عنهم، وأهل مكة تمادوا في غيهم ولم يتوبوا فانتقم اللَّه منهم بالقتل يوم بدر في الدنيا، وسيردهم إلى العذاب في الآخرة. وجائز أن يكون اللَّه تعالى لما أعزهم وشرفهم وصرف وجوه الخلق إليهم، امتحنهم

(18)

في الدنيا بتبجيل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتعظيمه، فلما أساءوا صحبته عاقبهم بما ذكرنا، ووسع على أصحاب الجنة فامتحنهم بما وسع عليهم بأن يوسعوا على غيرهم، فلما امتنعوا عن ذلك عوقبوا بزوال النعمة عنهم، وعوقب هَؤُلَاءِ بزوال العز عنهم، وأذاقهم اللَّه لباس الجوع والخوف، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ). فقوله: (مُصْبِحِينَ) أي: لأول وقت ينسب إلى الصباح، وذلك يكون في آخر الليل، كما يقال: مُمْسِين، لأول وقت ينسب إلى المساء، وإذا كان كذلك فالانصرام يقع بالليل؛ ألا ترى إلى قوله: (لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ)، وهم لا يملكون بعد مضي الليل منع المساكين عن الدخول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18). قيل: أي: لا يقولون: إن شاء اللَّه، وقيل: لا يقولون: سُبْحَانَ اللَّهِ، فإن كان على هذا، ففيه أن التسبيح كان مستعملا في موضع الاستثناء، وقد يجوز أن يؤدي معنى الاستثناء؛ لأن في التسبيح تنزيه الرب تعالى، وفي الاستثناء معنى التنزيه؛ لأن فيه إقرارا أن اللَّه تعالى هو المغير للأشياء والمبدل لها. ثم أصحاب الجنة بقسمهم قصدوا قصدا يلحقهم العصيان فيه، وكان عهدهم الذي عاهدوا عليه معصية وعوتبوا بتركهم الاستثناء، ففيه دلالة أن اللَّه تعالى يوصف بالمشيئة، لفعل المعاصي ممن يعلم أنه يختارها؛ لأنه لو لم يوصف به، لم يكن لمعاتبته إياهم بتركهم الاستثناء معنى؛ إذ لا يجوز استعمال الاستثناء فيما لا يجوز أن يوصف به الرب جل وعز، ألا ترى أنه لا يستقيم أن يقال: إن شاء اللَّه جار وإن لم يشأ لم يجر، وإن شاء ضل وإن شاء لم يضل، وإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، فلو لم يوصف أيضًا بإضلال من يعلم منه أنه يؤثر الضلالة، لم يجز أن يلاموا على ترك الاستثناء، ولا مدخل للاستثناء فيه، والذي يدل على صحة ما ذكرنا قوله: (مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)؛ فتبين أنه يشاء إضلال من ذكرنا. وفيه دلالة أن خلق الشيء غير ذلك الشيء؛ لأنه يستقيم أن يوصف اللَّه تعالى بالإضلال، ولا يجوز أن يوصف بالضلال وإن كان الإضلال خلقًا له، ويوصف أنه

المحيي والمميت، ولا يستقيم أن يقال: إن شاء حيا وإن شاء مات، وإن كان هو الذي خلقهما. ثم ليس في قوله: (إِذْ أَقْسَمُوا): إبانة أن قسمهم كان بماذا: فإن كان بغير اللَّه تعالى، ففيه إبانة أن القسم قد يكون بغير اللَّه تعالى، وإن كان قسمهم باللَّه تعالى، ففيه حجة لأبي يوسف على أبي حنيفة - رحمهما اللَّه - أن اليمين إذا كانت مؤقتة فإن هلاك الشيء المحلوف بها قبل مضي وقتها لا يسقط اليمين، بل تبقى بحالها، ويلزم على صاحبها حكم الحنث إذا مضى وقتها؛ لأن الثمر الذي حلفوا على صرمه قد هلك قبل الوقت الذي أوجب فيه الصرم، فلو كانت اليمين تسقط عنهم بهلاك الثمر، لم يكونوا يحتاجون إلى الاستثناء؛ لأن الحاجة إلى الاستثناء لإسقاط المؤنة التي تلزمهم بالحنث في اليمين، فلو كان هلاك الثمر مسقطا لليمين ومؤنة الحنث لاستغنوا عن الاستثناء، فلما لحقتهم اللائمة؛ لتركهم الاستثناء، دل أن المؤنة تبقى عليهم إذا عَرِيَتْ عن الاستثناء وإن كانت مؤقتة. ولكن أبو حنيفة - رحمه اللَّه - يسقِط عنه اليمينَ بهلاك الشيء المحلوف عليه إذا كانت يمينه باللَّه تعالى، ولا يسقطها إذا كانت بشيء من القرب والطاعات -أعني: الندب-، وليس في الآية إبانة أن يمينهم كانت باللَّه تعالى؛ فجائز أن يكون يمينهم بشيء من القرب؛ فبقيت عليهم؛ ولأنه عاتبهم على ترك الاستثناء؛ لعزمهم على المعصية، والاستثناء يسقط العزيمة؛ لأن من عزم على المعصية، وقال فيه: إن شاء اللَّه - لم يصر آثما بمقالته، ولا صار عازما على المعصية، وأبو حنيفة - رحمه اللَّه - ليس يخرجه عن المعصية في اليمين المؤقتة إذا عقدت على أمر من أمور المعصية. والذي يدل على أن العتاب في ترك الاستثناء؛ للوجه الذي ذكرنا: أنه لم يذكر في شيء من الأخبار، ولا ذكر في الكتاب أن أحدا منهم أمر بالتكفير، ولو كان الحنث لازما، لكانوا يلامون على ترك التكفير أيضًا، كما لحقتهم اللائمة بترك الاستثناء، واللَّه أعلم.

(19)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19). طائف من ربك: قيل: عذاب ربك، وسمي: طائفا لأنه أتاهم بالليل، وكل آت بالليل فهو طائف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20). قيل: أي: الجنة كأنها صرمت، وهم أصبحوا ليصرموها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23). قيل: يتسارُّون فيما بينهم؛ فيجوز أن تكون مسارتهم كانت في الأمر بالإسراع في المشي؛ لئلا يشعر بهم أحد من المساكين. أو يتعجلوا في الخروج والمشي قبل الوقت الذي يصبح فيه المساكين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25). فمنهم من ذكر أن اسم جنتهم كان حردا. وقيل: غدوا على أمر قد استثنوه فيما بينهم. وقال الزجاج: الحرد له أوجه ثلاثة: أحدها: القصد، واستدل عليه بقول الشاعر: أقبلَ سيلٌ كان من أمر اللَّهْ ... يحرد حردَ الحيةِ الْمُغِلَّهْ أي: بقصد قصدها. والثاني: هو المنع، يقال: أحردت السنة؛ إذا قحطت وذهبت بركتها. والثالث: الغضب، فغدوا على حرد قادرين، أي: على غضب على الفقراء. وقوله: (قَادِرِينَ). أي: قادرون عليها في أنفسهم. ولقائل أن يقول بأن في هذه الآية دلالة تقدم القدرة على الفعل؛ لأنه أثبت لهم القدرة قبل الفعل، ولكن هذه القدرة ليست هذه قدرة الأفعال، وإنَّمَا هي قدرة الأسباب والأحوال.

(26)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26). أي: قد ضللنا الطريق، فكان عندهم أنهم قد ضلوا الطريق لذلك لم يتوصلوا إلى ثمارها ثم ظهر لهم أنهم لم يضلوا الطريق، بل حرموا بركة الثمار بجنايتهم التي جنوها، فتذكروا صنيعهم، وندموا على ذلك، فأقبلوا بالاستكانة والتضرع إلى اللَّه تعالى، فتاب عليهم، فلعل الذي قال: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) يخرج على هذا، وهو أنا بلونا أصحاب الجنة، فتذكروا؛ فرفع عنهم العذاب، ولم يتذكر أهل مكة فحل بهم العذاب يوم بدر، كما قال: (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ). وقوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ ... (28). أي: أعدلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ). جائز أن يكون معناه: لولا تصلون الفجر، ثم تخرجون. وجائز أن يكون معناه: لولا تستثنون. وقد ذكرنا أن في الاستثناء معنى التسبيح؛ لأن فيه إقرارا بأن الأمور كلها تنفذ بمشيئة اللَّه تعالى، وأنه هو المغير والمبدل دون أحد سواه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا ... (29). فهذا منهم توحيد وتنزيه. وفي قوله: (إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) اعتراف بما ارتكبوا من الذنوب وإنابة إلى اللَّه تعالى، وتمام التوبة منهم في قوله: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31). فذكر المفسرون في قوله: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ)، أي: أقبل بعضهم على بعض باللوم يقول: أنت أمرتنا أن نصرمها ليلًا، وقال هذا لهذا: بل هو عملك أنت. وهذا لا معنى له؛ لأن هذا يوجب تبرئة كل واحد منهم عن ارتكاب الذنوب، وقد سبق منهم الإقرار بالذنب بقولهم: (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، وبقولهم (يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ)، فكيف يبرئون أنفسهم عن الذنوب وقد اعترفوا بها؟! فهذا تأويل لا معنى له، بل معناه - واللَّه أعلم - فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون على إدخال كل منهم نفسه في ذلك القول، فأقبل كل واحد منهم باللائمة على نفسه حتى يكون هذا موافقا لقوله:

(32)

(إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ). ففي هذا إتمام التوبة، ففيه أنهم أظهروا الندامة على ما سبق منهم من أوجه ثلاثة: مرة بما وصفوا أنفسهم بالظلم. ومرة بما لاموا أنفسهم. ومرة بما وصفوا أنفسهم بالطغيان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32). أي: يبدلنا خيرا منها إذا تبنا، وأنبنا إلى ربنا؛ لأنه لا يجوز أن يتوقعوا خيرًا منها وهم مصرون على ذنوبهم؛ إذ قد عرفوا أنهم إنما حرموا بركة الثمار بما ارتكبوا من الذنوب؛ فثبت أن معناه ما ذكرنا. ويحتمل أن يكون هذا في الآخرة يقولون: (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا) في الآخرة إذا تبنا وأنبنا إليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ). إلى ما عند ربنا من العطايا والمنن لراغبون. أو إلى ما وعد ربنا للتائبين من الذنوب لراغبون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33). كانه يخاطب أهل مكة أن كذلك العذاب في الدنيا في أن يأخذ أهله آمن ما كانوا، أو أغفل ما كانوا، كما أخذ أصحاب الجنة عند الأمن؛ إذ كان عندهم أنهم يقدرون على صرم تلك الثمار ولا يأخذهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). ففي هذا إيجاب العذاب على من لم يعلم بالعذاب ولم يؤمن به؛ لأنهم لم يؤمنوا بعذاب الآخرة ولا علموا به، ثم أوجب لهم العذاب وإن لم يعلموا ولم يعذروا بالجهل؛ لأنهم قد وقفوا على السبب الذي لو تفكروا لعلموا بالعذاب ولأيقنوا به، وفي هذا حجة لأن لا عذر لمن تخلف عن التوحيد والإيمان باللَّه تعالى وإن جهل، إلا أن يكون جهله جهل خلقة؛ لأن الذي أفضى به إلى الجهل هو التقصير في الطلب، وإلا لو لم

(34)

يقصر في الطلب لوجد من يدله على معرفة الصانع ووحدانية الرب - تعالى -. * * * قوله تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ). فيه ترغيب لمن لزم التقوى، وهو الإسلام. وقوله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35). أي: أفنجعل من جعل كل شيء سوى اللَّه تعالى لله سالمًا لا يشرك فيه أحدا، كالذي أجرم فجعل في كل شيء سالمٍ لله شركاء في العبادة والتسمية. أو بين اللَّه تعالى أنه ولي المؤمنين وعدو المجرمين، فيقول: أفيزعم أعدائي أن أسوي بينهم وبين الأخيار، والجمع بينهم، لا يفعل ذلك؛ لأن فيه تضييع الحكمة؛ لأن الحكمة توجب التفرقة بين العدو والولي، وفي الجمع بينهما تضييعها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36). في أن أجعل عدوي بمنزلة وليي أو وليي بمنزلة عدوي، أو أي شيء حملكم على حكمكم هذا ولم يأتكم بهذا الحكم كتاب ولا معقول يوجب ذلك، فكيف تطمعون ذلك. أو كيف تحكمون بالجور على ربكم؛ لأن من الجور أن يجمع بين الولي والعدو في دار الكرامة. ثم قوله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ). يستقيم أن يجعل هذا جوابا للفريقين: لمن ينكر البعث، ولمن يزعم أنه شريك أهل الإسلام في الدار الآخرة فيما يكرمون من النعيم. فمن أنكر البعث، فالاحتجاج عليه بهذه الآية هو أن العقل يوجب التفرقة بين الولي

وبين العدو والكفور والشكور، فأنتم إذا أنكرتم البعث، فقد زعمتم على اللَّه تعالى أنه يجعل المسلمين كالمجرمين والكفور كالشكور والعدو كالولي، ومن فعل هذا فهو سفيه لا يصلح أن يكون حكيما، ففي إنكار البعث تحقيق السفه وإثبات الجور؛ لأن من الجور أن يجمع بين الولي وبين العدو في الجزاء. ومن ادعى الوجه الآخر، وهو التسوية بين الفريقين؛ لما تساويا في منافع الدنيا ومضارها وفي لذاتها وشدائدها وبلياتها، فعلى ذلك يكون أمرهم في الآخرة. فجوابهم في ذلك أن الدنيا هي دار يظهر فيها العدو من الولي والشكور من الكفور، والآخرة دار جزاء العداوة والولاية. فجائز أن يقع فيما فيه ظهور الولاية والعداوة اتفاق، ولا يجوز وقوع الاتفاق فيما فيه الجزاء؛ لأن الجزاء لعداوة سبقت ولولاية سبقت، والحكمة توجب التفرقة بين الجزاءين؛ فلا يجوز أن يجعل المسلم فيه كالمجرم؛ لما فيه من تضييع الحكمة، وليس قبل المحنة معنى يوجب التفرقة بينهما في المحنة فجاز أن يقع بينهما الاتفاق في ذلك، ولأنه لو كان يفرق بينهما في الدنيا، لكانت المحنة تخرج عن حدها، والدنيا هي دار المحنة، وإنَّمَا قلنا: إن فيه إخراج المحنة عن حدها؛ لأن المحنة تكون على الرجاء والخوف، والرغبة والرهبة، فلو فرق بين العدو والولي في الدنيا؛ فوسع على الأولياء، وضيق على الأعداء لوقع اختيار وجه الولاية على الضرورة؛ لأن من علم أنه يضيق عليه إذا اختار وجه العداوة، ويتعجل عليه العذاب، ترك ذلك الوجه، ومال إلى الولاية؛ فيرتفع وجه المحنة؛ فلذلك جاز أن يجمع بين الولي والعدو في دار المحنة؛ ليبقى وجه المحنة بحاله، ولم يجز أن يجمع بينهما في الآخرة؛ لأنها دار جزاء، والعقل يوجب تفرقة جزائهما، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، في أحكم الحكماء بالسفه؛ حيث تزعمون أنه يجمع بين الولي والعدو في الجزاء، وذلك من أعلام السفه. أو كيف تحكمون في أحكم الحاكمين وأعدل العادلين بالجور؛ إذ تزعمون أنه يجمع

(37)

بين الفريقين في دار الكرامة، ومن الجور أن يجمع بينهما، وهم كانوا يقرون أن اللَّه - تعالى - أحكم الحاكمين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37). فحاجهم أولًا بما توجبه الحكمة، وهو أنكم تعلمون أن الحكمة توجب التفرقة بينهما، فإن كنتم تدعون الجمع فيما بينهما بالحكمة، فأنتم تعلمون أن الحكمة توجب التفرقة بينهما، وإن كنتم تدعون ذلك من كتاب اللَّه - تعالى - فأي كتاب من عند اللَّه جاءكم فيوجب التسوية بينكم وبين الأولياء؟! وأي رسول أخبركم أنكم تساوون الأولياء في نعيم الآخرة؟!. ثم وجه المحاجة بالكتاب هو أن مشركي العرب لم يكونوا يؤمنون بالكتاب ولا بالرسل، ولو كانوا يؤمنون بهما، لكانوا يقدرون أن يقولوا: إن لنا كتابًا درسناه، فوجدنا فيه ما نذكر وندعي، ورسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبرنا بذلك، ولكنهم إذا كانوا لا يؤمنون بهما صار هذا الوجه الذي ذكره اللَّه - تعالى - نفي حجة لازمة عليهم، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38). أي: وفي ذلك الكتاب تجدون أن لكم فيه لما تخيرون. وقوله: (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39). وهذا أيضًا صلة الأول، أي: هل شهدتم اللَّه تعالى أقسم لكم أنه هكذا كما تحكمون؛ وهذا كقوله تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ)، وقوله: (إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا)، فأخذهم بالمقايسة أولًا؛ وهو كقوله تعالى: (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ)، فلما لم يتهيأ لهم تثبيت ذلك بالقياس والمعقول، احتج عليهم بقوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا)، وقد عرفوا أنهم لم يشهدوا، وما ادعوه لا ثبات له إلا من الوجوه التي ذكرها، وإذا لم يثبتوا بشيء من ذلك تبين عندهم فساد دعواهم، فهذا أيضًا مثله، وهو أنه سألهم عن إيراد الحجة: إما من جهة الحكمة، أو من جهة الكتاب، أو من جهة الشهادة، فإذا لم يثبت لهم واحد من هذه الأوجه فبأي وجه يشهدون على اللَّه تعالى أنه يفعل ذلك. وقوله: (بَالِغَةٌ) أي: [وكيدة]، أو بلغت إليكم عن اللَّه تعالى.

(40)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40). يقول: فإن هم تعنتوا مع هذا كله في أن يدوموا على دعواهم من غير حجة تشهد لهم، فسلهم -أي: اطلبهم- بالزعيم، أي: من يكفل لهم أن الأمر كما يزعمون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41). أي: شركاء يشفعون لهم يوم القيامة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أم لهم شهداء ممن عندهم كتاب يشهدون لهم بما يذكرون. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ... (42). أي: يكشف عن موضع الوعيد بالشدائد والأهوال، والساق: الشدة، وسمي الساق: ساقًا لهذا؛ لأن الناس شدتهم في سوقهم؛ إذ بها يحملون الأحمال؛ فكنى بالساق عن الشدة. وقيل - أيضًا - بأنهم كانوا إذا ابتلوا بشدة وبلاء كشفوا عن أسوقهم، فكنى بذكره عن الشدة، لا أن يراد بذكر الساق تحقيق الساق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ). يحتمل أن يكون هذا على دعاء الحال، ويحتمل أن يكون على دعاء الأمر: فأما دعاء الحال فهو أن من عادات الخلق أنه إذا اشتد بهم الأمر وضاق فزعوا إلى السجود، فجائز أن يكون ما حل بهم من الأهوال والشدائد يدعوهم إلى السجود، فيهمون بذلك فلا يستطيعون؛ فيكون قوله: (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ)، أي: تدعوهم الحالة إلى السجود؛ فهذا دعاء الحال، وجائز أن يؤمروا بالسجود، ويمتحنوا به. ثم إن كان التأويل على الأمر فيحتمل أن يكون ذلك يوم القيامة، وجائز أن يكون وقت الموت. وإن كان على دعاء الحال فذلك يكون عند الموت. ثم الأمر بالسجود يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون على حقيقة الفعل، ويحتمل أن يكون على الاستسلام والخضوع؛ إذ السجود في الحقيقة هو الخضوع والاستسلام، وكل سجود ذكر في القرآن وأريد به عين السجود، فليس يجب بتلاوته السجود. وكل ما أريد منه الاستسلام والخضوع فهو الذي

يجب بتلاوته السجود. ثم إن ذكر في أهل الكفر فإنما يراد منهم الاستسلام بالاعتقاد ليس بعين الفعل، وأهل الإسلام قد وجد منهم الاستسلام بالاعتقاد، فيلزمهم أن يستسلموا من جهة الفعل، فجائز أن يكون هذا لما عاين الشدائد والأفزاع، استسلم لله - تعالى - وخضع له؛ فلم يقبل ذلك منه؛ لأن تلك الدار دار جزاء، وليست بدار محنة. والثاني: أن السجود هو بذل النفس لما طلب منه طائعًا، وإذا أشرف المرء على الموت طلب منه في ذلك الوقت بذل روحه لا بذل نفسه، فإذا كان كافرًا باللَّه - تعالى - اشتد عليه بذل روحه؛ لما يعلم أن مصيره إذا قبض إلى العذاب، وكره ذلك أشد الكراهة، كما قال - عليه السلام - " من كره لقاء اللَّه، كره اللَّه لقاءه، ومن أحب لقاء اللَّه أحب الله لقاءه "، فسئل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: " ذلك عند الموت "؛ فهو لما يرى من المكروه يحل به بعد الموت يكره قبض روحه، فيكون قوله: (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) إن كان المراد من قوله: (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) عند الموت على ذلك، والمؤمن إذا رأى ما أعدّ له من الكرامات ود أن يقبض روحه سريعًا ليصل إلى الكرامات، وإن كان هذا بعد البعث، وأريد من السجود تحقيقه، ففيه تذكير لهم أنهم لم يكونوا يمتحنون في الدنيا بالسجود؛ لمنفعة تصل إلى اللَّه تعالى أو لحاجة له إلى ذلك، وإنما امتحنوا بالسجود؛ لمكان أنفسهم، إذ لو كان الامتحان، لمنفعة تنال اللَّه تعالى، لما كانوا يمنعون عنه في القيامة، واللَّه أعلم. وقال كثير من أهل الكلام: لا يجوز أن يمتحنهم اللَّه تعالى بعد البعث بالسجود؛ إذ تلك الدار ليست بدار محنة، وإنَّمَا الأمر بالسجود يخرج مخرج التوبيخ؛ وكذلك زعم جعفر بن حرب أن هذا على التوبيخ، يقال للرجل إذا كان مكثرًا فذهب ماله ولم يؤد الزكاة، ولا حج في حال يسره -يراد به التوبيخ-: حج الآن وزَكِّ الآن، ليس يراد به إيجاد الفعل، ولكن يريد به تذكيره وتوبيخه؛ فهذا الذي قالوه يحتمل.

(43)

ويحتمل أن يمتحنوا بالسجود للوجوه التي ذكرنا، وهو أن يظهر عند الممتحنين أن منافع سجودهم راجعة إليهم لا إلى اللَّه - تعالى -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) فجائز أن يكون هذا على نفي استطاعة الأحوال والأسباب أو لا يستطيعون للأشغال التي حلت بهم والأفزاع التي ابتلوا بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43). ففيه أن الفرائض إنما تجب عند سلامة الأسباب، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ. أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ). فجائز أن يكون الحديث هو القرآن، وجائز أن يكون أريد البعث، وهو الغالب أن يكون هو المراد. وقوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) قَالَ الْقُتَبِيُّ: الاستدراج هو الاستدناء من المهلكة درجة فدرجة حتى يهلك. وقيل: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي ننعم عليهم وننسيهم شكرها بالإملاء، وينزل بهم العذاب والهلاك أينما كانوا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45). فالأصل أن الكيد والمكر والاستدراج يقتضي معنى واحدًا، وهو أن يأخذه من وجه أمنه ويراقب وجوه هلاكه، وهو يستعمل في الخلق على وجه يذم أهله، فهو - أيضًا - يضاف إلى اللَّه تعالى، ليس على جعل ذلك اسمًا له؛ إذ لا يجوز أن يسمى ماكرًا كائدًا مستدرجًا، وإنما يضاف إليه في حق الجزاء، وذلك الجزاء في الحقيقة، ليس بكيد؛ ولكن قد يجوز أن يسمى الجزاء باسم ما له الجزاء؛ كما يسمى جزاء السيئة، سيئة وإن

(46)

لم يكن الجزاء سيئة، كما سمى جزاء الاعتداء اعتداء، فكذلك سمي جزاء الكيد كيدًا على هذا المعنى، لا أن يكون ذلك منه كيدًا في الحقيقة. أو نقول بأن الذم إنما يلحق الماكر والكائد إذا استعمله في وليه وصفيه، فأما إذا مكر بعدوه وكاد به، فذلك مما لا بأس به، ولا يذم عليه فاعله، وما أضيف من الكيد إلى الله تعالى؛ فذلك حالٌّ بأعدائه ليس بأوليائه؛ فلم يكن فيه إلحاق معنى مكروه باللَّه تعالى. ثم الأصل أن ينظر في الفعل لماذا أضيف إلى اللَّه تعالى بحقيقة أم بمجاز؟ فإن كانت الإضافة بحكم المجاز، فلا يجعل ذلك اسمًا له؛ لأنه لا يجوز أن يقال: هو كاتب، نافخ روح، ولا كائد، ولا ماكر؛ إذ لا يتحقق ذلك منه، وما كانت إضافته لأجل التحقيق فإنه يستقيم أن يسمى به؛ لأنه يستقيم أن نسميه: منعما مفضلًا خالقًا، رحمانًا؛ إذ الإنعام والإفضال والخلق موجود منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَتِينٌ) أي: قوي ثابت، فقوله تعالى: (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي: كيدي لأوليائي على أعدائي ثابت، ليس ككيد الأعداء؛ لأن كيد الأعداء بكيد الشيطان، وكيد الشيطان ضعيف، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا). والأصل أن الكيد الذي أضيف إلى اللَّه تعالى حق، والحق قوي ثابت لا مدفع له، وكيد الشيطان باطل، وليس للباطل قرار، بل هو كما قال اللَّه تعالى: (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ). وقوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46). الأصل أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لم يكونوا يدعون الخلق إلى ما يستثقله عقل أو طبع، بل كانوا يدعونهم إلى ما يخف ويسهل على الطبع والعقل؛ ليكون أقرب إلى الإجابة له؛ لأنهم كانوا يدعونهم إلى التوحيد، وهم كانوا يعبدون غير واحد من الآلهة، وعبادة الواحد أيسر من عبادة عدد، وكانوا يدعونهم إلى الصدق وإلى مكارم الأخلاق، والإجابة بمثله أمر يسير؛ فيقول: أحملت عليهم أجرًا فثقل عليهم ذلك حتى تركوا الإجابة لك مع تيسيره عليهم، فيخرج ذكر هذا مخرج تسفيه أحلامهم. وقوله - تعالى -: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47). فهذا يحتمل أوجهًا: أحدها: أن عندهم علم الغيب، فهم يكتبون، فهذا بالذي ادعوا أنا نجعل المسلمين

(48)

كالمجرمين، وذلك مكتوب عندهم، أو عند سلفهم علم الغيب، فوجدوه في كتبهم، ويعلم به خلفهم ليخاصموك به، ثم هم قوم لم يكونوا يؤمنون بالكتب ولا بالرسل، فكيف يخاصمونك ويكذبونك فيما تخبرهم؟ وإنما يوصل إلى التكذيب بما ثبت من العلم بخلافه ويتأيد بأحد الوجهين اللذين ذكرناهما. أو يكون هذا في موضع الاحتجاج عليهم حين زعموا أنا نعبد الأصنام؛ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّه زلفى، ويكونوا لنا شفعاء، فما الذي حملهم على هذه الدعوى أم عندهم علم الغيب فهم يكتبون؟! أو أن يكون القوم قد ألزموا أنفسهم الدِّينونة بدين اللَّه - تعالى - وأقروا له بالألوهية، وذلك يلزمهم العمل بما فيه تبجيل اللَّه تعالى، وما به يشكر الخلائق، وذلك لا يعرف إلا بالرسل - عليهم السلام - فقد عرفوا حاجة أنفسهم إلى من يعلمهم علم الغيب، فما لهم امتنعوا عن الإجابة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، مع حاجتهم إليه، أي: ما عندهم علم الغيب؛ فيستغنون به عن الرسول، عليه السلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48). إن حكم اللَّه تعالى في الرسل ثلاث: أحدها: ألا يدعوا على قومهم بالهلاك، وإن اشتد أذاهم من ناحيتهم حتى يؤذن لهم. والثاني: ألا يفارقوا قومهم وإن اشتد بهم البلاء إلا بإذن اللَّه تعالى. والثالث: ألا يقصروا في التبليغ وإن خافوا على أنفسهم. ثم من وراء هذا عليهم أمران: أحدهما: أنهم أمروا ألا يغضبوا إلا لله تعالى. والثاني: ألا يحزنوا لمكان أنفسهم إذا آذاهم قومهم، بل يحزنوا لمكان أُولَئِكَ القوم إشفاقًا عليهم منه ورحمة بما يحل عليهم من العذاب بتكذيبهم الرسل، فهذا هو حكم ربه. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي: لا تجازهم بصنيعهم ولا تستعجل عليهم، بل اصبر لحكم ربك بما حكم عليهم من العذاب.

(49)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ). قيل: نادى على قومه بالدعاء عليهم بالهلاك، لكنه لم يظهر دعاؤه على قومه عندنا، وإنما ظهرت منه المفارقة والمغاضبة على قومه بقوله: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)، ولم يكن له أن يفارقهم، فيقول: اصبر بما حكم عليك ربك من ترك المفارقة عن قومك، ولا تكن كصاحب الحوت الذي فارق قومه قبل مجيء الإذن له من اللَّه تعالى. والثاني: أن يونس - عليه السلام - لم يصبر على أذى قومه، بل فارقهم حتى ابتلي ببطن الحوت، ثم فزع بالدعاء إلى اللَّه تعالى؛ ليخلصه من بطنه، فيقول: عليك بالصبر مع قومك، ولا تكن كصاحب الحوت حيث لم يصبر مع قومه؛ فابتلي بما ذكر حتى احتاج إلى أن ينادى في الظلمات: (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، فتبتلى أنت أيضًا بمثل ما ابتلي هو به، ثم لا يجوز أن يلحقه اللائمة ويعاتب على ما دعا في بطن الحوت؛ لأن ذلك عذاب ابتلي به، ولا ينبغي للمرء أن يصبر على العذاب، بل عليه أن يبتهل إلى اللَّه تعالى؛ ليكشف عنه، وإنَّمَا لحقه اللائمة بمفارقة قومه وتركه الصبر معهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49). نعمة ربه: هو ما وفقه للتوبة والإنابة، وما قبل منه توبته، وكان له ألا يقبلها؛ إذ هو إنما أتى بالتوبة بعد أن صار إلى تلك المضايق، وابتلي بالشدائد وجاءه بأس الله تعالى، ومن حكمه أنه لا يقبل التوبة بعد نزول العذاب والشدة، ألا ترى إلى قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) إلى قوله: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)، فإذا قبل توبته، كان فيه عظيم نعمة من اللَّه تعالى عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ). وهو المكان الخالي، ولو لم يتب اللَّه تعالى عليه، لكان يلبث في بطنه إلى يوم يبعثون، ثم ينبذ بعد ذلك بالعراء وهو مذموم، لكن اللَّه تعالى تفضل عليه بقبول توبته؛ فنبذه بالعراء، وهو سقيم أي: محموم؛ فقوله: (لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ)، لو عاقبه بالنبذ، ولكن إنما نبذ بالعراء بعد قبول التوبة؛ فلم يصر مذمومًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ). فنعمته عليه كانت من ثلاثة أوجه: أحدها: في تذكير الزلة، وذلك كان بالتقام الحوت إياه، وكان عنده أن مفارقته قومه لم تكن زلة؛ لأنه إنما فارقهم لأن قومه كانوا له أعداء في الدِّين، ففارقهم لينجو منهم، وليسلم له دينه ولا يسمع المكروه منهم في اللَّه تعالى. والثاني: أن في مفارقته إياهم تخويفًا منه لهم وتهويلاً؛ لأن القوم كان لا يفارقهم نبيهم من بين أظهرهم إلا عندما يريد أن ينزل بهم العذاب، وذلك مما يدعوهم إلى الإقلاع عما هم فيه ويدعوهم إلى الفزع إلى اللَّه تعالى، ومن خوف آخر بأمر يكون فيه دعاؤه إلى الهدى كان محمودًا مصيبًا؛ ولأن مفارقته إياهم هي التي دعتهم إلى الإسلام، فأسلموا لقوله: (فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، ومن كانت مفارقته لهذه الأوجه التي ذكرناها، لم تعد مفارقته زلة، بل عدت من أفضل شمائله، ولكن لحقته اللائمة مع هذا كله؛ لما ذكرنا أن الرسل لا يسعهم أن يفارقوا قومهم وإن اشتد عليهم الأذى من جهتهم إلا بعد وجود الإذن من اللَّه تعالى، وكانت مفارقته تلك بغير إذن، واللَّه أعلم. ثم كان في ظنه أنه ليست تلك المفارقة زلة، ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)، قيل في التأويل: أي: لن نضيق عليه. وقيل: أي: لن نعاقبه، فلولا أن عنده أن تلك المفارقة ليست بزلة وإلا كان لا يظن هذا؛ فتبين عنده بالتقام الحوت إياه وبما أفضى إليه من الشدائد أن تلك زلة منه، وتذكير الزلة من إحدى النعم. والنعمة الثالثة: ما ذكرناها من توفيق اللَّه تعالى إياه بالتوبة، وإكرامه عليه بقبولها، ومن حكمه ألا يقبل التوبة ممن جاءه بأس اللَّه، وأحاط به العذاب، وهو إنما فزع إلى التوبة بعدما عاين العذاب، وجاءه بأس اللَّه تعالى. وجائز أن يكون حكمه هذا في الكفرة، ليس في المؤمنين؛ لأنه قال في آية أخري: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)، ففيه إشارة إلى أن من سبق منه الإيمان قبل أن يأتيه آيات ربه أو سبق منه كسب الخير من بعد الإيمان؛ فإن إيمانه في ذلك الوقت ينفعه، وقال في أهل الكفر: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ)، فهذا حكمه في أهل الشرك، وقال: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ

يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)، وقال في المؤمنين: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، فثبت أن ما ذكرنا من الحكم هو حكمه في أهل الكفر، ليس في أهل الإيمان، والعقل يدل على هذا، وذلك أن المؤمن قد علم أن الذي سبق منه زلة وارتكاب معصية؛ فهو ليس يحتاج إلى إثبات آيات فتنبهه على أن الذي فعله زلة، فجائز أن تقبل منه التوبة في ذلك الوقت كما تقبل منه قبل تلك الحالة، وأما الكافر فعنده أن ما سبق منه لم يكن زلة ومعصية؛ فيحتاج إلى آيات تنبهه على غفلته، وتذكره بأن الذي فعله معصية، فإذا نزل به البأساء والشدة، فذلك يمنعه عن النظر والتدبر؛ فلا يكون إيمانه عن تحقيق ويقين فلا ينفعه. والثاني: أنه يفزع إلى التوبة والإيمان؛ ليدفع عن نفسه البأساء؛ لا ليدوم عليه لو كشف عنه العذاب؛ كما قال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا)، فهذا لا ينفعه إيمانه. فَإِنْ قِيلَ: إن قوم يونس - عليه السلام - قد نفعهم إيمانهم وهم آمنوا بعدما أيقنوا بالعذاب؟ فجوابه من وجهين: أحدهما: أنه يجوز أن يكون عذابهم موعودًا ولم يكن مشاهدًا قريبًا. وجائز أن يكون اللَّه علم صدقهم في إيمانهم لو مكثوا فكشف عنهم العذاب لما كانوا متحققين، وغيرهم كان يفزع إلى الإيمان؛ ليكشف عنه العذاب، ثم يعود إلى كفره؛ فلم يقبل منه. وجائز أن يكون من حكم اللَّه تعالى ألا يقبل من أحد التوبة إذا حل به العذاب، ولكنه يقبلها من المؤمنين؛ إفضالا وإنعامًا، ولا يتفضل على الكافرين الذين آثروا الدنيا على الآخرة، وعلى قول المعتزلة: ليست لله تعالى عليه نعمة ولا على أحد من أهل الإسلام؛ لأن من قولهم: إن اللَّه تعالى إذا علم من كافر أنه يسلم يومًا من الدهر وإن كان بعد ألف سنة، فليس له أن يميته قبل أن يسلم، وعليه أن يوفقه للتوبة، وعليه أن يقبل منه التوبة، فإذا كان هذا كله حقًّا عليه للعبد، لم يكن له موضع نعمة عليه في قبول التوبة؛ لأن من قضى حقًّا عليه وأوصله إلى مستحقه لم يعد ذلك منه إنعامًا؛ فلا يكون لقوله: (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) معنى، وقد قال اللَّه تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ)، ولو كانت الهداية واجبة عليه، لم يكن له عليهم موضع امتنان.

(50)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ ... (50). أي: اختاره واصطفاه للرسالة؛ ألا ترى إلى قوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ). وقوله: (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). فهذا وصف كل نبي في الآخرة. وقوله - تعالى -: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51). منهم من يقول: هذا على التحقيق، وصرف ذلك إلى قوم بأعيانهم قد عرفوا بخبث الأعين وحلول الآفات بمن يعينونه من أهل الشرف والتبجيل، ثم اللَّه - تعالى - بفضله عصم رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلم يتهيأ لهم أن يعينوه، فكان فيه تقرير رسالته وآية نبوته عند أُولَئِكَ الكفرة. فإن قال قائل: إنهم كانوا يعدون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من المجانين، ويقولون: إنه لمجنون، والمجنون لا يعان، وإنما يعان أهل الشرف والحجا وذوو الأحلام والنُّهى، فما أنكرت أنه سلم من الآفة حتى يقصد إليه بالعينة. فجوابه أنهم وإن كانوا يعدونه من جملة المجانين، فإنهم سمعوا منه ذكرًا عجبًا وهو القرآن، ومن أعطي مثل ذلك الذكر والشرف، فهو مما يقصد إليه بالحسد، فكانوا يعينونه لذلك المعنى، ثم لم يضره كيدهم، ولا نفذت فيه حيلهم؛ فأوجب ذلك تنبيههم أنه رسول من اللَّه تعالى. ومنهم من حمله على التمثيل ليس على التحقيق، فيقول: وإن يكاد الذين كفروا لشدة بغضهم وعداوتهم إياك، ليزلقونك بأبصارهم، كما يقال: نظر إلى فلان نظرًا كاد أن يقتلني، فيقوله على التمثيل. ثم قوله: (لَيُزْلِقُونَكَ) أي: يسقطونك ويصرعونك. وقوله: (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) وهو القرآن.

(52)

وقوله: (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ). قد وصفنا أنهم لأي معنى كانوا ينسبونه إلى الجنون، وذكرنا ما يرد عليهم مقالتهم، وينفي عنهم الريب والإشكال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52). فجائز أن يكون الذكر هو القرآن، وجائز أن يكون أريد به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذ قد تقدم ذكرهما جميعًا؛ إذ كل واحد منهما ذكر، يذكر ما للخلق، وما على الخلق، وما ينتهي إليه عواقبهم، ويذكر ما يؤتى وما يتقى، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة الحاقة

سُورَةُ الْحَاقَّةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ. كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ). قد ذكرنا أن يوم القيامة سمي بأسماء النوازل التي تكون من البلايا والشدائد؛ ليقع بها التخويف والتهويل، وليس في تبيين وقته ولا في ذكر عينه ترهيب ولا ترغيب، فذكر ذلك اليوم بالأسباب التي هي أسباب الزجر والردع؛ فقوله: (الْحَاقَّةُ) أي: حقت لكل عامل عمله، وتحق لكل ذي حق حقه، فإن كان من أهل النار استوجبها، وإن كان من أهل الجنة دخلها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحاقة هي النار التي لا ترتفع أبدًا، وهو ما ينزل بالخلق من الجزاء وأنواع ما وعدوا به يوم القيامة. وقيل: هي الواجبة مثل قوله: (وَحَاقَ بِهِمْ)، أي: وجب، ونزل بهم. والأصل أن القيامة سميت بالأحوال التي يبتلى الخلق بها فيها؛ من نحو: القارعة، والواقعة، والتناد، والطامة، والصاخة، ونحو ذلك مما جاء في القرآن، أخذت أسماؤها من أحوال ما يبتلى الخلق بها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا الْحَاقَّةُ (2). فهو على تعظيم أمر ذلك اليوم أيضًا، كما يقال: فلان ما فلان؛ إذا وصف بالغاية في القوة والسخاوة، ونحوه. وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) أي فهو على تعظيم أمر ذلك اليوم، أيضًا أو (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ)، أي: لم تكن تدري ما ذلك اليوم؟ فأدراك اللَّه تعالى؛ لأنه لم يكن خبر القيامة

(4)

علمك ولا علم قومك، لكن اللَّه تعالى أطلعك عليه؛ لأن قومه كانوا منكري البعث ولم يكن عندهم من خبره شيء، وذلك أن اللَّه تعالى لما ذكرهم من دلائل البعث إلى جهة تدركها العقول، والحكمة من إحالة التسوية بين الفاجر والبر والمطيع والعاصي، وأنه لا يجوز خروج كون هذا العالم عبثًا باطلًا، والدلائل الأخرى التي لا يأتي عليها الإحصاء، فلما لم يقنعهم ذلك، ولم يتفكروا في خلق السماوات والأرض، ولا اعتبروا بالآيات، احتج عليهم بما لقي سلفهم من مكذبي البعث ومنكري الرسل، حيث استأصلهم، فلم يَبْق لهم سلف، ولا خلَفَ عنهم خلف؛ ليكون ذلك أبلغ في الإنذار وذلك قوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) ذكرهم بما حل بثمود وعاد وما أصابهم بتكذيبهم الرسل، يقول: سيصيبكم بتكذيبكم محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يخبركم من الأنباء عن الله تعالى كما يصيبهم ما أصاب ثمود وعادًا بتكذيبهم رسلهم؛ لينتهوا عن تكذيبه. أو يخبرهم أن ثمود وعادًا كذبوا رسلهم حتى صاروا إلى الهلاك، وندموا على ما سبق من تكذيبهم، فستندمون أيضًا إن دمتم على تكذيبكم محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يأتيكم من الأنباء بعد موتكم، ثم ذكرهم نبأ عاد وثمود وإن كانوا مكذبين بتلك الأنباء؛ لئلا يبقى لهم يوم القيامة حجة فيقولوا: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، ولأنهم لو بحثوا عن علم ذلك، لكانت هذه الآيات والأنباء تحقق لهم ذلك، فقد وقعت هذه الآيات موقع الحجاج، لولا إغفالهم وإعراضهم عنها، فانقطع عذرهم، ولزمتهم الحجة وإن تركوا الإيمان بها. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ)، وقوله: (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ)، يحتمل أن يكون هذا مخاطبة كل مكذب بالبعث لا مخاطبة الرسول؛ كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)، إنه خطاب لمن يغتر بالدنيا لا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وجائز أن يكون يخاطب به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإن صرف الخطاب إلى الرسول - عليه السلام - اقتضى معنى غير ما يقتضيه لو أريد بالخطاب المكذبون، والأصل أن قول

(5)

القائل: (فلان ما فلان) يوجب اجتذاب الأسماع ويستدعي السامع إلى البحث في الشاهد؛ لأنه إنما يذكر فلانًا بهذا؛ لأعجوبة فيه، أو لعظم أمره، فيستبحث عن ذلك؛ ليوقف على تلك الأعجوبة التي فيه، فإن كان الخطاب للمكذبين دعاهم ذلك إلى تعرف ما فيه من الأعجوبة والتعظيم، وفي قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) مبالغة في التعجب وإذا نظروا فيه وفهموه دعاهم ذلك إلى الإيمان به، فصارت الآية في موضع الإغراء واجتذاب الأسماع. وإِن كان الخطاب في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتأويله: أن المكذبين يؤذونه ويمكرون به فيتأذى بهم، ويشتد ذلك عليه، فذكر ما ينزل بهم من العذاب ويحق عليهم؛ فيكون فيه بعض التسلي عما أصابه من الأذى من ناحيتهم، أو ذكره أن العذاب يحق عليهم فلا يحزن بصنيعهم، بل يحمله ذلك على الشفقة عليهم والرحمة لهم. وقيل: إن كان الخطاب في المكذبين، ففيه تخويف لأهل مكة وتهويل أنهم إن كذبوا رسولهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يخبرهم من أمر البعث، نزل بهم من العذاب ما نزل بعاد وثمود بتكذيبهم الرسل، وقد عرف أهل مكة ما نزل بأُولَئِكَ. وإِن كان الخطاب في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ففي ذكر نبأ عاد وثمود ما يدعوه إلى الصبر على أذاهم، ويكون له بعض التسلي؛ لأنه يخبر أنك لست بأول رسول كذب، بل شركتك الرسل من قبل وابتلوا بالتكذيب، ثم بين ما نزل بعاد وثمود بالتكذيب بالقارعة، وهو قوله: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) والطاغية والعاتية والرابية يمكن أن يجعل هذا كله صفة للعذاب الذي نزل بهم. وجائز أن يكون صفة الأحوال التي سبقت منهم وما كانوا عليه، فإن كان هذا صفة العذاب، فالطغيان عبارة عن الشدة، والطاغي: هو العاتي، الشديد لا يراقب ولا يتقي، فوصف العذاب الذي أرسله عليهم أنه لم يُبْقِ منهم أحدًا، بل استأصلهم وأهلكهم بجملتهم. وقيل: ذلك العذاب هو الصاعقة. وقيل: الصيحة، وسمي: طاغية: ولم يقل: طاغي؛ لهذا.

(6)

وقيل: اشتق هذا الاسم للعذاب من أفعال من عذب به ليس أنها طاغية، لكن أخذ اسمه عن فعل القوم؛ كقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)، وقال: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)، وإنما ذلك كله جزاء سيئاتهم واعتدائهم. وقيل: (بِالطَّاغِيَةِ) أي: بطغيانهم وذنوبهم الذي سلف منهم؛ كقوله تعالى: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ). ويحتمل أن يكون هذا صفة لأحوالهم التي كانوا عليها من شدة التمرد والعتوّ ومن طغيانهم التكذيب بالحاقة والقارعة، ففيه تخويف لأهل مكة أن سيهلكهم اللَّه - تعالى - إن لم ينتهوا عن التكذيب كما أهلك أُولَئِكَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6). قال الحسن: الريح الصرصر هي الصيحة، وهي التي لها صوت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي الريح الباردة الشديدة البرد؛ كقوله: (رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ. . .)، والصر: البارد، والصرصر المكرر منه، فوصفها لدوامها وتكررها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (عَاتِيَةٍ) فتأويلها على ما ذكرنا في الطاغية. وذكر الكلبي وغيره: أنها سميت: عاتية؛ لأنها عتت على الخزان فلم يطيقوها، وهذا لا يستقيم؛ لأنه لا يجوز أن يوكل الخزان على حفظها، ثم لا يمكنون من الحفظ حتى تعتوا عليهم، إلا أن يقال بأنهم لم يوكلوا بحفظها في ذلك الوقت، فأما إذا وكلوا بحفظها، ثم لا يُجعل لهم إلى حفظها سبيل، فهذا مستحيل، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7). قوله: (سَخَّرَهَا) قيل: أرسلها. وقيل: أدامها عليهم. وقيل: التسخير: التذليل، أي: ذللها؛ فصيّرها بحيث لا تمتنع عن المرور عليهم في الوجه الذي جعلها عليهم، وأطاعته في الوجه الذي أرسلها، وإنما أرسل الريح على أبدانهم خاصة، لم تهلك شيئًا من مساكنهم؛ كقوله (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا

يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)، والريح إذا عملت على الأبدان؛ فهي على البنيان أكثر، لكن اللَّه تعالى لم يأمرها بذلك، واللَّه أعلم. ثم قوله: (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) فيه تبيين أن الأيام لم تكن على عدد الليالي، ولو كانا على عدد واحد، لكان في ذكر أحد العددين ذكر العدد الآخر؛ لأن تسمية الليالي تسمية للأيام، وتسمية الأيام تسمية الليالي؛ ألا ترى إلى قوله في قصة زكريا: (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا)، وقال في موضع آخر: (ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حُسُومًا)، قيل: متتابعة دائمة. وقيل: قطعًا، قطعًا من الحسم، يقال: حسمت الريح كل شيء مرت به حسمًا، أي: قطعته. وقيل: مشئومات حيث انقطعت بركتها عنهم. وقوله تعالى: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى). أي: أنك لو أدركتهم وشهدتهم وعاينتهم، لرأيتهم صرعى. (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ترى الأعضاء المتفرقة، كل قطعة منها كأنها عجز نخلة؛ إذ كانوا هم أعظم في أنفسهم من أعجاز النخل، فيصرف تأويله إلى الأعضاء المتباينة. ثم ذكر النخل هاهنا بالتأنيث، فقال: (أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)، ووصف في سورة (اقتربت) بصفة التذكير فقال: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)؛ لأن النخل يذكر ويؤنث؛ كذا قاله الزجاج. وقيل: النخل يذكر على كل حال، لكن قوله: (خَاوِيَةٍ) صفة الأعجاز لا صفة النخل، والأعجاز جماعة، والجماعة مؤنثة، والنخل واحد فيذكر، وليس كذلك؛ لأن الخاوية صفة النخل، ألا ترى عند الوصل يذكر بالخفض لا بالرفع. ولأن النخل اسم جمع، يقال: نخلة ونخل؛ كما يقال: شجرة وشجر، وثمرة وثمر، ونحو ذلك.

(8)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (خَاوِيَةٍ). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: بالية. وقيل: الخاوية، أي: ساقطة؛ كقوله - تعالى -: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) أي: ساقطة على قوائمها. وقيل: أي: خالية، فوصفها بالخلاء لأنها أقلعت من أصلها حتى خلا ذلك المكان عنها، وأعجاز النخل: أصوله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8). فيه أنه لم يبق لهم نسل يذكرون بهم، بل أهلكوا بأجمعهم، وانقطع نسلهم، وانقطع عنهم الذكر إلا بالسوء، وإلا كان يرى لهم باقية، ففيه أنهم استؤصلوا وعم العذاب الكبير والصغير، يخوف أهل مكة بما يخبرهم عما فعل بأُولَئِكَ، وفيه إخبار أنهم عذبوا بعذاب لا رحمة فيه، وهكذا سنة اللَّه - تعالى - في مكذبي الرسل من قبل، وجعل تعذيب هذه الأمة أن يجاهدوا ويقاتلوا، فتعذيب هذه الأمة تعذيب فيه رحمة؛ لأن الصغار منهم لا يقاتلون، والنساء لا يقاتلن، بل يسبين رجاء أن يسلمن؛ فعلى هذا يخرج قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، واللَّه أعلم. ويشبه أن يكون هذا جواب قولهم: إن محمدًا صرور، أي: ليس له ولد يُبقي نسله وذكره، فأخبر - تعالى - أن كثرة الأولاد لا تغني من اللَّه شيئًا؛ إذ قد كانت لهم أهالٍ وأولاد فأهلكوا عن آخرهم، وانقطع التناسل منهم؛ ليعلموا أنه يبقى ذكر لمن أطاع اللَّه - تعالى - ورسوله، كان ثَمَّ أولاد، أو لم يكن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ... (9). قرئ بكسر القاف وفتح الباء، وقرئ بنصب القاف وجزم الباء. فتأويل القراءة الأولى: أي: جاء فرعون ومن معه من جنده وأتباعه، أو من قبله: من كان من أهل القرى التي بغرب المصر، وقد روي في الشاذ في بعض الحروف: (وجاء فرعون ومن دونه). وجائز أن يكونوا من أتباع فرعون. وجائز ألا يكونوا. وتأويل القراءة الثانية: أي: جاء فرعون ومن كان متقدمًا عليه من الأمم الماضية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ). قيل: قريات لوط، ائتفكت على أهلها، أي: انقلبت عليهم؛ بما عصت رسلها. وقيل: المؤتفك: الذي يأتفك من الصدق إلى الكذب، ومن الحق إلى الباطل، ومن العدل إلى الجور، فمن قرأه: (وَمَنْ قِبَلَهُ) بخفض القاف، كان قوله: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) واقعا كله على العصيان لموسى - عليه السلام - والمراد من المؤتفكات: كل من ائتفك من الحق إلى الباطل، دون أهل قريات لوط؛ لأنهم كانوا قبل زمان موسى بكثير. ومن قرأه: (وَمَنْ قَبْلَهُ) بنصب القاف، كان قوله: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) واقعًا على رسول كل فريق، كأنه قال: عصى كل أمة رسولها، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد من المؤتفكات قوم لوط، عليه السلام. ثم قوله: (بِالْخَاطِئَةِ)، أي: بالخطايا والشرك. وذكر أبو معاذ عن مجاهد في تفسير الخاطئة الشرك والكفر، وأنكر ذلك، واحتج بأن اللَّه - تعالى - لم يذكر من قوم لوط - عليه السلام - كفرًا وشركًا في كتابه، إنما ذكر ركونهم للفاحشة وبها أهلكوا؛ إذ لم ينزعوا ولم يتوبوا. قال: ولو كانوا مشركين، لم يقل لهم لوط: (قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)، أراد بذلك الإنكاح والكافر لا يصح منه نكاح المسلمة. وليس كما زعم، بل كانوا أهل شرك وكفر باللَّه تعالى؛ ألا ترى إلى قوله فيما حكى عن قوم لوط من قولهم: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، فإخراج الرسل من أماكنها من صنيع أهل الكفر. وقال في موضع آخر: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ)، فطابت أنفسهم بإخراج لوط - عليه السلام - من قراهم، ومن فعل ذلك، لم يشك في كفره. وقال في قصة لوط أيضًا: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، فثبت أنهم كانوا كفارًا.

(10)

ثم لقائل أن يقول في قوله: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) أخبر أنه جاء فرعون إلى موسى وعصاه كيف ذكر مجيء فرعون إلى موسى، ولم يوجد منه المجيء إلى الرسول، بل الرسول هو الذي جاء فعصاه فرعون، لا أن فرعون أتاه، فاستقبله بالعصيان؟ قيل: إن كل من أتى آخر وجاءه، فقد أتاه الآخر، ومن قرب إلى الآخر، فقد قرب الآخر إليه؛ لأن المجيء فعل مشترك؛ لأنه اسم الالتقاء، وإنَّمَا يقع الالتقاء بهما جميعًا ليس بأحدهما؛ فلذلك استقام إضافة المجيء إلى فرعون، وعلى هذا تأويل قوله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ)، أي: قربت للمتقين، وأهلها هم الذي يقربون إليها في الحقيقة، ولكنهم إذا قربوا إليها، فقد قربت هي إليهم، فأضيف إليها التقريب لهذا؛ فعلى هذه العبارة يمكن أن يتأول قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ)، أي: أتاه الخلق، لا أن يكون هو الذي يأتيهم؛ لأنه قال: (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ)، وقال: (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)، (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)، فأخبر أن الخلق هم الذين يأتونه، ويرجعون إليه، ولكن نسب المجيء والإتيان إلى اللَّه تعالى؛ لأنهم إذا أتوه فكأنه قد أتاهم من الوجه الذي ذكرنا دون أن يكون فيه إثبات الانتقال في اللَّه تعالى. والثاني: أن اسم المجيء وإن أطلق واستعمل في المجيء إلى مكان من مكان، فقد يستعمل أيضًا في الموضع الذي ليس فيه حركة ولا انتقال؛ قال اللَّه تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ)، ومعناه: ظهر الحق، ليس أن الحق كان في موضع فانتقل عنه إلى غيره؛ فأمكن أن يكون قوله: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ) أي: كذب بما أنزل على موسى، عليه السلام. وجائز أن يكون قوله: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ) أي: جاء بالخاطئة؛ فيكون المجيء مصروفًا إلى الخطايا، وهذا التأويل أملك بظاهر الآية؛ لأنه قال: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ)، أي: جاءوا بالخطايا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10). أي: عالية؛ حيث علت أبدانهم. وجائز أن يكون المراد منه: أن عقوبتهم ربت على الأخذ أي: زادت على الأخذ؛

(11)

لأنها أخذت أبدانهم وأهلكتها، ثم ردت أرواحهم إلى جهنم فتعرض عليها غدوًّا وعشيًّا، فذلك هو الزيادة على الأخذ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11). قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: طغى على الخزان؛ لأن الخُزَّان يطلقون القطر بالكيل والوزن والقدر المعلوم، ثم ذكر في موضع آخر: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) أي: منصب؛ فيكون تأويله: أن اللَّه - تعالى - لم يمكنهم من حفظ القطر في ذلك الوقت؛ فطغى عليهم لهذا المعنى، وإلا لو لزموا حفظه في ذلك الوقت، لكان الماء لا يطغى عليهم، على ما ذكرنا: أنه لا يجوز أن يؤمروا بحفظه ولا يملكون حفظه. وجائز أن يكون قوله: (طَغَا)، أي: طغى على الذين أهلكوا من مكذبي نوح - عليه السلام - وقد وصفنا تأويل الطاغي، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ). قد ذكر أنه حملنا، ولم نكن نحن يومئذ فنُحْمَل، والخطاب للذين كانوا في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإنما كان لأن بنجاة أُولَئِكَ المحمولين نجاة ذريتهم، وبهلاك أُولَئِكَ فناء ذريتهم؛ فكأنه قد حملهم بحمل أُولَئِكَ؛ لما حصلت لهم النجاة بحملهم. أو أضاف إليهم؛ لأنه قدر كونهم من آبائهم؛ فكانوا حملوا تقديرًا، وهو كقوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ)، ومعناه: أنزلنا عليكم ما قدرنا كون اللباس منه، وهو المطر، فإذا أنزل المطر الذي قدر كون اللباس منه، فكأنه أنزل اللباس، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، ونحن لم نخلق من التراب، ولكن لما قدر خلقنا من التراب الذي أصلنا منه فكأنا خلقنا منه؛ فعلى ذلك وإن لم نكن محمولين في السفينة، فقد حمل أصلنا؛ لنكون نحن من ذلك الأصل، فكأنا قد حملنا فيها؛ إذ

(12)

كنا في إرادة اللَّه - تعالى - من الكائنين، واللَّه أعلم. أو ذكر ذلك منّة منه على الأبناء بصنيعه بالآباء؛ ليعلم أن على الأبناء شكر ما أحسن إلى آبائهم وأجدادهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فوجه التذكرة فيه: أن أهل مكة أبوا إجابة الرسول، وقالوا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، فذكرهم أنهم، أولاد من حملوا مع نوح - عليه السلام - في السفينة، وهم إنما استوجبوا النجاة، وشرفوا في الدارين جميعًا باتباعهم الرسل، فما لكم لا تتبعونهم في تصديق الرسل دون أن تتبعوا المكذبين للرسل، أو يذكرهم كذبهم في قولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ)، بل قد وجدتم آباءكم على خلاف ما أنتم عليه، وقد تعلمون أن آباءكم هم الذين اتبعوا نوحًا فنجوا، وهم المؤمنون دون الكفرة. ووجه آخر: أنه ذكرهم أحوال المكذبين، وإلى ماذا آل أمرهم من الغرق والهلاك؛ فيكون فيه تخويف من كذب من أهل مكة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فصارت تلك الجارية وهي السفينة موعظة وتذكرة تذكرهم عواقب المصدقين بالرسل والمكذبين لهم. أو ذكرهم عظيم نعمه على آبائهم الذين حملوا في السفينة؛ ليستأدي منهم شكر ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كم من سفينة قد هلكت منذ ذلك الوقت وهي قائمة في موضع كذا عبرة وتذكرة. ثم التذكرة تخرج على وجهين: أحدهما: أن يراد بها الآية والعبرة؛ أي: جعلنا لكم ذلك؛ لتعتبروا، وتكون آية لكم على وحدانية اللَّه - تعالى - وقدرته؛ كقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ). والثاني: أي: جعلنا تلك الأنباء تذكرة لكم؛ أي: جعلناها قرآنا تقرءونها وتذكرونها إلى آخر الأبد؛ فتشكرون اللَّه - تعالى - على ما صنع إليكم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) يقال: وعى الشيء: إذا حفظه، وأوعاه: إذا حفظه بإناء أو غيره؛ أي: تحفظها أذن واعية؛ بمعنى: حافظة؛ فأضاف الوعي والحفظ إلى الأذن، والأذن لا تعي؛ بل تسمع، ثم يعيه القلب، ولكن نسب الوعي إلى

(13)

الأذن؛ لأنه يوصل إلى الوعي من جهة الأذن؛ إذ بالسمع يوعى، والسمع من عمل الأذن، ثم يقع المسموع فيما فيه يُوعى، وهو القلب؛ فنسب الوعي إلى السمع؛ لما يتطرق به إلى الوعي، كما ذكرنا من إضافة اللباس إلى ما منه قدر اللباس، وهو المطر، وأضيف خلقنا إلى التراب؛ لأن أصل ما منه قدر خلقنا هو التراب. وجائز أن يكون اللَّه - تعالى - يجعل للقلوب آذانًا بها تعي، وأبصارًا بها تبصر؛ فيضيف الوعي إلى آذان القلوب، ليس إلى آذان الرءوس، واللَّه أعلم. وقيل: (أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) أي: عقلت عن اللَّه تعالى، وانتفعت بما سمعت من كتابه، وهي أذن المؤمن، فأما أذن الكافر؛ فإنها تسمع وتقذف ولا تعي؛ لما لم يحصل لهم الانتفاع به؛ ألا ترى أنه وصف آذانهم بالصمم؛ لما لم ينتفعوا بالمسموع، وكذلك قال: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)، جعل تركهم الانتفاع به نبذًا؛ فعلى ذلك جعل الانتفاع به وعيًا، وكذلك المتعارف في الخلق أنهم إذا أرادوا الانتفاع بعلم أو شيء، اجتهدوا في وعيهما وحفظهما. * * * قوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) فكأنهم سألوا: متى تكون الواقعة والحاقة والقارعة؟ فأخبر عن ذلك بقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ)، فجوابهم في قوله: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) ثم قد بيّنا أن الأسئلة كلها خرجت على بيان الوقت، واللَّه - تعالى - لم يبين لهم وقت كونه، وإنَّمَا أجاب عن الأحوال التي تكون في ذلك الوقت؛ لما لا فائدة لهم في تبيين وقته، ولا حاجة إلى معرفته، وإنَّمَا الفائدة في تبيين أحواله؛ لما يقع بها الترغيب والترهيب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) فجائز أن يكون على حقيقة النفخ. واحتمل أن يكون على قدر نفخة واحدة؛ فتكون فائدته ذكر سهولة أمر البعث على اللَّه - تعالى - لأن قدر النفخة مما يسهل على المرء في الشاهد، ولا يتعذر. وجائز أن يكون ذكر النفخ؛ لما أن الروح تدخل في أجسادهم، وتنتشر فيها، وذلك

(14)

عمل النفخ؛ لأن الريح إذا نفخت في وعاء سرت فيه وانتشرت، فكنى عن دخول الروح في الجسد بالنفخ؛ إذ ذلك عمله، وكنى بالنفخ عن خروج الروح من الأجساد لهذا، وعلى هذا تأويل قوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)، ليس على حقيقة النفخ؛ ولكن عمل الروح فيها عمل النفخ، فقيل ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي الصُّورِ) قيل: الصور: هو القرن ينفخ فيه النفخة الأولى؛ فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللَّه، ثم ينفخ فيه مرة فإذا هم قيام ينظرون. ومنهم من يقول: أي: نفخ الروح في صور الخلق؛ لكن جمع الصورة: الصور، بنصب الواو؛ فلا يحتمل أن يكون المراد منه: جمع الصورة، لكنه يجوز أن يكون اللَّه - تعالى - جعل نفخ الصور سببًا لإفنائهم وإحيائهم، لا أنه يعجزه شيء عن الإفناء والإحياء ما لم ينفخ في الصور، لكنه جعله سببًا لنوع الحكمة والمصلحة أو لمحنة ذلك الملك والابتلاء؛ على ما عرف من أنواع المحن في الملائكة من إنزال المطر، وتسيير السحاب، وجعلهم الموكلين على أعمال بني آدم، وغير ذلك. وقوله: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) كسرتا كسرة واحدة. وقيل: هدمتا هدمة واحدة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: زلزلتا زلزلة واحدة؛ فكأنه يقول - واللَّه أعلم -: تتزلزل الأرض، فتقذف ما في بطنها من الفضول، وتخرج ما فيها من الجواهر التي ليست منها بتلك الدكة، وتخرج أصول الجبال منها، ثم يجعله اللَّه - تعالى - كثيبًا مهيلًا مثل الرمل، ثم يُعْمِل عليه الريح فيجعله هباء منثورًا، وتراه من لينه كالعهن المنفوش، ثم يسير مثل السحاب، فيقع في شعاب الأرض والأودية والأماكن المختلفة؛ فتصير الأرض كما قال - تعالى -: (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)، وهكذا الريح إذا عملت على شيء وتقع عليه، تفرقه في النواحي، وتسوي به الشقوق، وتبسطه على وجه الأرض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ) ليس أنها تحمل من مكان إلى مكان، ولكن تدخل هذه في هذه، وتضرب هذه على هذه بالدكة؛ فتصير كأنها حملت لذلك، وإذا كان

(15)

كذلك، فقد وقعت الواقعة يومئذ، وهذا على اختلاف الأوقات؛ ليكون معنى الآيات التي جاءت في الجبال على السواء، واللَّه أعلم. وقيل: في آيات أخر بيان آخر: بيان تقديم فناء الجبال قبل الأرض بقوله: (يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا. فَيَذَرُهَا)، أي: يذر الأرض (قَاعًا صَفْصَفًا)، وغيرها من الآيات؛ مما يدل على تقديم فناء الجبال قبلها، فإما أن يكون معنى تبديل الأرض تغييرها عن الحالة التي هي عليها اليوم من انهدام البنيان، واستواء الأودية، وإزالة الجبال؛ على ما جاء في الأخبار، فسمي لذلك: تبديلًا؛ كما يقال لمن تغير عن الحالة الحسنة إلى غيرها: تبدلت، يراد: أي: تغيرت عن حالتك؛ فعلى ذلك معنى الآية؛ أي: تكسر الجبال، وتتغير حالة الأرض في دفعة واحدة. أو يكون في الآية إخبار عن شدة الفزع في ذلك اليوم أن يدكه دكة واحدة؛ تفني الجبال والأرض، وإن كان إفناء الجبال قبل إفناء الأرض، ليس أنهما يفنيان جميعًا بدفعة واحدة، لكن بالدكة الواحدة تهلك الجبال والأرض؛ فيكون المراد بيان شدة اليوم وهوله؛ لا بيان ترتيب فناء البعض على البعض، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وهو الحساب والجزاء؛ كقوله: (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ)، وأدخلت الهاء في أسماء القيامة تعظيمًا لشأنها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) قَالَ بَعْضُهُمْ: تفرقت، وهكذا الشيء إذا انشق تفرق وتباين، وبه يظهر الشق. ويحتمل أن يكون الشق كناية عن اللين؛ أي: تلين بعد صعوبتها، دليله: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) أي: ضعيفة بعدما كانت تنسب إلى الصلابة، ويدل على ذلك قوله: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)، وإنما يطوى الشيء في الشاهد بعدما يلين في نفسه. وجائز أن تنشق السماء لنزول أهلها، فلا يبقى فيها إلا الملائكة الذين على أطرافها، ثم تنضم فتبين للطي، واللَّه أعلم.

(17)

وجائِز أن يكون ذكر انفطارها وانشقاقها وانفتاحها؛ تهويلاً للخلق من الوجه الذي ذكرنا فيما قبل. وجائِز أن تكون للسماوات أبواب فتفتح أبوابها؛ فيكون انشقاقها وانفطارها فتح أبوابها. وجائز أن يكون الشق ليس فتح الأبواب؛ لأنه ذكر هذا في موضع التهويل، وليس في فتح أبوابها كثير تهويل. وقوله: (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) أي: ضعيفة مسترخية. وقيل: الوهي: الخرق، وهو يحتمل؛ لأنها إذا انشقت انخرقت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) الأرجاء: النواحي والأطراف، وهي أطراف السماوات ونواحيها، وواحد الأرجاء: رجا، مقصور. والملك أريد به الملائكة، أخبر أنهم على أطراف السماوات ونواحيها، فيحتمل أنهم وكلوا وامتحنوا بها وبحفظها بعد الشق؛ لئلا تسقط على أهل الأرض. وجائز أن يجعل أطرافها وجوانبها لبعض الملائكة، فتفتح أبواب السماء فتنزل الملائكة الذين كان مسكنهم عندها إلى الأرض، كما قال - تعالى -: (وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا)، ويبقى الملائكة الذين كان مسكنهم في أرجائها ينتظرون أمر ربهم. ثم الملك ليس يحتاج إلى مكان يقر فيه وإن جعلت السماء مسكنًا لهم؛ لأن الملائكة ينزلون من السماء إلى الأرض، ويقرون على الهواء من غير أن يكون في الهواء مقر. والثالث: يبين أنها لا تتفرق كل التفرق، ولكن وسطها ينشق لما ذكرنا، والباقي بحاله. ويحتمل: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) على ما يمرّ به في السماء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) فيحتمل أن يكون الملائكة في النفخة الأولى يصعقون إلا الثمانية الذين يحملون العرش كما قال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ)، فيكون هَؤُلَاءِ الثمانية

(18)

من الذين استثنوا؛ فلا يصعقون؛ فهم يحملون العرش؛ فتكون أمكنتهم على أرجاء السماوات، وهو قوله: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (ثَمَانِيَةٌ) جائز أن يكون أراد به ثمانية أملاك. وجائز أن يكون أراد به ثمانية أصناف من الملائكة، كما ذكر في التفسير. وجائز أن يكون هَؤُلَاءِ الثمانية يهلكون ثم يحيون قبل أن يحيا سائر الخلق، فيحملون عرش ربنا على أكتافهم، فإذا بعث اللَّه - تعالى - الخلائق رأوا العرش على أكتافهم، والعرش هو سرير الملك. وجائز أن يكون ذلك من نور، كما ذكر في الخبر: " أن عين الشمس إذا أرادت أن تطلع فإن جبريل - عليه السلام - يأتي العرش، فيأخذ كفًّا من ضيائه، ثم يلبس الشمس كما يلبس أحدكم قميصه، وإذا أراد القمر أن يطلع أخذ جبريل - عليه السلام - كفًّا من نور العرش، فيلبس القمر كما يلبس أحدكم قميصه "، فجائز أن يكون العرش من الضياء والنور. ثم أجل الأشياء وأعظمها في أعين الخلق الضياء والنور، وإليهما ينتهي الرغب؛ فيكون في ذكر العرش ذكر عظيم عرش الرب وملكه جل جلاله. ثم إن كل ملك في الشاهد يتخذ لنفسه عرشًا، يتفاوت ذلك على مقدار ملكهم وسلطانهم لا ليجعل ذلك مسكنًا لنفسه، فإذا لم يتوهم من الخلق أنهم يتخذون ذلك لمقاعدهم ومجالسهم فلأن لا يتوهم ذلك من اللَّه أولى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) أي: تعرضون على أعمالكم فلا تخفى عليكم خافية، أي: يظهر لكم في ذلك اليوم، ويصير بارزًا في ذلك اليوم، كما قال - تعالى -: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)، أي: تظهر لهم سرائرهم حتى يعرفوها، ولا يخفى عليهم شيء منها. وجائِز أن يكون قوله: (لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) أي: على اللَّه - تعالى - ولكن كل من ادعى إخفاء شيء من أمره على اللَّه - تعالى - وظن أن اللَّه - تعالى - لا يطلع عليه، فسيعلم في ذلك اليوم أنه لا تخفى عليه خافية، وهو كقوله - تعالى - (لِمَنِ الْمُلْكُ

(19)

الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، ليس فيه أن الملك كان لغيره، ولكن بعض الناس كانوا يدعون الإشراك في الملك في الدنيا، فيتركون في ذلك اليوم دعواهم، ويتيقنون أنه هو المنفرد بالملك، وعلى ذلك قوله - تعالى - (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) ولم يكونوا بمختفين عنه قبل ذلك؛ بل كانوا له في كل وقت بارزين، ولكن من أنكر ادعاء الإخفاء في الدنيا يدع في ذلك اليوم، ويقر بالبروز، واللَّه المستعان. ثم روي في الخبر " أن العرضات ثلاث: عرضتان فيهما خصومات ومعاذير " أي: يختصمون ويتنازعون، فإذا ظهر ذلك جعلوا يعتذرون، ويسألون ربهم العفو والصفح عن ذنوبهم وخصومهم، و " العرضة الثالثة عند تطاير الصحف ". ومعنى قوله: (تُعْرَضُونَ) أي: يعرض الخلق بعضهم على بعض حتى لا يخفى على أحد خصمه. أو تعرض أعمالهم حتى يذكر كل أحد صنيعه، وكل خصم خصومته؛ فكأنهم قد نسوا ذلك من كثرة الفزع وشدة الأهوال، لكن اللَّه - تعالى - يطلعهم على ذلك حتى يذكروا ذلك، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) ظاهر ما جرى به الخطاب في القرآن يوجب أن يُرحم المؤمنون جميعًا فلا يعذبون في الآخرة، ويعذب الكافرون ولا يرحمون؛ لأنه قسم الخلق يوم القيامة صنفين: فجعل صنفًا منهم أهل اليمين، وصنفًا أهل الشمال، ثم وصف كل واحد من الصنفين بأعلام ثلاثة: فذكر مرة أنه يخف ميزانهم بقوله: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ)، وذكر مرة أن وجوههم تسود، وذكر مرة أنهم يعطون كتابهم بشمالهم؛ فهذه الأعلام ذكرها في أحد الصنفين، وذكر في الصنف الثاني، ووصفهم بأعلام ثلاثة: ببياض الوجوه، وبثقل الميزان، وبإعطاء الكتاب بأيمانهم. ثم فيما فيه سواد الوجوه ذكر فيه: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)، وكذلك حين ذكر خفة الميزان ذكر في آخره ما يبين أن الذين خفت موازينهم هم الكفرة؛ لأنه قال: (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ

فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ)، وذكر فيه إعطاء الكتاب بشماله، وذكر فيه ما يبين أنه من أهل الكفر؛ لأنه قال: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)؛ فثبت أن الوعيد المطلق ذكر في أهل الكفر، وكذلك قال: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، ولم يقل: أعدت للخلق، وقال: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)؛ فثبت أن أهل النار هم الكفار، ثم المؤمنون قد تعرض منهم زلات ومآثم في هذه الدنيا، والكفار يوجد منهم المحاسن فيها، ولكن أهل الكفر يجزون جزاء حسناتهم في دنياهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، وإذا لم يؤمنوا بها لم يقع سعيهم لها، وأمكن أن يكون المؤمن يجعل له العقاب بسيئاته في الدنيا فتخلص له الحسنات في الآخرة فيجزى بها. وجائز أن تكفر سيئاته بالحسنات التي توجد منه؛ لأن المحاسن جعلت سببًا لتكفير المساوى؛ قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، وإذا كفرت سيئاته في الدنيا، لم يعذب بها في الآخرة. وجائز أن يكون اللَّه - تعالى - يعذبهم بقدر ذنوبهم، ثم يعفو عنهم بحسناتهم التي سبقت منهم من الإيمان، وغير ذلك، فكل مؤمن -في الحقيقة- آخره الجنة، ويثقل ميزانه، ويبيض وجهه، ويعطى كتايه بيمينه. ثم يجوز أن يكون الذي يعاقب بذنوبه من أهل الإيمان يعاقب به قبل أن يعطى كتابه بيمينه، وقبل أن يبيض وجهه ويثقل ميزانه، وقبل أن يبيض وجهه، لم يكن مسود الوجه، ولكن على ما عليه في الدنيا. ثم متى عفي عنه؟ في الخبر " أن الناس يعرضون يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان ففيهما خصومات ومعاذير، وأما العرضة الثالثة فتطاير الصحف في الأيدي "، فيجوز أن يكون تعذيبه قبل العرضة الثالثة، ثم يعطى كتابه في العرضة الثالثة بيمينه؛ فتظهر له أعلام السعادة إذ ذاك، فإذا ثبت أن الوعيد المطلق إنما جاء في أهل الكفر، لم

(20)

يلحق أهل الكبائر من أهل الإيمان بهم في الحكم؛ بل وجب الوقف في حالهم؛ كما قال أصحابنا، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (هَآؤُمُ) أي: تعالوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: " ها " بمعنى: هاكم؛ أي: خذوا، فأبدلت الهمزة مكان الكاف، فظاهر الآية أن المعطى له الكتاب؛ يقول هذا؛ يدعو الخلق إلى نحوه، أو يناولهم الكتاب؛ استبشارًا وحبورًا، فيبشرهم بعفو اللَّه - تعالى - عنه ورحمته عليه. ولكن أهل التأويل صرفوا التأويل إلى المعطي، فقالوا بأن المعطي هو الذي يقول هذا؛ فكأن الذي كتب الكتاب في الدنيا من الملك هو الذي يعطي الكتاب إلى المكتوب عليه، ويقول: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) أي: خذوا اقرءوا، ما كتبت لكم وعليكم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فإن حملته على حقيقة الظن، فهو يخرج على ثلاثة أوجه. أحدها: أي: إني ظننت في الدنيا أني ألاقي (حِسَابِيَهْ)، أي: الحساب الشديد فيما سبق من سيئاتي، وأؤاخذ بها، وأجازى عليها، وظننت الساعة ألا أنجو من ذنوبي؛ لفزع هذا اليوم، فوجدت سيئاتي قد غفرت، وخطاياي كفرت عني؛ فيكون قوله منه هذا شكرًا لله - تعالى - وإظهارًا لمنته. والثاني: أي: إني تركت في دار الدنيا إذا عرضت لي الحوادث من الزلات والهفوات، ظننت أني ألاقي اللَّه - تعالى - بها، فأمسكت عنها، وانزجرت عن إتيانها؛ فيكون إخبارًا عن بيان سبب نيل ذلك. والثالث: أني تفكرت في أمري؛ فظننت أن مثلي لا يترك سدى هملاً؛ فأدى ظني إلى اليقين، فآمنت وصدقت الرسل، فإنما نجوت بأول ظني وفكرتي. ومنهم من صرف الظن إلى اليقين والعلم، فقال: معنى قوله: (ظَنَنْتُ) أي: أيقنت، وعلمت. والأصل: أن كل يقين حدث في الأمور المستترة والعلوم الخفية فإنما يتولد ذلك على ظن يسبق، فيحمله ذلك الظن على النظر فيه والبحث عن حاله حتى يفضي به إلى الوقوف

على ما استتر منه، ويصير الخفي له جليًّا، فيكون سبب بلوغه إلى اليقين والإحاطة الذي سبق منه؛ فجائز أن يسمى ذلك يقينًا مرة على الحقيقة وظنًّا ثانيًا على المجاز، على ما ذكرنا في قوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)، أن الأذن لا تعي شيئًا، بل تسمع، ولكنه إنما يوصل إلى الوعي بالأذن، فصارت الأذن سببًا للإيصال إلى الوعي، فأضاف الوعي إليها؛ فعلى ذلك ظنونهم في الابتداء إذا بلغتهم إلى اليقين والعلم سمّوا يقينهم وعلمهم ظنًّا مرة، ويقينًا ثانيًا؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - قال: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ)، وقال في موضع آخر: (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)، فجعلهم مرة ظانين، ومرة موقنين، فيما كان طريقته البحث وإعمال الفكر؛ ولهذا لا يجوز أن يوصف اللَّه - تعالى - بالإيقان في أمر من الأمور؛ لأن الأشياء له بارزة ظاهرة؛ إذ هو منشئها وخالقها؛ فلا يخفى عليه شيء منها فيحتاج إلى البحث عنها والنظر فيها، والله الموفق. أو نقول بأن الأمور التي سبيل دركها الاجتهاد، لا يخلو شيء منها من اعتراض وساوس وخواطر فيها، فتلك الوساوس والخواطر تفضي بصاحبها إلى الظنون فاستجازوا إطلاق الظن فيها؛ لما لا تخلو عنه، واستجازوا إطلاق اليقين لما غلب عليها دلالات اليقين والإحاطة؛ ألا ترى أن من تهدد بالوعيد الشديد، أو بالقتل على أن يكفر باللَّه - تعالى - أبيح له أن يجري كلمة الكفر على لسانه، وجعل كالموقن بإحلال العذاب من المكره، لو امتنع عن الإجابة إلى ما دعاه وإن لم يتيقن بأنه يفعل به لا محالة ما أوعد به؛ لأنه يجوز ألا يمكن من ذلك، ويجوز ألا يبقى إلى ذلك الوقت، ثم وسع له فعل ذلك بأكبر الرأي وغلبة الظن، وحل ذلك محل الإحاطة واليقين؛ فعلى ذلك هاهنا لما غلب دلالات اليقين والصدق، جاز إطلاق لفظة اليقين عليه، فأما الأشياء التي تدرك بالحواس والمشاهدات، فلا سبيل إلى تسمية مثله ظنًّا؛ لما لا يحتمل اعتراض الشبه فيها، واللَّه الموفق.

(21)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) أي: في حياة راضية، يقال: عاش وحيا بمعنى واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَاضِيَةٍ) بمعنى: مرضية معناه، أن نفسه في حياة ترضى بها؛ كقوله: (مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ)، أي: مدفوق، ومثله في الكلام كثير. ويجوز أن يكون المراد: نفس الجنة قد رضيت بأهلها، وأظهرت رضاها بهم، كما وصفت الجحيم بالسخط والتغيظ على أهلها، فجائز مثله في الجنة رضاء واستبشارًا، أي: على معنى أن الجنة تظهر لهم من أنواع الكرامات والخيرات ما لو كان ذلك من ذي العقل يكون ذلك دليل الرضاء، كما يضاف الغرور إلى الدنيا، وهي أنها تظهر من نفسها ما لو كان ذلك ممن يملك التغرير، يكون ذلك غرورًا من نفسها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قَالَ بَعْضُهُمْ: مرتفعة، على ما يستحب في الدنيا من الجنان في ربوة من الأرض مرتفعة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الجنة: اسم لروضة ذات أشجار؛ فكأنه يصف أشجارها بالارتفاع والطول والمنظر، وذلك أشهى إلى أربابها، وهذا كما قال: (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) من غير ذكر الأشجار؛ لأن ذكر الجنة اقتضى ذكر الأشجار. والثالث: يكون معنى العالية، أي: عظيمة القدر والخطر مرتفعة، وقد يوصف الشيء الرفع بالعلو، واللَّه أعلم. ثم قوله - تعالى -: (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) أي: في القطوف متدانية من أهلها لمن يريد قطفها، وبعيدة لمن لا يريد قطفها. وقيل: (دَانِيَةٌ) ينالها القاعد كما ينالها القائم. وقيل: ثمارها دانية، أي: لا يرد أيديهم منها بعد ولا شوك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) تأويله أن يقال لهم: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) إنما جعلتم أيامكم الخالية سلفًا في أيام الآخرة، وسلف الرجل لآخر هو أن يعطيه قرضًا؛ ليأخذ مثله وقت الحاجة إليه، أو يسلم الرجل رأس ماله في الأشياء التي يأمل منها الربح، فكأنه بما يشري نفسه يجعلها سلفًا ورأس مال، ليأخذ ربح ما باع في الآخرة، فذلك هو الإسلاف.

(25)

أو يجعل عمله للآخرة رأس ماله، وما رزق من الأموال ينفقها في سبيل اللَّه، ويجعل ذلك رأس ماله. وذكر عن وكيع أنه قال: بلغنا أن المراد الذين أسلفوا الصوم؛ أي: أنهم صاموا في الدنيا وتركوا الطعام والشراب، فأثابهم اللَّه في الآخرة فقال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا). * * * قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) والإيتاء بالشمال أحد أعلام الشقاء، فتمنى ألا يؤتى بما فيه علم شقائه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يقول هذا في الوقت الذي قرأ ورأى فيه خلاف ما كان يظن في الدنيا ويحسب؛ لأنه كان يحسب أنه في الدنيا أحسن صنعًا من الذين آمنوا، وأقرب منزلة إلى اللَّه - تعالى - كما قال: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، فظهر له بقراءته الكتاب أنه لم يكن على ما حسب؛ بل قد أساء صنيعه؛ فود عند ذلك ألا يعرف ما حسابه؛ لئلا تظهر مساوئه. ويحتمل أنه يتمنى أنه ترك ميتًا ولم يُحي حتى كان لا يرى الحساب ولا يعرفه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) أي: ياليت الميتة الأولى (كَانَتِ الْقَاضِيَةَ)، أي: يا ليت الميتة الأولى كانت دائمة عليَّ. وقال بعض أهل التأويل: يا ليت النفخة الآخرة كانت تقضي بالموت والهلاك، لم تكن محيية باعثة، واللَّه أعلم. وقال قتادة: تمنوا الموت، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليهم منه، ثم الموت عليهم مقضي، وليس بقاضٍ، فحقه أن يقول: يا ليتها كانت مقضية؛ ولكن هذه

(28)

اللفظة يذكرها الناس في كل مكروه من الأمور؛ ألا ترى أن الناس يدعون اللَّه - تعالى - بأن يصرف عنهم قضاء السوء، وليس بقضاء اللَّه؛ بل هو مقضيِهِ؛ فخرج القول على ما تعارفوا، وهذا كما يقال: (الصلاة أمر الله)، وليست هي بأمره، ولكن تأويله: أنها بأمره ما تقام، فسمي أيضًا قضاء اللَّه، وهو في الحقيقة مقضيه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) فالأصل أن الكفرة كانوا يفتخرون بكثرة أموالهم، فيقولون: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، فيزعمون أن اللَّه - تعالى - بما آتاهم من الأموال يدفعون عن أنفسهم العذاب بأموالهم إن حل بهم، فيتبين لهم في ذلك الوقت أنها لا تغني عنهم شيئًا، فيقول كل واحد منهم: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ). وقوله - تعالى -: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) ذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة، فالأصل: أن الكافر كان يحتج في الدنيا لنفسه بحجج باطلة، فمرة يقول: (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، ويقول مرة: (مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، ومرة يقول: هذا سحر، ومرة يقول: هو مجنون، وغير ذلك، فيعبر بقوله: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) أي: هلكت تلك الحجج التي كنا نتشبث بها، واضمحلت، وظننا أنها حجج. ومنهم من يقول: السلطان: هو القدر والشرف؛ أي: ذهب ذلك كله. وقيل: أي: هلك عني تكبّري وسلطاني على الأنبياء - عليهم السلام - في الدنيا وترك الاكتراث إليهم. وجائز أن يكون أراد به: أن السلطان الذي كان لي على نفسي في الدنيا قد انقطع؛ لأنه كان يملك استعمالها في مرضات اللَّه - تعالى - فيقول: قد انقطع ذلك السلطان؛ لأني لا أملك استعمالها فيما أستوجب به مرضاة اللَّه؛ لأنه يسلم فلا يقبل منه إسلامه. ثم يجوز أن تكون الهاءات في هذه الخطابات على معنى الإشارات إلى الأنفس، أو على تأكيد الأمر والمبالغة: كالنسابة، أو كأنهم ينادون أنفسهم بذلك، وقد تدخل الهاء في النداء؛ كقوله يا ربّاه، ويا سيّداه.

(30)

وجائز أن يكون الوقف وإجمام الكلام، وأهل النحو يسمّونه: هاء الاستراحة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) وقال في موضع آخر (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ)، وهو السوق على العنف، وقال في موضع آخر: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا)، فكأنهم - واللَّه أعلم - يغلون، وبدأ بالأمر بالإغلال؛ لأن الناس في الدنيا يجتهدون كل الجهد في منع العذاب بأيديهم، فأخبر أن أيديهم تغل في الآخرة؛ فلا يتهيأ لهم دفع ما يحل بهم من العذاب؛ فيكون ذلك أشد في العذاب عليهم، ويكون حالهم كما قال اللَّه - تعالى -: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فتغل يداه؛ كي يتقي النار بوجهه، ثم يدخلون في السلاسل فيجرون ويسحبون ويساقون على وجوههم على اختلاف أحوال القيامة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) أي: أدخلوه، يقال: لحم مصلي: أي مشوي؛ فجائز أن يؤمر بأن يشوى في الجحيم. وقوله: (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) فذكر أولًا: أنهم يغلون، ثم يصلون الجحيم، ثم يسلسلون إذ ذاك، وحق مثله أن يسلسل، ثم يمد إلى الجهنم، ولكنّه يشبه أن يكونوا أولًا يحشرون، ثم يساقون إلى نار جهنم بقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا)، وإذا وردوها هموا أن يفروا منها، فيسلسلون إذ ذاك، ويسحبون في النار حينئذ؛ فلا يتهيأ لهم الهرب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) ففيه بيان السبب الذي لأجله استوجبوا هذا العقاب، وهو أنهم كانوا لا يؤمنون باللَّه العظيم. ثم قوله: (لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) جائز أن يكون لا يؤمن بوحدانية اللَّه، أو لا يؤمن بإرسال الرسل، أو كان لا يؤمن بالبعث، وإلا فهم يؤمنون باللَّه، ولكن من لم يكن مؤمنًا بالرسل والبعث فهو غير مؤمن في الحقيقة؛ لأن الإله الحق هو الذي أرسل الرسل، ويقدر على البعث، والكافر لا يثبت له قدرة البعث، ولا يراه أرسل الرسل، فصار لا يؤمن بالله العظيم في الحقيقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) إخبار أنه كان لا يؤمن بالبعث؛ لأن الناس ليسوا يطلبون من المساكين الجزاء لما يطعمونهم، وإنما يطعمونهم لوجه الله

(35)

تعالى، ورجاء الثواب في الآخرة، والكافر غير مؤمن بالجزاء؛ ليحمله ذلك على الإطعام، وليس هو بكسب يرغب فيه من مكاسب الدنيا؛ فكأنه يقول: إن الذي أفضى به إلى النار تركه الإيمان باللَّه - تعالى - أو بالبعث. ويجوز أن يكون قوله: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) إثبات السخرية من الذي ترك الحض على أهله بالإطعام؛ كقوله: (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ)، يقول: كيف أطعمه ومن بيده خزائن السماوات والأرض لا يطعمه؟! فلو كان أهلًا للإطعام لكان الأولى من يطعمه هو اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) أي: قريب يرجو منه، وهو كقوله: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، فليس له قريب يرجوه، أو ينفعه ذلك الحميم، وقد كان له في الدنيا حميم ينتفع به ويرجو منه. وقوله: (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) وقال في موضع آخر: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)، وقال في موضع آخر: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ)، والزقوم غير الضريع؛ فهذا - واللَّه أعلم - يدل أن في جهنم دركات، فأهل دركة منها لا يجدون غير الغسلين، وأهل دركة منها يجدون غير ذلك، وأهل دركة منها طعامهم الزقوم، ليس لهم غيره، وإلا لو لم يحمل الأمر على هذا، أوجب ما ذكرناه اختلافًا، فيخرج أن يكون من عند اللَّه بقوله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا). ثم يجوز أن يكون قدر لأهل كل دركة ما توجبه الحكمة أن يكون ذلك طعامهم؛ فعلى ما كانوا يفتخرون في هذه الدنيا بالأطعمة على من دونهم، ويهينون من لم يكن عنده ذلك الطعام، جعل اللَّه - تعالى - لهم من ذلك الوجه طعامًا في الجحيم يهانون به. وقال الحسن: إن القرآن كله كسورة واحدة، والسورة كأنها آية واحدة، فكأنه جمع بين هذه الأشياء كلها في آية واحدة فقال: (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)، (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)، و (مِنْ زَقُّومٍ) وإذا حمل على ما ذكر ارتفع توهم التناقض، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) فجائز أن يكون هذا اسمًا لشيء من الأشياء التي يعذب بها أهل النار، لم يطلع اللَّه - تعالى - الخلق على علم ذلك ومعرفته في الدنيا،

(37)

وقد ذكر أسامي في الآخرة ليس للخلق بمعرفتها عهد؛ ألا ترى أن الزقوم ليس باسم لشيء يستقبح ويستفظع في الدنيا، ثم جعله اللَّه - تعالى - اسمًا للشيء المستبشع الكريه في الآخرة، وقال (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا)، والسلسبيل غير معروف فيما بين أهل اللسان. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الغسلين: ما يسيل من جلود أهل النار إذا عذبوا، وذلك هو الصديد والقيح. وجائز أن يكون إذا اشتد حرهم استغاثوا إلى اللَّه - تعالى - وطلبوا منه ما يرجون أن يرفع عنهم الحر، فيصب عليهم ما يزيد في عذابهم؛ فيسمى ما يزول عنهم: غسلينا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فهم الذين قال: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ). ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) لا يجوز أن تكون السلسلة تفضل عن أبدانهم فتأخذ فضل مكان من جهنم؛ لأنه - تعالى - وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولو كانت تلك السلسلة آخذة فضل مكان، لكان لا يقع الامتلاء بالجنة والناس أجمعين فقط، فيؤدي إلى خلف الوعد، واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يخلف الميعاد، ولكن إن كانت تلك السلسلة أطول من أبدانهم فهي تدار على أهلها؛ ليقع لهم بها فضل تضييق وغم، فأمّا أن تفضل عن أبدانهم فلا يحتمل. وذكر عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا؛ فإنه أهون -أو قال: أيسر- عليكم، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر يوم القيامة؛ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) ". وعن الحسن أنه قال: " إن المؤمن قوام نفسه، يحاسب نفسه لله - تعالى - وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة؛ لأن المؤمن يفجؤه الشيء فيقول: واللَّه إني لأستهينك وإنك لمن حاجتي، ولكن واللَّه ما لي من صلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء؛ فيرجع إلى نفسه، فيقول: ما أردت هذا، ما لي ولهذا، والله ما أعذر، واللَّه لا أعود لهذا إن شاء اللَّه - تعالى - إن المؤمنين قوم أوثقهم العذاب،

(38)

وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسِير في الدنيا يسعى في فكاك نفسه، لا يأمن شيئًا حتى يلقى اللَّه يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه وجوارحه كلها. فمحاسبة النفس: أن ينظر في كل فعل يريد أن يقدم عليه إلى عاقبته، فإن كان رشدًا أمضاه وأنفذه، وإن كان غيًّا انتهى عنه، كما قال النبي - عليه السلام -: " إذا أردت أمرًا فدبّر عاقبته، فإن كان رشدًا فأمضه، وإن كان غيًّا فانته عنه ". وقال في خبر آخر: " إن المؤمن وقَّاف وزان "، ووزنه: ما ذكر في الخبر الأول من النظر في العواقب، فإذا نظر في العاقبة، ورأى الرشد في إنفاذه، فقد وزنه، وإذا رأى خلاف الرشد، انتهى عنه، ولم يقدم عليه، فذلك وقفه، فهذا الذي ذكرنا محاسبة المرء نفسه فيما يروم من الأمور. ومحاسبة نفسه في الأفعال التي ارتكبها وأمضاها أن ينظر: فإن كان ارتكب محرمًا، تاب عنه، واستغفر لله - تعالى - لعله بفضله يمن عليه بالمغفرة، وإن كان ذلك فعلًا مرضيًا حمد اللَّه - تعالى - وسأله التوفيق بمثله؛ فهذه هي محاسبة العبد لنفسه فيما ارتكب من الأفعال. * * * قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ): قد وصفنا أن تأويل قوله: (فَلَا أُقْسِمُ) أي: فلا أقسم بما تبصرون من خلق السماوات والأرضين وأنفسكم، وما لا تبصرون في أنفسكم من الأسماع، والأبصار، والقلوب، والعقول. أو ما تبصرون من الخلائق ممن حضركم، وما لا تبصرون من الخلائق ممن غاب عنكم، فيكون القسم بما نبصر وما لا نبصر قسم بالخلائق أجمع؛ لأن جملة الخلائق على هذين الوجهين، فصنف منهم يرى، وصنف لا يرى، وقد ذكرنا أن القسم من اللَّه - عز وجل - لتأكيد ما يقصد إليه مما يعرف بالتدبر والتأمل.

(40)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) أي: الذي تسمعونه منه تسمعون من رسول كريم، ثم ذكر - هاهنا - أنه قول رسول كريم، وقال في موضع آخر: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، فذكر - هاهنا -: كلام اللَّه، وذكر في الآية الأولى: أنه قول رسول كريم، فأما ما أضيف إلى الرسول فهو من حيث بلوغنا إليه من جهة الرسول، لا بأمر غيره وصلنا إليه، وأضيف إلى اللَّه - تعالى - لأن مجيئه وبدأه من عنده، وأضيف إلى الرسول؛ لأن ظهوره في حقنا كان به، وهذا كما أضيف ما وعاه القلب إلى الأذن بقوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)؛ لأنه إنما يوصل إلى الوعي بالأذن؛ فعلى ذلك أضيف القول إلى الرسول من حيث كان سماع الخلق من جهة الرسول، عليه السلام. ثم الأصل أن الكلام والقول لا يسمعان، وإنَّمَا المسموع منهما الصوت الذي يعرف الكلام والقول به، ويدل عليه، لا أن يكون كلامه في الحقيقة صوته، فينسب أيضًا هذا القرآن إلى كلام اللَّه - تعالى - لما يدل على كلامه، لا أن يكون المسموع -في الحقيقة- هو كلامه وجائز أن يكون تأويل قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)، أي: إن الذي سمعتموه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أتاكم به لقول تلقاه من عند اللَّه الرسولُ الكريم، فيذكرهم هذا ليؤمنهم من تخليط يقع فيه من الشياطين وغيرهم من الأعداء. ثم جائز أن يكون الرسول الكريم هو جبريل - عليه السلام - كما قال - تعالى - في سُورَةِ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ): (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ). ويحتمل أن يكون الرسول الكريم هو محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والأشبه أن يكون هو المراد؛ لأنهم كانوا ينكرون رسالته، ولم يكونوا يقولون في جبريل - عليه السلام - شيئًا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) أي: إن هذا القرآن لقول رسول كريم، ليس بقول شاعر، ولا بقول كاهن. ثم قوله: [(قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)] يحتمل أن يكون تأويله: فبقليل ما تؤمنون، وبقليل ما تذكرون مما جاءكم به الرسول، فالقليل الذي آمنوا به وتذكروا فيه هو الذي كان راجعًا إلى منافعهم، فأما الذي كان عليهم فهم لم يؤمنوا به ولا تذكروا فيه، وإذا كان تأويله ما ذكرنا، فانتصاب القليل؛ لانتزاع حرف الخافض، وفي الحقيقة انتصابه

(43)

لكونه مصدرًا، وهو المفعول المطلق. وجائز أن يكون أضاف القليل إلى قول: الكاهن والساحر، وتأويله: أن الأمور لو كانت على ما تزعمون بأنه قول كاهن وقول ساحر، فما بالكم لا تصدقون بالقليل منه، وقد تعلمون أن الساحر وإن كان الغالب عليه الكذب فيما يأتي، فقد يصدق في القليل منه، وكذلك الكاهن، فما لكم لا تصدقون بالقليل منه، وأنتم تعلمون أنه صادق، فإن كان على هذا فهو في موضع إيجاب الحق عليهم أن يصدقوه. وإن كان على التأويل الأول، ففيه إضمار أنهم لا يؤمنون إلا بالقليل منه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) فالتنزيل في الحقيقة لا يحتمل أن يسمع؛ لأنه إخبار عن فعله، وإنما الذي يسمع منه هو المنزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم أضاف إلى نفسه التنزيل؛ ليعلم أن هذه الأخبار، وهي قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَنْزِيلٌ) خرجت على المجاز، ليس على التحقيق؛ لأن التنزيل هو إنزاله، فسمي: تنزيلًا؛ لأنه هو الذي كلفه الإنزال، لا أن يكون هو الذي تولى الإنزال، وإن كان هو خالقه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) فهذا عطف على ما تقدم من قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ)، وعليه وقوع القسم، وهو موضعه؛ فكأنه يقول: إن الذي تلقاه من عند رسول كريم، وما هو بقول تلقاه من كاهن أو ساحر، ولا بقول تقوله علينا، ولو تقول، لأخذنا منه باليمين. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن الذي يسمعون منه رسول كريم، وليس بشاعر، ولا كاهن، ولا متقول؛ لأنهم كانوا مرة ينسبونه إلى الكهانة، ومرة إلى السحر، ومرة أنه تقوله على اللَّه، ولو تقول (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) يبين أن عذاب اللَّه بأخص عباده أسرع وقوعًا إذا هم خالفوا، وزلوا - منه بأعدائه؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) فبين أنه لو وجد منه شيء مما قالوا فيه، لأخذه على المكان؛ ألا ترى إلى آدم - عليه السلام - وما حل به عندما ابتلي بالزلة والخلاف، وكذلك يونس - عليه السلام - وما عوتب على أثر الزلة؛ وهذا لأن عذاب الأولياء يخرج مخرج التنبيه، والتذكير، والاستدعاء إلى ما كانوا عليه من الطاعة، والانقياد قبل ارتكابهم الزلة، ولا كذلك عذاب الأعداء، فأخر عذابهم إلى اليوم الذي يدوم عليهم فيه العذاب.

(46)

وفيه وجه آخر: وهو أن الذي سمعتم منه لو كان سحرًا أو شعرًا أو كهانة أو تقوَّله، لكان لا يمهله اللَّه - تعالى - بل يؤاخذه على المكان من غير أن حجزوا، كما قال: (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)، فإمهاله دل على أن الأمر ليس كما قالوا، بل هو تنزيل من رب العالمين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) فأخذ اللَّه - تعالى -: عذابه وعقوبته؛ كقوله - تعالى -: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً). وقوله: (بِالْيَمِينِ) أي: بالقوة؛ أي: لا يعجزنا عنه شيء، ولا يفوتنا عذابه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ)، وهو كقوله - تعالى -: (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)، أي: لا يعجزنا ما عنده من الشرف والقوة من أن نؤاخذه، وننزل عليه النقمة. وجائز أن يكون اليمين صلة القول، لا على تحقيق اليد، فذكر اليمين؛ لأن التأديب في الشاهد والأخذ يقع بها، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ)، فأضاف التقديم إلى اليد، لا على تحقيق اليد؛ إذ يجوز ألا يكون ليديه بما قدم صنع، لكن لما كان التقديم في الشاهد يقع بالأيدي، فذكرت اليدان على ذلك، لا على تحقيق الفعل بهما، فكذلك يجوز أن تكون اليمين ذكرت؛ لما بها يقع الأخذ والتأديب في الشاهد، وإن لم يكن هناك يمين، واللَّه أعلم. واليمين: القوة، وسمّيت اليمين: يمينًا؛ لأن قدرة الرجل تكون فيها، وسمي ملك الرقاب: ملك يمين؛ لأن ملك اليمين يكتسب بالقهر والغلبة، وإنَّمَا يصل المرء إلى القهر والغلبة بالقوة؛ فسمي: ملك يمين لهذا، لا أن يراد بذكر اليمين تحقيق اليمين؛ إذ اليد لا تملك شيئًا حتى يضاف إليها، فكذلك فيما أضيف من اليمين إِلى اللَّه - تعالى - فالمراد منه القوة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) قيل: الوتين: عرق في القلب. وقيل: حبل في القلب.

(47)

وقيل: هو العرق الذي إذا قطع مات صاحبه، وهو عرق متصل بالظهر، فكأنه قال: نعذبه عذابًا لا بقاء له مع ذلك العذاب، وهذا من أعظم آيات الرسالة في أنهم متى زلوا أخذوا على المكان، ويكون فيه أمان الخلق عن إحداث التغيير والتبديل من الرسل؛ لأنهم لو غيروا لعذبوا. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْهُ بِالْيَمِينِ) فجائز أن يكون قوله: (مِنْهُ) زيادة في الكلام، وحقه الإسقاط، ويكون معناه: لأخذناه باليمين. وجائز أن يكون معناه: لأخذنا من تقوله وسحره وكهانته باليمين، فإن كان على هذا فحقه الإثبات، وليس بصلة زائدة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)، ففي هذا يأس منه لأُولَئِكَ الكفرة؛ لأنهم كانوا يطمعون من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اتباعهم وموافقتهم على ملتهم؛ فأخبر أنه لو أجابهم لقطع منه وتينه، وأخذه أخذًا لا يملكون منع ذلك عنه، ولا دفعه، ولم يكن أحد ينصره عند ذلك أو يحجزه عنا، وهو كقوله - تعالى - (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ. . .) إلى قوله: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) فالمتقون: الموحّدون، فسمَّاهم مرة: متقين، ومرة: صابرين شاكرين؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، وهو تذكرة؛ لأنه يذكرهم الوعد والوعيد، وما يتقى وما يؤتى، وغير ذلك، فهو تذكرة، يعني: القرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) أي: بآياتي ورسلي، ثم نمهلكم، فهو صلة قوله: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ) فبيَّن أنه مع كذبهم بآياته ورسله يمهلهم، ولا يعجل عليهم بالعقوبة، ولو وجد التقول من الرسول، لكان يستأصله، ويقطع وتينه، فهو على ما ذكرنا: أن عذابه على خواص عباده أسرع وقوعًا إذا خالفوا منه بأعدائه. وجائز أن يكون قوله: (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) هم المنافقون؛ لأنهم كانوا يظهرون الموافقة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بألسنتهم، ويخالفونه ويكذبونه بقلوبهم؛ فيكون هذا التأويل

(50)

راجعًا إلى أهل النفاق، والتأويل الأول إلى أهل الكفر الذين أظهروا التكذيب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) أي: العذاب حسرة عليهم يوم القيامة؛ لأنه شافع مشفع لمن اتبعه وعمل بما فيه، وما حل، مصدق لمن نبذه وراء ظهره ولم يعمل به، فهو حسرة عليهم؛ لأنه يخاصمهم، فيخصمهم ويشهد عليهم، فيصدق في شهادته. أو يذكرون يوم القيامة معاملتهم بالقرآن، فيندمون عليه، ويزيدهم حسرة؛ لأنهم كانوا إذا تلي عليهم القرآن في الدنيا ازدادوا عند تلاوته ضلالًا وكفرًا، وازدادوا به رجسًا إلى رجسهم، كما قال اللَّه تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، وهو ليس بسبب لازدياد الرجس، ولكنهم كانوا يحدثون زيادة تكذيب وضلال عند التلاوة؛ فأضيفت الزيادة إلى القرآن؛ إذ كان القرآن هو الذي يحملهم على زيادة التكذيب؛ فهذه المعاملة تزيدهم حسرة يوم القيامة؛ فأضيفت إلى القرآن؛ إذ كان القرآن هو الذي عنده وقعوا فيه، كما أضيف الرجس إليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) والأصل: أن الحق اسم لما يحمد عليه، فحقه أن ينظر فيما تستعمل هذه اللفظة، فيصرفها إلى أحمد الوجوه، فإذا استعملت في الإخبار أريد بها الصدق؛ نحو أن يقال: " هذا خبر حق "؛ أي: صدق، وإذا استعملت في الحكم أريد بها: العدل، وإذا استعملت في الأقوال والأفعال، أريد بها: الإصابة؛ فقوله: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي: صدق ويقين أنه من رب العالمين، فهو صلة قوله - عز وجل -: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) قيل: صَلِّ. وقيل: اذكره بالاسم الذي إذا سميت كان تسبيحًا، أي تنزيهًا عن كل ما قالت فيه الملاحدة، وما نسبت إليه مما لا يليق به، واللَّه الهادي وعليه التكلان. * * *

سورة المعارج

سُورَةُ الْمَعَارِجِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ) قرئ بتسكين الألف، ومعناه: سَالَ واد بعذاب واقع للكافرين، أي: جرى واد بعذاب واجب. والقراءة العامة بالهمزة من السؤال، وتأويله على سؤال القوم العذاب بقولهم: (إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وقولهم: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا). وقيل: هو النضر بن الحارث، سأل ذلك، فقتل يوم بدر بعدما أسر؛ هكذا قال بعض أهل التأويل. ولكن عندنا أن هذا وإن كان في الظاهر خارجًا مخرج السؤال، لكن لم يكن سؤاله هذا لينزل به العذاب في التحقيق، وإنَّمَا هذا منه على جهة الاستبعاد بالعذاب والاستهزاء برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والذي حملهم على الاستبعاد والإنكار هو أنه كان عند أهل مكة: أنه لو كان فيهم نبي، لكانوا هم أحق بالنبوة من رسول اللَّه - عليه السلام - لأنهم هم الذي بسطت لهم الدّنيا، وهم الذين لهم نفاذ الكلام في البلاد، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم تبسط له الدنيا، ولا كان لكلامه فيما بينهم نفاذ، فيظنون بهذا أنهم أقرب منزلة عند

اللَّه - تعالى - من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لا يستقيم في العقل أن يصل الولي إلى عدوه، ويحسن إليه ويدع صلة وليه ويجفوه، فهذا الظن الذي ذكرنا هو الذي حملهم على تكذيب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يخبرهم من حلول العذاب بالتكذيب، وعلى الاستهزاء به، فكان سؤال السائل على جهة الاستبعاد والإنكار للعذاب، لا أن كانوا مقرين به ثمّ استعجلوه. وذكر أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم انصر أبرنا قسمًا، وأوصلنا رحمًا، وأقرانا للضيف؛ فكان يدعو بهذا لما عنده: أنه أشرف حالًا وأعلى منزلة عند اللَّه - تعالى - من مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأتباعه، ومن كان هذا شأنه، فهو أولى أن ينصر؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، ولو لم يكن عندهم أنهم أقرب منزلة وأحق أن يكونوا أولياء، وإلا لم يكونوا يجترئون أن يسألوا بهذا، فهذه الشبهة التي ذكرناها هي التي أورثت لهم ما ذكرناها من الظن، حتى زعموا أنهم أحق بالرسالة، وظنهم هذا يتولد من ظن إبليس، وذلك أن إبليس قال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)؛ فظن أن أمر الفاضل للمفضول بالسجود في الخضوع له خارج عن حد الحكمة؛ فصار إلى ما صار إليه من الخزي واللعن، فكذلك هَؤُلَاءِ لما رأوا من نفاذ كلمتهم وسعتهم في الدنيا ظنوا أنهم أقرب إلى اللَّه - تعالى - إذ التوسع عندهم دلالة الولاية والقرب. ثم سفههم هو الذي حملهم على التكبر على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وترك الخضوع، وإلا لو أعطوا النصفة من أنفسهم، لكان يجب أن يكونوا هم أطوع خلق اللَّه - تعالى - لأن الواجب على من كثرت عليه النعم من آخر أن يكون هو أشكر للنعم، وأطوع له فيما يدعوه إليه من الذي قلَّت نعمه عليه، فإذا كانوا مقرين أن نعم اللَّه عليهم أكثر، وإحسانه إليهم أوفر، أوجب ما ذكروا أن يكونوا هم ألزم لطاعته، وآخذ لما يأمرهم به، وكذلك إبليس اللعين إذا رأى لنفسه فضلا، وإنما استوجب ذلك بما أنعم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عليه، كان الحق عليه أن يتسارع إلى طاعته وينقاد لما أمر به، لا أن يظهر الخلاف من نفسه وترك الائتمار بأمره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) أي: هو واقع بهم لا محالة في علم اللَّه تعالى.

(2)

أو (وَاقِعٍ) بمعنى: سيقع، كما يقال: قابل: أي: سيقبل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) فإن كان قوله: (لِلْكَافِرِينَ) صلة قوله: (بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)، فحقه أن يقول: على الكافرين، ولكن اللام من حروف الإضافة والخفض، وحروف الإضافة مما يستبدل بعضها ببعض؛ فجعل اللام بدلا عن " على ". وإن كان قوله: (لِلْكَافِرِينَ) صلة قوله: (لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ) فمعناه: أن ليس على الكافرين دافع لعذاب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بل واقع بهم لا محالة، فأبدلت اللام مكان " عن "؛ لأنهما جميعًا من حروف الخفض. وقد يدفع العذاب عن المسلمين من وجوه: إما برحمة اللَّه - تعالى - أو بشفاعة الرسل والأخيار، وإما بحسنات سبقت منهم، توجب تكفير سيئاتهم. فأما الكفار فلا تنالهم رحمته، ولا شفاعة أحد من الخلائق، وليست لهم حسنات تكفر سيئاتهم، فليس لهم ما يدفع عنهم العذاب. وجائز أن يكون معناه: أن الذين ظنوا أنه ينصرهم عند النوائب وحلول الشدائد، لا يقوم بنصرهم، ولا يشفع لهم؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويعبدون الملائكة على رجاء أن يشفعوا لهم، ويقربوهم إلى اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) أي: ذلك العذاب لهم من اللَّه - تعالى - ذي المعارج؛ أي: من له المعارج؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)، أي: الذي له العرش. واختلفوا في المعارج: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي المصاعد، وهي السماوات، وسمَّاهن مصاعد؛ لأن بعضها أصعد من بعض وأرفع، ولو قال: ذي المسافل، كان مستقيمًا، واقتضى ما يقتضي قوله: ذي المعارج؛ لأن بعضها إذا كان أصعد من بعض؛ فالذي تحتها أهبط وأسفل، ولكن ذكر المصاعد؛ لأن هذا أعلى في الوصف. ثم في ذكر هذا عظيم نعمه وإحسانه إلى خلقه؛ حيث خلق السماوات والأرض

(4)

مسكنًا لأهلها، وبسط الأرض مسكنًا لأهلها، حتى إذا عرفوا هذا عرفوا أن له أن يفضل بعضًا على بعض، وله أن يصطفي من يشاء من الناس للرسالة ويختص بها. وذكرهم - أيضًا - حكمته وعلمه وقدرته وسلطانه حيث وضع سماء على سماء، وخلقهن طباقًا من غير عمد تحتها تمسكها، أو علائق من فوقها تربطها، فتبين أنه يمسكها بحكمته وقدرته وسلطانه؛ فيكون في ذكر كل وجه مما ذكرنا إزالة الشبهة التي اعترضت لهم في أمر البعث والرسالة وإيضاح بأن من قدر على ما ذكرنا لقادر على الإعادة بعد الإفناء. وقيل: المعارج: المعالي، أي: الذي له العلو والرفعة، كما قلنا في قوله: الحمد لله، أي: لا أحد يستحق الحمد في الحقيقة، وما حمد أحد إلا وذلك في الحقيقة لله - تعالى - لأنه به استفاده، فعلى ذلك قولنا: له العلو والرفعة، أي: ليس أحد يستفيد العلو والكرامة إلا وحقيقة ذلك لله - تعالى - لأنه استفاده به. والثاني: أي: هو الموصوف بالعلو والجلال عما يقع عليه أوهام الخلق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) يحتمل أن يكون معنى قوله: (تَعْرُجُ) ليس عن هبوط يصعد ويعرج، لكن أنشأهم كذلك معروجين؛ كقوله: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ)، أي: أنشأهم كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا)، ليس أنها كانت في موضع منحط فرفعها، لكنه كذلك خلقها مرفوعة؛ فعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ)، أي: أنشأهم كذلك ليستعملهم (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ). ووجه آخر -وهو الأشبه بالآية-: وهو ما قالوا: إن الملائكة تعرج إليه؛ أي: إلى الموضع الذي منه أرسلهم إلى أنواع الأمور في يوم لو قدر ذلك العروج بعروج البشر

وسيرهم، لكان مقدار خمسين ألف سنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)، وقال في موضع آخر: (أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)، فيحتمل أن يكون هذا الوقت وقت تقدير عروج الملائكة وصعودهم، وهو أن البعض ينزل منهم، ثم يعرج في يوم واحد، مقدار ذلك المسير ألف عام، والبعض منهم ينزل ويعرج في يوم واحد مسيرة خمسين ألف سنة؛ فيكون في هذا إبانة أن ليس أهل سماء أحق أن يدور عليهم تدبير أهل الأرض من أهل سماء؛ بل ينزل أهل سماء إلى أهل الأرض مرة؛ لما يراد من تدبير، وينزل أهل سماء أخرى بتدبير آخر، ثم من أي سماء يرسل، فهو يصعد إلى تلك السماء في يوم واحد، إن أرسل من السماء السابعة أو السادسة أو الأولى، فهو يصعد إليها في ذلك اليوم، فيكون في هذا تبيين قوة بعض الملائكة على بعض: أن فيهم من يسير مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد، وفيهم من يسير مسيرة ألف سنة، ومن قدر على أن يخلق في خلق من خلائقه من القوة ما يقطع هذه المسافة في يوم واحد، لا يحتمل أن يعجزه شيء؛ فيكون في ذكر هذا تحقيق كون ما به هول أمر القيامة والبعث. وجائز أن يكون قوله: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) راجعا إلى يوم القيامة، فذكر في موضع أن مقداره ألف سنة، وذكر هاهنا أن مقداره خمسين ألف سنة، والأصل أن ذلك اليوم ليس بذي حد ولا له غاية ينتهى إليها، فما يخبر من الحد فيه، فهو يخرج مخرج تعظيم ذلك اليوم؛ ليقع به التهويل والتقريع، فبأي شيء يعظم ذكره في القلوب يذكره؛ فمرة ذكره بالخلود، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ)، ومرة قال: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا)، ومرة قال: (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)، ومرة قال: (أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)، إذ هذه الأشياء مما يعظم ذكرها في القلوب، وكذلك الألف هي عظيمة في القلوب، فإذا كانت هذه الأشياء يعظم ذكرها في القلوب فذكر الشيء الواحد من الجملة أو ذكر الأشياء يقتضي معنى واحدا.

(5)

ومنهم من يصرف الألف إلى تقدير عروج الخلائق إلى السماء في ذلك اليوم، ويصرف قوله: (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) إلى تقدير المقام للحساب قبل أن يدخلوا النار. وجائز أن يكون تأويله على ما ذكره بعض أهل التفسير، وهو أن اللَّه تعالى لو جعل حساب الخلق يومئذ إلى الخلق، فتكلفوا أن يفرغوا من حسابهم، لن يفرغوا منه إلا في مقدار خمسين ألف سنة، لكن اللَّه تعالى بلطفه يحاسبهم حسابا يفرغون منه في أدنى في وقت حتى يصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار في النار؛ على ما جاء في الأخبار، وذلك قوله: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ). فَإِنْ قِيلَ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)، أن كيف قدر ذلك بصعودنا، ونحن لم يمكن لنا من الصعود، ولم ننشأ على ما في طبعنا إنشاء الصعود حتى ننظر: أنه ألف سنة أو أقل أو أكثر. وجوابه أن يقال: إن تأويله - واللَّه أعلم -: أنه لو بسط ما بين السماء والأرض، وصار بحيث يمكن السير عليه، لم يقطع ذلك المسير إذا احتجنا إلى قطعه إلا بألف سنة مما تعدون. وجائز أن يكون تأويله: أن لو جُعل لنا إلى السماء بابٌ، وفتح، وظللنا نعرج إليها لم نتوصل إليها إلا في ألف عام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) قيل: الصبر الجميل هو صبر لا جزع فيه، والصبر الذي لا جزع فيه هو أن يصبر صبرا لا يرى عليه أثر الصبر، بألا يظهر في وجهه كراهة، ولا عبوسة، وهو أن ينظر إلى من آذاه بعين الرضا والشفقة، ليس بعين السخط والكراهة. أو الصبر الجميل ألا يكافئهم، ولا يدع شفقته ورحمته عليهم بما يؤذونه، وقد كان - عليه السلام - كذلك مشفقا بهم رحيما، حتى بلغت شفقته ورحمته وحزنه على كفار قومه مبلغا كادت نفسه تهلك فيها، كما قال اللَّه، تعالى: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ

(6)

حَسَرَاتٍ)، وقال: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ)، فالرسل - عليهم السلام - كانوا إذا أوذوا لم يكونوا يحزنون لمكان أنفسهم بما أوذوا، بل كانوا يحزنون لمكان من يؤذيهم خوفا من أن يحل بهم الهلاك والبوار بإيذائهم رسل الله تعالى، وإشفاقهم على قومهم هو الذي كان يحزنهم؛ ليس سوء صنيعهم ومعاملتهم معهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) أي: بعيدا أن يكون، فيكون على النفي والإنكار، وقد يستعمل هذا الحرف في موضع النفي؛ يقول الرجل في المناظرة لصاحبه: أبعدت في القول؛ إذا أجاب بشيء لا ثبات له ولا صحة، فيريد بقوله: " أبعدت ": النفي؛ أي: ليس كما تقول، وقال اللَّه تعالى: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)، ومعناه على نفي النداء؛ أي: لا ينادون. أو أن يكون قوله: (بَعِيدًا) أي: مستبعدا كونه، فبعد عن أوهامهم حتى أنكروه. (وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) أي: قريبا كونه، إن كان معنى قوله: (بَعِيدًا) أي: بعيدا كونه. أو (وَنَرَاهُ قَرِيبًا)، أي: كائنا، وقد قرب وقت وقوع ذلك بهم، وكل ما هو كائن فهو قريب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) فكأنهم سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الوقت الذي وعدوا أن يقع بهم العذاب متى وقته؟ فنزلت هذه الآية: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ). وقيل: المهل: عكر الزيت، وهو درديُّه؛ فجائز أن يكون هذا على التحقيق، وهو أنها تتغير في ذلك اليوم من لون إلى لون، فتحمر مرة، وتصفر أخرى؛ لشدة هول ذلك اليوم، فتكون كدردي الزيت لينا ولونا متغيرا من حال إلى حال. وجائز ألا يحل بها التغير، ولكن شدة ما ينزل بالمرء من الهول والفزع يضعف بصره حتى يرى السماء على خلاف اللون الذي هي عليه، وهو كما يرى المرء إذا حل به

(10)

الضعف والمرض في الشاهد، ووجد طعم الأشياء على خلاف ما هي عليها؛ فيكون في ذكر هذا تهويل وتفزيع أن هول ذلك اليوم شديد لا تقوم لهوله السماوات والأرضون مع صلابتها وغلظها في نفسها، فكيف يقوم لهولها الآدمي الموصوف بالضعف واللين. وجائز أن تكون على ما ذكرنا أنها تصير شبيهة بالمهل؛ للينها ورخاوتها، وهو أنها تلين وترخو من هول ذلك اليوم حتى تصير السماء كالمهل، والجبال كالعهن؛ فيكون في هذا - أيضا - تهويل؛ ليرجعوا عما هم عليه ويقبلوا على عبادة الله تعالى، ويتسارعوا إلى طاعته. وتأويل العهن، ووجه تشبيه الجبال بها يذكر بعد هذا في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) قرئ برفع الياء ونصبها، فمن رفع الياء فتأويله: أي: لا يطلب حميم من حميم، ولا يؤخذ بمكانه كما يفعل مثله في الدنيا؛ لأن ذلك اليوم هو يوم العدل، وليس من العدل أن يؤخذ الغير بذنب الغير. ومن قرأه بالنصب فتأويله: ألا يسأل حميم حميما من شدة ذلك اليوم وهوله النصرة والشفاعة. أو لا يسأل عن حاله بما حل به من الشغل في نفسه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) يحتمل أن يُعَرَّف بعضهم عن بعض أن هذا أبوك وابنك وحميمك؛ إذ لا يعرفه إلا بالتعريف؛ لما حل به من شدة الهول والفزع، ثم إذا عرفوا لا يسألونهم؛ بل يفر بعضهم من بعض، كما قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ). الآية.

(12)

أو يكون معناه: أن يبصروا ما سبق منهم من الذنوب والأجرام، فيعرفونها، وتصير لهم حاضرة. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ... (14) ففي هذا أنه يستقبلهم في ذلك هول وفزع لم يكن لهم بمثله عهد في الدنيا، ولا كان خطر ببالهم ذلك؛ لأن المرء لا يبلغ به الهول في الدنيا مبلغا يود أن يفتدي به ببنيه وصاحبته، وأخيه، وأقربائه، وجميع من في الأرض؛ فيكون فيه إخبار عن شدة هول ذلك اليوم؛ ليحمل الناس على الإنابة إلى اللَّه تعالى والانتهاء عما نهاهم عنه. ثم بدأ بذكر البنين والأقربين وأنهاه بالأبعدين، وحق هذا أن يبدأ بالأبعدين، ثم يختم بذكر الأقربين؛ لأن المرء قد تسخو نفسه بفداء الأبعدين، ويضن ببذل الأقربين فداء، فإذا سخت أنفسهم في ذلك اليوم بفداء البنين والأقربين فلأن تسخو بفداء الأبعدين أحق، وإذا كان كذلك فغاية التهويل والتفزيع أن يبدأ بذكر الأباعد، ويختم بذكر الأقارب، فكيف ابتدأ بذكر الأقربين؟ فجوابه من وجهين: أحدهما: أنه إنما يتوصل إلى فداء أهل الأرض إذا كان له عليهم ملك وكانوا بأجمعهم له، وإذا كانوا جميعا له ملكا؛ كانت شفقته على ملكه وأولاده واحدة أو أكثر، فكما يضن ببذل أولاده، وأن يكونوا عنه فداء، فكذلك يضن بالأباعد إذا كانوا جميعا ملكا له؛ فلذلك استقام أن يبدأ بذكر الأقربين قبل الأبعدين، إذ كل ذلك يستوي في التهويل والتفزيع، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون ذكر الأقربين وذكر أهل الأرض ليس على جهة الأولى، ولكنه ذكر الآحاد أولا، ثم ذكر الجماعة ثم ذكر جماعة الجماعة؛ ليعلموا ألا ينفعهم الفداء في ذلك اليوم، وأن الذين ودوا الفداء؛ ليتخلصوا من عذاب اللَّه تعالى لا يشتد عليهم ما فدوا، وإن كان ذلك ملء الأرض، واللَّه أعلم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (ثُمَّ يُنْجِيهِ) رد وتنبيه ألا ينجيه ذلك اليوم.

(15)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) الآية، فاللظى: اسم من أسماء النار، والشوى: قيل: هي مكارم خلقه. وقيل: هي القوائم والأطراف. وقيل: هي الجلود. والأصل أن نار جهنم تعمل على أصحابها كل قبيح وكل مستشنع مستفظع، فإن شئت صرفت ذلك إلى الأرجل، وإن شئت إلى الجلود، وإن شئت إلى مكارم خلقه الأخلاق؛ لأن التقبيح في كل ذلك موجود، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ)، فقيل في تأويل المطهرة وجوه. إحداها: أنهن مطهرات من العيوب والآفات، وجملته: أنه ما من شيء يستحسن ويستقبح من خلق أو نفس أو معاملة إلا وهن مطهرات من ذلك، وما من شيء يستشنع ويستفظع إلا وذلك في أهل النار موجود. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) فجائز أن يكون الدعاء منها على التحقيق، وهو أن يجعل اللَّه تعالى لها باللطف لسانا تدعو به، أو يخلق فيها الكلام من غير لسان، فتقول: إليَّ، إليَّ. وجائز أن يكون هذا على التمثيل، وهو أنها لا تدع أحدا يفر منها، ويتخلص من عذابها، فكأنها دعته إلى نفسها. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) وجائز أن يكون قوله: (مَنْ أَدْبَرَ)، أي: من كان أدبر في الدنيا عن طاعة اللَّه تعالى، وتولى عن الإجابة لرسله؛ كقوله تعالى: (تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا)، أي: أعرض. أو أدبر عن توحيده، وتولى عن النظر في حجته، وفيما جاء من عنده. ويحتمل قوله: (أَدْبَرَ)، أي: أدبر عن طاعة اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -، (وَتَوَلَّى) أي: تولى الشيطان، من الولاية.

(18)

وجائز أن يكون أدبر في جهنم، فيدبر رجاء أن يفر عنها، ويتولى؛ فلا تدعه النار ليفر؛ بل تغشاه عن الإعراض، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ)، ولكن هذا قريب من الأول؛ لأن من تولى عن ذكر اللَّه فقد تولى الشيطان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) يخير بقوله: (وَجَمَعَ) عمَّا جبل عليه من شدة الحرص على الدنيا؛ فيكون الجمع كناية عن الحرص، فبلغ به هذا الحرص مبلغا أنساه ذكر الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَوْعَى) فيه بيان صفته فيما عليه من النهاية في البخل، فيكون الإيعاء كناية عن البخل حتى لم يؤد حق اللَّه تعالى في ماله، أو لم يقم بشكر ما لله تعالى من النعم، أو بلغ به البخل مبلغا منعه ذلك عن قبول حق اللَّه تعالى في ماله. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) اختلف في تأويل الهلوع من وجوه، كل يرجع إلى معنى واحد: فقَالَ بَعْضُهُمْ: الطامع في اللذات، الطالب لها، والكاره للأثقال، الهارب منها. وقيل: (خُلِقَ هَلُوعًا)، أي: على حب ما يتلذذ به، والقيام بطلبه وبغض ما يتألم به، والهرب عنه. ومنهم من يقول: الهلوع: الضجور؛ وهو موافق للتأويل الأول؛ لأن الذي يحمله على الضجر هو ما يصيبه من الألم؛ فيضجر لذلك أو يضجر عن حق اللَّه تعالى. ومنهم من يقول: تفسيره ما ذكر على أثره من قوله: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) وهذا - أيضا - مثل الأول؛ لأن الذي حمله على المنع شدة حبه إياه، والذي حمله على الجزع ما مسه من الضر والشر، فجزعت نفسه لذلك؛ لأنها أنشئت

نافرة عن الضر ومبغضة له، وقال اللَّه تعالى: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)، وقال في موضع آخر: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)، أي: لا يسخو على إخراج ما في يديه. ففي هذه الآيات إنباء أن الإنسان خلق على هذه الأحوال: قتورا عجولا، هلوعا، فلما أنشئ على حب ما ينفعه وبغض ما يكرهه ويتألم به، علم أنه خلق على هذه الأحوال؛ للمحنة، فمن تذكر فيما وعد اللَّه تعالى من النعم لمن قام بوفاء ما أمره به، حمله ذلك على التسارع في الخيرات وترك ما يحبه في الدنيا؛ لينال الموعود في الآخرة؛ إذ هو في الأصل أنشئ محبًّا لما يتلذذ به، ومن تذكر ما أوعد من العذاب بما يعطي نفسه من الشهوات من معاصي اللَّه تعالى، وبما يمنع من حقوق اللَّه تعالى الواجبة في ماله، سهل عليه ترك الشهوات، وخف عليه بذل ما طلب منه؛ لئلا يحل به ما ينغص بعيشه من الآلام والأوجاع والمكاره. والأصل أن الإنسان وإن كان مطبوعا على هذه الأخلاق الذميمة من البخل، والإقتار، والعجلة، وجبل عليها، فقد ملك رياضة نفسه، ويمكنه أن يستخرجها من تلك الطباع الذميمة إلى أضدادها من الأخلاق الحميدة، والشمائل المرضية؛ فلزمه القيام بذلك؛ ألا ترى أنه يتهيأ له أن يقوم برياضة الدواب والسباع، فيخرجها بالرياضة عن طباعها التي أنشئت عليها من النفار عن الخلق والامتناع عن الانقياد، حتى تصير منقادة للخلق، ذليلة لهم، فيتهيأ لهم الاستمتاع والتوصل إلى منافعها، فكذلك الإنسان إذا قام برياضة نفسه أمكنه أن يستخرجها عن خلقها؛ فتصير مطيعة له، ويخف عليها بذل ما يطلب منها، ويسهل عليها تحمل ما كان يشتد عليها. ثم الأصل: أن المرء، وإن جبل على حب ما يتلذذ به، وبغض ما يتألم ويتوجع منه، فقد جبل أيضا على ترك ما هو فيه من اللذة؛ للذة هي أعظم منها، وعلى التصبر لاحتمال الأذى والمكروه؛ ليتخلص عما هو أعظم من ذلك المكروه والألم، وإذا كان كذلك فهو إذا قابل نعيم الدنيا بنعيم الآخرة، وأقرب اللذتين بأبعدهما، فرأى لذة الآخرة أعظم وأبقى، خف عليه ترك أقربهما لأبعدهما وأقلهما لأكثرهما، وإذا قابل مكروه الدنيا بمكروه الآخرة، وعذابها بعذاب الآخرة، فرأى عذاب الآخرة أشد وأبقى، خف عليه تحمل المكاره في الدنيا؛ فهذا السبب الذي ذكرنا ما يتوصل به إلى رياضة النفس. والذي يدل على أن المرء قد يخف عليه تحمل الشدائد وترك اللذات الحاضرة؛ لما

(22)

يأمل من اللذات الآجلة أنك ترى المرء قد يهون عليه الضرب في الأرض، وقطع الأسفار، وتحمل المؤن، وركوب الأهوال والفظائع، والانقطاع عن اللذات؛ كالذي يخرج للتجارة من بلده إلى بلاد نائية؛ لما يرجو من النفع والربح في ذلك، فتحمل ما يمسه من المكاره والمؤن، لما يطمع من نيل اللذات التي هي أعظم من اللذات التي تركها؛ فعلى ذلك إذا تفكر في نعيم الآخرة، وتفكر في عقابها، سهل عليه ترك اللذات الحاضرة، وخف عليه تحمل المكاره في الدنيا. ووجه آخر: أنه لما جبل على حب اللذات وبغض المكاره، أمر أن يجعل ما يحبه من العاجل آجلا، فيكون شغله أبدا فيما يوصله إلى نعيم الآجل، وأمر أن يجعل هربه عن الآلام الآجلة، فيجتهد فيما فيه التخلص والنجاة عن تلك الآلام، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) معناه - واللَّه أعلم -: لأن المصلين يقومون برياضة أنفسهم حتى يصرفوها عن خلقتها التي أنشئت عليها، ثم بين أن الذين يقومون برياضة أنفسهم هم الذين يقومون على صلواتهم دون الذين يقومون إلى الصلاة كسالى ولا يدومون عليها، ولا ينفقون من أموالهم إلا عن كراهة. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) دوامهم عليها في لزوم ما عرفوها، وهو أن يقيموها في أوقاتها، ويحافظوا عليها دون أن يكون دوامهم أن يكونوا فيها أبدا؛ ألا ترى إلى ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أحب الأعمال إلى اللَّه أدومها وإن قلَّ " وأراد بقوله: " أدومها ": لزومها في الوقت الذي أوجبوا فعل ذلك على أنفسهم، لا أن يكونوا أبدًا فيها؛ لأنهم إذا بقوا فيها أبدًا، كثر ذلك منهم، قلا يكون لقوله: " وإن قلَّ " معنى، فثبت أن معنى الدوام ما وصفنا، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون المراد من المداومة هو أن يدوم على الأحوال التي تليق بالصلاة عند كونه فيها من الإقبال على المناجاة، وترك الالتفات، وتفريغ القلب عن الأشغال والوساوس. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ): هو التطوع، و (عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ): الفريضة.

(24)

قالوا: وتصديقه أن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا إذا صلوا صلاة داموا عليها، وكانوا يقولون: " خير العمل، أدومه وإن قلَّ ". وأصله: أن اللَّه تعالى قال: (وَأَقَامُوا)، والإقامة على الشيء هي الدوام عليه؛ لأنه إذا فعل الشيء مرة ثم تركه، لم يوصف بالإقامة عليه؛ فقوله: (دَائِمُونَ) و (ويُقِيمُونَ)، يقتضي معنى واحدا؛ فيكون فيه إبانة أن الصلاة يلزم فعلها مرة يعد مرة، وليست كالفرائض التي إذا أديت مرة، سقطت؛ من نحو الجهاد، والحج. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) قيل: هو الزكاة، ذكر ذلك عن قتادة وغيره. وقال أبو بكر: هذا غير محتمل؛ لأن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة عليهم بعد هجرتهم إلى المدينة. ولكن ليس فيما ذكره دفع لهذا التأويل؛ لأنه يجوز أن تكون الزكاة لم تفرض عليهم؛ لما لم يكونوا أصحاب أموال؛ لأن الزكاة لم تكن مفروضة في الجملة، وبين الوجوب إذا استفادوا الأموال؛ ألا ترى أن الفقير قد يعلم إيتاء الزكاة من المال وإن لم يكن له مال؛ ليقوم بأدائها إذا صار من أهلها؛ فقوله: (حَقٌّ مَعْلُومٌ) أي: أعلمه اللَّه تعالى في أموالهم، فلزمهم إخراجه، ثم بين أن خروجهم مما لزمهم من حق اللَّه تعالى في أموالهم بالدفع إلى السائل والمحروم. وجائز أن يكون ذلك الحق المعلوم هو حق القرابة وغيره. ومن ذكر أن هذا الحق غير الزكاة، قالوا: إنهم كانوا أُعْلِموا في أموالهم حقًّا، فجعلوا طائفة منها للسائل، وطائفة للمحروم؛ لذلك سماه: حقا معلوما. ويحتمل أن يكون في ذلك الوقت شيئا معلوما مفروضا عليهم في أموالهم نسخته آية الزكاة، ولم يذكر لنا ذلك؛ لعدم حاجتنا إليه. ثم السائل معروف، وهو الذي يسأل.

(26)

وأما المحروم فقد روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن المحروم، فقال: " المحروم هو الذي لا يثمر نخله، ويثمر نخل الناس، ولا يزكو زرعه، ويزكو زرع الناس، ولا تلبن شاته وتلبن شاة الناس " فعنوا بالمحروم هذا: أنه حرم بركة ماله. وفي هذا الخبر دليل على أن المرء لا يصير غنيًّا بملك النخيل والأرض. وجائز أن يكون المحروم هو الذي حيل بينه وبين وجوه المكاسب، فمن كان حاله هكذا كان علينا أن نتعاهده ونقوم بكفايته. وقال الحسن: المحروم هو الذي يتعفف عن السؤال وإن هلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) فيوم الدِّين هو يوم الجزاء ويوم الحساب، فكل من عرف الجزاء وآمن به لم يجزع بما يصيبه، ولا منع الحق الذي طلب منه، ولم يوصف بأنه هلوع، وإنما الهلوع هو الذي يكذب بيوم الدِّين، كما قال: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، فأخبر أن الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين هو الذي لا يؤمن بالآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) أي: خائفون، وجلون، وهم الذين قال - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ). وسئل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقيل له: أهم الذين يسرقون ويزنون ويعملون بالمعاصي؟ فقال: " لا، بل هم الذين يصومون ويصلون ويؤتون الزكاة "، أو كما قال بلفظه عليه السلام. ووجلهم هو أنهم يخافون ألا يقبل منهم حسناتهم. أو يخافون أن يكونوا قصروا عن الوفاء بشكر النعم، أو غفلوا عن شكر كثير منها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) فهذا هو الحق ألا يأمن أحد من عذابه وإن دأب في عبادته واجتهد في طاعته؛ لما لا يدري على ماذا يختم أمره؟ أو يخاف

(29)

ألا يقبل منه ويرد عليه، أو يخاف أن يكون قد قصر عن شكر كثير من النعم، وغفل عنها. والأصل أنه ما من أحد ينظر في أمره وحاله إلا وهو يرى على نفسه من اللَّه تعالى نعما لو أجهد نفسه ليقوم بشكر واحد منها لقصر عن ذلك، ولم يتهيأ له القيام بوفائها، فمن كان هذا وصفه، فأنى يقع له الأمن من عذابه، ويوجد منه الوفاء بالأسباب التي يؤمن بها إلا أن يكون من الخاسرين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) ذكر حفظ الفرج، ولم يذكر بم يحفظ؟ وحفظه يكون بخصال: أحدها: أن يسكن في قلبه جلال اللَّه وهيبته، ويخشى عقابه في المعاد. والثاني: بما جعله اللَّه سببا للتعفف، من النكاح وملك اليمين؛ فيمنعه ذلك عن الزنى ويحفظ الفرج. والثالث: يجيع بطنه بالصيام كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من لم يقدر على الباه فليصم؛ فإن الصوم له وجاء ". والرابع: بما يترك النظر إلى النساء ولا يخلو بهن، ويدع مجالسة الفجار وأهل الريبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) ولو لم يقل: (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ)، لكنا نعلم بقوله: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) أنهم لا يلامون؛ لأنه قد أباح لهم الاستمتاع بمن ملكت أيمانهم ومن كان تحتهم بملك النكاح، ولا يجوز أن تلحق اللائمة باستعمال المباح المطلق، ولكن فيه فوائد: أحدها: أن من الناس من يحرم الاستمتاع بملك النكاح وملك اليمين، فيخبر أنهم عند من اعتقد الإيمان بالرسل غير ملومين، وإنَّمَا يلومهم من أنكر الرسالة، وهم الثنوية والبراهمة. وجائز أن يكون معناه: أنهم وإن منعوا النساء عن الجماع بما هو خير لهم من الصيام

(31)

وأنواع القرب، لم تلحقهم اللائمة كما يلام من يمنع آخر عن طاعة اللَّه تعالى، وإذا استمتعوا بملك النكاح وملك اليمين، لم يبلوا بالزنى؛ فتلحقهم اللائمة بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) العادي: هو الظالم في الحقيقة؛ يقال: عدا فلان على فلان؛ إذا ظلمه، فهم عادون؛ حيث ظلموا أنفسهم فوضعوها في موضع لم يؤذن لهم بالوضع فيها. وقال الحسن: هم العادون حيث عدوا من الحلال إلى الحرام. وفي هذه الآية دلالة تحريم المتعة؛ لأنه أخبر أن من ابتغى وراء ملك اليمين وملك النكاح، فهو إذن من العادين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) فالأمانات لها وجهان: أحدهما: ما ائتمن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عباده على ما له من الحقوق عليهم. والثاني: ما ائتمن بعضهم بعضا على الحقوق والعهود التي تجري بين الخلق من الذمم، والنذور، وغير ذلك؛ فيدخل فيه كل أمانة بين العبد وبين ربه، وبينهم وبين الخلق، وكل عهد أخذ عليهم؛ من نحو قوله: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) -قيل في التأويل: العهود- ثم بين ذلك فقال: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ ... ). والعهد الذي أعطينا للمعاهدين، فكل ذلك داخل تحت الآية، وقد يدخل معنى الأمانة في العهد والعهد في الأمانة، وقد يجوز أن يقع بينهما فرق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:، (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) أي: يقيمونها لله تعالى كقوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)، أو قائمون بالوفاء بما عليهم من الشهادة، فيقومون لها، أحبوا أو كرهوا، ضرهم ذلك أو نفعهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) محافظة الصلاة إقامتها في أوقاتها بشرائطها، والذي يحملهم على المحافظة ما يخشون اللَّه تعالى، ولما جعلت تكفيرا لسيئاتهم؛ فيرغبون في إقامتها؛ تكفيرا عن سيئاتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) في الآية إبانة أن مَن يكرم بالجنان هَؤُلَاءِ.

(36)

وذكر عن أبي بكر الأصم أنه قال: في هذه الآية، دلالة أن من وفَّى بهذه الأشياء التي ذكرها في هذه السورة من الإدامة على الصلاة، وإيتاء الحق المعلوم، والتصديق بيوم الدِّين. . . إلى آخر ما ذكر - فهو الذي يكرم بالجنة، والخاطئ الذي يرجع عن خطيئته ويتوب عنها، فأما غير هذين فهو لا يستوجب الإكرام بالجنة، فما ذكر من الإكرام بالجنة للصنفين اللذين ذكرهما فهو كما ذكر، وأما الصنف الثالث فهم الذين بلوا بالخطيئات من أهل الإيمان ولم يتوبوا عنها، فقد يرجى لهم هذه الكرامة بعفو اللَّه سبحانه وتعالى، وكرمه وجوده، ومن كان هذا وصفه لم يؤيس من إحسانه، بل كان العفو منه مأمولا والإحسان منه مرجوًّا. * * * قوله تعالى: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ) اختلف في تأويل الإهطاع: فمنهم من يقول: هو الإسراع في المشي. ومنهم من يقول: هو إدامة النظر. فمن حمله على الإسراع، فمعناه: أن أئمة الكفر كانوا يأتون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فيستمعون القرآن منه، ثم يسرعون إلى أتباعهم، ويجلسون حلقا حلقا، ويحرفون ما يستمعون من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويلبسون على ضعفائهم وأتباعهم؛ ليصدهم ذلك عن الإيمان باللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ورسوله. فإن كان الأمر على هذا فتأويله: ما لهم يسرعون إليك ليسمعوا كلامك ثم يتفرقوا عن اليمين وعن الشمال ويكذبونك، نحو أن يقول بعضهم: [(مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى)]، و: (مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ)، ونحو ذلك.

(38)

وما المنفعة لهم في طعنهم عليك سوى استحقاقهم المقت والهلاك بذلك من اللَّه تعالى، وما يرجون بإعراضهم عن تصديقك بعدما رأوا الآيات. ومن حمله على النظر، فمعناه: أنهم كانوا يجلسون من بعيد، فينظرون إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه ويطعنون عليه بالسحر والافتراء، وأنه من أساطير الأولين، فيمكرون، بمن يقتدي برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومن يعاديه من الكفرة. فإن كان على هذا فتأويله كأنه يقول له: يجلسون من البعد ناظرين إليك، ولا يدنون منك؛ ليستمعوا ما أنزل إليك فينتفعوا به، لكنهم متفرقون عن اليمين وعن الشمال، يصدون الناس عن مجلسك، وقد علموا أن لهم إلى من يعلمهم الكتاب والحكمة حاجة؛ إذ ليس عندهم كتاب ولا علم بالأنباء المتقدمة؛ ليعلموا أنك جئت بالعلم والحكمة دون السحر والكهانة. فإن كان على هذا الوجه؛ فالعتاب لمكان التحريف والتبديل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) قوله: (أَيَطْمَعُ) حرف استفهام، وقد ذكرنا أن حرف الاستفهام ممن لا يَستِفْهم إيجابٌ. ثم اختلف في وجه الإيجاب: فمنهم من يقول: معنى قوله: (أَيَطْمَعُ)، أي: لا يطمع كل امرئ منهم بعبادتهم الأصنام والأوثان أن يدخلوا جنة نعيم؛ إذ هم منكرون للبعث والجنة والنار، ثم مع هذا ينصرون الأصنام ويعبدونها، ويخضعون لها، وإن كان لا طمع لهم في نصرها إلى شيء في العاقبة، ولا يرجون منها العواقب؛ فيكون في هذا ترغيب للمؤمنين على القيام بنصر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم يطمعون في نيل الجنة والكرامة من اللَّه تعالى والنجاة من النار بنصرهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعبادتهم لله تعالى، كأنه يقول: إنهم لا يطمعون نيل

(39)

شيء، ولا يخافون من شيء في العاقبة، ثم يقومون بنصر الأصنام، فأنتم أحق بنصر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ تطمعون نيل الجنة والدخول فيها بنصركم إياه، واللَّه أعلم. ومنهم من حمله على إيجاب الطمع، وهو أنهم كانوا يطمعون دخول الجنة ونيل نعيمها إذا رجعوا إلى ربهم؛ ظنًّا منهم أنهم إذا ساووا المسلمين في نعيم الدنيا وسعتها، فكذلك يساوونهم في نعيم الآخرة، كما قال اللَّه تعالى خبرا عنهم: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى)، وقال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. . .) الآية، هكذا ظن الكفرة أنهم إن رجعوا إلى ربهم فسيجدون عنده خير منقلب، فقال تعالى: (كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فقوله: (كَلَّا) على هذا التأويل رد لاعتقادهم وقطع لأطماعهم، فقال: (كَلَّا) أي: لا يدخلونها قط، ثم استأنف الكلام فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ). وعلى التأويل الأول: (كَلَّا) بمعنى: حقًّا أنهم لا يطمعون، ثم استانف بقوله: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ)، أي: من تلك النطف؛ فيذكرهم بهذا عظيم نعمه وإحسانه إليهم بما أخرجهم منها ونقلهم من حال إلى حال حتى صاروا بشرًا سويًّا؛ ليعلموا أنه لا يتركهم سدى؛ بل ليمتحنهم ويستأدي منهم شكر ما أنعم عليهم؛ فيوجب ذلك تصديق الرسل. وفيه تذكير قدرته وسلطانه، وبيان ضعف ابتدائهم؛ ليعلموا أن من قدر على إنشائهم لقادر على أن يحييهم بعدما أفناهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40). ذكر المشارق والمغارب: ذكر السماوات والأرض، وفي ذكرهما ذكر أهل السماوات وأهل الأرض، فيكون معناه: فلا أقسم برب الخلائق أجمع، ويكون حرف " لا " زائدًا في الكلام تأكيدا للقسم على ما يذكر، فيكون معناه: فلا أقسم. ثم حق هذا القسم أن يقول مكان قوله: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ): " فلا أقسم بي " إذا كان القسم

(41)

من اللَّه تعالى، هذا هو ظاهر الكلام، في متعارف اللسان، ولكن يحتمل هذا وجوها: أحدها: أن يكون هذا القسم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كأنه علمه أن يقسم به ويقول له: قل يا مُحَمَّد: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ). وإن كان هذا قسما من اللَّه تعالى فهو مستقيم - أيضا - من وجهين: أحدهما: على الإضمار؛ كأنه قال: فلا أقسم بي؛ فأنا رب المشارق والمغارب. والثاني: وإن كان هذا القسم من اللَّه تعالى يستقيم بلفظ الغائب كما يستقيم بلفظ الحاضر؛ لأن الخلق كله لله شهود، وليس هو شاهدًا للخلق، فيخرج الكلام بينهم على ما يخاطب الغائب، ومرة على الوجه الذي يخاطب به الشاهد، ومثل هذا مستعمل في متعارف اللسان، واللَّه أعلم. وفي الآية دلالة على أن ملك السماوات والأرضين ومدبرهما واحد؛ إذ لو لم يكن كذلك لكان لملك السماء أن يمنع الشمس والقمر والكواكب من إيصال النفع إلى أهل الأرض، ويكون لملك الأرض أن يمنع ملك السماء عن الإغراب في الأرض. ثم الذي يشرق ويغرب منذ خلق يجري على ما جرى عليه التدبير جريا واحدا لم يقع فيه تغيير ولا تبديل، ولو كان لله تعالى فيه شريك لكان لا بد من وقوع التغيير فيها؛ فثبت أن تدبير السماوات والأرضين وتدبير سلطانهما راجع إلى الواحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) هذا موضع القسم، فجائز أن يكون أريد به: أن يبدل الخير منهم، فيجعل مكان ما كانوا من الشر خيرا؛ كقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا)، وقد فعل ذلك؛ لأنهم أسلموا. ويحتمل أن يكون أراد به أن يبدل قوما خيرا منهم. ثم هذا يخرج على وجهين: أحدهما: على تحقيق القدرة. والثاني: أن يكون معنى القدرة إرادة الفعل. أما الأول فعلى وجهين: أحدهما: على معنى تخويف أهل مكة أنهم إن لم ينتهوا عن ذلك، أنزل اللَّه تعالى

(42)

مكانهم من هو خير لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والبدل لا يكون إلا بعد المبدل عنه، وقد فعل الله تعالى ذلك بهم، أهلك المعاندين منهم، وأبدل لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أولادهم والمهاجرين منهم والأنصار الذين آووا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونصروه. والثاني: أي: كنا قادرين على أن نجعل المرسل إليهم خيرا منهم؛ إذ قد علموا من قدرة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أنه هو الذي خلقهم وأنشأهم، لكن إنما أرسل إليهم وأمرهم؛ لحاجات أنفسهم، لا لنفع يرجع إليه، ليس على ما عليه ملوك الدنيا، لكنه إنما امتحنهم بالأمر ليسعوا في نجاة أنفسهم، ونهاهم؛ ليفكوا رقابهم من النار؛ فيكون فيه تسكين قلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند وجده عليهم حيث لم يؤمنوا. وأما الوجه الثاني: أن يكون معنى القدرة إرادة الفعل خاصة؛ إذ قد يكنى بالقدرة عن الفعل إذ هي سبب الفعل؛ كالأمر المعتاد بين الخلق يأمر رجل آخر بفعل فيقول: لا أستطيع ولا أقدر، أي: لا أفعل، وعلى هذا تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ)، أي هل يفعل ذلك فعلى هذا تأويل هذا تأويل قوله - تعالى - (إِنَّا لَقَادِرُونَ)، أي: لفاعلون ما هو خير لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بدلا عن هَؤُلَاءِ. فإن كان على هذا فيكون فيه بشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه يجعل له أصحابا يرضاهم، ويكون فيه إخبار اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر والغلبة على المكذبين منهم، ويكون فيه إنباء لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لا ينفذ فيه مكرهم وإن اجتهدوا، ويكون فيه إعلام أنه ينتقم منهم له ويعذبهم، وقد فعل ذلك كله بحمد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - واللَّه المستعان؛ حيث بدل من أهل مكة أهل المدينة، وكانوا خيرا منهم؛ لأن أهل مكة كانوا عليه، وأهل المدينة كانوا له، فكانوا هم خيرا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ). والمسبوق: المغلوب، فكأنه قال: لا يسبقنا أحد ولا يعجزنا أحد عن ذلك، ولا يفوتنا أحد فيما نريده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42). قال أبو بكر: الخائض: المتحير، واللاعب: الخاطئ، فقوله: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) أي: دعهم فيما هم فيه من خطاياهم وتحيرهم في دينهم، فكل من اشتغل بما لا يحتاج له فهو خائض لاعب، وأصله أن كل أمر لا عاقبة له تحمد فهو فيه لاعب

(43)

لاهٍ؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)، أي: من يعمل في الحياة الدنيا للدنيا لا للآخرة فهو لاعب لاهٍ، وكأن هذه الآية صلة قوله تعالى: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) الآية، أمره بألا يشتغل بأُولَئِكَ ويقبل على من يرجو منهم الإيمان. أو أمره بألا يشتغل بمكافأتهم بسوء صنيعهم؛ فإن اللَّه سينصره عليهم ويكافئه عنهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) قد لاقوا ذلك اليوم وهو يوم بدر، وسيلاقون اليوم الثاني وهو يوم الآخرة. وقوله تعالى: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا ... (43) يخبر أنهم يخرجون من الأجداث، وهي القبور سراعًا إلى الداعي، والذي يحملهم على الإسراع هو أن أنفسهم أبت إجابة الداعي في الدنيا؛ فنزل بهم الهلاك بتركهم الإجابة، فيسارعون في ذلك اليوم إلى إجابة الداعي؛ رجاء أن يتخلصوا من العذاب الذي حق عليهم بترك الإجابة، وذلك لا ينفعهم وإن وجدت منهم التوبة والرجوع عن تلك الإجابة؛ لأن ذلك اليوم ليس بيوم ينفع فيه الندامة والتوبة، وإنَّمَا هو يوم تجزى فيه كل نفس بما كسبت؛ وهذا كقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ)، فأخبر أنهم يفزعون إلى الإيمان باللَّه تعالى لما أيقنوا أنهم إنما حل بهم البأس بإعراضهم عن الإيمان، ففزعوا عند إيقانهم بالعذاب إلى الإيمان؛ رجاء أن يتخلصوا من العذاب، فلم ينفعهم ذلك ولم يغنهم من عذاب اللَّه شيء؛ إذ ذلك الوقت ليس بوقت قبول التوبة، فيكون هذا تحريضا بالإسراع إلى إجابة الداعي والإيمان بما يدعو إليه قبل أن يؤمنوا إيمانا لا ينفعهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ). قرئ بنصب النون، وجزم الصاد، وهو اسم العلامة كالغرض وأشباهه. وقرئ بضم النون والصاد، وهو اسم الصنم. فإن كان على العلامة، فمعناه: أنهم يسارعون في ذلك الوقت إلى إجابة الداعي مسارعة من يسارع في هذه الدنيا إلى الغرض والعلامة المنصوبة؛ كذا قاله بعض أهل التأويل. وذكر عن الكلبي (إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ): إلى علم يسعون. وقال قتادة: إلى علم يستبقون.

(44)

وعن مجاهد: إلى علم ينطلقون. فإن كان على الثاني، فمعناه: أنهم يسرعون إلى إجابة الداعي في ذلك؛ كسرعتهم إلى عبادة النصب عند خوفهم فوت عبادتها وعند اجتماع عبادها عندها لو يبتدرون نصبهم حتى يستلموها. ومنهم من ذكر أن النصب برفع النون والصاد هي الأغراض التي يسبقون إليها، ومن تأول هذا فهو يجعل النُصُب هاهنا جمع النَّصْب. وقوله: (يُوفِضُونَ) أي: يسرعون. وقال الحسن: أي: يرملون، وهما واحد؛ لأن الإسراع في الرمل موجود. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ... (44). يحتمل أن يكون هذا على بصر الوجوه وصفة خشوعها على ما قال في آية أخرى: (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، فيخشع خشوعا لا يملك صرف طرفه عن الداعي، ففيه أن الذِّلة قد أحاطت بهم حتى أثرت في الأعين والوجوه، وفي كل عضو. وجائز أن يكون هذا على بصر القلوب، وهو أن قلوبهم تشتغل بإجابة الداعي عن أن تبصر لنفسها حيلة تتخلص بها من أهوال ذلك اليوم وشدائده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ): أي: تعلوهم، والذلة: الحالة في النفس تبدو وتظهر من الأبصار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ). حقه أن يقول: هذا اليوم الذي كانوا يوعدون؛ لأنه أضاف إلى اليوم الذي كانوا يوعدون في الدنيا. ولكن معناه: كانوا يوعدون ذلك اليوم في الدنيا، وذلك اليوم في الوقت الذي كانوا يوعدون غير موجود، فيعبر عنه بما يعبر به عن الغائب، واللَّه أعلم، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله أجمعين. * * *

سورة نوح

سُورَةُ نُوحٍ عليه السلام مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). في ذكر نبأ نوح - عليه السلام - دلالة رسالته وأَية نبوته؛ لما ذكرنا: أن هذا لم يكن من علمه، ولا علم قومه، ولم يختلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى من عنده علم به فتعلمه منه، فعلم أنه باللَّه تعالى علمه لا بأحد من خلقه؛ فيكون فيه إلزام الحجة عليهم، وفيه إعلام رسول اللَّه - عليه السلام - ما لقي نوح - عليه السلام - من قومه؛ ليصبره بذلك على أذى قومه؛ إذ السورة مكية. ثم أمره بالإنذار، ولم يذكر معه البشارة، فكذلك قال نوح - عليه السلام - (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ولم يقل: بشير، وقد كان هو بشيرا ونذيرا، فجائز أن يكون اقتصر على ذكر النذارة؛ لأن في ذكرها ذكر البشارة؛ وذلك أنهم إذا استوجبوا العذاب إذا داموا على ما هم فيه من الضلالة وعبادة غير اللَّه تعالى، فهم إذا انتهوا عن ذلك استوجبوا العفو، واستيجاب العفو وقوع البشارة، فإذا كان ذكر أحد الوجهين يقتضي ذكر الوجه الآخر، اكتفي بذكر أحدهما عن ذكر الآخر. وجائز أن يكون خص النذارة بالذكر؛ لأن الحال كانت حال الإنذار؛ لأنهم كانوا معرضين عن طاعة اللَّه تعالى ومقبلين على عبادة غيره، فكانوا مستوجبين للنذارة، ولم يكونوا من أهل البشارة، وإنما يصيرون من أهلها إذا انتهوا عما هم عليه؛ فيكون قوله: (أَنْذِرْ قَومَكَ) إن داموا على ما هم عليه، وفي هذا دلالة على أن المرء إذا أخذ غير طريق الهدى، فالسبيل فيه أن يفسد عليه مذهبه، ثم إذا ظهر فساده عنده، أمره باتباع سبيل الهدى وبين له الحجج والدلائل؛ لينجع فيه ذلك، ليس أن يحتج عليه بالحجج التي هي

(2)

حجج مذهب الحق قبل أن يبين له فساد ما هو فيه؛ فإن ذلك لا ينجع فيه، ولا يدعوه إلى قبول الحق والتزامه، بل يبين له قبح ما هو فيه وفساد ما اعتقده، فإذا بأن له ذلك يحتاج إلى أن يسأله عن سبيل الهدى فيه؛ ليعرفه بالتعلم. ثم الأصل أن الدنيا هي سبيل الآخرة، والضلال سبيل يفضي بمن سلكه إلى العذاب الدائم، والهدى سبيل يفضي إلى الثواب الدائم، فالنذارة هي تبيين ما ينتهي إليه عاقبة من يلزم الضلال، والبشارة هي تبيين ما ينتهي إليه عاقبة من يلزم الهدى. وإن شئت قلت: إن النذارة هي أن يبين عسر ما يحل به في العاقبة، والبشارة هي أن يثبته بما يصير إليه في العاقبة من اليسر. ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) دلالة أن حجة الإسلام تلزم الخلق قبل أن يأتيهم النذير؛ لأنه لو كانت لا تلزمهم، لكانوا في أمن من نزول العذاب قبل أن يأتيهم النذير؛ فلا يخوفون بنزل العذاب بهم قبل أن ينذروا، فلما خوفوا بنزول العذاب بهم قبل أن يأتيهم النذير دل أن الحجة لازمة عليهم، وأن لله تعالى أن يعذبهم لتركهم التوحيد وإن لم يرسل إليهم الرسل، فيكون تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، على عذاب الاستئصال في الدنيا ليس على عذاب الآخرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2). أي: مبين بما يقع به الإنذار والتخويف؛ فيكون الإبانة منصرفة إلى النذارة. ويحتمل أن يكون هذا الوصف راجعا إلى نفسه خاصة؛ كأنه قال: نذير لكم مبين، أي: إني لم أقم في دعائي إياكم إلى عبادة اللَّه تعالى وإنذاركم من عند نفسي، ولكن بما اختصني اللَّه تعالى وولاني ذلك. ثم الأصل في الإنذار أن يقتضي نهيا وفي النهي أن يقتضي أمرا، لكن الإنذار يقتضي نهيا وَكِيدا، والنهي الوكيد يقتضي الأمر بالخلاف أمرا وكيدا. وأما البشارة فهي تقتضي الأمر الوكيد وغير الوكيد؛ لأنه يستوجب البشارة بكل خير يفعله، وإن كان للمرء ترك ذلك الخير بخير آخر يأتي به، فلا يفهم بنفس البشارة الأمر الوكيد؛ ويفهم بتصريح النذارة كلا الوجهين اللذين ذكرناهما. وإذا كان كذلك، فمطلق البشارة لا يدل على تحقيق النذارة، وأما النذارة فهي تدل على

(3)

البشارة؛ لأن النذارة على ما هو فيه في الفعل تلزم النهي، وإذا انتهى عنه فقد حصل العفو، وفي حصول العفو ارتفاع ما خوف وذهابه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) فكأنه قال: أنذرهم على عبادة غير اللَّه، ومرهم بعبادة من يستحق العبادة، وهو اللَّه تعالى؛ إذ الأمر بالإنذار يقتضي النهي عما هم عليه ويدعو إلى خلافه، وبين لهم الخلاف الذي دعوا إليه؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ). وقيل: (اعْبُدُوا اللَّهَ)، أي: وحدوه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل عبادة جرى بها الأمر في القرآن على الإرسال فهي منصرفة إلى التوحيد. فكأن الذي حملهم على هذا التأويل هو أن الآيات التي فيها أمر بالعبادة نزلت في أهل الكفر؛ لأنه خاطب بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، ولم يخاطب بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: يا أيها الذين آمنوا اعبدوا ربكم، وإذا ثبت أنها في أهل الكفر، والكافر أول ما يؤمر يؤمر بالتوحيد ليس يخاطب بعبادة أخرى سواه؛ لأنه ما لم يأت بالتوحيد لم يقبل منه شيء من العبادات، فجعلوا تأويل العبادة التوحيد لهذا؛ لا أن يكون العبادة عبارة عن التوحيد خاصة، بل العبادة يراد بها التوحيد مرة إذا ذكرت عقيب الكفر، وإذا ذكرت في أهل الإيمان فالعبادة منهم أن يفوا بمعاملة ما اعتقدوه بالقول؛ وأن ينجزوا ما وعدوا من أنفسهم، وهذا كما ذكرنا في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: أنهما إذا ذكرتا في أهل الكفر، انصرف المراد من ذلك إلى الاعتقاد لا إلى الفعل؛ لأنهم ليسوا من أهل الفعل، وإذا ذكرتا في أهل الإسلام أريد بالإقامة والإيتاء إيجاد الفعل، فكذلك الحكم في العبادة بقوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ) أي: وحدوه واتقوه، أي: اتقوا الإشراك في عبادته، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد اللَّه تعالى وألا تشركوا به شيئا. وجائز أن يكون قوله: (وَاتَّقُوهُ)، أي: اتقوا المهالك كلها، واتقوا النار؛ كما قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، وقوله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، فالتقوى إذا ذكر على الانفراد مرسلا، اقتضى الانتهاء عما فيه الهلاك، واقتضى الأمر بالعبادة والطاعة، وإذا جمع بين العبادة والتقوى،

(4)

كانت العبادة منصرفة إلى إتيان الأفعال، وانصرف التقوى إلى اتقاء المهالك، وهو كما قلنا في البر والتقوى: إن كل واحد منهما إذا ذكر مفردا اقتضى ما يقتضيه الآخر، وإذا جمعا في الذكر، صرف أحدهما إلى جهة والآخر إلى جهة أخرى، وكذلك الإسلام والإيمان إذا أفرد بذكر أحدهما يكون معنى كل واحد منهما هو معنى الآخر، وإذا جمعا في الذكر صرف كل واحد منهما إلى جهة على حدة. وقال الحسن في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوهُ)، أي: اتقوا اللَّه في حقه أن تضيعوه فهو يجمع ما يؤتى وما يتقى. ثم الأصل أن الطاعة قد تكون لمن سوى اللَّه، والعبادة لا تكون إلا لله تعالى؛ فلذلك قال عند الأمر بالعبادة: (اعْبُدُوا اللَّهَ)، فأضافها إلى اللَّه تعالى، وأضاف الطاعة إلى نفسه بقوله: (وَأَطِيعُونِ)، ففيه دلالة أن ليس في الطاعة لآخر إشراك باللَّه تعالى في الطاعة، بل اللَّه تعالى جعل الإشراك في الطاعة بقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، وذم من يعدل باللَّه تعالى في العبادة بقوله تعالى: (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، فالعبادة كأنها تقتضي الخضوع والتضرع على الرجاء والخوف، واللَّه تعالى هو الذي يرجى منه ويخاف من نقمته، فأما الطاعة فهي تقتضي فعلا على الأمر لا غير؛ وعلى ذلك لما صرفت الكفرة الرجاء والخوف إلى الأصنام بقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، سموا: عباد الأصنام، فكل من يفعل الفعل على الخوف والرجاء فذلك منه عبادة له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) إن صرفت قوله: (وَاتَّقُوهُ) إلى اتقاء الشرك يرجع قوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) إلى ما سلف من الذنوب في حالة الشرك؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). وإن صرفته إلى سائر وجوه المهالك، رجع إلى السالف وإلى الآنف جميعا؛ وهو كقوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)؛ فيكون قوله (مِن) صلة على ما ذكره أهل التفسير، ومعناه: يغفر لكم ذنوبكم. وجائز أن يكون قوله: (مِن) على التحقيق ليس على حق الصلة؛ لأنه قد يكون من الذنوب ذنوب يؤاخذ بها بعد الإسلام، وهي التي تكون بينه وبين الخلق من القصاص

وغيره، فالمأثم بالقتل وإن زال عنه بالتوبة؛ فإن القصاص لا يرتفع عنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) جائز أن يكون أُولَئِكَ القوم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه السلام؛ فيخرج قوله: (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) مخرج الأمان لهم أنهم بإيمانهم يبقون إلى الأجل الذي ضرب لهم لو لم يؤمنوا؛ إذ يكون معناه: أنكم إن أسلمتم بقيتم إلى انقضاء أجلكم المسمى سالمين آمنين، لا يتهيأ لعدوكم أن يمكر بكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقال في موضع آخر: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، جائز أن يكون قوله: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ)، أي: لا يتأخرون عن آجالهم أو لا يؤخرون بما يطلبون من التأخير؛ فيكون في هذا إياس لهم أنهم لا يؤخرون إذا طلبوا التأخير؛ قال اللَّه تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)؛ فأخبر - جل جلاله - أن الموت إذا أتاه طلب التأخير ليبذل ما طلب منه البذل قبل ذلك من التصدق والإيمان به، فقطع عنهم طمعهم بقوله: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)، وبقوله: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، وبقوله: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ). وهذه الآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون بأن رجلا لو جاء وقتل آخر، فإنما قتله قبل انقضاء أجله، واللَّه تعالى يقول: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، والأصل: أن اللَّه تعالى إذا علم أنه يقتل فإنما يجعل انقضاء أجله بالقتل ليس بغيره؛ لأنه لا يجوز أن يجعل انقضاء أجله بموته حتف نفسه، ثم ينقضي أجله بغير ذلك؛ لأنه لو جاز ذلك لأدى ذلك إلى الجهل بالعواقب، والجهل بالعواقب يسقط الربوبية، ويثبت الجهل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). أي: لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء آجالكم، لكنتم تبذلون للحال ما أريد منكم؛ لئلا يحل بكم العذاب. أو أن يكون معنى قوله: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ)، أي: أجل العذاب إذا حل، وقع

(5)

لا محالة، فلو علموا بوقوعه لا محالة، لارتدعوا عنه. * * * قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا. وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا). يحتمل أن يكون هذا من نوح - عليه السلام - بعد أن أخبر (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)، فيكون القول منه قول معتذر: أنه لم يقصر في دعوة قومه إلى الإسلام، وأنه قد دعاهم إلى الإسلام في كل وقت وحال، وأنه قد أبلى عذره في ذلك، وإنما جاء التفريط والتعدي من جهة قومه. ويحتمل أن يكون هذا منه على الإشفاق والرحمة والتعرض؛ لاستنزال اللين والرحمة، لعل اللَّه تعالى بلطفه يلين قلوبهم فينقادوا للحق، ويرغبوا في الإجابة؛ ليتخلصوا من العذاب ويستوجبوا المغفرة من ربهم، فهو يخرج على أحد هذين الوجهين: إن كان قبل الإخبار، فهو على التعرض منه؛ لاستنزال اللين والرحمة، وإن كان بعده فهو على إبلاء العذر، لا على الدعاء والرجاء بأن يلين قلوبهم بلطفه فينقادوا للحق؛ إذ لا يجوز أن يخبر اللَّه تعالى أنهم لا يؤمنون، وهو يطمع منهم أن يؤمنوا. ثم قوله: (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا)، أي: دعوت في كل وقت وكل ساعة من الليل والنهار أمكنني فيه الدعاء. وقوله -. عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6). وأصل هذا أن عداوتهم كانت قد اشتدت لنوح عليه السلام، وكانوا قد استثقلوه وأبغضوا كلامه، فحدث لهم ببغضهم كلامه واستثقالهم إياه معنى حملهم على الفرار؛ فنسب ذلك إلى الدعاء، لأن حدوث ذلك المعنى كان عند وجود الدعاء؛ فنسب إلى الدعاء على معنى المجاورة والقرب، لا أن يكون الدعاء في الحقيقة سببا لزيادة الفرار؛

(7)

وهو كقوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، والقرآن لم يجعل سببا لزيادة الرجس، ولكنهم لما أحدثوا بغضا عندما تلى عليهم القرآن، فحدث لهم بذلك معنى حملهم على ذلك الوجه، فأضيفت تلك الزيادة إلى القرآن؛ إذ عند ذلك حدث ذلك السبب الزائد في الرجس، فنسب إليه على معنى المجاورة، وقال اللَّه تعالى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي)، وهم لم يكونوا منسيين، بل كانوا مذكرين يذكرونهم مرة بعد مرة، لكن بغضهم إياهم واتخاذهم سخريا أوقع لهم النسيان، فنسب إليهم الإنساء، فعلى ذلك لما أبغضوه واستثقلوا كلامه ودعاءه، أحدث لهم ذلك البغض زيادة نفار وجحود، ثم نسب النفار إلى الدعاء على الوجه الذي ذكرنا لا أن يكون الدعاء في الحقيقة منفر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) وقال في موضع آخر: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. . .) إلى قوله: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)، فيجوز أن تكون هذه الآية فيما يدعون رؤساءهم وأشرافهم والأجلة منهم، فإذا دعاهم ردوا أيديهم في أفواه الأنبياء عليهم السلام، وضربوهم على ما ذكر في الأخبار، وأما الأتباع منهم، والمقلدون لهم، كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم ويغطون وجوههم ورءوسهم؛ كي لا يسمعوا كلامه فيقع شيء منه في قلوبهم؛ لما حذرهم رؤساؤهم عن ذلك. أو يكون هذا في طائفة منهم، وهذا في طائفة إذا كان أيس من قوم، وأقبل على آخرين، فاختلفت معاملتهم معه على ما كان من أمر نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ثم هذا يحتمل وجهين: أحدهما: على التحقيق على ما ذكرنا؛ ليؤيسه من الإجابة. والثاني: جائز أن يكون على التمثيل، فضرب مثلهم في تركهم الإجابة مثل من جعل أصبعه في أذنه واستغشى ثيابه؛ لئلا يسمع ولا يجيب؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)، ولم يوجد منهم نبذ، ولكنهم أعرضوا عنه إعراض من ينبذه وراء ظهره، وكذلك في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) على التمثيل، وهو أنهم تركوا الإجابة إلى ما دعوا إليه كترك الإجابة من الذي يرد يده في

(8)

فيه؛ لئلا يتكلم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا)، أي: داموا على ما هم عليه وثبتوا على كفرهم. وقال قتادة: (وَأَصَرُّوا)، أي: صاحوا في وجوه الأنبياء - عليهم السلام - ردا عليهم، أو مغالبة في الدعاء؛ كقوله: (وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)، أي: استكبروا عن طاعة اللَّه تعالى، وامتنعوا عن الإجابة لرسوله عليه السلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)، ففي هذا إخبار أنه دعاهم إلى عبادة اللَّه تعالى في كل وقت تهيأ له من ليل أو نهار، ولم يقصر فيها، ودعاهم في كل وقت؛ رجاء الإجابة منهم. ويحتمل (إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا)، أي: إذا بعدوا مني، وازدحموا وكثروا؛ فدعاهم جهارا؛ لتعمهم الدعوة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) إذا قربوا منه وقلوا، فلما أدخلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم أعلن في الدعاء. ثم جائز أن يكون الجهر والإسرار منصرفا إلى الدعوة، ويكون الإعلان إعلانا بالحجج وإظهارا للبينات، وإلى هذا يذهب أبو بكر الأصم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) فالاستغفار طلب المغفرة بما ذكر من قوله عَزَّ وَجَلَّ: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ)؛ فيكون هذا منه أمرا لهم بإتيان الإيمان الذي هو سبب المغفرة، لا أمرًا بسؤال المغفرة نفسه من اللَّه تعالى؛ إذ استغفار كل قوم يرجع إلى أحوالهم، فإذا كانوا كفرة، فهو إيمان باللَّه تعالى، وإن كانوا أصحاب ذنوب، فالتوبة إلى اللَّه تعالى، وإن كانوا مخلصين فمما سلف من ذنوبهم مما يعلمونها، ونحو ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) فيحتمل أنما قال هذا لهم؛ لأنهم كانوا في شدة عيش وضيق حال فوعد أنهم إن انتهوا عن الكفر، وأجابوا إلى ما يدعوهم إليه، غفر اللَّه لهم ذنوبهم، وأرسل

السماء عليهم مدرارا؛ فيتوسعوا به، على ما قال به بعض أهل التأويل: إن اللَّه تعالى قد حبس عنهم المطر، وعقمت أرحام نسائهم، وهلكت مواشيهم وجناتهم لتمام أربعين سنة، ثم أهلكوا بعد ذلك، وكانوا كلهم كفارا، ليس فيهم صغير؛ فلذلك كان نوح - عليه السلام - يعدهم بما ذكرنا، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكونوا خافوا انقطاع النعمة عنهم بالإجابة وزوال السعة عنهم بالإسلام ومن الناس من يترك الإيمان خشية هذا، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الذي هم فيه من رغد العيش لا ينقطع عنهم بالإسلام، بل يرسل عليهم المطر من السماء مدرارا متتابعا، ويمددهم بأموال وبنين مع ما يجعل لهم من الجنان والأنهار، لكن ذوو الألباب والعقلاء ينظرون إلى حسن العاقبة وما إليه مآل الأمر دون الحال، فذلك الذي يرغب فيه؛ ولذلك اختلفت دعوة النبي عليه السلام لأمته: فمنهم من بشره بكثرة أمواله وبنيه، ومنهم من رغبه في آخرته، (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، وقال: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ. . .) الآية. ونظير الأول كقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). والأصل أن الرسل - عليهم السلام - بعثوا مبشرين ومنذرين، داعين، زاجرين، محتجين، مدحضين، فما تلوا عليهم من أنباء الأولين دخل فيهم جميع الأوجه الثلاثة؛ إذ النذارة والبشارة مرة تقع بالابتلاء، ومرة بذكر ما ينزل بالمتقدمين المصدقين منهم والمكذبين؛ أن كيف كان عاقبة هَؤُلَاءِ وهَؤُلَاءِ. وكذلك دعاء الرحمة يكون مرة بابتداء الدعاء، والزجر، وبذكر الأمم السالفة، وأن الرسل كيف كانوا يدعونهم ثانيا للحق، واللَّه أعلم.

(13)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13). قال أبو بكر الأصم: تأويله كيف لا ترجون لله ثوابا فتعبدوه فيثيبكم بها، وقد علمتم أن الخير كله في يده، وأن الذي تعبدون من دون اللَّه لا يملكون لكم نفعا ولا يدفعون عنكم ضرًّا؛ فجعل قوله: (وَقَارًا) مكان " عبادة "، واللَّه أعلم. وقال غيره: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)، أي: ما لكم لا ترجون لأنفسكم عند الله منزلة وشرفا وقدرا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ما لكم لا تخافون عظمة اللَّه وقدرته عليكم؛ فتنتهوا عما نهاكم وتأتوا ما أمركم به، وحمل الرجاء على الخوف؛ لما قد ذكرنا أن الرجاء المطلق يقتضي الخوف والرجاء جميعا، وكذلك الخوف المطلق يقتضي رجاء، واللَّه أعلم. والأشبه بالتأويل عندنا: أن الرجاء لله تعالى على مثال الغضب لله، والحب لله، والبغض لله، أي: ما لكم لا تسعون سعي من يرجو ما عند اللَّه على الوقار والهيبة، بعد أن شاهدتم من نعم اللَّه تعالى وإحسانه إليكم من خلق أن سماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وما ذكر من منته في الآيات التي يتلوها؛ وذلك أن المرء إذا سعى لآخر على غير رجاء أو لم يرج أحدا، استحقر به، فألزمهم نوح - عليه السلام - سعي من يرجوه على التوقير والهيبة على ما عليه العادة في الشاهد أن الساعي للملوك والكبراء على الرجاء كيف يكون منهم توقيرهم إياهم وهيبتهم منهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14). فمن حمل قوله: (لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) على حقيقة الرجاء، فتأويله: كيف لا ترجون أن يعظم قدركم عند اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إذا أجبتم إلى ما دعاكم إليه، وفيما ذكر من خلقه إياهم أطوارا تذكير لهم حسن صنيعه بهم فيما قلبهم من حال إلى حال من أول ما أنشأهم إلى حالهم التي هم فيها، فكيف لا يرجون إحسانه في حادث الأوقات إذا أقبلوا على طاعته واشتغلوا بعبادته؟! وإن كان قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) على الخوف، ففيما ذكر من قوله - عز وجل -: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) تذكير العظمة والسلطان والقدرة، وهو أنه دبركم في تلك الظلمات الثلاث، ولم يخفَ عليه أحوالكم فيها، بل قلبكم من حال إلى حال كيف شاء،

(15)

فكيف يخفى عليه أفعالكم في حال بروزكم وظهوركم؛ فيكون في ذكر هذا تنبيه أن اللَّه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال الخلق فيدعو ذلك إلى المراقبة، ويلزم التيقظ والتبصر في كل حال؛ لئلا يتعدى حدود اللَّه، ولا يضيع حقوقه، فيحل به البوار والهلاك. فإذا حملت التأويل على الرجاء، فهو يخرج على غير التأويل الذي حملته على الخوف؛ لأنك إذا حملته على الرجاء كان فيه تذكير عظيم مننه، ونعمه عليهم من أول ما أنشأهم إلى الوقت الذي انتهوا إليه؛ فيحملهم ذلك على طلب ما يشرف قدرهم عند الله تعالى، ويحمد عاقبتهم. وإن حملته على الخوف، كان فيه تذكير القدرة والسلطان؛ فيحملهم على المراقبة والاتقاء في حادث الأوقات. ومن حمل قوله: (وَقَارًا) على العبادة، فهو يخرج على غير الوجهين الذين ذكرناهما في الخوف والرجاء إذا صرف إليهما التأويل، كأنه يقول: إن الذي خلقكم أطوارا قد تعلمون أنه حكيم ومن هو حكيم لا يسفه، وتَرْكُكُم سدى لا يأمركم ولا ينهاكم، ولا يستأدي منكم شكر النعم - سفه؛ فيكون في ذكر هذا ترغيب في العبادة وإخلاص الطاعة. ويكون في ذكر هذا أيضا إثبات الربوبية وإلزام القول بالوحدانية؛ لأنه أنشأهم من أول ما أنشأهم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة إلى أن خلقهم بشرا سويًّا، فلو لم يكن المدبر والمنشئ واحدا، لكان يعجز عن تقليبه من حال إلى حال؛ لأنه إذا أراد أن ينشئ من النطفِ علقة، ومن العلقة مضغة، كان للآخر أن يمنعه عن تدبيره؛ فلا يتهيأ له إنشاء علقة ولا مضغة، فارتفاع المانع دليل على أن لا مدبر سواه، ولا خالق غيره. وإذا ثبت انفراده بما ذكرنا ثبت أنه هو المستحق للعبادة من الخلائق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: معنى قوله: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)، أي: مختلف الأخلاق والصور والألوان والألفاظ والأصوات والنغم؛ حتى لا يرى أحد يشبه آخر بجميع خلقته، وهذا من عظيم ما يستدل به على قدرته وحكمته، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15).

(16)

قد ذكرنا أن قوله: (أَلَمْ تَرَوْا) يقتضي تذكير أمر عرفوه، فأغفلوا عنه، فقد يقتضي تذكير أعجوبة لم يسبق من الخلائق العلم بها، يقول: قد رأوا أنه خلق سبع سماوات طباقا بغير علائق فوقها ولا أعمدة تحتها، ومن قدر على خلق مثله لقادر على خلق كل ما يريد؛ فيكون فيه إيجاب القول بالبعث؛ إذ إعادتهم ليست بأعسر من خلق السماوات في تقدير عقولكم، فمن قدر على خلقهن، لقادر على البعث، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ... (16). منهم من يذكر أنه جعله نورا في السماء الدنيا، وأضافه إلى جملة السماوات. وقد يجوز - أيضا - أن يضاف الشيء إلى العدد وإن لم يكن يوجد ذلك إلا في البعض، يقال: في سبع قبائل مسجد واحد، والمسجد إذا كان واحدا فهو لا يكون في سبع قبائل، وإنَّمَا يكون في قبيلة واحدة، ويقال: فلان توارى في دور قوم، وهو لا يكون متواريا في دور جملتهم، وإنما يكون متواريا في واحدة منهن، ثم أضيف التواري إلى الجملة فكذلك أضاف نور القمر إلى السماوات السبع وإن كان القمر في سماء واحدة. ومنهم من ذكر أن نور القمر قد أحاط بجميع السماوات، وزعم أن وجهه إلى السماوات، وظهره إلى أهل الأرض، ولهذا ما يعمل عليه السواتر من السحاب وغيره، فأما نور وجهه فإنه لا يستره شيء من السواتر. لكن هذا إنما يعرف بالخبر، فإن صح عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خبر، فذلك هو، وإلا فالإمساك عن مثله أحق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) فذكر السراج هاهنا مكان الضوء في موضع آخر، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً)، فذكر في القمر النور

(17)

وفي الشمس الضياء؛ لأن القمر يكون في وقت الحاجة إلى النور، وذلك في ظلمة الليل، ثم اللَّه تعالى أنشأ الليل لنسكن فيه، لكن قد يبدو للخلائق بالليل حوائج يحتاجون إلى قضائها؛ فمن اللَّه تعالى عليهم بنور القمر؛ ليتوصلوا بنوره إلى قضاء حوائجهم، وجعل الشمس ضياء؛ ليختطف ضوءها نور الليل، ويغلب عليه، ولا يختطف نور النهار نور الشمس، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17): جائز أن يكون أضاف الإنبات إلى الأرض، ويرد ذلك إلى الأصل الذي خلق من التراب، وهو آدم - عليه السلام - فنسب الفرع إلى الذي منه خلق الأصل؛ لحدوثه منه، لا أن يكون خلق الجملة من التراب، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)، والذي لنا في السماء هو المطر لا الذي يرزق به، ولكن الذي يرزق به أصله المطر، فنسب إلى المطر؛ لأنه هو الأصل الذي يتوصل به إلى الإرزاق؛ فكذلك الخلائق لما كانوا من نسل آدم - عليه السلام - وكان هو أصلا لهم، أضيف النسل إلى الأصل؛ الذي حدث منه الأصل. ويحتمل أن يكون يرجع هذا إلى كل في نفسه؛ وذلك لأن حياة الأبدان وقوامها بالذي يخرج من الأرض، وينبت منها من أنواع الأغذية، فإذا كان قوامها بما ينبت منها، فكأنما أنبتنا منها؛ فاستقام أن يضاف الإنبات إليها، كما يستقيم أن يضاف خروج الثمار إلى الأرض وإن كان حدوثها من الأشجار؛ إذ قوام الأشجار وبقاؤها بها؛ فنسب ما يخرج منها إلى الأرض على التقدير الذي ذكرنا. ففي قوله: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) على التأويل الأول إثبات القدرة على البعث وإلزام الحجة على من يجحد كونه؛ لأنه يذكرهم قدرته أنه أنشأهم من الأرض، ولم يكونوا شيئا، فمن قدر على إنشائهم من الأرض بعد أن كانوا ترابا، لقادر على أن

(18)

يعيدهم إلى الحالة التي كانوا عليها من كونهم بشرا سويا، وإن صاروا عظاما ورفاتا؛ لأنهم كانوا يزعمون أن كيف يعادوا خلقا جديدا بعد أن صاروا ترابا، فاحتج عليهم بأمر الابتداء من الوجه الذي ذكرنا. وإن كان على التأويل الثاني، ففيه تذكير نعمه: أن قد أخرج لهم من الأرض ما يتعيشون به، ويقيمون به أودهم، أو يستأدي منهم الشكر، وفيه تذكير قوته وسلطانه؛ ليخوفهم عقابه فيتعظوا ويتقوا سخطه، ويطلبوا مرضاته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)، فجمع يين الإعادة والإخراج بحرف الجمع: وجعل قوله عَزَّ وَجَلَّ (وَيُخْرِجُكُمْ) في موضع " ثم "؛ لأن هذا الإخراج يكون بعد الإعادة إلى الأرض، فيكون في هذا دليل أن أحد الحرفين وهو " الواو " قد يستعمل مكان " ثم ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19). أي: جعلها كالشيء المبسوط الذي ينتفع ببسطه، ولو لم يجعلها كذلك، لم يتوصلوا إلى حوائجهم، ولا الانتفاع بها، ففي ذكر هذا تذكير بما لله تعالى عليهم من عظيم المنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20): قيل: الفجاج: هي الطرق الواسعة. وقيل: السبل في السهل، والفجاج: الطرق في الجبال، وهذا - أيضا - من عظيم نعم اللَّه تعالى على عباده؛ لأن اللَّه تعالى قدر أرزاق الخلق في البلاد، فلو لم يجعل لهم في الأرض سبلا، لم يجدوا طريقا يسلكونه، فيتوصلون به إلى ما به قوام أبدانهم؛ فصارت الطرق المتخذة لما نسلك فيها، فنصل إلى حوائجنا وإلى معايشنا: كالدواب التي سخرت لنا؛ فنتوصل بها إلى حوائجنا، وهذا يبين لك أن ملك أقطار الأرض وتدبيرها يرجع إلى الواحد القهار؛ لأنه أحوج الخلق إلى الانتشار في البلاد؛ لإقامة أودهم، وجعل لهم سببا يتوصلون به إلى ذلك؛ فثبت أن مالك الأقطار واحد.

(21)

قوله تعالى: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي)، أي: عصوني فيما أمرتهم به أو فيما دعوتهم إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا): يشبه أن يكون المتبوعون هم الذين كثرت أموالهم وحواشيهم، استتبعوا من دونهم فيتبعوهم ولم يتبعوا نوحا عليه السلام، وقد كان نوح - عليه السلام - يدعوهم إلى اتباعه، فأخبر أنهم لم يتبعوه، وإنَّمَا اتبعوا من كثرت أمواله وأولاده وحواشيه؛ فتكون هذه الآية في الأتباع أنهم اتبعوا أجلتهم ورؤساءهم ليس في رؤسائهم، وما تقدم من الآيات في أجلتهم من دعاء نوح - عليه السلام - إياهم إلى التوحيد وغيره. ويحتمل أن تكون هذه الآية في الأجلة والضعفة جميعا؛ فيكون قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا)، أي: اتبعوا من تقدمهم من أهل الثروة والغناء، والذين وسعت عليهم الدنيا، وبسطت لهم؛ ظنًّا منهم أنهم أحق باللَّه تعالى، وأقرب إليه في المنزلة. والذي حملهم على هذا هو أنهم لا يرون أحدا في الشاهد يترك صلة وليه ويصل عدوه، فيرون أنه إذا بسطت على رؤسائهم الدنيا، ووسع اللَّه تعالى عليهم، وضيق على هَؤُلَاءِ - أن أُولَئِكَ أقرب منزلة وأعلى حالا، وأنهم هم الأولياء، وهم لا يؤمنون بالآخرة وثوابها، فكانوا يزعمون أنه يوفر الجزاء على الأولياء والمحسنين في الدنيا، وزعموا أن من وسع عليه الدنيا فهو أحق أن يكون وليا لله تعالى حيث وصل إليه الجزاء فيها، فهذا الظن هو الذي حملهم على الاتباع.

(22)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا خَسَارًا)، أي: بوارا وهلاكا لذلك المتبوع، فكانت تلك النعم التي ظنوا أنهم أكرموا بها بصنيعهم سببا لخسارهم. ثم قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) كقوله: (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا)، ثم قد بينا تأويل شكايته إلى اللَّه تعالى من قومه، فهذه الآية وتلك الآيات في معنى تأويل الشكاية إلى اللَّه تعالى - واحد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22). قَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا يمكرون ما يمكرون بألسنتهم؛ حيث كانوا يدعونهم إلى الكفر والصد عن سبيل اللَّه، فكنى بالمكر عما قالوه بالسنتهم، فكان ذلك (مَكْرًا كُبَّارًا)، أي: قولا عظيما. وجائز أن يكون على حقيقة المكر، وهو أن رؤساءهم مكروا بأتباعهم حيث قالوا: إن هَؤُلَاءِ لو كانوا أحق باللَّه تعالى منا، لكانوا هم الذين يوسع عليهم ويضيق علينا، فإذا وسع علينا وضيق عليهم، ثبت أنا نحن الأولياء والأصفياء دون غيرنا، وهذا منهم مكر عظيم؛ لأنه يأخذ قلوب أُولَئِكَ فيصدهم عن سبيل اللَّه تعالى. وجائز أن يكون مكرهم ما ذكر أنهم كانوا يأتون بأولادهم الصغار إلى نوح عليه السلام، ويقولون لهم: إياكم واتباع هذا فإنه ضال مضل، فكان هذا مكرهم بصغارهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23). هذه المقالة منهم كانت بعد أن انقادت لهم الأتباع، واتبعتهم إلى ما دعوهم إليه من عبادة الأصنام، فقالوا بعد ذلك: (لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي: لا تذرن عبادتها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا). هي أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها. ثم يحتمل أن يكون الذي بعثهم على عبادة الأصنام ما ذكره أهل التفسير: أن قوم نوح - عليه السلام - اتخذوا هذه الأصنام أول ما اتخذوها على صورة رجال عباد كانت هذه الأسماء أسماءهم، فسموا الأصنام بأسماء العباد؛ ليعتبروا بها، ويجتهدوا في العبادة إذا نظروا إليها، فلما مضى ذلك القرن الذين اتخذوها عبرة وخلفهم قرن بعدهم، قال لهم الشيطان: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدون هذه الأصنام، فعبدوها.

(24)

ومنهم من ذكر أن جسد آدم - عليه السلام - كان عند نوح - عليه السلام - يترك كل مؤمن في زمانه أن يدخل فينظر إلى جسد آدم عليه السلام ومن لم يكن مؤمنا لم يدعه أن ينظر إليه، فجاء إبليس إلى الكفار فقال: أيفخر نوح ومن آمن به عليكم بجسد آدم وأنتم كلكم ولده؟ فصنع لكل قوم صنما على صورة آدم - عليه السلام - فكانوا يعبدون تلك الصورة. ويحتمل أن يكون الذي بعثهم على ذلك هو أنهم لم يروا أنفسهم تصلح لعبادة رب العالمين، كما يرى هَؤُلَاءِ الذين يخدمون الأجلة في الشاهد لا يطمع كل واحد منهم في خدمة الملوك، ولا يرى نفسه أهلا لخدمتهم، بل يشتغل بخدمة من دونه أولاً؛ على رجاء أن يقربه إلى الملك، فكذلك هَؤُلَاءِ حسبوا أنهم لا يصلحون لخدمة رب العالمين، فكانوا إذا رأوا شيئا حسنا كانوا يظنون أن حسنه لمنزلة له عند اللَّه تعالى لا غير، فكانوا يقبلون على عبادته؛ رجاء أن يقربهم إلى اللَّه تعالى، فجعلوا الأصنام على أحسن ما قدروا عليه ثم اشتغلوا بخدمتها وعبادتها؛ رجاء أن تقربهم إلى اللَّه تعالى، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ - حكاية عنهم: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وقال: (وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، فجائز أن يكون هذا الحسبان هو الذي حملهم على عبادتها وتعظيم شأنها، واللَّه أعلم أي ذلك كان! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) جائز أن يكون أريد به الكبراء أنهم أضلوا كثيرا، أي: دعوا إلى الضلال، وزينوه في قلوبهم فأضلوا سفهاءهم بذلك. وجائز أن يكون أريد به الأصنام، ولكن حقه إن كان على الأصنام أن يقول: " وقد أضللن كثيرا "؛ كما قال إبراهيم - عليه السلام -: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ)، ولكن الإضلال من فعل الممتحنين، والأصنام ليست لها أفعال، فلما نسب إليها نسبة من يوجد منه الفعل، أخرج الخطاب على الوزن الذي يخاطب به من يوجد منه هذا الفعل؛ وهو كقوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا)، فأضاف إلى القرية فعل أهلها، والفعل إذا أضيف إلى الأهل، أضيف بلفظ التذكير، ثم أنث هاهنا؛ لإضافة فعل الأهل إلى القرية، ولو كانت القرية بحيث يكون منها الفعل لكان

(25)

الخطاب يرتفع عنها بلفظ التأنيث لا بلفظ التذكير، فحيث أضيف إليها فعل أهلها أنث كما يوجب لو كان الفعل متحققا منها. ثم الأصنام لا يتحقق منها الإضلال، ولكن معنى الإضافة هاهنا هو أنها أنشئت على هيئة لو كانت تلك الهيئة ممن يضل لأضل، وهو كما قلنا في تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا): فهذا يشبه أن يكون بعدما بين له (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)، فإذ علم أنهم لا يؤمنون لم يدع لهم بالهدى، ولكن دعا اللَّه تعالى ليزيد في إضلالهم، ويكون الإضلال عبارة عن الهلاك، والضلال: الهلاك، قال اللَّه تعالى: (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ)، أي: هلكنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا ... (25) فحرف " ما " هاهنا صلة في الكلام، ومعناه: بخطيئاتهم، أو من خطيئاتهم أغرقوا، فأدخلوا نارا في الآخرة؛ إذ أغرقت أبدانهم وأجسادهم وردت أرواحهم إلى النار. (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا)، أي: لم يجدوا لأنفسهم بعبادتهم من عبدوا من دون اللَّه تعالى أنصارًا من المعبودين؛ لأنهم كانوا يعبدون من يعبدون من دون اللَّه ليقربهم إلى اللَّه، ويكونوا لهم شفعاء وعزًّا، فلم يجدوا الأمر على ما قدروه عند أنفسهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26). قيل: تأويله: لا تذر على الأرض من الكافرين ساكن دار، وإذا لم يبق منهم ساكن دار فقد بادوا جميعا وهلكوا، فكأنه يقول: لا تذر منهم أحدا. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27). هذا كلام شنيع في الظاهر من نوح عليه السلام؛ لأنه خارج مخرج الإنكار على الله تعالى لو تركهم ولم يهلكهم، وهذا يشبه بقول من قال: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)، وهذا - أيضا - خارج مخرج التذكير لله تعالى: أنه لو أبقاهم أدى ذلك إلى إضلال العباد، وفيه تقدم بين يدي اللَّه تعالى وذلك عظيم؛ لأنه ليس في شرط الألوهية إهلاك من عمله الإضلال؛ ألا ترى أن إبليس اللعين وأتباعه جل سعيهم في

(28)

إضلال بني آدم، ثم لم يستأصلوا ولم يهلكوا، بل أبقوا إلى الوقت المعلوم. ولكن يجوز أن يكون دعا عليهم، بعد أن أذن له بالدعاء عليهم بالهلاك والبوار؛ فيكون الدعاء بالهلاك على تقدم الإذن. والأصل: أن الرسل - عليهم السلام - بعثوا لدعاء الخلق إلى الإسلام، وكانوا في دعائهم راجين الإسلام منهم، خائفين عليهم بدوامهم على الكفر، فلما قيل لنوح - عليه السلام -: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) - وقع له الإياس عن إسلام من تخلف عن الإيمان، فارتفع معنى الدعاء إلى الإسلام، فجائز أن يرد له الإذن بعد ذلك بالدعاء عليهم بالهلاك، فيدعو إذ ذاك. ثم يكون قوله: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ) خارجًا مخرج الإشفاق والرحمة على من معه من المؤمنين، وهو أن الذين داموا على الكفر لو أبقوا، خيف منهم أن يضلوا المؤمنين ويغيروهم إلى ملتهم؛ فتكون شفقته على المسلمين داعية له على الدعاء بالهلاك على الكفرة؛ لئلا يتوصلوا إلى الإضلال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) وقت بلوغهم المحنة والابتلاء، فحينئذ يوجد منهم الفجور، لا أن يلدوا فجارا كفارا؛ إذ لا صنع لهم في ذلك الوقت، وهو كقوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ)، أي: نبتليه لوقت بلوغه المحنة والابتلاء، لا أن يبتلى وقت ما يشاء. وفي هذه الآية دلالة أن الكفر قد يقع عليه اسم الفجور؛ لأنه لو خرج قوله: قوله تعالى: (كَفَّارًا) مخرج التفسير لقوله: (فَاجِرًا) استقام أن يحمل تأويل قوله تعالى: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) على الكفرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا ... (28) هكذا الواجب على المرء في الدعاء والاستغفار أن يبدأ بنفسه، ثم بوالديه، ثم بالمؤمنين. ثم قوله: (بَيْتِيَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: في سفينتي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (في بيتي) أي: في ديني؛ فيكون البيت كناية عن الدِّين.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما هو بيته الذي يسكن فيه؛ لما أطلعه اللَّه تعالى أن من دخل بيته مؤمنا لا يعود إلى الكفر. قال الشيخ - رحمه اللَّه -: ثم إن أرجى الأمور للمؤمنين في الآخرة دعاء الأنبياء والملائكة - عليهم السلام - في الدنيا؛ لأنهم إنما يدعون بعد الإذن لهم بالدعاء، فلا يحتمل أن ياذن اللَّه تعالى لهم بالدعاء، ثم لا يجيب دعوتهم. وذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: إن نوحًا - عليه السلام - دعا بدعوتين: أحدهما: للمؤمنين بالاستغفار والتوبة. والثانية: على الكفار بالبوار والتبار. وقد أجيبت دعوته فيما دعا على الكفرة؛ فلا يجوز أن يجاب في شر الدعوتين، ثم لا يجاب في خير الدعوتين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) قيل: كسرا وذلا وصغارا؛ فإنه مشتق من التبر، وكل مكسور يقال له: تبر؛ فكأنه يقول: اكسر منعة الظالمين وشوكتهم؛ فإن كان التأويل هذا فهو يقع على جميع الظلمة من كان في وقته ومن بعده. وقيل: التبار: الهلاك؛ فإن كان هذا معناه فهو على ظالمي زمانه؛ إذ لا يجوز للأنبياء - عليهم السلام - أن يدعوا على قوم إلا أن يؤذن لهم بالدعاء عليهم، وإنما جاء الإذن في حق قومه، فأما في حق غيرهم لم يثبت؛ فلا يجوز القول فيه إلا بما تواتر الخبر به عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم. * * *

سورة الجن

سُورَةُ الْجَنِّ، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ)، اختلف في السبب الذي كان به مجيء الجن إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فمنهم من ذكر أن إبليس صعد إلى السماء، فوجدها قد ملئت حرسا شديدا وشهبا؛ فتيقن أنه قد حدث في الأرض حادث، ففرق جنوده؛ ليعلم ذلك. ومنهم من يقول بأن الأصنام خرت لوجوهها حين بعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فعلم إبليس أنه قد حدث في الأرض حادث حتى خرت له الأصنام، ففرق جنوده؛ ليصل إلى علم ذلك. ثم من الناس من يزعم أن قصة هذه السورة وقصة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) - واحدة. وقَالَ بَعْضُهُمْ بأن هَؤُلَاءِ النفر الذين ذكروا في هذه السورة كانوا من مشركي الجن، والذين ذكروا في سورة الأحقاف كانوا من يهود الجن؛ دليله: أنه قال في هذه السورة فيما حكي عن الجن: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا)، واليهود يقرون بالبعث، ولا ينكرونه؛ فثبت أنهم كانوا من جنس المشركين، وقال في سورة الأحقاف: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)؛ فثبت أنه قد كان عندهم علم بالكتاب المنزل على رسول الله موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكانوا به مقرين، واليهود هم الذين يؤمنون بكتاب موسى - عليه السلام - لا غير.

ثم فيما حكى اللَّه تعالى عن الجن من تصديقهم هذا الكتاب واستماعهم ما جرى من المخاطبات فيما بينهم - فوائد: إحداها: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان مبعوثا إلى الجن والإنس حتى صرف الجن إلى الاستماع إليه. وفيه أنهم لما أخذوا القرآن من لسانه قاموا فيما بين القوم بإنذارهم، وأعانوه في التبليغ على ما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ). وفيه أن أُولَئِكَ النفر تسارعوا إلى الإجابة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فيكون فيه تسفيه قوم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذين نشأ بين أظهرهم؛ لأنهم عرفوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما بينهم بالصيانة والعدالة، ولم يقفوا منه على كذب قط، وحق من يعرف بالصدق إن لم يصدق ألا يتسارع إلى تكذيبه فيما يأتي به من الأنباء، بل يوقف في حاله إلى أن يتبين منه ما يظهر كذبه، وقومه استقبلوه بالتكذيب، ولم يعاملوه معاملة من كان معروفا بالصدق والصيانة، والجن الذين صدقوه، لم يكونوا عارفين بأحواله فيما قبل أنه صدوق، أو ممن يرتاب في خبره، ثم تسارعوا إلى تصديقه؛ لما لاحت لهم الحجة وثبتت عندهم آية الرسالة وعاملوه معاملة من قد عرف بالصدق؛ فدل أنهم كانوا في غاية من السفه. وفيه - أيضا - دلالة رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن قوله تعالى: (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ. . .) إلى آخر القصة فيما بينهم - إخبار عن علم الغيب وهذا لا يعرف إلا بمن عنده علم الغيب؛ فثبت أنه باللَّه تعالى علم. ثم يجوز أن يكون الذي حملهم على الإيمان به ما عرفوا أنه أتى بالمعجز الذي يعجز الخلق عن الإتيان بمثله، وبما وقفوا على إحكام معانيه وحسن تأليفه ونظمه. وفيه أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يشعر بمجيئهم حتى أُوحي إليه أنه قد أتاه نفر من الجن، واستمعوا إلى ما أوحي إليه؛ فيكون فيه دلالة على فساد قول الباطنية؛ حيث يزعمون أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل الوحي بالجسد الروحاني؛ لأنه لو كان كما وصفوا، لرأى الجن عندما حضروا إليه؛ إذ الجسد الروحاني مما يبصر الجن، ولم يكن يُوحَى إليه، فيعرف أن

قد حضره نفر من الجن. وروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سأل جبريل - عليه السلام - أن يراه على صورته، فقال له جبريل: " إنك لا تطيقه؛ لأن الأرض لا تسعني، ولكن انظر إلى أفق السماء "، ولو كان يأخذ الوحي بالجسد الروحاني، لكان قد رأى جبريل - عليه السلام - على صورته فيبطل فائدة هذا السؤال؛ فثبت أن الأمر ليس كما زعموا، بل كان يقبله بالصورة الجسدانية، وأنه كما وصفه اللَّه تعالى بقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ. . .). وقَالَ الْقُتَبِيُّ: النفر: ما بين الثلاثة إلى التسعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا). قَالَ بَعْضُهُمْ: العجب: الغريب، وإنَّمَا استغربوا ذلك منه؛ لأنهم سمعوه من أُمِّي لا يعرف الكتابة ولا يقرأ الكتب. ومنهم من قال بأن حسن تأليفه ونظمه ووصفه هو الذي حملهم على التعجب. ومنهم من قال: إنما تعجبوا من آياته وحججه؛ لأنه جاء في تثبيت التوحيد، وإثبات الرسالة، وإثبات البعث، ولم يكن لهم معرفة بالوحدانية؛ بل كانوا أهل شرك، ولم يكونوا أهل معرفة بالبعث ولا الرسالة؛ فكانت الآيات عجيبة؛ حيث قررت عندهم هذه الأوجه، واللَّه أعلم. ثم في هذه السورة وفي قوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) إخبار أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يشعر بمجيئهم. وروي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لما تلى على أصحابه سورة الرحمن، قال لأصحابه: " إن الجن كانوا أحسن إجابة منكم، إني تلوت عليهم هذه السورة، فكانوا يقولون: ما بشيء من آلائك نكذب ربنا، فلك الحمد ". ففي هذا الخبر دلالة أنه قد رآهم وشعر بمجيئهم؛ فيكون فيه إثبات الوجهين جميعا: أن قد شعر مرة، ولم يشعر أخرى. ثم يجوز أن يكون رآهم بما قوى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بصره حتى احتمل إدراك الجن، وضعفت أبصار غيره عن رؤيتهم؛ ألا ترى أن أهل الجنة يرون الملائكة عندما تأتيهم بالتحف من ربهم، فيقوي اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بصرهم حتى رأوا الملائكة بجوهرهم، وإن ضعفت أبصارهم عن الرؤية في الدنيا، ففي ذلك تجويز أن يكون اللَّه - تعالى - قوى بصر

نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حتى رأى الجن على صورتهم. وجائز أن يكون اللَّه تعالى صور الجن على صورة الإنس حتى رآهم، وشعر بمجيئهم، واللَّه أعلم. ثم ما ذكرنا من السببين في أمر مجيء الجن إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أول السورة من قول أهل التأويل لا نقطع القول بذلك، وإن كان في حد الإمكان والجواز؛ لأنهم تكلفوا استخراج ذلك بالتدبر والاجتهاد، وما كان سبيل معرفته الاجتهاد، لم يجز أن نقطع القول فيه بالشهادة. وقد يجوز أن يكون الذي حملهم على المجيء غير ذينك الوجهين، وهو أن يكون النفر من منذري الجن؛ لأنه ذكر أن من الجن نذرًا، وأن الرسل من الإنس دون الجن، فتفرقوا في الأرض على رجاء أن يظفروا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيتلقفوا منه ما يقومون به بالنذارة فيما بين قومهم إذ كانوا يصعدون إلى السماء فيستمعون الأخبار، وينذرون قومهم بها، ثم انقطع علم ذلك عنهم حيث لم يجدوا مسلكا إلى الصعود؛ لأنها قد ملئت حرسا، وعلموا أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يبقيهم حيارى ويقطع عنهم وجه المعرفة، فتفرقوا في الأرض رجاء أن يظفروا بمن يزيل عنهم الشبه، ويوضح لهم الحجج والبراهين، فوصلوا إلى مقصودهم من جهة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويجوز أن يكون عندهم أن لا أحد في الأرض من جني أو إنسي يكذب على اللَّه؛ كما حكى اللَّه عنهم بقوله: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، فلما تحقق عندهم الكذب خافوا على أنفسهم أن يبتلوا به، وأن يشتبه عليهم الصراط السوي؛ فتفرقوا في الأرض على رجاء أن يظفروا بمن يدلهم على الطريقة المثلى، حتى وجدوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويجوز أن يكونوا لما صعدوا إلى السماء، فرأوها مملوءة من الحرس والشهب، أيقنوا أن ذلك لحادث خبر أو خافوا حلول نقمة بأهل الأرض؛ فتفرقوا في البلاد لما لعلهم يصلون إلى علم ذلك. ثم الذي تحقق كون هذا الخبر وهو أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في حق الكفرة - انقطاع الكهنة بعد ذلك، ولو كان الأمر على خلاف هذا، لكانوا لا ينقطعون؛ لأن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء فيأتون الكهنة بما يستمعون من الأخبار، ويلقونها

(2)

إليهم؛ فيضلون بها الخلق، فلو لم يمنعوا عن السماء لكانوا لا ينقطعون، ومن ادعى الكهانة اليوم فلا تجد عنده خبرا حادثا سوى ما تلقفوه من ألسن الرسل عليهم السلام، وكان أمر الشهاب أمرا ظاهرا، عرفته الكفرة فيما بينهم؛ فكانت هذه حجة سماوية لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مقررة عند الكفرة رسالته؛ إذ لم يدع أحد منهم بكون الشهاب قبل أن يبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فصار انقطاع الكهنة دليلا على صدقه في مقالته، واللَّه المستعان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ... (2). أي: إلى الحق، على ما ذكرنا بيانه في سورة الأحقاف في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا). قال أبو بكر الأصم: إنهم كانوا من مشركي العرب، فتبرءوا من الشرك لما استمعوا وسمعوا من القرآن بقولهم: (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)، وقد يحتمل هذا الذي قالوا. ويحتمل أنه لم يسبق منهم الإشراك؛ بل كانوا من جملة الموحدين، ولكنهم أحدثوا إيمانا بما سمعوا من القرآن، وأحدثوا تبرءًا من الشرك، وقد يتبرأ المرء من الشرك عندما يحدث له زيادة إيقان وإن لم يسبق منه الإشراك؛ كما قال موسى - عليه السلام -: (قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3). اختلف في تأويل الجد: فمنهم من يقول بأن هذه الكلمة يتكلم بها فيمن يظفر بكل ما يريده، فيوصف بأنه ذو جد، فجائز أن يكونوا أرادوا بهذا أن ربنا هو الظافر بكل ما يريده، فلا يستقبله خلاف، ولا تمسه حاجة، وعلى هذا التأويل قوله: " ولا ينفع ذا الجد منك الجد " أي: من كان له الجد في الدنيا، فإذا كان في تقدير اللَّه تعالى على خلاف ذلك، لم يغنه ذلك من عذاب اللَّه شيئا. فإن كان هذا هو المراد، فمعناه: أن من هذا وصفه يتعالى عن أن يكون له شريك، أو

يحتاج إلى صاحبة، أو إلى اتخاذ ولد؛ لأن هذه الأشياء كلها أمارات الحاجة، ومن ظفر بكل ما يريده لم تقع له حاجة. وجائز أن يكون الجد صلة، ومعناه: تعالى ربنا. وجائز أن يكون الجد عبارة عن العظمة والرفعة؛ يقال: " فلان جد في قومه ": إذا عظم وشرف فيهم. وقال الحسن: (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا)، أي: غِنَى ربنا؛ ألا ترى كيف ذكر اللَّه تعالى عندما نزه نفسه عن اتخاذ الأولاد بقوله: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ)، وقد ذكر اتخاذ الولد هاهنا على أثر قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَدُّ رَبِّنَا). ومنهم من يقول تأويله: ملك ربنا. وجائز أن يكون أريد به: قوة ربنا، فتعالى ربنا عن كل ما لو نسب إليه كان فيه نسبته إلى فعل الرذالة والتسفل. ثم الحق ألا يتكلف تفسير قوله: (جَدُّ رَبِّنَا) هاهنا؛ لأنه حكاية عن مقالة الجن، فمراد هذه الكلمة إنما يعرف بإخبار الجن. ثم الشرك فيما جرى به الكتاب على أوجه أربعة: مرة على العبادة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). وشرك في الخلق بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ). وشرك في الحكم بقوله تعالى: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا). وشرك في الملك بقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)، فثبت أن الشرك يقع مرة في العبادة، ومرة في الخلق، ومرة في الملك، ومرة في الحكم؛ فهو بقولهم: (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) تبرءوا عن الشرك من هذه الأوجه الأربعة. ثم إذا كان الجد عبارة عن الذي يظفر بكل ما يريده، ففيه ما ينقض على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يزعمون أن اللَّه تعالى أراد من كل كافر الإيمان، فإذا لم يؤمنوا، فهو غير ظافر بما يريد على قولهم. ويدخل عليهم النقض من وجه آخر، وهو أنا قد بينا أن الشرك قد يقع مرة في الخلق، وهم ينفون خلق الأفعال عن اللَّه تعالى، وإذا نفوا ذلك، فقد جعلوا له في الخلق شركاء، وقد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه هو المتفرد بخلق الخلائق؛ فثبت أن الأفعال من حيث الخلق

(4)

والإنشاء من اللَّه تعالى، ومن جهة الكسب والفعل للخلق؛ فمن الوجه الذي تضاف إلى اللَّه تعالى لا يجوز أن تضاف من ذلك الوجه إلى الخلق عندنا؛ فلا يقع في الخلق تشابه؛ لأنه لا يتحقق من العباد الفعل من الوجه الذي تحقق من اللَّه تعالى؛ ألا ترى أنه يضاف الملك إلى اللَّه تعالى، وإلى الخلق، ثم لا يقع في ذلك إشراك؛ لأنه من الوجه الذي يضاف إلى اللَّه تعالى لا يتحقق ذلك الوجه في الخلق؛ لأن الإضافة إلى الخلق على جهة المجاز والإضافة إلى اللَّه تعالى على جهة التحقيق؛ فكذلك إضافة الأفعال إلى اللَّه تعالى وإلى الخلق، لا توجب الشرك؛ لاختلاف الجهتين، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا)؛ لأن اتخاذ الصاحبة من الخلق؛ لغلبة الشهوة، وهو منشئ الشهوات؛ فلا يجوز أن يغلبه ما هو خلقه، فيبعثه ذلك على اتخاذ الصاحبة، وبهذا يرد على من زعم أن الملائكة بنات اللَّه تعالى، والبنات يحدثن من الصاحبة، وهو تعالى لم يتخذ صاحبة؛ فأنى يكون له بنات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا وَلَدًا) فالأصل أن الأولاد يرغب فيهم المرء؛ لإحدى خصال: إما لما يناله من الوحشة؛ فيطلب الولد؛ ليستأنس بهم. أو يرغب فيهم؛ لما حل به من الضعف، فيريد أن يستنصر بهم. أو لما يخاف زوال ملكه؛ فيطلب الولد؛ ليأمن من زواله. وجل اللَّه سبحانه وتعالى عن أن تلحقه وحشة، أو يصيبه ضعف، أو يخاف زوال الملك؛ فإذا كانت الطرق التي بها يرغب في اكتساب الأولاد منقطعة في حقه، لزم تنزيهه عن اتخاذ الأولاد؛ ولهذا ما ذكر عندما نسبته الملاحدة إلى اتخاذ الأولاد - غناه بقوله (سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ)، أي: غني عن كل الوجوه التي تتوجه إلى اتخاذ الأولاد، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4). فمنهم من ذكر أن سفيههم إبليس، وليس هذا براجع إلى الواحد على الإشارة إليه،

(5)

بل هو راجع إلى كل من يوجد منه فعل السفه؛ ألا ترى أنه إذا قيل: " كان يقول مسيئنا كذا، و " كان يقول فاسقنا كذا "، لم يعن به فاسق ولا مسيء واحد على الإشارة؛ بل يراد به كل معروف بالإساءة والفسق؛ فعلى ذلك قوله (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا) وليس بمقتصر على الواحد، بل هو راجع إلى كل من يوجد منه ذلك. ثم في هذه الآية دلالة أن النفر الذين استمعوا كانوا مؤمنين، ولم يكونوا من أهل الكفر؛ لأنهم لو كانوا أهل شرك، لكانوا لا يضيفون فعل السفه إلى غيرهم، ويخرجون أنفسهم منه، وقد وجد منهم فعل السفه. ولو كانوا مشركين - أيضا - لكانوا يقولون مكان هذه الكلمة: " وإنا كنا نقول على الله شططا "؛ ليكون ذلك منهم توبة ورجوعا عما كانوا فيه من الشرك والكفر؛ شكرا بما أنعم اللَّه عليهم من عظيم النعمة بأن هداهم للإيمان، لا أن يضيفوا ذلك إلى سفهائهم؛ فثبت أنهم كانوا مؤمنين. والشطط: الجور. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الكذب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الظلم. والشطط هاهنا الجور، والجور ما أتوا به من القول الفاحش، وهو الشرك باللَّه تعالى، وهذا يبين أن الجور قبيح في كل الألسن وفيما بين أهل الأديان؛ ألا ترى كيف سفهوا من يقول على اللَّه تعالى بالجور. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5). ذكر أبو بكر الأصم أنهم كانوا اعتقدوا أن لله تعالى صاحبة وولدا؛ بما سمعوا الجن والإنس يقولون ذلك، وكان عندهم أنهم في ذلك صادقون؛ فذلك المعنى هو الذي حملهم على القول بأن لله تعالى ولدا وصاحبة؛ فلما ظهر عندهم كذب من يدعي اتخاذ الولد والصاحبة تبرءوا عمن يقول ذلك؛ فثبت بهذا أنهم كانوا أهل شرك إلى ذلك الوقت؛ فلما استمعوا إلى قراءة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولاحت لهم الحجج، وارتفعت عنهم الشبه،

آمنوا به، وتبرءوا عن مقالتهم المتقدمة. وقد يحتمل غير ما ذكره عنهم أبو بكر من التأويل، وهو أن القوم كانوا أنشئوا على الهدى والإيمان؛ فكانوا يظنون أن الجن والإنس على الهدى، وأنهم لا يكذبون على الله تعالى حتى ظهر عندهم كذب الإنس والجن، بقولهم: إن لله ولدا وصاحبة. وجائز أن يكون معناه: إنا كنا نظن ألا تسخو نفس أحد من الممتحنين بالكذب على اللَّه تعالى بما أراهم اللَّه تعالى قبح الكذب، وقرر عندهم بالحجج والأدلة تنزيهه عن اتخاذ الأولاد والصاحبة؛ حتى ظهر عندهم ذلك بما أظهروه بألسنتهم. ثم الذي يدل على أن التأويل الذي ذكره أبو بكر ليس بمحكم: أنه قد كان في الجن والإنس مصدق يصف اللَّه تعالى بالتنزيه، وقد كان فيهم من يقول بالولد والصاحبة؛ ألا ترى إلى قوله حكاية عنهم: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)، وإلى قوله: (وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ)، ولا يحتمل أن يقع عندهم أن الفريقين جميعا على الصواب، ولكن كان في ظنونهم أن القوم جميعا على الهدى على ما هم عليه، فلما تبين عندهم الكذب من أُولَئِكَ قالوا هذا القول واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13). ذكر أن الإنس، هم قوم من العرب كانت إذا نزلت بواد استجارت بسيد الوادي، وقالت: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. ثم اختلف بعد هذا: فمنهم من ذكر أنهم كانوا يجيرونهم. ومنهم من زعم أنهم كانوا لا يجيرونهم، وكان ذلك يزيد في رهق الإنس من الجن. وقالوا: الرهق: هو الخوف، والفرق؛ كذلك روي عن أبي رءوف. ومنهم من يقول: هو الذلة والضعف، فكانوا يزدادون الضعف والذلة والخوف

والفرق بامتناعهم عن الإعاذة. ومنهم من يقول بأنهم كانوا يجيرون من استجارهم، ولكن مع هذا كانوا يفرقون منهم، ومن كيدهم في الأماكن التي لم يستجيروا فيها إليهم، وفي غير الأوقات التي وقعت فيها الإجارة. وعلى اختلافهم اتفقوا أن الجن هي التي كانت تزيد الإنس رهقا. وقيل بأن هذا الفعل من الإنس -وهو الاستجارة بهم- شرك؛ لأن اللَّه تعالى هو المجير؛ فكان الحق عليهم أن يستجيروا باللَّه تعالى؛ ليدفع عنهم مكايد الجن، وألا يروا لأنفسهم ناصرا غير اللَّه تعالى، فإذا فزعوا في الاستجارة إلى الجن، فقد رأوا غير الله تعالى يقوم عنهم بالذب والنصر؛ فكان ذلك منهم شركا. ولأن الجن أضعف من الإنس؛ ألا ترى أنها تختفي من الإنس وتتصور بغير صورتها؛ فرقا؛ لئلا يشعر بها الإنس، وبلغ في ضعفها: أنها لا تقدر على إتلاف أحد من البشر، ولا تقدر على سلب أموالهم، ولا إفساد طعامهم وشرابهم، واستنصار القوي بالضعيف أداة الذلة؛ فيخرج تأويل من قال بأن الرهق هو الذلة والضعف على هذا. ومنهم من يقول بأن الإنس هي التي كانت تزيد الجن رهقا، وقال: الرهق: التجبر، والتكبر. وقيل: هو السفه والجهل. وقيل: هي المآثم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: هو العبث والظلم؛ يقال: فلان مرهق في دينه؛ إذا كان مفسدا. ووجه زيادة الرهق: هو أن الرؤساء من الجن كانوا يرون لأنفسهم الفضل على أتباعهم من الجن وعلى الإنس جميعا بما رأوا من افتقار الإنس إليهم حتى احتاجوا إلى الاستعاذة بهم؛ فكان يتداخلهم الكبر من ذلك، ويزدادون به تجبرا وتعظما؛ فكان ذلك يمنعهم عن النظر في حجج الرسل، وكذلك أكابر الكفرة من الإنس كانوا يمتنعون عن الإجابة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما يرون لأنفسهم من الفضل على من سواهم؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:

(7)

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا. . .) الآية. فمن زعم أن الرهق: هو الإثم، أو السفه، أو الجور والظلم، أو العبث - يرجع كله إلى هذا المعنى الذي ذكرنا؛ لأن سفههم هو الذي كان يحملهم على التجبر والتكبر؛ لأنه كان لا يستعيذ بهم إلا الجاهل السفيه، وليس في إعاذة الجاهل السفيه منقبة ما يتكبر لأجلها، وهم بتكبرهم ازدادوا إثما وبعدا من رحمة اللَّه تعالى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7). فجائز أن يكونوا نفوا القدرة عن اللَّه تعالى بالبعث؛ لما لم يشاهدوا البعث، ورأوه أمرا خارجا عن طوقهم وقواهم؛ فظنوا أن القدرة لا تنتهي إلى هذا، لا أن يكونوا أرادوا به خروج البعث عن حد الحكمة؛ لأنهم لو أرادوا به نفي البعث، لكانوا يقتصرون على قولهم: (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ)؛ فلما وصلوا به الكلام الذي يتكلم به للتأكيد، وهو قوله: (أَحَدًا)، دل أنهم نفوا القدرة. وجائز أن يكونوا ظنوا أن لا بعث؛ لأنه أمر خارج من الحكمة؛ إذ ليس من الحكمة أن يهلك ثم يعاد، بل إذا أريد الإبقاء لن يفنى؛ حتى لا يحوج إلى الإعادة. ثم هذا الكلام ليس بحكاية عن الجن؛ بل اللَّه تعالى أخبر أن الجن ظنت أن لا بعث كما ظننتم أنتم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ظَنَنْتُمْ) في الظاهر إشارة إلى الإنس جملة، مسلمهم وكافرهم، ومعلوم بأن المسلمين لم يكونوا يظنون ذلك، بل قد أيقنوا بالبعث، ولكن معناه: أن الكفرة من الجن ظنت أن لا بعث كما ظنت الكفرة منكم أيها الإنس. ثم في هذه الآية إبانة أنهم كانوا يقولون: لا بعث بالظن، ليس بالعلم، والذي حملهم على الظن إعراضهم عن السبب الذي يوجب القول بالبعث، وكل يأنف بطبعه أن يلزم الظنون، ففيه دعاء وترغيب إلى النظر في حجج البعث وترك الاعتماد على الظنون. ثم ذكر النحويون أن ما كان ابتداؤه بالكسر في هذه السورة - أعني: حرف " إن "، فهو

(8)

حكاية عن الجن؛ نحو قوله: (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا)، وما كان فيه من الحكاية لا عن الجن، فحقه أن يقرأ بالنصب؛ فاختاروا النصب في قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ)؛ لما ليس هو بحكاية عن قول الجن، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8). جائز أن يكون لمسهم السماء: ليجدوا أبوابها؛ فيدخلوا فيها للاستماع؛ إذ أخبارها ليست في جملة آفاق السماء، ولا أبوابها محيطة بجملة السماء، فكانوا يلمسونها؛ ليظفروا بأبوابها فيدخلوا فيها. وجائز أن يكون أريد من لمس السماء: لمس أبوابها؛ فكانوا يلمسون أبوابها؛ ليفتحوها؛ فيدخلوا فيها؛ فيستمعوا إلى الأخبار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) جائز أن يكون بعض الأبواب ملئت من الحرس، وبعضها من الشهب؛ فإن أتوا إلى الأبواب التي ملئت من الحرس دفعتهم الحرس، وطردتهم، وإن أتوا إلى الأبواب التي فيها الشهب، تبعتهم الشهب؛ كما قال - عَزَّ وَجَلََّ: (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُورًا). وجائز أن تكون الأبواب كلها مملوءة من الحرس والشهب جميعا؛ لأن الحرس لم يمتحنوا بالحراسة خاصة؛ بل امتحنوا بها وبغيرها من الأعمال؛ فجائز أن يكون اشتغالهم بتلك الأعمال يمنعهم عن الحرس؛ فإذا رأوا استراق السمع في وقت شغلهم، تبعهم الشهاب الثاقب، وقذفهم عن مرادهم. وجائز أن يصعد الجن إلى المكان الذي لا يراهم الملائكة، ويسمع الجن كلامهم؛ لأن المرء قد يتكلم بكلام فينتهي صوته إلى حيث لا يراه البصر، فتكون الشهب تحت الحرس؛ فيقذفون عنها بالشهب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9). قيل: الشهاب من الكواكب، والرصد من الملائكة. الأصل في ذلك أن الجن قد حبسوا وقت مبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن خبر السماء،

(10)

وكانوا يسترقون السمع قبل ذلك حتى انقطع أمر الكهنة؛ إذ لا يجوز أن يأتوا بخبر السماء وقت مبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حتى كان يختلط أمر الكهنة بأمره عليه السلام؛ فحبسوا عن الصعود إلى السماء وإتيان الخبر عنها؛ حتى انقطع أمر الكهنة، فجاءهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك؛ ليعلموا أن ذلك ليس بكهانة، وإنما هو وحي يأتيه من السماء؛ إذ لو كان كهانة كان غيره لا يمنع عن مثله، كما في سالف الزمان؛ فهذه الآية كأنها حكاية عن قول الجن لما رجعوا إلى قومهم منذرين قالوا هذا كله لقومهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) فهو يحتمل وجهين: أحدهما: لا ندري بما قطعت بالحرس والشهب أخبار السماء عن أهل الأرض، وحبس الذين يصعدون السماء عن أخبار السماء، ويقذفون من كل جانب، أريد بأهل الأرض الشر، وهو إنزال العذاب عليهم، أو أريد بهم أن يرسل إليهم رسول يرشدهم. وجائز أن يكونوا أيقنوا أن أخبار السماء إنما انقطعت عن أهل الأرض بما يرسل إليهم من الرسول؛ فيكون الرسول هو الذي يخبرهم بما لهم إليه من حاجة، ولكنهم لم يدروا أنه أريد بهم الرشد بإرسال الرسول أو الشر؛ لأنهم كانوا علموا أن من آمن بالرسول المبعوث، ونظر إليه بعين الاستهداء والإرشاد فقد رشد، ومن نظر إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء استؤصل؛ فلم يدروا أيكذبون الرسول؛ فيحل بهم الهلاك في العاقبة، أو يصدقونه فيرشدوا به؟ وهذا يبين أن العواقب في الأشياء هي المقصودة، وأن الحكيم ما يفعل من الأمر يفعله للعواقب، وفي هذا إبانة أن الجن من المسلمين لم يكونوا معتزلة؛ إذ من قول المعتزلة: أن اللَّه تعالى لا يفعل بعباده إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين والدنيا في حقهم، والجن قد أيقنوا أن اللَّه تعالى قد يريد الشر بمن يعلم أنه يؤثر فعل الشر على فعل الخير، ويريد الخير بمن يعلم أنه يؤثره على فعل الشر. * * * قوله تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ

(11)

اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ... (11). قَالَ بَعْضُهُمْ: (الصَّالِحُونَ) هم المؤمنون و (دُونَ ذَلِكَ) هم الكافرون. ويشبه أن يكون (الصَّالِحُونَ)، و (دُونَ ذَلِكَ) وليس على الإيمان والكفر؛ لأن هذا قد ذكر فيما تقدم من الآيات بقوله: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)، ولو كان التأويل على ما ذكروا، لكان يقع موقع التكرار؛ ولكن تأويله عندنا: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ)، أي: منا من عرف بالصلاح والستر، (وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) وهم الفسقة؛ فيكون فيه إبانة أن كل أهل دين فيهم الصالح المرضي، وفيهم الفاسق المفسد في دينه؛ قال اللَّه تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ)، ولو لم يكن منا غير صالح، لم يكن لاشتراط الصالحين معنى، وكقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، فلو لم يكن منا أهل فسق، لما قال هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا). أي: أهواء متفرقة، ولم يذكروا في الأهواء المتفرقة الأصلح والأدون، وذكروا ذلك عند ذكر الفاسق والصالح؛ لأن أهل الأهواء كلٌّ يظن في نفسه: أنه هو المحق، وغيره على الباطل، وأما الفاسق فهو يعرف أنه يتعاطى بفسقه ما لا يحل له، ويرتكب ما نهي عنه، وكذلك كل من شاهد فسقه يعرف أنه على الباطل؛ وإن كان كذلك، ظهر الدون فيه، وظهر الصالح، ولم يظهر ذلك في اعتقاد المذاهب؛ فلم يتكلم فيه بالدون والصالح. ثم الطرائق هي المذاهب والأهواء، والقدد: القطع، يقال: قدَّه، أي: قطعه، فمعناه: أنا كنا على مذاهب متفرقة، وأهواء متشتتة، ففي الآية أن في الجن أهواء متفرقة، كما أن ذلك في الإنس، والأصل فيه أن طريق معرفة المذهب والدِّين الفكر والاجتهاد ليتوصل به إلى الحق، والمجتهد قد يصيب الطريق مرة، ويزيغ عنه أخرى؛ فلهذا ما أصاب البعض من الخلائق الطريق المستقيم، ومنهم من زاغ عنه. ويعلم بهذا أن سبيل الجن في التوحيد وسبيل الإنس واحد، وهو الفكر، وله الاجتهاد، وأن فيهم آيات متشابهة كما في الإنس؛ إذ عن المتشابه يتولد الزيغ؛ لذلك تفرقوا على أهواء متفرقة مختلفة، وأما أسباب الفسق مجتمعة، فتعرف بالمعاينة، فيظهر الأدون والأرفع في الدِّين.

(12)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) ذكر أبو بكر الأصم أنه على كفرهم ظنوا ألا يعجزوا اللَّه تعالى. ولكن أكثر أهل التأويل ذكروا أن الظن هاهنا في موضع العلم، ويؤيد تأويلهم قراءة حفصة - رضي اللَّه عنها - فإنها كانت تقرأ: (وأنا علمنا أن لن نعجز اللَّه في الأرض فَرَرَةً ولن نسبقه هربا). فقوله: (لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ) أي: لن نفوته، ولا يتهيأ لنا أن نعجز اللَّه بأهل الأرض عن إيصال نقمته وعذابه إلينا. ويخرج قوله: (فَرَرَةً) على ذلك، أي: لو فررنا من عذابه، لن نعجزه ألا يعذبنا. والفرار قد يكون بدون الطلب؛ قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)، ولم يرد به الفرار من الطلب، وأما الهرب فإنه لا يكون إلا عن طلب؛ فكأنهم قالوا: لا يتهيأ لنا الفرار عن عذاب اللَّه تعالى؛ لكثرة الأعوان والأنصار، ولا يعجزه هربنا عن طلب. أو أن يكون قوله عَزَّ وَجَلَّ: (لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ) وإن دخلنا تحت تخوم الأرضين، ولن نعجزه بالهرب على وجه الأرض، فيكون فيه إقرار بأنا لا نقدر بالحيل والأسباب أن نحترز من عذاب اللَّه تعالى، كما يتهيأ الاحتراز عن ملوك الأرض بالحيل والأسباب. ثم مثل هذا الكلام يصدر عن أهل الإسلام؛ لأن مثل هذا الكلام إنما يتكلم به من يخاف حلول نقم اللَّه تعالى عليه، والذي أيقن بالبعث، ويذكر مقامه بين يدي ربه، وأما أهل الكفر: فلم يؤمنوا بالبعث حتى يحملهم خوف العاقبة على النظر في مثل هذا؛ فثبت أن هذه المقالة صدرت عن أهل الإسلام، ليس عن أهل الكفر؛ كما ذكره أبو بكر الأصم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13). فالهدى هو الدعاء إلى الحق، فيحتمل أن يكون لما دعينا إلى الحق -وهو القرآن- آمنا به؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ)، أي: يدعو إليه، وقال اللَّه تعالى في أول السورة: (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ). ويجوز أن يكون الهدى هو الاهتداء، أي: لما سمعنا ما به اهتدينا.

وظن أبو بكر الأصم أنهم كانوا كفرة إلى أن سمعوا الهدى فآمنوا به؛ لأنه لو كانوا على الهدى من قبل لكان الإيمان منهم سابقا؛ فلا يكون لقوله: (آمَنَّا بِهِ) وقد آمنوا من قبل - معنى، وليس يثبت كفرهم بما ذكر؛ لأنه قد يجوز أن يكونوا على الإيمان فلما سمعوا الهدى، أحدثوا إيمانا بهذا الهدى على ما سبق منهم من الإيمان بالجملة؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، وقال: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) أي: زادوا إيمانا؛ بالتفسير على ما سبق منهم من الإيمان بالجملة لأنهم لم يكونوا من قبل مؤمنين، فأحدثوه للحال، وكذلك قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وقد هدوا الصراط المستقيم، ولكنهم يريدون بهذا الدعاء أن اهدنا بالإشارة والتعيين إليه الصراط المستقيم على ما هديتنا في الجملة؛ فكذلك إحداثهم الإيمان بما سمعوا من الهدى لا ينفي عنهم الإيمان فيما سبق من الأوقات، بل يجوز أن يكونوا مؤمنين من قبل، ثم يحدثوا الإيمان بكل أمر يجيئهم من عند اللَّه - عز وجل -، ولا يدل إيمانهم به على أنهم لم يكونوا من قبل مسلمين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا). قال - رحمه اللَّه -: إنه لا أحد من أهل الإيمان من جني ولا إنسي يخاف البخس والرهق من اللَّه تعالى إلا المعتزلة؛ فإنهم يخافون ذلك؛ لأنهم ليسوا يخرجون مرتكبي الكبائر من الإيمان، ثم يطلقون القول فيهم: إنهم يخلدون في النار، وفي التخليد خوف البخس والرهق، بل فيه ما يزيد على البخس؛ لأن البخس هو النقصان، وفي التخليد ذهاب منفعة الإيمان ومنفعة الخيرات التي سبقت منهم. وقال تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)، والمعتزلة تزعم أنه لو آخذهم بالخطأ والنسيان، كان جائرًا. وقال: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)، وهم يزعمون أنه لو أزاغ قلوبهم بعد الهدى، كان ذلك منه جورا وظلما، فهم أبدا على خوف من جور ربهم. ونحن نقول بأنه لو آخذهم به، كان يكون ذلك منه عدلا، وإذا عفا عنهم، كان ذلك منه إنعاما وإفضالا، فنحن ندعو اللَّه تعالى، ونتضرع إليه ألا يعاملنا بعدله فنهلك، بل

(14)

يعاملنا بالإفضال والإنعام. وعلى قول المعتزلة من ارتكب كبيرة، ردت عليه حسناته، وصار عدوًّا لله تعالى، وخلد في النار أبد الآبدين، واللَّه يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)، وأولى الحسنات التي يستوجب عليها المضاعفة هو الإيمان باللَّه تعالى، فلا يجوز أن يخلد في النار، ويذهب عنه منفعة الإيمان، تعالى اللَّه عما يقولون علوًّا كبيرا. ثم قوله: (بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) يحتمل وجهين: أحدهما: البخس: النقصان، أي: لا ينقص من حسناته، والرهق: الظلم؛ كقوله تعالى: (فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)، وأن يحمل عليه من سيئات ارتكبها غيره. والثاني: (فَلَا يَخَافُ بَخْسًا)، أي: ألا تقبل حسناته إذا تاب، (وَلَا رَهَقًا) أي: ظلم؛ فلا يحسب له من حسناته شيئا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ... (14)]. القاسط: الجائر والمقسط: العادل. ثم في العدل ثلاث لغات؛ يقال عدل عنه: إذا مال وجار. وعدل به: إذا جعل له شريكا وعديلا. وعدل فيه: إذا حكم بالعدل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا): التحري والتوخي هو القصد؛ فكأنه يقول: قصد الرشد بالإسلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15). قال أبو بكر الأصم: دلت الآية على أن للجن لحما ودما كما للإنس؛ لأنه قال في الإنس: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، فلو لم يكونوا لحما ودما، لم يصيروا لجهنم حطبا. ولكن هذا لا يدل؛ لأن اللحم من شأنه أن يحترق وينضج، ولا يصلح أن يكون وقودا، ولكن اللَّه تعالى باللطف، صير لحمان الإنس وقودا، ليس أن صار حطبا بما كان

(16)

لحما، فليس في الآية دلالة ما ذكر. بل فيها أن الجن قد امتحنوا بالعبادة كما امتحن بها الإنس، وأنهم إذا عصوا ربهم استوجبوا العقاب مثل ما يستوجبه الإنس. ثم ذكر عن أبي حنيفة - رحمه اللَّه - أنه قال: ليس للجن ثواب، وعليهم العقاب إذا عصوا. ومعنى قوله: ليس لهم ثواب عندنا، ليس يريد به أن اللَّه تعالى لا يرضى عنهم إذا عبدوه، ولا تعظم منزلتهم عنده، ولكنه يريد به أن الذي وعد للإنس من المآكل والمشارب والأزواج الحسان والحور في الجنة على الخلود - ليس لهم فيها؛ لأن الوعد من اللَّه تعالى بها جرى للإنس، ولم يجر الوعد للجن، ولا ذكر ذلك في شيء من القرآن، والذي وعد به الإنس طريقه الإفضال والإنعام، لا أن يكون ذلك حقًّا للإنس قِبَلَه، فإذا لم يجر لهم الوعد بذلك، لم يجب القول لهم بالموعود. وأما العقاب فإن الحكمة توجب التعذيب لمن كفر به؛ فلا يجوز أن تكون الحكمة توجب تعذيب الكفرة، ثم لا يعذب الجن إذا كفروا؛ فلذلك وجب القول بعقابهم، ولم يجب القول بالثواب، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) اختلف فيه: فمنهم من قال: طريقة الهدى. ومنهم من قال: طريقة الكفر. فمن قال: المراد: هو طريقة الهدى، قالوا: إن الطريقة المعروفة المعهودة هي طريق اللَّه تعالى، فعند الإطلاق، تنصرف إليه؛ كالدِّين متى ذكر مطلقا ينصرف إلى دين الحق،؛ كذلك: السبيل المطلق؛ قال الله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وهو الإسلام. ثم يخرج هذا على وجوه: أحدها: ينصرف إلى الكفرة أنهم: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ)، أي: لو أجابوا إلى ما يدعون إليه من الهدى (لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)، أي: وسعنا عليهم العيش، وكثرنا أموالهم، ويكون ذكر الماء هاهنا كناية عن السعة؛ لأن سعة الدنيا كلها تتصل بالماء، والماء أصلها؛ قال اللَّه تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)، فأخبر أن رزق الخلق في السماء، والذي ينزل من السماء الماء، وهو المطر، وجعل ذلك رزقا، إذ هو

أصل رزق الخلق؛ فكذلك ذكر الماء هاهنا كناية عن السعة من الوجه الذي ذكرنا. فإن كان على هذا؛ فيكون الخطاب راجعا إلى الوقت الذي كانوا ابتلوا فيه بالقحط والسنين؛ فوعد لهم أنهم لو أجابوا إلى ما دعوا إليه يرفع عنهم القحط والسنين، ويوسع عليهم في الرزق، وهو كقول نوح وهود وغيرهما، ووعدهم قومهم بإرسال الأمطار، وتكثير الأنزال والأموال والأولاد ونحوه. ويجوز أن يكون هذا في أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فإنهم كانوا في أول الإسلام في ضيق الحال، وشدة من العيش، وكانوا يتفرقون في الشعاب والأودية؛ لشدة ما حل بهم من الجوع؛ ليصيبوا من عشبها، وعند اشتداد الحال تخاف النفس من إهلاكها والتبديل، فوعدوا السعة في العيش (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) التي كانوا عليها، أي: داموا عليها ولم يبدلوا الدِّين بالهوى والحق بالباطل، كما وعد لهم النصر والظفر على الأعداء، مع قلة أنصارهم إن داموا على الإسلام. ويحتمل ما قَالَ بَعْضُهُمْ: أن تأويل قوله: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي: لو أسلم أهل الأرض كلهم جميعا، لوسعنا عليهم الدنيا، وكثرنا أموالهم وأولادهم؛ حتى يفتنوا فيها ويمتحنوا بمحن شديدة، فيتحمل البعض منهم فيبقوا مؤمنين، ولا يتحمل البعض فيبغون ويعودون إلى ما كانوا عليه من الكفر؛ حتى لا يقع الخلف في وعدنا؛ فإن الله تعالى وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولا يجوز أن يقع في وعيده خلف، وهم لو استقاموا على الطريقة، ولم يبغوا، أدى ذلك إلى خلف الوعيد؛ لأنه لا يملؤه إذا داموا على الطريقة ولم يبغوا، وتكون الحكمة في بغيهم أن يعرف الخلق أن اللَّه - تعالى - لم يخلقهم لمنافع تحصل له، ولكن خلقهم لأنفسهم: إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساءوا فعليهم، ولو أبقاهم على الطريقة المستقيمة، وظهرت الموالاة في الجملة، لكان يسبق إلى الأوهام: أنه إنما خلقهم لمنافع نفسه. وهذا من اللَّه تعالى بيان علمه بما لا يكون أن لو كان كيف يكون؛ إذ اللَّه تعالى علم الإيمان من البعض، والكفر من البعض؛ للحكمة التي ذكرنا، وغيرها مما يقف على بعضها الخلق دون البعض، وحكم بذلك، ثم أخبر أنه لو حكم بأن يستقيم الكل على

(17)

طريقة الحق، ويؤمنوا، لم يحكم على طريق الأبد في حق الكل، بل حكمه أن يستقيم عليها البعض إلى مدة، ثم يترك، ويبدل الحق بالباطل ويدوم البعض عليها؛ تحقيقا لما ذكرنا من الحكمة؛ وهو كقوله تعالى: (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)، أي: لو لم نفرض عليهم الجهاد والخروج إلى القتال، لبرز الذين منتهى آجالهم القتل إلى حوائج أنفسهم، فيقتلون، بيانا منه لحكمه الذي يحكم أنه لو حكم كيف كان؛ فكذا هذا. وأما من قال: معناه: طريقة الكفر، فهو أن يكون المراد من الاستقامة هاهنا: الإقامة، ولفظة " الإقامة " يعبر بها عن الإقامة على الكفر والإسلام جميعا، وتكون (الطَّرِيقَةِ) هاهنا إشارة إلى الطريقة التي كانوا عرفوها قبل الإسلام وهي الكفر، وإن كانت الطريقة إذا أطلق ذكرها، أريد بها طريقة الهدى؛ لأن طريقة الكفر هي التي كانت معروفة فيما بينهم، وكذلك ذكر أهل التأويل: أن الطريقة هاهنا طريقة الكفر فقوله: (لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)، أي: وسعنا عليهم، وكثرنا أموالهم؛ ليعلموا جود ربهم؛ حيث بسط عليهم الرزق مع اختيارهم عداوته؛ كما بسط الرزق على أوليائه، وليعلموا أن حلمه يجاوز الحد حيث لم يؤاخذهم بذنوبهم ولم يعجل بإنزال النقمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ... (17) فالفتنة: المحنة التي فيها الشدة، فإن كان هذا في أهل الكفر، ففي بسط الرزق عليهم محنة شديدة؛ لأن ذلك يمنعهم عن الخضوع والانقياد لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لما يروا من الفضل على من دونهم في المال والسعة؛ ألا ترى إلى قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)، وكذلك قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا). وإن كان التأويل منصرفا إلى أهل الإسلام، ففي التوسيع عليهم محنة شديدة؛ وكذلك جميع ما امتحنا به فيه شدة، قال اللَّه تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) فما من حال تعترض الإنسان إلا وله فيها شدة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ): جائز أن يكون: ومن يعرض عن طاعة ربه وعبادته، أو يعرض عن توحيده، أو يعرض عن القرآن؛ إذ هو ذكر. والإعراض هاهنا عبارة عن الإيثار والاختيار، أي: من يختار ذكر غير اللَّه تعالى على ذكره، أو طاعة غيره على طاعته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا)، وقال في موضع آخر: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا)

(18)

فجائز أن يكون الصعد، والصعود على التحقيق؛ كما ذكره أهل التفسير: أنهم يكلفون الصعود على جبل من نار، فلا يقدرون إلا بعد شدة عظيمة، ثم إذا بلغوا أعلاها يهوون فيها، فيكون ذلك دأبهم. وجائز أن يكون على التمثيل؛ وذلك لأن الصعود أشد من الهبوط؛ فيكون الصعود عبارة عن المشقة هاهنا: أنه يستقبله ما يشق عليه. وقيل: المشقة التي عليهم هي ما يحل بهم من العذاب متتابعا عذابا بعد عذاب. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصعود: المشقة، يقال: صعد عليَّ هذا الأمر: يشق عليَّ. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " ما يصعدني أمر ما يصعدني خطبة النكاح "، أي: ما يشق عليَّ، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18): أي: ما يسجد فيه، وما يسجد به، فما يسجد فيه هو البقاع، وما يسجد به هو الجوارح؛ فكأنه يقول بأن البقاع التي يسجد فيها والأعضاء التي يسجد بها لله تعالى؛ لأنه هو الذي خلقها وأنشأها، والمساجد التي بنيت فإنما تبنى لعبادة اللَّه تعالى، وليدعى فيها فلا يشركوا غيره في العبادة والدعاء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بالمساجد المسجد الحرام؛ روي ذلك عن الضحاك وغيره؛ فكأنه إنما صرف التأويل إلى المسجد الحرام؛ لأن هذه السورة مكية ولم يكن في غيرها من البقاع مساجد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: المساجد هاهنا البيع والكنائس؛ لأن البيع والكنائس بنيت؛ ليعبد الله تعالى فيها، فنهاهم أن يعبدوا فيها غير اللَّه تعالى، فيخرج هذا مخرج الاحتجاج أنكم قد علمتم أن المساجد بنيت لتعبدوا اللَّه فيها فلا تعبدوا فيها غيره، وإذا كان اللَّه منشئها وخالقها دون غيره، فكيف تشركون معه غيره في العبادة والدعاء وليس هو بمنشئ لها؟ وقوله - عز وجل -: (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا). جائز أن يكون على الدعاء نفسه، فيكون معناه: ألا تدعوا مع اللَّه أحدا؛ لأن الإله اسم المعبود، وكان القوم إذا عبدوا شيئا سموه: إلها؛ فيقول: لا تدعوا مع اللَّه أحدًا إلها؛

(19)

فإنه هو الإله، وهو المستحق للعبادة من كل أحد. وجائز أن يكون أريد بالدعاء العبادة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: " الدعاء مخ العبادة "، وقال تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)؛ فجعل دعاءهم إياه عبادة منهم له؛ فيكون قوله: (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)، أي: لا تشركوا غيره معه في العبادة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19): منهم من يقول: إنهم (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)، على جهة الرغبة فيه والموالاة له؛ فقوله (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)، أي: كاد يلتصق بعضهم إلى بعض مثل اللبد ليتصلوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ)، أي: على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كادوا يلتصقون برسول اللَّه؛ حبا لما سمعوا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو حرصا على حفظ ما سمعوا أو تعجبًا مما سمعوا؛ فكانوا يحرصون على حفظ ما سمعوا؛ لأنهم كانوا من منذري الجن؛ فحرصوا على حفظه ووعيه؛ لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم؛ وتعجبوا مما سمعوا؛ لأنهم سمعوه من مكان لم يكن مكان قراءة الكتب، وسمعوا من الأمي الذي لم يقرأ كتابا قط، ولا عرف المكتوب؛ فتعجبوا منه أشد التعجب. والتلبد: التصاق الشيء بالشيء التصاقا لا يفصل بعضه عن بعض، وسمي اللبد: لبدا من هذا؛ لأن الصوف يلتصق بعضه ببعض حتى لا يميز. ومنهم من زعم أنهم فعلوا هذا؛ لشدة معاداتهم لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فيكون على هذا منصرفا إلى الكفرة؛ الإنس منهم والجن، فيخبر أنهم اجتمعوا وتظاهروا؛ ليطفئوا نور اللَّه، فأبى اللَّه تعالى إلا أن يتم نوره، فإن كان منصرفًا إلى الكفرة، فقوله: (لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ

(20)

يَدْعُوهُ) معناه: أي: لما قام مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يدعو إلى اللَّه ويوحده، ويدعو الخلق إلى عبادته وطاعته - هَمَّ المشركون من الإنس والجن، وتلبدوا على هذا الأمر أن يطفئوه؛ فأبى اللَّه تعالى إلا أن ينصره ويمضيه. وإن كان هذا من أهل الإسلام من الجن، والدعاء راجع إلى العبادة؛ فكأنه يقول: لما قام بعبادة اللَّه تعالى وهي الصلاة، كادوا يكونون عليه لبدا؛ لشدة حرصهم في تحفظ ما سمعوا، وشدة حبهم لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولما سمعوا. * * * قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا)، فيه إخبار عن دينه: أن دينه التوحيد، لا الإشراك باللَّه تعالى، وإخبار عما يدعو الخلق إليه، وذلك توحيد اللَّه تعالى والقيام بطاعته. وجائز أن يكون هذا على أثر سؤال منهم، ودعوتهم إلى عبادة الأصنام؛ على ما ذكر في الأخبار أنهم قالوا: إنا نعبد إلهك يوما، وتعبد آلهتنا يوما، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ. . .) الآية. وجائز أن يكون كلاما مبتدأ يؤيسهم، ويقنطهم، ويقطع طمعهم عن عوده إلى ما هم عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21). أي: ضرًّا في الدِّين، ورشدا في الدِّين، والأصل في الأسماء المشتركة أن ينظر إلى مقابلها، فيظهر مرادها بما يقابلها؛ قال اللَّه تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)، والقاسط: الجائر، وقد يكون غير الكافر جائرا، ثم صرف الجور إلى

(22)

الكفر؛ فظهر مراده بمقابله، وهو قوله (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ). والضر قد يكون في الدِّين والمال والنفس، ولكنه لما ذكر قوله: (رَشَدًا)، والرشد يتكلم به في الدِّين، علم أن قوله: (ضَرًّا) راجع إليه أيضا، فكأنه يقول: لا أملك إضلالكم، ولا رشدكم؛ إنما ذلك إلى اللَّه تعالى، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء. والمعتزلة تزعم أن اللَّه تعالى لا يملك رشد أحد ولا غيه، بل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أكثر ملكا منه؛ لأنه يملك أن يدعو الخلق إلى الهدى بنفسه، واللَّه تعالى لا يملك ذلك إلا برسوله. وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وقال: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، ولو كان المراد من الهداية المضافة إلى اللَّه تعالى الدعوة والبيان، لكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يهديهم؛ لأنه داع ومبين؛ فثبت أن في الهداية من اللَّه تعالى لطفا لا يبلغه تدبير البشر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22). فكأنهم طلبوا منه ترك تبليغ الرسالة إلى قومٍ، أو كتمان شيء ما أمر بإظهاره، أو محاباة أحد من الأجلة، فأمر أن يخبرهم أنه لا يجيره أحد من اللَّه تعالى، ولا يجد لنفسه ملجأ إن فعل ذلك، سوى أن يبلغ رسالات ربه؛ فيجيره من عذابه؛ ويكون له عنده ملجأ؛ إن فعل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ ... (23). فمنهم من جعل قوله: (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ) استثناء من قوله: قل إني لا أملك لكم ضرًّا ولا رشدا إلا بلاغا من اللَّه أي: إني لا أملك لكم هدايتكم ولا إضلالكم إلا ما كلفت لأجلكم من تبليغ الرسالة. ومنهم من جعل هذا استثناء من قوله: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ) إن عدلت عن أمره، ولم أبلغ الرسالة؛ فلا يجيرني من عذابه إلا أن أبلغ الرسالة؛ قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)، وقال:

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ). ولأنه لا يجوز أن تقع له الحاجة إلى الإجارة من عذاب اللَّه تعالى، ولم يوجد منه تقصير ولا تضييع يستوجب به العقاب؛ فلا بد من أن يُمْكِن فيه ما ذكرنا من التقصير في التبليغ والعدول عما كلف؛ حتى يستقيم ذكر الإجارة فيه. وذكر أبو معاذ -صاحب التفسير-: أن الاستثناء راجع إلى قوله: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا)، ليس إلى قوله: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ)، واستدل على ذلك بقراءة عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقرأ: (قل إني لا أملك لكم غيًّا ولا رشدا إلا بلاغًا من اللَّه)، وليس فيما ذكرنا قطع الاستثناء على قوله: قل إني لا أملك لكم ضرًّا ولا رشدا إلا بلاغا من اللَّه؛ للوجه الذي ذكرنا. ولأن أكثر أهل التأويل أجمعوا على صرف الاستثناء إلى قوله: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ)؛ فلا يجوز أن يحمل قولهم على الخطأ بما ذكره أبو معاذ، وما ذهبوا إليه وجه الصحة والسداد. وجائز أن يكون البلاغ والرسالة واحدًا؛ فيكون قوله الذي يبلغ بلاغا من الله ورسالاته، ويكون ذلك على التكرار؛ وهو كقول (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، قيل: إنهما واحد. وجائز أن تكون الرسالة نفس ما أنزل، وهو الكتاب، والبلاغ ما أودع فيه من الحكمة والمعاني؛ وكذلك قيل في قوله تعالى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ): إن الكتاب هو المنزل نفسه، والحكمة: ما تضمن فيه من المعاني. وجائز أن يكون البلاغ من اللَّه تعالى منصرفا إلى حكمه، ورسالاته إلى غيره. أو تكون رسالاته حكمه، والبلاغ خبره؛ وهو كقوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا): صدقا أخباره، وعدلا أحكامه، أو إبلاغا من اللَّه حق اللَّه عليهم ورسالاته بما به مصالحهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) قالوا: لا ملجأ وممالًا، أي: موضعا يمال إليه، والالتحاد الإمالة، سمي اللحد: لحدا من هذا؛ لأنه يمال عن سننه.

(24)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)، وقال في موضع آخر (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، وقال: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)، وكل من ارتكب المآثم، فقد دخل في حد العصيان وإيذاء الرسول، ولكن المراد هاهنا من يعتقد عصيان الرسول وأذاه؛ لأن اللَّه تعالى أضاف الأذى والعصيان إلى نفسه، ولا أحد يقصد قصد أذى اللَّه تعالى، واللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يؤذى، ولكن أضاف أذى الرسول وعصيانه إلى نفسه، وقد كانوا يعتقدون عصيانه وأذاه؛ فجعل عصيانهم وأذاهم لرسوله أذى منهم لله تعالى وعصيانا له؛ فثبت أن هذا في الاعتقاد، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، وقال: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)، فجعل طاعة الرسول طاعة له، وعصيان رسوله عصيانا له. ولأنه ذكر العصيان على أثر تبليغ الرسالة؛ فثبت أن العصيان هاهنا في ترك القبول لما أنزل على الرسول، وفي اعتقاد العصيان له. وروي عن أبي حنيفة - رحمه اللَّه - أنه قال: من آمن باللَّه تعالى، ولم يؤمن برسوله، فهو ليس بمؤمن؛ لأن جهله باللَّه تعالى هو الذي حمله على تكذيب الرسول؛ لأن الرسول ليس يدعوه إلا إلى ما يقربه إلى اللَّه تعالى، وإلى ما ينجيه من عذابه؛ فلو كان يحب الله تعالى، ويؤمن به، لكان يدعوه ذلك إلى حب الرسول، وإلى طاعته؛ فثبت أن المكذب للرسول جاهل بربه، والمطيع له مطيع لله تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)، وقال في موضع آخر: (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا). ويحتمل أن يكون هذا في الدنيا والآخرة جميعا، ويكون ذلك راجعا إلى يوم بدر، كما ذكره أهل التأويل؛ إذ قد ظهر في ذلك اليوم أنهم شر مكانا، وأضعف جندا، وأضعف ناصرا. ويشبه أن يكون هذا في الآخرة؛ فإنهم يعلمون أنهم أقل عددا في الآخرة؛ لأن كل واحد منهم يتبرأ عن صاحبه وناصره ومعينه في الدنيا، ويصير عدوًّا له؛ فيقل عددهم،

(25)

وأما في يوم بدر، فقد كانوا أكثر عددا من المسلمين؛ فلم يتبين لهم أنهم أقل في العدد. ويجوز أن يوم بدر يكون المسلمون أكثر عددا؛ لأن اللَّه تعالى أمد المسلمين بملائكته؛ فصار عددهم أكثر في التحقيق، وإن كانت الكفرة في رأي العين أكثر منهم عددا. ثم يشبه أن تكون هذه الآية نزلت على أثر تخويف الكفرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بكثرة عددهم وقوتهم في أنفسهم، وقلة عدد المسلمين، فوعد اللَّه تعالى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر وكثرة العدد عند وقوع الحاجة إليها، وباللَّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25): فهذا ذكره عند ذكر الوعيد، وهو قوله: (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا)، فكأنهم سألوه: متى وقت هذا الوعيد؟ فأمر أن يقول: (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا). قد ذكرنا فيما تقدم من الآيات: أن ليس في بيان وقت الوعيد فضل يقع في الوعيد؛ بل إذا لم يبين وقت الوعيد، كان فيه فضل تخويف وتحذير لا يوجد فيما يبين؛ لأنه إذا بين، فإن كان فيه أمد سَوَّفَ الناس وأخروا التوبة؛ لما أمنوا حلول النقمة بهم إلى مجيء ذلك اليوم، وإذا لم يمهلوا صاروا إلى الإياس؛ فيرتفع الخوف والرجاء، وفيه ارتفاع المحنة؛ لأن المحنة في الأصل بالعمل على الرجاء والخوف. ولأنه إذا لم يبين، كانوا على الحذر والخوف؛ فيحملهم ذلك على التسارع في الخيرات والإقلاع عن المساوئ؛ فأمر أن يقول هذا، وإلَّا فالذي أمره بأن يقول هذا عالم بالوقت الذي يقع فيه الوعيد. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) الأصل فيما غيب اللَّه تعالى عن الخلق أنه على منازل ثلاثة: أحدها: ما قد أعجز الخلق عن احتمال الوقوف عليه بالخلقة، نحو الكيانات التي هي أصول الأشياء، لو أراد أحد أن يعرف المعنى الذي به صلح أن يكون كيانا، لم يقف عليه، ونحو الماء جعل حياة لكل شيء، ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي به صلح أن يجعل حياة، لم يقف عليه، وكذلك هذا في كل ما جعل كيانا موجودا.

(27)

والثاني: ما أمكن الخلق معرفته وبلوغه إليه بالتأمل والنظر، بدون معرفة السمع والأثر، نحو معرفة الصانع ومعرفة وحدانيته. والثالث: هو الذي لم يعجزهم عن إدراكه، ولا مكنهم من الوقوف عليه دون خبر يرد، بقوله: (فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) في هذا، وهو الذي مكنوا منه، لكنهم لا يبلغونه إلا بمعونة الخبر، وذلك نحو الأشياء التي ترجع إلى مصالح الخلق والتي توصل إلى مصالح الأغذية فيما ظهر بين الخلق، ولكنها لا تعرف إلا بالسماع، ممن له علم من الخلق وانتشاره فيهم، وهو بحيث لا يحتمل إدراكه بالنظر؛ فبين أن ذلك بالرسول، ومتى وجد ذلك من شخص مشار إليه دل ذلك على الاختصاص له بالرسالة. ثم ذكر بعضهم: أن في هذه الآية دلالة تكذيب المنجمة، وليس كذلك؛ لأن فيهم من يصدق خبره، ويعرف المطالع، والمغارب، والمشارق، والكواكب التي بها يتوالد الخلق، والتي يقع عندها التغير والتبدل، وذلك مما لا يقف على علمه بالتأمل والتدبر. وكذلك المتطبعة: منهم من يعرف طبائع النبات أنها تصلح لكذا، وهذا يصلح لكذا، فيقع به المصالح للخلق، ومعلوم أن هذا من نوع ما لا يدرك بالتأمل والنظر؛ فعلم أنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره، وبقي علمه في الخلق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)، أي: اختاره واصطفاه، والأصل أن الرسالة تلزم الخلق الشهادة له بالصدق في كل خبر وبالعدل في كل حكم؛ لقوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)، وبالإصابة في كل أمر فيما لم يبلغ مبلغا يوجب الأمر؛ فهو لا يختصه للرسالة، وفي الاختصاص نعمة عظيمة على الخلق؛ إذ به وصل الخلق إلى تعرف ما يبلغهم إليه الحاجة في أمر معاشهم ومعادهم ودينهم ودنياهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27). قيل: رصدا من بين يدي الرسول، ومن خلفه من الملائكة؛ ليمنع الإنس عن الرسل في منعهم الرسل عن التبليغ؛ حتى يبلغوا، ذكر هذا عن الحسن البصري رحمه اللَّه.

وكذلك قال في قوله: (إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ): إن إحاطته هي أن يعصمه من الناس من أن يصل إليه منع الناس إياه عن تبليغ الرسالة. ويحتمل أن يكون الملائكة جعلوا رصدا عن الجن عن استراق ما يوحى إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن تلقيه؛ حتى يكون الرسول هو الذي يبلغ إلى الخلق، ويشتهر ذلك فيما بين الخلق أن الرسول هو الذي قام بتبليغه إلى الخلق؛ لأنهم إذا لم يجعلوا رصدًا؛ أمكن الجن أن يسترقوه ويبلغوه؛ فيأتوا بلدة لم ينتشر عندهم علم ذلك من جهة الرسول؛ فيعرفوا ذلك من عند الجن قبل أن يبلغهم الرسول، فإذا بلغ الرسول من بعد، التبس الأمر على الذين ظهر فيهم العلم من جهة الجن؛ فجعل عليهم رصدا؛ حتى ينتشر علم ذلك من جهة الرسول؛ فترتفع الشبه. أو يكون الرصد لمنع الجن الذين سمعوا من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يبلغوا قومهم من الجن؛ حتى ينتهي الخبر إليهم من جهة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا): إن الملائكة كانوا يرصدون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإذا جاءه الملك، قالوا: هذا وحي من اللَّه تعالى، وإذا جاءه الشيطان أخبروه به. ولكن هذا بعيد؛ لا يحتمل أن يخفى عليه وحي الشيطان من وحي جبريل عليه السلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا): من بين يدي من يبلغ الرسالة إلى الرسول، وهو الملك الذي ينزل بالوحي، جعل بين يديه ومن خلفه ملائكة يرصدونه؛ كي لا يستلب الشيطان عنه، ويحدِثُ فيه حدثا من التغيير والتبديل؛ ليعلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه إنما يبلغ إليه رسالات ربه. وهذا بعيد أيضا؛ لأن للمبلغ من القوة ما يدفع أذى الجن عن نفسه، وهو أمين لا يخاف منه التغيير والتبديل حتى يجعل عليه الرصد؛ فيؤمن من تبديله؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)، فوصفه الله تعالى بالقوة والأمانة جميعا. لكنه جائز أن يكون المبلغ ممتحنا بالتبليغ، والذين معه من الرصد امتحنوا بأمور أخر،

(28)

لا أن جعلوا رصدا من الجن. وجائز أن يكونوا أرسلوا معه؛ لمكان تعظيم الوحي، وتشريف الرسالة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28). قال قائلون: ليعلم مُحَمَّد بالرصد: أن قد بلغ سائر الرسل رسالات ربه على الوجه الذي أمروا كما بلغ هو. والثاني: أن يعلم كل في نفسه: أن قد أبلغ رسالات ربه. أو ليعلم الأعداء أن قد أبلغ مُحَمَّد - عليه السلام - رسالات ربه على الوجه الذي أمر، لم يقع فيه تغيير من شيطان، ولا جني، ولا عدو. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ). أي: بما عند الرسل، أو بما عند الملائكة، أو بما عند الخلق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) أي: أحاط العلم بالذي هو معدود، لا بالعد، وهو كقوله: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)، أي: ما يوزن عند الخلق. أو أحاط العلم بما لدى الكفرة لا بالرصد، وأن في نصب الرصد محنة وتكليفا على الرصد، لا أن يقع بهم الحفظ، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، فبين أن النصر من عنده، وأن الملائكة إنما أرسلت؛ لتطمئن بها قلوب المؤمنين، وتركن إليها طباعهم. (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا)، أي: كل شيء عنده معدود ومحصى، لا يغفل - جل جلاله - عن معرفة عدده، ولا يعتريه أحوال يعزب عنه فيها علم ذلك، خلافا لما عليه أمر الخلق، واللَّه الموفق، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله أجمعين. * * *

سورة المزمل

سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ). المزمل والمدثر يقتضيان معنى واحدا، على ما نذكر في سورة المدثر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ). جائز أن يكون هذا الأمر كله منصرفا إلى وقت واحد، فإذا صرفته إلى وقت واحد، فإما أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) منصرفا إلى قوله: (قُمِ اللَّيْلَ)، أو إلى قوله: (إِلَّا قَلِيلًا)، فإن صرفت النقصان إلى قوله: (إِلَّا قَلِيلًا)، زدت في الأمر بالقيام، وإن صرفت النقصان إلى قوله: (قُمِ اللَّيْلَ)، فقد زدت في قوله: (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا)؛ فإلى أيهما صرف، اقتضى الزيادة في أحدهما، والنقصان في الآخر؛ فيتفق معناهما، وهذا نظير قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ)؛ فمنهم من جعل الكلالة اسما للميت الموروث عنه، ومنهم من أوقع هذا الاسم على الحي الذي يرث الميت، وأيهما كان فهو يقتضي معنى واحدا؛ لأن منزلة الحي من مورثه ومنزلة المورث من الحي واحدة، لا تختلف. وجائز أن يكون هذا على اختلاف الأوقات، على ما ذكره أهل التفسير؛ فيكون قوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) أمرا بإحياء أكثر الليل، ثم يكون في قوله: (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا) تخفيف الأمر عليه؛ فيكون فيه أن له أن ينقص عن الأكثر. وقوله: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ)، أي: على المقدار الذي أبيح له الانتقاص، وإذا ارتفع

(4)

الانتقاص عاد الأمر إلى ما كان مأمورا به في الابتداء. ثم القليل ليس باسم لأعين الأشياء؛ ولكنه من الأسماء المضافة، فإذا قيل اقتضى ذكره تثبيت ما هو أكثر منه حتى يصير هذا قليلا إذا قوبل بما هو أكثر منه؛ فلذلك قالوا بأن قوله (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا)، يقتضي أمر القيام أكثر الليل؛ ولهذا قال أصحابنا فيمن أقر أن لفلان عليه ألف درهم إلا قليلا: إنه يلزمه أكثر من نصف الألف؛ لأنه استثنى القليل؛ فلا بد من أن يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى حتى يكون المستثنى قليلا، كما استثنى، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4): الترتيل، هو التبيين في اللغة، أي: بينه تبيينا. وقيل: اقرأه حرفا حرفا على التقطيع؛ لما ذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقطع القراءة، ولكن جائز أن يكون على قراءة التقطيع؛ لأن التبيين كان في تقطيعه؛ وإنما أمر بالتبيين لأن القرآن لم ينزل لمجرد قراءته فقط، لكنه لمعان ثلاثة: أحدها: أن يقرأ للحفظ والبقاء إلى يوم القيامة؛ لئلا يذهب، ولا ينسى. والثاني: أن يقرأ؛ لتذكر ما فيه، وفهم ما أودع من الأحكام، وما لله عليهم من الحقوق، وما لبعضهم على بعض. والثالث: يقرأ؛ ليعمل بما فيه، ويتعظ بمواعظه، ويجعلونه إماما يتبعون أمره، وينتهون عما نهى عنه؛ فنفذ قراءته في الصلاة يلزمنا هذا كله، ولا ندرك ذلك إلا بالتأمل، وذلك عند قراءته على الترتيل، وهذا الذي ذكرناه يوجب اختيار من يرى الوقوف في القرآن؛ لأن ذلك يدل على المعنى وأقرب إلى الإفهام. وفيه دلالة أن المستحب فيه ترك الإدغام، وترك الهمز الفاحش؛ لأن ذلك أبلغ في

(5)

التبيين، والأصل أن السامع للقرآن مأمور بالاستماع إليه، وإذا لزمه الاستماع، وفي الاستماع الوقوف على حسن نظمه وعجيب حكمته، والوقوف على معانيه؛ فلزم القارئ تبيينه؛ ليصل السامع إلى معرفة معانيه، ويقف على حسن نظمه، وعجيب تأليفه، وذلك يكون أقرب في إفهام السامع والقارئ؛ لما فيه من لطائف المعاني. ثم الترتيل منصرف إلى القراءة، وسمى القراءة: قرآنا على جهة المصدر؛ إذ ما هو كلام اللَّه تعالى لا يوصف بالترتيل، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) ولم يقل: ثقيلا على من؟ فجائز أن يكون الثقل راجعا إلى الكفرة والمنافقين، ويكون الثقيل الأمر بالجهاد؛ لأنه اشتد على الفريقين جميعا، وأيس الكفار من المسلمين أن يعودوا إلى ملتهم؛ قال اللَّه تعالى: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ)، وتخلف المنافقون عن القتال مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وثقل ذلك عليهم، فجائز أن يكون قوله (ثَقِيلًا)؛ أي: على الكفرة والمنافقين، وكذا على أهل الكبائر ثقيل أيضا؛ لأنهم لم يتمنوا أن ينزل عليهم الكتاب، وأما على المسلمين فليس بثقيل بل هو كما قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ). وجائز أن يصرف ذلك إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أمر بتبليغ الرسالة إلى الفراعنة وإلى الخلق كافة، وفي القيام بالتبليغ إلى الفراعنة مخاطرة بالروح والجسد، والقيام بما فيه مخاطرة بالروح والجسد أمر ثقيل صعب جدًّا. أو يكون ذلك منصرفا إلى قيام الليل؛ فيكون معنى: (قَوْلًا ثَقِيلًا): أي الوفاء بما يوجبه ذلك القول. وجائز أن يكون هذا منصرفا إلى اتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأنصاره؛ فيكون ثقله من الوجه الذي كلفوا القيام بفرائضه، وحفظ حدوده، وتحليل حلاله، واجتناب حرامه. وزعمت الباطنية أن القول الثقيل هو أن كلف الناطق - وهو الرسول عليه السلام - بتفويض الأمر إلى الأساس، وهو الباب، وذلك الأساس والباب هو علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عندهم، وهم يسمون الرسول - عليه السلام -: ناطقا، ويقولون بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان مأمورا بتبليغ التنزيل إلى الخلق؛ فلما بلغ التنزيل إليهم،

واستغنوا عنه، احتاجوا إلى من يعلمهم التأويل؛ فأمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بأن يسند أمر التأويل إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليكون هو الذي يتولى تعليم الخلق تأويله؛ فذلك هو القول الثقيل؛ إذ أمر أن يستند إلى غيره؛ فاشتد عليه إذ صار غيره ولي الأمر، وبقي هو ساكنا لا ينطق. فيقال لهم: إن في الأمر بإسناد الأمر إلى من ذكر تخفيفَ الأمر على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بزعمكم؛ لأن من مذهبكم: أنه إذا فوض الأمر إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبض هو - عليه السلام - وصورة القبض عندكم: أن يميز الصورة الروحانية النورانية من الصورة الجسدانية التي كانت محتبسة في الصورة الجسدانية، ثم تتلف الصورة الجسدانية، وتبعث الصورة الروحانية النورانية إلى دار الكرامة والحبور والخلاص من الحبس - لم يشتد ذلك عليه، ولم يثقل؛ بل كان فيه ما يرغبه إلى التفويض، ويدعوه إليه. ومن مذهب الباطنية: أنهم لا يعلمون أحدا مذهبهم إلا بعد أن يحلفوه بالأيمان المغلظة بألا يخبر به أحدًا؛ إشفاقا على أنفسهم، ولو كان الأمر على ما قدروا أن التلف يرد على الصورة الجسدانية التي هي سبب لحبس الصورة أن روحانية، وإذا تلفت ردت الروحانية إلى دار فيها كل أنواع السرور - فما الذي يحوجهم إلى الاستحلاف، وما بالهم يشفقون على أنفسهم، وليس في إتلاف أنفسهم إلا الخلاص من الحبس، والوصول إلى الكرامات، ومن هذا وصفه حق عليه الموت؛ ليعلموا أنهم يعاملون الخلق على خلاف ما يوجبه اعتقادهم، ولو كان ما اعتقدوا حقا، لما استجازوا مخالفته، ولكن الذي دعاهم إلى ما ذكرنا تسويل الشيطان وتزيينه في قلوبهم، وما مثلهم إلا مثل اليهود، الذين ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس؛ فقيل لهم: (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)؛ لأنكم لا تصلون إلى الآخرة إلا بالموت، فإن كنتم محقين في دعواكم فتمنوا الموت؛ لتصلوا إليها؛ فكان في امتناعهم عن التمني ما يظهر كذبهم، ويبطل مقالتهم، ويبين تمويههم؛ فكذلك في إشفاق هَؤُلَاءِ على أنفسهم من الهلاك إظهار وإنباء أنهم قصدوا به قصد التمويه على الضعفة؛ ليصلوا إلى المأكلة

ويتوسعوا به في أمر دنياهم من غير حجة لهم في ذلك. وبهذا الفصل الذي ذكرنا يحتج على الثنوية؛ فإن من مذهبهم تحريم القتل والذبح، وأحق من يرى القتل والذبح مباحين هم؛ لأن من مذهبهم: أن العالم إنما هو بامتزاج النور والظلمة، فما من جزء من أجزاء النور إلا هو مشوب بجزء من أجزاء الظلمة، وكانا متباينين، فغلبت الظلمة على النور، فامتزجت به؛ فصارت الظلمة حابسة للنور، ومعلوم أن في القتل تخليص أجزاء النوراني من حبس الظلمات؛ لأن في القتل إزالة السمع والبصر والعقل، ومعلوم أن السمع والبصر في هذه الأشياء، إذ بها رؤية الأنوار، فإذا امتازت هذه الأشياء من الجسد، وبقي الجسد الظلماني لا يبصر شيئا، فقد وصل جوهر النور إلى غرضه ومقصوده بالقتل، وصار إلى مقره، فإذا كان القتل يوصله إلى غرضه ويخلصه عن وثاق الظلمة وحبسه، فقد أحسن القاتل إليه بالقتل والذبح؛ فلا يجيء أن يجرَّم القتل على مذهبهم: بل يجب أن يمدح المرء على ذلك الفعل، ويستصوب ذلك منه. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: القول الثقيل كلام اللَّه تعالى، وثقله: هو تبجيله وتعظيم حرمته، ليس كلام السفهاء الذي لا يكترث به، ولا يؤبه له. وقال الزجاج: الثقيل: الوزين، أي: الذي له وزن وقدر في القلوب، الذي يجب أن يعظم ويوقر، ليس بالقول الذي يستصغر. وجائز أن يكون القول الثقيل هو الحق؛ على ما روي في بعض الأخبار: " إن الحق ثقيل مر، والباطل خفيف وفر ". وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " حق لميزان لا يوضع فيه إلا الخير أن يثقل، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف "؛ فيكون ثقله العمل بما فيه.

(6)

وجائز أن يكون القول الثقيل هو تكليف القيام عامة الليل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6): قرئ: (وطاء) و (وَطْئًا)، فمن قرأ: (وطاء) بالمد، فتأويله من المواطأة، وهي الموافقة، أي: موافق للسمع، والبصر، والفؤاد؛ لأن القلب يكون أفرغ بالليالي عن الأشغال التي تحول المرء عن الوصول إلى حقيقة درك معاني الأشياء، وكذلك السمع والبصر يكون أحفظ للقرآن، وأشد استدراكا لمعانيه. ومن قرأه: (وَطْئًا)، فهو من الوطء بالأقدام؛ فتأويله: أنه أشد على البدن وأصعب؛ لأن المرء قد اعتاد التقلب والانتشار في الأرض بالنهار، ولم يعتد ذلك بالليل، بل اعتاد الراحة فيه، فإذا كلف القيام والانتصاب برجليه في الوقت الذي لم يعتد فيه القيام، كان ذلك أشد عليه وأصعب على بدنه. ولأن المرء بالنهار ليس ينتصب قائما في مكان واحد، فيمكث فيه كذلك؛ بل ينتقل من موضع إلى موضع، ولو كلف الانتصاب في مكان اشتد عليه ذلك، ولحقه الكلال والعناء من ذلك. ثم أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن ينتصب قائما يصلي إلى نصف الليل أو أكثر؛ فكان في ذلك محنة شديدة، وكلفة شاقة، واللَّه أعلم. ثم الأصل أن المرء ينتشر بالنهار؛ لطلب ما يعيش به وليصل إلى ما يتمتع به في أمر دنياه، وينام الليل؛ طلبا للراحة، وإيثارًا للتخفيف، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ممنوعا عن اكتساب الأشياء التي يتوصل بها إلى سعة الدنيا إلا القدر الذي يقيم به مهجته، وكذلك منع عن الراحة بالليالي، وأمر بإحياء الليل إلا القدر الذي لا بد منه، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون في الأمر بقيام الليل نوع من الراحة والتخفيف؛ وذلك أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألزم بتبليغ الرسالة إلى الناس كافة، فحُمِّل تبليغها إليهم بالنهار، ورفعت عنه الكلفة بالليل، وأمر بأن يتفرغ لعبادة ربه، وكان الأمر بالتفرغ للعبادة أيسر من الأمر بتبليغ الرسالة؛ لأن في الأمر بالتبليغ أمرًا بما فيه المخاطرة بالروح والجسد، وليس في الأمر بالانتصاب قائما أكثر الليل ذلك؛ وإنَّمَا فيه إيصال الوجع إلى بعض أعضائه؛ فيكون

فيه بعض التخفيف. فَإِنْ قِيلَ على التأويل الأول: كيف خص رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في باب النكاح؛ حيث أبيح له فضل العدد، ولم يبح لأمته، وفي ذلك زيادة تمتع بشهوات الدنيا؟ فجوابه أن يقال: بأن المعنى الذي به حظر على غيره الزيادة على الأربع، وقصر الأمر على الأربع هو خوف الجور؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)، وإذا كان التحريم للوجه الذي ذكرنا، ارتفع الحظر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عصمه عن الجور، ومكنه من العدل بين نسائه، ثم ليس في إباحة زيادة العدد سوى فضل محنة وكلفة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه إذا أمر أن يقوم فيما بينهن بالعدل، وأن يبتغي مرضاتهن بحسن العشرة معهن، وإنما يصل المرء إلى الإرضاء بالأموال، ولم يتمتع هو من الدنيا مقدار ما يصل إلى إرضائهن بالأموال، ولم يتهيأ له أن يصيبهن إلا بسعة الأخلاق، وأن يبين لهن لتقر أعينهن ولا يحزن - فثبت أنه ليس في إباحة العدد فضل تمتع، بل فيه زيادة محنة وابتلاء. وفيه أيضا ما يحقق رسالته، ويثبت نبوته؛ لأن المرء إنما يصل إلى توفير الحقوق الواجبة عليه بالنكاح إذا تناول من فضول الدنيا وطعم لذاتها، وأعطى النفس شهواتها، ثم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان ممنوعا من إعطائه النفس شهواتها، ومع ذلك قام بإيفاء حقوق الأزواج؛ فثبت أنه باللطف من اللَّه تعالى وصل إلى إيفاء حقهن، ليس بأسباب البشرية. وفي هذه الآية دلالة أن الصلاة تشتمل على الذكر والفعل جميعا؛ لأنه قال: أشد على البدن، وشدته تكون بالفعل، وقال: (وَأَقْوَمُ قِيلًا)، وذلك يرجع إلى الذكر. ثم يجوز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكلف تبليغ الرسالة بالليالي؛ لأن أعداءه من الفراعنة وغيرهم كانت همتهم أن يقتلوه ويمكروا به، ولم يكن يتهيأ لهم إيصال الأذى به؛ لمكان أتباعه، والليالي هي أوقات غفلة الأتباع، فلو كلف التبليغ فيها لتمكنوا من إيصال المكر به؛ فوضع عنه التبليغ، وامتحنه بالقيام لعبادة ربه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قيل: هو من نشأ ينشأ، أي: نما، فسميت: ناشئة؛ لأن الأوقات تحدث، وتترادف. وجائز أن يكون المراد من ناشئة الليل، أي: ما يوجد من الأحوال في الليل من القيام للصلاة، والاشتغال بعبادة الرب، جل جلاله.

(7)

وقوله: (وَأَقْوَمُ قِيلًا)، أي: أصوب كلاما، والأقوم: هو المبالغة في الوصف بما أريد بالقيام؛ فإن أريد به الكلام، فحقه أن نصرفه إلى الصدق؛ إذ الأقوم من الأخبار أصدقها، وإن أريد به القيام بقاء ما يقتضيه لك الكلام فمعنى قوله (وَأَقْوَمُ)، أي: أبلغ في وفاء ما يوجبه القول، وإن أريد به القراءة نفسها فهو بالليالي أقوم قراءة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7): أي: فراغا وسعة ومنقلبا؛ فالسبح يذكر ويراد به الفراغ، ويذكر ويراد به المشي والتقلب، وهذا الذي قالوه محتمل، ولكن لا يجيء أن يصرف تأويل الآية إلى الفراغ، والتقلب إلى حوائج نفسه؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يتناول من الدنيا إلا قدر ما يقيم به مهجته؛ فلا يحتاج إلى فضل تقلب، ولا إلى كثير فراغ؛ ليتوسع في أمر دنياه. ولكن حقه أن يصرف قلبه إلى تبليغ الرسالة، ودعاء الخلق إلى توحيد اللَّه تعالى، وإلى ما يحق عليهم؛ فيكون في قوله: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) ترخيص لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أن ينصب بالليالي للقيام بين يديه، واجتزأ منه بتبليغ الرسالة بالنهار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ... (8). أي: اذكر ربك؛ دليله قوله على أثره: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)، والتبتل يقع إليه لا إلى اسمه، ثم ذكر المولى - جل جلاله - هو أن ينظر إلى أحوال نفسه، ما الذي يلزمه من العبادة في تلك الحال؟ فيكون ذكر ربه بإقامة تلك العبادة، لا بأن يذكر اللَّه تعالى بلسانه فقط، وهو كقوله: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، واستغفارهم أن يأتمروا بما أمروا، وينتهوا عما نهوا، لا أن يقولوا بألسنتهم: " نستغفر اللَّه "؛ لأنهم وإن قالوا " نستغفر اللَّه "، لم يقبل ذلك منهم إذا كانوا كفرة؛ فثبت أن استغفارهم أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه نوح؛ فكذلك ذكر اللَّه تعالى يقع بوفاء ما يلزمهم حالة القيام به، وذلك يكون بالأفعال مرة، وبالأقوال ثانيا. ومنهم من صرف الأمر إلى الاسم على ما يؤديه ظاهر اللفظ، فأمر بذكر اسم الرب لما يحصل له من الفوائد بذكره؛ لأن من أسمائه أسماء ترغبه في اكتساب الخيرات والإقبال على عبادة الرب، ومنها ما يدعو الذاكر إلى الخوف والرهبة، ومنها ما يوقفه على عجائب حكمته، ولطيف تدبيره، وتقرير سلطانه وعظمته في قلبه، ومنها ما يحدث له زيادة علم وبصيره، وهي الأسماء المشتقة من الأفعال، فإذا تأمل فيها عرف الوجه الذي

(9)

منه اشْتَقَّ تلك الأسماء، فذكر أسمائه يحدث له ما ذكرنا من الفوائد والعلوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا). التبتل هو الانقطاع إلى اللَّه تعالى، وأن يقطع نفسه من شهواتها، ويصرفها عن لذاتها؛ فكأنه قال: وتبتل إليه، وبتل نفسك تبتيلا من الشهوات واللذات؛ ولذلك سميت مريم - رضي اللَّه عنها -: البتول؛ لأنها قطعت نفسها عن منافع الدنيا، وأقبلت إلى الآخرة، وانقطعت إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9). قال أبو بكر الأصم: تأويله: ملك المشرق والمغرب، وحقه أن يقال: مالك المشرق والمغرب؛ لأنه هو المالك على التحقيق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرب هو المصلح، ثم خص المشرق والمغرب بالذكر وإن كان هو مالكهما ومالك الخلائق أجمع؛ لأن ذكر المشرق يقتضي ذكر السماوات والأرضين، وفي ذكر السماوات والأرضين ذكر أعلى العليين وأسفل السافلين؛ لأنه إذا نظر إلى المشرق ورأى ما يطلع في المشرق من عين الشمس، ثم تجري في أقطار السماء، وتقطع كل يوم مسيرة ألف عام، ثم تغرب في عين حمئة؛ فتصير إلى أسفل السافلين، وتجري كذلك حتى تصل إلى مطلعها، ثم تطلع هنالك؛ فدل ذلك على أن مدبر السماوات والأرضين ومنشئهما واحد، وأن سلطانه في الأرض كسلطانه في السماء، ويعلم أن من بلغت قدرته هذا المبلغ في أن يسير عين الشمس في يوم واحد مسيرة ألف عام ما يشتد على الخلق قطع هذه المسافة في مدد كثيرة - لا يجوز أن يعجزه شيء، ودل على أن ملكه دائم لا ينقطع؛ لأن عين الشمس تجري في كل يوم، على ما سخرت، لا تتبدل، ولا تتغير باختلاف الأزمنة والأوقات، وجعل منافع أهل الأرض متصلة بمنافع السماء، ولو لم يكن مدبرهما واحدا لارتفع الاتصال، وانقطعت منافع السماء عن أهل الأرض؛ فكان في ذكر المشرق والمغرب دلالة وحدانيته، وإظهار قوته وسلطانه، والوقوف على عجائب حكمته ولطائف تدبيره. ثم تخصيص ذكر المشرق والمغرب دون السماء والأرض؛ هو - واللَّه أعلم - لأن هذا أوصل إلى معرفة التوحيد، وأسرع إلى الإدراك من ذكر السماوات والأرض، وإن كان

(10)

في التدبر في أمر السماء والأرض تحقيق ذلك. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)، أي: الذي أمرت بذكره هو رب المشرق والمغرب، وفيه تعريف الوجه الذي يوصل إلى معرفة ربوبيته. وقوله: (لَآ إلَهَ إِلَّا هُوَ)، أي: لا معبود يستحق العبادة إلا هو؛ لأن الذي يحمل الإنسان على عبادة المعبود الخوف والرجاء، وإذا عرفهم بذكر المشرق والمغرب أن تدبير الخلائق كلها راجع إليه، وأنه هو القاهر عليهم والقادر عليهم، وبيده الخزائن والمنافع أجمع، علموا أنه هو الإله الحق، والرب القاهر، وأن من سواه مربوب مقهور، لا يملك نفعا ولا ضرًّا، فكيف يستوجب العبادة والإلهية؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا): جائز أن يكون أراد به أن كِلْ أمورك كلها إلى اللَّه تعالى حتى يكون هو الذي يدبر ويحكم، ولا تر لنفسك فيها تدبيرا. والوكيل في الشاهد هو الذي يدخل في أمر آخر على جهة التبرع؛ لينصره فيه، ويعينه؛ فيكون قوله: (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا)، أي: اطلب من عنده النصر والمعونة، والمرء في الشاهد إنما يفزع إلى الوكيل؛ ليزيح عن نفسه علله، ويقضي عنه حوائجه، ويقوم عنه في النوائب؛ فكأنه يقول: افزع إلى اللَّه تعالى في نوائبك؛ فيكون هو الذي يزيح عنك العلل، ويقضي عنك الحوائج، ويكون معتمدك في النوائب، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10). قال أهل التفسير: تأويله: اصبر على تكذيبهم إياك؛ ألا ترى إلى قوله في سياق الآية: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ)، فثبت أنه دعي إلى الصبر على التكذيب. وجائز أن يكون منصرفا إلى هذا وإلى غيره؛ لأنهم كانوا لا يقتصرون على تكذيبه، بل كانوا ينسبونه إلى الكذب مرة، وإلى السحر ثانيا، وإلى الجنون ثالثا، وإلى أنه يتيم رابعا؛ فكانوا يؤذونه بأنواع الأذى؛ فجائز أن يكون قوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) منصرفا إلى كل ذلك. ثم الأمر بالصبر يقع بخصال ثلاث: أحدها: ألا تجازهم على تكذيبهم إياك تكذيبك إياهم، أو لا تجزع عليهم، وفي

الجزع بعض التسلي والتشفي. ولا تدع عليهم بالهلاك والتبار بل اصبر لذلك. ولقائل أن يقول: كيف كان يشتد عليه تكذيبهم إياه حتى كاد يتحزن لذلك، والذين نسبوه إلى الكذب كانوا من أعدائه، وليس يستثقل التكذيب من العدو، ولا يستكثر منه؛ لأنه بما يعاديه يعتقد أن يسيء إليه بجميع ما يمكنه وسعه، وإنما يستثقل التكذيب من أهل الصفوة والمودة؛ فكيف استثقله؟ وكيف بلغ به التكذيب مبلغا يحزن به؛ حتى يدعى إلى الصبر بقوله: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. . .) الآية، وبقوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)؟ والجواب عن هذا أن الكذب والجهل مما يستثقلهما العقل والطبع جميعا، وكذلك التكذيب والتجهيل، أمر ثقيل على الطبع والعقل جميعا، حتى إن الكذاب إذا نسب إلى الكذب، اشتد عليه ذلك، ولم يتحامل، وكذلك الجهول إذا عرف بالجهل، ثقل ذلك عليه؛ فإذا كان التكذيب مستقبحا في عقول الخلق وطبائعهم، وإن كانت طبائعهم مشوبة بالآفات وفي عقولهم نقص، فرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع صفاء عقله، وسلامة طبعه عن الآفات أحق أن يثقل عليه؛ فيحزن لذلك. ثم ما من إنسان ينسب إلى الكذب فيما يحدث عن نفسه أو عمن سواه من الخلائق ممن علت رتبتهم أو انحطت إلا وهو يجد لذلك ثقلاً، فكيف إذا أخبر عن اللَّه تعالى وكذب فيه، أليس هذا أحق أن يثقل على القلب ويتحزن له؟! ويجوز أن يكون حمله على الحزن شدة إشفاقه على المكذبين؛ لأن تكذيبهم يفضي بهم إلى العطب والهلاك؛ فأشفق عليهم باشتغالهم بما به هلاكهم، وحزن لذلك. أو يكون حزنه غضبا لله تعالى؛ إذ الرسل كانوا يغضبون لله تعالى، ويشتدون على أعدائه. والجواب عن قوله: إن المكذبين كانوا من أعدائه، فكيف اشتد عليه تكذيبهم، وذلك أمر غير مستشنع من الأعداء؟ فنقول: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يعاملهم معاملة الولي مع

وليه الصفي، ولم يكن يعاملهم بما يعامل به الأعداء؛ لأنه كان يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم، ومن عامل آخر معاملة أقرب الأصفياء معه، كان الحق عليهم أن يجازوه بالإحسان؛ فإذا تركوا ذلك، وقابلوه بالتكذيب، اشتد عليه، وحزن لذلك. ثم في قوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)، وفي قوله: (وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)، إبطال قول من قال: إن اللَّه تعالى لا يفعل بعبده إلا ما هو أصلح له؛ لأنا نعلم أنه إذا أذن لنبي من الأنبياء بالدعاء على استعجال الهلاك، واستجيب له فيما دعا، كان فيه ما يحمل القوم على الإيمان، ويردعهم عن التكذيب؛ لأنهم يخافون حلول النقمة عليهم؛ فيتركون التكذيب، ويقبلون على الإجابة؛ فيكون فيه نجاتهم عن الهلاك، وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم، فإذا لم يؤذن دل أنه ليس من شرط اللَّه تعالى أن يفعل بعباده ما هو أصلح لهم. فَإِنْ قِيلَ: كيف لم يؤذن بالدعاء عليهم؛ ليحملهم ذلك على الإسلام، ويمنعهم عن التكذيب؟ قيل له: لأن فيما ذكرته رفع المحنة والابتلاء؛ لأن الحجة إذ ذاك تقع من جهة الضرورة؛ لأنهم إذا علموا أنهم يستأصلون بالتكذيب، امتنعوا عنه، وأجابوا إلى الإسلام كرها؛ فتصير الحجج اضطرارية، لا تمييزية واختيارية، وحجج الرسل - عليهم السلام - اختيارية، لا ضرورية؛ لما ذكرنا أنها لو جعلت اضطرارية، لارتفعت المحنة؛ فجعلت حججهم من وجه يقع بها الشبه؛ ليوصل إلى معرفتها بالفكر؛ لئلا ترتفع المحنة. فإن قال قائل: إن أبا حنيفة - رحمه اللَّه - ذكر في كتاب العالم والمتعلم: أن إيمان الملائكة وإيمان الرسل وإيماننا واحد، ثم قال: فإذا استوينا نحن والرسل في الإيمان، فكيف صار الثواب لهم أكمل، وخوفهم من اللَّه أشد؟ فأجاب عن هذا السؤال بأجوبة، وقال في جملة ما أجاب: إنهم لو ارتكبوا الزلات يحل بهم العقاب عقيب الزلل؛ فصار خوفهم باللَّه تعالى ألزم من هذه الجهة. ولسائل أن يسأل على هذا، فيقول: فإذن إيمانهم باللَّه تعالى، وتركهم المعاصي ضروري لا اختياري؟! فيجاب عنه بأن يقال بأن الأنبياء - عليهم السلام - لم يُبَيَّنْ لهم العصمة، بل كانوا على خوف من وقوعهم في المهالك؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم - عليه السلام -: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، ولو كانت العصمة له ظاهرة، لكان يستغني عن السؤال.

وقال في قصة شعيب - عليه السلام -: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، فثبت أنه لم يبين لهم العصمة، ونحن إنما شهدنا لهم بالعصمة بالوجود؛ لأن الحكمة توجب العصمة، والرسل - عليهم السلام - أمروا بتبليغ الرسالة، ولم يؤذن لهم بالنظر في أمر من تقدمهم من الرسل؛ ليظهر لهم العصمة بالتدبر والتفكر؛ فثبت أنهم كانوا على الخوف والرجاء في فكاك أنفسهم، وفي وقوعها في المهالك، وأن إيمانهم باللَّه تعالى لم يكن ضروريًّا، بل وصلوا إلى معرفته بالتمييز؛ لذلك عظمت درجاتهم. والثاني: أن الأنبياء - عليهم السلام - قد كان تقرر في قلوبهم هيبة اللَّه تعالى وعظمته؛ فكانت المعرفة هي التي دعتهم إلى الإيمان به، لا خوف حلول العقوبة بهم لو ارتكبوا الزلات، وأما الكفرة، فلم يعرفوا عظمة اللَّه تعالى، ولا قدرته، ولا سلطانه حتى يحملهم ذلك على الإيمان به، فلو حلت العقوبة بهم بالتكذيب، لكان الخوف هو الذي يحملهم على الإيمان لا غير؛ فيصير إيمانهم ضروريا؛ فلهذا لم يعاقبوا بالتكذيب؛ لئلا ترتفع المحنة، وخولف بينهم وبين غيرهم، وهذا كما نقول بأن أنباء من تقدم من الرسل حجة لرسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في إثبات نبوته، وإن كانت تلك الأنباء قد عرفها أهل الكتاب، وأخبروا بها؛ لأن أهل الكتاب عرفوا تلك الأنباء بالتعلم والتلقين، ولم يختلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى من عنده علم تلك الأنباء؛ فعلم أنه باللَّه تعالى علم، لا بتعليم أحد؛ فصارت الأنباء حججا لذلك، ولو لم تصر لغيره حجة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا): جائز أن يكون تأويله: اهجرهم وقت سبهم، ونسبتهم إياك إلى ما لا يليق بك، ولا تعبأ بهم، ولا تكترث إليهم، وإلى ما يتقولون عليك؛ لأن ذلك بعض ما يزجر المتقول والساب عما هو فيه، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا). ويحتمل أن يكون تأويله: أن انقطع عنهم انقطاعا جميلا، والانقطاع الجميل: ألا يترك شفقته عليهم، ولا يدعو عليهم بالهلاك، ولا يمتنع عن دعائهم إلى ما فيه رشدهم

وصلاحهم؛ ولذلك قال في وقت أذاهم إياه: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ". ويحتمل أن يكون هجره إياهم هجرا جميلا هو ألا يكافئهم بالسيئة السيئة، بل يدفع السيئة بالحسنة؛ كقوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)؛ إذ ذاك أدعى للخلق إلى إجابة من يفعل ذلك بهم عند المعاملة، واللَّه أعلم. ثم من الناس من يقول بأن هذه الآية نسختها آية السيف. ومنهم من قال بأنها لم تنسخ، وصرفوا تأويل الآية إلى جهة لا يعمل عليها النسخ، وذلك أن في قوله: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) منع المكافاة لأجل ما آذوه، ولم يفرض عليه القتال؛ ليكافئهم بأذاهم، وينتقم منهم بذلك؛ بل رجع قتاله إلى نصرة الدِّين؛ ولتكون كلمة اللَّه تعالى هي العليا؛ لذلك لم يكن في آية السيف ما يوجب نسخ هذا، ولا نسخ العمل بقوله: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ). الثاني: أنه ليس في قتالهم انتقام منهم، بل فيه ما يدعوهم إلى الإيمان باللَّه تعالى ورسوله، واذا آمنوا بذلك نجوا من العقاب، وفازوا بعظيم الثواب؛ فيصير القتال رحمة لهم لا عقوبة. ووجه جعله رحمة: هو أنهم إذا رأوا غلبة المسملمين عليهم مع قلة عددهم والضعف الذي حل بأبدانهم؛ لاشتغالهم بعبادتهم ربهم، وكثرة عدد المشركين مع قوة أبدانهم - أيقنوا أنهم لم ينالوا الغلبة بالحيل والأسباب؛ بل اللَّه تعالى هو الذي قواهم عليهم، وقام بنصرهم؛ فيتقرر عندهم كون أهل الإسلام على الحق، وإذا أيقنوا بالحق التزموه فيحرزون به جزيل الثواب، وكريم المآب؛ فصار القتال رحمة لهم، لا أن يكون عقوبة عليهم؛ لسوء صنيعهم، وإذا كان كذلك، بقي العمل بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) ثابتا باقيا، وبهذا يجاب من سأل فقال: إن اللَّه تعالى يقول لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وفي القتال ترك الرحمة؛ فكيف فرض عليه؟ فيقال أن ليس في القتال ترك الرحمة؛ بل هو من أبلغ الرحمة وتمامها؛ إذ يحملهم على الإيمان، وترك التكذيب؛ فتعلو منزلتهم، ويشرف قدرهم في الدنيا والآخرة، والله أعلم.

(11)

وجواب آخر: أن يقال بأن الحجة في، القتال ليس في القتل؛ لأنهم إذا خافوا القتال، تركوا التكذيب، وأقبلوا على الداعي؛ ألا ترى أنه ذكر أن القوم قبل أن يفرض عليهم القتال، كان يدخل الواحد منهم بعد الواحد في هذا الدِّين؛ فلما شرع القتال، جعلوا يدخلون فيه فوجا فوجا، وقبيلة قبيلة. ثم إباحة القتل يكون بالضرورة؛ لأنهم إذا علموا أنهم لا يقتلون، لم يقع لهم الخوف بالقتال، وإذا لم يخافوا تركوا الإجابة؛ فشرع القتل فيه؛ لتحقيق الخوف؛ فلم يكن فيه ترك الرحمة، وهو كقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، وفي إقامة القصاص تلف النفس، وليس فيه إحياء، ولكن وجه الإحياء فيه: هو أن القاتل إذا فكر في قتل نفسه بقتل صاحبه، ردعه ذلك عن القتل؛ فيكون فيه إحياء النفسين جميعا؛ فيصير إيجاب القصاص سببا للإحياء في الحقيقة، وإن كان في الظاهر سببا للإتلاف؛ فكذلك هَؤُلَاءِ إذا أيقنوا بالقتل بامتناعهم عن الإجابة، تركوا الامتناع، وأقبلوا على الإجابة؛ فيكون موضوع القتل للرحمة في التحقيق، وإن كان في الظاهر خارجا مخرج ترك الرحمة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) ففيه أن أهل الخصب والرغد هم الذين اشتغلوا بالتكذيب، وهم الذين كانوا يصدون الناس عن سبيل اللَّه؛ كما قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا)؛ فخص أولي النعمة بالذكر لهذا. ثم في قوله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) إيهام بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سبق منه المنع، ولم يوجد من رسول اللَّه حيلولة ومنع، ولكن مثل هذا الخطاب موجود في كتاب اللَّه تعالى في غير آي من كتابه، وهو أن يخرج مخرجا يوهم أن هناك مقدمة، وإن لم يكن فيها مقدمة في التحقيق؛ قال اللَّه تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا)، ولم يكن فيه تحقيق الوضع، وإن كان الرفع يستعمل في الشيء الموضوع؛ فكان تأويل الرفع هاهنا بأنها خلقت مرفوعة. وقال: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ)، ولم تكن مرفوعة فوضعها، وكان معناه: أنها خلقت موضوعة. وقال يوسف - عليه السلام -: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، ولم يسبق منه دخول في دين أُولَئِكَ؛ فيكون تاركا له بعدما دخل فيه. وقال اللَّه تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا

(12)

أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)، ولم يقتضِ قوله: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) كونهم في الظلمات، ولا اقتضى قوله: (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) كونهم في النور، فيخرجهم منه، وإن كان في الظاهر يؤدي ذلك؛ فعلى ذلك قوله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) وإن كان في الظاهر يقتضي حيلولة ومنعا، فليس في الحقيقة إثبات منع. ويذكر غير هذا في سورة المدثر. ثم قوله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) معناه: لا تجازهم بصنيعهم، ولا تستعجل عليهم بالدعاء؛ بل أمهلهم قليلا (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ). وقيل في الفرق بين النِّعَمة والنَّعْمَةِ: إن النَّعْمَة ما يعطى للعبد إرادة استدراجه فيها وهلاكه، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ)، والنعم هي منة اللَّه تعالى على عباده؛ تفضلا عليهم، كقوله، (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)، واللَّه أعلم. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13). قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأنكال هي السلاسل والقيود. وقال أبو بكر الأصم: الأنكال: ما ينكل به ويعتبر به غيره؛ قال اللَّه تعالى: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً)، تأويله ما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى أيضا. فإن كان على ما ذكره أبو بكر الأصم فقد يكون في الدنيا، ويكون منصرفا إلى يوم بدر وكأن الأول أشبه. والجحيم: هو معظم النار. ثم في هذه الآية دلالة نبوة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وآية رسالته، لأن قوله: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا) وراجع إلى قوله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ)، فإن لهم لدينا أنكالا وجحيما، وإنما ينكلون ويعذبون بالجحيم إذا ماتوا على الكفر؛ ففيه إبانة أنهم يموتون وهم كفار، وعلى ذلك ماتوا، وختم أمرهم، ولم يُسلم منهم أحد؛ فيخرج ما أخبر عن غيب كما أخبر، وذلك لا يعلم إلا باللَّه - تعالى - فثبت أنه لم يخترعه من تلقاء نفسه، بل علم

(13)

باللَّه تعالى، وعلم الغيب من أعظم آيات رسالته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) فالذي يغص، ولا يقدر على ابتلاعه ليس بطعام في الحقيقة، وقال: (لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ)، والحميم ليس بشراب في التحقيق؛ ولكن سمي الأول: طعاما؛ لأنه يمضغ مضغ الطعام، والصديد والحميم يسيلان سيل الشراب، فذكر في الأول طعاما، وفي الثاني شرابا لهذا. ولأن الطعام اسم لما يطعم؛ فهو مطعوم، وإن كان كريها، والحميم مشروب وإن كان في نفسه كريها. ثم الأصل أن الكفرة بكفرهم تركوا شكر نعم اللَّه - تعالى ذكره - وقابلوها بالكفران؛ فأبدل اللَّه تعالى لهم في الآخرة مكان كل نعمة نقمة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا)، فأبدلهم مكان البصر عمى، ومكان السمع صمما؛ لتركهم شكر ما أنعموا من البصر والسمع واللسان، وأبدلهم مكان اللباس قطرانا، ومكان المراكب: السحْب إلى النار على أقدامهم ووجوههم؛ فكذلك أبدلهم مكان الطعام والشراب زقوما وحميما؛ لتركهم شكر نعم اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14). قد ذكرنا الرجفة في غير موضع. وقوله: (كَثِيبًا مَهِيلًا)، أي: رملا سائلا؛ ففيه إخبار عن شدة هول ذلك اليوم؛ لأن الجبال من أصلب الأشياء وأشدها في أنفسها، ثم يبلغ هول ذلك اليوم مبلغا لا يحتمله الجبال مع شدتها وصلابتها، فالإنسان الضعيف المهين أنَّى يقوم لشدته وهوله؟ فذكرهم حال ذلك اليوم؛ ليرتدعوا، وينتهوا عما هم عليه في التكذيب والضلال. * * * قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا). قوله: (شَاهِدًا عَلَيْكُمْ) قال أبو بكر الأصم: تأويله: مبينا لكم ما لله تعالى عليكم من الحق. وجائز أن يكون (شَاهِدًا عَلَيْكُمْ)، أي: لكم وعليكم جميعا؛ فيكون على الكفرة شاهدا بقوله: (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ)، ويكون للمؤمنين شاهدا، وقد

(16)

يذكر " عليكم " ويراد به " لكم " كقوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)، أي: للنصب؛ لأنهم كانوا يذبحون لها، لا عليها. وخص ذكر موسى - عليه السلام - وفرعون من بين الجملة؛ ففائدة ذكر التخصيص هو - واللَّه أعلم - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان منشَؤه بين ظهراني الذين كذبوه، ولم يكن وقفوا منه على كذبة قط؛ بل كانوا عرفوه بالصيانة والعدالة، وكان بمحل يرونه أهلا للشهادة؛ فكيف ينسبونه إلى الكذب، ولم يعهدوا ذلك منه، وكذلك موسى - عليه السلام - كان نشأ بين ظهراني أُولَئِكَ الذين أرسل إليهم، وكانوا عرفوه بالصيانة والعدالة، وعرفوا أنه يصلح للشهادة. ومنهم من يقول بأنهم ازدروا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واستصغروه؛ اعتبارا بما شهدوا من حاله عند الصغر؛ إذ كان نشوءه فيهم؛ وكذلك ازدروا بموسى - عليه السلام - حين بعث إليهم، واستخفوا به استخفافهم به في حال الصغر، حتى قالوا: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)، فنزل بهم ما نزل بأُولَئِكَ من الاستئصال بتكذيبهم إياه، وازدرائهم به، فذكرهم حال مكذبي موسى - عليه السلام - وما نزل بهم من مقت اللَّه تعالى بتكذيبهم وازدرائهم به ليعتبروا به؛ فينقلعوا عن الازدراء؛ لئلا يحل بهم ما حل بأُولَئِكَ. ولئلا يغتروا بقواهم، وكثرة عددهم وأموالهم؛ فإن مكذبي موسى - عليه السلام - كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا، وأشد بطشا؛ فلم يغنهم ذلك من اللَّه - تعالى - شيئا. وجائز أن يكون خص ذكر موسى - عليه السلام - وفرعون ونبأهما؛ لأن خبره كان منتشرا فيما بين أهل مكة؛ لأنهم كانوا جيرة اليهود الذين عندهم نبأ موسى - عليه السلام - وفرعون، فكانوا يخبرونهم بما حل بفرعون وقومه بتكذيبهم الرسول؛ فذكرهم نبأ موسى - عليه السلام - لينتهوا عما هم عليه من التكذيب. ولأن لله تعالى أن يحتج عليهم بآحاد الحجج، وله أن يحتج عليهم بجملتها؛ إذ في ذلك قطع الشبه، وإزاحة العذر. أو ذكرهم نبأ موسى - عليه السلام - وقومه؛ لأن العهد بهم كان أقرب؛ إذ قومه كانوا آخر قوم استؤصلوا في الدنيا. وقوله: (فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) أي: شديدا: ومنه: المطر الشديد

(17)

يسمى الوابل. وقال أبو بكر: اسم لكل معضلة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) فهو يحتمل أوجها: أحدها: أي: كيف تتقون النار في الآخرة إذا سلكتم في الدنيا سبيلها -وهو الكفر- وأنتم تعلمون أن من سلك طريقا لشيء ولا منفذ لذلك الطريق إلا إلى ذلك الشيء؛ فإنه يرد عليه لا محالة. أو كيف تتقون النار في الآخرة، وقد تركتم القيام بما عليكم من شكر النعم. أو كيف تتقون العذاب في الآخرة وأنتم تدفعون إليها، وتضطرون بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ)، وبقوله: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ)، وبقوله: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ)، وقد مكنتم في الدنيا من الإيمان باللَّه تعالى، ومكنتم من الانتهاء عن الكفر، ثم لم تنقلعوا عنه، فأنى يتهيأ لكم المخلص من عذابه، وأنتم تدفعون إليه. أو كيف تنتفعون بإيمانكم في الآخرة، ولم تؤمنوا في الدنيا، وقد مكنتم به. والأصل أن دار الآخرة ليست بدار لاستحداث الأسباب، وإنما هي دار وقوع المسببات؛ فهم إذا لم يستحدثوا الأسباب التي جعلت لدفع العذاب في الدنيا، لم يمكنوا من استحداثها في الآخرة فينتفعوا بها، ولم يكونوا أهلا لوقوع المسببات؛ لما لم يستحدثوا الأسباب في الدنيا، وإنما قلنا: إنها ليست بدار محنة وابتلاء؛ لأن المحنة؛ لاستظهار الخفيات، والثواب والعقاب قد شوهد وعوين؛ فإذا قيل: إذا فعلت كذا، دخلت النار وهو يعاين النار، ويراها، فهو يمتنع عن الإقدام على ذلك الفعل، وإذا قيل له: إذا آمنت باللَّه تعالى أكرمت بالجنة، وهو يشاهد الجنة، ويراها، فهو يؤمن لا محالة؛ فلا وجه للابتلاء في الآخرة؛ بل هي دار وقوع المسببات يعني: الثواب والعقاب؛ والذي يدل على هذا قوله؛ (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا)، فأخبر أنهم يشيبون لا بسبب المشيب، والمشيب في الدنيا لا يوجد إلا بعد وجود سببه، وهو الكبر ليعلم أن الدار الآخرة ليست بدار استحداث الأسباب؛ فما يستحدثون من الإيمان باللَّه تعالى لا ينفعهم في ذلك اليوم، ولا يقيهم من عذاب اللَّه تعالى.

(18)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) جائز أن يكون هذا على التحقيق، فيشيب الولدان لهول ذلك اليوم، ويصير الشيب سكارى؛ لشدة هوله؛ كما قال تعالى: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى). وجائز أن يكون على التمثيل، لا على تحقيق الشيب، فمثله به؛ لعظم ذلك اليوم، وشدة هوله، وقد يجوز أن يمثل الشيء بما يبعد عن الأوهام تحقيقه؛ على تعظيم ذلك الشيء، كقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)، فذكر هذا على التمثيل؛ لعظم ما قيل فيه، لا على تحقيق الانفطار والانشقاق. وجائز أن يكون معناه: أنه لولا أن اللَّه - تعالى - بعثهم للإبقاء وألا يتغيروا، ولا يتفانوا، وإلا كان هول ذلك اليوم يبلغ مبلغا يشيب به الولدان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18). أي: بما يجعل الولدان شيبا، وهو هول ذلك اليوم، وشدة فزعه. أو منفطر بالغمام. وقيل: منفطر باللَّه، أي: بقضائه وحكمه، واللَّه أعلم. ثم قال: (مُنْفَطِرٌ بِهِ)، ولم يقل: " منفطرة "، والسماء مؤنث؛ فذكر الزجاج: أن معنى قوله: (مُنْفَطِرٌ بِهِ)، أي: ذات انفطار، فعبر بها كما يعبر عن الذكور؛ كما يقال: امرأة مرضع، أي: ذات إرضاع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا): أي: الذي وقع به الوعد مفعول، لا أن يكون الوعد هو المفعول، وكذا قوله: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)، والوعد لا يؤتى، بل الموعود هو الذي يؤتى، ولكن نسب الموعود إلى الوعد؛ لأنه من آثاره، وهذا كما يقال: المطر رحمة اللَّه، أي: برحمة اللَّه ما أمطروا، لا أن يكون المطر رحمته، ويقال: الصلاة أمر اللَّه، أي: بأمر اللَّه ما تقام، لا أن تكون أمره الذي يوصف به؛ فكذلك الموعود نسب إلى الوعد؛ إذ بالوعد ما استوجبوا، لا أن يكون الوعد هو المفعول وهو المأتي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ ... (19). جائز أن يكون قوله: (هَذِهِ) منصرفا إلى الأهوال التي ذكرها فيكون ذكرها تذكرة.

(20)

ويحتمل أن ينصرف إلى الرسالة، أي: رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تذكرة. ويحتمل: أي: هذه السورة، أو الآيات كلها تذكرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا): قَالَ بَعْضُهُمْ: من شاء اتخذ عند ربه جاهًا ومنزلة لنفسه. أو (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا). أي: إلى ما دعاه إليه ربه، وذلك يكون بالإجابة فيما دعاه إليه. أو من شاء اتخذ إلى ما وعد له ربه في الآخرة سبيلا في أن يقبل على طاعته، ويشغل نفسه بعبادته. * * * قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ): قال أبو عبيد: الصواب أن يقرأ: (وَنِصْفِهِ وثُلُثِهِ) بالخفض؛ على معنى إضافة (أَدْنَى) إليها، فكأنه يقول: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل، وأدنى من نصفه، وأدنى من ثلثه، و (أَدْنَى) يكون على الزيادة والنقصان جميعا؛ لأن فضل ما بين الثلث، إلى النصف هو السدس؛ فإذا زاد على الثلث أقل من نصف السدس، فهو إلى الثلث أدنى، وكذلك إذا نقص من الثلث شيئا قليلا، فهو إلى الثلث قريب؛ فيكون إليه أدنى، وكذلك الفضل فيما بين النصف إلى الثلثين هو السدس، فإذا زاد على النصف أكثر من نصف السدس، فهو إلى الثلثين أدنى، وإذا نقص من نصف السدس فهو إلى النصف أدنى وأقرب. ومنهم من اختار النصب فيهما، والوجهان جميعا محتملان؛ لأن قوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) ليس فيه إيجاب حكم مبتدأ؛ وإنما فيه إخبار عن القيام

الذي وجد من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فجائز أن يكون وجد منه ذلك كله، وهو أن يكون قريبًا من الثلثين، وقريبًا من النصف، وأدنى من الثلث؛ على ما ذكره أهل المقالة الأولى، ويكون قد قام أدنى من ثلثي الليل، وقام نصفه وثلثه، وأدنى من نصفه وأدنى من ثلثه، فذكر في الثلثين الأدنى؛ لما وجد منه الأدنى من جهة الزيادة والنقصان، ولم يوجد موافقة الثلثين، وأخبر بالنصف والثلث بالأمرين جميعا؛ لوجود الموافقة، وهو أن يكون قام نصف الليل، وقام ثلثه، وقام أدنى من النصف، وأدنى من الثلث، وإذا كان هذا كله محتملا، لم يجز أن يدفع أحد الوجهين، ويتمسك بالوجه الآخر؛ وهذا كقوله تعالى: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ)، فقرئ برفع التاء ونصبه جميعا؛ لما وجد الأمران جميعا، وهو أن يكون موسى - عليه السلام - وفرعون عَلِما بها أي: بالآيات جميعا. وكذلك قال في سورة سبأ: (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، وقرئ: (رَبَّنَا بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)؛ لوجود الأمرين جميعا وهو الدعاء والإجابة؛ فقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا بَاعِدْ) ودعاء، وقوله (رَبُّنَا بَاعَدَ) على الإجابة، ففرق بينهما بالإعراب؛ فكذلك هاهنا لما استقام وجود الوجهين من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، استقام أن يقرأ بالنصب والخفض جميعا، ويفرق بينهما بالإعراب، واللَّه أعلم. ثم يجوز أن يكون المفروض من القيام قدر ثلث الليل، ويكون الزيادة بحكم النافلة. ويجوز أن يكون كله مفروضا، وإن طال، وزاد على الثلث والنصف والثلثين، وإن كان يجوز له الاقتصار على ثلث الليل؛ ألا ترى أن فرض الركوع والسجود يقضي بإدراك جزء منه، وكذلك فرض القيام يقضي بالجزء منه، ثم إن الركوع وإن طال فهو من أوله إلى آخره فرض حتى لو أن داخلا شاركه في أول الركوع، ثم رفع رأسه، وشاركه ثالث في آخر ركوعه، ثم رفع رأسه مع الإمام، صار كل واحد منهم مدركا لفرض الركوع، وإن كان الإمام لو اقتصر على جزء منه، كفاه ذلك عن فرضه؛ فكذلك الفرض لما انصرف إلى قيام الليل فصار جميع ما يؤتى من القيام في الليل وإن طال فرضا، وإن كان قد يجوز الاجتزاء ببعضه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ): في هذه الآية، وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) - دليل على أن فرض القيام كان على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعلى من تبعه من المؤمنين، وإن كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو المخصوص

بالخطاب بقوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)؛ لأنه لو لم يكن الفرض شاملا لهم، لم يكن لقوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) معنى؛ ألا ترى أنه إذا لم يفرض علينا قيام الليل في يومنا هذا، لم نحتج في ترك القيام إلى أن يتوب اللَّه علينا. ثم إن اللَّه تعالى ذكر في التوبة وفيما فيه التبع خطابا يجمع الجميع بقوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ)، وبقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) وذكر فيما فيه الأمر خطابا يقتضي الآحاد، وهو قوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا)؛ ففي هذا أنه قد يجوز أن يخاطب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على إدخال غيره فيه تبعًا له، ولا يجوز أن يخاطب غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويراد به إشراك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذكر الخطاب؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو المتبوع؛ فجاز إلحاق غيره به، وغيره لا يكون متبوعا حتى يلحق به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ): فيه أن الليل والنهار ليسا يمضيان على الجزاف؛ ولكن بتقدير سبق من اللَّه - عز وجل - وآية ذلك ظاهرة؛ لأنهما يجريان مذ خلقهما على تقدير واحد، لم يتقدما، ولم يتأخرا، ولم ينتقصا ولم يزادا؛ فيكون فيه إبانة أن مدبرهما واحد، وأن الذي قدرهما هكذا ممن لا يبيد ملكه، ولا ينفذ سلطانه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ): قَالَ بَعْضُهُمْ: علم أن لن تطيقوه. قال أبو يكر الأصم: هذا لا يستقيم؛ لأنه لا جائز أن يكلفهم اللَّه تعالى ما لا يطيقونه؛ ألا ترى إلى قوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). وليس فيما ذكره أبو بكر ما يدفع هذا التأويل؛ لأنه يقال للأمر إذا اشتد وتعسر: لا يطاف هذا الأمر، وإن لم يكن ذلك خارجا من الوسع؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)، وتأويله: لا تحملنا أمرا يشتد علينا عمله، ليس أنهم خافوا أن يحملهم أمرا لا يحتمله وسعهم؛ فيكون قوله: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) -إن كان تأويله: أن لن تطيقوه- على ذلك، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله: (مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) أي: لا تحملنا أمرا تهلك فيه طاقتنا، لا أن

تحملوا أمرا لا يطيقونه؛ ألا ترى الإنسان يحتمل القتل، ولكن قتله يهلك طاقته. وجائز أن يكون قوله: (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)، أي: اعصمنا من الشهوات واللذات؛ لئلا نؤثرها؛ فنكون مضيعين بارتكابها قوة الفعل الذي تعبدنا به؛ فلا نصل إلى فعله، وهذه هي القوة التي لا تزايل الفعل، بل تطابقه، وأما الفعل الذي هو خارج عن احتمال الوسع والطاقة، فذلك هو الذي لا يقع بمثله التكليف. وجائز أن يكون تأويل قوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ)، أي: لن تحصوا حد ما أمركم به، لو أخذ عليكم في أمر بتقدير الثلث والنصف، لم يمكنكم ذلك إلا بعد جهد؛ ففرض عليكم قيام الثلث من الليل، وجعل لكم الإمكان في أن تزيدوا عليه فيحيط عملكم بقيام الثلث، ولو كان على حد واحد، لم يمكنكم حفظه إلا بعد شدة وجهد، وفي ذلك كلفة عسيرة. ويؤيد هذا تأويل من قال: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ)، أي: لن تطيقوه، وتكون الطاقة عبارة عن التعسير، واشتداد الأمر. ثم في هذه الآية دلالة على إباحة تعليق الحكم بالاستحسان، لأنه قد فرض عليهم قيام ثلث الليل، ولا يمكنهم تدارك الثلث بتقدير الإحاطة، وإنما يمكنهم بالتقدير الذي يغلب على القلب؛ فثبت أنه قد يجوز أن يكون الحكم معتبرا بما يقع في القلوب، ويغلب على الظنون، والاستحسان ليس إلا تعليق الحكم بما يغلب على القلوب. والذي يدل على أن الحكم لازم بما ذكرنا: أن اللَّه تعالى ألزم الحد على القاذف وعلى الزاني، ولم يبين مبلغ وقوع الضرب فيه، ولا ما يضرب به، فقدر ذلك بما يقع في القلوب أن مثل هذا الضرب يصلح لمثل هذه الجناية، وكذلك قيم الأشياء، والأروش، والنفقات، وتسوية المكاييل، والموازين يعتبر ذلك كله بغلبة الظنون من غير أن كان في شيء من ذلك أصل تقدر النوازل به وتنتزع منه؛ فثبت أنه يجوز أن يحكم بالذي يغلب على القلوب، وأن المجتهد يرجع إلى وجهين: مرة ينظر غيره فيتمثل بها؛ فيسمى ذلك: قياسا، ومرة يحكم فيها بما يغلب على الظنون؛ فيسمى ذلك: استحسانا. وفي هذه الآية دلالة أن سؤال من يسأل أبا حنيفة - رحمه اللَّه - أن الوتر لو كان له مشابهٌ في الفرض، لكان لا يختلف لعدده - سؤال غير مستقيم؛ لأنه قد فرض على القوم أن

يقوموا ثلث الليل، وقد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم لا يحصون حد ما أمرهم به، وإذا لم يحصوا فلا بد أن يقع هناك زيادة ونقصان؛ فكذلك الوتر وإن كان حد عدده غير معروف فهو لا يخرجه عن حكم الفرائض، واللَّه أعلم. ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) أن اللَّه وقتما فرض عليهم علم أنهم لا يحصونه؛ ولكن بيّن هذا؛ ليعلموا أن لله تعالى أن يكلفهم إقامة العبادة إلى وقت لا يتهيأ لهم إحاطة مبلغ ذلك الوقت إلا بعد جهد؛ ليعرفوا منة اللَّه تعالى عليهم إذا أسقط عنهم ذلك التكليف، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا)، ولكن ذكر هذا؛ ليعلموا أنهم يكلفون القيام للعشرة وإن كان بهم ضعف، لكن إذا خفف عنهم، عرفوا ما لله عليهم من عظيم المنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) يحتمل أن تكون طائفة منهم امتنعوا عن القيام؛ فتكون التوبة راجعة إليهم؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ)، فهذا يبين أنهم جميعًا لم يقوموا معه؛ وإنما قامت معه طائفة؛ فتكون التوبة راجعة إلى الطائفة التي امتنعت عن القيام. وجائز أن تكون راجعة إليهم، وإلى الذين قاموا معه؛ فيكون الذين قاموا معه قصروا في القيام عن الحد الذي شرط عليهم؛ فافتقروا إلى التوبة - أيضًا - كما افتقر إليها من تخلف عن القيام؛ فتاب اللَّه عليهم جميعا، واللَّه أعلم. وقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ): فمنهم من ذكر أن قيام الليل صار منسوخا بهذه الآية. ومنهم من يقول بأن النسخ وقع بقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، وهي الصلاة المفروضة، وليس بينهما فرق عندنا؛ وإنما نسخ بهما جميعا. ووجه النسخ: هو أن فرض القيام لو كان باقيا، لكان لا يجوز لهم أن يكتفوا من القراءة بما تيسر عليهم؛ لأنهم إذا قاموا إلى ثلث الليل لزمهم تبليغ القراءة إلى حدٍّ يتعسَّر عليهم ويشتد، فإذا أذن بالاقتصار على القدر الذي تيسَّر، عُلِمَ أنه قد سقط عنهم أن يقوموا ثلث الليل. ثم هو إذا قام صلاة المغرب والعشاء قد قرأ من القرآن ما تيسر عليه؛ فصار قاضيا لما اقتضاه قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ)، فمن هذا الوجه استدلوا بهذه الآية على نسخ حكم القيام بالليل، ثم هذه القراءة يقيمها في الصلاة؛ فيكون النسخ واقعا بهما.

ثم من الناس من يزعم أن فرض القيام سقط عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وعن أمته؛ واستدل بقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ)؛ فإن كان الفرض عليه قائما، لم يكن التهجد به نافلة. ومنهم من زعم أنه لم يسقط عنه فرض القيام؛ بل دام عليه إلى أن قبض - عليه السلام -. واحتج بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كُتب عليَّ قيام الليل، ولم يكتب عليكم "، ومعناه: بقي عليَّ مكتوبا، ورفع عنكم؛ إذ قد دللنا أن القيام في الابتداء كان واجبًا عليه وعليهم جميعا. وقد قال بعض الناس: إن صلاة الليل، لم تكن فرضا على أمته بهذا الحديث، وما ذكرناه عليهم. ثم الجواب عن التعلق أن قوله: (فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) معناه: غنيمة لك، لا أن يكون القيام منه تطوعا. ووجه صرفه إلى الغنيمة: هو أن العبادة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تخرج مخرج الشكر لله تعالى؛ فيصير بها مكتسبا للفضيلة، وليس يقع ذلك موقع التكفير للسيئات؛ لأنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فلم يكن يحتاج إلى إتيان الحسنات؛ ليكفر عنه السيئات؛ فثبت أن الفعل منه يقع موقع اكتساب الفضيلة؛ فتدوم له بذلك الفضيلة ويستوجب بها جزيل الثواب، وذلك من أعظم الغنائم. والذي يدل على أن فعله يخرج مخرج الشكر: ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قام حتى تورمت قدماه؛ فقيل له: يا رسول اللَّه، ألم يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال - عليه السلام -: " أفلا أكون عبدا شكورا؟ "، وأما غيره فإن الحسنات منهم مكفرة لسيئاتهم، ومطهرة لزلاتهم؛ قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)؛ فهم بحسناتهم لم يصيروا مكتسبين الفضيلة في مستأنف الأوقات، فيصيروا بها مغتنمين، بل رفعوا زلاتهم، وطهروا أنفسهم من المآثم؛ فلم تصر القربة منهم، واللَّه أعلم. فلهذا ما سمى تهجده: نافلة، لا أن يكون قيامه نفلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). فمنهم من زعم أن هذه السورة كلها مكية، ومنهم من زعم أن أولها مكية، وآخرها مدنية، ويحتج هَؤُلَاءِ بقوله تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ)، وبقوله: [(يُقَاتِلُونَ] فِي

سَبِيلِ اللَّهِ)؛ وذلك لأن الجهاد فرض على المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة، ولم يوجد منهم الضرب في الأرض في حال كونهم بمكة، وفي هذا إخبار عن جهاد طائفة، وعن ضرب بعض في الأرض؛ فثبت أن نزول هذه الآيات كانت بالمدينة. واحتجوا - أيضا - بقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)، قالوا: إن الزكاة إنما فرضت عليهم بعدما هاجروا إلى المدينة، وفي هذا أمر بإيتاء الزكاة؛ فثبت أن نزولها كان بالمدينة، وأما أول السورة فهي في موضع المحاجة على أهل الشرك، ولم يكن بالمدينة مشرك؛ بل كانوا أهل كتاب. ومن ذكر أنها كلها مكية، فهو يحمل قوله: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) على الوعد والبشارة، ليس على الإيجاب والوجوب؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى)، فأخبر أنه سيكون منكم مرضى، لا أن كانوا مرضى في ذلك الوقت؛ فلم يكن فيما ذكر دلالة كونها مدنية. ثم الآية إن كانت على الوعد؛ ففيه أنهم كانوا في ضيق من العيش، وكانوا من القوم في خوف؛ فيكون فيه بشارة أنه يرفع عنهم الضيق بما يضربون في الأرض، ويوسع عليهم العيش، وأنه يفتح لهم الفتوح، ويكثر أنصارهم حتى يقهروا العدو، ويقع لهم من ناحيتهم الأمن، وقد آل الأمر إلى ما بشروا به، فيه آية رسالته - عليه السلام - إذ أخبرهم عن علم الغيب، وكان الأمر على ما أخبر. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى) في موضع الاعتلال، أنه إنما خفف عليهم الأمر بما ذكر من الأعذار من المرض، والضرب في الأرض، والمجاهدة في سبيل اللَّه تعالى، والتخفيف إذا وجب لعذر مما لم يلاق العذر حالة الفعل، لم يخفف؛ فكيف خفف عنهم قبل وقوع الأعذار، ولكن هذه الأعذار وإن تحققت هي لا تلاقي الفعل؛ بل تتقدمه؛ لأن المجاهدة تكون بالنهار، لا بالليل، وكذلك الضرب في الأرض وقت النهار لا الليل، والقيام كان بالليل ليس بالنهار، ثم قد وضع عنهم قيام الليل وإن لم يكن العذر ملاقيا للقيام؛ فعلى ذلك جائز أن يرفع عنهم القيام بالليل وإن لم يأت بعد وقت المجاهدة، ولا كان الضرب موجودا؛ إذ ليس في ذلك كله إلا عدم ملاقاة العذر حالة القيام.

ثم وجه رفع قيام الليل عنهم بالمجاهدة والضرب في الأرض وإن كانا يحصلان في النهار لا في الليل: هو أن المجاهدة بالنهار تضعفهم، وتوهن قواهم؛ فيتعذر عليهم قيام الليل، وكذلك الضرب في الأرض؛ فمن اللَّه تعالى عليهم بأن رفع عنهم قيام الليل، وإن لم يوجد منهم الاشتغال بالجهاد بالليالي، واللَّه أعلم. ثم الضرب في الأرض يكون للتجارة، ولغيرها من الوجوه: لطلب العلم، وغيره من الأسباب؛ فلا يحصل أمر الضرب على التجارة خاصة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ). قال أبو بكر في قوله: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) هو دلالة أن هذه الآية مدنية؛ لأن الزكاة إنما فرضت عليهم بالمدينة، فإن كان الأمر على ما ذكر: أن فرضها نزل بالمدينة فذلك عندنا مصروف إلى زكاة المواشي خاصة؛ لأن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لم يكن لهم بمكة سوائم؛ لأنهم كانوا يخافون العدو؛ فلم يتهيأ لهم إسامة المواشي، وأما ما رجع من الزكوات إلى غيرها من الأموال، فيشبه أن تكون واجبة عليهم في حال كونهم بمكة، وبعد مفارقتهم منها، ولا يكون في الأمر بإيتاء الزكاة دلالة نزولها بالمدينة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا): فالقرض -في لغة العرب-: القطع، يقال: قرض الفأر الجراب، أي: قطعه؛ فسمي القرض: قرضا لهذا؛ لأنه يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره، وكذلك هو بالتصدق يقطع ذلك القدر؛ فيجعله لله تعالى خالصا؛ فسمي: إقراضا لهذا. ويجوز أن يكون أضاف إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما يتصدق عليه؛ إذ الإقراض حصل فيما بينه وبين ربه؛ فيصير الفقير معاونا له في تلك القربة. ولأن المرء في الشاهد إنما يقرض ما يفضل عن حاجته، فيدفعه إلى من يثق به، ليسترده منه عند حاجته إليه؛ فكذلك الصدقة أُوجبت في المال الذي يفضل عن حاجاته، فيقرضها لله تعالى فيجدها مهيأة عندما تمسه الحاجة. ثم المال الذي يدفعه إلى الفقير على جهة التصدق هو مال اللَّه تعالى، ثم جعل الله تعالى ذلك منه إقراضا له جل جلاله وأضافه إلى نفسه؛ فتكون الفائدة في الإضافة إلى نفسه هي تفضيل عمله؛ ليرغبه في مثل ذلك الفعل على جهة التكرم منه؛ وهو كما سمى الثواب الذي يتفضل به على عباده أجرا بقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ)، ومن عمل لنفسه لم يستوجب الأجر على غيره، وسمى الذي يُقتل:

شهيدا بائعا نفسه لله تعالى؛ على تفضيل وترغيب للعباد في مثله؛ لقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) معناه: تجدوه حاصلًا لكم، وإلا فكل شيء تقدمونه من خير أو شر تجدونه حاضرًا في ذلك اليوم، ولكن الشر يكون عليهم، قال اللَّه تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)، وفي حق الكلام أن يقول: " هو خير "؛ لأن " هو " يرفع ما بعده، ولكن " هو " كالفصل هاهنا، وحقه الحذف، وإذا حذف انتصب الكلام؛ لأن معناه: تجدونه عند اللَّه خيرا لكم مما خلفتم، فيكون " خيرا " مفعولا. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) يحتمل أوجها: أحدها: أنه خير لكم، وأعظم أجرا مما خلفتم لورثتكم؛ فيكون فيه أن الذي يخلفه لورثته له فيه خير، ولكن ما يقدم لآخرته خير له، والذي يدل على أن له فيما يخلفه لورثته خيرا قوله - عليه السلام -: " إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس ". والثاني: أن المرء في الشاهد قد تسخو نفسه ببذل الأموال للآجلة الآجلة لما يأمل منهم من المال الثواب العاجل، فيكون في قوله: (هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) ترغيب للعباد في تقديم الأموال لوجه اللَّه تعالى؛ لأنهم إذا رغبت أنفسهم في بذل الأموال للآجلة؛ طمعا للمنافع التي تحصل لهم؛ فكان بذل المال لوجه اللَّه تعالى أعظم في الأجر، وأولى أن يقع فيه الرغبة. ولأن النفس قد تتحمل المكروه في الشاهد لمنافع تأملها في ثاني الحال، فإذا طمعت لما تبذل لوجه اللَّه تعالى الثواب الجزيل والأجر العظيم خف عليها تحمل المكروه، والذي يناله بالبذل. ويجوز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْظَمَ) بمعنى: عظيم؛ إذ قد يستعمل حرف " أفعل " في موضع " فعيل "؛ كما يقال " أكبر " بمعنى: " كبير "، واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) فالاستغفار: هو طلب المغفرة، وذلك يكون باللسان مرة، وبالأفعال ثانيا. فطلب المغفرة من جهة الفعل: أن ينتهي عن الفعل الذي يستحق عليه العقاب ويجيب إلى ما دعا اللَّه إليه؛ قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، فجعل انتهاءهم عن الكفر ودخولهم في الإسلام سبب مغفرتهم، وقال اللَّه تعالى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، وليس استغفارهم أن يقولوا باللسان: " اللهم اغفر لنا "، ولكن معناه: أن انتهوا عما أنتم فيه من الكفر، وأجيبوا ربكم فيما دعاكم إليه، فهذا هو الاستغفار من جهة الأفعال. وأما الاستغفار باللسان وهو طلب المغفرة، يكون على وجهين: أحدهما: أن تسأل ربك التجاوز عن سيئاتك. والثاني: أن يسأل حتى يوفقه للسبب الذي إذا جاء به استوجب المغفرة، وعلى هذا التأويل يخرج استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه، وهو أنه طلب من ربه أن يوفقه لما فيه نجاته، وهو الإسلام، لا أن يسأل ربه أن يغفر له مع دوامه على الكفر؛ ألا ترى أنه امتنع عن الاستغفار له حيث تقررت عنده عداوته لله تعالى، وعلم أنه لم يوفق للسبب الذي يستوجب به المغفرة؛ قال اللَّه تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)؛ فثبت أنه لم يطلب منه المغفرة مع دوامه على الكفر، ولكن للوجه الذي ذكرنا، واللَّه أعلم. * * *

سورة المدثر

سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ): قيل: إن الذي حمل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على التدثر: أنه كان في بعض طرق مكة إذ سمع صوتا من السماء والأرض؛ فنظر عن يمينه وعن يساره وأمامه وخلفه، فلم ير شيئا، فرفع رأسه فرأى شيئًا؛ ففرق منه، فأتى بيته، وقال: " زملوني "، فدثروه. فإن صح ما قالوا، وإلا لم يسعهم أن يشهدوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن الذي حمله على التدثر ما ذكروا من الفرق. ولأن التدثر ليس مما يسكن به الروع الذي يحل بصاحبه من الصياح. وذكروا أن أول ما نزل من الوحي قوله: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، فإن صح ما ذكروا، فأول ما أوحي إليه هو الصياح الذي سمعه؛ إذ كان ذلك متقدما على قوله: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ). وقيل: إن كفار مكة قذفوه بالسحر، وأجمعوا رأيهم على أن ينسبوه إليه، وفشا هذا القول فيهم له؛ فأحزنه ذلك؛ فدخل بيته وتدثر بثيابه، فأمره اللَّه - تعالى - أن يقوم فينذرهم بقوله: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ)، وعلى هذا التأويل يكون الوحي نازلا قبل نزول هذه السورة، حتى سموه: ساحرا؛ لما يرون منه من الآيات، واللَّه أعلم. وذكر أن موسى صلوات اللَّه على نبينا وعليه قال: " أتاني ربي من طور سيناء، وسيأتي من طور ساعورا، وسيطلع من جبل فاران ". فإن صح هذا الخبر، فمعنى قوله: " أتاني ربي "، أي: أوحى إلي، وقوله: " وسيأتي من طور ساعورا " هو الوحي إلى عيسى عليه السلام، وقوله: " وسيطلع من جبل فاران " هو القرآن الذي أنزل على نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وفي هذا الخبر دلالة أن الأخبار التي ورد بها ذكر نزول الرب في كل ليلة إلى سماء الدنيا، هي على نزول أمره إلى ملائكته، أن قولوا: " هل من داع فيجاب؟، هل من

مستغفر فيغفر له؟ "، فجائز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أول ما أوحي إليه كان بجبل فاران، وهو جبل من جبال مكة، أو كان ذلك الجبل منسوبا إلى ذلك المكان. ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) تثبيت نبوة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وآية رسالته، وذلك أن تعريف المرء بما عليه من الثياب ونسبته إليه، لا يخرجه مخرج التعظيم والتبجيل، وإنما التبجيل فيما يدعى باسمه أو بكنيته، فلو كان الأمر على ما زعمت الكفرة: أن هذا القرآن ليس من عند اللَّه، وأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو الذي اخترعه من ذات نفسه، لكان لا يعرف نفسه بثيابه، بل يعرفها بما فيه تبجيلها وتعظيمها، فإذ لم يفعل ثبت أنه كان رسولا حقا، بلغ الرسالة على ما أوحي إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأدى كما أمر، على ما ذكرنا في الآيات التي خرجت مخرج المعاتبة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن فيها تثبيت رسالته؛ نحو قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى)، وغير ذلك من الآيات. وجائز أن تكون نسبته إلى ثيابه؛ ليعلم الخلق أن لا بأس للمرء أن يعرف أخاه بثيابه. وجائز أن تكون نسبته إلى الثوب الذي يدثر به يخرج مخرج التعظيم لذلك الثوب؛ لموافقته حال نزول الوحي، وهذا كما ذكرنا: أن إضافة الأشياء إلى اللَّه تعالى نحو الجزئيات تخرج مخرج تعظيم تلك الأشياء، كقوله: ناقة اللَّه، ومسجد اللَّه، ورب العرش، على تعظيم العرش، وتعظيم أمر الناقة، وتشريف المسجد. وإضافة الأشياء إليه نحو الكليات، يخرج مخرج تعظيم اللَّه تعالى؛ كقوله: رب العالمين، رب السماوات والأرض وما بينهما. ثم أذن للمرء أن يسبح في ركوعه، فيقول: " سبحان ربي العظيم "، فيخص نفسه بقوله: " ربي "، والحق في مثله أن يقول " سبحان ربنا "؛ لئلا يخرج ذلك مخرج تعظيم النفس؛ كقوله: " رب العالمين "، و " رب السماوت والأرض وما بينهما "؛ إذ الإضافة من الجانبين على السواء فيما ذكرنا، لكن ذلك الذكر إذا وافق الحالة التي فيها تعظيم الرب ووصفه بالعلو؛ وهي الركوع والسجود، أذن له بأن يأتي بهذا الذكر، وإن خرج ذلك مخرج تعظيم النفس.

(2)

فكذلك ذلك الثوب الذي تدثر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا وافق حال نزول الوحي عظم شأنه من ذلك الوجه؛ فنسب إلى ذلك الثوب. ثم المرء إنما يتدثر عندما يريد أن ينام، أو عند طلب الراحة، وليست تلك الحالة حالة يستحب المرء مصاحبة الكبراء العظماء في مثل تلك الحال، فضلا من أن يصحب الملك في مثل تلك الحال؛ فيكون في هذا دلالة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لم يطلع على الأوقات التي كان يأتي فيها الوحي، وإذا لم يعلم كان الأمر عليه أصعب وأشد منه إذا بين له؛ لأنه إذا لم يبين له، لزمه أن يصون نفسه في الحالات كلها عن أشياء يستحي مع مثلها الخلوة بالملائكة؛ ولهذا لم يبين لأحد منتهى عمره؛ ليكون أبدا مستعدا للموت؛ فرقا أن يحل به ساعة بعد ساعة، ويكون أبدا على خوف ووجل من ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُمْ فَأَنْذِرْ (2) خص النذارة دون البشارة، وقد كان هو نذيرا وبشيرا، ففي ذكر النذارة ذكر البشارة وإن أمسك عنها؛ لأن النذارة ليست ترجع إلى نفس الخلائق؛ وإنما النذارة هي تبيين عواقب ما ينتهي إليه حال من التزم الفعل المذموم؛ فإذا استوجب النذارة بالتزامه ذلك الفعل، فقد استوجب البشارة في تركه؛ فثبت أن في النذارة بشارة، وفي البشارة نذارة أيضا؛ فاقتصر بذكر إحداهما عن ذكر الأخرى، وليس في قوله: (قُمْ) إلزام قيام؛ ولكن معناه: قم في إنذار الخلق وبشارتهم، على ما ينتهي إليه وسعك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3). أي: عظم، وتعظيمه: أن يجيبه فيما دعاه إليه، ويطيعه فيما أمره، وأن يتحمل ما ألزمه عمله، فذلك هو تعظيمه لا أن يقول بلسانه: " يا عظيم " فقط. وجائز أن يكون تأويله: أن عظمه عن المعاني التي قالت فيه الملاحدة من أن لله تعالى ولدا، وأن له شريكا، ونزهه عنها. أو عظم حقه أو شكر نعمه، وهذا كما نقول: إن محبة اللَّه تعالى طاعته وائتمار أوامره، لا أن تكون هي شيئًا يعتري في القلب؛ فيصعق منه المرء، ويغشى عليه؛ فكذلك تعظيم اللَّه تعالى يكون بالمعاني التي ذكرنا، لا أن يكون بالقول خاصة.

(4)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4): جائز أن يكون أريد بالثياب نفسه، وتجعل الثياب كناية عنها؛ كما ذكر أن العرب كانت تقول إذا كان الرجل ينكث بالعهد، وليس بذي وفاء: إنه لدنس الثياب؛ وإذا كان له وفاء قالوا: إنه لطاهر الثياب. فإن كان الخطاب متوجها إلى النفس، فتأويله - واللَّه أعلم -: أن طهر خلقك، وأفعالك، وأقوالك عما تذم عليه. وجائز أن يكون أريد بها الثياب؛ فيكون قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) متوجها إلى التطهير من النجاسات، وإلى التطهير من الأدناس. فأما التطهير من الأنجاس، فقد امتحنا جميعا نحن ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - به. وأما التطهير من الأدناس، فجائز أن يؤمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة؛ لأنه كان مأمورا بتبليغ الرسالة إلى الخلق؛ فندب إلى تطهير ثيابه من الدنس؛ لئلا يستقذر، بل ينظر إليه بعين التبجيل والعظمة، وليس هذا على تطهير الثياب خاصة؛ بل أمر أن يطهر جميع ما يقع له به التمتع من المأكل والمشرب والملبس وغيرها، واللَّه أعلم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أي: لا يلبس الثوب على فخر ولا غدر. قيل: وكان الرجل إذا كان غادرا في الجاهلية يقال: إنه دنس الثياب. وقال الحسن: خلقك فحسِّنه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: قصر ثيابك ولا تطولها؛ فتقع أطرافها على الأرض؛ فتصيبها النجاسات، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5): فالرجز: اسم للمأثم، واسم لما يعذب عليه؛ فيكون منصرفا إلى ما تتأذى به النفس وتتألم به كالسبة في أنها اسم لما يتأذى به ولما تتألم عليه النفس؛ فقال اللَّه تعالى: (لَهُم

(6)

عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)، فالمأثم اسم لما تتأذى به النفس، فهو اسم للأمرين: العذاب وما تتألم به، جميعا. وصرف أهل التأويل الرجز إلى المأثم هاهنا. وذكر قتادة أنه كان بمكة صنمان: إساف، ونائلة، فكان من أتى عليهما من المشركين مسح وجوههما، فأمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صلى الله عليه وسلم - يعتزلهما بقوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ). وقيل - أيضا -: بأن المشركين قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: لو مسحت وجوههما، لكنا نؤمن لك ونتبعك؛ فأنزل اللَّه تعالى: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)، أي: فاهجر عبادة الأوثان. وقيل: الرجز: العذاب. فجملته ترجع إلى ما ذكرنا: أنه اسم للعذاب، ولما يعذب عليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6): قال مجاهد والحسن: تأويله: ألا تستكثر عملك، فتمن به على ربك؛ على التقديم والتأخير. فإن كان التأويل هذا، فالمراد من الخطاب غير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإن كان هو المذكور في الخطاب؛ إذ لا يتوهم أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يمن على ربه، ولا أن يستكثر عمله لله تعالى؛ لأن هذا النوع من الصنيع لا يفعله واحد من العوام الذي خُصَّ بأدنى خير؛ فكيف يتوهم على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؟! ولأن الامتنان على اللَّه تعالى من فعل المنافقين؛ قال اللَّه تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ). ويجوز أن يكون الخطاب له، وإن كان هو معصوما من ذلك؛ لقوله: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)، ونحوه، وهذا كما ذكرنا أن العصمة لا تمنع وقوع النهي؛ إذ العصمة لا ينتفع بها إلا مع ثبات النهي، فإذا لم يكن فلا فائدة في العصمة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)، أي: لا تعطيه عطية تلتمس بها أفضل منها في

(7)

الدنيا من الثواب، نهى عن اكتساب الأسباب التي يتوصل بها إلى استكثار المال في الدنيا من التجارة وغيرها، إلا القدر الذي لا بد له منه، وتقع إليه الحاجة؛ ألا ترى إلى قوله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ)، فإذا نهى عن مد عينيه إلى ما متعوا؛ ففي اكتساب أسباب المال أحق؛ ثبت أن اللَّه تعالى نهاه عن اكتساب ذلك وجمعه، وجعل رزقه - عليه السلام - من الوجه الذي لا يبلغه حيل البشر، وهو الفيء والغنيمة، ثم نهى عن إمساكه وادخاره لنفسه؛ بل أمر أن يصرفه في أمته بقوله - عليه السلام -: " ما لي من هذا المال إلا الخمس، والخمس مردود فيكم " وقال اللَّه - عز وجل -: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى. . .) الآية، وذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يدخر لغد، وقال تعالى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ)؛ فثبت أنه كان منهيا عن اكتساب الأسباب التي يتوصل بها إلى اكتساب الأموال، وإلى الجمع؛ فنهي عن العطايا التي يلتمس بها أفضل منها في الدنيا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7): في هذا دعاء إلى إخلاص الصبر لله تعالى، وإلى الصدق فيه. وفي قوله - عزَّ وجلَّ -: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)، دعاء إلى نفس الصبر. وجائز أن يكون هذا - أيضا - على الأمر بالصبر؛ فيكون على التقديم والتأخير؛ كأنه يقول: فاصبر لربك، أي: اصبر على ما تؤذى، ولا تجازهم بصنيعهم؛ فإن اللَّه تعالى يكفيهم؛ فيكون في هذا إبانة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد امتحن بالأمور التي تكرهها نفسه، وتشتد عليها؛ فدعاه اللَّه تعالى إلى الصبر على تحمل المكاره، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ

(8)

إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8): (نُقِرَ): أي: نفخ، و (النَّاقُورِ): الصور، وهي كلمة كتب الأولين ذكرها هنا، (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ)، وقال في موضع آخر: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ)، وقال في موضع آخر: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً). فجائز أن يحمل هذا كله على التحقيق؛ فتتحقق الصيحة والزجرة والنقرة، ثم تعقبها الساعة. وجائِز أن يكون هذا على التمثيل؛ فيكون فيه إخبار عن سهولة ذلك الأمر وهونه على اللَّه تعالى؛ لأن اللمحة والزجرة والنفخة والنقرة أمر سهل، لا يشتد على أحد. أو يكون على تقصير الوقت على الذين ينفخ فيهم الروح، أي: الأرواح ترد عليهم في قدر النفخة، والزجرة، والصيحة؛ خلافا لأمر النشأة الأولى؛ لأنه في النشأة الأولى إنما نفخ فيه الروح بعد كونه نطفة في بطن أمه أربعين يوما، ثم علقة، ثم مضغة كذلك القدر من المدة، ثم نفخ فيه الروح بعد مدد وأوقات، وفي النشأة الأخرى ينفخ الروح بالقصر من المدة، وذلك قدر النفخة والزجرة والصيحة واللمحة، واللَّه أعلم. وإنما قلنا بأن التأويل قد يتوجه إلى التمثيل دون التحقيق، وإن ذكر في بعض الأحاديث تثبيت الصور والناقور؛ لأنها من أخبار الآحاد، وخبر الواحد يوجب علم العمل، ولا يوجب علم الشهادة، وفي تحقيق الصور والناقور ليس إلا الشهادة؛ لذلك لم يحصل الأمر على التحقيق والقطع لئلا نقطع الحكم على الشهادة. ثم قد ذكرنا أن قوله: " إذا " جواب سؤال واقع عن تبيين وقت؛ كأنه قيل له: فاصبر إلى أن ينقر في الناقور. أو يكون جوابا لقوله: (قُمْ فَأَنْذِرْ)، أي: أنذرهم عما يحل بأهل الشر من العذاب بنقر الناقور.

(9)

أو يكون جوابا لقوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) إذا نقر في الناقور. أو كان السؤال واقعا عن أمر، لم يشر إلى ذلك الأمر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذلك اليوم يوم رحمة للمؤمنين؛ إذ في ذلك اليوم يكرمون، وينالون عظيم الدرجات من ربهم، ولكن اللَّه - عز وجل - ذكر ذلك اليوم في غير آي من كتابه، والأحوال التي تكون فيه، وإن كانت تلك الأحوال تنزل على غير المؤمنين، فمرة سماه: واقعة، ومرة: قارعة، ومرة: حاقة، وإنما يقع العذاب على الكفرة، ويحق عليهم؛ فلذلك سماه: عسيرا، وإن كان هو عسيرا على فريق، يسيرا على غيرهم. وجائز أن يكون عسيرا على الخلائق أجمع، بعض هول ذلك اليوم يشمل الفرق كلها، كما قال: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى)، ثم إن المؤمنين تفرج عنهم الأهوال بما يأتيهم من البشارات والكرامات عن اللَّه تعالى، ويبقى عسره على أصحاب النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11). ذكر أن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن المغيرة، والأصل أن الأنباء التي ذكرت عن الأنبياء المتقدمة في المخاطبات التي جرت بينهم وبين الفراعنة فيها إبانة أنها جرت بينهم وبين الآحاد منهم، وذلك أن فرعون كل نبي كان واحدا، وكان من سواه يصدر عن رأيه، وينتهي إلى تدبيره؛ فكان يستغني عن مخاطبة من سواه، وقد كثرت فراعنة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فكان كل واحد منهم يدعي الرياسة لنفسه، ويمتنع عن متابعة غيره، والصدور عن رأيه والانقياد له، منهم أبو جهل، ومنهم الوليد بن المغيرة، ومنهم أبو لهب، وغيرهم؛ فكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يحتاج إلى أن يخاطب كلا في نفسه، ومن احتاج إلى مخاطبة أقوام، وإجابة كل واحد بحياله، كان الأمر عليه أصعب من الذي احتاج إلى مخاطبة واحد؛ ففي هذا أن المحنة على رسولنا - عليه الصلاة والسلام - كانت أكبر مما امتحن بها من تقدمه من الرسل، عليهم السلام. ثم قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) فيه أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يمنعه عن شيء حتى يقول له: (ذَرْنِي)، ولكن هذا الكلام مما يتكلم به على الابتداء من جهة إظهار القوة؛ يقول الرجل لآخر: " خل بيني وبين فلان "، و " دعني وإياه " من غير أن يكون سبق منه المنع؛

(12)

فيريد به إظهار القوة من نفسه: أنه كافيه، وقادر على دفع شره عن نفسه؛ فيكون في قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) دعاء من اللَّه تعالى إياه إلى ألا يتعرض له، ولا يجازيه بصنيعه؛ فإن اللَّه تعالى يكفيكه، ويدفع عنك شره. أو يكون فيه نهي عن أن يدعو عليه بالهلاك والثبور، ويصبره إلى أن يأتيه أمر الله تعالى؛ فيكون في هذا مسلاة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن المتنازعين إذا تنازعا في شيء، وحدث بينهما شر، فانتصب ثالث في نصر أحدهما خف الأمر على المنصور، ويفرح لذلك، ويسلو به، فإذا كان اللَّه تعالى هو الذي يقوم بنصر المصطفى - عليه الصلاة والسلام - ويكفيه عن عدوه، كان ذلك أكثر في التسلي والتفرج؛ فيكون في هذا تمكين من الصبر الذي دعي إليه بقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، وبقوله: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ. . .) الآية. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقْتُ وَحِيدًا) أن يحتمل وجهين: أحدهما: أي: خلقته وحدي، ولم يكن لي في الخلق ناصر ومعين ولا مشير. وجائز أن يكون معناه: أي: خلقته وحيدا، لا مال له، ولا ولد؛ فيكون في هذا وعيد وتخويف لذلك اللعين، أي: كيف لا يخاف أن يعاد إلى الحالة التي كان عليها يوم خلق بلا مال ولا ناصر؛ كقوله: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). وقوله - تعالى -: (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12): قيل: (مَالًا مَمْدُودًا)، أي: مالا لا ينقطع، بل يكون له مدد. وذكر عن مجاهد أنه قال: كان ذلك ألف دينار. وقال السدي: (مَالًا مَمْدُودًا) ثلاثة عشر ألفًا. وقيل: أراد به ما جعل له من الضياع بالطائف، تثمر في السنة مرتين. ولكن عندنا المال الممدود هو المتتابع الذي لا ينقطع مدده، والذي لا ينقطع مدده لا يقع تحت الإحصاء.

(13)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَنِينَ شُهُودًا (13): أي: حضورا، لا يغيبون، ويكون فيه وجهان من الحكمة: أحدهما: أن ماله قد كثر؛ حتى لم يحتج إلى تفريق أولاده في الجمع والاكتساب؛ بل كان يأتيه سمحا، لا يحتاج إلى تكلف أسباب الجمع. والثاني: أن غاية ما يراد ويتمنى ويلتمس من البنين هو أن يستأنس بالنظر إليهم، ويستعين بهم، ويستنصر إذا احتاج إلى ذلك؛ ففيه أنه قد نال مناه، ووصل إلى ما ترغب إليه النفوس من كثرة الأموال والأولاد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)، أي: بسطت له في الدنيا بسطا. وقيل: التمهيدة هو التمكين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15). فجائز أن يكون طمعه منصرفا إلى الزيادة في الآخرة؛ كقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، فحسبوا أنهم إذا ساووا أهل الإيمان في الدنيا يساوونهم في الآخرة لو كانت الآخرة حقا؛ فكذلك هذا اللعين حسب أنه يبسط عليه نعيم الآخرة كما بسط عليه نعيم الدنيا؛ فكان قوله: (كَلَّا ... (16) ردَّا عليه. فإن كان على هذا، ففيه أعظم الدلالة على إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أن ليس له نصيب في الآخرة؛ وإنَّمَا يحرم النصيب إذا ختم على الكفر كما قال، فكان. وهذا إخبار منه عن أمر الغيب، فصدق خبره، وخرج الأمر حقا كما قال؛ فثبت أنه باللَّه تعالى علمه. وجائز أن يكون طمعه الزيادة في الدنيا؛ فقطع عليه طمعه بقوله: (كَلَّا). وذكر أن ماله بعد نزول هذه الآية أخذ في الانتقاص إلى أن أهلكه اللَّه تعالى، ولم يزد شيئا؛ فيكون في هذا - أيضا - ما في الأول من إثبات الرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا): في هذا تصبير لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن اللَّه تعالى أكثر نعمه عليه، ثم ذلك الملعون مع كثرة نعم اللَّه عليه وإحسانه إليه، عاند، ولم يطعه في أوامره؛ فكيف ترجو أنت منه في معاملته إياك مع معاملتك إياه بما يخالف مراده وهواه؟ فيكون فيه ما يدعوه إلى الصبر.

(17)

والعناد: هو مخالفة الحق عن علم بظهور الحق؛ فيكون قوله: (إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا): أنه بعد علم وإحاطة ويقين عاند آيات اللَّه، وخالف أمر رسوله، واستكبر. والمكابر هو الذي يكابر عقله، فيخالف ما يثبته عقله بالأقوال أو بالأفعال. ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا) إبطال قول من قال: إن اللَّه تعالى لا يفعل بعباده إلا ما هو الأصلح لهم؛ لأن قوله: (أَنْ أَزِيدَ) لا يخلو إما أن تكون الزيادة التي كان يطمعها خيرا له، وفي شرط اللَّه - تعالى - عندهم أن يزيده، وفي قوله: (كَلَّا) قطع طمعه للزيادة؛ فيصير بحرمان الزيادة عنه جائرًا؛ فكيف حصل آية رسالته من الوجه الذي هو جور عندكم. وإن كان حرمان الزيادة خيرا له وأصلح؛ فكيف جعل الحرمان - أيضا - علما لنبوته، وكان عليه أن يحرمه على زعمكم. وفي قراءة عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ثم يطمع أن يزيد). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17): جائز أن يكون على تحقيق الصعود، وهو العقبة التي يشتد الصعود عليها؛ كما ذكره بعض أهل التأويل، فيكلف الصعود عليها. وجائز أن يكون على التمثيل؛ وذلك لأن الصعود في الشاهد مما يشق على المرء، والهبوط مما يسهل على المرء الانحدار عنه. فإن كان على هذا، ففيه أنه يصيبه في الآخرة مما يشتد ويشق على نفسه تحمل ذلك. ثم يقال للمعتزلة في هذه الآية وفي قوله: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ): إن في هذا وعيدا من الله تعالى بأن يصليه سقر، وسيرهقه صعودا، فأراد اللَّه تعالى أن يصدق خبره، وينجز وعده، أو أراد أن يكذب خبره، ويخالف وعده؟ فإن قلتم بالثاني، فقد نسبتموه إلى الكذب، وإلى خلف الوعد؛ ومَن هذا وصْفُه فهو سفيه جاهل، لا يصلح أن يكون إلها. وإن قلتم: بلى، أراد أن يصدق خبره، وينجز وعده، قلنا لكم: أراد أن ينجز وعده مع دوامهم على الكفر، أو عند انقلاعهم عنه؟ فإن زعمتم أنه إنما أراد أن يصليهم سقر على الخروج من الكفر، فهذا منه جور؛ لأنه

(18)

يصليهم سقر بشيء لا إرادة لهم فيه. وإن سلمتم أنه أراد إصلاءهم سقر إذا داموا على الكفر واستقروا عليه، فقد لزمكم أن تقولوا: إن اللَّه تعالى أراد من كل أحد ما علم أنه يختاره، ويكون منه. ويقال لهم: إن اللَّه تعالى يقول: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ)، ولو كان الأمر على ما زعمتم: أنه يريد من كل كافر أن يسلم، ويؤمن به، ويريد الكافر أن يكفر به، ويعاديه، فإذن قد أراد أن يكون له ولي من الذل؛ لأنه يريد أن يواليه مع اختيار الكافر في معاداته، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18). قال الفقيه - رحمه اللَّه -: إن فراعنة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اعتقدوا معاندة الحق، واعتقدوا صد الناس عن سبيل اللَّه وأن يطفئوا نوره، فأرادوا أن يجمعوا على أمر ينسبونه إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على وجه ينفون عن أنفسهم سمة الجهل وتهمة الكذب في ذلك، على ما ذكروا أن الوليد جمع أصحابه، فقال: إن هذه أيام الموسم، وإن الناس سائلوكم عن هذا الرجل؛ فماذا تقولون؟ فقَالَ بَعْضُهُمْ: نقول: هو شاعر؛ قال: إنهم قد سمعوا الشعر، وما قوله بقول شعر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نقول: هو كاهن؛ فقال: إن الكهانة معروفة عند العرب، وإذا سمعوا قوله عرفوا أنه ليس بكاهن؛ فيكذبونكم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نقول: هو كذاب؛ فقال: إنا قد اختبرناه فما أخذنا عليه كذبة قط. فقَالَ بَعْضُهُمْ: نقول: هو مجنون، فقال: إذا نظروا إليه علموا أنه ليس بمجنون، فأعيا عليهم، ففكر في نفسه وقدر، فقال: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ): ما هذا الذي أتى به إلا سحر يؤثره عن غيره -أي: يرويه- فاتفقت كلمتهم على تسميته: ساحرا، وقالوا: الساحر يفرق بين اثنين، وقد وجد منه التفريق بين الآباء والأولاد وبين ذوي الأرحام؛ رجاء أن يصلوا إلى مرادهم من صد الناس عن سبيل اللَّه تعالى وإطفاء نوره؛ مكرًا منهم،

(19)

وهو كقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ). ووجه رجوع المكر إلى أنفسهم ذكروا فيه أوجها: أحدها: رجوع المكر إلى أنفسهم: أن اللَّه تعالى أظهر سوء صنيعهم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وجعله آية تتلى إلى يوم القيامة؛ فيكون فيه ظهور كذبهم، وإلحاق العار بهم إلى يوم التناد، وتوارد اللعن. والثاني: أن الكبراء إذا اجتمعوا في مكان للتدبير، اتصل بهم أوساطهم واختلط بهم صغارهم فيقع لجملتهم العلم بالذي وقع عليه التدبير واتفقت عليه الكلمة، وإذا وقفوا على تدبيرهم جملة، انتشر علم ذلك في الآفاق، فيقف الناس على كذبهم وافتعالهم، فيتحقق عند ذلك جهلهم بحال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويصير كذبهم شائعا في الخلق ظاهرا من الوجه الذي أرادوا نفي سمة الجهل عن أنفسهم؛ ويتحقق عند الناس كذبهم؛ فلا يركنوا إلى قولهم ولا يلتفتوا إلى إخبارهم عن حاله؛ إذ قد تبين جهلهم بحاله؛ فيكون ذلك سببا لترغيب الناس إلى الإسلام ودعائهم إليه، لا أن يكون سببا للصد عن سبيل اللَّه؛ فصار المكر راجعا إليهم. ثم قوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ)، أي: فكر في الأمر الذي أراد إحكامه، أو فكر في الكلمات التي ألقوها فيما بينهم، أيها أليق برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فينسب إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدَّرَ) يخرج على هذا أيضا. وقوله: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) قيل: لعن، واللعن هو الإبعاد عن رحمة اللَّه تعالى، وقد ظهر الإبعاد؛ لأن مادة ماله قد انقطعت في الدنيا، وأخذ ما كان اجتمع عنده في الانتقاص إلى أن أهلكه اللَّه تعالى، ثم ساقه إلى النار خالدا فيها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَيْفَ قَدَّرَ)، أي: كيف لم يستح عن تقديره الذي قدر من تسمية رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ساحرا، وقد علم أنه في إنشاء ذلك الاسم كاذب؟ أو كيف اجترأ على اللَّه تعالى، وتجاسر وهو يعلم أنه رسول حق، فعاند آياته، واجترأ على ذلك، ولم يخف نقمة اللَّه تعالى؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) فلعنه مرتين، وقد ظهر أثر اللعن فيه في الدنيا والآخرة جميعا؛ لأن اللَّه تعالى فضحه بما أظهر كذبه للخلائق، فبقي ذلك العار إلى آخر

(21)

الأبد وأبعده من رحمته؛ حيث أخذ ماله في الانتقاص، وانقطعت مادة ماله، فهذا أثر اللعن في الدنيا، ووعد أن يصليه سقر، وأن سيرهقه صعودا، وذلك خزيه ولعنه في الآخرة، فظهرت، إحدى اللعنتين في الدنيا وتلحقه الثانية في الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ نَظَرَ (21) جائز أن يكون نظر في كلمات القوم التي ألقوها فيما بينهم. وقوله: (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) جائز أن يكون الذي حمله على العبوس والبسور هو ما ألقوا إليه المختلف من الكلمات، فعبس وجهه عليهم؛ لما في اختلافهم ظهور كذبهم. أو يكون الذي دخل عليه من شدة الغيظ في أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أهمه وأحزنه، حتى أثر ذلك في وجهه، فعبس لذلك وجهه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23): يحتمل أن يكون أدبر عن أُولَئِكَ القوم الذين اجتمعوا للتدبير، واستكبر عليهم. أو أدبر عن طاعة اللَّه تعالى، واستكبر على رسوله؛ حيث أعرض عنه، ولم يجبه إلى ما دعاه إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24): أي: هذا الذي أتى به مُحَمَّد مما يؤثر من أفعال السحر. أو هذا الذي يخبر أنه أتى به من عند اللَّه هو سحر يؤثر عمن تقدمه، ولكن قال هذا على علم منه أنه ليس بسحر. قال الفقيه - رحمه اللَّه -: ولو كان الذي أتى به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سحرا كما قرفوه به، فهو لا يخرج من أن يكون حجة له في صدق مقالته وإثبات رسالته؛ لأنه لا وجه لمعرفة السحر من طريق الرأي والتدبير، وإنَّمَا سبيل الوصول إليه الإتقان والتلقن عن الغير، وقد علموا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يلقنْه أحد، ولا وجد منه الاختلاف إلى من عنده علم ذلك، فوقع لهم الإيقان: أنه باللَّه تعالى علم لا بأحد من الخلائق؛ فيصير الذي قرفوه به من أعظم الحجة، ولكن اللَّه تعالى طهره عن السحر، ونزهه عن ذلك، وأمره بمعاداة السحرة حتى قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اقتلوا كل ساحر وساحرة "، وقال: " توبة الساحر ضربة

(25)

بالسيف ". ثم الأصل أن الساحر يفرق بين الاثنين، ويعمل سحره في التفريق على وجه لا يوقف على سبب التفريق، وكان سبب تفريق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ظاهرا؛ لأنه كان يأتيهم بالحجج؛ فيعلم من أمعن النظر فيها صدّقه فيما يدعي من الرسالة فيؤمن به، ومن ترك النظر فيها، ولم يعط من نفسه النصفة ترك الإيمان به؛ فبطل أن يكون تفريقه كتفريق السحر. ولأن كلاًّ منهم لو تفكر فيما جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأمعن النظر فيه، حمله ذلك على الإيمان به، والتصديق لرسالته؛ فيصير الذي جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سبب الاجتماع والألفة، لا أن يكون سبب التفريق بين الأحبة. ثم الأصل أن الساحر بغيته وقصده من سحره نيل الجاه عند العظماء والرؤساء واستفادة السعة في الدنيا، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لم يكن يطلب بما أتى به الجاه عند الرؤساء، بل عاداهم، وأظهر الخلاف لهم، فدعا الخلق إلى الزهادة في الدنيا لا إلى الاستكثار منها، فكيف يجوز أن ينسب إلى السحر، وقد أتى بما يضاد فعل السحرة؟. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25): قد علم أنه ليس بقول البشر؛ لما عجز البشر عن إتيان مثله، وقال: (إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا)؛ فثبت أنه على العلم منه بأنها آيات عاند. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26). السقر: لون من العذاب. وقيل: السقر: هي الدركة الخامسة. وقيل: السقر: من أبواب جهنم، ومعناه: سأدخله جهنم من باب السقر، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28): يحتمل: أي: لا تبقي له حياة يتلذذ بها، ولا تذره يهلك فيستريح، بل يبقى أبدا في الهلاك، كما قال تعالى: (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى). ويحتمل: لا تبقي له جلدا ولا لحما ولا عظما، بل تنضج جلده وتأكل لحمه، وتكسر عظمه، ولا تذره على تلك الحال كسير العظم، مأكول اللحم، نضيج الجلد، بل يعاد

(29)

جلده ولحمه وعظمه فتحرقها كذلك أبدا، ولا تُبقي له روحا ولا تذره فيهرب منها؛ فيتخلص من عذابها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29): قيل فيه بوجوه: قيل (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ)، أي: محرقة للجلد، فالبشر: الجلد، فجائز أن خص الجلد بالتلويح؛ لأن الجلد من الإنسان هو الظاهر؛ فيكون ظاهر الإحراق مؤثرًا فيه؛ فخصه بالذكر لهذا؛ كما سمي الإنسان: إنسانا؛ لظهوره لكل من هو من أهل الروية، وسمي الجن جنا: لاستتاره عمن ليس من جنسه، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ). وقيل: (لَوَّاحَةٌ)، أي: ظاهرة للبشر؛ كقوله تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ). وقوله: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى)، أي: تظهر لهم وتلوح، فينظرون إليها، ويتيقنون بالعذاب. ويحتمل أن يكون قوله: (لَوَّاحَةٌ)؛ لأن النار تأكل جلودهم ولحومهم؛ فتظهر عظامهم وتلوح عند ذلك، ثم تبدل جلودا ولحوما، أبدا على هذا مدار أمرهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30): روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنها - أنهم خزنة جهنم مع كل واحد من الأعوان ما لا يحصى، وذكر أن ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار، وستة يسوقونهم، وستة يضربونهم بمقامع من الحديد والنيران، والآخر هو الخازن الأكبر، وهو مالك يأمرهم بما أمر هو به. ويحتمل: أن يكون في السقر تسعة عشر دركا، وقد سلط على كل درك ملك؛ وذلك لأن جهنم ذات حد في نفسها؛ لأن اللَّه تعالى وعد أن يملأها من الجنة والناس، ولو لم ترجع إلى حد، لكان لا يتحقق امتلاؤها بالقدر الذي ذكر. ويحتمل: أن يعذب فيها بتسعة عشر لونا من العذاب، قد وكل واحد منهم أن يعذب بنوع من ذلك، والأصل: أن اللَّه تعالى حكيم يعلم أن في كل فعل من أفعاله حكمة

عجيبة، ولكن لا كل حكمة يوصل إليها بالعقل، وينتهى إلى معرفتها بالتدبير؛ ألا ترى أن اللَّه تعالى جعل في الماء معنى يحيا به كل شيء، ولو أراد أحد أن يتكلف استخراج المعنى الذي به صلح أن يكون طبيعة موافقًا لإحياء كل شيء لا يمكنه ذلك، وجعل في الطعام ما يغذي وينمي، ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي يقع به الاغتذاء والإنماء لم يتدارك؛ وكذلك جعل في العدد الذين سماهم حكمة، ولكنا لا نصل إلى تعرفها بعقولنا وتدبرنا. وزعمت الباطنية أن في ذكر الأعداد التي عليها تركيب العالم تعريف الأعداد المجعولة في الروحانيات. فيقال لهم: من جعل الأعداد التي عليها تركيب العالم أولى بأن يتعرف بها الأعداد المجعولة في الروحانيات من أن تجعل الأعداد التي في الروحانيات علمًا لاستدراك المجعولة في الجسدانيات؟ ثم يسألون عن الأعداد المجعولة في الروحانيات لأي معنى جعلت؟ وأي حكمة فيها؟ فليس جوابهم بعد هذا إلا العجز والاعتراف بالجهل، فليقروا بالجهل من الابتداء من غير أن يتكلفوا استخراج ما يوجب عن حقيقة كان فيه ظهور عجزهم، واللَّه أعلم. والأصل عندنا ما ذكرنا: أن أهل التوحيد اعتقدوا أن اللَّه تعالى حكيم، وأنه لا يجوز أن يخرج فعله عن حد الحكمة؛ لأن الذي يحمل الإنسان على الخروج عن حد الحكمة في الشاهد أحد معان ثلاثة: إما الجهل. وإما العجز. وإما الحاجة. واللَّه تعالى عالم لا يجهل، وقوي لا يلحقه عجز عن وفاء ما وعد، وغني لا تمسه حاجة؛ فانتفت عنه الأسباب التي لديها يقع الخروج عن حد الحكمة، فثبت أنه لا يجوز أن يخرج فعله عن حد الحكمة، لكنهم إذا لم يعرفوا الحكمة بعقولهم، ولم يتداركوها بتدبيرهم، ظنوا أنه لا حكمة فيه، وأنكروا أن يضاف ذلك إلى اللَّه تعالى، فأهل الدهر أنكروا البعث، وأنكروا الصانع؛ لما رأوا أشياء في الشاهد هي في الظاهر خارجة مخرج العبث؛ وفعل الحكمة لا يخرج مخرج العبث، فنفوا بهذا أن يكون للأشياء صانع، ومن بنى بناء، ثم نقضه، ثم أعاده إلى الحالة التي كان عليها قبل النقض، لم يكن حكيما، بل كان جاهلا سفيها، فقاسوا أمر البعث على ذلك، وظنوا أنه خارج مخرج العبث؛ إذ ليس

(31)

فيه إلا الإعادة إلى الحالة التي كان عليها قبل الموت. وما ذكرنا من الاعتبار هو الذي حمل الثنوية على القول بإلهين اثنين: أنهم رأوا في الشاهد خيرا وشرا، وصلاحا وفسادا، وظلمة ونورا، ولا يجوز أن يكون جوهر الظلمة والنور واحدا، ولا يجوز - أيضا - أن يكون فعل الحكيم يخرج على الاختلاف والتناقض، فقد بنوا بهذا أن خالق الشر والخير مختلف. وبهذا أنكرت المعتزلة خلق أفعال العباد؛ لأن الفعل يكون مرة خيرا ومرة شرا، ومرة صلاحا ومرة فسادا، ولا يجوز أن يكون الشر مضافا إلى اللَّه تعالى، ولا أن يكون الفساد منسوبا إليه؛ فأنكروا أن يكون لله - تعالى - في أفعال العباد صنع. وأهل التوحيد سلموا الأمر إلى اللَّه تعالى، وفوضوا العلم إليه في كل ما جاء عنه - جل وعز - وإن لم يتداركوا ما فيه من الحكمة بعقولهم؛ لوجودهم أشياء هي خارجة أن يتداركوها بعقولهم، ويقفوا عليها بعلومهم، كما ذكرنا من أمر الماء: أنه قد جعل فيه معنى، ذلك المعنى يحيي الأشياء، ولو أرادوا أن يعرفوا ذلك المعنى بالعقول والآراء، لم يمكنهم ذلك؛ وكذلك في هذا الطعام، وفي الأشياء المشروبة موجود، ثم لم يجب بهذا إنكار المياه وسائر الأطعمة والأشربة؛ فكذلك لا يجب إنكار العدد الذين سماهم الله تعالى من الملائكة، ولا إنكار البعث، ولا إنكار كل شيء لم يقفوا على حكمته بعقولهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً ... (31): فلقائل أن يقول في هذا: إنه لم يجعل أصحاب النار إلا ملائكة، لم يوجد فيها إنسي ولا جني، فكيف قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)، وهو لم يجعل أصحاب النار إلا ملائكة؟ والجواب: أن تأويله: أي: ما جعلنا على أصحاب النار إلا ملائكة يعذبون أهلها بها، لا أن يكون الملائكة تمسهم النار، ويتأذون بها. وفي هذا دلالة على أن من قرأ مكان قوله تعالى: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ): " أصحاب النار " في صلاته لا تفسد؛ لأنه ليس في نسبة أصحاب الجنة إلى أصحاب النار إيجاب عذاب عليهم؛ كما لم يكن في قوله: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً) إيجاب عذاب على الملائكة واستحقاقهم، واللَّه أعلم. وإِنَّمَا خصهم بذلك - واللَّه أعلم - لأنهم خلقوا يسخطون ويغضبون لله تعالى، ولا يعصون اللَّه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، لم يميلوا إلى أحد، ولم يرحموا بما رأوا

عليه من العذاب في معصية اللَّه وخلافه، ليسوا على طباع الإنس والجن أن قلوبهم ربما تميل وترحم من لا يستحق الرحمة. وذكر أهل التأويل أن قوله: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً) رد على أُولَئِكَ الكفرة الذين قالوا: " إنا لنكفي هَؤُلَاءِ العدة -حين سمعوا (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) - فنغلب عليهم، ونخرج من النار "، فأخبر أنهم ليسوا برجال أمثالكم، إنما هم ملائكة، ووصف الملائكة، وقد روى في الأخبار من هول خلقهم، وعظمهم، وشدة بأسهم وبطشهم، وأن لهب النيران يخرج من أفواههم، وأن بنيتهم لا تحتمل الحرق والآلام، وليس على ما عليه بنية البشر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا): الفتنة: قد يتكلم بها على وجهين: فتذكر الفتنة ويراد بها المحنة التي فيها الشدة. وتذكر ويراد بها العذاب. فإن كان يراد بها العذاب، فمعناه: أنه جعل العدد الذي ذكر فتنة للكفرة؛ وهو كقوله: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)، أي: يعذبون. وإن كان يراد بها المحنة، فتخرج على وجوه: أحدها: أي: ما جعلنا ذكر عددهم إلا لافتتان الذين كفروا، أي: من علمَ اللَّه تعالى منه أنه يكفر بآيات اللَّه تعالى، جعل ذلك سببا لفتنته إذا كان في علم اللَّه تعالى أنه ممن يبتغي الفتنة، فأما من علم أنه ينظر في آيات اللَّه مسترشدا، فلم يزده ذلك إلا إيمانا وتصديقا؛ إذ علموا أن لله تعالى أن يمتحنهم بأنواع المحن، فآمنوا به، وسلموا ذلك لله تعالى؛ فيكون في جعل عدتهم تسعة عشر شدة على الكفرة، إذ كان سبب كفرهم؛ فلذلك سمى المحنة على هذا أن وجه فتنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بمعنى: على الذين كفروا. ثم جائز أن يكون ذلك على حدوث الكفر، وهو في قوم قد آمنوا به، فلما سمعوا هذا زعموا أن لا حكمة في هذا العدد، وليس هذا العدد بأولى من أن يجعلوا أصحاب النار من العشرين أو من الثمانية عشر، فكفروا به؛ وهو كقول موسى - عليه السلام -: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ)، وذلك على حدوث إضلال لهم لم يكن

من السامري موجود، لا أن الإضلال متقدم بغيرها. وجائز أن تكون فتنتهم هي أنهم ازدادوا بذكر هذا العدد كفرا إلى كفرهم؛ لأنهم نظروا إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء، ولم ينظروا إليه بعين التبجيل والتعظيم، فازدادوا بذلك كفرا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا): الاستيقان والزيادة واحد؛ لأن في الاستيقان زيادة إيمان، وفي الزيادة استيقان، فمعناه: ليستيقن الذين أوتوا الكتاب والذين آمنوا. ووجه استيقانهم: أنهم يجدون هذا العدد موافقا للعدد الذي في كتابهم؛ فيحملهم ذلك على الاستيقان أنه من عند اللَّه تعالى. ويحتمل أنه يراد به أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا إذا وجدوا ذلك موافقا لما في كتبهم؛ فيستيقنون: أنه إنما يخبر عن اللَّه تعالى، ويرتفع عنهم الارتياب؛ ليكون أدعى لهم إلى الإيمان به، إن أراد منهم الإيمان، وأقرب إلى إلزام الحجة عليهم، إن لم يرد منهم الإيمان، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا)، أي: تصديقا على ما سبق منهم من التصديق بالجملة، وكذلك روي عن أبي حنيفة - رحمه اللَّه - في قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، وفي كل موضع ذكر فيه الزيادة في الإيمان: أن معنى الزيادة فيه: أنهم زادوا بالتفسير تصديقا على تصديقهم بالجملة؛ لأنهم إذا وحدوا الله - تعالى، وآمنوا به، فقد أقروا بأن له الخلق والأمر كله، وفي الإقرار بأن له الخلق إيمانٌ بالرسل وتصديق منه إياهم بجميع ما أنزل عليهم من الكتب عن اللَّه تعالى؛ فصار بإيمانه معتقدًا للتصديق بكل رسول على الإشارة إليه، فإذا آمن بالرسول والكتاب المنزل إليه، فقد أتى بزيادة تصديق على ما وجد منه من التصديق بالجملة. وجائز أن تكون الزيادة منصرفة إلى الثبات والاستقامة؛ لأن الإيمان له حكم التجدد في كل وقت؛ إذ المؤمن في كل وقت مأمور باجتناب الكفر، وإذا اجتنب الكفر، فقد أتى بضده، وهو الإيمان؛ فثبت أن الإيمان له حكم التجدد في كل وقت، وإذا كان كذلك، استقام صرف الزيادة إلى الثبات والقرار عليه، فإن شئت فسم الدوام على الإيمان: زيادة، وإن شئت فسمه: إيمانا، وإن شئت فسمه: ثباتا، وفي الكتاب ما يطلق جواز

هذا كله؛ قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، فندبهم إلى الإيمان بعدما آمنوا، وما ذلك إلا الثبات على ما هم عليه، وقال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وهو الإيمان، وقال في آية أخرى: (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا)، فجعل دوامهم على الإيمان واستقامتهم عليه إيمانا. وقال تعالى: (زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، قال أبو داود: إيمانا مع إيمانهم فأطلق فيه اسم الزيادة، واسم الثبات، واسم الإيمان. وإن كانت الزيادة منصرفة إلى الأعمال، فهو عندنا على الزيادة من جهة الفضيلة والكمال، لا إلى الزيادة في عينه؛ لأن الشيء إذا استحق الزيادة بغيره فاستحقاقه يقع من جهة الفضيلة والكمال؛ ألا ترى إلى قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام " ومعلوم أنه لم يرد به التفاضل من جهة العدد؛ إذ هو يأتي بأعين الأفعال التي يلزمه إتيانها في غير ذلك؛ فكانت الزيادة منصرفة إلى الكمال والفضل، لا إلى الزيادة من جهة العدد. وكذلك قال: " صلاة في جماعة تفضل على صلاة المرء وحده بخمس وعشرين درجة "، ولم يرد به الزيادة من جهة العدد؛ وإنما أريد به الزيادة من جهة الفضل والشرف والكمال، وكذلك الزيادة التي تقع للإيمان من الأعمال الصالحة، إنما هي من جهة الفضيلة والشرف؛ إذ الأعمال ليست من جنس الإيمان؛ إذ الإيمان هو التصديق، وذلك غير موجود في الأفعال؛ فثبت أن زيادته من الوجه الذي ذكرنا دون غيره. وقوله - تعالى -: (وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا): في هذا الفصل كلام بيننا وبين المعتزلة، فهم يزعمون أن تلك العدة -وهي عدة الملائكة- جعلت محنة لأهل الإسلام، وأهل الكتاب، وأهل الكفر، وللذين في قلوبهم مرض؛ ليؤمنوا بها، ويستسلموا لها لا ليكفر بها من كفر، ويقول: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا

مَثَلًا)؟ ولكن لما وجد منهم ذلك القول نسب الجعل إليه، لا أن خلقوا لذلك الوجه؛ وهو كقوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)، نسب إليهما الالتقاط وإن كان الالتقاط لغير ذلك الوجه، وكذلك قال: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، ومعلوم أن الإملاء لم يكن لازدياد الإثم، ولكن هم لما ازدادوا إثما، نسب الإملاء إليه، وإن لم يكن الإملاء لذلك الوجه، وكذلك يقال في الكلام السائر: لدوا للموت وابنوا للخراب ولا أحد يبني البناء للخراب؛ ولكن مصيره لما كان إلى الخراب نسب البناء إليه، وإن لم يكن البناء لذلك الوجه، ويقال: يسرق السارق لتقطع يده، ومعلوم أنه ليس يسرق للقطع، ولكن بسرقته إذن لزمه القطع ولأجلها ما قطع، نسب الفعل إليه، وإن كانت السرقة لغير ذلك الوجه؛ فكذلك العدة التي ذكرت في الآية جعلت فتنة بجهة واحدة، وهي التي ذكرناها، لكنه لما وجد من الكفرة ما ذكرنا نسب الخلق إلى ذلك الوجه، لا أن كان الجعل لذلك. ولكنا نقول: لو كان الأمر على ما زعموا، أدى ذلك إلى إسقاط الربوبية؛ إذ في الحكمة: من عمل عملا يريد غير الذي يكون، أوجب ذلك جهلا بالعواقب، أو جعل عابثا في فعله، ومن هذا وصفه، لم يصلح أن يكون إلها، بل يكون جاهلا سفيها؛ ألا ترى أن من بنى شيئا يعلم أنه لا يكون - كان ذلك منه عبثا، وإذا كان غير الذي يريده كان جاهلا به. فإذا ثبت هذا فنقول: لو أراد اللَّه من الكافر غير الذي كان منه، لكان فعله خارجا مخرج الخطأ، أو العبث؛ فثبت أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - شاء لكل فريق ما علم أن يكون منهم؛ فإذا علم من عبده أنه يؤثر الضلال على الهدى، فقد شاء له الضلال، وإذا علم أنه يؤثر فعل الخير، شاء له ذلك، ووفقه له، وهداه إليه. والجواب عن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)، فمعناه: ليكون لهم في علم اللَّه عدوا وحزنا، لا أن كان الالتقاط منهم لذلك الوجه؛ بل لو علموا أنه يصير لهم عدوا وحزنا لم يلتقطوه، ولكنهم جهلوا ما ينتهي

إليه العاقبة؛ فالتقطوه؛ رجاء أن ينتفعوا به. ولا يجوز أن تخفى على اللَّه تعالى عواقب الأشياء؛ فيكون فعله في الابتداء لغير ذلك الوجه. وقولهم: لدوا للموت وابنوا للخراب فهذا يتكلم به في موضع التذكير والدعاء؛ لئلا يحرص المرء في بناء الأبنية، بل يزهد عنه، ولا يجوز أن يخفى على اللَّه تعالى أمر؛ فيخرج الأمر فيه مخرج التذكير؛ فثبت أنه على التحقيق، واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا): فالمثل يذكر بمعنى البيان؛ كقول القائل: " أمثل لك صورة كذا " يريد أبين لك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، فهذا كله تفسير قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً. . .) الآية، أي: يضل به من كان في علمه أنه يختار الضلال، واختياره الضلال هو أن ينظر في آيات اللَّه تعالى بعين الاستهزاء والاستخفاف، ومن كان نظره في آيات اللَّه ما ذكرنا، أضله اللَّه تعالى، وزاده غواية، ومن نظر في آيات اللَّه، بعين الاستهداء والاسترشاد، واستقبلها بالتبجيل والتعظيم لها، وفقه اللَّه تعالى، ومن عليه بالهداية؛ وهو كقوله تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)، وغير ذلك، واللَّه الموفق. وقالت المعتزلة: قوله: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ)، أي: يسميه: ضالا، أو يحكم عليه بالضلال إذا ضل، لا أن يكون اللَّه - تعالى - يضله، ويشاء ضلالته. فيقال لهم: إذا كان اللَّه يريد أن يؤمن به، وذلك إرادته في كل أحد عندكم فتسميته إياه: ضالا، وحكمه بالضلال وهو يريد أن يهتدي - جور منه، وفيه تحقيق كذبه، جل اللَّه تعالى عن أن يلحقه وصف الجور في فعله، أو ينسب إلى الكذب. وقال أبو بكر الأصم: تأويله؛ أن اللَّه - تعالى - ينصب طريقا، مَن سلكه أفضى به إلى الهداية، ومن زاغ عنه صار إلى الضلال، ولا يتهيأ لأحد من الخلائق أن ينصب مثله. فنقول: لو كان التأويل على ما زعم لكان حقه أن يقال: " كذلك يضل اللَّه ما يشاء ويهدي ما يشاء "؛ فلما قال: (مَنْ يَشَاءُ)، و " مَن " يعبر به عن الأشخاص العقلاء لا عن

الطريق التي لا يعقل، ثبت أن الذي قاله ليس بشيء يعتمد عليه. ثم الأصل أن قوله: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) من صفات الربوبية، وفيه امتداح الرب - تعالى - بالفعل لما يريد، فلو لم يكن مريدا منهم ما قد كان، ولم يرد كون ما علم أنه يكون، سقط الامتداح، وخرج عن أن يكون من صفات الربوبية؛ فثبت أن الله تعالى شاء لكل فريق ما علم أن يكون منهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ): فالجنود هو اسم للجماعة التي ينتقم بها، وينتصر بها. وجائز أن يكون قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) منصرفًا إلى الملائكة، التي هي أصحاب النار، ليس ما جعله من خزنة النار عددًا قليلًا؛ لقلة جنوده، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)، أي: لا يعلم مقادير قواهم وأحوالهم إلا اللَّه؛ فمعناه: لا يعلم جنود ربك، أي: لا يعلم قوة هَؤُلَاءِ الجنود وبطشهم وهيبتهم إلا هو. ثم يجوز أن يكونوا سلطوا على تعذيب أهل النار؛ على جهة الامتحان للملائكة؛ كما امتحن بعضهم بإيصال التحف والكرامات إلى أهل الجنة، وكما امتحن بعضهم في الدنيا بقبض الأرواح، وبعضهم باستنزال الأمطار، وغير ذلك. وجائز أن يكون تسليطهم على أهل النار على جهة الثواب والجزاء لهم؛ لأنهم يتلذذون بما يعذبون أهل النار، وينتقمون من أعداء اللَّه تعالى؛ لأن المرء في الشاهد إذا وصل إلى الانتقام من عدوه، تلذذ به وتنعم. ويحتمل أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)، أي: وما يعلم كثرة جنود ربك إلا هو. ويحتمل: وما يعلم السبب الذي به يجعل الجنود، ويصلحون للانتقام إلا هو؛ إذ هو القادر على أن يجعل أضعف شيء من خلقه جندا ينتقم به من أعدائه، كما في قصة البعوض في زمن نمرود، وغير ذلك من إرسال الطير إلى أصحاب الفيل، وإمطار الحجارة على قوم لوط، ونحو ذلك. ويحتمل أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ)، أي: لا يعلم ما الذي يتخذ اللَّه تعالى جندًا للانتقام من الأعداء إلا هو؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - انتقم من بعض

(32)

الأعداء بالغرق، وهم قوم فرعون وقوم نوح - عليه السلام - وأهلك بعضا منهم بالرياح، واتخذها جنودا عليهم، وأهلك بعضهم بالخسف؛ فيكون في هذا إيجاب المراقبة من حلول النقمة والسخطة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ): جائز أن يكون منصرفا إلى السقر أنها ذكرى للبشر، أي: موعظة وتذكيرا لهم ما إليه مرجع أمورهم. وجائز أن يكون منصرفا إلى عدة الملائكة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا ... (32): قيل: حقًّا. وقيل: هو على الردع والتنبيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْقَمَرِ. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33). فهذا في موضع القسم؛ وقد ذكرنا أن القسم؛ لتأكيد ما قصد إليه بالذكر، وإدبار الليل بمجيء النهار، فجائز أن يكون ذكر آخر الليل يقتضي ذكر أوله، وذكر أول النهار يقتضي ذكر النهار كله؛ فيكون القسم بهما قسما بالليل كله، والنهار كله. ثم الليل إذا أقبل عملت ظلمته في ستر الأشياء كلها بساعة لطيفة، وكذلك النهار إذا أقبل عمل في دفع الظلمة عن الخلائق جملة بساعة لطيفة ما لو اجتهد المرء في جميع عمره -وإن طال- على عد تلك الأشياء؛ ليحيط علما بجملتها، لم يتمكن منه، وإذا كان لليل من السلطان ما ذكرنا، ولإقبال النهار من الأمر ما ذكرنا، وكان الذي ذكرنا أمرا مشاهدا معاينا، ولو أريد معرفة ما فيهما من الحكمة: أنه لأي معنى ما صلح أن يكون الليل ساترا عن درك أعين الأشياء، واستقام أن يكون النهار مزيلا للستر؟ لم يقدر عليه؛ فيكون فيه إبانة أنه لا يجب إنكار كل ما لا يوصل إلى درك الحكمة فيه بالعقول والآراء؛ فيكون فيه إيجاب التصديق بالأنباء التي يأتي بها الرسل، وإن كان فيها ما لا يوقف على الحكمة المجعولة فيها بالآراء. وفيه أن منشئ الليل والنهار واحد، وأن الخلائق بجملتهم تحت سلطانه وتدبيره، يحكم فيهم ما يشاء، ويفعل ما يريد. وجائز أن يكون القسم منصرفا إلى الوقتين اللذين وقع عليهما الذكر، وهما إدبار الليل، وإسفار الصبح؛ فيكون فيهما ما في الأول.

(34)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَسْفَرَ (34)، أي: أضاء، وانتشر. وقوله: (إِذْ أَدْبَرَ)، أي: ذهب. وحكي عن الكسائي أنه قال: إن " دبر " لغة قرشية، يقولون: ذهب كالأمس الدابر، أي: الذاهب، فيقولون: دبر في الأيام والشهور والسنين، ولا يقولون في غير ذلك: لا يقولون: دبر الرجل، ودبر الأمر؛ ولكن يقال: أدبر. وفي حرف ابن مسعود (إذا دبر)، وفي الحروف (إذا أدبر)، والمعروف (إِذْ أَدْبَرَ) كما قلنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) قيل: يعني: السقر. ثم عذاب أهل النار ألوان، وفي جهنم دركات، والسقر: إحدى دركاتها؛ إذ هي لون من ألوان العذاب؛ فصارت هي من إحدى الكبر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36). فمنهم من صرف النذارة إلى السقر، ومنهم من صرفها إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو كقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)، فمنهم من قرأ (لتنذر) بالتاء، وصرف النذارة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ومنهم من قرأ بالياء، وصرفها إلى القرآن. ثم الأصل أن ما خرج مخرج الأفعال مضافًا إلى الأشياء اللاتي ليست لهن أفعال، فهو يقتضي أمرين: أحدهما: ذكر الأحوال التي تقع لديها مما لو لم يكن ذلك سببًا لم تحدث تلك الأحوال من غير أن يكون علة لها؛ فنسبت إليها إذا صارت سببًا؛ لحدوث تلك الأحوال، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، وحياة الدنيا لا تغر أحدا، ولكنهم اغتروا بزينتها، فنسب إليها الغرور لما كانت سببا لتغريرهم. والثاني: أنها أنشئت على هيئة لو كانت من أهل التغرير، لكانت تغر، فنسب إليها الغرور لذلك. وقال في قصة إبراهيم - عليه السلام - (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ)، والأصنام ليست ممن ينسب إليها الإضلال؛ لأنه لا فعل لها، ولكن عبادها لما ضلوا بها، نسب الإضلال إليها، وهي - أيضا - على صورة لو كانت لها

(37)

أفعال لكان يقع منها الإضلال؛ فنسب إليها الإضلال؛ للوجهين اللذين ذكرناهما؛ فكذلك النذارة أضيفت إلى النار هاهنا؛ لأنه عند ذكرها تقع النذارة؛ فأضيفت إليها لذلك. أو خلقها على هيئة لو كانت من أهل النذارة، لكانت نذيرة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37): قيل: هو على التهديد كقوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، وذلك إنما يكون على إثر المبالغة في العظات، وتذكير عواقب الأمور، وقد بالغ في ذلك في هذه السورة وبين عواقب أمور العباد. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) قيل: أن يتقدم إلى طاعة اللَّه، أو يتأخر إلى معصية اللَّه تعالى. والأصل: أن المرء جبل على حب المنافع لنفسه والخيرات، وعلى بغض الشر والمضار، ومن أحب شيئا طلبه، ومن أبغض شيئا اجتنبه، وهرب منه، وإذا طلب شيئًا تقدم إليه، وإذا هرب من شيء تأخر عنه؛ فكنى عن الطلب بالتقدم وعن الهروب بالتأخر؛ فقيل في تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتَقَدَّمَ) أي: إلى طاعة اللَّه، تجدي إليه المنافع في الآخرة، وتجلب إليه المحاسن أو يتأخر عن طاعته؛ إذ في الإعراض عن طاعته إيقاع النفس في المهالك وأنواع الشدائد. وجائز أن يكون قوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)، معناه: يتقدم، ويتأخر بتخليق اللَّه تعالى فعل التقدم والتأخر منه؛ فيكون فعلا له وكسبا؛ لوجوده في حيز قدرته، وخلقا لله تعالى؛ فيكون مثل قولنا، لا حجة علينا، في إضافته التقدم والتأخر إلينا، والله الموفق. * * * قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ): أصحاب اليمين هم الذين وصفهم اللَّه تعالى في موضع آخر في كتابه، وهو قوله - عز وجل -: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)، فاستثنى أصحاب اليمين من جملة

(40)

المرتهنين؛ لأنه ذكر الرهون بلفظ يعبر بها عن الجمع، وهو قوله: (كُلُّ نَفْسٍ)، فاستقام استثناء الجماعة من تلك الجملة، أي: أصحاب اليمين قد سبقت منهم الأعمال التي يستوجبون بها الإطلاق عن الحبس؛ لأن المجرمين صاروا مرهونين بإجرامهم، وأصحاب اليمين قد اكتسبوا الخيرات، وعملوا الصالحات، والأعمال الصالحة جعلها اللَّه تعالى مكفرة للمساوئ والإجرام؛ كقوله: (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43). فظاهر هذا يؤدي إلى أن التساؤل كان من أهل الجنة بعضهم بعضا، وإذا صدر السؤال عن بعضهم بعضا فحقه أن يقال: " ما سلكهم في سقر "؛ لأن أهل السقر لم يسألوا، بل سئل عنهم غيرهم؛ ألا ترى أنه قال: (عَنِ الْمُجْرِمِينَ)، ولم يقل: " يتساءلون المجرمون "؛ فثبت أن الظاهر يقتضي أن يكون المخاطبون غير المجرمين؛ لذلك قلنا: إن حق مثله أن يقال: " ما سلكهم في سقر "، لكنه يحتمل أن يكون قوله: (عَن) زيادة في الكلام، وحقه الحذف والإسقاط، وإذا حذف ارتفع الريب والإشكال؛ كأنه قال: في جنات يتساءلون المجرمين؛ فيكون فيه تثبيت أن أهل السقر هم الذين خوطبوا بالسؤال. وجائز أن يكون أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا عن مكان المجرمين، أين مكانهم؟ وأين هم؟ فيطلعون عليهم فيسألونهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)؟ فيقولون إذ ذاك: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. . .) إلى آخر الآية؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)؛ فثبت أنهبم يطلعون على أماكنهم، فإذا رأوهم سألوهم عن ذلك بقوله: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)، فأجابوا بما أخبر اللَّه تعالى عنهم بقوله: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. . .) إلى قوله: (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ). والأصل: أن الأفعال التي يتعلق جوازها بالإيمان إذا أضيفت إلى من ليس من أهل الإيمان، أريد بها القبول، وإذا أضيفت إلى أهل الإيمان، أريد بها أعين تلك الأفعال. والذي يدل على هذا هو أن الكافر يسلك به إلى سقر إذا كان مكذبا بيوم الدِّين، وإن أقام الصلاة، وأطعم المسكين، لم ينفعه ذلك حتى يوجد منه الإيمان؛ فثبت أنه لم يرد بذكر هذه الأفعال إتيان أعينها؛ وإنما أريد بها القبول والإقرار بها؛ والذي يدل على

صحة ما ذكرنا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ)؛ فثبت أنهم جحدوا أن يكون عليهم إطعام؛ فدل أنه أريد بذكر الإقامة قبولها، لا وجود عينها، وعليهم أن يقبلوا إقامة الصلاة، ويقروا بإيتاء الزكاة، وقد يجوز أن يذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويراد به القبول؛ قال اللَّه تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)، ولم يكن إيجاد الإقامة وإيجاد الإيتاء من شرط التخلية؛ بل كان معناه على القبول، فإذا أقروا بالصلاة وقبلوا إقامتها، وأقروا بالزكاة، لزم تخلية سبيلهم وإن لم يوجد منهم الفعل بعد؛ فلذلك صلح حمل التأويل على القبول، ولم يحمل على وجود حقيقة الفعل؛ لما ذكرناه. هذا إذا ثبت أن تأويل قوله: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) منصرف إلى الصلاة المعروفة، فكيف وقد يجوز أن يكون أريد بالمصلين: الموحدين هاهنا؛ لأن أهل الصلاة هم المسلمون، يقال: " أجمع أهل الصلاة على هذا "، ويُعني به المسلمون. ثم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جمع في الذكر بين التكذيب بيوم الدِّين وبين ترك الصلاة وترك الإطعام، وهذا - واللَّه أعلم - يحتمل وجهين: أحدهما: أن الذي يقر بالصلاة والإطعام وإيتاء الزكاة هو الذي يقر بيوم الدِّين؛ لأن المرء إنما يرغب في فعل هذه الأشياء؛ لما يطمع من المنافع في العواقب، ويتقي بتركها مخافة التبعة في العواقب؛ فإذا لم يقر بيوم الدِّين، لم يرج المنافع، ولا خاف المضار؛ فيحمله ذلك على ترك الإطعام وتضييع الصلاة، وعلى ترك إيتاء الزكوات، وعلى جحدها كلها وعدم قبولها، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)؛ لعدم رجاء العواقب؛ فإذا لم ير لفعله عاقبة، لم يقم بالانتصار لليتيم، ولا قام بالإحسان للمسكين، بل تكذيبه بيوم الدِّين يحمله على الجور على اليتيم، وترك الإحسان إلى المسكين؛ فلذلك جمع في الذكر بين تكذيب يوم الدِّين وبين ترك الصلاة، وإيتاء الزكاة وترك الإطعام. وجائز أن يكون الذي حملهم على التكذيب بيوم الدِّين هذه الوظائف التي وظفت عليهم بالإسلام؛ لأنهم إذا آمنوا بيوم الدِّين، لزمهم تحمل هذه الأحمال من إقامة

(45)

الأفعال؛ والصلاة، وإيتاء الزكاة، وإطعام المساكين، وصيام شهر رمضان، وغير ذلك من العبادات؛ فاشتد عليهم ذلك؛ فتركوا الإيمان بها؛ لئلا يلزمهم تحمل هذه الأفعال التي حملها أهل الإيمان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45): فالخائض هو الذي يخوض في الباطل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47): أي: حتى أيقنا أنا كنا على باطل فيما كنا نخوض فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) معناه: أن لا شفيع لهم؛ والأصل: أن الشفاعة إذا أضيفت إلى أهل الكفر، فقيل: ليس لهم شفعاء، أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين، اقتضى نفي الشفاعة، أي: لا شفيع لهم. وإذا أضيفت إلى أهل الإيمان اقتضى نفي الانتفاع بشفاعة الشفعاء، ولم يقتض نفي الشفاعة؛ كما ذكرنا: أن الأفعال التي يكون قوامها بالإيمان إذا أضيفت إلى الكفار فهي تقتضي نفي القبول، وإذا أضيفت إلى أهل الإيمان فهي تقتضي نفي الفعل. وقولنا بأنه إذا قيل: " لا شفيع له "، وأريد به أهل الإسلام، فهو يقتضي نفي الانتفاع، ولا يقتضي نفي الشفاعة - فذلك ينصرف عندنا إلى أهل الاعتزال والخوارج؛ لأنا نرى أصحاب الكبائر من أهل الإسلام مستوجبين للشفاعة، وهم يقولون: لا يجوز في حكم اللَّه تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر، بل يخلدهم في النار؛ لأن اللَّه تعالى أوعد النار لمن ارتكب الكبائر، وأخبر أنهم يخلدون فيها؛ فلا يجوز أن يقع في وعده خلف، أو يتحقق في خبره كذب، ولو استوجبوا الشفاعة، ونالوا بها المغفرة من رب العزة، لصار فيما وعد مخلفا، وفيما أخبر كذوبا؛ فمثل هَؤُلَاءِ إذا ارتكبوا الكبائر لا يرجى لهم الخلاص بالشفاعة أبدا؛ بل يحكم عليهم بالخلود في النار؛ فيرتفع ما يثبت الكذب وينتفي ما يوجب خلف الوعد. ولأنهم لما اعتقدوا التخليد في النار لمن ارتكب الكبائر، وجب أن يكون نفيهم الشفاعة بزعمهم على ذلك؛ لأن اللَّه تعالى يقول: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ)؛ فلا يجوز أن يحق عليهم العذاب ثم لا ينالهم العذاب إذا بعثوا. ثم احتج فريق منهم بنفي الشفاعة في الآخرة بقوله: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ)

، وبقوله: (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)، وبقوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ)، وزعموا أن شفيع كل امرئ منهم عمله يومئذ؛ فمن حسن عمله نجا به، ومن ساء عمله حق عليه العذاب، ولم يكن له شافع، ولو وجب نفي الشفاعة بما ذكر من هذه الآيات الظاهرة، لوجب تحقيقها بقوله: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)، وبقوله: (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)؛ إذ في هاتين الآيتين أن اللَّه تعالى قد يأذن بالشفاعة يومئذ للبعض؛ فثبت أن ما ذكرتم من نفي الشفاعة، لم يقتض نفيا على الإطلاق، بل النفي انصرف إلى بعض الخلائق، ووجب القول بثبوتها لبعضهم. ثم جاءت الأخبار مفسرة على إيجاب القول بالشفاعة لأهل الكبائر؛ فثبت أن ما ذكر من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ)، وقوله: (وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)، منصرف إلى أهل الكفر، وبه نقول. ومن المعتزلة من يحقق الشفاعة، ولكنه يراها للذين يستوجبون استغفار الملائكة في الدنيا، وهم الذين ذكرهم اللَّه تعالى في كتابه: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ)، فأما أصحاب الكبائر؛ فإنهم لا تنالهم شفاعة أحد؛ بل يخلدون في النار. فيقال لهم: فأية منفعة تحصل للذين تابوا واتبعوا سبيله في الشفاعة، وهم قد استوجبوا الخلاص بتوبتهم، واتباعهم سبيل الرشاد. فإن قالوا: منفعتهم بها: أنه يعظم قدرهم عند اللَّه تعالى، ويستوجبون بها فضل الدرجات؛ كما ترى المرء في الشاهد يذكر أخاه عند الملوك بحسن السيرة، ويذكره بما فيه من المناقب الجميلة والمحاسن، ويبتغي بذلك إعلاء منزلته، وإعظام قدره عندهم؛ ليعظموه، ويبجلوه، فكذلك الشفعاء في الآخرة يثنون عند اللَّه تعالى على أوليائه خيرا؛ ليزيد في درجاتهم، وتعظم منزلتهم عند اللَّه تعالى. والجواب أن هذه الزيادة في الدرجات ليست إلا إلى الوصول إلى فضول الشهوات، وفضول الشهوات والزيادة في اللذات لا تذكر في المنافع؛ إذ لا حاجة لهم إلى ما هو

(49)

في حق الفضول من الشهوات؛ فيكون في مثالها دفع الحاجة، والوصول إلى المنفعة، ومعلوم أنهم إنما طمعوا في الشفاعة؛ لما يحصل لهم بها من المنفعة وإنَّمَا تحصل لهم بها المنفعة إذا وقعت إليها الحاجة، وأهل الكبائر هم الذين تمسهم الحاجة إليها، فأما الذين تابوا وأنابوا فقد استغنوا عن الشفاعة؛ لذلك وجب القول بتحقيق الشفاعة في أهل الكبائر. وأما استدلالهم بما ذكروا من أمر الشهود، فليس بمحكم من القول؛ لأن المرء إنما يذكر أخاه بالجميل، ويظهر ما اشتمل عليه من خلال الخير لجهل الملوك بحاله فيما هو عليه من جميل الخصال، ومحمود الفعال؛ ألا ترى أن الملك إذا كان عالما بحاله، لم يقدم الإنسان على نشر الجميل منه؛ فثبت أن الذي يحوجه إلى الثناء عليه عند الملوك جهل الملوك بحاله؛ ولا يجوز أن يكون اللَّه تعالى يخفى عليه حال أحد، وما هو عليه من ظواهر أموره وبواطنها حتى يحتاج إلى معرف يعرفه؛ فبطل أن تكون الشفاعة للوجه الذي ذكروه، وثبت أنها للوجه الذي ذكرناه. ثم العفو والصفح عن إحلال العقوبة بمن هموا أن يعاقبوه بجريمة سبقت منه، ثم الشفاعة فيما بين الخلق أمر معهود أنها تكون عند زلات يستوجب بها العقوبة والمقت؛ فيعفى عن مرتكبها بشفاعة الأخيار وأهل الرضاء؛ فلا ينكر أن يكون اللَّه تعالى يعفو عمن استوجب العقاب بشفاعة الأخيار وأهل الرضاء والأبرار، واللَّه الموفق. * * * قوله تعالى: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ): جائز أن يكون تأويله: ما لهم معرضين عن ذكر ما لهم، وما عليهم، وعما إليه مآلهم ومنقلبهم؛ وذلك يكون في الرسول وفي القرآن؛ لأن كل واحد منهما يذكر للمرء ما له وعليه، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون تأويله: فما لهم عما به يشرف قدرهم، ويصيرون به مذكورين في

(50)

الملأ الأعلى - معرضين؛ وذلك يكون في طاعته، والإقبال على عبادته، وهو كقوله تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، معناه: أنكم تصيرون به مذكورين، ويعظم قدركم لو اتبعتموه، ولم تضيعوا حرمته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50). بنصب الفاء وخفضه. فمن قرأ بخفض الفاء صرف الفعل إليها، كأنه يقول: حمر نافرة، ونفر واستنفر واحد؛ كما يقال: استرقد القوم، أي: رقدوا. ومن قرأ بنصب الفاء، فتأويله: أنه فعل بها ما يحملها على النفار، وذلك يكون بالرمي وبالقانص من الأسد، كما ذكره أهل التفسير في تأويل القسورة هي الأسد، أو الرماة، أو الصيادون. ويقال: هي النفرة، وكان هذا تشبيها بالحمر الوحشية التي في طبعها النفار. ووجه التقريب هو أن هَؤُلَاءِ أعرضوا عما في الإقبال عليه نجاتهم وتخلصهم من العطب، ونفروا كنفار الحمر المستنفرة من العطب والهلاك. وفي هذه الآية تبين شدة سفههم وغاية جهلهم؛ لأن الحمر تنفر عن القانص والرامي والأسد؛ لتسلم من الهلاك والعطب، وهَؤُلَاءِ الكفرة نفروا عما فيه نجاتهم إلى ما فيه هلاكهم وعطبهم؛ فهم أشر من الحمير وأضل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52). قال بعض أهل التأويل: إن المشركين قالوا: يا مُحَمَّد، بلغنا أن الرجل في بني إسرائيل كان إذا أذنب ذنبا، فيصبح، وجد صحيفة معلقة على باب داره أو مكتوبا عند رأسه: إنك أذنبت كذا. وزاد بعضهم: إنك أذنبت كذا، وتوبتك كذا. وسألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يجعلهم كذلك؛ فأخبر اللَّه تعالى ذلك عنهم، ثم آيسهم عن ذلك، فقال: (كَلَّا)، أي: لا تنالون ما تأملون. وقال قتادة: قالوا: يا مُحَمَّد، إنْ سَرَّك أن نتبعك فائت كل واحد منا بصحيفة خاصة: إلى فلان بن فلان، تأمرنا فيها باتباعك.

وقيل: سألوا أن يؤتوا ببراءة بغير عمل. ولكن لا يجب قطع الأمر على واحد من هذه التأويلات، بل يقال بها على جهة الإمكان والاحتمال؛ لأن هَؤُلَاءِ المفسرين لم يشاهدوا أُولَئِكَ القوم الذين صدرت منهم هذه الإرادة؛ ليخبروهم ماذا أرادوا به؟ حتى يثبت ما ذكروا من القصة والأخبار، ولا تواترت الأخبار من عند ذي الحُجَّة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنهم سألوه ذلك؛ لذلك لم يستقم قطع الأمر على ما ذكروا. وجائز أن تكون هذه الإرادة تحققت في بعض الكفرة وهم الرؤساء منهم والأكابر، لا أن أراد كلٌّ في ذات نفسه أن يؤتى صحفا منشرة. والإرادة هاهنا عبارة عن الطلب، ثم طلبهم ما ذكر يتوجه إلى أوجه ثلاثة: أحدها: أن يكون كل واحد من عظمائهم ود أن يكون هو المخصوص بإنزال الكتاب عليه؛ كما قال في آية أخرى: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)؛ فيكون في هذا إظهار استكبارهم على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، على جهة التعنت والعناد؛ ليصير ذلك آية لهم في تحقيق رسالة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كما قال اللَّه تعالى حكاية عنهم: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. . .) إلى قوله: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ)، ففي هذه الآية إبانة أنهم كانوا يطلبون إنزال الكتاب عليهم؛ ليتقرر لديهم رسالة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكان ذلك على جهة التعنت والعناد؛ وإلا لو تفكروا في حاله أداهم ذلك إلى العلم برسالته من غير أن يحتاجوا إلى تثبيت رسالته بكتاب ينزل عليهم، واللَّه أعلم. وجائز أن يكونوا رأوا أكابرهم أحق بالرسالة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأولى بإنزال الكتاب عليهم؛ لما رأوهم أفضل من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ألا ترى إلى قوله: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وقال في آية أخرى: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا)، فأرادوا أن يؤتوا صحفا منشرة لهذا المعنى؛ إذ هم أولى أن يخصوا بهذه الفضيلة. وإنما ذكرنا هذه التأويلات في هذه الآية، لأن هذه المعاني التي ذكرناها قد ظهرت منهم بمتلو القرآن، والتأويلات التي ذكرها أهل التفسير لا يتهيأ تثبيتها من جهة الكتاب ولا من جهة الإخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فصارت هذه التأويلات أمكن وأملك بالآية من غيرها، واللَّه أعلم.

(53)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53): إن الذي حملهم على الطلب بأن يؤتى كل منهم صحفا منشرة إعراضهم عن الإيمان بالآخرة؛ وإلا لو آمنوا بها، لكان إيمانهم بها يحملهم على ترك العناد والتعنت، وعلى ترك الجسر على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويدعوهم إلى الإذعان للحق. وقوله: (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) سنذكر معنى هذه الآية في سورة " عبس وتولى "، وسنذكر معنى قوله: (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) في سورة " إذا الشمس كورت ". وقوله: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56): فأهل التأويل صرفوا قوله (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى) إلى اللَّه تعالى. وجائز أن يصرف إلى البشر. فإن كان المراد من قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى): البشر؛ فيكون معنى قوله: (هُوَ أَهْلُ التقوَى)، أي: الذي يقوم بالذكر؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا)، فجعل الذين ألزمهم كلمة التقوى من أهل التقوى، وإن كان المراد من قوله: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى)، أي: اللَّه - سبحانه وتعالى - فتأويله أنه أهل أن يتقي الزلة والعثرة في حقوقه تعالى. والوجه فيه أن المرء في الشاهد إنما يتقي الزلة والعثرة إلى آخر؛ لإحدى خصال ثلاث: إحداها: لما يرى من افتقاره وحاجته إليه؛ فيتقي العثرة إليه؛ تبجيلا وتعظيما. أو يتقي زلته؛ ذلك لما يرى من قدرته وسلطانه على الانتقام منه. أو يتقي زلته؛ لكثرة نعمه وأياديه؛ استحياء منه. وإذا كانت هذه الأشياء هي الداعية إلى الاتقاء، فإن الخلائق بأجمعهم مفتقرون ومحتاجون إلى اللَّه تعالى، وله القدرة والسلطان عليهم، وهو المنعم المتفضل على كل أحد، فهو أهل أن يعظم ويوقر، وأن يخاف نقمته، ويستحيا منه، ومن اتقى صار أهلا لأن يغفر له. وجائز أن يكون معنى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى)، أي: هو أهل لأن يسأل منه ما يتقي به من النار بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، وبقوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، ثم علمنا وجه الاتقاء

بقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، فبين أن الاتقاء أن يفزع إلى اللَّه تعالى، ويتضرع إليه؛ ليتقي بفضله ورحمته، وقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، فأمرنا - جل جلاله - بالمناصبة مع الشيطان؛ للمحاربة، وأخبر أن محاربته أن نفزع إلى اللَّه - تعالى - بالاستعاذة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)، وقال في آية أخرى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. . .) الآية، فهو أهل أن يطلب منه ما يتقي به، وأهل أن يستعاذ به؛ لدفع كيد العدو. (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)، أي: أهل أن يطلب منه المغفرة، جعلنا اللَّه - تعالى - من أهل التقوى والذين من عليهم بالمغفرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)، أي: هو أهل أن يتقي عنه، وأهل أن يغفر لمن اتقاه، واللَّه المستعان. * * *

سورة القيامة

سُورَةُ الْقِيَامَةِ، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)، اختلف في تأويله: فمنهم من ذكر: أنه أقسم اللَّه تعالى بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة، ذكر ذلك عن الحسن، ويكون معناه: لأقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة. لكن ذكر عنه أنه يقول في قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ): إن القسم يقع على البلد ووالد وما ولد، والوالد هو آدم عليه السلام، وما ولد جملة أولاده عليه السلام، فإذا كان القسم جائزا بالوالد والمولود جميعا، كانت النفس اللوامة داخلة في جملة المولود فقد أقسم بالنفس اللوامة عنده؛ فلا معنى للرد هاهنا ثم موقع " لا " في قوله: (لَا أُقْسِمُ) وتأويله - يذكر في قوله: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) في سورة يذكر فيها الكبد. ومنهم من ذكر أن القسم وقع بهما جميعا، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه. ثم صرف بعض أهل التأويل معنى القسم إلى قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ)، وجعله موضع القسم، فإن كان على هذا، فالإشكال عليه أن يقول قائل: كيف أكد أمر البعث، وجمع العظام بالقسم بيوم القيامة، وقد جرى من القوم الذين احتج عليهم بهذه الآية الإنكار بيوم القيامة، فكأنه أكد القسم بشيء جرى به الإنكار؟

والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن يكون القسم منصرفا إلى الحكمة التي توجب القول بالبعث؛ إذ قد بينا في غير موضع: أنه بالبعث ما خرج خلق هذا العالم مخرج الحكمة، ولولا البعث، لكان خلقه عبثا باطلا، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، كأنه قال: لا أقسم بحكمته الداعية إلى كون القيامة كذا أن يكون كذا. وجائز أن يكون القسم في الحقيقة بالدلائل والبراهين التي من تفكر وأمعن النظر فيها، حمله ذلك على القول بالبعث، وإذا كان محتملا صح القسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة؛ لأن التفكر في النفس اللوامة والاعتبار بها يدعو إلى القول بالبعث. ثم العادة جرت على القسم بالأشياء التي عظم خطرها، وجل قدرها في القلوب؛ وجلالة خطرها يكون بأحد وجهين: إما بما كثرت منافعها؛ فيكون خطرها مشاهدا معروفا. أو بعظم خطرها بالدلائل والأخبار، فالسماوات والأرضون قد عرف الخلق جلالة أقدارهما بالعيان؛ بما كثرت منافع الخلق بهما. وعظم يوم القيامة بما جل خطره في القلوب؛ وثبت القول بكونه بالدلالات والبراهين. ثم قد وصفنا أن اللَّه - تعالى - أقسم بأشياء؛ لتأكيد ما يعرف بيانه ويجب القول به لولا القسم لو أمعن النظر فيه؛ وأعملت فيه الروية؛ لذلك استقام القسم بها، واللَّه أعلم. واختلف في النفس اللوامة: قَالَ بَعْضُهُمْ: النفس اللوامة هي النفس الكافرة، تلوم ربها في الدنيا أبدا في تضييق العيش عليها، وتشكو ربها من الفقر والإقتار عليها، مع كثرة نعم اللَّه عليها وإحسانه إليها. ومنهم من صرف التأويل إلى كل نفس مؤمنة كانت أو كافرة، فهي تلوم غيرها؛ لتعاطيها أشياء قد تعاطت نفسه مثلها، وامتحنت بها، والحق على كل أحد ألا يلوم أخاه بما تعاطى فعلا قد أتى هو ذلك الفعل بعينه أو مثله، ولكنها أنشئت كذلك لوامة، كما قال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا). ومنهم من ذكر أن هذا يكون في الآخرة، فالكافر إذا أيقن بالعذاب وما حل به من نقمة اللَّه تعالى ند على ما فرط في جنب اللَّه، وأدركته الحسرة؛ فعند ذلك يلوم نفسه،

(3)

والمؤمن إذا عاين الثواب يلوم نفسه لما أمسك عن المعصية وتاب، وأطال المقام في المحراب؛ وأبصر للعاملين بالطاعة حسن المآب، وللعاصي نفسه بما شذ منه وغاب، عند كمال القوة وعنفوان الشباب، وقال: كيف لم أزدد في العمل؛ لأزداد في الثواب! ومنهم من خص الكافر في الآخرة باللوم على نفسه، وهذا أظهر؛ لأن المسلم إذا أكرم بالثواب فشكره لذلك يشغله عن اللوم على نفسه؛ فلا يتفرغ له. ولأن اللَّه - تعالى - يضاعف له من الحسنات، ويعطيه من الدرجات زيادة على ما استوجبه بعمله؛ فضلا منه وإنعاما، فكيف يلوم نفسه بتقصيرها في العمل، وهو يعلم أن ما وصل إليه من الكرامات، لم ينل جملتها بعمله، بل بفضل اللَّه تعالى وبكرمه، والله أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3): فقوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ) وإن خرج مخرج الاستفهام في الظاهر فليس هو باستفهام؛ ولكنه تحقيق حسبان من الإنسان؛ فجائز أن يكون ما حمله على الحسبان هو أن القدرة لا تنتهي إلى هذا في أن تجمع العظام وتؤلف بعد تفتتها وتلاشيها، فيدفع حسبانه هذا بقوله: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)، فمن تفكر في النشأة الأولى، علم أن القدرة تنتهي إلى جمع العظام بعد أن صارت رميما، وأن الذي قدر على إنشائها لقادر على جمعها بعد تفريقها. وجائز أن يكون حسب أن العظام لا تجمع بعد تفريقها؛ لأنها لو جمعت بعد التفريق، لم تكن تفرق بعد أن وجدت مجموعة؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد لا يقصد إلى نقض ما بنى؛ ليعيده مرة أخرى إلى الجهة المتقدمة، ومن فعل ذلك كان عابثا في هدمه، ولم يكن حكيما، فإن كان هذا المعنى هو الذي حمله على الحسبان، فجوابه أن يقال بأن الجمع الأول وقع لمكان المحنة والابتلاء، والجمع بعد التفريق لمكان الجزاء؛ فإذا كان الجمع الثاني لغير الوجه الذي وقع له الجمع في الابتداء، كان مستقيما صحيحًا، وإنما يخرج عن حد الحكمة إذا لم تكن الإعادة إلا للوجه الذي وقع الابتداء له؛ ألا ترى أن الذي نقض بناءه إذا أعاده لا للوجه الذي كان بني أول مرة، لم ينكر عليه. وفيما ذكرنا رد قول الباطنية؛ لأنهم زعموا أن هذه الأنفس تتلاشى وتتلف؛ فلا تبعث،

(4)

وأن البعث يقع على الأنفس الروحانية، ولو كان كما زعموا، لم يكن لقوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ) معنى؛ لأن العظام لا تجمع على قولهم بعدما صارت رميمة؛ فيكون الأمر إذن على ما وقع في حسبان هذا الإنسان؛ فلا معنى للرد عليه بقوله: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)؛ ألا ترى أن الذي حمله على الإنكار لجمع العظام بعد تفريقها هو أنه لم ير هذا موجودا في الشاهد، ولو كان الأمر على ما زعمت الباطنية، لكان الإنكار مدفوعا؛ إذ وجد النفس الروحانية مبعوثة في الشاهد بعد توفيها، وقال اللَّه تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)، فأخبر أن الأنفس التي أنشئت أول مرة هي التي تحيا، لا غير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4): فمنهم من حمل هذه الآية على الابتداء، وزعم أنه ليس فيها جواب لما يقتضيه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ). ومنهم من ذكر أن قوله: (بَلَى)، جواب لقوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ)، فاكتفى بقوله: (بَلَى) بما سبق منه من الدلالات والحجج على القول بالبعث؛ فاقتصر على قوله: (بَلَى) على الوصل بما تقدم من الدلالات. ومنهم من جعل جوابه في قوله: (قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)، معنى تسوية البنان: هو الجعل من عظم واحد، مجموعا غير متفرق، مثل خف البعير، وحافر الدواب. ووجه الاستدلال: أنهم أقروا بأن اللَّه تعالى قادر على أن يسوي البنان؛ لما رأوا التسوية موجودة في الدواب، ثم الجمع بعد التفريق أظهر وجودا وأيسر فعلا من تسوية البنان؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد قد يقدر على التأليف والجمع بين أشياء متفرقة، ويعجز عن تسوية البنان؛ فإذا كانت التسوية أعسر وجودا من الجمع بعد التفريق، ثم وصفوا اللَّه تعالى بالقدرة على تسوية البنان، فكيف أنكروا قدرته على جمع العظام بعد تفريقها؟ تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا!!. ومنهم من يقول بأن اللَّه تعالى لما لم يسو بين بنان الإنسان، وسوى بين بنان الدواب؛ ليصل إلى الأخذ والإعطاء، وإلى التقديم والتأخير، والقبض والبسط، وأنواع المنافع التي

(5)

خص بها من نحو ما يملكون بالبنان تسخير الدواب والأنعام؛ فعلم بالتفريق بين الدواب وبينهم أن البشر هم المقصودون بالمحنة، وألا يتركهم سدى، لا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يستأديهم شكر ما أنعم اللَّه عليهم؛ وقد ائتمر البعض وعصى البعض؛ فلا بد من دار أخرى للمجازاة؛ فالنظر في هذا يحمله على القول بالبعث والجزاء. ولأن الاستواء يقع في الابتداء، والجمع بعد التفريق يكون عند الإعادة، والعقول تشهد على أن أمر الإعادة أيسر من أمر الابتداء، فإذا لم يتعذر عليه الاستواء في الابتداء؛ فأنى يعسر عليه إعادة الجمع مع قدرته على الجمع في الابتداء؟ ولأنهم لما لم يخلقوا مستوية البنان، فليعلموا أن في ترك الاستواء حكمة، ولو كان الأمر على ما قدروا أن لا بعث لكان ذلك يخرج عن حد الحكمة؛ فيكون فيما ذكر تثبيت البعث والقول بالقدرة على جمع العظام بعد تفرقها، وتفتتها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5): قال أهل التفسير: يؤخر التوبة، ويقدم المعصية، ويقول: " سوف أتوب "، فيأتيه الموت على شر حاله. وعندنا يخرج على وجهين: أحدهما: جائز أن يكون ذكر الإرادة لا على تحقيقها؛ ولكن من فعل شيئا فعله على الإرادة والاختيار، فكنى بالإرادة عن الفعل، لأنها تقترن بالفعل؛ فيكون في ذكرها ذكر الفعل، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، ولم يظن أحد من الكفرة أن السماء والأرض خلقتا باطلًا، ولكن خلقهما خرج على الحكمة بالبعث والجزاء، ففي ترك القول بالبعث وصف بأن خلقهما للعب والباطل، ويؤدي إلى هذا؛ فيصير كأنهم قالوا ذلك، وظنوا كذلك؛ فعلى هذا يحمل الأمر على الظن، لا أن وجد منهم الظن في الحقيقة؛ فكذلك إذا فعلوا فعل الفجور، وكان فعلهم على الإرادة والاختيار؛ فكأنهم أرادوا أن يفجروا أمامهم، لا أن كانت الإرادة منهم متحققة لذلك مقصودا. وجائز أن يكون ذلك على تحقيق الإرادة، وذلك أن للشر والفجور سبلا من سلكها أفضى به إلى أن يستحق اسم الفجور، وللخير والهدى سبلا من سلكها أفضى به الأمر إلى

(6)

أن يستحق اسم البر والتقوى، فإنما صار إلى الفجور وإلى أنواع الشرور بسلوكه ذلك السبيل، وصار مريدا من هذه الجهة. ثم قوله: (أَمَامَهُ)، يحتمل وجهين: أحدهما: فيما بقي من عمره؛ لأنه يترك الاستهداء والاسترشاد، ويمضي على العادة التي عود نفسه على ذلك من الشرور والضلال. ويحتمل أن يكون الأمام هو يوم القيامة، ثم قال في موضع: (وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا)، بعد ذكر ذلك اليوم بالأمام والوراء جميعا؛ فيكون قوله: (وَرَاءَهُمْ)، أي: وراء الأوقات التي خلت ومضت؛ فعلى اعتبار الإضافة إلى الأوقات الماضية يكون يوم القيامة وراءها، وعلى اعتبار الإضافة إلى ذلك الفاجر يكون أماما؛ لأنه يكون أمام هذا الفاجر؛ فكذلك استقام الوصف بالأمام والوراء جميعا. ثم ذكر الفجور، ولم يذكر الكفر وإن كان الإنسان الذي يريد أن يفجر أمامه كافرًا؛ لأن في ذكر الفجور تعييرًا وتشيينًا؛ إذ هو اسم للتعيير خاصة، وليس في نفس الكفر تعيير؛ إذ كل أحد -مؤمنا كان أو كافرا- مؤمن بشيء كافر بشيء، فالكافر من حيث اسمه لم يصر قبيحا؛ بل بمعناه ما قبح؛ فكان الفجور أبلغ في التعيير من الكفر؛ فسمي به، واللَّه أعلم. وقال أبو بكر: معنى قوله: (يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)، أي: يريد أن يعاين يوم القيامة، ويعلم به أنه متى هو؟ تفسيره على أثره. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) أي: يريد أن يعلمه بسؤاله متى هو؟ فأخبر أنها تقوم إذا (بَرِقَ الْبَصَرُ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) سؤاله هذا سؤال تعنت واستهزاء؛ لما ذكرنا أنه ليس في تعرف وقت كونه مزجر ولا مرغب، وإنَّمَا يقع الزجر والرغبة بتذكير الأحوال التي تكون في ذلك اليوم؛ فلذلك ذكر الأحوال التي تكون في ذلك اليوم، ولم يوقفهم على ذلك الوقت متى يكون؟ إذ ليس في معرفة وقته كثير حكم، فيجيبهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بجواب الحكماء، لا أن يجيبهم بجواب مثلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7): قيل: دهش وتحير، ثم اختلف بعد هذا:

فمنهم من صرف هذا إلى حالة الموت. ومنهم من ذكر أن هذه الأحوال تكون يوم القيامة. وإلى أي الحالين صرف التأويل، فهو مستقيم؛ لأن المنكر بالبعث إذا جاءه بأس الله تعالى، ورأى ما حل به من الأهوال - أيقن بالبعث، وعلم به. ثم إن كان المراد به حالة الموت؛ فقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) يخرج على التمثيل، ليس على التحقيق؛ لأن بصره إذا دهش وتحير، صار بحيث لا ينتفع ببصر وجهه، ولا ببصر قلبه، لا يرى ضوء القمر؛ فيصير القمر كالمنخسف، وتصير الشمس والقمر كالمجموعين، ولا يرى ضوء الشمس ولا نور القمر؛ فيصير النهار عليه ليلا، والليل نهارا؛ شغلا بما حل به من البلايا والأهوال، وهو كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والآخرة جنة المؤمن وسجن الكافر "، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من كره لقاء اللَّه، كره الله لقاءه، ومن أحب لقاء اللَّه، أحب اللَّه لقاءه " فصرفوا تأويل هذين الخبرين إلى حالة الموت؛ وذلك أن الكافر يعاين في ذلك الوقت ما أوعد من الأهوال والشدائد؛ فكره مفارقة روحه من جسده؛ لئلا يقع في تلك الأهوال والشدائد، وتصير الدنيا له في ذلك الوقت كالجنة، لا يجب مفارقتها. والمؤمن إذا عاين ما وعد له من البشارات، وأنواع الكرامات، ود الخروج من الدنيا؛ ليصل إلى ما أعد له؛ فتصير الدنيا عليه كالسجن في ذلك الوقت؛ فيكون هذا كله على التمثيل من الوجه الذي ذكرنا. وإن كان ذلك على يوم القيامة، فهو على تحقيق الخسف، وجمع الشمس والقمر. وقوله - عز وجل -: (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ): يحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (أَيْنَ الْمَفَرُّ)، أي: ليس لي موضع فرار عما حل بي. أو يقول: إلى أين أفر؟ وإلى من ألتجئ؛ لأتخلص من العذاب؟ واللَّه أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ):

(8)

قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا شخص البصر نحو الداعي يوم القيامة، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)، فيشخص ببصره إلى الداعي؛ لأنه قد علم أن الذي حل به من بأس اللَّه تعالى هو لامتناعه عن الإجابة للداعي في هذه الدنيا؛ فيسارع يوم القيامة في إشخاص بصره إلى الداعي؛ ابتدارا منه إلى إجابة الداعي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) أي ذهب ضوءه ونوره؛ ففيه أن أن عالم في ذلك اليوم يغير ويبدل، كقوله - تعالى -: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)، وقال: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً)، وقال: (يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا). وقوله - تعالى -: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9): فيه أن سلطانهما يذهب؛ فلا يعملان عملهما بعد ذلك. ثم من الناس من زعم أنهما يجمعان يوم القيام كالبعيرين القرينين، أو الثورين القرينين، فيلقيان في النار، ويعذبان بها. وذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه أنكر هذا، وقال: " إنهما خَلقان لله تعالى، طائعان له - عَزَّ وَجَلَّ - ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ)، يدأبان في طاعة اللَّه تعالى، ومن كان هذا وصفه؛ فلا يجوز أن يعذب ". وعندنا أن إلقاءهما إن ثبت، فهما يلقيان في النار؛ ليعذب بهما غيرهما، وهم الذين عبدوهما من دون اللَّه تعالى، وذلك كقوله - عز وجل -: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الآية، ومعلوم أن الأصنام التي عبدت من دون اللَّه لا تعذب بالنار، ولكنها تجعل حصبا ونارا يعذب بها من عبدها، وقال اللَّه تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً)، ولا يجوز أن يكون الملائكة يمسهم أذى النار، بل هم الذين يُعَذّبُون؛ فعلى ذلك الشمس والقمر إن ثبت أنهما يلقيان في النار، فهما يلقيان؛ ليعذب بهما من عبدهما، لا أن يعذبا بأنفسهما، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) جائز أن يكون قوله: (أَيْنَ الْمَفَرُّ) على طلب الحيلة أن كيف أحتال إلى أن أفر؟ وإلى من ألتجئ؛ لأتخلص من بأس اللَّه وعذابه؟! ويحتمل أن يكون قوله: (أَيْنَ الْمَفَرُّ)، أي: ليس لي موضع فرار عما حل بي؛

(11)

لإيقانه أن ليس له مفر. وجائز أن يكون هذا كله عند الموت على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا لَا وَزَرَ (11). وذكر أهل التأويل أن الوزر هو الجبل بلغة حمير. وذكر عن الحسن قال: كانت العرب يخيف بعضها بعضا، ويغير بعضها على بعض؛ فكان يكون الرجلان في ماشيتهما فلا يشعران حتى يريا نواصي الخيل، فيقول أحدهما لصاحبه: الوزر الوزر، يعني: الجبل؛ فكأنه يقول: ليس لهما إذ ذاك تفريج ولا تسل من الأحزان كما يتسلى من يأوي إلى الجبل في الدنيا عن بعض ما يحل به من الأفزاع. وقيل: الوزر: الملجأ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) فتأويله: أنه ينبأ من أول ما عمل إلى آخر ما انتهى إليه عمله؛ كقوله: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا). وقال بعض أهل التأويل: بما قدم من أنواع الطاعة، وما أخر من حق اللَّه تعالى من اللوازم التي كانت عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بما أعلن، وأسر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بما قدم في حياته من أعمال، وما أخر، أي: ما سن من سنة، فاستن بها بعد موته. وقد ذكرنا أنه باللطف من اللَّه تعالى ما يعلم بالذي قدم من الأعمال وأخرها، فيتذكر بذلك حتى يصير ما كتب في الكتاب حجة عليه؛ وإلا فالمرء في هذه الدنيا إذا كتب كتابا، ثم أتت عليه مدة، لم يتذكر جميع ما كتب فيه، ولا وقف على علم ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15): هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: جائز أن يكون أراد بهذا في الدنيا: أن الإنسان بصير بعمل نفسه، وإن جادل عنها: أنه لم يفعل ذلك، وأسر ذلك عن الناس، (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)، أي: أرخى الستور بما كسبت نفسه، والمعذار هو الستر. والوجه الثاني: أن يكون في الآخرة، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن الإنسان وإن كان يعتذر يوم القيامة بقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)، فيقدمون على الحلف؛ اعتذارا منهم على العلم منهم أنهم مبطلون في جدالهم. والثاني: أن يكون معنى البصيرة: الشاهد، أي: أن الإنسان على نفسه شاهد يوم القيامة بسوء أفعاله، (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)، أي: وإن ستر على نفسه، شهدت عليه جوارحه، وذلك نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ. . .) الآية. فَإِنْ قِيلَ: إن الإنسان مذكر، كيف وصف بالبصر بلفظة التأنيث بقوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، ولم يقل " بصير "؟ فجوابه من أوجه: أحدها: ما قيل: إن الإنسان تسمية جنسٍ فيه الجماعة، لا أن يكون تسمية للشخص الواحد فقط؛ ألا ترى إلى قوله: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، استثنى الذين آمنوا من قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، ولا يستثنى الجماعة من الواحد، وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، فاستثنى الذين آمنوا من الإنسان؛ فثبت أن الإنسان تسمية جنس، والجنس جماعة، وتكون الجماعة مضمرة فيه؛ كأنه قال: إن جماعة الناس على أنفسهم بصيرة؛ فيكون قوله: (بَصِيرَةٌ) راجعا إلى الجماعة، واللَّه أعلم. وجواب ثان قوله: (بَصِيرَةٌ) وصف للإنسان بالغاية من البصر بكل ما عمل، حتى لا يعزب عنه شيء، والهاء قد تدخل في خطاب المذكر عند الوصف بالمبالغة؛ كقولك: فلان علامة ونسابة، وراوية للشعر، وبالغة في النحو. والثالث: أن الإنسان تسمية ما يراه بجوارحه كلها من الأيدي والأرجل والسمع والبصر

(16)

والرأس وغير ذلك، وفيها نفس أمارة بالسوء؛ فتصير جوارحه كلها بصيرة، أي: شاهدة عليه بما قدم وأخر. وجائز أن يكون هذا على الإضمار؛ فيكون قوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، أي: نفس الإنسان بصيرة بما عملت. ثم من الناس من يثبت للجوارح العلم بما كسبت نفسه؛ حتى تصير شاهدة عليه يوم القيامة بقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ولو لم يكن لها العلم بما قدمت نفسه، لكانت لا تشهد بما لا تعلم. وليس الأمر عندنا على ما زعموا؛ لأنها لو علمت بذلك، لكان صاحبها يصل إلى العلم من جهتها؛ ألا ترى أن القلب لما ثبت له المعرفة، وقع لصاحبه العلم من جهته، وكذلك السمع لما حصل فيه السمع، وقع لصاحبه علم المسموع به، ولما كان بعينه يبصر الأشياء كان علم البصر واقعا من جهتها؛ فلما لم يقع له العلم بيديه، ولا برجليه، ولا بشيء من جوارحه سوى القلب - علم أنه لا حظ لها في المعرفة، ولكن جعلت هي شاهدة وحجة يوم القيامة تشهد على صاحبها، بما يحدث اللَّه تعالى فيها علما ضروريا بذلك، لا أن كان لها علم بالذي شهدت قبل ذلك، كما جعلت نطوقة في ذلك الوقت، لا أن كان النطق فيها موجودا من قبل، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ): هذا كلام مبتدأ منفصل عن الأول، وذكر أهل التأويل أن جبريل - عليه السلام - كان إذا أتى نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالوحي، فكان لا يفرغ من آخر آية حتى يقول نبي اللَّه - عليه السلام - في أولها؛ مخافة النسيان، على ما عليه عرف الخلق أنهم إذا أرادوا وعي الكلام وحفظه، كرروها بألسنتهم؛ كي يضبطوها ولا ينسوها؛ فكان النبي - عليه السلام - يفعل ذلك؛ خشية النسيان؛ فَنُهي عن ذلك بقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)، وهو كقوله: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ). وهذا عندنا مما لا يجوز أن نشهد على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يحرك لسانه قبل مجيء

هذه الآية، ويستذكره؛ مخافة النسيان إلا بأخبار متواترة؛ لأن هذا في حق الشهادة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا تجوز الشهادة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يفعل كذلك إلا بتواتر الأخبار، فأما أن يثبت بخبر واحد فلا. ولا يقال بأنه لو لم يتقدم منه التحريك، لكان لا معنى للنهي؛ فإنه ليس فيه ما يثبت مقالتهم، ويصحح تأويلهم، ويسوغ لهم الشهادة؛ لأنه يستقيم في الابتداء أن ينهى فيقال: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ)، ولا تفعل كذا، وإن لم يسبق منه ارتكاب ذلك الفعل، ولا تقدم منه تحريك لسان؛ فثبت أنه ليس في ضمن هذه الآية بيان ما ادعوا. هذا إذا ثبت أن قوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ)، وقوله: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)، على النهي؛ فكيف وهو يحتمل معنى آخر غير النهي، وهو أن يكون هذا على البشارة له بالكفاية: أن قد كفيت مؤنة الاستذكار للحفظ، وهذا من عظيم آيات الرسالة أن السورة تلقى عليه؛ فيحفظها كما هي، مما يشتد على الناس حفظه وقراءته إلا أن يتكلفوا، ويجتهدوا في ذلك؛ فيعلم بهذا أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو الذي أقدره على ذلك، وجعله آية من آياته، واللَّه أعلم. ثم الأصل أن من ألقى إلى آخر كلاما متتابعا، نظر في ذلك الكلام: فإن كان القصد منه حفظ عين الكلام، فإن المخاطب به لا ينتظر فراغ المتكلم عن ذلك الكلام، بل يشتغل بالتقائه وتحفظه ساعة ما يلقى إليه، كمن ينشد بين يدي آخر شعرًا، وأراد الآخر أن يحفظ ذلك الشعر ويعيه، فهو لا ينتظر فراغ المنشد عن شعره، بل هو يأخذ بالتقائه في أول ما يسمع منه؛ إذ الغرض من الأشعار حفظ أعينها دون معانيها؛ ألا ترى أن الألفاظ إذا حذفت منها خرجت عن أن تكون شعرا. وأما إذا لم يكن القصد من الكلام ضبط عينه، وإنما أريد به تفهيم ما أودع فيه من المعنى، فالعادة في مثله الإصغاء إلى آخر الكلام؛ ليفهم معناه، وما يراد به؛ ألا ترى أن من كتب إلى آخر كتابا فإن المكتوب إليه يقرأ الكتاب من أوله إلى آخره؛ ليعرف مراد الكتاب، لا أن يشتغل بضبط ما أودع به من الألفاظ؛ إذ ليس يقصد بالكتابة إلى حفظ الألفاظ.

(17)

فإذا كان المراد يتوجه من الكلام إلى ما ذكرنا، ثم القرآن قصد به الوجهان جميعا: ضبط حروفه ونظمه، وتعرف ما أودع فيه من المعاني؛ إذ صار حجة بنظمه ولفظه، وبالمعاني المودعة فيه - فقيل: لا تعجل بتحريك اللسان كما يفعل من يريد التقاء الكلام الذي يلقى إليه؛ فإنك وإن أحوجت إلى حفظ نظمه وحروفه، فقد كفيت حفظه بدون تحريك اللسان. وجائز أن يكون نُهي عن تحريك اللسان والمبادرة إلى حفظه قبل أن يُقضى إليه بالوحي؛ لما فيه من ترك التعظيم لمن يأتيه بالوحي، فأمر أن يصغي إليه سمعه، ويستمع إلى آخره؛ تعظيما للذي أتاه بالوحي، وتوقيرا له. ثم هذه الآية تنقض على الباطنية قولهم؛ لأن من قولهم: إن القرآن لم ينزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مؤلفا منظوما؛ بل أنزل على قلبه كالخيال، فصوره بقلبه، وألفه بلسانه؛ فأتى بتأليف، عجز الآخرون عن أن يؤلفوا مثله. ونحن نقول: بل أنزل هذا القرآن مؤلفا منظوما على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن التأليف من فعله؛ والذي يدل على صحة مقالتنا قوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ)؛ لأن التأليف لو كان من فعله - عليه السلام - لكان لا يوجد منه تحريك اللسان وقتما تزل عليه؛ لأنه إذا كان كالخيال فهو يحتاج إلى أن يصوره في قلبه، ثم يصل إلى التأليف بعد التصوير، وتتأتى له العبارة باللسان، وإنما يقع التحريك من مؤلَّف منظوم؛ ثبت أنه أُنزل هذا مؤلف منظوم. والثاني: أنه قال: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، فهذه الآية نفت طعن أُولَئِكَ الكفرة الذين زعموا أن هذا ليس بقرآن، بل إنما علمه فلان، وكان لسان ذلك البشر أعجميا، وهذا القرآن عربي؛ فكيف يستقيم أن يعلمه ذلك البشر، ولسانه غير هذا اللسان، ولو كان هذا القرآن وقتما أنزل كالخيال، لكان ذلك الطعن قائما؛ لأنه كان يؤلفه، ويجمعه باللسان العربي، وإن علم بالأعجمية لما قدر أن يؤلفه، وينظمه بعد أن كان خيالا باللسان العربي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17):

(18)

فقوله: (عَلَيْنَا) يخرج على أوجه ثلاثة: أحدها: أن علينا في حق الوعد جمعه وقرآنه؛ لأنه قد سبق منا الوعد في الكتب المتقدمة بإنزال هذا القرآن وإرسال هذا الرسول؛ فعلينا إنجاز ذلك الوعد ووفاؤه. أو علينا في حق الحكمة جمعه؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمر بتبليغ الرسالة، ولا يتهيأ له ذلك إلا بعد أن يجمع له فيؤديه إلى الخلق. ولأن اللَّه تعالى حكيم في فعله؛ ففعله موصوف بالحكمة، وإن لم نعرف نحن وجه الحكمة في فعله. وجائز أن يكون قوله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) في حق الرحمة والرأفة على الخلق، لا أن يكون ذلك حقا لهم قبله تعالى، وهو كقوله - تعالى -: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ. . .) إلى قوله: (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)، فأخبر أنه أبقى القرآن، ولم يذهب به؛ رحمة منه على عباده وفضلا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَقُرْآنَهُ)، أي: قراءته، وتسميته: قرآنا؛ كما قيل في تأويل قوله: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ)، أي: جعلناه فرقانا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18): أي: جمعناه في قلبك، أو جمعنا حدوده، وما أودع فيه من المعاني. أو جمعناه بعد أن فرقناه في التنزيل. وقوله: (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) اتباعه يكون بأوجه: في أن يبلغه إلى الخلق، ويعلم أمته، ويتبع حلاله، ويجتنب حرامه، وغير ذلك. وقوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19): جائز أن يكون قوله: (عَلَيْنَا بَيَانَهُ)، أي: بيان ما أنزلناه إليك مجملا؛ فيكون بيانه في تعريف ما هو بحق الائتمار، وما هو في حق الجواز، وما هو في حق التحسين والتزيين؛ لأن الفرائض لها شعب وأركان وحواشٍِ. أو نقول: فيها فرائض، ولوازم، وآداب، وأركان. على هذا ففيه منع تعليق الحكم بظاهر المخرج؛ لأنه لو كان متعلقا به، لكان البيان منقضيا بنفس المنزل؛ فلا يحتاج إلى أن يبين، وفيه دلالة تأخير البيان عن وقت وقوع الخطاب في السمع.

(20)

ويحتمل أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَيْنَا بَيَانَهُ) أي: بيان ما هو بحق الكنايات والنتائج منها، ما هو بحق الأصول والفروع، وما هو بحق المقصود، فبين لرسوله - عليه السلام - معنى الأصول والكنايات؛ ليتعرف به فروعها ونتائجها، ويبين لمن بعده ممن جاهد في اللَّه حق جهاده، ويهديه لذلك، قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا). أو يكون قوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) في أن نحفظك ونعصمك من الناس؛ لتمكن من تبليغ ما أنزل إليك إلى الخلق، وتبين لهم، واللَّه أعلم. ووجه آخر: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث إلى كل من كان شاهدا من الخلائق إلى يوم التناد، ثم لم يمكن من تبليغ الرسالة إلى كل أحد مما ذكرنا بنفسه؛ فكأنه ضمن عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - التبليغ إلى الخلائق كافة بما شاء - جل جلاله - بتسخير الرواة والحفاظ والعلماء ليبلغوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما أدى إليهم. أو يكون قوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)، أي: بيان المحق من المبطل، والولي من العدو، وذلك يكون يوم القيامة؛ فيعرف الأولياء بما يجنون من الكرامات، ويبين للأعداء والمبطلين ما يحل بهم من الحساب وأنواع العذاب. * * * قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ). فقوله: (كَلَّا) ردع ومنع عما سبق منهم. وفي قوله: (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) إبانة أن الذي حملهم على ما هم فيه من الحسبان: أن العظام لا تجمع، وأن البعث ليس بشيء - حبهم العاجلة، وذلك أنهم أولعوا بالعاجلة، وأحبوها حبا أنساهم عن الإيمان بالآخرة، أو عن النظر في الحجج والبراهين التي لو أمعنوا النظر فيها أدتهم إلى القول بالبعث، وحتى صاروا إلى ألا يرجوا الآخرة كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25):

ففيه بيان ما ينتهي إليه عواقب من التزم طاعة اللَّه تعالى، وآمن بالبعث والحساب، وبيان ما ينتهي إليه عواقب من تولى عن طاعته؛ فقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) جائز أن يكون أريد بها نفس الوجوه. وجائز أن يكون أريد بها الأنفس، وتكون الوجوه كناية عنها، والذي يدل على أنه أريد بها الأنفس لا أعينها قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ)، والوجوه لا تظن ذلك، ولا تعلم به، فثبت أن ذكر الوجوه على الكناية، لا أن أريد بها أعينها، فهذا التأويل أوفق بما يقتضيه ظاهر اللفظ، وإنما صلح أن تكون الوجوه كناية عن الأنفس؛ وذلك أن النفس إذا تلذذت بأمر، ونالت شهوتها، ظهر سرور ذلك في وجهه، وإذا تألمت بأمر فاعتراها الحزن، ظهر أثر الحزن في وجهه؛ فيكون في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) وصف لهم بما هم عليه من غاية السرور بالكرامات التي أكرموا بها حتى نضرت وجوههم بذلك. وإذا ثبت أنهم قد نالوا الكرامات، ووصلوا إلى أنواع اللذات، لم يبق لقوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) موضع، إلا أن يصرف إلى حقيقة النظر؛ فيكون في هذا إثبات القول بالرؤية. والثاني: أن الملوك الذين من عادتهم الاحتجاب عن الخلق، إذا قربوا إنسانا لم يحتجبوا عنه، ويكون تركهم الاحتجاب آثر إلى ذلك الذي أكرم بالتقريب من سائر ما يكرمه به؛ فجائز أن يكون اللَّه تعالى يكرم أولياءه بالنظر إليه، ويتفضل عليهم لذلك. وجائز أن يكون قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) منصرفا إلى انتظار الثواب؛ كما قاله بعض أهل التأويل، فتنتظر ما يأتيها من التحف والكرامات حتى وصفوا بنضارة الوجوه؛ فجائز أن يكون بعد تلك الكرامات كرامات وتحف أخر لم تأتهم بعد؛ ألا ترى إلى قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) والبسور من أدنى أحوال التغير، وغاية التغير أن تسود الوجوه وتكلح؛ فإذا لم يحل بهَؤُلَاءِ بعد غاية ما أوعدوا من العذاب، فجائز أن يكون الذين وعد لهم الكرامات لم ينتهوا بعدُ إلى أقصاها، ولم ينالوا بعد أرفعها؛ وإنما أكرموا ببعضها، وهم منتظرون لما يأتيهم من بعد. وجائز أن يكون قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، أي: نجعل نظرها فيما أكرمت إلى اللَّه تعالى، ولا ترى ذلك الفضل مستوجبا من جهتها كما قد يرى المرء في الشاهد بعض ما خول من المال بحيله وسعيه، واللَّه أعلم. وجائز أن يكون قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، أن ليس كل الكرامات في نفسه خاصة وإلى ما

ينتهي إليه نظره؛ بل يكون وراء ذلك كرامات أخر، فينصرف قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) إلى ذلك. ويحتمل: أي: إلى أمر ربها ناظرة. وإذا كان قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) محتملا أن يصرف إلى حقيقة النظر، ويصرف إلى الكرامات من الوجوه التي بيناها - لم يكن لأحد أن يجعل الأمر على الكرامات، فينفي عنه حقيقة الرؤية للأبد؛ لا بل ظاهره يُحِيلُ القول بالرؤية؛ فيدفع هذا التأويل بتلك الدلائل. فأما إذا لم يمكنه إقامة الدلائل على إحالة الرؤية، فليس له قطع هذا التأويل، وصرف التأويل إلى انتظار الكرامات؛ فيكون الآية حجة في جواز الرؤية، وإن لم تكن حجة في الوجوب، والخلاف فيهما واحد. واحتج من نفى صرف التأويل إلى حقيقة الرؤية بأن قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ) هو مقابل قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ)، وقوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) مقابل قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ثم لم يكن قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) على فقد الرؤية، ولكن على العقاب نفسه؛ فكذلك قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ليس هو على حقيقة الرؤية ووجودها؛ ولكن واقع على الثواب نفسه. وجواب هذا الفصل من وجهين: أحدهما: أن أهل العقاب بعد لم ينزل بهم جميع ما أوعدوا في هذه الدنيا من العقاب، لما ذكرنا أن نهاية العذاب في تسود الوجوه وتكلحها، ليس في بسورها؛ فلذلك استقام أن يكون قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) على نفس العذاب، وأهل الجنة قد وصلوا إلى رفيع الدرجات وعظيم الكرامات بما وصفوا بنضارة الوجوه؛ فاستقام أن يكون قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) منصرفا إلى حقيقة النظر، لا إلى غيره من الكرامات. ولأن الرؤية من أعلى الكرامات وأرفعها، وأهل العقاب لم ينالوا أدنى الكرامات، فكيف يتوقعون أرفعها؟! أما أهل الجنة فهم قد نالوا من النعم والكرامات ما لا يحصى؛ فجائز أن يكرموا بالرؤية أيضا. والأصل أن القول بالرؤية عندنا واجب، والنظر إليه ثابت؛ كما قال - عَزَّ وَجَلَّ - ولما جاء في غيرِ خبرٍ النظرُ إلى اللَّه تعالى، وقد قال - عليه السلام -: " إنكم سترون ربكم يوم

القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته " وأهل التوحيد لم يختلفوا في صحة الأخبار التي جاءت في إثبات الرؤية، ولكن من نفى الرؤية بالبصر صرف الأخبار إلى العلم، وذلك غير مستقيم لوجهين: أحدهما: أن البشارة بالرؤية خص بها أهل الجنة، ولو كان المراد من الرؤية العلم، لارتفع الاختصاص؛ لأن العلم به مما يقع به الاشتراك بين الفريقين. ولأن كلا يجمع على العلم باللَّه تعالى في الآخرة، العلم الذي لا يعتريه الوسواس ولا الريب، والعلم الذي لا يعتريه الوسواس والريب هو علم العيان والمشاهدة، لا علم الاستدلال؛ لأن الآيات لا تضطر أهلها إلى العلم الحقيقي؛ ألا ترى إلى قوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى. . .)، وقال: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ)، فإذا ثبت ما ذكرنا، فقد صاروا مثبتين للرؤية من الوجه الذي أرادوا نفيها؛ فتثبت الرؤية على نفي جميع معاني الشبه عن اللَّه تعالى، ولا نصف الرؤية بالكيفية؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة؛ وهو يُرى بلا كيف، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) جائز أن يكون الظن في موضع العلم هاهنا. وجائز أن يكون على حقيقة الظن، وذلك أن الظن يتولد من ظواهر الأشياء، فالأسباب إذا كثرت، وازدحمت، وقع بها العلم، وإذا قلت وخفيت، لم يقع بها علم؛ فجائز أن تكون أسباب الشر أحاطت به من كل جانب حتى وقع له اليأس من النجاة، وأيقن أنه يفعل به الشر. وجائز أن يكون الأمر بعد لم يبلغ مبلغ الإياس؛ فيتوقع النجاة، ولا يتيقن أن يفعل به فاقرة، بل يكون منه على ظن، واللَّه أعلم. والفاقرة: قيل: الشر، والمنكر، والداهية. وقيل: الفقير: هو كسير الظهر، والفقر: الكسر، والفقار: عظم في الظهر يكسر، فكأن عظم الظهر يكسر في الآخرة ويسحب في النار على وجهه.

(26)

قال - رحمه اللَّه -: كان هذه السورة من أولها إلى آخرها إلا آيات منها؛ وهي قوله: قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) - نزلت في تبيين معاملة واحد من الكفرة على الإشارة إليه مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، يشترك في حكم من يشاركه في معاملته، فأمر اللَّه تعالى نبيه - عليه السلام - أن يعامله ويستقبله بالذي يحق على الحكماء معاملة السفهاء، ولم يأمره أن يعامله معاملة مثله من السفهاء، وبين معاملَته في هذه السورة؛ ليعلم أمته ما لقي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الجهد والبلاء في إظهار دين الله تعالى، فيعلموا قدره ومنزلته، ويعظموا دين اللَّه تعالى بما نالوه سمحا سهلا، وأمره أن يتعامل معه معاملة من يرجع إلى المنعة والشوكة بقوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ) فقوله: (كَلَّا)، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون أريد به: حقا. ويحتمل أن يكون على الردع والرد؛ أي: لا تفعل مثل هذا؛ فإنك ستندم في الوقت الذي قال: (إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ)؛ كأنهم سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن وقت ندمه، فبين لهم ذلك بقوله تعالى: (إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ)، والتراقي: هي عروق العنق، كأنه يقول: حين تزول النفس، أي: الروح عن مكانها، وتنتهي إلى التراقي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) جائز: أن يكون الملائكة هم الذين يقولون هذا، فيقول بعضهم: من يرقى بروحه: أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ مِنْ رقي يرقى، أي: صعد. أو: مَن يقبض روحه؟ ويحتمل أن يقول أهله: من الذي يرقيه رقية فيشفى؟ فيكون فيه إخبار عما حل به من الضعف والشدة؛ أنه يمتنع عن أن يقول: ادعوا لي راقيا لعلي أُشفَى؛ فيكون أهله هم الذين يقولون هذا فيما بينهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28): جائز أن يكون الظن على الإيقان هاهنا؛ لما وقع له اليأس من الحياة، وكذلك روي

(29)

في قراءة ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وأيقن أنه الفراق). وجائِز أن يكون على حقيقة الظن؛ لما لم يقع له الإياس من حياته بعد، فهو يأملها بعد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29): اختلفوا في تأويله: قيل: لفت ساقاه إحداهما على الأخرى؛ فلا يفترقان؛ كالتفاف الأشجار حتى لا يجد نفاذا فيها ولا هربا. وقيل: إن ساقيه في القيامة لتضعف عن حمله؛ من شدة الفزع. وقيل: أريد بالساق: الشدة، يقال: قامت الحرب على ساق؛ أي: على شدة؛ أي وصلت شدة الموت بشدة الآخرة، واجتمعت شدة الدنيا مع شدة الآخرة عليه؛ لأنه قد حل به سكرات الموت، ونزلت به شدائد الآخرة، وذلك آخر يومه من الدنيا وأول يومه من الآخرة. وقيل: ما من ميت يموت إلا التفت ساقاه من شدة ما يقاسي من الموت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ)، معناه: أن الملائكة يجهزون روحه، وبني آدم يجهزون بدنه، فذلك التفاف الساق بالساق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30): أي: إلى ما وعد ربك يومئذ يساق: إما إلى خير، وإما إلى شر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا صَدَّقَ ... (31) أي: فلا صدق بما جاء من عند اللَّه تعالى من الأخبار، ولا صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم -. (وَلَا صَلَّى) يحتمل أن يكون أريد به نفس الصلاة، وذلك أن الصلاة حببت إلى الأنفس كلها حتى لا ترى أهل دين إلا وقد حببت الصلاة إليهم؛ فيكون في قوله: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) إبانة سفهه وجهله. أو يكون قوله: (وَلَا صَلَّى)، أي: ولا أتى بالمعنى الذي له الصلاة، وهو الاستسلام

(32)

والانقياد لله تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32): أي: ولكن كذب بالأخبار التي جاءته. (وَتَوَلَّى)، أي: أعرض عن طاعة اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أي: يتبختر ويتكبر، وذلك أن الاحتيال والتكبر إنما يليق بمن أتى بفعل عظيم يعجز غيره عن إتيان مثله؛ نحو أن يهزم جندا عظيما، أو يفتح كورة حصينة، وهذا الذي تمطى لم يفعل سوى أن كذب بآيات الله تعالى، وأعرض عن طاعته، وما هذا إلا فعل السفهاء الحمقى، فأنى يليق بمثله التمطي؟! وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35): جائز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قيل له: قل: أولى لك فأولى. أو كان رسول اللَّه قال له: أولى لك فأولى، فبين اللَّه تعالى ذلك في كتابه. وقال أهل التأويل: هذا وعيد على وعيد، كأنه قال: " ويل لك فويل، ثم ويل لك فويل ". وذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخذ [بجميع ثيابه]، وقال له هذا، فلم يتهيأ لذلك المسكين أن يدفع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن نفسه، وكان يفتخر بكثرة أنصاره، وأنه أعز من يمشي بين الجبلين، فاللَّه تعالى بلطفه أذله وأهانه حتى لم يتهيأ له الحراك عما نزل به، ولا نفعه قواه وكثرة أتباعه. وجائز أن يكون قوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) أي: أجدر لك، وأحرى، لا أن يكوك محمولًا على الإبعاد؛ فيكون قوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)، أي: الأجدر لك أن تنظر فيما جاء به محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وفي الذي كان عليه آباؤك؛ ليظهر لك الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، فتتبع الصواب من ذلك، فتحرز به شرف الدنيا والآخرة؛ إذ كان يفتخر بشرفه وعزه، فإن أردت أن يدوم لك الشرف، فالأولى لك أن تنظر إلى ما ذكرنا، فتتبع الصواب من ذلك. والثاني: أن العرب كانت عادتها أن تقوم بنصر قبيلتها والذب عنها، سواء كانت ظالمة في ذلك أو لم تكن ظالمة، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان من قبيلة أبي جهل - لعنه اللَّه - فلو كان على غير حق عنده، كان الأولى به أن ينصره، ويعينه، على ما عليه عادة العرب، وإن كان محقا فهو أولى، فترك ما هو أولى به من النصر والحماية، واللَّه أعلم.

(36)

قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى). جائز أن يكون هذا الإنسان دهري المذهب؛ فيكون قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ) على حقيقة الحسبان؛ لأنه يحسب أن لا بعث ولا حساب، وقد كان في أهل مكة من هو دهري المذهب، وإن كان الخطاب في قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) ليس على تحقيق الحسبان، ولكن معناه: أيفعل فعل من يُؤْذِن عن أمره، كان فعله موافقا لفعل من يحسب أنه يترك سدى؛ كما ذكرنا في قوله: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)، وهو لا يريد أن يكون فاجرا في الحقيقة؛ ولكن يفعل فعل في يعقب فعله الفجور، وهو كقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، وليس على حقيقة الظن؛ ولكن إذا لم يقل بالبعث، ولم يؤمن به، فقد وصف أن خلقهما إذن على باطل، وذلك الفعل الذي ذكرنا يكون في ترك الإيمان بالبعث وفي جحد الرسالة؛ لأن المحاسن لا بد من أن يكون لها عواقب، وكذلك المساوئ، ثم تمر هذه الدار على المسيء والمحسن مرًّا واحدا؛ فلا بد من أن يكون بعده دار أخرى فيها تتبين مرتبة المحسن ومذلة المسيء، فما لم يؤمن بالبعث فهو لا يجعل للمحاسن والمساوئ عواقب، وسوى بين مرتبة المسيء ومرتبة المحسن، وذلك عبث. والثاني: أن من عرف أنه لم يخلق عبثا، ولا يترك سدى؛ فلا بد لمثله من أن يرغب ويرهب، ويؤمر وينهى؛ ولا يعرف ذلك إلا بالرسول، فالضرورة أحوجت إلى رسول، يبين لهم ما يأتون وما يتقون، وما يرغبون في مثله، وعما يحذرون، فمن أنكر الرسالة فقد أهمل نفسه عن المرغوب والمرهوب، وعن الأمر والنهي، وذلك حال من خلق سدى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37): فالوجه فيه أن كل أحد يعلم أن نشوءه كان من نطفة، وتلك النطفة لو رئيت موضوعة على طبق، ثم اجتمع حكماء الأرض على أن يقدروا منها بشرا سويا كما قدره اللَّه - عز وجل - في تلك الظلمات، لم يصلوا إليه أبدا وإن استفرغوا مجهودهم وأنفدوا حيلهم

(40)

وقواهم، ولو أرادوا أن يتعرفوا المعنى الذي لذلك المعنى صلحت النطفة على أن ينشئ منها العلقة والمضغة إلى أن أنشأ منها بشرا سويا، لم يقفوا عليه، فيعلمون أن من بلغت قدرته هذا هو أحكم الحاكمين. ولو كان الأمر على ما زعموا: أن لا بعث، لم يكن هو أحكم الحاكمين؛ بل كان واحدا من اللاعبين. وتبين بما ذكرنا أن الذي بلغت قدرته ذلك لا يوصف بالعجز، ومن زعم أن قدرته لا تنتهي إلى البعث فقد وصف الرب بالعجز، تعالى اللَّه عما يشركون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40): فقوله: (أَلَيْسَ)، في موضع التحقيق والتقرير، وإن كان خارجا مخرج الاستفهام على ما ذكرنا: أن ما يخرج مخرج الاستفهام من اللَّه تعالى، فحقه أن نصرفه إلى الوجه الذي يقتضيه ذلك الخطاب أن لو كان من مستفهم؛ فمن قال لآخر في الشاهد: أليس اللَّه تعالى بقادر على إحياء الموتى؟ فحقه أن يقول: بلى هو قادر على ذلك، وكذلك ذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال حين تلا هذه الآية: " سبحانك، فبلى " فقوله: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ) أي: هو قادر على إحياء الموتى، واللَّه الموفق. * * *

سورة الإنسان

سُورَةُ الْإِنْسَانِ سُورَةُ الدهر، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا). فـ " هل " و " مَنْ " و " لعل " من اللَّه تعالى واجب، وحقه أن ينظر أن لو كان مثل هذا الكلام من مستفهم، ما الذي كان يقتضي من الجواب؟ فإذا قال الإنسان لآخر: من أظلم ممن افترى على اللَّه كذبا؟ فجوابه أن يقول: لا أحد أظلم منه، وإذا قال لآخر: هل أتاك حديث فلان؟ فحق المجيب أن يقول إن كان قد أتاه حديث فلان: قد أتاني، وإن كان لم يأته فحقه أن يسأله: كيف كان حديثه؟ ليعرفه. فإن كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد أتاه خبر الإنسان، فمعنى قوله: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ)، أي: قد أتى على الإنسان، وإن لم يكن أتاه، فحقه أن يسأل حتى يتبين له. وقيل: الإنسان: آدم عليه السلام. ثم لقائل أن يقول: أن كيف قال: قد (أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) فهو إن لم يكن شيئًا مذكورًا في ذلك الوقت، لم يكن إنسانًا وإذا لم يكن إنسانًا لم يأت عليه حين من الدهر، وهو إنسان، وإن كان في ذلك الوقت مخلوقا، فقد صار مذكورا، وإذا صار مذكورا، فقد أتى عليه حين من الدهر وهو مذكور؛ فما معناه؟ قيل فيه من أوجه: أحدها: أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) أي: على ما منه الإنسان، وهو الأصل الذي خلق منه آدم - عليه السلام - وهو التراب، فقال: (لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) وعلى الاستصغار لذلك الأصل؛ إذ التراب لا يذكر في الأشياء المذكورة، إلى هذا يذهب أبو بكر الأصم. والوجه الثاني: قيل: قد أتى على الخلق حين من الدهر، لم يكن الإنسان فيه شيئا مذكورا في تلك الخلائق.

(2)

والوجه الثالث: قد أتى عليه حين من الدهر، ولم يكن مذكورا في الممتحنين، وهذا في كل إنسان؛ لأنه ما لم يبلغ، لم يجر عليه الخطاب، ولم يكن مذكورا في الممتحنين؛ فاللَّه تعالى خلق الخلائق ليعبدوه بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، فقوله: (لِيَعْبُدُونِ) إذا صاروا من أهل المحنة، فإلى أن يبلغ قد أتى عليه حين من الدهر، لم يكن مذكورا في جملة من خلقوا للعبادة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) والإنسان لم يكن إنسانا في النطفة، ولا في العلقة، ولا في المضغة؛ ولكن المقصود من إنشاء النطفة والعلقة هذا الإنسان، والعواقب في الأفعال هي الأوائل في القصد والمراد؛ فاستقام إضافته إلى ما ذكرنا؛ لما رجع إليه القصد من إنشائها. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إذا أردت أمرا فدبِّرْ عاقبته، فإن كان رشدا فأمضه، وإن كان غيًّا فانته "؛ فألزم النظر في العواقب؛ فثبت أن المقصود من فعل أهل التمييز العاقبة؛ وإذا كانت العاقبة مقصودا إليها في الابتداء صارت العاقبة كالموجود في الابتداء؛ لذلك استقام إضافة الإنسان إلى النطفة والعلقة والمضغة. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ) منصرف إلى أولاد آدم - عليه السلام - فيكون المعنى من الإنسان أولاده، ثم ذكر لهم ابتداء أحوالهم وما تنتهي إليه عاقبتهم -وهو الموت- ليتعظوا به، ويتذكروا. ووجه الاتعاظ: هو أنهم إذا علموا ابتداء أحوالهم، وعلموا ما ينتهي إليه عاقبتهم، علموا في الحال التي هم فيها أن أنفسهم في أبدانهم ليست لهم، بل عارية في أبدانهم؛ إذ لم يكن منهم صنع في الابتداء، أو أمانة، والحق على الأمين أن يقوم بحفظ الأمانة ورعايتها، وألا يخون صاحبها فيها، فإن هو خانها، ولم يتول حِفْظَها - لحقته المسبة والمذمة، وإن حفظها ورعاها حق رعايتها، استوجب الحمد والثناء من صاحبها. والحق على المستعير أن يتمتع بالعارية، وينتفع بها إلى الوقت الذي أذن له، وألا يضيعها، فإن ضيعها لحقته الغرامة والضمان بتضييعه إياها، وكذلك إذا علموا أنها في أبدانهم عارية وأمانة علموا أن عليهم رعايتها واستعمالها في الوجه الذي أذن لهم فيها؛

لئلا تلحقهم التبعة في العاقبة، ولا تلزمهم المسبة والمذمة في ذلك في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم. والثاني: أن النظر في ابتداء الخلقة، وإلى ما يصير عند انقضاء الأمر، يدعو إلى إيجاب القول بالبعث، وإلى التصديق بكل ما يأتي به الرسل من الأخبار؛ وذلك لأن التأمل في ابتداء الخلقة يظهر عجيب قدرة اللَّه تعالى ولطيف حكمته، ويعلم أن الذي بلغت حكمته هذا المبلغ لا يجوز أن يقع قصده من إنشاء الخلق للإفناء خاصة؛ لخروجه عن حد الحكمة؛ فيحملهم ذلك على القول بالبعث. ولأن النظر في ابتداء الخلقة، والنظر إلى ما يرجع إليه بعد الوفاة مما يمنع الافتخار والتكبر؛ لأن إنشاءه كان من نطفة تستقذرها الخلائق، ومن علقة ومضغة يستخبثها كل أحد، وبعد الممات يصير جيفة قذرة، ومن كان هذا شأنه، لم يحسن التكبر في مثله؛ فكان في تذكير أوائل الأحوال وأواخرها موعظة لهم؛ ليتعظوا، ويتبصروا، وتعريفٌ لهم أن التكبر لا يحسن من أمثالهم؛ فيحملهم ذلك على التواضع وترك الافتخار والتجبر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ): الأمشاج: الأخلاط، ثم الأخلاط تقع بوجهين: أحدهما: في اختلاط ماء الرجل بماء المرأة. والثاني: تقع في الأحوال، وهو أن النطفة إذا حولت علقة لم تحول بدفعة واحدة؛ بل هي تغلظ شيئا فشيئا، حتى إذا تم غلظها صارت علقة، وكذلك العلقة يدخل فيها التغيير شيئا فشيئا، حتى إذا تم التغيير فيها حالت مضغة؛ فهذا هو الاختلاط في الأحوال. فمنهم من قال: الأخلاط: الطبائع الأربع التي عليها جبل الإنسان. ومنهم من صرف الخلط إلى الألوان، فذكر أن ماء الرجل أبيض يخالطه حمرة، وماء المرأة أحمر يخالطه صفرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَبْتَلِيهِ)، أي: بالخير والشر، والأمر والنهي، ثم الابتلاء هو الاستظهار لما خفي من الأمور؛ واللَّه تعالى لا يخفى عليه أمر فيحتاج إلى استظهاره،

(3)

ولكنه يبتليه ليظهر للمبتلي ما كان خفيا عليه بفعله وتركه، وأما الخلق فهم يمتحنون، ويبتلون؛ ليظهر لهم ما كان خفيا عليهم؛ فيكون الابتلاء منصرفا إليهم لا إلى المبتلي والممتحِن. والثاني: أن الابتلاء لما كان لاستظهار ما خفي من الأمور، وذلك يكون بالأمر والنهي؛ فسمي الأمر من اللَّه تعالى والنهي لعباده: ابتلاء؛ لمكان الأمر والنهي، لا على تحقيق معنى الابتلاء منه. وقال الحسن: لما صلح أن يضاف الاستخبار إلى اللَّه تعالى وإن كان هو خبيرا عما استخبر؛ فجائز أن يضاف إليه الابتلاء أيضا، وإن كان هو بالذي ابتلاه عالما بصيرا، ولأن الذي يظهر من العبد بعد الابتلاء من الفعل كان غائبا، فاللَّه - تعالى - يعرفه شاهدا بفعله، وقبل ذلك كان يعرفه غائبا؛ لأن معرفة ما يكون أن يعرف قبل كونه غائبا، وبعد كونه شاهدا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا): أي: جعلنا له سمعا يميز بين ما يؤدي إليه سمعه، وجعلنا له بصرا يبصر به ما أدى بصر الوجه؛ ليضع كل شيء موضعه؛ وذلك هو بصر القلب وسمع القلب؛ لأنه قد خص البشر بالابتلاء؛ لمكان بصر الباطن والسمع الباطن؛ ألا ترى أن البهائم لها بصر الظاهر، وكذلك السمع. ويحتمل: أي: جعلناه سميعا بصيرا يبصر ما له، وما عليه، وما ينفعه، وما يضره، ثم أنشأ فيه السمع والبصر، ولا يعرف كيفية السمع والبصر الذي جعل فيه، ولا ماهيته، ولا ممن هو؟ لطفًا منه؛ ليعلم أنه منشئ الكيفيات والماهيات، وأنه يتعالى عن الوصف له بالكيفية والماهية. ثم قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3). يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) أوجها ثلاثة: أحدها: هديناه السبيل؛ لإصلاح بدنه ومعاشه. أو هديناه السبيل الذي يصلون به إلى استبقاء النسل والتوالد إلى يوم التناد. أو هديناه السبيل الذي يرجع إلى إصلاح دينهم، وأمر آخرتهم باكتساب المحامد والمحاسن، ثم قوله: (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) أخبر أنه قد بين لهم السبيل وهداهم إليه،

(4)

ثم منهم من يختار الشكر له، ومنهم من يختار الكفران له، ثم بين ما أعد للكفور منهم، وما أعد للشكور، وهو ما قال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4). ثم قوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) إن كان المراد منه الطريق؛ فكأنه قال: إنا بينا كلا الطريقين، فإن سلك طريق كذا واختاره يكون شاكرا، وإن سلك طريق كذا واختاره يكون كفورا. ثم بين لكل طريق سلكه جزاء وثوابا. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا): ففيه إنباء أن أيديهم تغل، ويشدون بالسلاسل، فلا يتهيأ لهم أن يقوا العذاب عن وجههم. ثم قرئ (سَلَاسِلَ)؛ لأنها غير منصرفة، وقرئ (سلاسلاً) وصرفوه؛ بناء على أن الأسماء كلها منصرفة إلا نوعا واحدا. وقال الزجاج: السلاسل لا تنصرف؛ لأنه لا فعل لها، لكن صرفها هاهنا لأنها من رءوس الآيات. وقيل: لأنه جعله رأس الآية. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا): فمنهم من ذكر أن الكافور شيء أعده اللَّه تعالى لأهل كرامته، لم يطلع عباده على ذلك في الدنيا.

(6)

ومنهم من ذكر أن الكافور شيء جرى ذكره في الكتب المتقدمة، فذكر كذلك في القرآن. ومنهم من قال: إنه عين من عيون الجنة. ومنهم من صرفه إلى الكافور المعروف. لكن قيل: إنه كناية عن طيب الشراب. وقيل: إنه كناية عن برودة الشراب؛ لأنه ذكر أن ذلك الشراب في طبعه كالكافور؛ لأن ألذ الشراب عند الناس البارد منه، لا أن يكون في نفسه باردا. وذكروا أن الكأس لا تسمى: كأسا حتى يكون فيها خمر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ... (6). ومعناه: منها، لا أن يقع شربهم بها. وسميت العين: عينا؛ لوقوع العين عليها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا): فيه إخبار أن ماء العيون جارية يفجرونها من حيث شاءوا. ثم المراد من ذكر العباد هاهنا هم الذين أطاعوا اللَّه - تعالى - وقاموا بوفاء ما عليهم، وهم الذين قال اللَّه تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7): النذر هو العهد؛ فجائز أن يكون أراد به الوفاء بكل ما أوجب اللَّه تعالى من الفرائض والحقوق؛ فتكون فرائضه عهده؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي). وجائز أن يكون أراد بالنذر ما أوجبوا على أنفسهم من القرب سوى ما أوجبها الله تعالى عليهم؛ فيكون فيه إخبار أنهم قاموا بأداء الفرائض، وتقربوا إلى اللَّه تعالى مع ذلك بقرب أخر؛ فاستوجبوا المدح بوفائهم بما أوجبوا على أنفسهم. وقال: (ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)، فلحقهم الذم؛ لما لم يقوموا برعاية حقه، ليس بإيجابهم على أنفسهم ما لم يوجبه اللَّه تعالى عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) قيل: استطار شر ذلك اليوم،

(8)

فملأ السماوات والأرضين وكل شيء؛ حتى انشقت السماوات، وتناثرت النجوم، وبست الجبال. ومعناه: أن هول ذلك اليوم قد عم وفشا في أهل السماوات والأرض؛ حتى خافوا على أنفسهم. وقيل: سمي: مستطيرا، أي: طويلا، ويقال: استطار الرجل؛ إذا اشتد غضبه، واستطار الأمر؛ أي: اشتد؛ فسمي: مستطيرًا، أي: شديدًا. وقوله - عَزَّ وجل -: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8): فالحب يتوجه إلى معانٍ: يتوجه إلى الإيثار مرة، وإلى ميل النفس وركون القلب أخرى، ومرة يعبر به عن الشهوة؛ فالمراد من الحب هاهنا: الشهوة؛ فيكون قوله - عز وجل -: (عَلَى حُبِّهِ)، أي: على شهوتهم وحاجتهم إليه. وقيل: ويطعمون في حال عزة الطعام. وقيل: أي: يطعمون الطعام على حبهم لها وحرصهم عليها، ليس أن يطعموا عند الإياس من الحياة، على ما روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر ". وقوله - عَزَّ وجل -: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9): قيل: إنهم لم يتكلموا بهذا اللفظ، أعني: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ)، (لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) الآية، ولكن علم اللَّه تعالى ذلك من قلوبهم؛ فأثنى عليهم بذلك؛ ليرغب في ذلك الراغبون؛ ألا ترى أنهم كانوا يطعمون الأسارى، ولا يطمع من الأسارى المجازاة والشكر؛ ليعلم أنهم لم يقصدوا بها إلا وجه اللَّه تعالى والتقرب إليه، والمجازاة: هي المكافأة لما أُسدي إليه، والشكر: هو الثناء عليه والبشر عنه. وقوله - عَزَّ وجل -: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10): فمنهم من جعل هذا نعتا لذلك اليوم؛ فيكون معناه: أن هذا اليوم -وهو يوم القيامة- من بين سائر الأيام كالإنسان العبوس من بين غيره. ومنهم من صرفه إلى الخلائق؛ فيكون معنى قوله تعالى: (يَوْمًا عَبُوسًا): يوما تعبس فيه وجوه الخلائق؛ لا أن يكون اليوم بنفسه عبوسا، وهو كقوله تعالى: (وَالنَّهَارَ

(11)

مُبْصِرًا)، أي: يبصر فيه، وتقول العرب: " ما زال الطريق يمر منذ اليوم "؛ على معنى: يمر الناس فيه؛ فيرجع هذا إلى وصف ما يكون عليه ذلك اليوم، على ما ذكرنا: أن اللَّه تعالى ذكر اليوم بالأحوال التي يكون عليها حال ذلك اليوم، فمرة قال: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى)، ومرة قال: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ)، وغير ذلك من الآيات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَمْطَرِيرًا)، قيل: شديدا. وقيل: القمطرير: الذي يقبض الوجه بالبسور والعبوسة، ويزوي ما بين العينين. وقيل: القمطرير: المشوه على أهل النار. وقيل: القمطرير: هي كلمة من كتب الأولين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11): جائز أن تكون الوقاية منصرفة إلى الموعود في ذلك اليوم من العقوبة والنكال، لا أن يكونوا وقوا من هول ذلك اليوم فلا يرون الجحيم ولا أهوالها. وجائز أن يكون وقاهم عما كانوا يخافون من التبعة لدى الحساب، كقوله: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ)؛ فكأنهم يخافون على أنفسهم المناقشة في الحساب، فإذا رأوا سيئاتهم مغفورة، وحسناتهم متقبلة، سروا بذلك، ووقوا شره. وجائز أن يكونوا أُومنوا من أهوال القيامة وأفزاعها حين نشروا من القبور، وبلغتهم الملائكة بالبشارة، كما قال: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا): فالسرور عبارة عن انتفاء الحزن عنهم، والنضرة: أثر كل نعيم. وقيل: نضرة في وجوههم، وسرورا في قلوبهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) أي: على الطاعات، وصبروا عن معاصي اللَّه تعالى.

(13)

(جَنَّةً وَحَرِيرًا): أي: جزاهم جنة، وجزاهم حريرا، فذكر الحرير؛ لأن الجنان إنما تذكر في موضع التطرب والتنعم بالمآكل والمشارب دون التنعم باللباس؛ فوعد لهم اللباس من الحرير، مع ما جزاهم الجنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ... (13) يذكر تفسيرها بعد هذا، إن شاء اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا): لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير؛ بل يكون ظلها دائما ممدودا؛ فجائز أن يكون المراد منه: أن ضياء الجنة ليس بالشمس، ولكن بما خلقت مضيئة؛ لأن الشمس في الدنيا يقع بها الضياء؛ فيكون ضياء النهار بالشمس. وذكر أنهم لا يرون فيها الزمهرير؛ ليعلم أن لذاذة شراب الجنة وبرودته بالخلقة، لا أن تكون برودته بتغير يقع في الأحوال على ما يكون عليه شراب أهل الدنيا. أو يكون ذكر هذا؛ ليعلموا أنهم لا يؤذون بحَرٍّ ولا برد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا ... (14): جائز أن يراد به: أنها دانية من هَؤُلَاءِ الذين سبق نعتهم، وهم الأبرار، كقوله - عز وجل -: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). أو ذكر أن ظلالها دانية؛ لأنها لو لم تكن دانية، لكان لا يقع لهم بها انتفاع. وقيل: هي ظلال غصون الأشجار قريبا منهم؛ لأن للجنة نورا يتلألأ؛ فيقع بالأشجار ظلال؛ على ما جاء في الخبر أنه لو ألقي سوار من الجنة في الدنيا، لأضاءت الدنيا، ويغلب ضوءها ضوء الشمس "، ويجوز ذلك؛ فتقع الأشجار فيها ظلال؛ كما يشتهونه في الدنيا ليس ذلك على شمس ولا قمر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا): جائز أن يكون أريد بالتذليل: التليين، أي: لينت؛ فلا يرد أيديهم عنها شوك. وقيل: إن أشجارها ليست بطوال لا تنال ثمارها إلا بعد عناء وكد؛ بل قريبة من أربابها، يقال: حائط ذليل؛ إذا لم يكن عاليا في السماء.

(15)

وقيل: ذللت، أي: سويت الأشجار، لا يتفاوت بعضها بعضًا؛ يقول أهل المدينة إذا استوت عذوق النخلة: تذللت النخلة. وقيل: ذللت، أي: سخرت؛ والتذليل: التسخير، فيتناولون منها كيف شاءوا: إن شاءوا تناولوها وهم قيام، وإن شاءوا تناولوها وهم جلوس، أو نيام على الفرش. وجائز أن يكون تسخيرها على ما ذكر عن بعض المتقدمين: أن شجر الجنة عروقها من فوق، وفروعها من أسفل، والثمار بين ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15). فتأويل الأكواب يذكر في سورة: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ). ثم أخبر أن تلك الأكواب قوارير من فضة، قيل: هي من فضة، ولها صفاء القوارير، يرى ما فيها من الشراب من خارجها؛ لصفائها. ثم الآنية من الفضة في أعين أهلها أرفع وأشرف من الإناء المتخذ من التراب؛ فكذلك الصفاء الذي يكون بالفضة أبلغ وأرفع في أعين أهلها من الصفاء الذي يقع بالقوارير. (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) على الأصل المعهود: أنه لا ينصرف، وقرئ قوله: [(قَوَارِيرَ)] على الوقف عليه موافقا لآخر سائر الآيات، وقرئ (قواريرًا)، بالتنوين عند الوصل أيضا؛ لأنه رأس الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا): أي: جعلت على قدر ريِّهم. وقيل: يسقون على القدر الذي قدروه في أنفسهم، وحدثت به أنفسهم؛ فلا يقدرون في قلوبهم مقدارًا إلا أتوا بها على ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17): منهم من زعم أن العرب كانوا إذا أعجبهم شراب نعتوه، وقالوا: كالزنجبيل؛ فخرجت البشارة من الوجه الذي ترغب في مثله الأنفس. ومنهم من ذكر أن الزنجبيل والسلسبيل واحد، وهما اسم العين.

(19)

ومنهم من ذكر في السلسبيل، أي: سل سبيلا إلى تلك العين. وقال قتادة: أي: سلسلة السبيل، مستعذَب ماؤها. وقيل: سلسبيلا: شديد الجرية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ... (19): ذكر الولدان لا أن يكون فيها وِلَادٌ؛ ولكنهم أنشئوا ولدانا، فيخلدون كذلك، لا يكبرون، ولا يهرمون. وجائز أن يكون الولدان ولدان الكفرة الذين ماتوا في الدنيا صغارا؛ فلا يكون لهم في الجنة آباء؛ ليرفعوا إلى درجة الآباء؛ فيجعلهم اللَّه تعالى خدما لأهل الجنة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا): منهم من يقول: إن اللَّه تعالى شبه حسنهم بحسن اللؤلؤ المنثور؛ إذ أحسن ما يكون اللؤلؤ إذا كان منثورا؛ فجائز أن يكون هَؤُلَاءِ الولدان فضلوا في الحسن على سائر الجواهر التي تكون في الجنة؛ كما فضل الدر في الدنيا على سائر الجواهر. ومنهم من يقول: إنهم ما لم يطوفوا فمن رآهم حسبهم لؤلؤا منثورا، وإذا طافوا، وتحركوا، فحينئذ يعلمون أنهم ولدان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20): قيل: هما اللذان لا نعت لهما ولا وصف. وقيل: الْمُلْك: استئذان الملائكة عليهم، وملوك الدنيا وإن علت رتبتهم لم يملكوا الاحتجاب من دخول الملائكة عليهم بغير استئذان، والملك: هو الذي له نفاذ الأمور. وجائز أن يكون ذكر النعيم والملك الكبير على معنى أنه لا ينقطع عنهم؛ بل إذا رأيتهم أبدا رأيتهم في نعيم وملك كبير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21): جائز أن يكون أراد بالعالي ما علا من المكان الذي هم فيه، فيخبر أن في أعلى أماكنهم ثيابَ خضرٍ من سندس كما هو في المكان الذي أسفل موضع جلوسهم؛ لأنهم يكونون على الأرائك والأحجال؛ فيكون ما تحت الأحجال والأرائك من الأماكن زرابي مبثوثة؛ ونمارق مصفوفة، ويكون عاليها كذلك. فإن كان على هذا، فلا فرق بين أن يكون فرش ذلك المكان من حرير وديباج غليظ -

إن أريد بالإستبرق الديباج الغليظ- وبين أن يكون من ديباج رقيق؛ إذ كل ذلك مما يرغب في مثله، واللَّه أعلم. وقيل: (عَالِيَهُمْ)، أي: أعلى ثيابهم سندس خضر وإستبرق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عالي أنفسهم ثياب سندس. ومنهم من صرف السندس إلى اللباس والإستبرق إلى ما بسط؛ لأن الديباج الغليظ مما لا ترغب الأنفس إلى لبس مثله؛ فجمع بين ما يلبس وبين ما يفرش، وبيَّنَ الفعل في أحدهما، ولم يذكر في الآخر. ومنهم من قال: (عَالِيَهُمْ) هم الولدان يطوفون من أعاليهم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ): بشرهم بالأساور من فضة؛ لأن الفضة مستحسنة بنفسها؛ لبياضها، والذهب استحسانه لقدره وعزته، ليس لنفسه؛ لأنه أصفر، والأعين لا تستحسن هذا اللون؛ فجرت البشارة بالفضة لا بالذهب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحلى الرجال بأسورة من فضة؛ على ما أبيح لهم التحلي بخاتم الفضة في الدنيا، وتحلي النساء بأساور الذهب على ما أبيح لهن التحلي بخاتم الذهب في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا): قيل: هو الخمر تطهر من الآفات ومن كل مكروه، وتطهر قلوبهم من الغل؛ فيعمل ذلك الشراب في تطهير الظاهر والباطن، وشراب الدنيا يطهر ظاهر البدن، وباطن البدن ينجس الشراب. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع "، فقال يهودي: إن الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة؛ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حاجة أحدهم عرق يفيض من جسده؛ فتضمر لذلك بطنه ". والأصل أنك قد ترى الطعام الذي يطعمه الإنسان في الدنيا تبقى قوته في البدن حتى يظهر ذلك في كل جارحة من جوارحه، وكذلك شهوته تبقى فيها، ثم يخرج الثفل منها والفضل؛ فجائز أن يرفع اللَّه تعالى عن ذلك الطعام الفضل الذي يزايل البدن؛ فيكون

(22)

طعامهم ذلك اللطيف الذي يبقى في النفس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22): فجائِز أن تكون هذه البشارة خرجت لأهلها في الدنيا. وجائز أن تكون لهم في الآخرة: أن هذا الذي أكرمتم به من الكرامات جزاء لعملكم وسعيكم في الدنيا. * * * قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا): قيل: فرقنا عليك القرآن تفريقا، والحكمة في التفريق ما ذكر في آية أخرى في القرآن، وهو قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)، فأخبر أن في التفريق تثبيتا؛ فيكون الناس له أوعى وأعرف بمواقع النوازل منه من أن ينزل جملة واحدة. ثم أضاف التنزيل إلى نفسه هاهنا، وأضاف إلى جبريل - عليه السلام - في قوله - عز وجل -: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)، وقال في آية أخرى: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، فأضافه إلى نفسه، وقال: (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ). فهذا كله على مجاز الكلام ليس على الحقيقة؛ فحق كل من ذلك أن يصرف إلى ما إليه أوجه، وإلى ما يستجيز الناس من التعامل فيما بينهم بذلك الكلام، فإذا قيل: هذا في اللوح، فهم به، وأريد منه: أنه مكتوب فيه، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، معناه: حتى يسمع كلاما يدله على كلام اللَّه تعالى لا أن يكون ذلك كلامه. وأضافه إلى جبريل - عليه السلام - لأنه من فيه تلقاه، لا أن يكون ذلك كلام جبريل، عليه السلام. ثم قد ذكرنا الحكمة في إنزال القرآن مفرقا قبل هذا الفصل الكافي منه. ثم جائز أن يكون التفريق؛ لمكان أتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ليس لمكانه؛ لأن اللَّه -

(24)

تعالى - يسر على نبيه حفظه؛ حتى كان يعي جميع ما ينزل إليه جبريل - عليه السلام - بما يقرؤه عليه مرة واحدة. وقيل له: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) الآية؛ فضمن له الحفظ؛ فأمن النسيان، فأما غيره فإنه يشتد عليه أن لو كلفه حفظه بدفعة واحدة؛ فأنزل مفرقا، ليكونوا أقدر على حفظه؛ ولهذا ما كثر حفاظ القرآن في هذه الأمة، وكثر قراؤها، وكثر فقهاء هذه الأمة؛ لأن القرآن أنزل مفرقا على أثر النوازل؛ فعرفوا مواقع النوازل؛ فوقفوا على معرفة ما أودع في الآيات؛ لمعرفتهم مواقع النوازل والمنسوخ، ولو نزل جملة واحدة اشتبه عليهم الناسخ والمنسوخ؛ فأنزله اللَّه - تعالى - مفرقا؛ ليكونوا بعلم الناسخ والمنسوخ واللَّه أعلم. ولأنه إذا أنزل مفرقا، كانوا إليه أشوق، وأرغب منه إذا أنزل جملة واحدة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ. . .) الآية، فأخبر أنهم يرغبون إلى أن تنزل عليهم سورة، وإن كانوا قد أنزلت إليهم سُورَة من قبل. وفيه - أيضا - تخويف للمنافقين؛ كما قال اللَّه - تعالى: - (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ)؛ فكان في إنزاله مفرقا ما ذكرنا من الفوائد والمنافع للمؤمنين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ... (24). فيه أنه ابتلاه بما تكرهه نفسه، ويشتد عليها، حتى دعاه إلى الصبر؛ لأن المرء لا يدعى إلى الصبر على النعم واللذات، وإنما يدعى إليه إذا ابتلي بالمكاره البليّات، وقد صبر - عليه السلام - على المكاره؛ لأنه أمر بمضادة الجن والإنس؛ فانتصب لهم حتى آذوه كل الأذى، وهموا بقتله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا): كأنه قال: ولا تطع من دعاك إلى ما تأثم فيه، أو يكون كفورا. أو لا تجب الآثم أو الكفور إلى ما يدعوك إليه. وقوله - تعالى -: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25):

(26)

يحتمل: واذكر باسم ربك. أو صل باسم ربك؛ كقوله: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى). أو يقول: اذكر اسم ربك، أي: كن ذاكرا له في كل وقت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بُكْرَةً وَأَصِيلًا): البكرة: تحتمل صلاة الصبح، والأصيل: يحتمل صلاة الظهر والعصر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26): تحتمل صلاة الليل النوافل إن كان قوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) في صلاة الفرائض، وإن لم يكن في ذلك؛ فيكون كأنه قال: واذكر ربك في كل وقت بالليل والنهار. أو يقول: فليكن اسم ربك مذكورا؛ حتى لا تخلو ساعة من هذه الساعات إلا وهو مذكور فيها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27): حب العاجلة مما طبع به الخلائق؛ لأن كل طبع على حب الانتفاع والتمتع بالشيء؛ فلا يلحقهم الذم بحب ما طبعوا عليه وأنشئوا، ولكن إنما يلحق الذم من أحب الدنيا واختارها وآثرها على غير الذي جعلت الدنيا وأسست؛ فالدنيا إنما أسست، وجعلت؛ ليكتسب بها نعيم الآخرة والحياة الدائمة اللذيذة؛ فمن أحب لهذا، فهو لا يلحقه بذلك ذم، ولا تعيير؛ ومن أحبها وآثرها لها، واكتسبها لها، فهو المذموم، وأُولَئِكَ كانوا مختلفين في ذلك، لم يكونوا على فن واحد. منهم من حمله حبه الدنيا على إنكار وحدانية اللَّه - تعالى - وألوهيته. ومنهم من حمله حبه إياها على تكذيب الرسل والتعادي لهم، ومكابرة الحق. ومنهم من حمله حبه إياها على إنكار البعث والجزاء لما عملوا. ومنهم من حمله حبه الدنيا على التفريق بين الرسل، أنكروا بعضا، وصدقوا بعضا. تولد من حبهم إياها ما ذكرنا؛ فلحقهم الذم لذلك، وكذلك ما ذكر من الإنفاق في الدنيا حيث قال: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ. . .) الآية، فمن أنفق من هذه الدنيا لها؛ فتكون نفقته ما ذكر؛ لأنه أنفق لغير ما جعلت له النفقة؛ فكان ما ذكر؛ فعلى ذلك من أحب الدنيا، واختارها للدنيا

(28)

لا لاكتساب ما ذكرنا من النعم اللذيذة الدائمة والحياة الباقية التي لا انقطاع لها، كان على ما ذكر. ثم إذا ذكرت الدنيا ذكرت الآخرة وراءها، وإذا ذكرت الآخرة على أثر ذكر الإنسان قيل: أمامه؛ لأن الإنسان يقبل إليها؛ فيكون ذلك أمامه وقدامه؛ وأما عند ذكر الدنيا قيل: وراءها؛ لأنها تخلفها، وكل من خلف آخر يكون بعده ووراءه؛ لأنه يكون عند فوت الآخر؛ لذلك كان ما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ... (28): رجع إلى الاحتجاج عليهم لما أنكروا، يقول: يعلمون أنا خلقناهم بدءا، ونحن شددنا أسرهم، أي: قوتهم. أو نحن: شددنا خلقتهم، ونحن وصلنا جوارحهم المتفرقة ومفاصلهم المتشتتة بعضها إلى بعض، ونحن نبدل أمثالهم إن شئنا، فما بالهم ينكرون قدرتنا على البعث والإعادة بعد الموت؟! يقول: من قدر على ما ذكر لا يعجزه شيء، وهو على البعث أقدر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا): يذكر بعد هذا إن شاء اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) أي: هذه السورة؛ لأنه ذكر في أولها ابتداء إنشائهم وخلقهم، وآخرها إعادتهم، وفي خلال ذلك جزاء صنيعهم الذي صنعوا؛ فيكون في ذلك تذكرة لهم. ويحتمل قوله: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ)، أي: الأنباء التي ذكرت في القرآن، أو هذه المواعظ تذكرة لما لهم وما عليهم، أو تذكرة لما لله عليهم، وما لبعضهم على بعض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا): هذا يخرج على وجهين: أحدهما: يقول: قد مكن كلا أن يتخذ سبيلاً إلى ربه، أي: لا شيء يمنعه عن اتخاذ السبيل إلى ربه إذا شاء، لكن من لم يتخذ إنما لا يتخذ؛ لأنه لم يشأ أن يتخذ سبيلا؛ وإلا قد مكن له ذلك.

(30)

والثاني: يقول: من شاء اتخاذ السبيل، فليتخذ السبيل إلى ربه، على ما يذكر على الاستقصاء بعد هذا، إن شاء اللَّه تعالى. ثم قوله - تعالى -: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ... (30): يقول - واللَّه أعلم -: من شاء اتخاذ السبيل إلى ربه لا يتخذ إلا أن يشاء اللَّه أن يتخذ السبيل إلى ربه، فعند ذلك يتخذ، وهذا على المعتزلة لأنهم يقولون: إن اللَّه تعالى قد شاء لجميع الخلائق أن يتخذوا إلى ربهم سبيلا، لكنهم شاءوا ألا يتخذوا إلى ربهم سبيلا؛ فلم يتخذوا، وقد أخبر أنهم لا يشاءون اتخاذ السبيل إليه، ولا يتخذون إلا أن يشاء اللَّه لهم اتخاذ السبيل فعند ذلك يتخذون ما ذكر، ويشاءون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا): إن اللَّه - تعالى - لم يزل عليما بصنع خلقه من التكذيب له والتصديق، ومن الطاعة له والمعصية، أي: على علم منه بصنيعهم أنشأهم وخلقهم، حكيما في فعله ذلك وخلقه إياهم على ما علم منهم بكون الآية إنما خلقهم وأنشأهم؛ لمنافع أنفسهم ولحاجتهم، لا لمنافع ترجع إليه، أو لمضار يدفع عن نفسه؛ فخلقه إياهم وبعثه الرسل إليهم على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد لا يخرج فعله عن الحكمة والحق؛ بل يكون حكيما في ذلك، وأما من يبعث الرسول في الشاهد، إلى من يعلم أنه يكذبه، ويرد رسالته وهديته، ويستخف به - سفه ليس بحكمة؛ لأنه إنما يرسل الرسل ويبعث هديته؛ لمنافع تكون للمرسل؛ فعلمه بما يكون منه سفه ليس بحكمة؛ لذلك افترقا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ... (31): هذا على المعتزلة - أيضا - لأنه ذكر أنه يدخل من يشاء في رحمته، وهم يقولون: قد شاء أن يدخل كلا في رحمته؛ لأنه شاء إيمان كل منهم، واللَّه تعالى أخبر أنه يدخل من يشاء في رحمته؛ دل ذلك على أنه لم يشأ أن يدخل في رحمته من علم منه أنه يختار الضلال؛ ولكن إنما شاء أن يدخل في رحمته من علم منه أنه يختار الهدى، فأما من علم منه اختيار غيره، فلا يحتمل أن يشاء ذلك له، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا): أي: وشاء - أيضا - من علم منه الضلال أن يعد له عذابا أليما.

وفي حرف ابن مسعود، وأبي وحفصة - رضي اللَّه عنهم -: (يختص برحمته من يشاء)، وهذا الحرف تفسير تأويل الآية. ويحتمل أن يكون رحمته هاهنا: هي الهدى وسبيل اللَّه تعالى. ويحتمل أن يكون رحمته هي جنته؛ سميت: رحمة؛ لأنه برحمته ما يدخلها أهل الإيمان، واللَّه تعالى أعلم بالصواب. * * *

سورة المرسلات

سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) اختلفوا في تأويلها: فمنهم من حمل تأويل هذا كله على الملائكة. ومنهم من صرفها إلى الرياح. ومنهم من صرف البعض إلى الرياح، والبعض إلى الملائكة. وجائز أن يجعل هذا كله في الرياح، ويستقيم أن يصرف كله إلى الملائكة، ويستقيم أن يجعل البعض في الملائكة والبعض في الرياح. فإن كان في الرياح، استقام القسم بها؛ لأن من الرياح رياحا هن مبشرات برحمته، سائقات للنعم إلى عباده؛ كقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ). ومن الرياح رياح هي منجيات؛ قال اللَّه تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا)؛ فجعل اللَّه تعالى الريح سببا لتسيير السفن في البحار، كما جعل الماء سببا لذلك، وجعل منها مهلكات مذكرات لقوته وسلطانه؛ كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ) الآية، فهي تميتهم وتهلكهم من غير أن يدركوها بأبصارهم، وإن كانت الأبصار هي أول ما يقع بها درك الأشياء، ولو أراد أحد أن يعرف الوجه الذي له صارت المنجيات منجيات، أو يعرف الوجه الذي له صارت الرياح مهلكات، أو مبشرات - لم يقف عليه؛

فصارت الرياح مذكرات للنعم، وفي تذكير النعم إيجاب القول بالبعث، وبكل ما يخبرهم به الرسل؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، ورأوا فيها من لطائف الحكمة وعجائب التدبير ما لا يبلغها تدبيرهم وحكمتهم، فعلموا أن الأمر غير مقدر بعقولهم ولا بحكمتهم؛ فيكون في ذكر ما ذكرنا إزاحة ما اعترض له من الشك والشبه في أمر البعث؛ فأقسم بها - جل جلاله - على ما ذكرنا أن القسم جعل لتأكيد ما يقصد إليه باليمين. فرجعنا إلى قوله: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) قيل: هي الرياح المبشرات؛ سميت: عرفا؛ لأن ما تأتي به من النعم معروفة. وقيل: العرف: المتتابع، وسمي عرف الفرس: عرفا؛ لتتابع بعض الشعر على بعض؛ فجائز أن يكون منصرفا إلى الرياح المبشرة. وكذلك قوله - تعالى -: (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) جائز أن يحمل على الرياح، لكن على الرياح المُنْشِرَات، وهي الرياح السهلة الخفيفة؛ لأن النشر مذكور في رياح الرحمة بقوله: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) في بعض القراءات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) هي الرياح الشديدة التي تكسر الأشياء وتقصمها، وهي التي ترسل للإهلاك؛ كقوله تعالى: (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ). وجائز أن يكون قوله: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) هي اسم الرياح التي لم يظهر أنها أرسلت للهلاك أو للتبشير؛ لأن الرياح التي ترسل للرحمة يظهر أثر رحمتها من ساعتها من إرسال السحاب، وغير ذلك قبل أن تتتابع، وكذلك الرياح التي هي رياح إهلاك يظهر علم الإهلاك من ساعتها، وهو أن تكون قاصفة شديدة قبل أن تتتابع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا). يحتمل الرياح - أيضا - وأنما سميت: فارقات؛ لأنها تفرق السحاب؛ فيصير البعض في أفق، والبعض في أفق أخرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا):

جائز أن يصرف إلى الرياح، وإلقاء ذكرها ما ذكرنا: أنه تظهر بها النعم، وتتذكر، وتبين بها النجاة، ويقع ببعضها الهلاك، فذلك إلقاء ذكرها، واللَّه أعلم. وإن صرف الكل إلى الملائكة فيحتمل أيضا: فقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا)، أي: الملائكة الذين أرسلوا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا)، أي: الملائكة الذين يعصفون أرواح الكفار، أي: يأخذونها على شدة وغضب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) جائز أن يكون أريد بها السفرة من الملائكة، سموا: ناشرات؛ لأنهم ينشرون الصحف، ويقرءونها. وجائز أن يراد بها الملائكة الذين يأخذون أرواح المؤمنين على لين ورفق. وقولهَ عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا) جائز أن يراد بها الملائكة، وسميت: فارقات؛ لأنهم يفرقون بين الحق والباطل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) هم الملائكة الذين يلقون الذكر على ألسن الرسل، عليهم السلام. وإن صرف البعض إلى الملائكة والبعض إلى الرياح، فمستقيم أيضا. فتكون " المرسلات ": الذين أرسلوا بالمعروف والخير. و" العاصفات " الريح الشديدة، و " الناشرات ": الرياح الخفيفة السهلة. و" الفارفات فرقا " و " الملقيات ذكرا ": هم الملائكة. ويحتمل وجها آخر: أن يراد بقوله: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) هم الرسل من البشر الذين بعثوا إلى الخلق، فما من رسول بعث إلا وهو مرسل بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وكذلك جائز أن يراد بقوله تعالى: (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا. فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) هم الرسل؛ لأنهم يفرقون بين الحق والباطل، ويلقون الذكر في مسامع الخلق. وجائز أن يكون قوله: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) هي الكتب المنزلة من السماء؛ لأنها أرسلت بالمعروف وكل أنواع الخير. وكذا قوله: (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا)، أي: ناشرات للحق والهدى، وكذا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا)؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل أيضا.

(6)

وكذلك (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا)؛ فإنها سبب لذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6): أي: عذرًا من اللَّه - تعالى - وهو أن اللَّه - تعالى - أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبين الحجج؛ حتى لم يبق لأحد على اللَّه حجة بعد ذلك، فهذا هو الإعذار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ نُذْرًا)، أي: أنذرهم، ولم يعجل في إهلاكهم؛ بل بين لهم ما يتقى ويجتنب، وما يندب إليه ويؤتى، فهذا هو الإنذار على تأويل الرياح ما ذكرنا: أنها مذكرات نعم اللَّه تعالى ونقمته؛ فيكون في ذلك إيجاب ذكر المنعم والمنتقم؛ فيكون في ذلك إعذار وإنذار، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7). فهذا موضع القسم بما ذكر من المرسلات إلى آخرها. ثم إن كان الموعود هو البعث، فمعناه: إن الذي توعدون به من البعث لكائن، وإن كان على الجزاء والعقاب، فتأويله: إن ما توعدون به من العذاب لنازل بكم؛ فتكون الآية في قوم علم اللَّه - تعالى - أنهم لا يؤمنون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8). فكأنه - واللَّه أعلم - لما نزل قوله تعالى: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن وقت وقوعه متى يكون؟ فنزلت: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ)، فأشار إلى الأحوال التي تكون يومئذ، لا إلى نفس الوقت، فقوله: (طُمِسَتْ)، أي: ذهب ضوءها ونورها، ثم تناثرت. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9): أي: انشقت. (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10). أي: قلعت من أصلها؛ فسويت بالأرض. وقال الزجاج: نسفت الشيء إذا أخذته على سرعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) وقرئ (وُقِّتَتْ)، وكذلك أصله، لكن الهمزة أبدلت مكان الواو؛ طلبا للتخفيف، وهو من التوقيت، أي: جمعت لوقت.

(12)

وقيل: أحضرت الرسل؛ ليشهد كل واحد منهم على قومه الذين بعث إليهم؛ كما قال اللَّه، تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ). وقيل: (أُقِّتَتْ) أي: وعد لهم بيان حقيقة ما إليه دعوا من وقوع ما أوعدوا قومهم الذين تركوا إجابتهم من العذاب، ووعد لهم الوصول إلى من آمن باللَّه تعالى وأجاب الرسل فيما دعوهم إليه من الثواب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12): (أُجِّلَتْ) و (أُقِّتَتْ) واحد؛ لأن في التأجيل توقيتا، وفي التوقيت تأجيلا، ثم بين وقت حلول الأجل -أجل العذاب- بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) أي: ليوم الحكم والقضاء، قال اللَّه - تعالى -: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى)، وقال: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). فجائز أن تكون الكلمة التي سبقت منه هي تأخير الجزاء إلى يوم البعث؛ فجعل ذلك يوم الجزاء؛ وذلك يكون بالمعاينة، وجعل هذه الدار دار محنة وابتلاء، وذلك يكون بالحجج والبينات؛ فكأنه قال: لولا ما سبق من كلمة اللَّه - تعالى - من تأخير الجزاء والعذاب، وإلا كان العذاب واقعا بهم في هذه الدنيا بالتكذيب. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن اللَّه - تعالى - أخر الجزاء والعقاب إلى اليوم الذي يجمع فيه الأولين والآخرين، وقدر في هذه الدنيا خلق هذا البشر على التتابع إلى ذلك اليوم؛ إذ ذلك اليوم هو الذي يوجد فيه الجمع، واللَّه أعلم. وسمى يوم الفصل لهذا أنه يوم القضاء والحكم، ولأنه اليوم الذي يظهر فيه مثوى أهل الشقاء وأهل السعادة، ويفصل بين الأولياء والأعداء ويفصل بين الخصماء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14): أي: لم تكن تدري، فدراك اللَّه تعالى؛ ذكر هذا: إما على التعظيم والتهويل لذلك اليوم، أو على الامتنان على رسوله - عليه السلام - بإطلاعه عليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15): في هذا دليل على أن الوعيد المذكور على الإطلاق منصرف إلى أهل التكذيب، ثم لم

(16)

يذكر ما للمصدقين، وحقه أن يقال: " طوبى للمصدقين "؛ لأن حرف " الويل " يتكلم به عند الوقوع في المهلكة، وحرف " طوبى " يتكلم به في موضع السرور والعطية، فإذا ذكر في أهل التكذيب حرف الهلاك، كان من كان بخلاف حالهم مستوجبا للسرور، ولكنه إن لم يذكرها هنا فقد ذكرها في موضع آخر بقوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ): تقديم وتأخير. * * * قوله تعالى: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20): جائز أن يكون ذكر هذا؛ ليدفع عنهم الإشكال والريب الذي اعترض لهم في أمر البعث؛ لأن الأعجوبة في الإعادة ليست بأكثر من الأعجوبة في الإنشاء والابتداء، فذكر ابتداء خلقهم؛ لينتفي عنهم الريب في الإعادة. وجائز أن يكون ذكر خلقهم من الماء المهين، وهو الماء المستعاف المستقذر؛ ليدعوا تكبرهم وتجبرهم على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وينقادوا له، ويجيبوا إلى ما دعاهم إليه. وأخبر أنه خلقهم في الظلمات التي لا ينتهي إليها تدبير البشر؛ ليعلموا أنه قادر على ما يشاء، ويعرفوا أنه لا يخفى عليه شيء؛ فيحملهم ذلك على المراقبة، وعلى التيقظ والتبصر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21): القرار المكين هو الرحم، جعله اللَّه - تعالى - قرارا مكينا يتمكن فيه الماء المهين، فيخلق منه علقة ومضغة، ويقر فيه إلى الوقت الذي قدر اللَّه تعالى الخروج منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَدَرْنَا ... (23) قرئ: (قَدَرْنَا) و (قَدَّرْنَا)، فـ (قَدَّرْنَا)، أي: خلقنا كل شيء منه بقدر؛ و (قَدَرْنَا)، أي: سويناه على ما توجبه الحكمة على الوجوه

(25)

التي تذكر في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ): أي: أنعم به من قادر؛ فيخرج مخرج ذكر الآلاء والنعم، أي: إن الذي فعل بكم هذا هو اللَّه - تعالى - لم يقدر أحد أن يفعل بكم هذا الفعل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26): جائز أن يكون هذا صلة قوله: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) و (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا. أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا). فيكون في ذكر هذا كله تذكير للآلاء والنعم، وتذكير القدرة والسلطان والحكمة. فوجه تذكير النعم: أن اللَّه - تعالى - في أول ما أنشأه، أنشأه نطفة قذرة، وجعل لها مكانا يغيب عن أبصار الخلق، ولم يفوض تدبيرها إلى البشر، وكذلك في الوقت الذي أنشأه علقة ومضغة، لم يفوض تدبيره إلى أحد من خلائقه؛ لأنه في ذلك الوقت بحيث يستعاف ويستقذر، ولا يدفع عنه المعنى الذي به وقعت الاستعافة والاستقذار بالتطهير؛ فجعل له قرارا مكينا يستتر به عن أبصار الخلائق، ثم لما أنشأه نسمة، وسوى خلقه أخرجه من بطن أمه وألقى في قلب أبويه الرقة والعطف؛ ليقوموا بتربيته وإمساكه إلى أن يبلغ مبلغا يقوم بتدبير نفسه ومصالحه، ثم جعل له بعد مماته أرضا تكفته وتضمه إلى نفسها؛ فيستتر بها عن أبصار الناظرين؛ إذ رجع بعد موته إلى حالة تستعاف وتستقذر ولا تقبل التطهير؛ فكان في ذكره أول أحواله إلى ما ينتهي إليه تذكير النعم؛ ليصل إلى أداء شكره. أو جعل الرحم قرارا له في وقت كونه نطفة وعلقة ومضغة؛ لما لا يعرف الخلائق أنه بم يغذى حتى ينمو ويزيد؟ فرفع عنهم مؤنة التربية في ذلك الوقت، ثم إذا صار بحيث يعرف وجه غذائه، وعرف الخلق المعنى الذي يعمل في دفع حاجته، أخرجه من بطن الأم، وفوض تدبيره إلى أبويه؛ فهذا وجه تذكير النعم، وفي ذكره ذكر القوة والسلطان والحكمة، وهو أن اللَّه تعالى جعل النطفة التي أنشأ منها النسمة، بحيث تصلح أن ينشأ منها علقة ومضغة، ولو أراد الخلائق أن يعرفوا المعنى الذي له صلحت النطفة بأن ينشأ منها العلقة والمضغة والعظام واللحم، ثم يكون منها نسمة سوية - لم يصلوا إلى معرفته،

(27)

وإذا تفكروا في هذا علموا أن حكمته ليست على ما ينتهي إليه علم البشر ولا قوته تقتصر على الحد الذي تنتهي إليه قوى البشر، والذي كان يحملهم على إنكار البعث بعد الإماتة تقديرهم الأمور على قوى أنفسهم وتسويتها بعقولهم، فإذا تدبروا في ابتداء أحوالهم ورأوا من لطائف التدبير وعجائب الحكمة، علموا أن الأمر ليس كما قالوا وقدروا؛ فيدعوهم ذلك إلى التصديق بكل ما يأتي به الرسل وتخبرهم من أمر البعث وغيره. وجائز أن يكون ذكرهم ابتداء أحوالهم ونشوءهم، وإلى ما يصيرون إليه؛ ليدعوا التكبر على دين اللَّه تعالى وينقادوا له بالإجابة، ولا يستكبروا على أحد من خلائقه؛ لأنهم في ابتداء أحوالهم كانوا نطفة يستقذرها الخلائق، ثم علقة ومضغة، ويصيرون في منتهى الأمر جيفة قذرة؛ ومن كان هذا وصفه فأنى يليق به التكبر على أحد؟! ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا): تكفتهم، أي: تضمهم وتجمعهم في حياتهم وبعد مماتهم، فالانضمام إليها في حال حياتهم ما جعل لهم من المساكن فيها والبيوت، وجعل لهم بعد مماتهم مقابر يدفنون فيها، أو جعل متقلبهم ومثواهم في ظهورها في حياتهم، وجعل بطنها مأوى لهم بعد وفاتهم، وجعل ظهرها بساطا لهم؛ ليسلكوا فيها سبلا فجاجا؛ وقدر لهم فيها أقواتهم، فذكرهم وجوه النعم في خلقه الأرض؛ ليستأدي منهم الشكر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ... (27): الرواسي هي الجبال الثابتات في الأرض أثبتها في الأرض؛ لتقر بها، ولا تميد بأهلها؛ إذ لو مادت لم يصل أهلها إلى ما قدر لهم من المنافع، فذكرهم بذكره الجبال الرواسي عظيم نعمه عليهم؛ ليستأدي منهم الشكر. والشامخات: هي الطوال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا): ولولا إنزاله عليكم لم تكونوا تصلون إليه بقواكم وحيلكم، ثم أنزله من السماء إلى الأرض، ولم يخرج من حد العذوبة، ولا حل به التغير بما مسته الأرض، واختلطت به، وهذا منصرف إلى الشرب خاصة، ثم لغير العذب من المنافع ما للعذب إلا الشرب خاصة.

(29)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16): وهم قوم نوح - عليه السلام - وقوم عاد وثمود. (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17): قوم فرعون اللعين وقوم لوط - عليه السلام - وغيرهم. (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18): قيل: مجرمي هذه الأمة. ثم اختلف في وقت فعله: فمنهم من يقول بأن هذا الإهلاك في الآخرة، لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ). ومنهم من ذكر أنه فعل بهم يوم بدر. ومنهم من ذكر أن فعله بمجرمي أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين "، ألقى اللَّه تعالى في قلوبهم الرعب؛ حتى تركوا الانتداب إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه للمحاربة، مع كثرة شوكتهم، وقلة أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فهذا فعله بالمجرمين، وفي إلقاءه الرعب ألطف آيات رسالته، وأبين حجة عليها إذ كان فيه ما ينبههم أن الذي أقعدهم عن القتال، وقذف في قلوبهم الرعب أمر سماوي لا غير، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ. لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)، معناه - واللَّه أعلم -: إلى ما كنتم به تكذبون من عذاب اللَّه تعالى، وهم كانوا يكذبون بالبعث وبالعذاب، لكن يقال لهم هذا بعد البعث؛ فهو منصرف إلى ما ذكرنا من العذاب. وقوله - عز وبخل -: (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30): ذكر أن ذلك الظل دخان يخرج من جهنم؛ فيظنون أنه ظل؛ فينطلقون إليه؛ رجاء أن ينتفعوا به.

(31)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون أصله واحدا، ثم يتشعب منه شعب ثلاث: وجائز أن يكون في الأصل ذا شعب ثلاث تأتي كل شعبة من ناحية، ثم تجتمع، فتصير شيئا واحدا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31): أي: لا ينتفعون به ما ينتفع بالظل في الدنيا؛ لأن ظل الدنيا يهرب إليه لدفع الحر، أو ليسكن فيه؛ لأن ظل البيت مما يسكن فيه، وظل الشجر والحيطان؛ ليأووا إليه؛ للتروح، وذلك الظل لا يغني عنهم في الآخرة في دفع الحرارة ولا في غيرها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ): جائز أن يكونوا هربوا إلى ذلك الظل من اللهب؛ فيخبر أن ذلك الظل لا يدفع عنهم، أذى اللهب. وجائز أن يكون اللهب في ذلك الظل، ويكون كثافة الظل ساترة عما فيها من اللهب؛ فيخبر أن سترها لا يمنع اللهب عن أن يمسهم إذا انضموا إلى الظل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصَرِ (32) مفتوحة الصاد: فالقراءة المعروفة قيل: يراد بالقَصْر: المعروف المبنى باللبن والخشب. وقيل: يراد بها قصور أهل البادية، وهي أن خيام. ومن قرأ بالنصب اختلفوا في تأويله: عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (كالقَصَر) قصر النخل؛ الواحدة: قصرة، وذلك أن النخلة تقطع قدر ثلاثة أذرع وأقصر وأطول، يستوقدون بها في الشتاء. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو أصل النخل المقطوع المنقعر من الأرض. وقيل: هو أعناق النخيل. وقيل: القصرة: اسم الخشبة التي تقطع عليها اللحوم، وتكسر العظام، تكون للقصابين.

(33)

وعن الحسن أنه قرأ مخففة (كالقَصْر)؛ غير أنه فسرها: أي: الجزل من الخشب؛ الواحد: قصرة؛ كقولك: تمرة وتمر، واللَّه أعلم. وفيه إخبار عن عظم شررها وقدرها خلافا لما عليه سائر الشرر في الدنيا؛ لأن شرر الدنيا لا يأخذ مكانا؛ بل يتبين ثم ينطفئ. ثم جائز أن يكون بعض شررها في العظم كالخيام، وبعضه كالقصور، وبعضه كأصول الأشجار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) قرئ: [(جِمَالَتٌ صُفْرٌ) جماعة الجمل]، وقرى: (جِمَالَاتٌ) جمع جمالة. والصفر: قيل: السود، وإنما سميت السود: صفرا؛ لأن السود تعلوها الصفرة في الإبل، فتسمى بهما؛ يدلك قول القائل عليه: تلك حبلى منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب شبه الشرر بالقصر، والقصر بالجمالة، وهي الإبل السود. وقرئ (جِمَالَاتٌ) برفع الجيم، وهي حبال السفن تمد، ثم إذا ضمت تكون كأوساط الرجال؛ فشبه الشرر بالحبال الممدودة الصفر عند الامتداد وعند الانضمام كأوساط الرجال؛ فتكون كالقصر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) جائز أن يكون معناه: أنهم لا ينطقون نطقا ينتفعون به كما لم يكونوا ينطقون في الدنيا كلاما يقربهم إلى اللَّه تعالى، فعاملهم في الآخرة حسب معاملتهم اللَّه تعالى في الدنيا، وهو كقوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)، وقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا) الآية. ومنهم من يقول: لا ينطقون في بعض المواضع، وينطقون في بعضها. ويحتمل: أي: لا ينطقون بحجة؛ بل يكذبون؛ كقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ).

(36)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36): ليس أنه لا يقبل العذر منهم إذا أتوا به، ولكن معناه: أنه لا عذر لهم؛ ليقبل منهم، وهو كقوله تعالى: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، معناه: أنه لا شفيع لهم، لا أنهم إذا أتوا بشفعاء لم يشفع لهم، وإذا لم يكن لهم عذر، فهم لا يعتذرون بعذر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فيه إخبار أنه لا يخص بالبعث فريقا دون فريق، بل يجمع الخلائق كلهم، ثم يفصل بينهم؛ فينزل كلا منزلته التي استوجبها (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). وقيل: هو يوم الحكم؛ فجائز أن يكون سمي به؛ لما يختصم فيه أهل المذاهب؛ فيحكم فيه بين المحق وبين الذي كان على الباطل، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39): جائز أن يكون يقال لهم هذا في الآخرة: أن كيدوا حتى تنجوا أنفسكم مما نزل بكم؛ أي: إن كانت لكم حيل تحتالون بها فافعلوا، وهو حرف التقريع والتوبيخ على نفي نفاذ المكر والحيلة، ليس على ما عليه أمر الدنيا: أنهم يحتالون ويمكرون بأنواع الخداع والتمويهات. ويحتمل أن قيل لهم هذا في الدنيا، أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يعارضهم بهذا فيقول لهم: (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) في قتلي أو إخراجي من بين أظهركم، كما قال هود - عليه السلام - لقومه: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ)، فعجزهم عن ذلك يظهر لهم آية رسالته، وحجة نبوته؛ إذ خوف الأعداء من غير أعوان كانوا له ولا جنود مجندة؛ بل كان وحيدا فريدا بين ظهراني قوم مشركين، ليست همتهم إلا إطفاء هذا النور. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ)، فالمتقون: هم الذين اتقوا عذاب اللَّه، قال اللَّه تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، وقال في آية أخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) وقال: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، فهذا هو التقوى.

ثم إن أهل التوحيد أقروا بالعذاب، فاجتهدوا في اتقائه، فقيل لهم: انطلقوا إلى ظلال وعيون؛ وأهل النار كانوا مكذبين بالعذاب، فقيل لهم: (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)، من العذاب. ثم أخبرنا بالوجه الذي يقع به الاتقاء فقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، وأمرنا بالانتصاب لمحاربته، ثم علمنا وجه المحاربة بقوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)، وقال: - تعالى -: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ)، وقال: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، فألزمنا الفزع إليه، وبين أنا لا نقوى على محاربته إلا بالابتهال إليه والفزع. ثم يحتمل أن يكون الاتقاء هاهنا منصرفا إلى التصديق خاصة؛ لأنه ذكر الاتقاء هاهنا مقابل التكذيب في الأولين. وجائز أن يكون منصرفا إلى المصدقين بالأقوال، والموفين بالأعمال؛ فالمتقي: هو الذي اتقى إساءة صحبة نعم اللَّه تعالى فوقاه اللَّه - تعالى - شر يوم القيامة، مجازاة له، والمحسن: هو الذي أحسن صحبة نعمه، فأحسن اللَّه منقلبه، وأحله بدار كرامته، في ظلال وعيون وفواكه. أو المتقي: هو الذي وقى نفسه عن المهالك، فوقاه اللَّه تعالى يوم القيامة، والمحسن: هو الذي أحسن إلى نفسه، وهو الذي استعملها في طاعة اللَّه تعالى؛ فأحسن اللَّه إليه بما أنعم عليه من الظلال والعيون. ثم أخبر أنهم في ظلال؛ لأن الظلال مما ترغب إليه الأنفس في الدنيا؛ لأنها تدفع عنهم أذى الحر والبرد وأذى المطر والرياح، وغير ذلك، وظلال الأشجار والحيطان تدفع أذى الحر، وظلال البنيان تدفع أذى الحر والبرد والمطر، وهي لا تحول - أيضا - بين المرء والأشياء، عن أن يدرك حقائقها؛ فعظمت النعمة في الظلال، ووقعت إليها الرغبة في الدنيا، فقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ)، وقال تعالى: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ)، ثم الأنفس إذا أوت أوت إلى الظلال، اشتهت ما تتمتع به الأبصار، وأعظم ما تتلذذ به الأبصار أن يكن نظرها إلى المياه الجارية؛ فأخبر أنهم في ظلال وعيون.

(42)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) أي: فواكه أيضا؛ فأخبر أن لهم فيها ما تتلذذ به الأبصار، وتتمتع به، وفيها ما تشتهى أنفسهم، وفيها ما يدفع عن أنفسهم الأذى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) لا تبعة عليكم من جهة السؤال، ولا تنغيص؛ أي: لا يؤذيهم ما يأكلون ويشربون، فالهنيء الذي لا تبعة على صاحبه، ولا تنغيص فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) فسمى المتقي: محسنا؛ لأنه بدأ بذكر المتقين، وذكر ما أعد لهم، ثم أخبر أنهم جوزوا بإحسانهم؛ فيكون فيه دلالة على أن الاتقاء متى ذكر على الانفراد يقتضي إتيان المحاسن والاتقاء عن المهالك. * * * قوله تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ). ثم رجع إلى المكذبين، فقال: (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ)، فهذا في الظاهر أمر بالأكل والشرب، وهو في الحقيقة وعيد، وهو أن تمتعكم بالأكل وغيره الذي يمنعكم عن النظر في الآيات قليل، عن سريع تفارقونه، وتصيرون إلى عذاب اللَّه تعالى. وقوله - تعالى -: (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) قد ذكرنا أن المجرم هو الوثاب في المعاصي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) أي: إذا قال لهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: اركعوا؛ أي: اخضعوا، واستسلموا لله - تعالى - امتنعوا عن ذلك؛ استكبارا منهم على الرسل، وإعراضا عن النظر في حجج اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) أي: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ يصدقون بعد حديث اللَّه - تعالى - الذي لا حديث أصدق منه، وأقوى في الدلالة. وجائز أن يكون هذا على تسفيه عقولهم وأحلامهم، وهو أنهم يمتنعون عن التصديق بحديث اللَّه تعالى؛ إذ لا حديث أصدق منه، ثم يصدقون الأحاديث الكاذبة والأباطيل المزخرفة، واللَّه أعلم بالصواب، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. * * *

سورة النبإ

سُورَةُ النَّبَإِ، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) اختلف في التساؤل: فمنهم من ذكر أن التساؤل كان عن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، سألوا عن حاله: أهو نبي أم ليس بنبي؟ ومنهم من ذكر أن التساؤل كان عن القرآن: أنه من اللَّه تعالى أو ليس من الله تعالى؟ أو يتساءلون فيما بينهم: هل تقدرون على إتيان مثله أم لا؟ وجائز أن يكون التساؤل عن أمر البعث، أو عن التوحيد، كما قال اللَّه - تعالى - خبرا عنهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)؟. ثم جائز أن يكون هذا السؤال من أهل الكفر، سأل بعضهم بعضا، فاختلفوا فيه، ولم يحصلوا من اختلافهم على إصابة الحق؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)، ولو كان فيهم مصدق، لكان قد وقع له العلم في ذلك الوقت؛ فلا يحتاج إلى أن يعلم ويبينه عليه. فإن كان السؤال عن حال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فوجه اختلافهم أن بعضهم زعم - أنه شاعر، وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ساحر، وقَالَ بَعْضُهُمْ: مفتر كذاب، وادعى بعضهم أنه مجنون.

وجائز أن يكون السؤال من الكفرة للمؤمنين. وإن كان على هذا فما ذكره أهل التفسير فهم بين مصدق ومكذب، يراد بالمكذب الذين صدر عنهم السؤال، ويراد بالمصدق أهل الإسلام الذين سُئلوا. ثم لا يجوز لأحد تحصيل السؤال على جهة واحدة، والقطع عليه بالتوقف الموجب للعلم. ثم في قوله - تعالى -: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) جواب عما سبق من السائل؛ فإن كان السائل عن أمر الرسالة، فحقه أن يحمل على جهة غير الجهة التي يحمل عليها إذا صرف التساؤل إلى أمر البعث، أو إلى أمر التوحيد أو القرآن. والأصل فيه أن اللَّه - تعالى - بما ذكر من مهاد الأرض، وخلق الأزواج ذكر عباده عظيم نعمه وكثرة إحسانه إليهم؛ ليستأدي منهم الشكر؛ فإذا وقعت لهم الحاجة إلى الشكر، فيضطرهم ذلك إلى من يبين لهم، واحتاجوا إلى من يعرفهم الوعد والوعيد، ومحل الشكور، ومحل الكفور، ومحل الموالي، ومحل المعادي؛ إذ وجدوا هذه الدنيا تمن على الأولياء، وعلى الأعداء على حالة واحدة؛ فاحتاجوا إلى من يعرفهم الوعد والوعيد، وأوجب ما ذكرنا القول بالبعث؛ ليظهر به منزلة الشكور والكفور. وفي ذكر هذه النعم - أيضا - دلالة الوحدانية؛ لأن اللَّه - تعالى - مهد الأرض، فجعلها متمتعا للخلق، ومنقلبا لهم، وأخرج منها ما يتعيشون به، وجعل سبب الإخراج ما ينزل من السماء من القطر، فجعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء، فلو لم يكن مدبرهما واحدا لانقطع الاتصال، ثم لو أراد أحد أن يعرف المعنى الذي له يقع إحياء الأشياء بالماء، لم يصل إليه، ولو أرادوا أن يتداركوا الوجه الذي صلح هذا الطعام أن يكون سببا لدفع الحاجات وقطع الشهوات، لم يقفوا عليه؛ فيكون فيما ذكرنا إزالة الشبه والشكوك التي تعترض لهم في الأمور الخارجة عن تدبيرهم وقواهم.

(4)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5): منهم من ذكر أن هذا وعيد على وعيد، وقد ذكرنا أن حرف الوعيد ما يكرره العرب فيما بينهم للتأكيد، كما يقال: هيهات هيهات، وأولى لك فأولى. وجائز أن يكون قوله: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) على علم دلالة، وقوله - تعالى -: (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) على علم المشاهدة والعيان. ثم قوله - تعالى -: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) أي: بساطا، (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) ذكر أن الأرض لما خلقت مادت بأهلها، فأرساها اللَّه - تعالى - بالجبال؛ لطفا منه، لا أن جعلها سببا للإرساء؛ ألا ترى إلى قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا)، فقد جعلها في ذلك الوقت مستمسكة ثابتة مستقرة بدون الجبال؛ فثبت أنها ليست بسبب للإرساء في التحقيق، ويكون فيه تعريف الخلق وجوه الحيل في الأمور إذا تعذر عليهم الوصول إليها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) قيل: ألوانا؛ فيكون في هذا إبطال الحكم بقول القائف؛ لأنهم يستدلون بالتشابه في الألوان، ويحكمون بها، فلو كان الأمر على ما قدروا، لارتفع الاختلاف في الألوان؛ فيكون الخلق كلهم على لون واحد. وقيل: (أَزْوَاجًا): فرقا شتى؛ ليعرف كل منهم عنصره، ومنتهى أصله. وقيل: (أَزْوَاجًا)، أي: جعل لكل أحد شكلا من جنسه؛ فجعل للذكر أنثى زوجا من جنسه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) قيل: السبات: التمدد. وقيل: السبات: النوم الذي لا حركة فيه؛ ولهذا قيل للذي شبه بالميت: مسبوت. وقيل: السبات: الراحة؛ ولذلك سمى: السبت؛ لأنه يوم راحة وترك العمل في بني إسرائيل. ثم في إنشاء النوم دليل سلطانه، ودخول الخلق بأجمعهم تحت تدبيره؛ إذ لم يتهيأ لأحد الاحتراز من النوم حتى لا يعتريه؛ بل يقهر الجبابرة فيذلهم، ولا يمكنهم الخلاص

(10)

عنه بالحيل والأسباب، ثم النوم كأنه من أثقل الأحمال وأشدها، ثم إذا زايل الإنسان، وعاد المرء إلى حال اليقظة، وجد في نفسه خفة وراحة ومن شأن هذا الإنسان: أنه إذا حمل الحمل الثقيل، مسه من ذلك فتور وكلال لا يزول عنه ساعة ما يضع الحمل عن نفسه؛ بل يبقى ذلك الكلال فيه إلى مدة، فمن تدبر في أمر النوم، دله على عظيم شأنه وعجائب تدبيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) فهذا اللباس لباس الأعين لا غير؛ ألا ترى أنه لا يستغنى بلباس الليل عما أخذ عليه من اللباس للصلاة، ولا يعمل لباس الليل عمل اللباس المعروف في دفع أذى البرد والحر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: اللباس: السكن؛ كما قال في آية أخرى: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا)، وكأن الذي حملهم على هذا التأويل هو أن تمام السكن والراحة يقع بالنوم؛ فصرفوه إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) أي: يتعيش فيه، لا أن يكون نفسه معاشا، كما سماه: مبصرا؛ لما يبصر به، لا أنه في نفسه مبصرا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) أي: السماوات، فذكرهم؛ هذا لينبههم على قدرته وسلطانه؛ فعرفوا أنه فعال لما يريد، قادر على ما يشاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) فكان السراج هو الشمس هاهنا، جعلها تتوهج وتتلألأ ما بين السماء والأرض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) منهم من ذكر أن المعصرات هي السحاب التي أنشئ فيها القطر؛ يقال للجارية التي قد دنت حيضتها: معصرة، فشبه السحاب بمعاصر الجواري. وقيل: سمى السحاب: معصرا؛ لأنه يعصر المطر. وقيل: هي ذوات الأعاصير؛ يعني: الرياح، كقوله: (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ)، أي: ريح.

(15)

وعن الحسن: هي السماوات. وقال الزجاج: المعصر: هو الذي قد أتى وقت إرسال القطر منه؛ كما يقال: مجرز لما أتى وقت جرازه. ثم في إنزال الماء من المعصرات تذكير النعم والقدرة والحكمة، وكل وجه من هذه الأوجه الثلاثة يوجب القول بالبعث: فأما وجه تذكير النعم، فهو أن القطر ينزل من السماء متتابعا، ثم اللَّه - تعالى - بلطفه يمنع اتصال بعض ببعض والتصاقه، ويرسل كل قطرة إلى الأرض بحيالها، وينزل بعضها على أثر بعض؛ لينتفع بها، ولو التصق بعضها ببعض واتصل، لم يقم لها شيء؛ فكانت تصير سببا للتعذيب والإهلاك، فبفضله ورحمته أنزلها متتابعة؛ لينتفع بها الخلق، ويتمتعوا بها. وفيه تذكير القوة والحكمة - أيضا - لأنه أنشأ السحاب الثقال، وساقه إلى الموضع الذي قدر أن يرسل القطر هنالك، ومعلوم أن ذلك الإرسال ليس من فعل السحاب؛ لأن السحاب يمتنع عن إرسال القطر حتى ينتهي إلى الموضع الذي أمر بإرسال القطر فيه، ولو كان ذلك للسحاب نفسه، لكان أينما مر يعمل في الإرسال، ولو كان ذا ثقب لكانت الريح متى دخلت في الثقب أرسل السحاب ما أنشئ فيه من القطر، فإذا لم يوجد ذلك بان أن اللَّه - تعالى - بحكمته وقدرته ولطفه هو الذي أنشأ فيه ذلك، ودبر إرساله، لا أن يكون ذلك عمل السحاب، ولو أراد أحد من حكماء الأرض أن يعرف المعنى الذي له صلح ذلك السحاب أن يستمسك فيه القطر، ولا يستمسك في مكان آخر، لم يقف عليه، فذكرهم، ليعلموا أن حكمته ليست على الوجه الذي ينتهي إليه حكم البشر، ولا قدرته مقدرة بقوى البشر؛ بل هو قادر على ما يشاء، فعال لما يريد. وفيه أن تدبير السماء والأرض والهواء يرجع إلى الواحد القهار؛ إذ لا يتهيأ لأحد أن يمنع القطر المرسل من السماء عن الوصول إلى الموضع الذي أمر أن ينتهي إليه. والثجاج: القطر المتتابع بعضه على إثر بعض، والثج: الصب، والإراقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15): جائِز أن يكون ذكر الحب؛ لأن المقصود من زراعة ما يكون له [الحب - الحب]؛

(16)

فذكره؛ لما إليه ينتهى القصد، ويكون ذكر النبات منصرفا إلى ما لا حب له؛ لأن القصد من زراعته النبات لا غير. وجائز أن يكون منصرفا إلى شيء واحد؛ لأن الذي فيه الحب فيه النبات أيضا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) قد ذكرنا أن الجنة هي اسم المكان الملتف بالأشجار، وهي التي اجتمعت فيها الأشجار. * * * قوله تعالى: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا. وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا. وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) الميقات: الميعاد؛ أي: وعد فيها جميع الأولين والآخرين، صالحهم وطالحهم، صغيرهم وكبيرهم. وسمي: يوم الفصل؛ لما يفصل فيه بين الأولياء وبين الأعداء، ويتبين فيه مثوى الفريقين جميعا، واليوم ليس بيوم فصل في الظاهر؛ لأن الدنيا تمر على الفريقين على حالة واحدة، وإن كان قد فصل بينهما بالتوفيق والخذلان. وقيل: يوم الفصل: يوم الحكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ... (18) قد ذكرناه فيما تقدم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا)، قيل: أمة فأمة، تأتى أمة كل رسول بحيالها. وقيل: يقرن كل أحد بشيعته؛ على ما نذكره في قوله - تعالى -: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) منهم من ذكر أنها تفتح لإنزال من شاء اللَّه تعالى من الملائكة، وتنشق وتنفطر؛ لشدة هول القيامة. ومنهم من قال: إن الشق والفتح والانفطار كله واحد، فذكر الفتح؛ لشدة هول ذلك اليوم. وجائز أن يكون الكل يقتضي معنى واحدا؛ لأنه فيما ذكر فيه الانشقاق قد ذكر فيه نزول

(20)

الملائكة بقوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا). وقوله - تعالى -: (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20): جائز أن يكون شبهها بالسراب؛ لما أنها إذا سيرت لم توجد في المكان الذي رآها فيه الناظر كالسراب الذي يرى من بعد إذا رآه الناظر، فأتاه لم يجده شيئا، لا أن تكون الجبال في الحقيقة سرابا؛ لأن السراب هو الذي يتراءى من البعد أنه شيء، ولا شيء في الحقيقة، وأما الجبال وإن سيرت فهي في نفسها شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) منهم من ذكر أنها كانت في علم اللَّه - تعالى - أنها ترصد على من حقت عليه كلمة العذاب فتعذبه، ولا يمكنه الفرار عنها. وقيل: ترصد بشهيقها وزفيرها من استوجب العذاب؛ فتعذبه وتتقرب به إلى ربها بطواعيتها له، وسخطها على من سخط اللَّه عليه. وقيل: معنى المرصاد: أن يكون ممر كل كافر ومؤمن عليها، لكن الكافر يقع فيها، والمؤمن ينجو عنها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) أي: مرجعا، والطاغي هو الذي تعدى حدود اللَّه تعالى، وضيع حقوقه، وكفر بأنعمه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) ذكر الأحقاب، ولم يبين منتهى العدد، ولو كان اللبث فيها يرجع إلى أمد في حق الكفرة، لكان يأتي عليه البيان؛ كما أتى البيان على منتهى يوم القيامة بقوله: [(فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ)]، وقال: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)، فلما لم يبين، ثبت أنه لا يرجع إلى حد، وإلى هذا ذهب الحسن. ومنهم من ذكر أن معناه: أنهم يلبثون ثلاثة أحقاب، والحقب ثمانون سنة، يعذبون بلون من العذاب، ثم يعذبون بلون آخر من العذاب بعد ذلك، لا أن ينقطع عنهم العذاب بعد مضي الأحقاب، والأحقاب هي النهاية في الأوقات، فذكر النهاية في الأوقات، وما يكبر فيها؛ ليعلم أنهم أبدًا فيها؛ كما قال: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)؛ لأنهما هما اللذان عرفا بالدوام؛ فاقتضى ذلك معنى الدوام، فكذلك ذكر ما هو النهاية من الأوقات يعرف أنهم أبدا فيها مقيمون.

(24)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) فذكر بعضهم أن البرد هو النوم. ومنهم من ذكر أن معناه: الروح، والراحة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا) يقطع عنهم الحر، (وَلَا شَرَابًا) يقطع عطشهم، (إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) فالحميم: هو الماء الذي قد انتهى في الحر نهايته، والغساق: الزمهرير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ما ينفصل عن أبدانهم من الصديد والزهومة، وهو الودك؛ فمعناه - واللَّه أعلم -: أن الذي يتطعم به أهل النار لا يعذبهم، ولا يجدون به مستمتعا، بل يصير ذلك سبب إهلاكهم، لا أن يقع لهم بذلك البرد راحة وشفاؤهم؛ كما وصفهم اللَّه - تعالى -: (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى)، فيبقون أبدا في الهلاك لا يقضي عليهم فيستريحوا، ولا ينقطع عنهم العذاب فيتلذذوا بالحياة. وقيل: الغساق: لون من العذاب، لم يطلع اللَّه تعالى عليه عباده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَزَاءً وِفَاقًا (26) أي: وافق جزاؤهم أعمالهم، لا ينقصون، ولا يزدادون على قدر ما استوجبوا، بل يجزون مثل أعمالهم. وجائز أن يكون معناه: أن جزاءهم وافق أعمالهم في الخبث. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27): منهم من ذكر أنهم لا يخافونه. ومنهم من حمله على حقيقة الرجاء، أي: لم يكونوا يرجون الثواب. والوجه فيه: أنهم كانوا قوما لا يؤمنون بالبعث ولا بالجزاء والعذاب حتى يخافوا العقاب، ويرجوا الثواب. فإن حملته على الخوف، فهم لم يخافوه؛ لما لم يؤمنوا به، وكذلك إن حملته على حقيقة الرجاء، فهم لم يكونوا يرجونه؛ لما كذبوا به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) فالكذاب والتكذيب في لغة العرب واحد؛ والآيات: جائز أن يراد بالآيات آيات البعث، ويراد بها آيات الوحدانية، وآيات الرسالة، ونحوها.

(29)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29): جائز أن يكون الإحصاء والكتاب واحدًا. وجائز أن يكون أريد بالإحصاء ما أثبت في الكتاب؛ كقوله تعالى: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا). وقوله: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) الزيادة في العذاب هي دوامه وبقاؤه، لا أن يزادوا على القدر الذي كان أعد لهم من العذاب؛ لأنه أخبر أنهم لا يجزون إلا مثلها، فإذا كان الذي عذبوا قبله جزاء لهم، لم يجز أن يزادوا عليه فثبت أن الزيادة انصرفت على الدوام والبقاء، وبهذا قال أصحابنا في تأويل قوله: (فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، وفي كل ما ذكرت فيه الزيادة -: إنه على الثبات والدوام عليه، لا أنه يزيد وينقص. * * * قوله تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا. وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا)، أي: مفازا عن أنواع العذاب التي ذكرت في الطاغين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) فالحدائق هي الأماكن التي أحاطت الأشجار بأطرافها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْنَابًا) ظاهر، وقد ذكرنا أنهم وعدوا في الآخرة بكل ما يقع لهم الرغبة في الدنيا. ثم الأصل أن هذه السورة نزلت على إثر التساؤل بقوله تعالى: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)، فجائز أن يكون الذي حملهم على السؤال ما اعترض لهم من الشبه، أو خطر ببالهم، فسألوا؛ ليبين لهم، وتزول عنهم الشبه، فذكرهم عظم نعمه وعجائب تدبيره وقوته وسلطانه، ووعد أن من أمعن النظر فيها دلهم ذلك على بعثهم وإزاحة الإشكال عنهم بقوله: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)، وبين مآب من استقام على الصراط المستقيم، وسلك سبيله، وأخبر أن من لم ينعم النظر فيها، ولم يعط النصفة من نفسه

(33)

وضيعها، فمصيره إلى ما ذكر من قوله: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا)،، وسيعلم ذلك بقوله: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)، إن حمل هذا على الوعيد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) قيل: الكاعب: هي التي تكعب ثدياها، وذلك حين تبلغ أن تحيض، وهي ناهد، وهي أشهى ما يكون إلى الرجال. والأتراب المستويات في السن؛ ففي هذا إنباء أنهن يكن أبدا على سن واحد، لا يتغيرن عن تلك الحال، ولا يهرمن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) قيل: ملآنا. وقيل: صافيا. وقيل: متتابعا. فوصفه بالملآن؛ ليعلم أن ذلك الشراب لا ينقص ما داموا يشربون؛ خلافا لما عليه شراب أهل الدنيا. ومن حمله على الصفاء، فمعناه: أنه صاف عن الآفات والمكروه التي تكون في شراب أهل الدنيا من التصديع وإذهاب العقل، وغير ذلك. ومن حمله على التتابع، فمعناه: أن ذلك الشراب لا ينقطع، ولا ينفد ما داموا في شربه، بل يتتابع عليهما، ولا يحدث فيهم حال تمنعهم عن الشرب من السكر وغيره؛ فيمتنعوا عن شربه؛ خلافا لشرب أهل الدنيا. وروي عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: " كنا إذا استحثثنا الساقي في الجاهلية، قلنا: داهق لنا "، أي: تابع لنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) أي: لا يسمعون فيها ما يحق أن يلغى، بل يسمعون فيها كل خير، والذي يحق أن يلغى ما ذكروا من الحلف والباطل والكذب؛ فلا يسمعون شيئا من ذلك كما يسمع من أهلها في الدنيا إذا شربوها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كِذَّابًا) إن قرئ بالتخفيف فهو من الكذب؛ أي: لا يكذبون. وإن قرئ بالتشديد فهو من التكذيب؛ أي: لا يكذب بعضهم بعضا؛ فكان معناه: أن

(36)

ذلك الشراب لا يعمل فيهم هذا العمل؛ حتى يحملهم على الكذب والتكذيب؛ كما يوجد في شراب أهل الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهَا) أي: في الجنة. ثم قوله: (كِذَّابًا) قرأه بعضهم بالتخفيف في الموضعين هاهنا وفي: (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا)، وقرئ بالتشديد في الموضعين، وقرأه بعض القراء بالتشديد في الأول، وبالتخفيف في الثاني. وعن الكسائي أنه قال: بالتخفيف لغة مضر، وبالتشديد لغة يمانية؛ يقولون: كذبه تكذيبا وكذابا، وخربه تخريبا وخرابا، ونحو ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) قوله: (جَزَاءً)، أي: جزاهم، و (عَطَاءً): أعطاهم، و (حِسَابًا): حاسبهم. وقال الحسن: جزاهم بأعمالهم، أي: زادهم على القدر الذي استوجبوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أعطاهم عطاء كثيرا حتى قال كل واحد منهم: حسبي، حسبي. والذي يؤيد هذا التأويل ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه كان يقرأ: [(جزاء من ربك عطاء حَسَنًا)]. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جزاء بأعمالهم التي كتبت الحفظة، وأحصتها عليهم، وأعطى عطاء حسابا؛ أي: كثيرا؛ جزاء لما أخفوا من أعمالهم التي لم يطلع عليها ملائكة، فأعطاهم عطاء بينا ظاهرا يعرفه الناس. وجائز أن يكون الجزاء عطاء من ربه، لا أنه يستوجب الجزاء؛ لما ذكرنا أنه لا أحد من هذا البشر إلا وقد سبقت له من اللَّه - تعالى - نعم، لو أنفذ جميع عمره في أداء شكره منها، لم يصل إلى كنه ما عليه من الشكر؛ إذ من قام بالشكر، ووفق عليه، زيد له - أيضا - في النعم؛ لمكان الشكر، فإذا وصل إلى جزاء عمله في الدنيا، لم يستوجب به المزيد؛ فثبت أن الجزاء في الآخرة بحق الإفضال من اللَّه تعالى والإنعام، لا بحق الاستيجاب؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ. . .) الآية، فسمى الكرامة: إنعاما، وقال في آية أخرى: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)، فجعل ما آتاهم من النعيم فضلا منه؛ فثبت أن الذي جزاهم به عطاء من ربه حساب، أي: كثير.

(37)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ... (37) فالرب: المالك، فذكر أنه مالك السماوات والأرض وما بينهما؛ ليعلموا أنه لم يمتحن أحدا بعبادته لحاجة تقع له، أو لمنفعة تصل إليه، بل هو الغني، وله ما في السماوات وما في الأرض، وأن منفعة ما امتحنوا به من العبادات راجعة إلى أنفسهم إذا وفوا بها، وإذا لم يقوموا بأدائها كان الضرر راجعا إليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الرَّحْمَنِ) بين أنه رحمن؛ ليرغبوا في رحمته، ويتسارعوا إلى مغفرته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) هيبة من اللَّه تعالى، وتعظيما لحقه؛ فلا يملكون من هيبته الخطاب بالشفاعة أو بالخصومة أو بأي شيء كان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ... (38) اختلف في الروح: فمنهم من قال: هو جبريل، عليه السلام. ومنهم من صرفه إلى أرواح المسلمين. ومنهم من ذكر أنهم الحفظة على الملائكة يرون الملائكة ولا تراهم الملائكة. وجائز أن يكون الروح الكتب المنزلة من السماء، كما قال: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ)؛ فتكون الكتب مخاصمة مع من ضيع حقها ونبذها وراء ظهره، وشافعة لمن أدى حقها، وعمل بما فيها. ومنهم من ذكر أن هذا من المكتوم الذي لا يفسر؛ قال اللَّه تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا)، جائز أن يكون هذا منصرفا إلى الشافع؛ أي: الشافع لا يقول فيما يشفع غير الصواب، وما حل به من الرهبة والخوف من هيبة اللَّه تعالى لا يزيله عن التكلم بالحق؛ بل اللَّه تعالى يثبته على الحق، ويجري على لسانه الصواب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: معناه: لا يشفع إلا من قال في الدنيا صوابا، وهو الحق. وقيل: معناه: أنه لا ينال من الشفاعة حظا إلا من قال في الدنيا الصواب،

(39)

والصواب أن يكون مقيما فيما دان به من التوحيد. وذكر علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه مر بعجوز وهي تدعو فتقول: " اللهم اجعلني من أهل شفاعة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " فقال لها: قولي: " اللهم اجعلني من رفقاء مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الجنة؛ فإن شفاعته لأهل الكبائر من أمته ". قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وبهذا الفصل تعارضنا المعتزلةُ، فتقول: إذا قلتم: اللهم اجعل لنا من شفاعة مُحَمَّد نصيبا، فقد قلتم: اللهم اجعلنا ممن يرتكب الكبائر؛ إذ شفاعته في زعمكم لأهل الكبائر. فالجواب عن هذا أن الذي ابتلي بارتكاب الكبائر دون الشرك إنما ينال الشفاعة بما سبق منه من الخيرات من التوحيد وتعظيمه ربه - عَزَّ وَجَلَّ - فمحاسنه التي سبقت منه هي التي تجعله محلا للشفاعة، ولولاها ما نالها، فإذا قال: اللهم اجعل لي من شفاعة نبيك نصيبا، فهو يقول: اللهم وفقني على فعل الخيرات، واجعلني ممن يعظمك ويتقرب إليك بالطاعة حتى أنال بها الشفاعة، لا أن يقصد بدعائه جعله من أهل الكبائر، والذي يدل على صحة ما ذكرنا قوله: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، فأخبر اللَّه تعالى أن تسبيحه ما أنقذه من بطن الحوت، ولو لم يكن مسبحا لم يستوجب الخلاص، وكذلك صاحب الكبيرة يستوجب الشفاعة، ويرجى له الخلاص بما سبق منه من الحسنات دون أن يستوجبها لارتكاب الكبيرة. ثم من قول المعتزلة: أنهم يرون الصغائر مغفورة لأربابها إذا اجتنبوا الكبائر؛ فيقال لهم: إن من دعا اللَّه تعالى، وسأله المغفرة، فكأنه يدعو، فيقول: اللهم ابتلني بالصغائر حتى تغفرها لي، فإن قلتم بأن دعاءه بالمغفرة لا يقتضي ما عارضناكم به، فقولوا كذلك فيمن يقول: " اللهم اجعل لي من شفاعة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نصيبا ": إنه لا يقتضي أن يجعله من أهل الكبائر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ... (39) قيل: معناه: ألا يقال في ذلك اليوم غير الحق. وجائز أن يكون منصرفا إلى اليوم نفسه؛ فيكون معناه: أن كونه حقا يكون لا محالة. وقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا)، أي: مرجعا؛ تأويله: أن اللَّه تعالى بين للخلق

(40)

سبيل الضلال والهدى، ولم يصد أحدا عن سبيل الضلال والهدى، وبين أن من سلك سبيل الضلال فمآبه إلى النار، ومن سلك سبيل الرشد والهدى، فمآبه إلى الجنة، وذلك مآبه إلى اللَّه تعالى، واتخاذ السبيل إليه تعالى. وقوله: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا ... (40) أي: العذاب الذي أوعدهم به قريب مأتاه، وإن استبعدتموه في أوهامكم؛ قال اللَّه - تعالى -: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)، فجائز أن يكون هذا منصرفا إلى الخلائق أجمع مؤمنهم وكافرهم. ثم تخصيص الأيدي بالذكر هو أن التقديم والتأخير في الشاهد يقع بالأيدي؛ فأضيف إليها، وإن احتمل ألا يكون للأيدي صنع فيما ارتكب من الآثام، أو فيما فعل من الخيرات، وهو كالمطر يسمى: رحمة اللَّه، وإن لم يكن ذلك من أوصافه؛ لأنه برحمة اللَّه ما ينزل من السماء، وسمي الكلام: لسانا وإن لم يكن هو لسانا؛ لأنه باللسان ما يتكلم؛ فكذلك التقديم أضيف إلى الأيدي؛ لما بها يقع التقديم في الشاهد وإن لم يكن للأيدي صنع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)، ذكر هذا التمني في الكافر دون المؤمن؛ لأن المؤمن يرى حسناته متقبلة وسيئاته مغفورة؛ فيأمن من عقاب اللَّه تعالى، والكافر يرى نفسه مؤاخذة بالسيئات، ولا يرى لها حسنات متقبلة؛ فيتمنى أن يكون ترابا؛ ليتخلص عن عذاب اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الوحوش تحشر والطيور كلها، ثم يقول اللَّه - تعالى -: " كوني ترابا "؛ فيتمنى الكافر في ذلك الوقت أن يكون ترابا، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة النازعات

سُورَةُ النَّازِعَاتِ، وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا. وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا. فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا. فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا)، اختلف في تأويله: فمنهم من حمل ذلك كله على الملائكة، فقال. (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) هم الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفرة، ويغرقون إغراقا؛ أي: يشددون في النزع كما يغرق النازع في القوس، أو يشتد عليه شدة الأمر على الغريق، أو تنزع أرواح الكفرة فتغرق في النار. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) قيل: أي: ينشط أرواح الكفرة نشطا عنيفا، أي: تنزع ملائكة العذاب أرواح الكفرة من أجوافهم نزعا شديدا. وقيل: هذا في حق المؤمنين أن الملائكة تنشط أرواح المؤمنين؛ أي: تحلها حلا رقيقا، كما ينشط من العقال؛ فيخبر بهذا عن خفة ذلك على المؤمنين، ويخبر بالأول عن شدته على الكافر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) قيل: إن الملائكة يسلون أرواح الصالحين سلا رقيقا. وقيل: الملائكة يسبحود بين السماء والأرض. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) أي: تسبق الملائكة إلى أرواح المؤمنين. وقيل: (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) الملائكة الذين يسبقون بالوحي إلى الأنبياء، عليهم السلام. وقيل: هم الكَرُوبِيُّون، الذين لا يفترون عن تسبيح رب العالمين.

(5)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) هم الملائكة الموكلون بأمور الخلائق وأرزاقهم. ومنهم: من صرف تأويل الآيات إلى النجوم: أنهن النجوم اللاتي يطلعن من مطالعهن لحوائج الخلق، ولأمور جعلت لها، ويغربن في مغاربهن، ثم ينشطن إلى مطالعهن، فيطلعن منها؛ أي: لا يطلعن كرها؛ بل ناشطات لأمر اللَّه - تعالى - إلى ما سخرن له. (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا): النجوم أيضا، وسبحهن: دورانهن في الأفق لأمور، خفي ذلك على الخلق؛ لقوله: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). وقوله: (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) أي: يسبق بعضها بعضا، أو تسبقن الشياطين بالرجم والطرد، لا تدعهن يقربون إلى السماء، وبه قال الحسن، واللَّه أعلم. ومنهم: من صرف تأويل الآيات إلى مختلف الأشياء، فقال: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) هي القسي ينزعها الإنسان، فيغرق في نزعها، (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) هي الأَوْهاق تنشط بها الدابة تكون منه في جهة. (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا): هن السفن. (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا): هن الخيل. (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا): هي الملائكة، وبه قال عطاء. ومنهم: من صرفها إلى أنفس المؤمنين وأرواحهم، فقال: (وَالنَّازِعَاتِ): هي الأنفس التي تغرق في الصدر، (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) حين تنشط من القدمين. وقيل: إن أنفس المؤمنين ينشطن إلى الخروج عن الأبدان إذا عاينوا ما أعد لهم في الجنة. (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا): هي أرواح المؤمنين، سميت: سابحات؛ لسهولة الأمر عليها، كما يسهل الخروج من الماء لمن يعلم السباحة. وقوله: (فَالسَّابِقَاتِ) - أيضا -: هي أرواح المؤمنين، سميت: سابقات؛ لما تكاد تسبق

(6)

فتخرج قبل وقتها؛ لما تعاين من كرامات اللَّه تعالى وما ينتشر من الخير؛ يؤيد هذا ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر ". وقيل: ذلك عند موتة المؤمن إذا حضره الموت صار في ذلك الوقت كالمسجون الذي يتمنى الراحة والخلاص منه؛ لأنه يرى ما أعد له من الثواب؛ فتتهوع نفسه تود لو خرجت حتى تصل إلى ما أعد لها من الكرامة، والكافر إذا رأى عندما حُضِرَ جعل يبتلع نفسه؛ كراهة أن يخرج، فتصير الدنيا في ذلك الوقت كالجنة له فيما لا يحب مفارقتها من شدة ما يرى من عذاب اللَّه تعالى. وعلى هذا قيل في تأويل قوله - عليه السلام -: " من أحب لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه، ومن كره لقاء اللَّه كره اللَّه لقاءه ": إن ذلك عند الموت أن المؤمن إذا حضره الموت ورأى ثوابه من الجنة، ود أن تخرج نفسه؛ فيحب لقاء اللَّه تعالى، ويحب الله لقاءه، والكافر يكره في ذلك الوقت أن تخرج نفسه، فذلك حين كره لقاء اللَّه، وكره الله لقاءه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا)، قالوا جميعا: المراد منها الملائكة الموكلون بأمور الخلق وأرزاقهم، ونحو ذلك، واللَّه أعلم. ثم اختلف في الذي قصد إليه باليمين والقسم: فمنهم من ذكر أن الذي وقع عليه القسم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) على معنى: إنكم مبعوثون، وأن القيامة حق، فكأنه أقسم بهذه الأشياء أنهم لمبعوثون، وأضمر الجواب هاهنا؛ لما دل عليه المعنى؛ فاكتفى به. ومنهم من ذكر أن القصد من اليمين قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (6)، فأقسم بما ذكر أن النفختين كائنتان: فالنفخة الأولى يموت بها الخلق، والنفخة الثانية؛ لإحياء الأموات، والراجفة هي النفخة، فجائز أن يكون على حقيقة النفخة؛ فتكون النفخة علامة الموت والحياة، لا أن تكون علة الإماتة والإحياء.

(9)

ثم اختلفوا بعد هذا: فمنهم: من يحمله على التحقيق؛ فيزعم أن النفخة الأولى يهلك بها الخلق، والنفخة الثانية يحيا بها الخلق. ومنهم من ذكر أن النفخات ثلاث: فالنفخة الأولى؛ للتفزيع والتهويل؛ قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ. . .) الآية، والنفخة الثانية يهلك بها الخلق بقوله: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، والنفخة الثالثة يحيا بها الخلق بقوله: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ). ومنهم من ذكر أن هذا ليس على تحقيق النفخ؛ بل على التمثيل، فمثل به إما لخفة البعث والإحياء على اللَّه - تعالى - وسهولته كخفة النفخ على النافخ. أو مثل به؛ لسرعته؛ كما قال تعالى: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ). وقالوا: الرجفة: هي الزلزلة، والتحرك، (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) وهي الزلزلة الأخرى. ثم إن كان القسم على إثبات البعث، ففيها ذكر إشارة إلى أحوال البعث وأفعالها، وإن كان موجفة، على قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) فكأنهم سألوا: كيف تكون القلوب في ذلك اليوم؟ فقال: تكون واجفة، والواجفة: الخائفة الوجلة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) أي: ذليلة. ووجه تخصيص الأبصار والقلوب - واللَّه أعلم -: هو أنه لا يتهيأ لأحد استعمال قلبه وبصره، بل يحدث للقلوب فِكَرٌ وبدوات لا يمكنه أن يدفع عنها الفكر، وكذلك هذا في البصر؛ فيخبر أن ما نزل بهم من الخوف والهيبة يمنع القلوب والأبصار عن عملها؛ فلا تنظر إلا إلى الداعي، ولا يحدث للقلوب فكر، بل تكون الأفئدة هواء، لا تقر؛ لشدة ما حل بها من الخوف؛ إذ المرء إذا أحزنه أمر فهو يعمل أنواعا من الحيل ويوقع

(10)

بصره على شيء فشيء؛ رجاء أن يستدرك ما فيه خلاصه وسلامته من ذلك الأمر، ثم ينقطع عنهم التدبير في ذلك اليوم؛ فتكون القلوب هواء لا تقر في موضع، ولا تقف على تدبير؛ لشدة ما حل بهم، وتكون الأبصار خاشعة ذليلة إلى ما يدعو الداعي. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أي: يقولون: أئنا لنرد إلى ما كنا عليه في الدنيا في ابتداء الأمر خلقا جديدا؛ يقال: أتى فلان فلانا، فرجع على حافرته؛ يقول: على مجيئه الأول. ويقال: النقد عند الحافرة؛ أي: عند أول البيع والكلام، فقالوا هذا على جهة الإنكار بالبعث والاستهزاء به. قال أبو بكر: هذا مأخوذ من حافر الدابة، وهو أن الفارس يمكنه أن يصرفها بحافرتها إلى الموضع الذي ابتدأ السير منه من وراء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) و (ناخرة)؛ فالناخرة: هي البالية التي لم تفتت بعد، والنخرة هي التي صارت رفاتا ودرست حتى تنسفها الريح. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) قال الحسن وأبو بكر: هذا منهم تكذيب البعث؛ أي: لا يكون أبدا. وقال غيرهما: معناه: أن لو كانت كرة كما يزعمها المسلمون فهي كرة خاسرة على المسلمين؛ لأنهم ظنوا أنهم إذا كانوا في الدنيا أنعم حالا وأرغد عيشا، وكان المسلمون في ضيق من العيش وشدة من الحال - أن يكونوا كذلك في الآخرة؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)، فكانوا يظنون أنهم بما أنعم اللَّه - تعالى - عليهم إنما أنعم؛ لأنهم أقرب منزلة، وأعظم درجة من المؤمنين؛ إذ لا يجوز أن يضيق على أوليائه، ويوسع على أعدائه، فإذا وسع عليهم ظنوا أنهم هم المفضلون في الدنيا والآخرة، وأن من خالفهم هم الأخسرون. ومنهم من قطع هذا الكلام عن مقالة الكفرة، وزعم أن هذا الوصف راجع إلى الكفرة، فقيل: خاسرة؛ لما خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم، وخاسرة، أي: مخسرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) ففيه إخبار عن سرعة كون ذلك الوقت وسهولته على اللَّه تعالى.

(14)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) قيل: الساهرة: هي وجه الأرض. وجائز أن يكون أريد بهذا أن العيون تسهر في ذلك اليوم، ولا يعتريها النوم؛ بل تكون مهطعة إلى الداعي ذليلة. * * * قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى. اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى): منهم من يقول: قد أتاك فخوفهم به. وقال الحسن: لم يكن أتاه، فأتاه بهذا؛ كما يقول الرجل لآخر: هل أتاك ما فعل فلان؟ وهو يريد أن يذكره بهذا فيعلمه مع علمه أنه لم يكن علمه من قبل. وقد ذكرنا ما في ذكر الأنباء من الفوائد من تثبيت الرسالة والتخويف لمن أساء صحبة الرسل - عليهم السلام - لئلا ينزل بهم ما نزل بفرعون وأتباعه حين أساءوا صحبة الرسول موسى، عليه السلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) قيل: طوى: اسم ذلك الوادي. وقيل: سمي: طوى؛ لأنه بورك مرتين، مرة حين أتاه إبراهيم عليه السلام، ومرة بإتيان موسى عليه السلام. وذكر عن الزجاج أن (طِوى) بكسر الطاء الذي بورك مرتين، ثم أضاف ذلك الحديث مرة إلى موسى ومرة إلى نفسه إذ ناداه؛ فظاهره: أن اللَّه - تعالى - هو الذي كلمه، فأضيف إلى اللَّه تعالى؛ لأن أصله من اللَّه - تعالى - كما ذكرنا في قوله - تعالى -: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، وفي قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) أي: عتا وطغى في نعمه، فاستعملها في كفران نعمه؛ فلم يشكر اللَّه - تعالى - بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) أي: هل لك في إجابة من إذا أجبت

(19)

تزكيت، أو هل لك رغبة إلى ما تزكو به نفسك وتنمو. ثم في هذه الآية دلالة أن من أراد أن يدعو آخر إلى ما فيه رشده وصلاحه، فالواجب عليه أن يدعوه أولا بالرفق واللين؛ كما أمر موسى وهارون - عليهما السلام - بقوله: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا)، وبقوله: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) وإذا ترك الإجابة ختم كلامه بالتعنيف؛ كما فعل موسى - عليه السلام - بقوله: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)، بعد قوله: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) أي: أهديك إلى ربك فتهتدي، ثم تخشاه إذا اهتديت؛ أي: عرفت عظمته وجلاله؛ فتخشى عقوبته؛ فيكون العلم مثمرا للخشية؛ ألا ترى إلى قوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). أو أهديك إلى طاعة ربك، وأنذرك عقابه إذا عصيته؛ فتخشى؛ فلا تعصيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) منهم من ذكر أن الآية الكبرى هي اليد سميت: كبرى؛ لأن سحرهم عمل في الحبال والعصي، ولم يعمل في اليد؛ فكانت هذه الآية خارجة عن نوع سحرهم، فسميت: كبرى؛ لهذا المعنى. ومنهم من ذكر أن الآية الكبرى هي العصا؛ لأن غلبة موسى - عليه السلام - على السحرة كانت بالعصا، حيث تلقفت ما أتوا به من السحر، ولكن كل آياته كانت كبرى، كما قال في آية أخرى: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا)، فكانت إحداهما أكبر من الأخرى عند ذوي الأحلام والنهي لمن تأمل فيها وتدبر، والله الموفق. وقوله: (فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) أي: كذب بآيات اللَّه، وعصى نبيه موسى؛ فلم يطعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) قال الحسن: كان خفيفا طيَّاشًا، وإلا فالملوك إذا دعوا إلى أمر تدبروا فيه وتفكروا: إما ليجيبوا الداعي إلى ما دعاهم، أو ليردوا عليه، فأما الإدبار والسعي فليس إلا من الخفة والطيش. وقال غيره: أدبر عن طاعة اللَّه - تعالى - وتولى عنه، وسعى في جمع السحرة. أو سعى في جمع من قال لموسى - عليه السلام -: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا

(23)

نُخْلِفُهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) ذلك اللعين قد علم أنه ليس برب السماء والأرض، ولكن قد اتخذ لقومه أصناما فأمر العوام منهم أن يعبدوها؛ ليقربهم ذلك إليه، لكن إذا صاروا من خاصته أذن لهم بأن يعبدوه، وأمر الخواص منهم بعبادته، فسمى نفسه: أعلى الأرباب؛ لهذا. وقوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) منهم من يقول: أخذه بعقوبة الكلمتين جميعا: الكلمة الأولى: قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، والكلمة الثانية: قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى). ومنهم من يقول: أخذه بعقوبة ما تقدم من الإجرام وما تأخر إلى أن غرق. ومنهم من يقول: أخذه بالعقوبة في الدنيا والآخرة، فغرقه في الدنيا، وعذب روحه بعد مماته بقوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، ويدخل في النار مع أتباعه بقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)؛ فاتصلت عقوبة الدنيا بعقوبة الآخرة. وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26): وفي ذلك كله عبرة، لكن الذي يعتبر بها من يخشى العواقب، ويخاف عقوبة اللَّه تعالى. وقوله: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) : جائز أن يكون هذا صلة قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ)؛ فيكون في قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ). وفي قوله: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا) تقرير له أيضا. ثم قوله: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ) يحتمل أوجها: أحدها: أن إعادتهم خلقا جديدا وبعثهم أيسر في عقول منكري البعث من خلق السماوات، وقد أقروا أنه خالق السماء، فإذا لم يتعذر عليه خلق السماء، وإن كان خلقها أشد في عقولهم من خلق أمثالهم، فما بالهم ينكرون بعثهم وإعادتهم إلى ما كانوا عليه،

(28)

وذلك أهون في عقولهم. ويحتمل وجها آخر: وهو أن السماء مع شدة خلقها أشفقت على نفسها، فأبت قبول ما عرض عليها من الأمانة، وخافت نقمة اللَّه - تعالى - فما بال هذا الإنسان مع ضعفه يمتنع عن الإجابة إلى ما دعي إليه؛ أفلا يشفق على نفسه، ولا يخاف نقمة اللَّه تعالى، وما خلقت النار والجنة إلا لأجل الإنس، فيذكرهم بهذا؛ ليخوفهم ويرتدعوا عما هم فيه من الطغيان ويجيبوا إلى ما دعاهم إليه الرسول. وجائز أن يكون هذا صلة قوله: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)، و (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، فيخبر أن السماء مع شدتها وطواعيتها لا تقوم بذلك اليوم؛ فكيف يقوم الإنسان لهول ذلك اليوم مع ضعفه؟! فيرجع هذا - أيضا - إلى التخويف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) (بَنَاهَا): أي: خلقها، (رَفَعَ سَمْكَهَا (28): سقفها، (فَسَوَّاهَا) بالأرض، أو سواها على ما توجبه الحكمة ويدل على الوحدانية. قال إمام الهدى أبو منصور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثم لم يفهم أحد من قوله: (بَنَاهَا) ما يفهم من البناء المضاف إلى الخلق، ولا فهم من الرفع ما يفهم من الرفع المضاف إليهم، ولا فهم من قوله: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) ما يفهم من البسط المعروف المنسوب إلى الخلق، فما بال بعض الناس فهموا من المجيء الذي أضيف إلى اللَّه تعالى ما فهموا من المجيء الذي يضاف إلى الخلق، فلولا آفة حلت بهم حملتهم على أن يفهموا منه المعنى المكروه، وإلا لم تنصرف أوهامهم إلى مثل ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) قيل: أظلم ليلها، (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا): ففي؛ إظلام الليل، وإخراج الضحى ما ينفي عن منكري البعث الشبه التي تعترض لهم، وذلك أنه يغطش في ساعة لطيفة ويغشى ظلمتها كل شيء، ثم يتلفها في أدنى وهلة، ويفنيها

(30)

كأنها لم تكن، ثم يعيدها بعدما أتلفها حتى لو أراد أحد أن يميز بين الأولى والثانية لم يقدر عليه، بل وقع عنده أن الأولى هي الثانية، والثانية هي الأولى، وهذا بعدما تلفت الظلمة الأولى، وذهبت كلها حتى لم يبق منها أثر؛ فلأن يكون قادرا على إعادتهم خلقا جديدا بعدما أفناهم، وقد بقي من آثار الخلق الأول بعضه - أولى. ثم أضاف ذلك إلى السماء؛ لأن بدأهما يظهر من عندها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) قالوا: بسطها: فمنهم من يقول: خلقها مجتمعة، ثم بسطها بعدما خلق السماوات؛ ألا ترى أنه قال: (دَحَاهَا)، ولم يقل: خلقها. ومنهم من ذكر أنه خلق سماء الدنيا أولًا، ثم خلق الأرضين بعد ذلك، ثم خلق السماوات الست من بعد. ومنهم من ذكر أنها كانت قبل أن تبسط تحت بيت المقدس، ثم بسطها بعد ذلك. قال أبو بكر: هذا لا يحتمل؛ لأنه لا يجوز أن تكون بجملتها وسعتها تحت بيت المقدس، واللَّه أعلم. ولكن معناه عندنا -إن كان على ما قالوا- فهو منصرف إلى الجوهر؛ أي: الجوهر الذي خلق منه الأرض كان هنالك، لا أن كانت بجملتها تحته؛ كما خلق هذا الإنسان من النطفة وإن لم يكن بكليته في النطفة، وخلق من التراب وإن لم يكن بكليته على ما هو عليه في التراب، وكان معناه: أنه خلق من ذلك الجوهر؛ فعلى ذلك الحكم فيما ذكره. ومنهم من زعم أن خلقهما كان معا. وذكر عن الحسن أن الأرضين خلقت قبل السماء بقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ. . .)، وقال في موضع آخر: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)، وقال: اسم السماء ما ارتفع من الشيء كما يقال للسقف: سماء؛ لارتفاعه عن الإنسان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) ذكر ما أنشأه لنا؛ لنحمده، وما أخرج منها للأنعام لتذكير النعم - أيضا - لنشكره ونحمده عليه؛ إذ الدواب خلقت لنا، فما رجع إلى منافعها فهي راجعة إلينا، إذ بها ما نصل إلى الانتفاع بالدواب.

(32)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) أثبتها؛ لئلا تميد بأهلها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فيه أن ما جعله متاعا لنا قد جعل شيئا من ذلك للدواب أيضا، والذي جعله للأنعام، لم يجعل لنا فيه شركاء؛ وذلك لأن الذي أنشأه لمتاع البشر منه ما يستخبث ويستقذر، ومنه ما يستطاب ويدخر، فجعل ما طاب منه للبشر، وما خبث منه لمنافع الدواب، والذي أنشأه لمنافع الدواب مما تستخبثه الطباع وتستقذره، فَفَضَّل أغذية مَنْ فَضَّلَ منازلهم، ففيما ذكرنا دلالة إباحة التناول من الطيبات؛ إذ اللَّه تعالى مَنَّ على عباده أن جعل أغذيتهم بما طاب من الأشياء، وفضلهم على الأنعام، فمن كره ذلك فقد كره الانتفاع بما أنشئ للانتفاع، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) قال: الطامة: هي الصيحة، سميت: طامة؛ لأنها تطم الأشياء وتعمها، وسميت: كبرى؛ لأنها إن طمت بالعذاب فهو يدوم ولا ينقطع، وإن أحاطت بالثواب والكرامة فهو يدوم ولا ينقطع؛ فسميت: كبرى؛ لدوامها. وقوله - تعالى -: (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) ما عمل، وتذكره يكون بوجهين: أحدهما: بقراءته كتابه؛ كقوله تعالى: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)، والتذكر الثاني يكون بالجزاء. فالتذكر الأول يكون باللطف من اللَّه تعالى، وإلا فالمرء قد يكتب أشياء، ثم ينساها إذا طالت المدة، ولا يتذكر بالقراءة، ففيما لم يتول كتابته أحق ألا يتذكر، لكن اللَّه - تعالى - بلطفه يذكره بالقراءة؛ فيعرف به صدق ما كتبته الملائكة، ويعرف أنه إذا عوقب، عوقب جزاء ما كسبته يداه، ويكون الجزاء أبلغ في التذكير؛ فيتذكر في ذلك الوقت، أيضا.

(36)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) وقرئ (لمن ترى) فتضيف الرؤية إلى الجحيم؛ كقوله: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِمَن يَرَى) جائز أن تكون الرؤية كناية عن الحضور والدخول؛ فيكون قوله: (لِمَن يَرَى) أي: لمن يدخلها ويحضرها، وهو كقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، ومعناه: أن رحمة اللَّه للمحسنين، وقال تعالى: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، وأريد بالقرب: التناول؛ فكنى عنه بالقرب؛ فجائز أن تكون الرؤية هاهنا كناية عن الدخول والحضور؛ فيكون فيه إخبار عن إحاطة العذاب بجميع أبدانهم. وجائز أن يكون أهل الرؤية هم أهل الجنة، فيرونها مشاهدة؛ فيتلذذون بذلك لما نجوا وفازوا بالنعيم، كما تألموا بذكرها عندما كانت غائبة لا يرونها؛ قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، وقالوا: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا. . .) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) أي: عصى، وتمرد. أو طغى بأنعم اللَّه - تعالى - فاستعملها في معاصيه، أو جاوز حدود اللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) جائز أن يكون إيثاره أن يبتغي بمحاسنه الحياة الدنيا حتى أنساه ذلك عن الآخرة، وإذا ابتغى بها الحياة الدنيا، لم يبق له في الآخرة نصيب؛ لأنه قد وفي له عمله؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) أي: يأوي إليها. وقوله - تعالى -: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ... (40): جائز أن يكون أريد بالمقام حساب ربه أو مقامه عند ربه، فأضيف إلى اللَّه تعالى؛ لأن البعث مضاف إليه، فكل أحواله أضيف إليه أيضا. وجائز أن يكون الخوف راجعا إلى الحالة التي هو فيها؛ فيخاف أن يكون مقامه في موضعٍ نَهَى اللَّه تعالى عن المقام فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)، ليس هذا نهيَ قول، وإنما نهيه إياها أن يكفها عن شهواتها ولذاتها، وكفها أن يشعرها عذاب الآخرة، ويخوفها آلامها وعقابها، فإذا فعل ذلك سهل عليها ترك الشهوات الحاضرة، وسهل عليها العمل للآخرة، والناس في نهي النفس عن هواها على ضربين:

(42)

فمنهم من يقهرها فلا يعطيها شهواتها، فهو أبدا في جهد وعناء. ومنهم من يذكرها العواقب ويريها ما أعد لأهل الطاعة، ويعلمها ما يحل بالظلمة؛ فيصير ذلك لها كالعيان؛ فتختار لَذَّات الآخرة على لذات الدنيا؛ إذ ذلك أدوم وألذ، ويسهل عليه العمل للآخرة، والهوى هو ميل النفس إلى شهواتها ولذتها؛ ففيه أن الأنفس جبلت على حب الشهوات والميل إليها، ولا تنتهي عن ذلك إلا بما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42): هي القيامة، سميت: ساعة؛ لما يخف أمرها على من إليه تدبيرها. أو سميت: ساعة؛ لسرعة كونها إذا أتى وقتها. أو سميت: لقربها إلى الحالة التي كانوا عليها؛ كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ). ثم إن كان هذا السؤال من المؤمنين فهو سؤال استهداء، كأنه لما قيل لهم: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)، و (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، قالوا: متى تكون الساعة؟ فنزلت هذه الآية. وجائز أن يكون السؤال من الكفرة؛ لما ذكرنا أنه ليس في تبيين وقتها كثير منفعة حتى تقع الحاجة للمسلمين إلى تبيينه بالسؤال؛ فيسألونه سؤال استهزاء واستخفاف برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويسألونه استعجالها بقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا)؛ فكانوا يسألونه عن شيء يعلمون أنهم متعنتون في السؤال؛ قصدا منهم للتمويه والتلبيس على الضعفة والأتباع؛ لأنهم كانوا يعلمون أن ذلك الوقت ليس هو وقت مجيء الساعة، فإذا طلبوا الاستعجال علموا أنه لا يتهيأ له أن يريهم في ذلك الوقت؛ إذ ذلك يخرج مخرج خلاف الوعيد؛ فيحتجون على الضعفة أنه لو كان صادقا في مقالته: إن الساعة تكون، لكانوا متى طلبوا مجيئها، يأتيهم بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) أي: لست أنت من علمها في شيء. هذا إن ثبت أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يطلع عليها أو لست أنت من أخبارها في شيء؛ إذا لم يثبت، ولم يعلم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يطلع عليها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) أي: منتهى علمها؛ فيكون هذا نهيًا للسائلين

(45)

عن العود إلى السؤال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان منذرا للعالمين جملة بقوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، لكنه ينتفع بإنذاره من يخشى الإنذار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) قال أهل التأويل في هذه الآية: إنهم إذا رأوا الساعة، استقصروا هذه الأيام، وقلت الدنيا في قلوبهم حين عاينوا الآخرة. وجائز أن يكون تأويله: أنهم لو أرادوا الساعة للحالة التي هم فيها، لم يلبثوا فيها إلا عشية أو ضحاها، فلا يقع ذلك موقع التهويل والتخويف، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. * * *

سورة عبس

سُورَةُ عَبَسَ، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) ذكر الحسن أن تعبس الوجه والتولي كانا بنفس المجيء على ظاهر الآية؛ فإنه ذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان عنده من عظماء المشركين قوم يعظهم ويدعوهم إلى الإسلام، فلما جاءه ابن أم مكتوم يسأله، أعرض عنه؛ لمكان أُولَئِكَ القوم، وعبس وجهه؛ رجاء إسلامهم. وذكر غيره من أهل التفسير: أنه عبس وتولى؛ لما سأله ابن أم مكتوم عما فيه رشده وهداه؛ فعبس وجهه بقطعه الحديث عليه. ثم هذا التعبس منه - عليه الصلاة والسلام - كان في أمر لو التأم، ثم وزن ذلك بخيرات أهل الأرض، لرجح على خيراتهم ومحاسنهم؛ لأنه ذكر أنه كان مقبلا على رؤساء الكفرة يعظهم ويحرضهم على الإسلام؛ رجاء أن يسلموا؛ فيكون في إسلامهم رجاء إسلام كثير من القوم؛ لأنهم كانوا من علية القوم وعظمائهم؛ فكان في إسلامهم رجاء إسلام من يتبعهم من قومهم؛ فيستوجب بإسلامهم من جزيل الثواب وعظم المنزلة ما لا يبلغه آخر بجميع محاسنه؛ فكان في سؤاله إياه منع ما قصد إليه من إحراز جزيل الثواب وكريم الخصال، وإذا كان هكذا فتعبس الوجه في مثل هذا الحال أمر سهل لا يستبعد، ولا يستنكر. والثاني: أن تعبس الوجه على الأعمى، والإعراض عنه لا يظهر للأعمى؛ لأنه لا يراه؛ فلا يعده جفاء، وكان في إقباله على أُولَئِكَ القوم وحسن صحبته إياهم رجاء الإسلام منهم؛ إذ إقباله وحسن صحبته يظهر لهم، وفي الإعراض عنهما ذهاب ذلك الرجاء وإبداء الجفاء منه إياهم، ومن آثر الوجه الذي فيه اتقاء الجفاء والدعاء من الشرك إلى الهدى

وصلاح الدِّين والدنيا، فهو محمود عند ذوي الأحلام والنهي. ولأن إقباله على القوم إذ كان؛ لمكان دعائهم إلى الإسلام، وقد أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإسلام، وإن كان في دعائهم إتلاف أنفسنا وأموالنا، فلأن يسوغ الدعاء من وجه ليس فيه إلا تعبيس الوجه على واحد من المسلمين - أولى، ولكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وجد منه هذا النوع من الإيثار؛ اجتهادا ورأيا، والأنبياء - عليهم السلام - قد جاءهم العتاب من اللَّه - تعالى - بتعاطيهم أمورا لم يسبق من اللَّه - تعالى - لهم الإذن في ذلك، وإن كان الذي تعاطوه من الأمور أمورا محمودة في تدبير الخلق؛ نحو ما عوتب يونس - عليه السلام - وعوقب بمفارقة قومه بغير إذن، وإن كان مثل تلك المفارقة لو وجدت من واحد من أهل الأرض، استوجب بها الحمد، وحسن الثناء؛ لأن تلك المفارقة لا تخلو من أحد أمور ثلاثة: أحدها: أن قومه كانوا أهل كفر، وكانوا له أعداء في الدِّين، ففارقهم؛ لينجو منهم، ويسلم له دينه، ومثل هذا لو وجد من غير الأنبياء - عليهم السلام - عد ذلك من أفضل شمائله. والثاني: أن في مفارقته من بين أظهرهم تخويفا لهم وتهويلاً؛ لأن القوم من قبل كان لا يفارقهم نبيهم من بين أظهرهم إلا وقتما يريد أن ينزل بهم العذاب؛ فكان في مفارقته إياهم تخويفهم وتهويلهم، فيدعوهم ذلك إلى الانقلاع عما هم عليه من الضلال، والفزع إلى اللَّه - تعالى - ومن خوف آخر بأمر يكون فيه دعاؤه إلى الهدى وردعه عن الضلال، فقد أبلغ في النصيحة، واستقام على الطريقة. والثالث: أنه يفارقهم؛ ليستنصر بغيرهم فينصرونه عليهم، ويتقوى بهم؛ ليكون على دعائهم إلى الإسلام أمكن وأقدر، ومن كانت مفارقته من قومه على هذه النية، فلنعم المفارق هو، ثم عوتب مع هذا كله، وذكر اللَّه - تعالى - في الكتاب قصته للوجه الذي ذكرنا؛ فكذلك الوجه في معاتبة نبينا مُحَمَّد - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات. ومنهم من ذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يقصد إلى تعبس الوجه على ابن أم مكتوم، ولا تولى

عنه عمدا لذلك، لكن لما قطع عليه حديثه، وكان فيه قطع رجاء إسلام أُولَئِكَ القوم، شق ذلك عليه، واعتراه من ذلك هم شديد، أثر ذلك في وجهه، لا أن كان منه ذلك على القصد. ووجه آخر: أن يقال: إن اللَّه - تعالى - جعل في قلبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الشفقة والرحمة على العالمين حتى بلغ من شفقته أن كادت نفسه تذهب على من أعرض عن دين اللَّه - تعالى - والإيمان به حسرات عليه، وحتى قيل له: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وقال: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)، وقال: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ). وتأويله: ألا تحزن بمكانهم كل هذا الحزن؛ فيكون فيه تخفيف الأمر عليه، لا أن يكون فيه نهي عن الحزن وعن الحسرة؛ ولذلك قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)، ومعناه - واللَّه أعلم -: ألا تحمل نفسك كل هذا التحميل حتى تمتنع عن الانتفاع بما أحل اللَّه لك الانتفاع به؛ طلبا لمرضاتهن، لا أن ينهاه عن ابتغاء مرضاتهن؛ بل قد ندب إلى ابتغاء مرضاتهن بقوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) الآية، فجائز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اشتد عليه إعراض أُولَئِكَ القوم عن الإيمان، وكبر ذلك عليه حتى تغير لون وجهه؛ فظهرت عبوسة وجهه؛ فنزل قوله - تعالى -: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) يبين شدة ما اعتراه من الهم حتى أثر ذلك في وجهه، لا أن يكون فيه مذمة ومنقصة له. ثم في هذه الآية فوائد أخر: إحداها: جواز العمل بالاجتهاد؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فعل هذا النوع من العمل اجتهادا، لا نصا؛ إذ لو كان الإذن بالتولي والتعبس سائغا، لم يكن يعاتب بفعل قد أمر به. فَإِنْ قِيلَ: كيف لا تدل المعاتبة على النهي عن إقدامه على مثله؛ فيحرم عليه الاجتهاد؟ قيل له: لو كان هذا نهيا، لم يكن يعود إلى العمل بالاجتهاد بعد ذلك، وقد وجد منه - عليه السلام - العود؛ لقوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)، وبقوله:

(3)

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)، فثبت أنه ليس فيه نهي. وفيه أن الكافر وإن كان مبجلا معظما في قومه، فليس على المؤمنين أن يعظموه ويبجلوه، بل يسترذل ويستخف به، وأن المسلم ينبغي أن يعظم ويكرم، وإن كان حقيرا في أعين الخلق. وفيه آية رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ودلالة نبوته، وأنه لم يختلق هذا الكتاب من عند نفسه؛ لأن من يتعاطى فعلا حقه الستر، فهو يستره على نفسه، ولا يهتك عليها الستر؛ لئلا يذم عليه، فلو لم يكن مأمورًا بتبليغ الرسالة لكان يجتهد في الستر على نفسه، ولا يبديه للخلائق، ولكنه كان رسولا لم يجد من تبليغه إلى الخلق بدًّا، فبلغه كما أمر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) " لعل " من اللَّه - تعالى - وأجب. وقوله: (يَزَّكَّى)، أي: يتزكى بعمله ونيته وقوله. وفي هذه الآية قضاء بإبطال قول من زعم أن جميع ما في القرآن: (وَمَا يُدْرِيكَ) فهو مما لم يدره؛ يروى ذلك عن سفيان بن عيينة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره؛ لأنه قد أدراه هاهنا بقوله: (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) و " لعل " من اللَّه تعالى واجب، وإذا جعلته واجبا فقد زكاه، وإذا زكاه فقد علمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون يتذكر بتذكيرك إياه؛ فينتفع بتذكيرك. والثاني: أن يتذكر فيما ذكرته من العواقب وما يحق عليه في حاله؛ فينتفع به؛ فتكون المنفعة في التأويل الأول بالتذكر بنفس تذكير الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفي التأويل الثاني بتذكره فيما ذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) أي: بما اختار هو عما جئت به من الدِّين. أو استغنى بالذي زين له الشيطان عما جئت به. أو يكون على الغناء المعروف؛ لأن الذين أقبل عليهم بوجهه كانوا أهل ثروة وغناء، فأقبل عليهم؛ رجاء أن يسلموا فيتبعهم أتباعهم في الإسلام؛ إذ كانوا من رؤسائهم وأجلتهم.

(6)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) أي: مقبل عليه بوجهك. وقوله: (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) أي: ليس عليك غير التذكير إذا أعرض عنك وعاداك لم يمكن منه إلحاق ضرر بك؛ بل اللَّه يعصمك، ويدفع عنك شره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) أي: يعمل لله - تعالى - ويخشاه، فجائز أن تكون الخشية علة للسعي، فيكون معناه: أن خشيته هي التي حملته إلى السعي. وقد يجوز أن يخرج الكلام مخرج العطف على جعل أحدهما علة للآخر ودليلا للسعي؛ فيكون معناه: أن خشيته هي التي حملته إلى السعي. وقد يجوز أن يخرج الكلام مخرج العطف على جعل أحدهما علة للآخر ودليلا له، قال اللَّه - تعالى -: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)، فكان الإحياء الأول دليلا للإحياء الثاني في موضع العطف والترتيب على الكلام الأول. أو أن يكون ابتداء، فقوله: (جَاءَكَ يَسْعَى. وَهُوَ يَخْشَى) لله تعالى، ويخاف التبعة وحلول النقمة. وقوله - تعالى -: (كَلَّا ... (11) قال الحسن: معناه: أن الذي فعلته من التولى عن المؤمنين والإقبال على الكفرة، ليس من حكمي. وذكر أبو بكر الأصم: لما نزل قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) إلى قوله: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) تغير وجه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وخاف زوال الرسالة، وأن يمحى اسمه منها، فلما نزل قوله: (كَلَّا) علم أنه لم يودعه ربه؛ حيث نهاه عن العود إلى مثله. وقال المفسرون: (كَلَّا)، أي: لا تعد إلى مثل هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ): جائز أن يكون هذا منصرفا إلى السور كلها. وجائز أن يكون منصرفا إلى هذه السورة؛ لأن فيها إثبات التوحيد وإثبات الرسالة من

(12)

الوجه الذي ذكرنا، ودلالة البعث وآياته أن خلق البشر ليس على العبث، فهي تذكرة لمن يذكر بها. أو جائز أن يكون منصرفا إلى الآيات التي قبل هذا في هذه السورة، وهو أن فيما تقدم في هذه السورة من الآيات تثبيت رسالته بما تقدم ذكرنا له. وجائز أن يقال: إن هذه تذكرة؛ أي: هذه المعاتبة تذكرة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولجميع المؤمنين؛ ليعرفوا من يستوجب التعظيم والتبجيل، ومن يستوجب إهانته والاستخفاف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) جائز أن يكون معناه: من شاء اللَّه أن يذكره، أو ما شاء ذكره؛ أي: قد مكن كل من التذكير، وأنه ليس أحد بممنوع ولا مجبور على الفعل، فمن ترك التذكر، فهو الذي ضيع ذلك؛ حيث آثر واختار ضده، واشتغل بغيره، وأعرض عن ذكره. وجائز أن يكون على تحقيق الفعل؛ أي: من تذكر به فهو ذكر له؛ فكنى بالمشيئة عن الفعل؛ لما ذكرنا أنها تقترن بالفعل ولا تزايله؛ فيكون في ذكرها ذكر الفعل. أو يكون على إرادة الفعل قبل وجوده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) قيل: هي الصحف المتقدمة؛ كقوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى). وقوله: (فِي صُحُفٍ) أي: في أيدي الملائكة. وقوله: (مُكَرَّمَةٍ)، أي: مكرمة بما يكرمها أهل الكرامة، وهم السفرة البررة. أو مكرمة على اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) أي: مرفوعة القدر، مطهرة من التناقض والاختلاف. أو مطهرة من أن ينالها أيدي العصاة. أو مطهرة من الأقذار والأدناس. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) السفرة: الكتبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) أي: كرام على اللَّه تعالى، بررة في أعمالهم؛ كما وصفهم اللَّه - تعالى - بقوله: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).

(17)

قوله تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)، قالوا: تأويله: لعن الإنسان. وذكر الحسن والمعتزلة: أن هذا من اللَّه - تعالى - على الشتم والتسمية له بذلك، واستجازوا الشتم منه. والأصل أن ليس في الشتم إلا ظهور سفه الشاتم وعبثه؛ إذ لا ضرر يلحق بالمشتوم من جهة الشتم، وإنما ضرر ذلك الشتم على الشاتم خاصة، وأما المشتوم فإنما يصير مشتوما بفعله لا بشتم الشاتم، وجل اللَّه - تعالى - من أن ينسب إليه فعل السفه؛ فلذلك قلنا: إنه لا يتحقق معنى الشتم في الكلمة التي عرفت شتما فيما بين الخلق إذا جاءت من اللَّه - تعالى - كما لا يحقق من الكلمة التي عرفت اغتيابا فيما بين الخلق إذا جاءت من اللَّه - تعالى - معنى الاغتياب، بل يحمل ذلك على الردع والتنبيه؛ فيكون في ذكرها تخويف من خوطب بها، وتذكر للخلق سفهه وجهله؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد قد يتكلم بما فيه هتك الستر على المخاطب ثم لا يعد ذلك منه اغتيابا؛ إذا قصد به وعظه وزجره عما هو فيه، وأرشده إلى ما فيه صلاح آخرته وأولاه، فكذلك اللَّه - تعالى - إذا جاء منه ما يعد شتما من غيره واغتيابا، لم يلحقه وصف الشتم والغيبة؛ إذ ذلك منه على التذكير والتنبيه للخلق، وعلى التخويف والتهويل لمن نسب إليه ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَكْفَرَهُ)، أي: ما أقبح كفره، وأوحشه، وأشنعه؛ لأنه علم أن جميع ما أنعم به من النعيم فمن اللَّه - تعالى - ثم هو لم يشكر نعمه، ولا أطاعه فيما دعاه إليه؛ بل وجه شكر نعمه إلى من لا ينفعه ولا يضره، وعند من لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنه شيئا، وما هذا إلا غاية الفحش ونهاية القبح. أو ما أوحش كفره وأقبحه بما سوى بين الشكور والكفور، وبين المفسد والمصلح،

(18)

وبين الولي والعدو، والعقل يوجب التفرقة بينهما، فهو بإنكاره البعث كابر عقله وعانده، فما أشد كفر من هذا وصفه. ثم قوله - تعالى -: (مَا أَكْفَرَهُ) أي: أي شيء أكفره؟ فيكون في ذكره تعجيب لمن آمن من الخلائق وتذكير لهم عن سوء من هذا فعله وسوء معاملته مع ربه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ ... (19) فكأنه قال: إن الذي كفر قد علم أنه خلق من نطفة، وتلك النطفة موات، لا سمع فيها ولا عقل، ولا شيء من الجوارح، ثم اللَّه تعالى بلطفه وعجيب حكمته دبر فيها بصرا يرى بفتحة واحدة، وفي أدنى وهلة مسيرة خمسمائة عام، وقدر فيها عقلا يرى به ملكوت السماوات والأرض، وقدر فيها السمع، والبصر، وغيرهما من الجوارح، أفترى أن من بلغت قدرته هذا يعجز عن إحياء من أماته وعن بعثه بأقل من لحظة. أو يكون قوله: (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) تعريفًا منه أنه خلقه من نطفة، ويكون في ذكره ما ذكرنا من الفوائد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَدَّرَهُ)، أي: سواه على وجه يكون فيه دلالة ربوبيته وشهادة وحدانيته. أو قدره على ما فيه صلاحه ومنفعته. أو قدره على ما يشاء من القصر والطول، والدمامة والملاحة، وغير ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) يحتمل أن يكون المراد من السبيل الدِّين، فكأنه يقول: يسر له سبيل درك ذلك السبيل إلى اللَّه - تعالى - على ما ذكرنا أن الدِّين إذا أطلق أريد به دين اللَّه تعالى، وكذلك الكتاب المطلق يراد به كتاب اللَّه تعالى؛ فعلى ذلك: السبيل إذا ذكر مطلقا كان منصرفا إلى سبيل اللَّه تعالى. أو يسر له السبيل: سبيل الهدى، وسبيل الضلال، والسبيل الذي لو سلكه نفعه، والسبيل الذي يضره. أو يسر له السبيل الذي علم اللَّه أنه يختاره؛ كقوله - تعالى -: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى. . .). أو يسر عليه سبيل الخروج من بطن أمه على ضيق ذلك الموضع وكبر جثته؛ ليعلموا أن من بلغت قوته هذا فهو قادر على ما أراد، لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه أمر.

(21)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ففي ذكر هذا ذكر النعم، وهو أن اللَّه - تعالى - جعل لما يخبث ويتغير كنًّا يكنُّ فيه؛ فيستره عن الخلق؛ لئلا يعافوه ويستقذروه، لم يجعل ذلك لغيرهم، وجعل لأنفسهم إذا هم تغيرت أجسادهم بالموت، وصارت بحيث تستخبث وتستقذر - كنا تستتر فيها؛ لتغيب عن الخلق؛ فلا يتأذوا بها، فذكرهم هذا؛ ليشكروه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) معناه - واللَّه أعلم -: كذلك إذا شاء أنشره؛ لأن هذا كله إخبار في موضع الاحتجاج، فكأنه قال: إن الذي خلقه من نطفة وقدره، ثم أماته فأقبره، فهو كذلك ينشره إذا شاء، وكذلك هذا في قوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)، أي: إن الذي أحياكم، ثم أماتكم، فكذلك هو الذي يحييكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23): منهم من ذكر أن هذا الخطاب في كل أحد، لا ترى إنسانا قضى جميع ما عليه من الأمر على حد ما أمر حتى لا يغفل عنه ولا يقصر فيه؛ بل من اللَّه - تعالى - على كل أحد في كل طرفة عين نعمة، لا يتهيأ لأحد أن يقوم بكنه شكرها حتى لا يقع منه في ذلك جفاء ولا تقصير. ومنهم من يقول: هذا في الكفار خاصة، لا يقضون ما أمروا به من التوحيد. فإن كان على هذا فهو منصرف إلى ابتداء الأمر. وإن كان على الوجه الأول، فهو منصرف إلى كنه الأمر، ويستقيم توجيهه إلى الكافر، على ما ذكروا؛ لأن إيمان المؤمن له حكم التجدد في كل وقت. إذ هو في كل وقت مأمور باجتناب الكفر، فهو يجتنبه، فذلك يكون، وإذا كان كذلك، ثبت أنه في كل وقت مؤمن؛ لما أمر به هو مجتنب عما نهي عنه، فهو بإيمانه راجع عن الزلات في كل حال، معتقد للوفاء بما أمر به؛ لذلك كان صرفه إلى الكافر أوجَهُ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) كيف قدر له حيث استعمل فيه

السماوات، والأرضين، والهواء، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، فاستعمال السماء في إنزال المطر منها، واستعمال الهواء في جعله مسلكا للمطر، واستعمال الأرض في جعلها قرارا للمطر وأخرج منها ما فيه قوامهم ومنافعهم؛ فيكون في ذكر هذا فوائد: إحداها: في موضع التعريف للخلائق: أن منشئ السماوات والأرضين، ومنشئ الخلق والشمس والقمر - واحد؛ لاتصال منافع بعض ببعض؛ إذ لو لم يكن كذلك، لكان لمنشئ السماء أن يمنع منافع السماء عن خلق منشئ الأرض. والثانية: فيه تذكير قوته وعجيب حكمته؛ ليعلموا أنه قادر على كل ما يريد فعله؛ لا يضعف عن ذلك، ولا يعجزه شيء؛ لأنه جمع بين منافع ما ذكرنا مع تناقضها واختلافها في نفسها، فجعلها من حيث المنافع متسقة متفقة، وجعل كل واحدة منهن كالمتصلة بالأخرى، المقترنة بها مع بعد ما بينهما، فمن قدر على الاتساق بين الأشياء المختلفة، وقدر على الوصل بين الأشياء المتباعدة بعضها عن بعض - لقادر على إحياء الأموات والبعث. والثالثة: ذكرهم هذا ليبين لهم حكمته وعلمه؛ ليعلموا أنه لا يخلق الخلق عبثا، ولا يتركهم سدى لا يستأدي منهم الشكر، ولا يبعثهم؛ بل ينشئهم ويميتهم فقط، فيخرج خلقه على ما فيه خروج عن الحكمة، ولأنه خلق البشر على وجه تمسه الحاجات، وتمسه الشهوات، وقدر الطعام على وجه إذا تناول منه دفع حاجته وسكن شهوته، ولو أراد أحد أن يتدارك المعنى الذي يعمل في دفع الحاجة وتسكين الشهوة ما هو؟ لم يصل إلى تعرفه؛ فيؤدي تفكره إلى دفع الشبه والاعتراضات التي تعتريه في أمر البعث وغيره؛ إذا كانوا يقدرون الأمور على قواهم ويسوونها على ما ينتهي إليه تدبيرهم، فإذا وجدوا في الطعام معاني هي خارجة من تدبيرهم وقواهم علموا أن ليس الأمر على ما قدروا؛ فيرتفع عنهم الريب والإشكال، وكذلك لو أرادوا أن يستخرجوا من الماء المعنى الذي به صلح أن تكون به حياة الأشياء كلها مع اختلاف الأشياء وتفاوتها واختلاف طعومها وألوانها - لم يمكنهم ذلك؛ فيعلمون أن الذي بلغت حكمته هذا المبلغ قادر على ما يشاء، فعال لما يريد، ويكون في النظر فيما ذكر حاجته وافتقاره إلى غيره تبيين أن اللَّه - تعالى - لم ينشئ الخلق لحاجة نفسه، وإنَّمَا خلق لحاجة البشر إليه.

(25)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) ليقر الماء في شقوقها فيصل الخلق إلى الانتفاع به. أو شققناها للنبات، فأنبتنا فيها حبا وعنبا، فذكر الحب والعنب، وأخبر أنه أنبتهما في الأرض، وهما في الحقيقة غير نابتين في الأرض، ولكن أخرجهما من أصل هو نابت في الأرض، فأضافهما إليها لما يرجع الابتداء إليها، وهو كقوله - تعالى -: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ)، ورزقنا من السماء المطر، لكن الذي هو رزقنا من الطعام وغيره إنما ينبت في الأرض، وخرج منها بالقطر من السماء؛ فأضيف إليه؛ فعلى ذلك أضيف الحب والعنب إلى ما ذكرنا؛ للمعنى الذي وصفنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَضْبًا (28) القضب: هي الرطبة، سميت: قضبا؛ لأنها تقضب، وتقطع مرة بعد مرة. (وَزَيْتُونًا ... (29) في ذكر الزيتون ما ذكرنا من الفائدة، وهي أن الزيتون ألين الأشياء نَبَتَ أصله في الجبال التي هي أصلب الأرض، فمن قدر على إخراج ألين الأشياء عن أصلب الأشياء لقادر على الإنشاء والبعث؛ إذ من قدر على أن يخرج ألين الأشياء من أصلب الأشياء لقادر على أن يلين القلوب القاسية حتى تلين لذكر اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) الحدائق هي البساتين التي أحدقت بالأشجار وأحاطت بها، والغلب: الغلاظ؛ يقال: رجل أغلب؛ إذا كان غليظ الرقبة، وقوم غلب الرقاب، أي: غلاظ، وقالوا - أيضا -: الغلب الأشجار الكثيفة الطويلة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) والأب: الكلأ، فيخبر أنه أنشأ هذه الأشياء؛ لتكون متاعا للخلق والأنعام، لا لمنافع نفسه. * * * قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ) قال الحسن: هي اسم القيامة يصخ لها كل شيء، وبه يقول أبو بكر: إنه يصخ لمجيئها كل شيء، أي: يخشع لها ويطأطئ رأسه

(34)

للداعي، كما قال اللَّه تعالى: (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ). وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصاخة هي الداهية، فذكر القيامة بالأحوال التي تكون فيها، أو بالأفعال التي توجد فيها؛ على ما ذكرنا. وقال الزجاج: الصاخة: المصمة، تصم لها الأسماع عن كل شيء إلا إلى ما يدعى إليها. وقوله - عَزَّ وجل -: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) جائز أن يكون هذا على تحقيق الفرار. وجائز ألا يكون على التحقيق، ولكن وصف بالفرار لما يوجد منه المعنى الذي يوجد من الفار، قال اللَّه - تعالى -: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، والوجه فيه أن الأقرباء من شأنهم أنهم إذا اجتمعوا استبشر بعضهم ببعض، وأنسوا بالاجتماع، وإذا غابوا سألوا عن أحوالهم، واهتموا لذلك. ثم هم في ذلك اليوم يدعون السؤال عند الغيبة والاستبشار عند الحضرة حتى كأنه لا أنساب بينهم، لا أن يكون بينهم في الحقيقة نسب، ولكن ما يحل بكل واحد من الاهتمام يشغله عن السؤال بحاله والاستبشار برؤيته حتى يصير كالفرار؛ لوقوع المعنى الذي يوجد من الفار، لا على تحقيق الفرار؛ لأنه قال: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) فما يحل من الشأن يمنعه عن الفرار عن نفسه وعن أقربائه. أو يكون على حقيقة الفرار، وذلك أن الأقرباء لا يوجد منهم القيام بوفاء جملة ما عليهم من الحقوق حتى لا يوجد منهم التقصير؛ فيخافون في ذلك اليوم أن يؤاخذوا بذلك فيحملهم على الفرار. أو يفر كل واحد منهم عن تحمل ثقل الأقرباء، كما قال: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)، وقد كانوا يتعاونون في الدنيا في تحمل الأثقال، فيخبر أنهم لا يتعاونون في ذلك اليوم؛ بل يفرون. ثم جائز أن يكون هذا في الكفرة، وأما أهل الإسلام فإنه يجوز أن تبقى بينهم حقوق القرابة كما أبقيت المودة فيما بين الأخلاء بقوله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ). وإن كان في المسلمين والكفرة جميعا فجائز أن يكون الفرار في بعض الأحوال، وذلك

(37)

في الوقت الذي لم يتفرغ عن شغل نفسه، فأما إذا أمن وجاءته البشارة فهو يقوم بشفاعته، ويسأل عن أحواله، ولا يفر منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) قالوا: أفضى إلى كل إنسان ما يشغله عن غيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) أي: مضيئة، أو ناضرة، ناعمة، مشرقة؛ فيكون فيه إخبار عما هم فيه من النعيم؛ حتى يظهر ذلك في وجوههم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) أي: مسرورة بنعيم اللَّه - تعالى - الذي أنعم عليهم، مستبشرة برضاء اللَّه - تعالى عنها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) قالوا: هذا أول تغير يظهر في وجوههم، كأنما علاها الغبار، ثم تسود، ثم تطمس، وترد على أدبارها، كما قال: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) قال أبو بكر: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ)، أي: تغشاها الذلة، أو تعلوها، ثم تتلون بعد ذلك؛ فتكون كأنما علاها الغبار، ثم تسود على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) أي: الكفرة بأنعم اللَّه تعالى، الفجرة: المائلة عن الحقوق، واللَّه الموفق، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. * * *

سورة كورت

سُورَةُ كُوِّرَتْ وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ. وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) هذا ليس بابتداء خطاب، ولكنه جواب عن سؤال تقدم؛ فيشبه أن يكون السؤال عن وقت لقاء الأنفس الأعمال؛ فنزل قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إشارة إلى أحوال ذلك الوقت وآثارها؛ على ما نذكر المعنى الذي له وقع لتبيين الأحوال دون تبيين الوقت في سورة (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ). واختلف في قوله - تعالى -: (كُوِّرَتْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هي فارسية، معربة، وهي بالعربية: غورت. وقال: (كُوِّرَتْ)، أي: ذهب ضوءها؛ يقال: كور الليل على النهار، أي: أذهب نوره وضياءه؛ فالتكوير يغطي لون الشيء عن الأبصار، فقيل: كورت الشمس، أي: حبس ضوءها على الأبصار بالطمس؛ فيكون فيه إنباء أنه يطمس ظاهرها، ثم يرد التغيير في نفسها فتتلف وتتلاشى، ومنه يقال: كور العمامة؛ إذا لفها على رأسه فتغطيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) تناثرت وتساقطت، وهو كقوله: (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ). وقيل: ذهب ضوءها؛ فكأن ضوءها يذهب أولا، ثم تتناثر بعد ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) أي: قلعت عن أماكنها وسيرت، كما قال في آية أخرى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)، وهي إذا قلعت تكثرت؛ حتى لا يتبين للناظر سيرها؛ لكثرتها؛ فيحسبها جامدة، وهي تسير، فهذا

(4)

أول تغير يظهر منها، ثم تصير كثيبا مهيلا، ثم كالعهن المنفوش، ثم هباء منثورا إلى أن تتلاشى وتتلف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) فالعشار هي النوق الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر، وهي من أنفس الأموال عند أهلها؛ فيخبر أن أربابها يعطلونها في ذلك اليوم ولا يلتفتون إليها؛ لشغلهم بأنفسهم في ذلك، وهو كما قال: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) إلى قوله: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) قيل: جمعت، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن تجمع كلها فتتلف وتهلك. والثاني: أن تحشر مرات يحييها بعد موتها؛ فيضع اللَّه تعالى فيها ما شاء؛ فيكون في هذا إخبار عن عظم هول ذلك اليوم؛ حتى يؤثر الهول في الوحوش، والشمس، والقمر، والسموات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) قيل: فجرت، وسنذكر تأويل التفجير فيما بعد، إن شاء اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) قيل: قرنت. ثم اختلف في معنى القران: فقَالَ بَعْضُهُمْ: قرن زوجها إليها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يقرن كل بأهل شيعته؛ فيقرن الكفرة بالشياطين، وأهل الشراب بأهل الشراب، وأهل الزنى بأهل الزنى، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -:، (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)، إلى قوله: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ

(8)

الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ)، ففي هذا إخبار أن المعذب منهم إذا رأى عدوه يعذب عذابه، ويكون في العذاب الذي هو فيه لم يتسل بذلك شيئا، ولم ينل به راحة، وإن كان المرء في الدنيا إذا رأى عدوه يعذب عذابه يتسلى بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) وقرأ بعضهم: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سألت) وهذا هو الظاهر أن تكون هي السائلة، أي: تسأل إياهم: بأي ذنب قتلت؟! وتقول: بأي ذنب قتلتموني؟!. وكانت العرب تدفن بناتها، يقال: وأدته: أي: دفنته. ثم القراءة المعروفة: (سُئِلَتْ)، وهي تحتمل أوجها ثلاثة: أحدها: ذكر أبو عبيد وقال: إن قتلتها تسأل: بأي ذنب قتلت الموءودة؟!. والثاني: يحتمل أن تسأل الموءودة عند حضرة الذين وأدوها: بأي ذنب قتلْتِ؟! يراد بالسؤال تخويف وتهويل للذين وأدوها، لا سؤال استخبار واستفهام، وهو كقوله - تعالى -: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وليس يسأل عن هذا سؤال استخبار واستفهام، ولكن يسأل سؤال تخويف وتهويل لمن ادعى أن عيسى - عليه السلام - هو الذي أمرهم أن يتخذوه وأمه إلهين من دون اللَّه. والثالث: جائز أن تسأل الموءودة: أتدعي أو لا تدعي؟ وما الذي تدعي عليهم؟ فيبدأ بها بالسؤال، كما يرى المدعي في الشاهد هو الذي يبدأ بالسؤال، فيقال له: ما تدعي على هذا؟ فقوله: (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) كأنها إذا سئلت عن الذي ادعت، قالت: (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) أي: الكتب نشرت للحساب، وهي التي فيها أعمال ابن آدم وقتما تدفع إليهم بأيمانهم وشمائلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) قيل: قشرت، وذلك أن تتناثر النجوم، وتطمس الشمس، فتطوى كطي السجل للكتب. وقيل: كشفت، تكشف السماء، كما يكشف الغطاء عن الشيء.

(12)

ويقال: كشطت؛ أي: قلعت كما يقلع السقف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يحدث تسعيرها؛ فيكون فيه علم الحدثيَّة، وكذلك في قوله - تعالى -:: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) يحتمل أن يبتدئ تسجيرها، ولما تسجر من قبل. وجائز أن يراد من التسجير والتسعير على ما كان من قبل؛ لقوله: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، وقد كان وقودها بغير هذين، ثم يزاد في وقودها بالناس والحجارة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) قيل: قربت؛ فأضيف إليها التقريب؛ لأن أهلها إذا قربوا إليها فقد قربت هي إليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) أي: ما أحضرت من خير أو شر؛ كقوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا) الآية. أو تعلم ما أحضرتها الملائكة الذين كتبوا عليها. * * * قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ): الأشياء التي وقع بها القسم تقتضي أحكاما ثلاثة. أحدها: ما من شيء خلقه اللَّه - تعالى - إلا وفيه دليل وحدانيته، وآية ربوبيته، إذا أنعم النظر فيه، ويثبت علمه وحكمته، ويدل على قدرته وسلطانه، وفي تثبيت القدرة والسلطان إيجاب القول بالبعث، وإيجاب القول بالرسل، ونهي عن عبادة غير اللَّه، فلو أنعموا النظر فيها وتفكروا في أمرها، لأداهم ذلك إلى القول بالبعث، ودعاهم إلى وحدانية الرب والإقرار بالرسل؛ فلا يدعون أن معه آلهة أخرى، ولا كانوا ينكرون البعث،

ولا يكذبون الرسول؛ فأقسم بهذه الأشياء على التأكيد لحججه؛ ليعلموا أنه رسول من عنده، أو أن القرآن من عنده، أو أن الأوامر من عنده، أو الرسول من عنده. أو يكون القسم تلقينا من اللَّه - تعالى - لرسوله بأن يقسم لهم بهذه الأشياء؛ ليزيل عنهم الشبه والشكوك التي اعترضت للكفرة في أمره - عليه السلام - ويدعوهم إلى النظر في حججه وآياته. ثم القسم بما لطف من الأشياء ودق، وبما كثف وغلظ، وبما كبر وصغر، وبما ظهر وخفي، تتفق كلها في إزالة الشبهة وإثبات التوحيد والرسالة والبعث، بل الأعجوبة فيما لطف من الأشياء أعظم منها فيما كثف وغلظ، فأقسم مرة بالكواكب، ومرة بظلمة الليل وما يضحى، وبما شاء من خلقه؛ إذ الخلائق كلها في الشهادة على وحدانيته وإثبات ربوبيته وإثبات علمه وحكمته وقدرته وسلطانه - متفقة. ولأن ما لطف من الأشياء وخفي منها يتصل بما ظهر منها، فيتضمن ذكر ما خفي منها واستتر ذكر ما ظهر منها، وفي ذكر ما ظهر منها ذكر منشئها؛ فيكون القسم في الحقيقة باللَّه تعالى. ثم اختلف في (الخنس) و (الكنس): قال أبو بكر: إن (الخنس) هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل. وقال الحسن: الخنس: هي النجوم اللاتي يطلعن في مطالعها ويغبن في مغاربها، و (الكنُس): هي النجوم اللاتي يطلعن في مطالعها ثم يكنسن ويختفين إلى أن يعدن إلى مطالعهن فيطلعن. وقيل: (بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) وهي خمس كواكب لهن مجار في السماء يظهرن بالليل ويستترن بالنهار، وسائر الكواكب ثوابت. ثم قيل: الخنوس والكنوس واحد، وهو الاختفاء والغروب في مغاربها والدخول فيها. وقيل: الخنوس: الاختفاء، والكنوس: التأخر، وكذا قال الفراء: هي النجوم الخمسة

(17)

تخنس في مجراها، وترجع. وفي حديث كعب: " فتخنس بهم النار كما تخنس النجوم الخنس "، أي: تحيد بهم وتتأخر، واللَّه أعلم. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: هي الوحوش اللاتي تخنس من الإنس، وتكنس في مكانسهن، وأيما كان فهي كلها دالة على الوجوه التي ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) قيل: إذا أقبل. وقيل: إذا أقبل وإذا أدبر. وقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إذا انفجر، وإذا ارتفع، وفي إقبال الليل وإقبال النهار تثبيت القدرة والسلطان؛ وذلك أن ظلمة الليل إذا غشت سترت عن وجوه الأشياء وكشف النهار عنها الستر، ولو أراد أحد أن يغطي الأشياء كلها بالحيل والأسباب لم يتمكن منها، ولو أراد نزع الغطاء عنها، لم يملك، فذكرهم هذا؛ ليعلموا أن من بلغت قدرته هذا لا يعجزه أمر، ولا يتعذر عليه البعث؛ بل هو قادر على إحيائهم وبعثهم. وقوله - تعالى -: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) فموضع القسم على هذا، وعلى قوله - تعالى -: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ). ثم تأويل قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)، أي: هذا الذي أتاكم به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تلقاه عن رسول كريم على ربه، وهو جبريل - عليه السلام - ثم نسب هاهنا إلى الرسول؛ لما سمع منه، ولم يكن من قبله، وقال في آية أخرى: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، فسماه: كلام اللَّه؛ على الموافقة، أو لما أن ابتداءه يرجع إليه، لا أن يكون المسموع كلامه، كما يقال: هذا قول أبي حنيفة رحمه اللَّه، وهذا قول فلان الشاعر، وليس الذي سمعته قول من نسب إليه، ولكن نسب إليه؛ لأن ابتداءه يرجع إليه؛ فكذلك سمي: كلام اللَّه؛ لأنه يدل على كلامه، ولما يرجع إليه ابتداؤه، لا أن يكون هو نفس كلامه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) وفي وصفه بالقوة فائدتان: إحداهما: ما ذكرنا أن فيه بيان الأمن عن تغيير يقع فيه من الأعداء من الجن والشياطين

(21)

والإنس، يحتجز عنهم بقوته؛ فلا يتمكنون منه حتى يغيروه ويبدلوه، ووصفه بالأمانة في نفسه ليأمن الخلق ناحيته. أو وصفه بالقوة على التخويف والتحذير للذين عادوا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيخبرهم أن معه من يدفع عنه شرهم وكيدهم إن هموا ذلك به. وروي أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لجبريل - عليه السلام -: " إن اللَّه تعالى وصفك بالقوة فما أثر قوتك؟ فقال: لما أمرني اللَّه تعالى بإهلاك قوم لوط - عليه السلام - فقلعت قرياتهم ورفعتها بجناح واحد إلى السماء ثم قلبتها ". وليس بنا إلى أن نعرف قوته حاجة، وإنما بنا الحاجة إلى أن نعرف ما المعنى والحكمة في ذكر قوته؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ): إن كان المراد من العرش: الملك، فمعناه: عند ذي الملك مكين؛ أي: ذو قدرة ومنزلة. وقيل: العرش: السرير، فإن كان كذلك، فتأويله: أنه مكين عند من له سرير الملك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) قيل: إن جبريل - عليه السلام - رسول إلى الملائكة كما هو رسول إلى الناس، فإن كان كذلك ففيه إخبار أن الملائكة الذين يعبدها بعض الكفرة يطيعون جبريل - عليه السلام - فيما يأمرهم وينهاهم، فما بالهم يتركون طاعته والائتمار بأمره؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثَمَّ أَمِينٍ)، أي: هم يأتمنونه، ولا يتهمونه في شيء مما يجيء به إليهم، فكيف يتهمه هَؤُلَاءِ فيما يأتي إلى الرسول من الوحي؟!. وقوله: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) منهم من يقول بأن الكفرة نسبوه إلى الجنون حين رأى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جبريل على صورته فغشي عليه، وكان يتغير في كل مرة يأتي به جبريل - عليه السلام - بالوحي لون وجهه؛ فينسبونه إلى الجنون لهذا. ومنهم من يقول: إنما نسبوه إلى الجنون؛ لأنه أظهر المخالفة لأهل الأرض، وكان في أهل الأرض الجبابرة والفراعنة الذين من عادتهم القتل والتعذيب لمن أظهر الخلاف لهم؛ فكان ذلك منه مخاطرة بنفسه وروحه؛ حيث انتصب لمعاداة من لا طاقة له بهم، ومن قام

(23)

بخلاف من لا طاقة له به، وانتصب لمعاداته، فذلك منه حمق وجنون في الشاهد؛ فنسبوه إلى الجنون لهذا. ومنهم من ذكر أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لما ذكرنا، ولكن شدة سفههم هو الذي حملهم على هذا؛ فنسبوه إلى الجنون مرة، وإلى أنه ساحر أخرى، ومرة قالوا: علمه بشر، ومرة قالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ)؛ فكانوا ينسبونه إلى كل ما ذكرنا، لا عن بحث منهم في حاله، ولكن على السفه والعناد؛ ألا ترى أنهم نسبوه إلى الجنون مرة، وإلى السحر ثانيا، وهما أمران متناقضان؛ لأن الساحر هو الذي بلغ في العلم غايته، والجنون هو النهاية في الجهل، ولو كانوا يقولونه عن بحث وتدبر لكانوا لا يأتون بالمختلف من القول؛ فيظهر جهلهم لمن يريدون صده عن اتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، بل كانوا يتفقون على كلمة واحدة، فيصدرون عنها حتى يقع التلبيس منهم موقعه؛ فيصلون إلى مرادهم من صد الناس عن اتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك فيما زعموا أنه علمه بشر، وأنه إفك افتراه؛ أتوا بالمختلف من القول؛ لأن اختلافه وافتراءه يثبت أنه عالم بنفسه، مستغنٍ عن تعليم غيره، وحاجته إلى أن يتعلم من غيره تثبت عجزه وجهله عن الاختلاق بنفسه، فهذا كله يدل على أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لأعلام ظهرت لهم منه، ولكنهم قذفوه بكل ما حضرهم؛ سفها منهم وعنادا. ثم إن كانوا نسبوه إلى الجنون لما غشي عليه عندما رأى جبريل - عليه السلام - على صورته فقد أتاهم بما لو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس بصاحبهم جنة؛ كما قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ)، وذلك أنه أتاهم بحكم عجز حكماء الإنس والجن عن إتيان مثله، وأتاهم بكتاب عجز أهل الكتاب عن إتيان مثله، فلو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس من فعل المجانين، ولا من علومهم، ولكنه من عند اللَّه أكرم به. وإن كانوا بما نسبوه إلى الجنون لما خاطر بروحه، فهم - بحمد اللَّه تعالى - لم يتهيأ لهم أن يمكروا به، ولا أن يقتلوه؛ بل أظفره اللَّه عليهم، وأظهره على الدِّين كله؛ فصار ذلك الوجه الذي به نسبوه إلى الجنون آية رسالته، وعلم نبوته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) قال الحسن: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأى ربه بقلبه؛ أي: عظمته وسلطانه من وجه لا يقع به تشابه، وخص بالأفق؛ لأنه من الأفق تنزل البركات

(24)

وتنزل الملائكة وأنواع الخير كلها، والمراد من ذلك الأماكن كلها. وغيره من أهل التفسير صرف الرؤية إلى جبريل، عليه السلام. وذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سأل جبريل - عليه السلام - أن يراه على صورته، فقال له جبريل - عليه السلام -: " إن الأرض لا تسعني، ولكن إذا صليت الفجر، فانظر إلى أفق السماء؛ فهنالك تراني "، ففعل فرآه على صورته، ثم دنا منه، فكان قاب قوسين أو أدنى، فذكر الأفق؛ لأن الشيء من البعد لا يتهيأ أن يرى من أقطار الأرض؛ لذلك خصت الأفق؛ إذ كذلك تقع رؤية ما بعد، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وقرئ (بظنين). قال أبو عبيد: والظنين أولى؛ لأن الظنين هو المتهم، والضنين: البخيل، ولم ينسب أحد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى البخل حتى ينفي عنه البخل بهذه الآية، وقد كانوا يتهمونه على الغيب، وهو القرآن، فكانوا يقولون: علمه بشر، وليس من عند اللَّه، ويقولون - أيضا -: إن هذا إلا إفك افتراه؛ فبرأه اللَّه تعالى مما قالوا بقوله: (وما هو على الغيب بظنين) ومن قرأه بالضاد فهو يحتمل أوجها: أحدها: ما ذكره أبو بكر الأصم، وهو أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يضن بشيء علمه اللَّه - تعالى - عن أحد من أصحابه كما يفعله غيره من العلماء؛ لأن العلماء لا يريدون أن يعلموا من اختلف إليهم كل ما عندهم من العلوم حتى يُستغنى عنهم، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يود أن يعلم جميع ما علم من العلوم أصحابه؛ فكان يقوم على تعليم كل منهم بقدر طاقته، ولم يكن يمتنع عن التعليم بُخلا منه وضنًّا. وجائز أن يكون برأه اللَّه - تعالى - من هذا؛ لما علم أنه يكون في أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من يزعم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خص بعض أصحابه بتعليم أشياء لم يطلع عليها غيرهم، وتخصيص بعض دون بعض بتعليم ما عنده بخل في الشاهد؛ فكان في قوله: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) تكذيب أُولَئِكَ الذين يدعون هذا، وهذا كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته "، فكأنه قال هذا لما علم أنه يكون في أمته من يتقدم

(25)

الشهر بالصيام، فقال هذا؛ ليعرف خطأ من يتقدم الشهر بالصيام على الخطأ والجهالة، ليس على إصابة الحق؛ فعلى ذلك الحكم فيما ذكرنا. ثم صرفوا تأويل الغيب إلى القرآن، وهو عندنا في القرآن وفي غيره من الأشياء التي أطلع اللَّه - تعالى - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عليها. وجائز أن يكون الضن منصرفا إلى الشفاعة التي أكرم اللَّه - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بها، فهو لا يخص بعض أمته دون بعض بالشفاعة، بل يعمهم جميعا؛ فيكون في هذا تحريض على الاتباع له، والانقياد لطاعته. ويحتمل وجها آخر: وهو أنه ليس بضنين في أداء شكر ما أنعم اللَّه - تعالى - عليه؛ حيث غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بل اجتهد في أداء شكره حتى ذكر أنه تورمت قدماه من طول القيام، فقيل له: ألم يغفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. فقال: " أفلا أكون عبدا شكورا؟! ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) يحتمل وجهين: أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليس من شياطين الإنس، ولا بمجنون كما ذكرتم؛ بل هو رسول كريم. أو الذي أتاكم به من القرآن لم يتلق من الشياطين، ولا هو من قبلهم كما تلقته الكهنة والسحرة من أقوالهم؛ بل هو ذكر من اللَّه - تعالى - للعالمين أنزله إليه الروح الأمين القوي الذي لا يصل إليه الشيطان فيغيره ويبدله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) أي: فأين تذهبون عن طاعته واتباعه والانقياد له وقد أتاكم ما يلزمكم طاعته واتباعه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) أي: عظة للعالمين، يذكرهم بما يحق عليهم في حالهم، ويبين لهم ما يؤتى وما يتقى، وما تصير إليه عواقبهم. أو أن يكون قوله: (ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)، أي: شرف لهم، يشرف قدرهم به، ويصيرون أئمة يقتدى بهم ويختلف إليهم؛ ليتعلم منهم، واللَّه أعلم.

(28)

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) يحتمل أوجها غير ما ذكرنا: أحدها: أن هذا القرآن الذي جاء به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تلقاه من رسول كريم على اللَّه - تعالى - فإذا لم تؤمنوا به، ولم تقبلوه فما ذهبتم إلا إلى قول شيطان رجيم. ويحتمل؛ (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)؟ وإلى من تفزعون إذا أتاكم بأس اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ونقمته إذا لم تؤمنوا باللَّه تعالى، وأنكرتم البعث، ولم تصدقوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما أخبركم به؟! فإذا حل بكم ما أنذركم به فإلى من تلجئون؟! وهو كقوله - تعالى -: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). أو إذا لم تؤمنوا باللَّه - تعالى - ولم تتبعوا ما أتاكم به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد تقرر عندكم صدقه أنما أتاكم من الآيات المعجزة، فبأي حديث تصدقونه بعد ذلك وتذهبون إليه؟! وهو كقوله تعالى: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) معناه - والله أعلم -: أن هذا القرآن ذكر لمن شاء أن يستقيم من العالمين، فهو في نفسه ذكر وآيات وهدى، ولكن ينتفع بهذا الذكر من شاء الاستقامة، ويهتدي به من طلب الهداية؛ قال - تعالى -: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، وهو في نفسه هدى، ولكن يهتدي بهداه المتقون، ومن ليس بمتقٍ فهو عمى عليه ورجس، وقال: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)، وهو كان ينذر من اتبع ومن لم يتبع، ولكن معناه: أنه ينتفع بالذي تنذر به من اتبع الذكر، وقال: آيات لأولي الأبصار، وهي في أنفسها آيات، ولكن ينتفع بآياته أولو الأبصار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يحمل على تحقيق المشيئة، ويكون تأويله: أن من أراد الاستقامة على أمر اللَّه - تعالى - أو على الحق، فهذا الذكر -وهو القرآن- يقيمه على الحق وعلى الأمر، ويهديه إلى ذلك. أو أن يكون هذا على تحقيق الفعل؛ فيكون معناه: من استقام منكم على الحق والأمر فهو ذكر له. والأصل أن المشيئة وصف فعل كل مختار، وإذا كان هكذا، صارت المشيئة مقترنة بالفعل، فإذا فعل فقد شاء؛ فكان في إثبات الفعل إثبات المشيئة؛ لذلك استقام حمله على ما ذكرنا، وهو أن يجعل أحدهما كناية عن الآخر.

(29)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) فإن كان قوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ) على تحقيق المشيئة، فمعناه: أنكم لا تشاءون الاستقامة -على ما ذكرنا- إلا أن يشاء اللَّه. وإن كان على تحقيق الفعل، فتأويله: أنكم ما استقمتم على الطريقة إلا بمشيئة الله تعالى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: تأويل قوله: (وَمَا تَشَاءُونَ)، أي: لم تكونوا تشاءون إنزال هذا الكتاب، فأنزله اللَّه تعالى على رسوله - عليه السلام - بغير مشيئتكم. وهذا غير محتمل عندنا؛ لأنه قد سبق من القوم الإرادة والسؤال بإرسال الرسول إليهم بقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ)، فثبت أنه قد سبق منهم السؤال بإرسال الرسول وإنزال الكتاب عليه، لكن تأويله ما ذكرنا. ثم في هذه الآية دلالة أن كل من شاء اللَّه تعالى منه الاستقامة توجد منه الاستقامة:، ولا يجوز أن يشاء من أحد استقامته ولا يستقيم، كما قالت المعتزلة؛ لأن اللَّه - تعالى - مَنَّ على من استقام بمشيئة استقامته، فلو لم توجد الاستقامة من كل من شاء منه الاستقامة، لم يكن للامتنان معنى؛ لأن الاستقامة وغير الاستقامة تكون به، لا باللَّه تعالى، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. * * *

سورة الانفطار

سُورَةُ الانْفِطَارِ، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) قد ذكرنا أن هذا جواب عن سؤال تقدم، لم يبين السؤال عند ذكر الجواب؛ لأن (إِذَا) جواب عن سؤال " متى "؟ فجائز أن يكون سؤالهم ما ذكر في إتمام الجواب، وهو قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) فكأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل: متى تعلم النفس ما قدمت وأخرت؟ فنزل قوله: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) الآية إلى آخرها. ثم ذكر الانفطار هاهنا وهو الشق، وذكر الفتح في موضع آخر، وهو قوله - تعالى -: (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا)، وقال في موضع آخر: و (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ)، و (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، فمنهم من ذكر أن شقها وانفطارها أن تفتح أبوابها. ومنهم من حمله على الشق الذي يعرف من شق الأشياء، وهذا أقرب؛ لأن الآية في موضع التخويف والتهويل، وليس في فتح أبوابها تخويف، وإنما التخويف في انشقاقها بنفسها. ثم السؤال عن ملاقاة الأعمال وعن علم الأنفس بها سؤال عن الساعة، وفي ذكر انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وتسيير الجبال، وجعل الأرض قاعا صفصفا، وصفُ أحوال الساعة وآثارها، وليس فيه إشارة إلى وقت كونها؛ لأنه ليس في التوقف على حقيقة وقتها تخويف وتهويل، وفي ذكر آثارها تخويف، وهو أنه عظم هول ذلك اليوم، واشتد حتى لا تقوم له الأشياء القوية العلية في أنفسها، وهي الجبال، والسماوات والأرضون، بل يؤثر فيها هذا التأثير، حتى تصير الجبال كالعهن المنفوش، وتصير كثيبا مهيلا، وتنشق السماء، وتصير الأرض قاعا صفصفًا، فكيف يقوم لها الإنسان الضعيف المهين؟!.

(2)

أو إذا كانت السماوات والأرضون والجبال مع طواعيتها لربها لا تقوم لها وأفزاعها بل تتقطع، فكيف يقوم لها الآدمي الضعيف مع خبث عمله، وكثرة مساوئه مع ربه؟!. فيذكرهم هذه الأحوال؛ ليخافوه، ويهابوه؛ فيستعدوا له؛ فلهذا - واللَّه أعلم - ذكرت الأحوال التي عليها حال ذلك اليوم، ولم يبين متى وقته؛ ولهذا ما لم يبين منتهى عمر الإنسان؛ ليكون أبدا على خوف ووجل من حلول الموت به؛ فيأخذ أهبته، ويشمر له، ولو بين له كان يقع له الأمن بذلك؛ فيترك التزود إلى دنو ذلك الوقت، ثم يتأهب له إذا دنا انقضاء عمره. ثم إن اللَّه - تعالى - ذكر أحوال القيامة في غير موضع، وجعل ذلك مترادفا متتابعا في القرآن؛ فيكون في ذلك معنيان: أحدهما: أن للقلوب تغيرًا وتقلبا في أوقات، فرب قلب لا يلين لحادثة أول مرة حتى يعاد عليه ذكرها مرة بعد مرة، وحالا بعد حال، ثم تلين؛ فيكون في تتابع ذكر البعث والقيامة مرة بعد مرة إبلاع في النذارة وقطع عذر المعتذرين يوم القيامة. والثاني: أن القوم كانوا حديثي العهد بالإسلام، وقد وقع الإسلام في قلوبهم موقعا؛ فيكون في تكرار المواعظ تلقيح لعقولهم، وتليين لقلوبهم على ما أكرمهم اللَّه - نعالى - من الإيمان، ونصرة رسول رب العالمين؛ كقوله: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا). وقوله - تعالى -: (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) إما أن يكون انتثارها؛ لأنها مجعولة لمنافع الخلق، فإذا استغنى عنها أهلها فلا معنى لبقائها. أو لما جعلت زينة للسماء، فإذا انفطرت السماء، لم تحتج إلى زينة بعدها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) قال قائلون: أي يفجر ماؤها في بحر واحد، ثم يغور ماء ذلك البحر الذي اجتمعت فيه المياه؛ إما بما تنشفها الأرض، أو تجعل في بطن الحوت الذي ذكر أن الأرضين قرارها على ظهره، أو في بطن الثور، ثم يسوي اللَّه - تعالى - الأرض كلها؛ حتى لا يبقى فيها عوج، ولا قعر؛ فيبس البحار بما شاء: إما بالجبال، أو بغيرها.

(4)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: بل يغور ماء كل بحر في مكانه، لا أن تجتمع المياه كلها في مكان واحد وبحر واحد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: بل يمتزج بعضها ببعض؛ فتصير نارا يعذب بها أهلها، وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ)، وقال: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)، واللَّه أعلم أي ذلك يكون؟. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) أي: بعث مَن فيها، وتقذف القبور مَن فيها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) أي: تعلم الأنفس ما عملت، إلى آخر ما انتهى إليه عملها فلا يخفى عليها شيء من أمرها. ومنهم من يقول: ما قدمت من خير وأخرت من شر فستعرفه في ذلك اليوم. ومنهم من يقول: علمت ما قدمت من العمل؛ أي: بما عملت بنفسها، (وما أخرت) أي: ما سنت من السنة فعمل بها بعدها. وهذا الذي ذكروه داخل في تفسير الجملة التي ذكرنا أنها تعلم من أول ما عملت إلى آخر ما انتهى إليه عملها. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) يحتمل: عن ربك؛ فيكون تأويله: أي شيء غرك عن ربك الكريم؛ حتى اغتررت به؟! واغتراره عن ربه الإعراض عن طاعته وعبادته، وقد تستعمل الباء في موضع " عن "؛ قال اللَّه - تعالى -: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ)، ومعناها: يشرب عنها، لا أن يشربوا فيها كرعا، أو تجعل العين آنية لهم. ثم وجه الجواب للمغتر باللَّه - تعالى - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) هو أن كرمه دعا الإنسان إلى ركوب المعاصي؛ لأنه لم يأخذه بالعقوبة وقت

(7)

جريرته، فتجاوزه عنه أو تأخيره العقوبة، حَمَله على الاغترار؛ إذ ظن أنه يعفى عنه أبدا كذلك؛ فأقدم عليها، وإلا لو حلت به العقوبة وقت ارتكابه المعصية، لكان لا يتعاطى المعاصي، ولا يرتكبها، فعذره أن يقول: الذي حملني على الإغفال والاغترار كرمك أو حمقي، كما قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين تلا هذه الآية: " الحمق يا رب. أو يكون قوله: (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي: أي شيء غرك حتى ادعيت على الله تعالى أنه أمرك باتباع آبائك؟! أو تشهد عليه إذا ارتكبت الفحشاء أن اللَّه تعالى أمرك به؛ على ما قال: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، ألم أبعث إليك الرسول؟! ألم أنزل إليك الكتاب فتبين لك ما أمرت به عما نهيت عنه؟!. وقيل: نزلت الآية في شأن كلدة؛ حيث ضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فلم يعاقبه اللَّه - تعالى - فأسلم حمزة حمية لقومه؛ فَهَمَّ كلدة أن يضربه ثانية؛ فنزلت الآية: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) حيث لم يهلكك عند تناولك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. لكن لو كانت الآية فيه فكل الناس في معنى الخطاب على السواء، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) ففي ذكر هذا تعريف المنة؛ ليستأدي منه الشكر. وفيه ذكر قوته وسلطانه حيث قدر على تسويته في تلك الظلمات الثلاث التي لا ينتهي إليها تدبير البشر، ولا يجري عليها سلطانهم؛ ليهابوه ويحذروا مخالفته. وفيه ذكر حكمته وعلمه؛ ليعلموا أنهم لم يخلقوا عبثا ولا سدى؛ لأن الذي بلغت حكمته ما ذكر من إنشائه في تلك الظلمات الثلاث من وجوه لا يعرفها الخلق، لا يجوز أن يخرج خلقه عبثا باطلا؛ بل خلقهم ليأمرهم وينهاهم، ويرسل إليهم الرسل، وينزل عليهم الكتب؛ فيلزمهم اتباعها، ويعاقبهم إذا أعرضوا عنها، وتركوا اتباعها، وسنذكر وجه التسوية في قوله: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى): أنه سواه على ما توجبه الحكمة. أو سواه بما به مصالحه.

(8)

أو سواه من وجه الدلالة على معرفة الصانع. أو سواه فيما خلق له من اليدين، والرجلين، والسمع، والبصر. وقوله: (فَعَدَلَكَ) أي: سواك. ووجه التسوية: أن جعل له يدين مستويتين، لم يجعل إحداهما أطول من الأخرى، وكذلك سوى بين رجليه. وقرئ بالتخفيف والتشديد. قال أبو عبيد: معنى قوله: (فَعَدَلَكَ) بالتخفيف، أي: أمالك، وليس في ذكره كثير حكمة، واختار التشديد فيه. وليس كما ذكر، بل في ذكر هذا من الأعجوبة ما في ذكر الآخر؛ فقوله: (عدلك)، أي: صرفك من حال إلى حال، ووجه صرفه - واللَّه أعلم -: أنه كان في الأصل ماء مهينا في صلب الأب، فصرف ذلك الماء إلى رحم الأم، ثم أنشأه نطفة، ثم صرفها إلى العلقة، وإلى المضغة إلى أن أنشأه خلقا سويا. أو صرفه على ما عليه من الحال من الصحة إلى السقم، ومن السقم إلى البرء؛ فيكون في ذكر هذا تعريف المنة والقدرة والحكمة، كما في الأول، ففيه أعظم الفوائد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - -: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8): منهم من جعل (مَا) هاهنا صلة زائدة، ومعناه: في أي صورة شاء ركبك. ومنهم من جعل (مَا) هاهنا بمعنى الذي. ثم قوله: (شَاءَ رَكَّبَكَ) يحتمل أن يكون هذا عبارة عما تقدم من الأوقات، وهو أنه قد شاء تركيبك على الصورة التي أنت عليها، لا على صورة البهائم وغيرها؛ فيكون في ذكره تذكير المنن والنعم؛ ليستأدي منه الشكر. ووجه التذكير أنه أنشأه على صورة يرضاها، ولا يتمنى أن يكون بغير هذه الصورة من الجواهر، وأنشأه على صورة يعرف المحاسن والمساوئ، ويعرف الحكمة والسفه، ويميز بينهما، ويميز بين المضار والمنافع، وأنشأه على صورة سخر له السماوات والأرضين والأنعام، كما قال اللَّه تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. . .) الآية، ولم يسخره لغيره؛ فثبت أن فيه تذكير النعم؛ ليشكروه، ويقوموا

(9)

بحمده. وجائز أن يكون هذا على الاستئناف في أن يركبه على ما هو عليه، على أي صورة شاء من الصور التي يستقذرها؛ ويمسخه قردا أو خنزيرا؛ لمكان ما يتعاطى من المعاصي؛ فيكون في ذكره تذكير القدرة والقوة؛ ليراقب اللَّه - تعالى - ويهابه؛ فيترك معاصيه، ويتسارع إلى طاعته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) فإن حملت قوله: (كَلَّا) على التنبيه والردع فممكن أن يعطف على ما قبله وعلى ما بعده، وكذلك إذا حملته على القسم بمعنى: حقا؛ فإنه يستقيم عطفه على الأمرين جميعا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِالدِّينِ) يحتمل أن يكون أريد به دين الإسلام. والأصل: أن الدِّين إذا أطلق أريد به الدِّين الحق، وهو الإسلام، وكذلك الكتاب المطلق كتاب اللَّه تعالى. ويجوز أن يكون أريد به: البعث والجزاء، وسمي: يوم الدِّين؛ لما ذكرنا أن الناس يدانون بأعمالهم. والحكمة فيه - واللَّه أعلم -: أنهم قد أقروا بأن اللَّه - تعالى - أحكم الحاكمين، وتكذيبهم بيوم الدِّين يوجب أن يكون أسفه السفهاء، لا أن يكون أحكم الحاكمين؛ لأن الدنيا عواقبها الفناء والهلاك، فهم إذا كذبوا بالبعث فقد زعموا: أنهم ما أنشئوا إلا للهلاك والفناء، ومَن بنى بناء، ولم يقصد ببنائه سوى أن ينقضه ويهدمه، فهو سفيه، عابث في الفعل؛ فلم يحصلوا من تكذيبهم إلا على نفي الحكمة من الصانع، وتثبيت السفه لله تعالى، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرإ، وهو قوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، وهم لم يكونوا يدعون أنهما خلقتا باطلا، ولا كانوا يظنون ذلك، ولكن الإنكار الذي وجد منهم بالبعث والجزاء يقتضي خلقهما بالطلا؛ فعلى ذلك إنكارهم بالبعث يزيل عنه القول بأنه أحكم الحاكمين، ويثبت ما ذكرنا من السفه، سبحانه وتعالى عما يصفون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) وهم لم يكونوا يقبلون الأخبار، ولا كانوا

(12)

يؤمنون بها، ثم أخبرهم أن عليهم حفاظا؛ لأن الذي حملهم على الجهل تركهم الإنصاف من أنفسهم، وإلا لو أنصفوا من أنفسهم، لكان إعطاؤهم النصفة يوصلهم إلى تدارك الحق ومعرفة ما عليهم من الواجب. ثم قد ذكرنا أن المرء إذا كان عليه حافظٌ، أداه ذلك إلى المراقبة؛ فيرتدع عن تعاطي ما يؤخذ عليه، فنبهنا أن علينا حفاظا؛ ليحتشم عنهم، ولا يأتي من الأمور ما يسوءهم، ووصف أنهم كرام؛ ليصحبهم صحبة الكرام، ومن صحبة الكرام أن يحترمهم، ويتقي مخالفتهم، ولا يتعاطى ما يسوءهم، وذلك قوله: (كِرَامًا كَاتِبِينَ (11). وفي ذكر الكرام فائدة أخرى، وذلك أن قوله: (كِرَامًا كَاتِبِينَ)، أي: كرام على الله تعالى، والكريم على اللَّه - تعالى - هو المتقي؛ قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)؛ فيكون فيه أمان لهم: أنهم لا يزيدون، ولا ينقصون في الكتابة، وإنما يكتبون على قدر أعمالهم، كما ذكرنا من الفائدة في وصف جبريل - عليه السلام - بالقوة والأمانة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم يعلمون ما نفعله قبل أن نفعل بما عرفهم اللَّه - تعالى - فيكون في تعريفه إياهم إلزام الحجة عليهم، ويكون الذي يكتبون امتحانا امتحنوا به؛ إذ قد فوض إلى بعضهم أمر كتابة الأعمال، وإلى البعض إرسال الأمطار، ونحو ذلك. أو (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) وقت فعلكم جهة الفعل من خير أو شر؛ فيكون لفعل الخير آثار بها يعرفون أن الفاعل قصد به جهة الخير، ويكون لفعل الشر آثار بها يعرفون ذلك أيضا. ثم عُذْر المسلمين في ترك المراقبة أقل من عذر المكذبين بالدِّين؛ لأن المسلمين علموا أن عليهم حفاظا يحفظون عليهم أعمالهم، ويكتبونها عليهم، ثم هم مع ذلك يغفلون، ولا يصحبونهم صحبة الكرام، ويتركون التيقظ والتبصر، والكفرة ينكرون أن يكون عليهم حفاظ، ومن كان هذا حاله فالإغفال من مثله غير مستبعد.

(13)

قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ): قد ذكرنا أن البر هو الذي ما طلب منه، والذي طلب منه ما ذكر في قوله: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. . .) إلى قوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، وفي هذه الآية دلالة على ما ذكرنا أن البر إذا ذكر دون التقوى، اقتضى المعنى الذي يراد بالتقوى؛ لأنه أخبر أن البر هو الإيمان باللَّه - تعالى - واليوم الآخر، ثم ذكر أن الذي جمع بين هذه الأشياء، فهو المتقي. ثم احتجت المعتزلة لقولهم بالتخليد في النار لمن ارتكب الكبيرة بقوله تعالى: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) إلى قوله: (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ)؛ لأن مرتكب الكبيرة فاجر، وقد وصف اللَّه - تعالى -: أن الفجار لفي جحيم، ولا يغيب عنها، وزعموا أنه ما لم يأت بالشرائط التي ذكر في قوله: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، فهو غير داخل في قوله: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ). والأصل عندنا ما ذكرنا: أن كل وعيد مذكور مقابل الوعد فهو في أهل التكذيب؛ لما ذكر من التكذيب عند التفسير بقوله: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ)، إلى قوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)، وقال: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) إلى قوله: (فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) وإذا كان كذلك، لم يجب قطع القول بالتخليد في النار لمن ارتكب الكبيرة، بل وجب القول بالوقف فيهم. ثم إن اللَّه - تعالى - جعل لأهل النار يوم البعث أعلاما ثلاثة، بها يعرفون، وتبين أنهم من أهل النار، لم يجعل شيئا من تلك الأعلام في أهل السعادة: أحدها: اسوداد الوجوه بقوله: (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ). والثاني: بما يدفع إليهم كتابهم بشمالهم، ومن وراء ظهورهم، ويدفع إلى أهل الجنة كتبهم بأيمانهم. والثالث: في أن تخف موازينهم، وتثقل موازين أهل الحق.

فهذه أعلام أهل الشقاء، وفيما ذكر اسوداد الوجوه قرن به التكذيب بقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)، وفيما ذكر دفع الكتاب بالشمال ومن وراء الظهور، قال فيه: (فَاسْلُكُوهُ)،، وقال: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. بَلَى. . .) الآية، وقال - تعالى - عندما ذكر خفة الميزان: (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ)، ولم يذكر عند ذكر شيء من هذه الأعلام غير المكذبين، فثبت أن الوعيد في المكذبين لا في غيرهم؛ لذلك لم يسع لنا أن نشرك أهل الكبائر مع أهل التكذيب في استيجاب العقاب، وقطع القول بالتخليد، بل وجب الوقف في حالهم والإرجاء في أمرهم. والثاني: ذكر في مواضع الإيمان باللَّه - تعالى - أدنى مراتب أهل الإيمان، ووعد عليه الجنة، فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ)، وقال في موضع آخر: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)، وقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ. . .) الآية، فذكر في هذه الآيات التي تلوناها أدنى منازل أهل الإيمان، وذكر في موضع آخر أعلى مراتب أهل الإيمان، ووعد عليها الجنة بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ. . .) الآية، وقال: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .) الآية؛ فجائز أن يكون ذكر الجميع على المبالغة لا على جعله شرطا؛ فيجب القول باستيجاب الوعد بأدنى مراتبه، على ما ذكر في الآيات الأخر. وجائز أن يكون الجميع فيما ذكر فيه الإيمان باللَّه ورسله مضمرا، ويكون ذكر طرفًا منه على الإيجاز؛ ألا ترى أنه ذكر الكفر في بعض المواضع، وأوعد عليه النار، وذكر في بعض المواضع الكفر مع أسباب أخر، وأوعد عليه النار بعد ذلك بقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. . .) الآية، وقال في موضع آخر: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. . .) الآية، ثم لم يصر جميع ما ذكر من السيئات مع الكفر شرطا، بل وجب القول بالتخليد لمن اقتصر على الكفر خاصة؛ فثبت أن ليس في ذكر المبالغة دلالة جعل المبالغة شرطا، بل جائز أن يستوجب الوعيد بدونه؛ فلذلك لم يقطع القول في أصحاب الكبائر بالتخليد في النار، ولا بأنهم مستوجبون للوعد، بل قيل فيهم بالإرجاء.

(15)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله منصرف إلى أهل أن نار وأهل الجنة؛ فأهل الجنة لا يغيبون عن الجنة، ولا أهل النار عن النار. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أريد بها أهل النار خاصة: أنهم لا يغيبون عنها. وأنكر بعض الناس الخلود لأهل النار في النار، ولأهل الجنة في الجنة، وقالوا: لو لم يكن لنعيم الجنة انقضاء، ولا لعذاب الآخرة انتهاء، لكان يرتفع عن اللَّه - تعالى - الوصف بأنه أول وآخر؛ لأنهما يبقيان أبدا؛ فلا يكون هو آخر، وقد قال: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ)؛ فلا بد من أن يكون لهما انتهاء حتى يستقيم الوصف بأنه آخر. ولأنهما لو لم يوصفا بالانتهاء لكان علم اللَّه - تعالى - غير محيط بنهايتهما، فتكون النهاية مجاوزة لعلمه، واللَّه - سبحانه وتعالى - محيط بالأشياء وعالم بمبادئها ومناهيها؛ فلا بد من القول بفنائهما حتى يكون علمه محيطا بهما. ولأنهم إنما استوجبوا الجزاء بأعمالهم، وأهل النار استوجبوا العقاب بسيئاتهم، فإذا كانت لسيئاتهم نهاية، ولخيرات أُولَئِكَ نهاية، فكذلك يجب أن يكون للجزاء نهاية أيضا. والأصل عندنا: أن كل من اعتقد مذهبا فهو يعتقد التدين به أبدا ما بقي، لا يتركه. ثم العقاب جعل جزاء للكفر، والثواب جعل جزاء للاتقاء عن المهالك بقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، وقال: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، فإذا ثبت أن كل واحد منهما جزاء للمذهب، وكان الاعتقاد للأبد؛ فكذلك جزاؤه يقع للأبد والدوام، لا للزوال والانقطاع. والثاني: أن العلم بزوال النعيم مما ينغص النعمة على أربابها، ويمرر عليهم لذاتها، ويكدر عليهم ما صفا منها، فإذا كان كذلك لم يتم لهم النعيم، وأهل النار إذا تذكروا الخلاص من العذاب، تلذذوا بها، وهان عليهم العذاب؛ فوجب القول بالخلود؛ ليتم النعيم على أهله والعذاب على أهله. والجواب عن قوله: إنه يرتفع عنه الوصف؛ لأنه أخبر: أن اللَّه - تعالى - استوجب الوصف بأنه أول وآخر بذاته لا بغيره، وغيره يصير أولاً وآخراً بغيره، ثم ما من شيء إلا وله أول وآخر، ثم لا يوجب ذلك إسقاط الأولية والآخرية عنه. وقوله بأن [الله]- عَزَّ وَجَلَّ - لا يوصف بالإحاطة بالأشياء لو وجب القول بالخلود، فنقول بأن العلم بما لا نهاية له هو أن يعلمه غير متناهٍ، والعلم بالتناهي بما لا نهاية له

(17)

يوجب الجهل لا أن علم. والجواب عن الفصل الثالث: ما ذكرنا أنه يعتقد المذهب للأبد، فكذلك الجزاء يتأبد، ولا ينقطع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنك لم تكن تدري، فدراك اللَّه تعالى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا على التعظيم لذلك اليوم، والتهويل عنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا ... (19) وذلك اليوم يوم تُجرى فيه الشفاعات، فيشفع الأنبياء لكثير من الخلق فَيُشْفَع لهم، وإذا كان كذلك فقد ملكت نفس لنفس شيئا، ولكن تأويله يخرج على أوجه ثلاثة: أحدها: أن الكفرة كانوا يتوادون فيما بينهم؛ ليتناصر بعضهم بعضا في النوائب، فقال: (لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا)؛ قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ). أو لا تملك نفس لنفس شيئا إلا بعد أن يؤذن لها؛ كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا)، وقد يُجرى التشفع في الدنيا لا بالاستئذان من أحد. أو يكون معناه: أن كل نفس سيتبين لها في ذلك اليوم أنها لم تكن تملك شيئا إلا بالتمليك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، أي: لا ينازع فيه، وهو في كل وقت لله - تعالى - لكن الظلمة ينازعونه في هذه الدنيا. أو (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، أي: يتبين لكل أحد في ذلك اليوم بأن الأمر لله - عَزَّ وَجَلَّ - في ذلك اليوم وقبل ذلك اليوم، واللَّه المستعان، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. * * *

سورة المطففين

سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ): وجه تعييرهم بالتطفيف وإلحاق الوعيد بهم؛ لمكانه وإن كانوا مستوجبين للوعيد، وإن أوفوا المكيال، ولم يطففوا فيه؛ إذ كانوا جاحدين باللَّه تعالى ومكذبين بالبعث -: هو أن الكفرة لم يكونوا اعتقدوا الكفر باللَّه - تعالى - لتلذذ يقع لهم بنفس الكفر، ولا التزموه على التحسين لهم إياه، وإنما أعرضوا عن الإيمان لحبهم الرياسة، ولمأكلة كانت لهم خافوا زوالها عنهم بالإسلام. أو زهدوا عنه؛ لما يلزمهم بالإيمان مؤن، واختاروا الكفر؛ لئلا يلزمهم بالإيمان تحملها؛ فكان الذي يحملهم على الصد عن الإيمان وترك النظر في آيات اللَّه - تعالى - وحججه ما ذكرنا؛ فعيروا بالأفعال الدنية التي كانوا يتعاطونها فيما بينهم من التطفيف والهمز واللمز وتركهم إيتاء الزكاة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)؛ لينقلعوا عنها؛ فيحملهم ذلك على النظر في القرآن والتدبر فيه، وهو كما ذكرنا في القتال أن فيه ما يحملهم على الإيمان؛ لأنهم كانوا يتزهدون عنه لحبهم الدنيا، فإذا قوتلوا ضاقت عليهم الدنيا؛ فبعثهم ذلك على الإيمان باللَّه - تعالى - وعلى النظر في آياته. وذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما تلا هذه الآية على أهل مكة تركوا التطفيف؛ فلم يطففوا

(2)

بعد ذلك. قال أهل اللغة: التطفيف: النقصان، يقال: إناء طفان؛ إذا كان غير مملوء. وقال الزجاج: يقال: شيء طفيف، أي: يسير، فسمي: مطففا؛ لما يسرق منه شيئا فشيئا في كل مكيال. وفي هذه الآية، دلالة أن حرمة الربا عامة على أهل الأديان. وفيه دلالة أن حرمة الربا ليست لمكان العاقدين، وإنما هي حق على العاقدين لله - تعالى - وذلك أن الذي يكال له، كان يأخذ ما يكال له على علم منه بتطفيف البائع، ثم كان يرضى به، ويتجاوز عن ذلك، ومع ذلك لحقهم التعيير بالتطفيف؛ فدل أن حرمته ليست لمكان العاقدين، ولكنها من حق اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) منهم من ذكر أن هذا على التقديم والتأخير، ومعناه: ويل للمطففين على الناس إذا اكتالوا أو وزنوا، وإذا اكتالوا استوفوا. ومنهم من قال بأن (عَلَى) هاهنا بمعنى " عن "؛ فكأنه يقول: ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا عن الناس يستوفون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) منهم من حمل قوله: هم بعد ذكر الكيل والوزن على التأكيد والمبالغة، فإن كان هذا على هذا، فحقه الوقف على قوله: (كالوا)، وعلى قوله: (وزنوا). ومنهم من قال: معناه: وإذا كالوا لهم، أو وزنوا لهم؛ لأن الألف بينهما ليست بمثبتة في المصاحف، وهو مستعمل: كلته، وكلت له؛ كقوله: وعدته، ووعدت له، فإن كان هذا معناه، لم يستقم الوقف على قوله: (كالوا) و (وزنوا)؛ لأن قوله: (لهم)، تفسير لقوله: (كالوا) أو (وزنوا)، ولا يجوز قطع التفسير عما له التفسير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4): قال أكثر أهل التفسير: (أَلَا يَظُنُّ): ألا يعلم، وألا يتيقن.

وقال أبو بكر الأصم: (أَلَا يَظُنُّ)، معناه: ألا يشك أُولَئِكَ في البعث، وهو محتمل لما ذكرنا؛ لأن الشك يوجب الرهبة، وارتفاعه يوجب الأمن؛ ألا ترى أن المرء إذا أراد أن يسافر إلى مكان، فأخبره إنسان أن في الطريق الذي يريد أن يسلك سراقا وقطاع الطريق، فإنه يترهب لذلك؛ فيستعد له بما يدفع عن نفسه ضرر قطاع الطريق وضرر السراق، وإن لم يتيقن أن المخبر صادق في مقالته، ولا يتيقن أن السراق يتمكنون من الإضرار به، فكيف لا يشك هَؤُلَاءِ بكون البعث بما يخبرهم النبي - عليه السلام - ويقيم عليه الحجج، وهذا أقل منازل الأخبار أن تورث شكا. ثم الأصل أن حرف الشك يستعمل عند استواء طرفي الداعيين، والظن يستعمل عند اختلاف طرفي الداعيين، وهو أن تغلب إحدى الدلالتين على الأخرى؛ لذلك يستقيم الحكم والقول بأكثر الظن، ولا يستقيم بأكثر الشك. ثم الظن يتولد من البحث عن الأمر والنظر فيه، وإذا تدبر فيه، فهو لا يزال يرتقي في الظن درجة فدرجة؛ حتى ينتهي نهايته بلوغ اليقين ودرك الصواب؛ فلذلك حمل أهل التفسير تأويل الظن هاهنا على اليقين والعلم؛ إذ ذلك نهاية الظن. وحمله أبو بكر على الشك؛ لما لا ترتفع الشبهة كلها فيما كان طريق معرفته الاجتهاد. ومثال الظن منا الخوف الذي ذكرنا أنه قد يستعمل في موضع العلم؛ لأن الخوف إذا بلغ غايته صار علما؛ كالذي يهدد بالقتل، أو بقطع عضو؛ ليشرب الخمر أنه يباح له الشرب، ويجعل كالمتيقن أنه يفعل به لا محالة لو امتنع عن الشرب؛ لبلوغ الخوف نهايته وإن لم يكن في الحقيقة متيقنا؛ لما يجوز أن يحصل به ما يمنعه عن القتل؛ فعلى ذلك الحكم في الظن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) للحساب الذي يحصل عليهم؛ فلا يجدون منه مخرجا؛ فيتخلصون من العذاب، ليس على ما يحصل عليه الحساب في الدنيا يجد لنفسه الخلاص ووجه المخرج عنه.

(5)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) سماه: عظيما؛ لما ذكرنا من دوام عذابه ودوام عقابه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) أي: لحكمه. أو لحسابه. أو لوعده ووعيده. أو يقومون له مستسلمين خاضعين بجملتهم، وإن كان البعض منهم وجد منه الامتناع عن الاستسلام في الدنيا، فإن الظلمة ينازعونه ويدعون لأنفسهم أشياء، وينكرونها له، فأما يوم القيامة فإنهم جميعا يقرون له وينقادون لحكمه وقضائه؛ لذلك خصه بقيام الناس له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا ... (7) قال الحسن وأبو بكر: حقا؛ أي، بعثهم حق؛ فيبعثون. وقال الزجاج: (كَلَّا): حرف ردع وتنبيه، أي: ليس الأمر على ما ظنوا: أنهم لا يبعثون؛ بل يبعثون ويجازون بأعمالهم؛ فيكون في هذا إيجاب القول بالبعث من طريق الاستدلال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) اختلف في السجين: فمنهم من جعله اسم موضع، وأشار إليه فقال: هو صخرة تحت الأرض السابعة يوضع كتاب الفجار تحته إلى يوم القيامة. ولكن ليس بنا إلى معرفة ذلك الموضع حاجة؛ لأن الذين امتحنوا بجعله في ذلك الموضع قد عرفوه، وهم الملائكة. ومنهم من زعم أنه حرف مذكور في كتب الأولين، فذكر ذلك في القرآن، فجائز أن يكون المقصود يتحقق بدون الإشارة إليه. وجائز أن يكون السجين الموضع الذي أعد للكافر في الآخرة للعذاب، لكن أول ما يرد إليه عمله الذي أثبت في كتابه، ثم تلحق به الروح، ثم يتبعهما جسده في الآخرة على

(8)

ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والآخرة سجن الكافر وجنة المؤمن "، فيرد كتابه إلى ذلك السجن، ويرد كتاب الأبرار إلى الجنة التي أعدت له، ثم تتبعه روحه، ثم جسده؛ فذلك قوله: (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ). ومنهم من قال: هو على التمثيل ليس على تحقيق المكان في العليين؛ وذلك لأن السجن هو مكان أهل الخبث في الدنيا، فمثلت أعمالهم بذلك؛ لخبثها وقبحها، ومثلت أعمال الأبرار بما ذكر من العليين، وذلك مكان أهل الشرف وأولي القدر؛ فيكون ذلك كناية عن طيب أعمالهم. وقال الكسائي: السجين: مشتق من السجن؛ كقولك: رجل فسيق، وشريب، وسكيت. ثم ذكر كتاب الفجار، والفجور يكون بالكفر وبغيره، فهذا اسم يقع به الاشتراك بين أهل الكفر وأهل الإسلام، لكنه ألحق عند التفسير بما يوجب صرف الوعيد إلى الكفار بقوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)، وكذلك نجد هذا الشرط ملحقا بالتفسير في جميع ما جرى به الوعيد بالاسم الذي يقع به الاشتراك؛ من نحو الفسق، وترك الصلاة، بقوله - تعالى -: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)، وفيما جرى من الوعيد في الذي لا يؤتي الزكاة؛ فكان في ذكر التفسير على تقييده بالتكذيب قطع الشهادة وإيجاب العذاب على المكذبين، وفي ذكر الاسم الذي يقع به الاشتراك إيجاب الخوف على المسلمين الذين شركوا في ذلك الاسم، فترك قطع الشهادة عليهم بالوعيد؛ لما لم يذكروا عند التفسير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) فهو تعظيم ذلك اليوم، ووصفه بنهاية الشدة، أو على الامتنان على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لم يكن يعلم ذلك حين أطلعه اللَّه عليه، وهكذا تأويل قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ). وقوله: (كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) أي: الكتاب الذي في السجين مرقوم، والمرقوم، قالوا: مكتوب ومثبت. والرقم عندنا: هو الإعلام، يقال: رقم الثوب؛ إذا أعلمه؛ فجائز أن يكون علمه هو أن يختم؛ فيكون فيه إخبار أنه لا يزاد على قدر ما عمل، ولا ينقص منها، وهو كما ذكرنا من

(10)

الفائدة، فيما وصف جبريل - عليه السلام - بالقوة والأمانة بقوله: (ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)، فوصف بالأمانة؛ ليؤمن الخلق عن خيانته في الكتاب وتغييره، ووصفه بالقوة؛ ليعلم أن غيره لا يتهيأ له أن ينتزع منه ما أرسل على يده، فيغيره، فكذلك وصفه بالختم والأعلام؛ ليؤمن من الزيادة فيه والنقصان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) أي: للمكذبين بجميع ما يحق عليهم تصديقه، وذلك يكون بالإيمان باللَّه تعالى، وبآياته، ورسله، وبالبعث. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) الدِّين اسم لشيئين: اسم للجزاء، واسم للاستسلام والخضوع؛ فسمي: يوم الدِّين؛ لما يدانون بأعمالهم، أو لما يستسلمون لله - تعالى - في ذلك اليوم ويخضعون له، وفي تكذيبهم بيوم الدِّين تكذيب لقدرة الله تعالى وتكذيب رسله؛ لأن الرسل كانوا يدعونهم إلى الإيمان بيوم الدِّين؛ فكانوا يكذبونهم بتكذيبهم بذلك اليوم؛ فيكون تأويله منصرفا إلى ما ذكرنا من تكذيبهم بجميع ما يحق عليهم التصديق به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) المعتدي هو الذي يتعدى حدود اللَّه تعالى، والأثيم: الذي يتأثم بربه؛ فيكون مجاوزًا به عن الحدود، والتأثم بربه هو الذي يحمله على التكذيب، وإلا لو قام بحفظ حدوده، ولم يأثم بربه، لكان لا يكذب بيوم الدِّين. أو يكون فيه إخبار أن المكذب به معتد أثيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) قال: (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ): أباطيل الأولين. وقال أبو عبيدة: الأساطير: هي التي لا أصل لها. ومعناه عندنا: ما سطره الأولون، أي: كتبه، فالسطر: الكتابة؛ فيخبرون أنها ليست من عند اللَّه تعالى، بل مما كتبها الأولون الذين لا نظام لهم، ولم يكن يقولون هذا في كل ما يتلو عليهم، ولكنهم كانوا يعارضونه بهذا عندما كان يتلو عليهم من نبأ الأولين، وكانوا ينسبونه إلى السحر إذا أتاهم بالإيات المعجزات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ... (14) قيل: الرين: الستر والغطاء. وقيل: الرين: الصدأ؛ فاللَّه - تعالى - سمى الإيمان الذي هو في النهاية من

الخيرات: نورًا، وسمى الكفر الذي هو في النهاية من الشرور: ظلمة، فإذا كان الإيمان منورا للقلب، والكفر مظلما، فإذا اشتغل بالأسباب الداعية إلى الكفر شيئا بعد شيء من الآثام، فكل سبب من ذلك يعمل في إظلام القلب حتى تتم الظلمة؛ على ما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن هذه الآية، فقال: " هو العبد يذنب الذنب، فتنكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صفا قلبه، وإن لم يتب، وعاد فأذنب، نكتت في قلبه نكتة سوداء، وإن عاد نكتت في قلبه حتى يسود القلب أجمع؛ فذلك الرين "، ومن يرد اللَّه أن يهديه يشرح صدره شيئا فشيئا بأسباب تتقدم الإيمان حتى يحمله ذلك على الإيمان؛ فذلك تمام الانشراح. وعلى هذا يخرج تأويل ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب، كلما ازداد عظما، ازداد ذلك البياض، فإذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله. ومعنى قوله: " يبدأ نقطة بيضاء " إلى قوله: " حتى يستكمل الإيمان "، عندنا بالأسباب الداعية إلى الإيمان، فلا يزال ينشرح منه شيء فشيء حتى يؤمن، لا أن يكون الإيمان ذا أجزاء، ولكن للإيمان مقدمات؛ فينشرح شيء فشيء بكل مقدمة منه حتى يفضي به إلى الإيمان. ثم إن اللَّه - تعالى - سمى السواتر عن الإيمان بأسام، مرة قال: (طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)، ومرة قال: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً. . .) الآية. ومرة: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، فكأن الذين وصفوا بالقفل على قلوبهم هم الذين انتهوا في الكفر غايته حتى لا يطمع منهم الإيمان، وهم المتمردون المعتقدون للتكذيب، وهم الرؤساء منهم والأئمة. ومنهم من هو مطبوع على قلبه، وهم الذين اعتقدوا الكفر لا عن تمرد وعناد، ولكن لما لم تَلُحْ لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان. وذكر الزجاج أن أول منازل الستر: الغبن، وهو الستر الرقيق كالسحاب الرقيق في السماء، يعمل في غشاء القلب غشاء السحاب الرقيق بلون السماء، ثم إذا ازداد سمي:

(15)

رينا، ثم يرتقي إلى الطبع إلى أن يصير كالقفل على القلب، وفي هذا دليل على أن لله تعالى تدبيرًا وصنعا في أفعال العباد؛ لأنه أنشأ للكفر ظلمة في القلب حتى تمنعه تلك الظلمة عن درك الخيرات ونور الإيمان؛ إذ كل من اعتقد الكفر فهو ليس يعتقده؛ ليمنعه عن درك الأنوار، وإذا لم يوجد منه هذا، ثبت أنه صار كذلك بتدبير اللَّه - تعالى - وصنعه؛ إذ لا يجوز أن تحدث الظلمة في القلب إلا بمحدث لها، وإذا انتفى الصنع من الكافر ثبت أنه بتدبير اللَّه - تعالى - ما صار كذلك، وأنه أنشأه مظلما، والله الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) اختلف في قوله: (يَوْمَئِذٍ). فذكر أبو بكر الأصم: أن هذا في الدنيا، يقول: إنهم حجبوا عن عبادة ربهم بما عبدوا غير اللَّه تعالى؛ فصارت عبادتهم غير اللَّه حجابا من عبادته. وذكر أهل التفسير: أن هذا في الآخرة. ثم منهم من يقول: إنهم حجبوا عن لقاء ربهم، وأوجبوا بهذا القول الرؤية للمؤمنين. ومنهم من يقول: هم محجوبون، أي: عن كرامته التي أعدها لأوليائه، وعن رحمته، فعوقبوا بالحجب عن ذلك؛ جزاء لصنيعهم؛ لأنهم في الدنيا ضيعوا نعم اللَّه - تعالى - فلم يقبلوها بالشكر، ولم يؤمنوا برسوله الذي بعثه رحمة للعالمين؛ فأبلسوا من رحمته وكرامته في الآخرة؛ عقوبة لهم ومجازاة، وهو كقوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)، أي: جعلهم كالشيء المنسي الذي لا يعبأ به؛ فعلى ما وجد منهم من المعاملة لآياته وحججه بتركهم الالتفات إليها عوملوا بمثله في الآخرة. وقال في آية أخرى: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) من صرف الحجب إلى الدنيا، فهو يقول: ثم إنهم يصلون الجحيم بعدما عبدوا غير اللَّه تعالى، وحجبوا عن عبادته. ومن صرف التأويل إلى أمر الآخرة، فهو يقول: إنهم يصلون الجحيم بعدما يظهر فيهم من أثر الحجاب من سواد الوجوه، وإعطاء الكتاب بشمالهم ومن وراء ظهورهم.

(17)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) تأويله: أنهم يعرفون أنهم يصلونها بتكذيبهم بها، وحجبوا عن اللَّه - تعالى - بتكذيبهم بذلك اليوم، والا لو آمنوا وأقروا أن النار حق والبعث حق، لم يكونوا يصلونها؛ فيعرفون حتى يقروا بذلك بقوله: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ). * * * قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ): ذكر الأبرار هاهنا مقابل الفجار في الأول، ثم بين الفجار أنهم المكذبون بيوم الدِّين، وذلك أول منازل الكفر، فإذا أريد بالفجار: الكفار، أريد بالأبرار: الذين آمنوا؛ فلذلك قيل بأن الأبرار هم المؤمنون. والبر هو الذي يكثر منه تعاطي فعل البر، فسمي: بارا؛ إذا كثر منه البر، والفاجر: هو الذي يكثر منه فعل الفجور؛ فجائز أن يكون الوعيد في الذين بلغوا في الفجور غايته، ويكون حكم من دونهم متروكا ذكره؛ فيوصل إلى معرفة حكمه بالاستدلال، ويكون الوعد في الذين أكثروا أفعال البر، ويكون حكم من دونهم معروفا بغيره من الأدلة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) ذكر شهود المقربين في ذكر كتاب الأبرار، ولم يذكر شهودهم عند ذكر كتاب الفجار، فجائز أن يكون شهودهم على التعظيم لعمله، والدعاء له، وغير ذلك. وقيل: المقربون: هم مقربو أهل كل سماء. وقوله - تعالى -: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) البَرُّ هو الذي يبذل ما سئل عنه، ويجيب إلى ما دعي إليه، فإذا أجاب اللَّه - تعالى - فيما دعاه إليه من التوحيد، ووفَّى بأوامره، وانتهى عن مناهيه، فهو من الأبرار. ثم ما ذكرنا يكون بوجهين:

أحدهما: بالاعتقاد، وبتحقيقه بالفعل والمعاملة، فهذا قد وفَّى بما طلب منه قولا وفعلا؛ فيكون هذا ممن يقطع فيه القول باستيجاب الوعد المذكور للأبرار. والثاني: أن يقوم بوفاء ما طلب منه اعتقادا، ولم يف ما اعتقده بفعله، فالحكم في مثله الوقف، ولا يقطع فيه القول باستيجاب الموعود، بل لله - تعالى - أن يجازيه بما ضيع من حفظ حدوده بقدر ما وجد من التضييع ثم يلحقه بأهل كرامته، وله أن يعفو عه بفضله وسعة رحمته. والفجور: هو الميل، والميل يكون بوجهين: أحدهما: بترك الاعتقاد والفعل جميعا. والثاني: ميل في المعاملة، وهو أن يخالف فعله عقده. فالذي وجد منه الميل على الوجهين جميعا، يحل به ما أوعد لا محالة، وأما الذي خالف فعله عقده فإنه يوقف فيه، ولا يشهد أنه من جملة من يلحقهم الوعيد لا محالة. قد ذكرنا أن البر إذا ذكر على الانفراد أريد به ما يراد بالتقوى والبر جميعا، وكذلك التقوى إذا أفرد اقتضى معنى البر، وإذا قرنا جميعا أريد بالتقوى جهة، وبالبر جهة، وذلك أن التقوى: هي أن يتقي المهالك، وذلك يكون بالإجابة إلى ما دعي إليه قولا وفعلا، والانتهاء عما نهي عنه قولا وفعلا، وهذا هو معنى البر أيضا، فإذا ذُكرا معًا أريد بالتقوى الاجتناب عن المحارم، وأريد بالبر إتيان المحاسن، وكذلك الإيمان، إذا ذكر بالانفراد أريد به ما يقتضي الإسلام من المعنى والإيمان جميعا، وكذلك الإسلام يقتضي معنى الإيمان إذا ذكر بالانفراد؛ لأن الإسلام هو أن يرى الأشياء كلها سالمة لله تعالى، لا يجعل لأحد فيها شركا، والإيمان أن يصدق اللَّه - تعالى - بأنه رب كل شيء، وإذا صدقت أنه رب كل شيء فقد جعلت أما يقتضيه ظاهره من جعل، الأشياء كلها سالمة له؛ فهذا معنى قوله: إنه يراد بالإيمان إذا ذكر بالانفراد ما يراد بالإسلام، فإذا ذكرا معا أريد بالإسلام ما يقتضيه ظاهره من جعل الأشياء كلها سالمة له، وأريد بالإيمان ما يقتضيه ظاهره؛ كقوله: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. . .) الآية.

(23)

وكذلك الحكم في الخوف والرجاء إذا ذكر كل واحد من الحرفين مفردا، اقتضى كل واحد منهما معنى الآخر، وإذا ذكرا معا، أريد بكل واحد منهما ما يقتضيه ظاهره، ولم يصرف إلى ما يراد بالآخر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَفِي نَعِيمٍ): جائز أن يكون هذا في الآخرة، يصفهم أنهم أبدا في نعيم. وجائز أن يكونوا في نعيم في الدنيا والآخرة معا؛ فيكونون في الدنيا في نعيم العقول دون نعيم الأبدان، وذلك أنهم يطيعون العقل فيما يدعوهم إليه؛ فيتنعمون بعقولهم، ولكن الذي تدعوهم إليه عقولهم ما تأبى أنفسهم الإجابة له، ويشتد عليها ذلك، فهم في نعيم العقول لا في نعيم الأبدان، ونعيم الآخرة نعيم البدن والعقل جميعا، فتتنعم أنفسهم وعقولهم، ولا يحملون ما تأبى أنفسهم احتماله، قال اللَّه - تعالى -: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)، وقال - تعالى -: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً. . .) الآية؛ فثبت أنهم في الدنيا وفي الآخرة لفي نعيم. وقوله - تعالى -: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) قد ذكرنا أن كل ما تتوق إليها الأنفس وتشتهى في الدنيا فعلى مثله جرت البشارة لأهل الجنة في الدنيا. وذكر أن أهل اليمن كان إذا شرف قدر أحدهم وعلت رتبته في الدنيا، اتخذ لنفسه أريكة نسبت إليه؛ فيقال: هذه أريكة فلان، فجرت البشارة لأهلها بالأرائك؛ لما يرغب إلى مثلها في الدنيا، لا أن أرائكها شبيهة بالأرائك التي تتخذ في الدنيا؛ لأن أرائك الجنة مطهرة من الآفات التي هي آثار الفناء، لكنها ذكرت بهذا الاسم؛ لما لا وجه للوصول إلى تعريفها بغير اسمها المعتاد فيما بين الخلق. والأريكة: هي السرير في الحجال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَنْظُرُونَ) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يقع النظر في الحجل، وذلك عند تلاقي الإخوان واجتماعهم على الشراب. والنظر الثاني يكون إلى مملكته؛ فيكون ذلك خارجا من الحجال؛ على ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن الرجل من أهل الجنة ليرى جميع ما له بنظرة واحدة، وأقل ما

(24)

يعطى الرجل مثل سعة الدنيا وعرضها " فذلك النظر يجاوز عما في الحجال؛ فيقع خارجا منها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) أي: تعرف لو نظرت في وجوههم نضرة النعيم، فجائز أن تكون النضرة منصرفة إلى نفس الخلقة، وهو أنهم أنشئوا على خلقة لا تتغير، ولا تفنى، بل بهجة نضرة. أو تكون نضارتهم بما أنعموا من النعيم. ثم خصت الوجوه؛ لأن النظر من بعض إلى بعض يكون إلى الوجوه، لا إلى غيرها من الأعضاء؛ فخصت الوجوه بالذكر لهذا، لا أن تكون النضرة لها خاصة؛ بل النضرة تشتمل سائر البدن. والثاني: أن السرور إذا اشتد في القلب أثر في الوجوه، وكذلك الحزن يؤثر في الوجه إذا اعترى في القلب؛ فيكون في ذكره نضرة الوجه إخبار عن غاية ما هم عليه من السرور. خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وقوله: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ ... (25) قَالَ بَعْضُهُمْ: الرحيق: هو الخمر الذي لا غش فيه، وهو أن يكون مطهرا من الآفات. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو شيء أعده اللَّه - تعالى - لأوليائه، لم يطلعهم على ما يتهيأ في الدنيا على ما قال: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)، فهو شراب تقر به أعينهم مما أخفي لهم إلى الوقت الذي يشربونه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَخْتُومٍ. خِتَامُهُ مِسْكٌ .... (26) جائز أن يكون راجعا إلى حال الإناء الذي فيه الرحيق، وهو أنه مختوم لم تتناوله الأيدي، وكذلك ترى المرء في الدنيا يختم نفيس شرابه الذي في الإناء [بالْفِدَامِ] في الدنيا، فيخبر أن ذلك الشراب في الإناء على الوجه الذي كانوا يؤثرونه في الدنيا، وأخبر أن ختامه بأنفس شيء عرفوه في الدنيا، وهو المسك، ليس كالختام في الدنيا؛ لأنهم يختمون أوانيهم في الدنيا بالشيء الرذل، وبما لا قدر له عندهم. وجائز أن يكون منصرفا إلى الشاربين: أنهم لا يشربون أبدًا، بل يكون له ختم ولكن لا تنقطع لذة الشراب عنهم؛ بل أبدا يجدون من ذلك ريح المسك.

(27)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) جائز أن يكون أراد به الشراب الذي وصفه في قوله: (رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. . .) الآية. والتنافس حرف يستعمل في الخيرات؛ كأنه يقول: فليرغبوا في الشراب الذي هذا وصفه، الذي لا غول فيه ولا هم ينزفون، لا في الشراب الذي يذهب بالعقول، ويضعف الأبدان، ويتلف الأموال. أو فليتنافسوا في النعيم الذي وصف هاهنا، لا في النعيم الذي ينقطع ولا يدوم؛ فكأنه يقول: فليرغبوا فيما يعقب لهم النعيم الدائم والشراب الذي لا تنقطع لذته. وقيل: (خِتَامُهُ مِسْكٌ): ما بقي في الكأس من البقية يكون ذلك مسكا. والتنافس إنما يكون في المسارعة في الخيرات، وترك الاتباع للشهوات، والانتهاء عن المعاصي، وهو كقوله: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ)، أي: فليكن عملهم بما يثمر لهم ما ذكر من النعيم، لا في الذي ينقطع، وتكون عقباه النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) قيل: التسنيم: شيء أعده اللَّه - تعالى - لأوليائه، لم يطلعهم عليه في الدنيا، وهو من قرة الأعين التي لا تعلمها الأنفس، فوصف مرة المزاج بالمسك، ومرة بالكافور بقوله: (كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا)، ومرة أخبر أنه ممزوج بالتسنيم، ولم يبين ما التسنيم، والسنام: اسم ما ارتفع من الشيء؛ فيجوز أن يكون سمي: تسنيما؛ لأنه ينحدر إليهم من الأعلى، وأخبر أنه ممزوج بما إلى مثله ترغب الأنفس في الدنيا وتشتاق إليه؛ ألا ترى أن الشراب في الدنيا إذا كان ممزوجا فهو في القلوب أوقع، وتكون الأنفس إليه أرغب منه إذا كان غير ممزوج، فرغبوا بمثله في الآخرة. وذكر بعض أهل التفسير أن المقربين يسقون من ذلك الشراب صرفا، ويمزج لغيرهم. وقال الحسن: المزاج يكون للمقربين وغيرهم، وجعل الممزوج منه أشرف، على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28). المقربون هم الذين يسارعون في الخيرات في الدنيا، فتركوا منى الأنفس، واتقوا المهالك والزلات، فهم المقربون، وأضاف التقريب إلى الغير؛ لأنهم بغيرهم ما وفقوا لاكتساب الخيرات، وعصموا عن ارتكاب المهالك والزلات، لا بأنفسهم؛ فنالوا فضل

(29)

التقريب بما أجهدوا أنفسهم في الدنيا؛ للأمور التي ذكرنا. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ): وجه ذكر صنيع الكفرة بالمؤمنين في القرآن، وجعله آية تتلى وإن كان المؤمنون بذلك عارفين - يخرج على ثلاثة أوجه: أحدها: أن فيه تبيين موقع الحجج في قلوب المؤمنين وعملها بهم؛ وذلك أن المؤمنين لما سخت أنفسهم باحتمال الأذى والمكروه من الكافرين، انتصبوا لمعاداة آبائهم وأجدادهم وأهاليهم، ورفضوا شهواتهم، وتركوا أموالهم، واختاروا اتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ودينه، ومعلوم أنهم لم يحملوا أنفسهم كل هذه المؤن؛ طمعا ورغبة في الدنيا؛ لما لم يكن عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يرغب في مثله من نعيم الدنيا؛ فثبت أن الحجج هي التي حملتهم ودعتهم إلى متابعته لا غير؛ فيكون فيما ذكرنا تثبيت رسالته، وإن لم يكن في الآية إشارة إلى الحجج التي اضطرتهم إلى تصديقه والانقياد له؛ فيكون في ذكره تقرير لمن تأخر عنهم من المؤمنين لرسالته، عليه السلام. والثاني: أن أُولَئِكَ المؤمنين صبروا على ما نالهم من المكاره، واستقبلهم من أنواع الأذى في قيامهم بأمر اللَّه تعالى؛ ليكون في ذكره تذكير لمن تأخر من المؤمنين: أن عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا عذر لهم في الامتناع عن القيام بما ذكرنا وإن نالهم من ذلك أذى ومكروه؛ بل الواجب عليهم الصبر على ما يصيبهم، والقيام بما يحق عليهم. أو ذكر ما لقي الأوائل من السلف من المعاداة والشدائد من الكفرة بإظهارهم دين الإسلام، ثم نلنا نحن هذه الرتبة، وأكرمنا بالهدى بلا مشقة وعناء؛ لنشكر لله تعالى بذلك

(31)

ونحمده عليه؛ لعظمة ثنائه لدينا، وجزيل مننه علينا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) فضحكهم يكون لأحد وجهين: إما على التعجب منهم أن كيف اختاروا متابعة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وحملوا أنفسهم في الشدائد، ورضوا بزوال النعيم عنهم من غير منفعة لهم في ذلك، وهم قوم كانوا لا يؤمنون بالبعث؛ فكانوا يكذبون بما وعد المؤمنون من النعيم في الآخرة؛ وكان يحملهم ذلك على التعجب؛ فيضحكون متعجبين منهم. أو كانوا يضحكون على استهزائهم بالمؤمنين، يقولون: إن هَؤُلَاءِ آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصدقوه فيما يخبرهم من نعيم الآخرة، ولا يعرفون أنه كذلك، وكانوا يجهلون المؤمنين على ما جهلوا بأنفسهبم، وظنوا أن لا بعث ولا جنة ولا نار. قال أبو بكر: المجرم: هو الوثاب في المعاصي. وذكر أبو بكر أن في ذكر صنيع الكفار بالمؤمنين دلالة رسالة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أنهم كانوا يضحكون من المؤمنين، ويتغامزون، وينسبونهم إلى الضلال سرا من المسلمين، فأطلع اللَّه - تعالى - نبيه - عليه السلام - على ما أسروا من الأفعال؛ ليجعل لهم من أفعالهم حجة عليهم لنبوته ورسالته، عليه السلام. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) قَالَ بَعْضُهُمْ: لاهين، أو معجبين بحال المؤمنين، أو مسرورين، كما قال - تعالى -: (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) يجوز أن يكونوا نسبوهم إلى الضلال؛ لتركهم دين آبائهم، ورأوا ما اختاروه من تحمل الشدائد، ورضوا بضيق من العيش ضلالًا منهم. وقوله: (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) أي: لم يرسلوا بحفظ أعمال المسلمين؛ فيكون في ذكر هذا تسفيه أحلامهم، وهو أنهم تركوا النظر في أحوال أنفسهم، وجعلوا يعدون على المسلمين عيوبهم كأنهم أرسلوا عليهم حفاظا، وما أرسلوا. أو يكون هذا إخبارا عن الكفار أنهم يقولون: ما أرسل على أحد حافظ يحفظ عليه

(34)

أعماله؛ فيكون هذا على الإنكار منهم بالكرام الكاتبين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) يكون ضحكهم على المجازاة للكفرة بما كانوا يضحكون منهم في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) منهم من وقف على قوله: (عَلَى الْأَرَائِكِ). ومنهم من رأى موضع الوقف على قوله: (يَنْظُرُونَ). فإذا وقفت على قوله: (عَلَى الْأَرَائِكِ)، كان معناه: أنهم ينظرون: هل جوزي الكفار ما أوعدهم الرسل في الدنيا أو لا بعد؟ وإذا وقفت على قوله: (يَنْظُرُونَ)، كان قوله - تعالى -: (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ... (36) أي: قد جوزي الكفار ما كانوا يفعلون، فهم ينظرون كيف يعاقبون. ثم القول: أن كيف احتملت أنفسهم النظر إلى الكفار بما هم فيه من التعذيب، والمرء إذا رأى أحدا في شدة العذاب، لم يحتمل طبعه ذلك، ونغص عليه العيش؛ فجائِز أن يكون اللَّه - تعالى - أنشأهم على خلقة لا تقبل المكاره ولا تجدها؛ بل تنال اللذات كلها والمسار. أو ارتفع عنهم المكروه؛ لبلوغ العداوة بينهم وبين أهل النار غايتها، وكذلك يرى المرء في الشاهد إذا عادى إنسانا واشتدت العداوة فيما بينهما، ثم رآه يعذب بألوان العذاب، لم يثقل عليه ذلك؛ بل أحب أن يزاد منه. ثم جائز أن يرفع إليهم أهل النار إذا اشتاقوا النظر إليهم، فيرونهم. أو يجعل في بصرهم من القوة ما ينتهي إلى ذلك المكان. ثم ذكر بعضهم أن هذه السورة مكية. ومنهم من ذكر أنها نزلت بين مكة والمدينة، وهي مكية. ومنهم من ذكر أن أولها مدنية وآخرها مكية، واللَّه أعلم. * * *

سورة الانشقاق

سُورَةُ الانْشِقَاقِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ. وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) هو جواب سؤال تقدم؛ لما ذكرنا أن حرف (إذا) حرف جواب، وليس بحرف ابتداء؛ فكأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ملاقاة الأعمال متى وقتها؟ فقال - تعالى -: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) فذلك وقت ملاقاة الأعمال. وقيل: ذكر في الخبر أن أخوين أحدهما مسلم، والآخر كافر، قال للمسلم: أترانا بعد الموت مبعوثين؟ فقال له: بلى، والذي خلقك والجبلة الأولين؛ فنزلت هذه السورة تبين لهم وقت بعثهم: أنه عند انشقاق السماء ومد الأرض ونحوه. ثم ذكر الجواب في ابتداء السورة؛ ليكون المرء أذكر لها؛ لأنه يكون أوعى لها وإذا ذكر في وسط السورة، لم يتحفظ إلا بالتلاوة؛ ولهذا المعنى - واللَّه أعلم - جعلت " الم "، و " المر " و " كهيعص " و " طه " رءوس السور؛ لأن الكفرة كانت من عادتهم الإعراض عن القرآن وترك الاستماع إليه ليفهموه، فابتدئت السور بما ذكرت من الرموز والإشارات؛ ليحملهم ذلك على التفكر فيه والنظر؛ إذ لم يكن سبق منهم العلم بمعرفة ما يواد من قوله: " الم " و " الر " ثم ذكر انشقاق السماء ومد الأرض وإلقائها لما جعل فيها؛ ليعرفوا شدة ذلك اليوم؛ فيخافوه، ويستعدوا له. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)، قيل: سمعت لربها، وأطاعت

وأجابت إلى ما دعيت إليه. ثم المراد من الإذن مختلف؛ فحقه أن يصرف كل شيء إلى ما هو الأولى به؛ ألا ترى أنك إذا قلت: " أذن الرجل لعبده في التجارة "، فلست تريد بقولك: " أذن "، ما تريد به إذا أذنت لغيرك أن يتناول من طعامك، بل تريد بالإذن للعبد الأمر بأن يتجر، حتى لو لم يفعل، تلومه على ذلك، وتريد بالآخر إباحة التناول؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، وقال في موضع آخر: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، فكان المراد من الإذنين مختلفا؛ فثبت أن حقه أن نحمله إلى ما إليه أوجَهُ، وهو إلى الطاعة والإجابة هاهنا أوجه؛ لذلك حملوه عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحُقَّتْ)، أي: حق لها أن تسمع وتطيع. وجائز أن تكون الإجابة منصرفة إلى أهلها، ثم نسب إليها ذلك وإن كان المراد منه الأهل؛ كقوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا)، ولا يوجد من القرية عتو، وإنَّمَا يوجد من أهلها، فإن كان كذلك، ففيه أنه لا يتخلف أحد من الإجابة إلى ما دعاه إليه الرب - تعالى - خلافا على ما كانوا عليه من الدنيا، فإن كثيرا من أهل الدنيا، أعرضوا عن طاعته، واشتغلوا بمعصيته. ثم الإجابة والطاعة والطوع والكره، ومثل هذه الأوصاف إذا أضيقت إلى من هو من أهل الاختيار، فهي على الطوع المعروف والإجابة المعروفة، وإذا أضيفت إلى من ليس هو من أهل الاختيار فهو على تغيير الهيئة؛ على ما عليه الخلقة، نحو الأرض توصف بالحياة؛ إذا أنبتت، وتوصف بالموت؛ إذا يبس ما عليها، وصارت متهشمة؛ فيراد بها: أنها صارت بهيئة لو وجدت تلك الهيئة في الروحانيين لصار أحدهما علما لحياته، والآخر علما لوفاته، وقال - تعالى -: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)، وقوله - تعالى -: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)

(3)

وهما لا يوصفان بطوع ولا إكراه، ولكن خلقتا على هيئة لو وجدت تلك الهيئة فيمن وصف بالطوع والإكراه، كان ذلك منه طوعا. وقال إبراهيم - عليه السلام -: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ)، وهي في الحقيقة لا تضل، ولكنها أنشئت على هيئة لو كانت تملك الإضلال، لعد ذلك منها إضلالا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) قيل: بسطت، وسويت بكسر الشعاب والأودية بالجبال، أو بما شاء؛ فصارت: (قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) أي: ألقت ما وضع فيها من الموتى والكنوز؛ فتخلت عنها؛ فنسب التخلي إليها، وإن كان من فيها هو الذي خلا عنها، وكانت هي الحابسة؛ لأنه إذا خلا عنها خلت هي عنه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) الكادح: هو الساعي، وهو الذي اعتاد ذلك، وهذا في كل الإنسان، تراه أبدا ساعيا إما في عمل الخير أو عمل الشر، أو فيما ينفعه أو فيما يضره، حتى لو هم بترك السعي لم يقدر؛ لأن تركه السعي نوع من السعي. وروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال حين تلا هذه الآية: " أنا ذلك الإنسان " فهذا ليس أنه هو المخصوص بالخطاب؛ لأنه بين الإنسان، فقال: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)، ولا يجوز أن يكون هو المراد بهذا كله، فكل أحد على الإشارة إليه مراد بقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ)، فلذلك قال النبي - عليه السلام -: " أنا ذلك الإنسان ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا) وجائز أن يكون معناه: أن اجعل كدحك إلى ربك في أن تسعى في طاعته وطلب مرضاته؛ فإنك ملاقيه لا محالة؛ أي: تلاقي جزاء عملك: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وجائز أن تكون الملاقاة كناية عن البعث؛ إذ البعث قد يكنى عنه بلقاء الرب، قال اللَّه - تعالى -: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ)، وسمي ذلك اليوم: يوم المصير

(7)

إلى اللَّه - تعالى - ويوم البروز بقوله - تعالى -: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا). ووجه التسمية بهذه الأسامي ما ذكرنا: أن المقصود من خلق العالم العاقبة؛ فسمي: بروزا؛ لما للبروز أنشئ، وسمى: مصيرا إلى اللَّه تعالى؛ لمصيرهم إلى ما له خلقوا، وإن كان الخلق كلهم بارزين له قبل ذلك، ولم يكونوا عنه غائبين؛ فيصيرون إليه خصوصا لذلك اليوم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) فسماه: حسابا، يسيرا؛ لوجوه: أحدها: أن المؤمن اعتقد تصديق الرب في كل ما دعاه إليه، وإذا كان على التصديق سهل عليه تذكر ما قد عمله بتفكر الجملة. ووجه آخر: أنه إذا نظر في كتابه رأى حسناته مقبولة وسيئاته مغفورة له، فسمي ذلك اليوم: يسيرا له؛ لما أثبت فيه من الخيرات، ومُحي عنه من السيئات، كما سميت الخيرات: يسرى، وسمي ما يجري عليها: يسرى أيضا، فكذلك من أوتي كتابه بيمينه يجري عليه الخير؛ فسمي: حسابا يسيرا. وجائز أن يكون المسلم يحاسب في أن يذكر ما أنعم اللَّه عليه في الدنيا، ولا يحاسب حساب توبيخ وتهويل؛ بأن يقال له: لم فعلت كذا؟ والكافر يسأل سؤال توبيخ، فيقال له: لم فعلت كذا؟! على الإنكار منه لما فعل، وفي ذلك تعسير عليه. وروي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من نوقش الحساب فهو معذب "، وفي بعضها: " من حوسب عذب " قالت: قلت: يا رسول اللَّه، ألم يقل اللَّه تعالى: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا. وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا)؟ قال: " يا عائش، ذاك العرض، ولكن من نوقش أن حساب هلك ". قال الفقيه - رحمه اللَّه -: في ظاهر قوله - عليه السلام -: " من نوقش الحساب عذب " دفع لما قالته عائشة - رضي اللَّه عنها - لأن الفهم من قوله - عليه السلام -: " من نوقش الحساب " غير الفهم من قوله - تعالى -: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)؛ فليس في ظاهر قوله

(9)

جواب لها؛ فكان الظاهر من الكلام الأول على ما فهمته عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ولكن وجه الجواب فيه: أن قوله - عليه السلام -: " من حوسب عذب "، وقوله - عز وجل -: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ) ليس على كل حساب، وإنما هو على الحساب الذي لا يناقش فيه، فأما الذي هو عرض فليس مما يعذب عليه؛ فيكون فيه إبانة أنه لا يفهم بالخطاب العام عموم المراد كما فهمته عائشة - رضي اللَّه عنها - بل يجوز أن يكون الخطاب عاما، والمراد منه خاصا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وقال في شأن الذي أوتي كتابه وراء ظهره (وَيَصْلَى سَعِيرًا. إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)! فهذا لأن المسلم إنما تأهل على قصد تحصيل النفع لنفسه في العاقبة، وتكون معينة له على أمور الآخرة؛ فحصل له ذلك النفع بإحرازه السرور الدائم بذلك، والكافر تأهل للمنافع الحاضرة وسر بها سرورا، وأنساه السرور أمر العاقبة؛ فحق عليه العذاب؛ لتركه السعي للآخرة، لا لسروره بأهله، وهو كقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ. . .) الآية، والكل منا يريد العاجلة ولا بد له منها، لكن الذي يصلى جهنم هو الذي ابتغى العاجلة ابتغاء أنساه ذلك عن الآخرة، فكذلك المسرور بأهله إنما حلت به النقمة؛ لما منعه السرور عن النظر للعاقبة، لا لنفس السرور؛ إذ كل متأهل لا يخلو عن السرور بأهله، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فالإيتاء من وراء الظهر يحتمل وجهين: أحدهما: أن استقذر منه؛ لخبث منظره؛ فأوتي من وراء ظهره؛ مجازاة له بما سبق من صنعه، وصنعه أنه نبذ كتاب اللَّه وراء ظهره، وترك أوامره ونواهيه كذلك وراء ظهره؛ فجوزي - أيضا - بدفع كتابه وراء ظهره، ودفع إلى المؤمن كتابه بيمينه؛ لما في كتابه من المحاسن والبركات، واليمين أنشئت؛ لتستعمل في البركات وأنواع الخير، وسميت - أيضا - باسم مشتق من اليمن والبركة، والشمال جعلت لتستعمل في الأقذار والأنجاس، فدفع كتابه من خبث عمله إليه بشماله أيضا أو من وراء ظهره. ولأن أهل الإيمان قبلوا أمر اللَّه - تعالى - ونواهيه واستقبلوها بالتعظيم والتبجيل، ومن أراد تعظيم الآخر في الشاهد وتبجيله، أخذه بيمينه، فجوزوا في الآخرة بالتعظيم لهم

(11)

بأن أوتوا كتبهم بأيمانهم، وأما الكافر فإنه استخف بأمر اللَّه - تعالى - وطاعته، فجوزي في الآخرة بأن أوتي كتابه بشماله التي تستعمل في الأقذار؛ إهانة له وتحقيرا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) الثبور والويل حرفان يتكلم بهما عند الوقوع في المهالك؛ فيكون في ذكر الثبور ذكر وقوعه في المهلكة التي يحق له دعاء الثبور والويل على نفسه، دعا به أو لم يدع؛ على سبيل الكناية عن الوقوع في الهلاك، وهو كقوله - تعالى -: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا)، فالضحك كناية عن السرور، والبكاء كناية عن الحزن؛ فمعناه: أنه يستقبله ما يحزن له طويلا، كان هناك بكاء أو لم يكن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى ... ) فيه دلالة أنه إنما حل به ما ذكر من العذاب؛ لأنه كان للبعث ظانا، ولم يكن به متيقنا؛ وكذلك اللَّه - سبحانه وتعالى - حيث قسم الوعد والوعيد بين الفريقين ذكر في آخره ما يبين أن الذي أوعد بالعذاب هو المكذب، وذكر الوعيد هاهنا وبين أن الذي يحل به هذا الوعيد هو الذي كان ظانا بالميعاد ولم يكن متحققا، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ. . .)، إلى قوله: (ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)، فبين أن الوعيد في المكذبين، وقال - تعالى -: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ... ) إلى قوله: (فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ)؛ ليعلم أن الوعيد الدائم في المكذبين خاصة؛ فيكون فيه دفع قول المعتزلة: إن أهل الكبائر يخلدون في النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) أي: كان بصيرا بما سبق من أعماله الخبيثة؛ فيحاسبه على علم منه بما كسبت يداه، ويعذبه على علم منه باكتساب ما استوجب من العذاب، خلافا لأمر ملوك الدنيا: أنهم يحاسبون على تذكير الغير لهم ما عليه من الحساب، ويعذبون على تعريف الغير لهم ما استوجب به التعذيب، لا على علم منهم بذلك. أو يكون معناه: أنه كان به بصيرا في الأزل: أنه ماذا يعمل إذا أنشأه؟ وإلى ماذا ينقلب أمره: إلى النار أو إلى الجنة؟ فخلقه على علم منه أنه يعادي أولياءه، ويعمل بمعاصيه. ولقائل أن يقول بأن المرء في الشاهد لا يشرع في الأمر الذي يعلم أنه في العاقبة يضره ولا ينفعه، ولو شرع فيه، وأتمه كان مذموما عند الناس، ولم يكن محمودا، فأي حكمة

(16)

في إنشاء عدوه وهو عالم أنه يسعى في معاداته؟!. فجوابه - واللَّه أعلم -: أن الذي يشرع في الأمر الذي علم أن إتمامه يضره ولا ينفعه، إنما لحقته المذمة؛ لما سعى في إضرار نفسه، فأما الذي أعرض عن إطاعة اللَّه - تعالى - وكفر به فإنما اكتسب الضرر على نفسه خاصة بأن أوقعها في المهالك، ولم يضر غيره؛ لذلك لم تلحقه المذمة في خلقه وإنشائه، وفي هذا دلالة أن اللَّه - تعالى - حيث خلق الخلق لم يخلقهم لمنفعة له ولا لمضرة تلحقه من جهتهم؛ بل منافعهم ومضارهم راجعة إلى أنفسهم، واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25). وقوله - تعالى -: (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) منهم من حمل قوله: (فَلَا) على دفع منازعة وقعت فيما بين القوم؛ على ما نذكر في سورة (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) إن شاء اللَّه، وإنما القسم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُقْسِمُ). ومنهم من جعل " لا " بحق الصلة. فإن كان على الوجه الأول، لم يجز حذف " لا " من الكلام؛ بل حقه أن يقرأ (فَلَا أُقْسِمُ). وإن كان بحق الصلة استقام حذفه، كما قرأ بعض القراء: (فَلَا. أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ). ثم الشفق هو أثر النهار، فجائز أن يكون القسم واقعا على النهار كله، وإن كان ذكر طرفا منه. والثاني: أن الشفق يجتمع فيه أثر النهار -وهو النور الذي فيه- وأثر الشمس -وهو الحمرة التي تكون فيه- فيكون القسم واقعا على النهار بما فيه، كما كان واقعا على الليل بما فيه؛ لقوله: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ)؛ فيكون فيه حجة لقول أبي حنيفة - رضي الله عنه -: إن وقت العشاء لا يدخل حتى يغيب البياض؛ لأن وقتها يدخل بغيبوبة الشفق، والشفق وجدناه مشتملا على البياض والحمرة، فما لم يتم الغيبوبة لم يهجم وقتها؛ ألا

(17)

ترى أن الصلاة التي تلي الغروب لا يدخل وقتها حتى يتم غروب الشمس، فعلى ذلك الصلاة التي تلي غروب الشفق لا يدخل وقتها حتى يتم الغيبوبة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَسَقَ)، أي: وما ساق وحمل معه من الظلمة والنجم والدابة، وغير ذلك. والوسق: الحمل، يقال: وسق بعير، أي: حمل بعير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: وسق، أي: جمع وساق كل شيء إلى مأواه من الطير والسباع، فذكر النهار والليل؛ لما فيهما من المنافع. وقوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) فالاتساق: الاجتماع، ومعناه: استوى، وكمل؛ إذ ذلك اجتماعه، وذلك في ليالي البيض. وقال أبو بكر الأصم: معناه: أنه جُمع وسوي بعد أن كان كالعرجون القديم فيذكرهم قوته؛ ليعلموا أنه قادر على بعثهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) قرئ بنصب الباء ورفعها، وكلا القراءتين في المعنى واحد، وإن كان في الظاهر إحداهما للجمع والأخرى للوحدان، وإحدى القراءتين بحرف الجمع ليذكر بالرفع، فإن قوله: (لَتَرْكَبُنَّ) منصرف إلى كل إنسان في نفسه خاصة لا على الاقتصار على شخص واحد؛ لما ليس في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ)، إشارة إلى شخص بعينه، ولكن المراد منه الجملة؛ فثبت أن الخطاب منصرف إلى الجملة. ثم قوله: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) قيل: حالا بعد حال. ثم جائِز أن يصرف إلى دار الآخرة، فكأنه قال: لتركبن حال الآخرة بعد حال الدنيا؛ فيكون فيه تصريح القول على إيجاب البعث. ويحتمل أن يكون ذلك في الدنيا، فينتقل إلى حال المضغة بعد كونه مضغة، وإلى حال العلقة، وإلى حال الطفولة، إلى أن يبلغ أشده، فلا يزال يركب حالة بعد حالة؛ فيكون في تنقله من حال إلى حال إبانة أنه لم يرد من إنشائه أن تتغير عليه الأحوال فقط، بل أريد به العاقبة التي بها صار إنشاء الخلق حكمة لا عبثا؛ فيكون قوله: (لَتَرْكَبُنَّ) منصرفا إلى كل

(20)

إنسان في نفسه خاصة، لا على الاقتصار على شخص واحد؛ لما ذكرنا. ومنهم من قال: إنما أراد بهذا الخطاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ذكر عن ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - لكن قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَتَرْكَبَنَّ يا مُحَمَّد. وقال ابن عَبَّاسٍ: لتركبن السماء حالا بعد حال. فإن كان التأويل على ما ذكره ابن مسعود، ففيه بشارة له بإسلام قومه، وإجابتهم له؛ فيقول: إنهم سيطيعونك ويصيرون لك أنصارا بعد صدهم الناس عن الإيمان وجفوتهم إياك. ومن قال: لَتَرْكَبَنَّ سماء بعد سماء، فيقول: ذلك ليلة أسري به. والتأويل الأول أقرب؛ لأن موقع القسم في قوله: (لَتَرْكَبُنَّ)، والإسراء لم يكن يعرفه قومه حتى يكون في ذكره دفع الاشتباه عن أُولَئِكَ القوم، فأما ظهور الإسلام وعلو النبي على أعدائه فمما يشاهده الناس؛ فيتحقق في الآخرة ما أخبر النبي - عليه السلام - عن الغيب؛ فيكون تأكيدا لرسالته؛ فلذلك قلنا: إن الحمل على المعنى الأول أحق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) الأصل أن كل من اعتقد مذهبا فإنما يعتقده لحجة تقررت عنده، أو شبهة اعترضت له، ظنها حجة، فأما أن يعتقده حرامًا، فليس يفعله، فقال اللَّه تعالى في هَؤُلَاءِ: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)، أي: أي حجة لهم تمنعهم عن الإيمان باللَّه - تعالى - وبرسوله، وتدعوهم إلى الشرك والتدين به. ثم قد ذكرنا أن ما خرج مخرج الاستفهام من اللَّه - تعالى - فحقه أن ينظر ما يقتضي ذلك الكلام من الجواب أن لو كان من مستفهم؛ فيحمل الأمر عليه، وحق جواب هذا الكلام أن نقول: لا شيء يمنعه عن ذلك؛ فقوله: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)، أي: لا حجة لهم فيما اختاروا من الشرك، وإنما يتدينون به تشهيا وتمنيا؛ فيكون هذا على النفي في أن لا حجة لهم. أو كأنه يخاطب رسوله - عليه السلام - فيقول: سلهم لماذا لا يؤمنون؟ وإذا سألهم لم يجدوا لأنفسهم حجة في الإعراض عن الإيمان؛ فيرجع الأمر إلى ابتغاء الحجة أيضا. ثم المعتزلة احتجت علينا بهذه الآية في تثبيتهم القدرة قبل الفعل، وزعمت أنه لو لم

(21)

يكن أعطي قوة الإيمان، لم يكن يعاتب على تركه؛ لأنه لا عذر للعبد أعظم من أن يقول إذا قيل له: لم لا تؤمن؟ فيقول: لأني لم أقدر عليه. ولأن قوله - تعالى -: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) حرف تعجيب، ولو كانت القوة ممنوعة قبل الفعل، لكان له أن يقول: إنما لم أؤمن؛ لأني منعت عنه؛ فيرتفع عنه التعجيب؛ فدل أنه أعطي القوة؛ فلم يبق له في التخلف عن الإيمان عذر. والجواب عن الفصل الأول: أن الكافر إنما لحقته كلفة الإيمان؛ لأنه هو الذي ضيع القوة باختياره فعل الكفر، وإنما ترتفع الكلفة إذا منعت عنه الطاقة، فأما إذا كان هو الذي ضيعها، فالكلفة عليه قائمة. والأصل أن القدرة في الصحيح السليم تحدث تباعا على قدر حرصه على العبادة وميله إليها. ثم العبد متى اشتغل بفعل صار مضيعا لضده من الأفعال، لا أن كان ممنوعا من الفعل الذي هو ضد هذا؛ فلذلك إذا آثر الكفر، وأتى به، فقد صار باختياره الكفر مضيعا لقوة الإيمان، لا أن صار ممنوعا عنها؛ لذلك لحقته كلفة الإيمان. وأما ما ذكر من أمر التعجيب فقد وصفنا وجه التعجيب في ذلك، وهو أنهم لم يلزموا الكفر بحجة دعتهم إلى القول به، والمرء إذا قلد مذهبا -قلده لا عن حجة وبرهان- تعجب الخلق باختيارهم الكفر لا عن حجة. ثم لو كان الأمر على ما ظنت المعتزلة: أن اللَّه - تعالى - قد أعطاهم جميع أسباب الهداية، ولم يُبْقِ في خزانته شيئا منعه عنهم، لكان التعجب راجعا إليه، لا إلى الذين لم يؤمنوا، فيقول: ما لي لا أصل إلى هدايتهم، ولم يَبْق عندي شيء به هدايتهم إلا وقد أعطيتهم، لا أن يعجب الخلق من صنعهم؛ فليس الذي اختاروه في القول سوى وصفهم رب العالمين بالعجز، والعاجز لا يصلح أن يكون ربًّا، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) منهم من صرف التأويل إلى سجود الصلاة، والمراد منه عندنا: سجود التلاوة، وهو سجود الاستسلام والخضوع على الشكر؛ لما أكرم المرء به من الإيمان وهدى اللَّه؛ لأن سجود الصلاة يكون عند فعل الصلاة، لا عند ذكر التلاوة. ثم في الآية دلالة وجوب السجدة على السامع؛ لأنهم عوتبوا بتركهم السجود عندما

(22)

يتلى عليهم، وقرعوا به، والتقريع يجري في ترك اللازم، لا في ترك ما ليس عليه. ولأن المعنى الذي له وجب السجود على التالي قائم في السامع؛ إذ التالي إنما لزمه السجود؛ لما ذكر من آيات اللَّه - تعالى - وقامت عليه من الحجج؛ فلزمه أن ينقاد لها ويخضع، والسامع قد قامت عليه الحجج؛ فيلزمه أن يخضع لها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم يكذبون رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام؛ فيحملهم ذلك على التكذيب بالقرآن؛ لأنهم إذا كذبوا رسالته لم يصدقوه فيما يأتي من الأخبار، لا أن يكون في الأخبار معنى يحملهم على التكذيب؛ بل القرآن يحملهم على التصديق والإيمان لو أنعموا النظر فيه، وبذلوا من أنفسهم الإنصاف. أو يكون معناه: أن الذين كفروا هم المكذبون؛ فيكون الكفر منهم تكذيبا، والتكذيب منهم كفرا. وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) يحتمل أوجها: أحدها: ما يضمرون من الكيد والمكر برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فاللَّه أعلم بكيدهم، لا يتهيأ لهم أن ينفذوا كيدهم فيه إلا ما كتب اللَّه عليه؛ فيكون فيه بشارة له بالنصر والتأييد. والثاني: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ) في قلوبهم من التصديق، ويظهرون من التكذيب بألسنتهم، وإنما يوعون من التكذيب بألسنتهم وقلوبهم معا، وذلك أن البعض منهم كان قد أيقن برسالته؛ فكان يصدقه بقلبه، ويكذبه بلسانه على العناد منه والتمرد. ومنهم من لم يكن عرف صدقه بقلبه؛ لما ترك الإنصاف من نفسه بإعراضه عن النظر في حجج ألله - تعالى - فكان يكذبه بقلبه ولسانه جميعا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) البشارة إذا فسرت، استقام حملها على الحزن والسرور جميعا، وأما البشارة المطلقة إنما تستعمل في موضع إدخال الفرح والسرور في القلب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... (25) جائز أن يكون هذا منصرفا إلى كل من آمن. وجائز أن يصرف إلى من آمن من الذين كانوا يوعون ما ذكرنا. وقوله: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) نذكره في سورة " وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ "، إن شاء اللَّه تعالى. * * *

سورة البروج

سُورَةُ الْبُرُوجِ، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * * * قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ)، فقوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) على القسم، وكذلك ما ذكر عقيبه. ثم اختلف في موضع القسم في هذه السورة: فمنهم من ذكر أن القسم لمكان قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ). ومنهم من يقول: القسم موضعه على قوله: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)، وهو أشبه؛ لأنه في موضع الاحتجاج على الكفرة. ولو حمل القسم على قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ)، كان ذلك منصرفا إلى المؤمنين، والمسلمون قد تيقنوا بصدق ما يأتي به الرسول من الأنباء، والقسم يذكر على تأكيد ما يقصد إليه؛ ليزال عنه الريب، فإذا كان المسلمون غير مرتابين في نبئه استغنوا عن تأكيده بالقسم؛ فلذلك قلنا: إن صرفه إلى قوله - تعالى -: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)، أليق؛ فيكون فيه تحذير لمن كذب رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن بطشه لمن كذب رسوله لشديد، وقد علموا ذلك بما وصل إليهم من نبأ عاد، وثمود، وفرعون، وغيرهم. وجائز أن يكون موضع القسم على قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ)، وذلك أن أهل مكة كانوا أهل تعذيب لمن آمن بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فكان في ذكر ما نزل بالمتقدمين من الفراعنة من العذاب، وصبر أُولَئِكَ المعذبين على دينهم، وضنهم به، وحسن ثناء اللَّه - تعالى - عليهم تصبير لهم، وتهوين على ما يلقون من العذاب؛ لينالوا من حسن ثناء اللَّه -

تعالى - عليهم ما ناله من صبر من تقدمهم من السلف. وكذلك ذكر سحرة فرعون، وأحسن الثناء عليهم بصبرهم على تعذيب فرعون، فقالوا: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)؛ ليكون ذلك عونا لهم على الصبر بما يلقون من الكفرة من التعذيب، ثم أكد الأمر بالقسم؛ لأنه لا كل مسلم يبتلى بتعذيبهم يبلغ يقينه مبلغا لا يعتريه الشك، ولا يتخالجه شبهة في ذلك؛ فأكد الأمر بالقسم؛ لرفع الريب والإشكال. وقال - تعالى -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)، وفي بعض القراءات: (قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)، (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا)، فذكّر المؤمنين ما لقي السلف من الكفرة، وابتلوا بقتل الرسل وثباتهم على الدِّين؛ ليستعينوا به على ما يصيبهم في سبيل اللَّه، ولا ينقلبوا على أعقابهم إذا أخبروا بقتل الرسول. وفي ذكر هذه الأنباء دلالة أن قول الرسول - عليه السلام - لعمار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إن عادوا فَعُدْ " حين أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه، فأجرى وقلبه مطمئن بالإيمان - ليس على الأمر به والإيجاب عليه، والتحصيل بطريق العزم؛ بل معناه: إن عادوا فلك العود؛ على سبيل الرخصة؛ لأنه لو كان على الأمر، لم يكن في ذكر نبأ أصحاب الأخدود وسحرة فرعون فائدة، سوى أن يترك العمل بهما، ومعلوم أن تلك الأنباء إنما ذكرت؛ ليعمل بها لا ليترك بها العمل؛ لذلك حمل قوله: " فَعُدْ " على الرخصة، لا على الأمر به، ويكون المراد من قوله - عليه السلام - أيضا: " من لم يقبل رخصنا كما يقبل عزائمنا فليس منا "، أي: لم ير العمل به موسعا بل استنكره، وأبى قبوله، لا أن يكون فيه أمر بترك العزيمة وإيجاب العمل بالرخصة، واللَّه أعلم. ثم نرجع إلى قوله - تعالى -: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ). فقَالَ بَعْضُهُمْ: هي البروج المعروفة، وهي أطراف البناء، وإذا بني بناء اتخذ على طرفه برج؛ ليشدد بناؤه به. ومنهم من قال: البروج: القصور. ومنهم من قال: البروج: النجوم؛ لقوله: (جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ)

(2)

وزينة السماء هي الكواكب بقوله: (بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ). ومنهم من قال: هي مجاري الشمس والقمر والكواكب، فمنازلها هي البروج. ثم ذكر السماء بالبروج؛ ليعرف حدثها ودخولها تحت تدبير الغير؛ إذ ذكرها بالمنافع المجعولة فيها؛ ليعلم الخلق أنها سخرت للمنافع؛ فيعرفوا بها حدثها؛ إذ المسخر لمنافع الغير داخل تحت قدرة من سخره، والمقدور محدث، وهم لم يشهدوا بدأها؛ ليعرفوا به حدثها، ولا كل أحد يعرف حدثية الشيء؛ لكونه محدودا في نفسه إذا لم يشاهدوا بدأه، فذكرها حيث ذكرها بما فيها من المنافع المجعولة للخلق؛ إذ ذلك أظهر وجوه الدلالة على الحدثية؛ ليعلموا بها حدثها؛ ألا ترى أن إبراهيم - عليه السلام - احتج على قومه بنفي الإلهية عن الكواكب بأفولها؛ إذ ذلك أظهر وجوه الحدثية، ولم يحتج عليهم بانتقالها من موضع إلى موضع، ولا بكونها محدودة في نفسها؛ بل احتج عليهم بما ذكرنا؛ ليتحقق عندهم حدوثها ودخولها تحت سلطان الغير. وقوله: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) قيل: هو يوم القيامة؛ فسمي: موعودا؛ لما وعد من جميع الأولين والآخرين في ذلك اليوم، ثم أقسم بذلك اليوم وإن كانوا منكرين له؛ لما قرره عليهم بالحجج، وألزمهم القول به. وقيل: اليوم الموعود، هو كل يوم يأتي، فيأتي بما وعد فيه من الرزق وغيره، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) اختلف في تأويله: فمنهم من قال: الشاهد هو اللَّه تعالى، والمشهود هو الخلق، واستدل على ذلك بقوله: (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). وقيل: الشاهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والمشهود أمته؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ). ومنهم من يقول: الشاهد هو الكاتبان اللذان يكتبان على بني آدم أعمالهم، والمشهود هو الإنسان الذي يكتب عليه.

(4)

ومنهم من يقول: الشاهد والمشهود هو الإنسان نفسه؛ أي: جعل عليه من نفسه شهودا بقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). ومنهم من يقول: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة؛ فسمي يوم الجمعة شاهدا؛ لأنه هو الذي يشهدهم ويأتيهم، وسمي يوم عرفة: مشهودا؛ لأن عرفة اسم مكان، والناس يأتونها ويشهدونها، ولا يأتيهم؛ فعظم شأن عرفة لما يعظمها أهل الأديان كلها، وعظم يوم الجمعة؛ لأنه يوم عيد المسلمين، ولكل أهل دين يوم يعظمونه، فأكرم اللَّه - تعالى - المؤمنين بهذا اليوم؛ ليعظموه مكان اليوم الذي يعظمه غيرهم من أهل الأديان، فأقسم بهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) اختلف في تأويله: فمنهم من صرفه إلى المعَذَّبين. ومنهم من صرفه إلى المعَذِّبين. فمن صرف إلى المعَذِّبين حمل قوله: (قُتِلَ) على اللعن؛ أي: لعنوا؛ كقوله تعالى: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ)، أي: لعنوا. ومن صرفه إلى الذين عذبوا، حمله على القتل المعروف. ثم اختلف في قصة أُولَئِكَ الذين عذبوا؛ فإن كان القسم في الكفرة، فما ينبغي أن يفسر على وجه من ذلك ما لم يتواتر فيه الخبر عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، بل حقه أن يقتصر على ما جاء به الكتاب؛ لأن هذه الأنباء حجة لرسالة نبيه - عليه السلام - لأنهم وجدوها مواققة للأنباء المذكورة في كتبهم، وقد علموا أنه لم يصل إلى تعرفها إلا بالله تعالى؛ إذ لم يروه يختلف إلى من عنده علم الأنباء؛ ليصل إلى معرفتها بهم، فإذا فسرت على وجه أمكن أن يقع فيها زيادة أو نقصان على ما ذكر في الكتاب؛ فيجدوا به موضع الطعن والقدح؛ لذلك لم يسع أن يزاد على القدر الذي جرى ذكره في الكتاب إلا من الوجه الذي ذكرنا. وإِن كان القسم في المؤمنين، وسع القول بحمل التأويلات التي ذكرها أصحاب التفسير؛ لارتفاع المعنى الذي ذكرنا في الكفرة، واللَّه أعلم. ثم في ذكر هذه الأنباء تقرير رسالته ونبوته - عليه السلام - عند الكفرة؛ لما ذكرنا

(5)

أنه لم يختلف، إلى من عنده علم هذه الأنباء؛ ليعلم بها، فإذا أنبأهم بها على وجهها، تيقنوا أنه باللَّه تعالى علم. وفيه تصبير لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتخفيف الأمر عليه؛ لأنه يخبره أن قومك ليسوا بأول من آذوك وعاندوك، بل لم يزل سلفهم تلك عادتهم بأهل الإسلام. وفائدة أخرى: ما ذكرنا أن في ذكره بعض ما يستعين به من ابتلي بأذى الكفرة. وفيه أن أُولَئِكَ الكفرة بلغ من ضنهم بدينهم ما يقاتلون عليه من أظهر مخالفتهم في الدِّين؛ ليعلموا أن القتال لمكان الدِّين ليس بأمر شاق خارج من الطباع؛ بل الطباع جبلت على القتال مع من عاداهم في الدِّين؛ فيكون فيه ترغيب للمسلمين على القتال مع الكفرة إذا امتحنوا به، واللَّه أعلم. وقوله: (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) منهم من جعل الوقود من ألقي فيها من المؤمنين. ومنهم من جعل الوقود صفة تلك النار التي عذبوا بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) أي: عظماؤهم وكبراؤهم جلوس عند الأخدود؛ ففيه أن أتباعهم هم الذين كانوا يتولون إلقاء المؤمنين في النار، وكبراؤهم جلوس هنالك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الشهود هم العظماء والفراعنة. أو يكون منصرفا إلى الأتباع، وهو أن الأتباع كانوا يلقون المؤمنين في النار، ويشهدون أنهم على الضلال، وأنهم ورؤساؤهم على الهدى ولحق، وهو كما قال في موضع آخر: (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) ذكر (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ليعلم أنه لا يلحقه ذل بما يحل من الذل بأوليائه وأهل طاعته، ولا في حمده قصور بقهر أوليائه، خلافا لما عليه ملوك الدنيا، وذلك أن ملوك الدنيا إذا حل بأولياء واحد منهم ذل، كان الذل حالا فيه أيضا، وإذا قهر بعض أتباعه فترك نصرهم وهو قادر على نصرهم واستنقاذهم لم يحمد ذلك منه، ولحقته المذمة؛ وذلك لأن الملك إنما استفاد العز بأتباعه وأنصاره، فإذا استذل أتباعه، زال ما به نال العز؛ فلحقه الذل، ونال

الحمد - أيضا - بالإحسان إلى مملكته، فإذا ترك نصرهم وهو ممكَّن من ذلك، فقد ترك إحسانه إليهم؛ فصار به غير ممدوح ولا محمود، واللَّه - تعالى - استحق العز والحمد بذاته لا بأحد من خلائقه؛ فلم يكن في إذلال أوليائه ما يوجب النقص في وصف الحمد، ولا ما يوجب قصورا في العز. والثاني: أن الدنيا وما فيها أنشئت للإهلاك، ولعل الإهلاك بما ذكر أيسر عليهم من هلاكهم حتف أنفهم، وكان في ذلك النوع من الهلاك نيل درجة الشهداء، وهي التي ذكرها اللَّه - تعالى - في قوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ. . .) الآية، ولا ينال تلك الدرجة بموتهم حتف أنفهم، فهذا أبلغ نصرا منه إياهم. ثم للجزاء والعقاب دار أخرى فيها يظهر تعزيز الأولياء وقمع الأعداء؛ فلم يكن في ترك النصر في الدنيا ما يوجب وهنا ولا ذلا، وأما ملوك الدنيا إذا تركوا نصرهم وقت ملكهم لأوليائهم، لم يتوقع منهم النصر بعد ذلك؛ إذ ليست في أيديهم إلا المنافع الحاضرة؛ لذلك لحقتهم المذمة بترك النصر، واللَّه أعلم. ثم ليس في إهلاك أُولَئِكَ القوم الذين آمنوا واقتدارهم عليهم إيهام أنهم كانوا على الحق والصواب، وأن المؤمنين كانوا على الخطأ؛ لأن الإهلاك إنما يصير آية إذا كان على خلاف المعتاد، وإهلاكهم لم يكن كذلك؛ لأن عددهم كان كثيرا، وكان في المؤمنين قلة، وإهلاك الكثير للقليل غير مستبعد؛ بل هو أمر معتاد، وغلبة الفئة القليلة الفئة الكثيرة هي التي تخرج من حد الاعتياد؛ فيكون فيها آية: أن الفئة القليلة على الحق والأخرى على الباطل، وذلك نحو غلبة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر بمن معه من المسلمين مع قلة أعدادهم وضعفهم في أنفسهم، وكثرة أتباع الكفرة وقوتهم وجلادتهم في أنفسهم، والله أعلم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ)، أي: لم يكن من المؤمنين بمكانهم جرم لينتقم منهم بالإحراق سوى أن آمنوا باللَّه تعالى. وقيل: ما عابوا عليهم، وما أنكروا منهم سوى أن آمنوا باللَّه تعالى، وفي هذا تبيين سفههم وعتوهم؛ لأنهم علموا أن ما لهم من النعم كلها من اللَّه تعالى، وكان الذي يحق

(9)

عليهم أن يؤمنوا باللَّه - تعالى - ويشكروه بما خولهم من النعم، ويدعوا غيرهم إلى الإيمان به، لا أن يقتلوا ويعذبوا من آمن به. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) العزيز: هو الذي لا وجود له، أو هو عزيز لا يلحقه ذل؛ فيكون العز مقابل الذل. وقال أهل التفسير: العزيز: المنيع، والعزيز هو الذي لا يعجزه شيء، وهو الحميد المستوجب للحمد من كل أحد بذاته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (9). ذكر هذا؛ ليعلم أنه لا يدخل في ملكه قصور بقتل أوليائه وأنصار دينه؛ لأن الخلق كلهم عبيد لله - تعالى - وإماؤه، والسيد إذا قتل بعض مماليكه بعضا، لم يلحق السيد بذلك ذل ولا نقص، وإنما يدخل عليه الذل إذا قتلهم غير مماليكه، فإذا كان الخلق بأجمعهم عبيدًا لله - تعالى - لم يكن في قتل بعضٍ بعضًا نقص يدخل في ملكه. وقوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، أي: يحفظ عليهم أعمالهم؛ فيجازيهم بها، لا يعزب عنه شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) الفتنة: المحنة، وهي مأخوذة من فتن الذهب إذا أذابه؛ لأنه يذيبه؛ ليميز به بين ما خبث منه وبين ما صفا، وبين الذهب وبين ما ليس بذهب؛ فاستعملت في موضع المحنة؛ لأن المحنة هي الابتلاء؛ ليتبين بها الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، وذلك يكون بالأمر والنهي؛ فسمي الأمر والنهي من اللَّه - تعالى - امتحانا لهذا، وإن كان اللَّه - تعالى - لا يخفى عليه شيء. ثم وجه فتنتهم: أنهم اتخذوا الأخاديد وأوقدوا فيها النيران؛ ليلقوا فيها من ثبت على الإيمان ودام عليه، ويتركوا إلقاء من رجع عن دينه، فقيل: فتنوا؛ لهذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا): فيه أنهم لو تابوا لكان يعفى عنهم، ولا يعاقبون مع عظم جرمهم بربهم في ذات اللَّه - تعالى - فيكون فيه إظهار كرمه وعطفه على خلقه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ): منهم من صرف قوله:

(11)

(وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) إلى الدنيا، فقال بأن تلك النار التي عذبوا بها المؤمنين سلطت عليهم حتى أحرقتهم. وجائز أن يكون ذلك في جهنم أيضا؛ فيكون فيه إخبار بأن نار جهنم تدوم عليهم بالإحراق، ولا تفتر عنهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) منهم من صرف هذا الخطاب إلى الذين عذبوا من المؤمنين. ومنهم من صرفه إلى المعذبين، وهو أنهم لو آمنوا مع عظم جرمهم وإساءتهم بأولياء اللَّه - تعالى - لكان يعفو عنهم، وتسعهم رحمته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) فقوله: (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) يحتمل وجهين: أحدهما: من تحت أهلها. والثاني: من تحت أشجارها. والجنة: اسم للمكان الذي فيه الأشجار الملتفة؛ فيخبر أن الماء يجري من تحت ما به صار جنة وهي الأشجار، وليس يراد بقوله: تحت الجنة، أي: تحت تربتها؛ لأن تحتها تكون قناة أو بئرا، وليس بهما كثير نزهة. وقوله: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) الفائز هو الذي يظفر بما يأمل، وينجو عما يخاف، ويحذر، ووصف أنه كبير؛ لأنه ليس لما أنعم زوال ولا انقطاع. * * * قوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ. وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)، أي: أخذه للانتقام شديد، يشتد على الذي يعذب؛ كقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ). وقوله: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13). قَالَ بَعْضُهُمْ: يبدئ العذاب، ثم يعيده.

(14)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: يبدئ الخلق، ثم يعيده بعدما أماته. وقوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) الغفور: هو الستور يستر على المذنب ذنبه إذا تاب حتى لا يذكر به، ولولا ذلك لم يكن يصفو له نعيم الآخرة عن التنغيص. وقوله: (الْوَدُودُ): الذي يتودد إلى خلقه فيما ينعم عليهم ويحسن إليهم؛ قال النبي - عليه السلام -: " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها "؛ فجعل الإحسان سبب التودد. والثاني: أن كل من واد آخر، فالحق عليه أن يوده في اللَّه - تعالى - لأنه به نال ما به يتودد؛ قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)، فكأنه يقول: هو المستوجب للمودة من الخلق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) منهم من جعل المجيد نعتا للعرش. ومنهم من جعله نعتا لله تعالى. فمن جعله نعتا للعرش فهو مستقيم؛ لأنه وصفه في مكان آخر بالكريم بقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)، والمجيد يقرب معناه من معنى الكريم؛ لأن الكريم هو الذي عظم قدره وشرفه، والمجيد كذلك هو الشريف المعظم، وعظم قدر العرش في قلوب الخلق وعلا حتى زعم بعض الناس أنه مكان الرب تعالى، والكريم في الشاهد هو الذي يطمع عنده وجود ما يرجى ويؤمل، ويؤمن منه ما يتقى ويحذر، وسمى اللَّه - تعالى - النبات: كريما بقوله: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)؛ لما فيه من عظم المنافع، والكريم: هو النافع للخلق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) أي: ما يريد تكوينه يكونه؛ فيكون فيه إيجاب القول بخلق أفعال العباد، وأنه شاء لكل أحد ما علم أنه يكون منه؛ لأنه امتدح - جل وعلا - بالفعل لما يريد، ولو لم يثبت له صنع في أفعال العباد، لكان لا يختص بهذا الامتداح؛ بل يكون كل واحد مستوجبا لهذا المدح؛ فثبت أن كون حقائق الأشياء بما

(17)

لله - تعالى - فيه صنع. والثاني: أن إحداث شيء في سلطان آخر وفي مملكته من حيث لا يشاؤه ولا يريده آية الضعف والقهر، ومن ذلك وصفه، لم يجز أن يكون ربًّا؛ لذلك لزم وصف اللَّه - تعالى - بذلك. وجائز أن يكون قوله - تعالى -: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، أي: البعث، وهو أنه أنشأ هذا الخلق للعاقبة، وهكذا فعل كل مختار أنه يقصد بفعله العاقبة إلا أن يكون جاهلا بها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18). قد وصفنا ما في ذكر الأنباء من الفوائد، وقد ذكرنا أن فيها إثبات رسالته؛ على ما تقدم ذكره غير مرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) أي: كفروا أنعم اللَّه - تعالى - فهم في تكذيب بأنعم اللَّه تعالى. أو لما جحدوا أنعم اللَّه - تعالى - لم يوفقهم للإيمان به؛ فجعلوا على التكذيب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) أي: من وراء تكذيبهم محيط بما ينزل بهم من العذاب ليس يوعدهم عن غفلة وخيال كما يفعله ملوك الدنيا؛ قد يوعدون بالعذاب، ولا يدرون أنهم يتمكنون من ذلك أم لا؟ واللَّه - تعالى - ينزل عليهم عذابه كما أوعد. أو يكون قوله: (مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ)، أي: عالم بما يسرون ويخفون عن الخلق، لا يعزب عنه شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) سماه: مجيدا، وكريما، وحكيما، وهذه أوصاف من وصف بها في أن شاهد فإنما استحق الوصف بفعل وجد منه، ولا يوجد من القرآن فعل يستحق به الوصف، فالوصف به يحتمل أوجها: أحدها: (مَجِيدٌ)، أي: يصير من تبعه وعمل بما فيه مجيدا حكيما كريما؛ كقوله تعالى: (وَالنهَارَ مُبْصِرًا)، أي: يبصر به أو يكون قوله: (مَجِيدٌ)، و (كَرِيمٌ)، أي: على اللَّه تعالى. أو سماه: كريمًا، مجيدًا، حكيمًا؛ لعظم قدره.

(22)

أو سماه: كريمًا، حكيمًا، مجيدًا؛ لما يوجد منه ما يوجد من الكرماء والحكماء والأمجاد. وقوله: (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) منهم من حقق اللوح والقلم، وقد وصفه أهل التفسير. ومنهم من جعل اللوح عبارة عما يلوح -أي: يظهر- للملك من الأمر، لا على تحقيق اللوح، وسمت الباطنية القلم: المبدع، الأول، واللوح: المبدع الثاني، وجعلوا المبدع الأول علة كون المبدع الثاني، وزعموا أن المبدع الأول بذل له إنشاء المبدع الثاني، فهو المنشئ له، وسمت المبدع الأول: بارئا، والمبدع الثاني: خالقا ورحمانا، وسمت الفلاسفة المبدع الأول: عقلا والثاني: نفسا، ثم حدث التوالد من الأنفس. فأما جعلهم الأول أصلا وعلة ليس كما ذكروا، فذلك يحتمل أن يجعل الأول أصلا للثاني وعلة كما استقام أن تجعل النطفة أصلا لخلق البشر، ولكنه لا يجوز أن يسمى بواحد من الاسمين اللذين ذكرتهما الباطنية والفلاسفة؛ لأنه لا يجوز إنشاء الأسماء لهذه الأشياء اختراعا، بل تسميهما بما جاءت بهما التسمية من عند الحجة، وإنما جاءت التسمية من عند الحجة باللوح والقلم؛ فلا تسميهما بغيرهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَحْفُوظٍ)، أي: عن أعدائه؛ فلا يتمكنون من تغييره وتبديله. وأخبر أنه أنزل إليه على يدي رسول قوي؛ فلا يقدر أحد أن يغلبه؛ فيحرف ما فيه. ووصفه بالأمانة في نفسه بقوله: (ذِي قُوَّةٍ. . .) إلى قوله: (أَمِينٍ)،؛ ليؤمن تغييره بنفسه، واللَّه الهادي للعباد والموفق للرشاد، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. * * *

سورة الطارق

سُورَةُ الطَّارِقِ، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ): إن اللَّه - جل وعلا - عظم قدر السماء في أعين الخلق؛ لما جعلها معدن رزقهم ومسكن أولي القدر من خلقه، وهم الملائكة، وفيها خلق الجنة، وخلقها بغير عمد ترى، فأقسم بها؛ لما عظم من شأنها، وجعل مصالح الأغذية بزينتها، وهي الشمس والقمر، وأقسم بالنجم الثاقب، وهو المتلألئ من النجوم المضيء الذي يثقب الشيطان، أي: يخرقه، ولما فيها - أيضا - من عظيم البركات، وبركاتها أنها جعلت بحيث يهتدي بها في البر والبحر، ويوصل بها إلى لطائف التدبير إلى أن ظن بعض الناس أن الأنجم السبعة هي المدبرات، وبها ما منع الشياطين عن الصعود إلى السماء لينتفي بها التلبيس عن الوحي؛ لأنهم لو لم يحفظوا عنها، لكانوا إذا وقفوا على أخبارها أسرعوا بحملها إلى الكهنة؛ فيؤدي ذلك إلى التلبيس. ومن عظيم قدرها أنها تقطع في الليلة الواحدة مسيرة ألف شهر، فأقسم بها أيضا. ويجوز أن يكون هذا من اللَّه - تعالى - تعليما لرسوله - عليه السلام - بأن يقسم به دون أن يكون ذلك قسما منه تعالى؛ لأنهم لم يكونوا يرتابون في ألوهيته وربوبيته وصدق أخباره؛ فيزال عنهم الريب بالقسم، وإنما كانوا يرتابون في رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فعلمه القسم بما ذكر؛ ليؤكد أمره؛ فيحملهم ذلك على النظر في أمره. ويجوز أن يكون القسم بعين هذه الأشياء؛ لكونها معظمة عند الكفرة، وليس للمسلمين أن يقسموا بها فيما بينهم.

(4)

أو يكون القسم بهذه الأشياء هو القسم بخالقها؛ فكأنه أمره بالقسم بخالق هذه الأشياء على الإضمار، واللَّه أعلم. واختلف في تأويل (وَالطَّارِقِ): فقَالَ بَعْضُهُمْ: ما يجيء به الليل؛ يقال: طرقته بالليل؛ إذا أتيته. وقال الزجاج: (وَالطَّارِقِ): هو الساكن؛ يقال: أطرق في الكلام مليا؛ إذا وقف، وسكن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو النجم يطرق بالليل، ويخفى بالنهار، وهو النجم الثاقب، ذكره تفسيرًا للطارق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) اختلف في قوله: (إِنْ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أريد به هاهنا: " ما ". وقوله: (لَمَّا) صلة في الكلام، فمعناه: ما كل نفس عليها حافظ، وإنما الحافظ على بعض دون بعض. والثاني: أن يكون الحافظ على بعض ما في النفس دون بعض، وذلك البعض هو الذي يظهره، فأما الذي يخفيه فإنه لا يشهده كاتباه. ومنهم من حمل قوله تعالى (لَمَّا) على الاستثناء، فقال: معناه: ما من نفس إلا عليها حافظ. قال الزجاج: حرف (لَمَّا) استعمل في موضع الاستثناء، يقال في اللغة: " أقسمت عليك لَمَّا فعلت كذا ": أي: إلا فعلت كذا. فإن كان معناه ما ذكروا، ففيه إلزام التيقظ والتبصر، والنفس من طبعها: أنه إذا سلط عليها من يراقبها ويحفظها، احتشمت من وقتها وخافته، وتكون متيقظة، ولا ترتكب من الأمور إلا ما تعلم أنه لا يلحقها التبعة فيه من الحفاظ؛ فسلط عليه الملكان - أيضا - ليكون متيقظا في كل قول وفعل، فلا يقبل إلا على ما فيه نفع العاجل والآجل. وسمى اللَّه - تعالى - الملكين: (كِرَامًا كَاتِبِينَ)، ومن صحب المكرم من الخلائق احتشم منه، وتوقى عن إتيان ما يُستحْيا من مثله، ومن أراد أن يكتب

(5)

إلى أحد كتابا، لم يثبت في كتابه شيئا يؤخذ عليه، ويذم به، بل يحكم الأمر، ويصلحه غاية ما يحتمله الوسع؛ فكان في ذكر الحفاظ على الأنفس إلزام التيقظ والتبصر من الوجوه التي ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَافِظٌ): قَالَ بَعْضُهُمْ: يحفظ عليها رزقها حتى تستوفيه؛ فإن كان على هذا، فالحفظ يكون لها لا عليها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحفظ عليها عملها خيرها وشرها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) الأصل أن إمعان النظر فيما خلق منه الإنسان مما يوصل المنكرين للبعث والمنكرين للرسالة إلى القول بهما، وذلك أن النطفة التي خلق منها الإنسان لو رئيت موضوعة على طبق، ثم رام أحد أن يعرف وأن ينتزع منها المعنى الذي به صلح أن ينشأ منها العلقة والمضغة وخلق منها الإنسان - لم يدرك، ولو اجتمع الإنس والجن على أن يركبوا عليها جارحة من جوارح الإنسان، لم يتهيأ لهم تركيبها، أو تعرّف المعنى الذي صلح أن ينشأ منه السمع والبصر، لم يوقفوا عليه؛ فتبين أن الذي بلغت قدرته هذا لا يخفى عليه أمر، ولا يعجزه شيء، وتبين لهم حكمته، وإذا عرفوا حكمته أداهم ذلك إلى القول بالبعث؛ لأنه لولا البعث وإلا كان يخرج إنشاء الخلق عبثا باطلا؛ فيخرج عن أن يكون حكيما، ولزمهم أن يصدقوا الرسل بجميع ما أخبرتهم به. وفيه دلالة خلق الشيء لا من شيء؛ إذ لا يجوز أن يكون الإنسان بكليته في النطفة مستجنا، فظهر؛ لأنه لا يسع في الشيء الواحد ما لا يحصى ذلك من الأضعاف، ولا يجوز أن يكون ذلك عمل النطفة - أيضا - لأنها موات، لا يحتمل أن تصير كذلك إلا بتدبير مدبر عليم، فيكون فيما ذكرنا إيجاب القول بحدوث العالم. ولأنها لو صارت مضغة وعلقة وخلقا سويا بطبعها، لكانت لا تخلو نطفة إلا وهي تنتقل إلى ما ذكرنا؛ ألا ترى أن النار لما كان من طبعها الإحراق، والثلج إذ كان من طبعه التبريد، لم يجز أن ينتقل واحد منهما عن طبعه الذي أنشئ عليه. ثم قد وجدنا نطفا تخلو عن هذه المعاني التي ذكرنا؛ فثبت أنها نقلت إلى ما ذكرنا

(6)

بتدبير مدبر حكيم، لا بطبعها. ثم الأعجوبة فيما فيه خلق الإنسان ليست بأقل من الأعجوبة مما منه خلق، وذلك أن الإنسان خلق في الظلمات على ما أراد اللَّه تعالى، وصوره كيف شاء، ولو أراد أحد أن يعلم علم ذلك، أو يصور مثله في حالة العيان لم يملك، وجعل ذلك المكان فيما ينمو فيه الولد، ويغذو فيه خصوصا من بين سائر الأماكن، ولو أراد حكماء الإنس والجن أن يعرفوا الوجه الذي به صلح ذلك المكان للنماء والغذاء، وأعملوا فيه فنون العلم، لم يعرفوا، فمن تقكر فيما ذكرنا، علم أن قدرته ذاتية لا يلحقها فناء ولا عجز، وعلم أن علمه ذاتي ليس بمكتسب؛ فيتوهم خفاء الأمور عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يعني: النطفة التي يدفقها الرجل في الرحم، والدافق: معناه: مدفوق؛ أي: يدفق به؛ كقولك: " ليل نائم "، أي: ينام فيه، و " هم ناصب "، أي: ينصب به. وقال الزجاج: (مَاءٍ دَافِقٍ) أي: ذي اندفاق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) اختلف في تأويله: فمنهم من يقول: بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهي الأضلاع الثمانية: أربع عن يمينها، وأربع عن يسارها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالتَّرَائِبِ) هي الأطراف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالتَّرَائِبِ) موضع القلادة منها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَالتَّرَائِبِ) ما دون التراقي وفوق الصدر. ثم من الناس من صرف تأويلها إلى الرجل خاصة، فقال: قوله: (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) وأريد به: صلب الرجل وترائبه، وزعم أن الماء الذي يكون منه الولد ليس معدنه الصلب خاصة؛ بل يجتمع من أطرافه كلها. ومن حمله على المعاني الأخر صرف الأمر إليهما جميعا، وهو أن الماء الذي يخلق منه الولد يكون منهما جميعا.

(8)

وكذلك ذكر أبو بكر الأصم أن (الصُّلْبِ) كناية عن الرجل، (وَالتَّرَائِبِ) كناية عن المرأة؛ فيكون هذا اسما لهما مأخوذا عن أصل ما يكون منهما؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ. . .) الآية، فأضاف الأبناء إلى الأصلاب. وفي إخراج الماء من بين الصلب والترائب لطف من اللَّه تعالى؛ لأنه لو اجتهد الخلائق باستخراجه من بين ما ذكر بحيلهم وقواهم ووضعه في الرحم، لم يقدروا عليه، ثم اللَّه بلطفه وضع هذه الشهوة فيما بين الخلق، واستخرج بها الماء من بين الصلب والترائب، لا أن يكون أحد يملك إخراجها بالأسباب والحيل، كما وضع فيهم شهوة الأكل والشراب، فمتى ما أكلوا وشربوا، وقرَّا قرارهما، ظهر من قوة الطعام والشراب في كل جارحة من جوارح الأكل باللطف، لا أن يكون ذلك العمل بالأكل والشرب خاصة، وكذلك يرى الإنسان إذا سقى أصل شجرة ظهرت منفعة السقي في أغصانها وأوراقها وأثمارها، ولو أراد أحد أن يعرف أنه لأي معنى صلح أن يكون الماء بالمحل الذي ذكرنا؟ وأراد أن يستخرج المعنى المجعول في الطعام من القوة التي ذكرنا - لم يتدارك ذلك؛ فيكون فيما ذكرنا أبلغ حجة على الثنوية؛ لأنهم ينكرون خلق الأشياء لا عن أشياء، وزعموا أنا لم نشاهد كون الشيء لا من شيء، والشاهد دليل الغائب؛ فلزم ذلك في الذي غاب عنا، فمن قدر على تصوير الولد في تلك الظلمات، وفي الأماكن الضيقة وقدر أن يجعل في الماء والطعام المعاني التي يعجز الخلق عن استدراكها - لقادر على إنشاء الخلق لا من شيء؛ إذ الأعجوبة فيما ذكرنا ليست بدون الأعجوبة عن إنشاء شيء لا من شيء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه على رده إلى صلب أبيه لقادر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه على بعثه لقادر؛ هذا أشبه التأويلين؛ لأن الآية في موضع

الاحتجاج على الكفرة ولم يذكر عن أحد التنازع في نفى الرد إلى الصلب وإنكاره حتى يدفع المنازعة بهذا، وكانوا أهل إنكار بالبعث؛ فاحتج عليهم بابتداء الخلقة، وكذلك أكثر ما جرى به الاحتجاج في إثبات البعث في القرآن، إنما احتج عليهم بالابتداء. وإن كان التأويل على رده إلى صلب أبيه، فوجه الرد هو أن يرد من حالة الشيب إلى حالة الشباب، ثم من حالة الكبر إلى حالة الصغر، ثم إلى حالة الطفولة، ثم يرد مضغة، ثم يرد علقة، ثم نطفة، ثم ترد النطفة إلى صلب أبيه، لا أن يوصف اللَّه - تعالى - بالقدرة على رده وهو على حاله نسمة عظيمة إلى صلب أبيه مع ضيق ذلك المكان. ولأن هذا محال، واللَّه تعالى لا يوصف بالقدرة على المحال، وليس فيما لا يوصف بالقدرة على المحال نفي القدرة عنه في الأزل، وبهذا يجاب من سأل فقال: أيقدر اللَّه - تعالى - على إدخال الدنيا في بيضة؟ فيقال له: إن أردت إدخالها في البيضة بأن يصغر الدنيا ويضيقها حتى يجعلها أضيق من البيضة، أو يوسع البيضة حتى تسع الدنيا - فهو على ذلك قادر. وإن أردت أنه قادر على إدخالها فيها على إبقاء البيضة بحالها وبقاء الدنيا بحالها، فهذا محال؛ لما فيه من انقلاب البعض كلا، والكل بعضا؛ فكذلك يوصف اللَّه - تعالى - بالقدرة على رد النسمة إلى الصلب بالوجه الذي ذكرنا، لا أن يردها على ما هي عليه إلى الصلب؛ لما في ذلك من الإحالة، وكذلك إذا سألنا عن حركات أهل الجنة والسكون هل لهما غاية؟. فنقول: لا. فإن قالوا: هل يعلم اللَّه - تعالى - غايتها وعددها. فنقول له: يعلمها غير منقطعة، لا أن يعلمها منقطعة، ولم يكن في قولنا: إنه لم يعلمه منقطعا إثبات الجهل ولا نفي العلم عنه؛ بل الجهل إنما يتحقق إذا وصف بالعلم بالانقطاع فيما لا ينقطع، فكذلك ليس في نفي الوصف بالقدرة على المحال إثبات

(9)

عجزه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) أي: يظهر ما كان أخفى منها؛ فجائِز أن يكون الإظهار منصرفا إلى التي لم يطلع عليها الملائكة؛ فتكتبها عليه، فيذكره اللَّه - تعالى - تلك السرائر كيف شاء، فيقررها عليه، أو تنطق جوارحه بها كقوله - تعالى -: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ. . .) الآية. أو يكون إظهار القراءة ما عليه؛ فيظهر ذلك للخلق، وإن كان قد أسرها عنهم في الدنيا، ثم سمى ذلك: ابتلاء؛ لأن الابتلاء هو الاختبار، وإنما يكون الابتلاء بالسؤال، أو بالأمر والنهي، فسمى ما يسأل عنه في الآخرة: ابتلاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) يحتمل وجهين: أحدهما: أن ليست له قوة في كتمان ذلك على نفسه، ولا له قوة نفي العذاب عن نفسه لو كتم. أو ما له من قوة يمتنع بها، ولا ناصر يمنعه عن نزول العذاب به. ووجهه: أن الكفار كانوا يفتخرون بقواهم وكثرة أنصارهم في الدنيا فكانوا يظنون أنهم لو أريدوا بالتعذيب، دفعوا ذلك بأنصارهم، وبما لهم من القوى؛ فيخبر اللَّه - تعالى - أن قواهم وكثرة أنصارهم لا تنفعهم في الآخرة، ولا تدفع عنهم بأس اللَّه تعالى، وكانوا يعبدون الأصنام؛ لتقربهم إلى اللَّه - تعالى - وتنصرهم من العذاب؛ كما قال: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ)؛ فبين أنها لا تغني عنهم من اللَّه - تعالى - شيئا. * * * قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) قال أبو عبيدة: الرجع: هو الماء؛ أي: السماء ذات المطر. وقال غيره: (ذَاتِ الرَّجْعِ)، أي: تعود في كل عام إلى ما كانت عليه في العام الذي قبله بالمطر، والرجع: هو العود.

(12)

ويحتمل: (ذَاتِ الرَّجْعِ)، أي: بتكرر إدرار بركتها على الخلق استوفوا منها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) قيل: (ذَاتِ الصَّدْعِ) بالنبات. أو (ذَاتِ الصَّدْعِ)، أي: ذات أودية وأنهار يجتمع فيها الماء، فينتفع بها الخلق لسقي أراضيهم ودوابهم؛ فعظم أمر السماء والأرض؛ فأقسم بهما. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) يعني: القرآن، وليس بالهزل. وفي إخراج النبات من الأرض حكمة عجيبة ولطف تدبير؛ وذلك أن النبات شيء لين ينثني بأدنى مس، ثم إن اللَّه - تعالى - بلطفه صدع له الأرض اليابسة الصلبة، وأخرجه منها غير منثنٍ ولا منكسر؛ ليعلموا أن مدبره حكيم؛ فيلزمهم به التوحيد. وجعل منافع الأرض بمنافع السماء متصلة؛ إذ الأرض إنما تتصدع للنبات إذا أصابها المطر من السماء؛ فيكون في ذلك إنباء - أيضا - أن مدبرهما واحد، ولولا ذلك لم تتصل منفعة إحداهما بالأخرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) أي: بَيِّن، بَيَّنَ فيه الحلال والحرام، وما يتقى عنه، وما يؤتى، وبيَّن فيه الصواب من الخطأ، وبيَّن فيه الوعد والوعيد. أو يكون معنى الفصل: التفريق، وهو أن فرق الوعد من الوعيد، والحلال من الحرام، والحق من الباطل؛ فوضع كل شيء موضعه، ولم يخلط أحدهما بالآخر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) أي: باللعب والباطل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فقوله: (وَأَكِيدُ كَيْدًا) يحتمل وجهين: أحدهما: أي: أجزيهم جزاء كيدهم؛ فسمى الجزاء باسم ما له الجزاء وإن لم يكن ذلك كيدًا، كما سمى الجزاء للسيئة: سيئة مثلها، وإن لم يكن الجزاء سيئة، وكما سمى جزاء الاعتداء: اعتداء، وإن لم يكن الجزاء اعتداء بقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)، وقال: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)، أي: جزاهم جزاء النسيان، أو جعلهم كالشيء المنسي الذي لا يعبأ به، لا أن يكون منه

(17)

في الحقيقة نسيان؛ فكذا سمى جزاء الكيد: كيدا، لا أن يكون الجزاء كيدا. ووجه آخر: أن الكيد في الحقيقة والمكر هو أن يأخذه من وجه أمنه؛ فيلحق الكائد اسم الذم؛ لأنه أخذه من وجه لم يشعر به، وهذا المعنى في الكيد الذي أضيف إلى اللَّه - تعالى - غير موجود؛ لأن اللَّه - تعالى - قد بين له الطريق الذي إذا سلكه وقع له به الأمن من الطريق الذي إذا سلكه حل به البوار والهلاك، فإذا سلك هذا الطريق، كان سلوكه عن عناد منه، أو عن ترك الإنصاف من نفسه؛ فوجد ما يكره من الكيد لا من الكائد؛ فلم يلحقه بذلك الوصف المعنى المكروه. ثم كيدهم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالمؤمنين ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله - تعالى -: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) مهل وأمهل لغتان؛ فكأنه يقول: (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)، ولا تجازهم بصنيعهم؛ فإن اللَّه - تعالى - يجازيهم بصنيعهم عن قريب، وقد فعل ذلك بما سلط رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقتلهم وسبيهم؛ فيكون في هذا بشارة منه لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر عليهم وبغلبته إياهم، وفي ذلك آية رسالته؛ لأنه قال لهم هذا عند قلة أعوانه وضعفه، ثم إن اللَّه - تعالى - كثر أنصاره وأظهره عليهم كما قال لهم؛ ليعلموا أنه علم ذلك بالوحي، واللَّه الموفق. * * *

سورة (سبح اسم ربك الأعلى)

سُورَةُ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قيل فيه من أوجه: أحدها: أن سبح ربك. وقيل: سبح اسمه. وقيل: سبح ربك بأسمائه. فمن قال: سبح ربك، فمعناه: أن نزهه عن جميع المعاني التي يحتملها غيره من الآفات والحاجات والأضداد والأنداد؛ فيكون القول به توحيدا. وروي عن مقاتل بن سليمان أنه قال: تأويله: وحد ربك، وتوحيده ما ذكرنا. وقال بعض المفسرين: تأويله: أن صل لربك؛ وهذا محتمل؛ لأن الصلاة بنفسها تسبيح؛ لأنه بالافتتاح يقطع وجوه المعاملات بينه وبين الخلق، ويمنع نفسه عن حوائجها؛ فيجعلها لله تعالى، وهذا هو التوحيد والإيمان؛ لأنه بالإيمان يجعل الأشياء كلها لله تعالى سالمة؛ فصارت الصلاة تسبيحا لعينها، لا للتسبيح المجعول فيها. ومن حمل التسبيح على الاسم، فقال: نزه اسمه، فذلك يرجع إلى الأسماء الذاتية، وهو ألا يشرك غيره فيسميه بها، والأسماء الذاتية قوله: اللَّه الذي لا إله غيره الرحمن، وما أشبهه من الأسماء، وتنزيهه للأسماء الصفاتية: أن ينزهها عن المعاني التي استوجب الخلق الوصف به، كقولك: عالم، حكيم، رحيم، مجيد؛ فمن وصف بالعلم من الخلائق فإنما استوجب الوصف به بأغيار دخلن فيه، واستوجب الوصف بالحكمة والوصف بالمدح بالأغيار، واللَّه - تعالى - استحق الوصف به بذاته، لا بأغيار، فينصرف التنزيه إلى الأغيار؛ إذ صفاته ليست بأغيار للذات؛ وهي لا تفارق الذات، فالامتداح الواقع بالصفات امتداح بالذات الموصوف بها، واللَّه الموفق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: معناه: سبح بالحمد والثناء؛ وهو يرجع إلى ما ذكرنا من التأويل

(2)

الأول، وهو أن يحمده بالثناء الذي يتضمن التوحيد والتنزيه عن معاني الخلق. ومن قال: سبح ربك بأسمائه؛ فهذا ظاهر، وهو أن يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، وأسماؤه معروفة، لا نحتاج إلى إظهارها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْأَعْلَى) ظاهره يقتضي أن يكون هناك أدون وأسفل، وكذلك قول: " اللَّهُ أَكْبَرُ " ظاهره يقتضي الأصغر، ولكن معنى قوله: (الْأَعْلَى) أي: هو أعلى من أن تمسه حاجة أو تلحقه آفة، وكذلك هذا في الأكبر، ويكون الأكبر والأعلى في النهاية عن تنزيه المعاني التي ذكرنا، وهو كقولك: هو أحسن وأجمل، فإذا قلت: أحسن وأجمل، أردت به النهاية في الحسن والجمال. أو يكون (الْأَعْلَى) بمعنى: العلي و " الأكبر " بمعنى: الكبير، وذلك جائز في اللغة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) يحتمل أوجها: أحدها: أن يكون سواه على ما قدره، خلافا لأفعال الخلق؛ لأن الفعل من الخلق يخرج مرة سويا على ما قدر، ومرة بخلافه. أو يكون سوى الخلق كله في دلالة وحدانيته وشهادة ربوبيته، فما من خلق خلقه إلا إذا تفكر فيه العاقل، دلت خلقته على معرفة الصانع، ووحدانية الرب. أو سواه على ما فيه مصلحته ومنفعته. أو سواه على ما له خلق؛ ألا ترى أن الإنسان إذا أمر بالركوع والسجود خلقه من وجه يتمكن من الركوع والسجود؛ فهذا معنى قولنا: إنه سواه على ما له خلق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) يحتمل أوجها: أحدها: هداه إلى ما أحوجه إليه، فهدى العبد إلى معيشته من أين يأخذها؟ وهدى كل دابة إلى رزقها وعيشها، فعرفت كل دابة رزقها. أو يكون قوله: (فَهَدَى)، أي: هدى به. أو تكون الهداية منصرفة إلى أمر الدِّين، وذلك يرجع إلى الخصوص من الخلق الذين لهم عقول مميزة؛ فيكون معناه: هدى فيمن هدى. وطعنت المعتزلة علينا بهذه الآية، فقالت: إن اللَّه - تعالى - يقول: (قَدَّرَ فَهَدَى)، وأنتم تقولون: قدر فأضل؛ ولكن هذا التحقيق يرجع إليهم؛ لأنهم يحملون تأويل

(4)

الهداية على البيان، وإذا كان كذلك وقد بين اللَّه تعالى سبيل الهدى وسبيل الضلال جميعا، فإذن قد أضله؛ حيث بين له سبيل الضلال على قولهم. ثم ليس في قوله: (قَدَّرَ فَهَدَى) نفي الإضلال؛ إذ التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ذلك عما عداه؛ فلم يجب قطع الحكم على ما ذكروه، وقد ذكر في موضع آخر المكرمين بالهدى؛ فقال: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) الآية؛ فثبت أن الهدى راجع إلى الخصوص؛ فقوله: (قَدَّرَ)، أي: قدر لخلقه معايشهم، وهداهم وجه أخذ المعيشة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) في هذه الآية تعريف الرب الأعلى؛ كأنه يقول: الرب الأعلى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى). ثم ذكر هذه الأشياء التي يعرف انقضاؤها وبدؤها وإنشاؤها وإهلاكها من المرعى وغيره؛ لأن وجه الدلالة بمعرفة الصانع بالأشياء التي يعرف بدؤها وانقضاؤها وحدوثها وفناؤها أقرب منه بالأشياء التي لم يشهد الخلق بدءها ولا انقضاءها، وهي السماوات والأرضون؛ إذ المرء يصل إلى وحدانية الرب ومعرفة الصانع بالأشياء التي تحدث وتتغير بأدنى نظر وتأمل، ولا يصل إلى ذلك فيما يدوم إلا بلطائف الفكر، وفضل بصر، وزيادة تأمل. وجائز أن يكون خص المرعى بالذكر؛ لما بالمراعي قوام هذا الخلق؛ لأنه لا بد للبشر من الدواب والأنعام؛ للتعيش، والداوب حياتها بالمراعي؛ فكان قوام الخلق في التحصيل بإخراج المراعي، فذكرهم هذا؛ ليستأدي منهم الشكر؛ إذ كانت الدواب لم تنشأ لأنفسها، وإنما أنشئت للخلق؛ ليتمتعوا بها، ثم اللَّه - تعالى - بفضله أنشأ للدواب مراعي، وقدر لها أوقاتها، ولم يضيعها، فكيف يضيع هذا الخلق، وهم الذين قصد إليهم من خلق هذا العالم، فلا يرزقهم، ويخرجهم من تدبيره. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) قيل: الغثاء: اليابس الذي تحمله السيول والأمطار (أَحْوَى) أي: أسود من قدمه. وقيل: الأحوى: هو الأخضر الذي يضرب إلى السواد، وهو على التقديم والتأخير؛ أي: جعله غثاء بعدما كان أحوى.

(6)

قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)، أي: سنحفظ عليك ما أوحينا إليك من القرآن فلا تنسى، وفي حفظه - عليه السلام - ما يوحى إليه دلالة رسالته؛ لأنه لم يكن يعرف الكتابة، ولا كان يتلو الكتب، ثم كان يقرأ جميع ما يلقى إليه بمرة واحدة، مع ما كان مأمورا ألا يحرك لسانه بشيء مما يوحى إليه إلى أن يقضي إليه الوحي، ومن كانت حالته ما ذكرنا، تعذر عليه حقظ ما يلقى إليه بمرات وإن كان ذلك لسانه، فكيف يضبطه بمرة واحدة؛ فكان حفظه بالمرة الواحدة نوعا من آيات نبوته. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ (7) قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: إلا ما شاء اللَّه من ذلك؛ فإنه ينسيك ما أراد أن ينسيكه. ولكن ما أرى هذا التأويل صحيحا، وذلك أن الذي أوحي إليه آية نبوته؛ فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا قرأ، ثم أنسي، فلمن طعن في رسالته أن يستقرئه تلك الآية، ولا يتهيأ له أن يقرأها إذا كان قد أنسي؛ فيجد في ذلك موضع الطعن عليه. وقد روي في بعض الأخبار أنه أنسي، ولكنها من أخبار الآحاد؛ فلا يجوز قطع الحكم بها؛ لأن خبر الآحاد يوجب علم العمل، ولا يوجب علم الشهادة، وهي في موضع الشهادة هاهنا، ولكن تأويله عندنا - واللَّه أعلم - يخرج على أوجه ثلاثة: أحدها: أن الأنبياء - عليهم السلام - لم يكونوا آمنين على أنفسهم بالعصمة عن الزلات التي لديها يخاف زواد ما أنعموا به وإن ظهرت عصمتهم اليوم عندنا؛ ألا ترى إلى قصة إبراهيم - عليه السلام - عند محاجة قومه قال: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي)، وقال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، فخاف زوال ما أكرم به، وخشي أن يبتلى بما ابتلي به أهل المعاصي حتى فزع إلى الدعاء، وقال في قصة شعيب - عليه السلام -: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا)، وقال في قصة يوسف - عليه السلام -: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)؛ فثبت أنه لم يتبين لهم حقيقة العصمة عن الوقوع في الزلات التي تزيل النعم، فكذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يؤمن عما

(8)

يعقب الإنساء؛ بل قيل له: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)؛ ألا ترى إلى قوله: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)؛ فثبت أنهم كانوا على خوف ووجل عن ارتكاب ما يسلب به الوحي وينسى. أو يكون الاستثناء راجعا إلى إنساء حكمه، وهو أن ينسخ حكمه حتى يترك فيصير كالمنسي؛ كقوله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)، أي: جعلهم كالشيء المنسي بما آيسهم من رحمته، لا أن يكون هناك حقيقة نسيان، فكذلك ما نسخ حكمه وترك، صار كالمنسي، وإن لم يكن فيه حقيقة نسيان؛ فيكون النسيان منصرفا إلى حكم التلاوة، لا إلى عينها. أو يكون - عليه السلام - يذهب خاطره عن بعض ما يوحى إليه؛ إذا اشتغل فكره في أشياء أخر؛ فيصير الذي ذهب عن وهمه كأنه نسيه وإن كان يعود ذلك إليه عند إحضاره ذهنه، كما ترى المرء في الشاهد يذهب عن وهمه جميع ما في فاتحة الكتاب من الحروف إذا أعمل رؤيته في أشياء أخر؛ حتى يصير كالناسي لها وإنْ كان يعود إلى تذكرها إذا رام أن يقرأها. فعلى هذه التأويلات يستقيم أن يوجه إليه الاستثناء، واللَّه أعلم. وقوله: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى)، أي: ما يجهر بعض لبعض من الخلائق، أو ما يسر بعض عن بعض. أو يعلم ما تطلع عليه الملائكة من أعمالهم، ويعلم ما يعزب عنهم، فعلمه فيما أسر العبد كعلمه فيما أظهر وجهر به؛ فذكرهم هذا؛ ليكونوا متيقظين؛ فلا يخافون، ولا يجهرون إلا بالذي يحق عليهم؛ إذ اللَّه - تعالى - حفيظ عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) قالوا: ونسيرك للخير ولعمل أهل الجنة، فسميت أعمال الخير: يسرى؛ لأنها تعقب ذلك، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) ظاهر هذا يقتضي ألا يذكر إلا من نفعته الذكرى، ولكن تخصيص الحكم في حال بوصف لا يوجب قطع ذلك الحكم فيما

(10)

كان الحال بخلاف ذلك الوصف؛ بل يلزمه أن يذكر من نفعه ومن لا ينفعه؛ قال اللَّه - تعالى -: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) الآية، أمر بالتذكير على الإطلاق. ثم قوله - تعالى -: (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) يحتمل وجهين: أحدهما: أن ذكر فقد نفعت الذكرى، وهو كقوله تعالى: (وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا)، ومعناه: قد كان وعد ربنا مفعولا. وقد نفعت الذكرى؛ لأنه بتذكيره أسلم من أسلم منهم، وبه فازوا، وبه نالوا الدرجات العلا، وقال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). أو يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) فسيأتي على أقوام حالة لا تنفعهم الذكرى لديها، وتلك حالة المعاينة لبأس اللَّه وعذابه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) أي: يتعظ بها من يخشى اللَّه تعالى أو المعاد، قال اللَّه - تعالى -: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، أي: بالقرآن، وذلك أن الذي يحملهم على الإيمان بالآخرة إيمانهم بهذا الكتاب؛ لأن في القرآن تذكيرًا للآخرة، وأمرا بالاستعداد لها؛ فلذلك خشيته تحمله على الاتعاظ بالذكرى والانتفاع بها، والخشية هي الخوف اللازم في القلوب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) أضاف التجنب هاهنا إلى الأشقى، وهو الشقي، وفيما ذكر الأتقى أضاف التجنب إلى نفسها بقوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)؛ فيكون في هذا دلالة الإذن بإضافة الخيرات إلى اللَّه - تعالى - وفي الأول دلالة منع إضافة الشرور إليه؛ وهذا لأن إضافة الخيرات إلى اللَّه تعالى تخرج مخرج الشكر له، وهو حقيق بأن تشكر نعمه، وليس في إضافة الشرور إلى آخر شكر له؛ فلم يصح أن تضاف إليه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) أي: لا تنقضي عنه أفعال الموت، وهي آلامها وأوجاعها، بل يبقى في آلامها أبدًا؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ

(14)

كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ)، أي: لا يقضي عليه حتى يتخلص من أوجا عها. قوله تعالى: (وَلَا يَحْيَى)، فالحياة التي ينتفع بها في الدنيا هي التي ترتفع عنها آلام الموت، وأوجاعه، فقوله: (وَلَا يَحْيَى)، أي: لا يرتفع عنه ألم الموت. أو يكون قوله: (لَا يَمُوتُ) فيستريح (وَلَا يَحْيَى) حياة يتلذذ بها. * * * قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)، أي: من أتى بما تزكو به نفسه، أو أتى بما تطهر نفسه به، وسنذكر في سورة: " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا " ما تأويل الفلاح؟ إن شاء الله تعالى. وقوله: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) يحتمل أن يكون أريد به أنواع العبادات، لا الصلاة المعروفة وحدها؛ لأن الصلاة اسم للدعاء والثناء ولأنواع من الكرامات؛ فإنه يقول: بذكر الرب ما يصل إلى العبادات، ومن أعرض عن ذكره حرم أداء العبادات. أو يكون منصرفا إلى الصلاة المعروفة؛ فيكون قوله: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)، أي: يصلي بتقديمه اسم الرب؛ فيكون ذلك منصرفا إلى الافتتاح؛ فيكون حجة لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - أن المصلى له أن يفتتح صلاته بأي أسماء اللَّه تعالى أحب. ثم ذكر اسم الرب يقتضي المعاني التي ذكرنا في قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أي: تؤثرون حياتها على حياة الآخرة، ويكون الخطاب منصرفا إلى المنافقين والكفرة، لا إلى أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم كانوا في الإيثار مختلفين؛ فمنهم من آثرها في أن نظر في الدنيا وأعرض عن النظر في الآخرة وجحدها. ومنهم من كان أغلب سعيه لأمر الدنيا. ومنهم من كان يؤثر بعض أحوالها على الآخرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) أي: إيثار الحياة الآخرة خير وأبقى من إيثار الحياة الدنيا.

(18)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19): قَالَ بَعْضُهُمْ: الآيات الأربع في صحف موسى وإبراهيم، أولهن (قَدْ أَفْلَحَ. . .) إلى قوله (خَيْرٌ وَأَبْقَى). وقَالَ بَعْضُهُمْ: السورة كلها أنزلت على إبراهيم وموسى عليهما السلام، فإن كانت السورة كلها في الصحف الأولى، فجميع ما في هذه السورة ذكر فيها بحق الحاجة لهم إلى تعرفها، ويكون قوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)، مذكورا بحق الثناء على رسول [الله]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ووجه الثناء: ما ذكر في قوله: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. . .) إلى آخر الآية، وهو يستحق الثناء بهذا الحرف لما في حفظه - عليه السلام - جميع ما يوحى إليه بمرة واحدة إكرام له وتفضيل؛ فصلح أن يثنى عليه بهذا. وفي قوله - تعالى -: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) دلالة أن اختلاف الألسن لا يغير الأشياء عن حقائقها؛ لأن اللَّه - تعالى - شهد بكون هذا في الصحف الأولى؛ وليس في الصحف الأولى بهذا اللسان؛ فيكون فيه حجة لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - في تجويز القراءة بالفارسية، واللَّه أعلم. * * *

سورة الغاشية

سُورَةُ الْغَاشِيَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ. تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قيل: معناه: قد أتاك حديث الغاشية؛ فإما أن يكون الإتيان سابقا أو أتاه حديث الغاشية بنفس هذه السورة. ثم في هذه الآيات ترغيب فيما تحمد عاقبته، وتحذير عما يذم في العاقبة، وتبيين أن العاقبة المحمودة متصلة باكتسابه وكدحه، وكذلك العاقبة المذمومة ينالها بعمله ونصبه. ثم اختلف في تأويل (الْغَاشِيَةِ): فقيل: (الْغَاشِيَةِ): النار تغشاهم، كما قال تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)، وقال في آية أخرى: (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ). ومنهم من يقول: (الْغَاشِيَةِ): هي الساعة؛ سميت: غاشية؛ لأنها تغشى الصغير والكبير، والمحمود والمذموم، والشقي والسعيد؛ فتعمهم جميعا؛ وهذا التأويل أقرب؛ لأنه ذكر الغاشية أولا ثم ذكر الجزاء بعد ذلك بقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ). ثم قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) أي: ذليلة، وإنَّمَا خص الوجه بالذكر؛ لأن الحزن والسرور إذا استحكما في القلب أثرا في الوجه؛ فيكون في ذكر الوجه وصف للغاية التي هم عليها من الذل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) قَالَ بَعْضُهُمْ: إلى عباده الكفرة، وهو أنهم

(4)

بقوا أبدا في النصب والعمل في الدنيا والآخرة. وجائز أن يكون نصبها وعملها في النار، وهو أنها لم تعمل في الدنيا؛ بل تكبرت عن طاعة اللَّه - تعالى - فأعملها وأنصبها في الآخرة بمعالجة الأغلال والسلاسل في النار الحامية. أو عملت في الدنيا بالمعاصي ونصبت في الآخرة؛ فيكون فيه تبيين العمل والجزاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) أي: حارة، قد أحماها اللَّه - تعالى - من يوم خلقت إلى الوقت الذي يسقى منها. وقوله: (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) قيل: الآني: الذي قد انتهى في الحر غايته حتى لا حر أحر منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) اختلف في الضريع: منهم من يقول: سمي: ضريعا؛ لأنهم يتضرعون عنه، ويجزعون إذا طعموا. ومنهم من جعل الضريع لونا من ألوان العذاب لم يبينه اللَّه - تعالى - للحلق. ومنهم من قال: الضريع: اسم لنبت قد عرفته العرب فيما بينهم تأكله الإبل والدواب ما دام رطبا؛ فإذا هاج ويبس تركت الدواب أكله، وعافته لخبثه وكثرة ما عليه من الشوك، ويسمونه: شبرقا في الربيع، وإذا هاج وجف، يسمونه ضريعا، فذلك النبت في الدنيا يعمل في إسمان الدابة ويغنيها من الجوع، فنفي اللَّه - تعالى - وجه الإسمان والإغناء، وحصل أمره على الخبث بقوله: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)، وهو كقوله: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ)، فالسدر اسم شجرة ذات شوك في الدنيا، فأنشئت في الآخرة بلا شوك، ووصف خمر الجنة فقال: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ)، والخمر في الدنيا تعمل في التصديع، وهي تنزف؛ فنفى عنها هذه الآفات، وجعلها شرابا سائغا لذة للشاربين، فكذلك الضريع نفى به ما يقع به الإسمان والإغناء، وحصل أمره على الخبث، واللَّه أعلم.

(8)

قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ. لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً. فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ. فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ. وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ. وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ. وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)، أي: ناعمة بما عاينت من عاقبة عملها الصالح في الدنيا، ورضيت بما أوتيت جزاء عن سعيها في الدنيا، جعل الله تعالى في وجوه الخلق يوم القيامة آثار صنائعهم في الدنيا: فمن أطاعه جعل علم طاعته في وجهه يوم القيامة، ومن عصاه جعل أثره في وجهه يعرف به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قد علا قدرها، وعظم شأنها؛ فتكون (عَالِيَةٍ) نعتا للجنة، فوصفها بالعلو من هذا الوجه. والثاني: يحتمل العلو من حيث الدرجات والمكان، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) ما يحق أن يلقى من الشتم ومن كل ما يؤثم صاحبه؛ بل هم كما وصفهم اللَّه تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ). ثم الذي يحمل المرء على شتم المرء إما ضغن أضمره في صدره، أو خصومة حدثت بينهما، أو آفة تدخل في عقله بسكر أو ما أشبهه، واللَّه - تعالى - نفى عن الشراب الآفات بقوله: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ)، ونزع الغل عن صدورهم؛ فارتفعت دواعي السفه كلها؛ فلا يسمع فيها ما يحق أن يلغى به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) أي: عيونها جارية تأخذها العين، وتجري على وجهها، ليست كمياه الدنيا في أن بعضها يجري على وجه الأرض، وبعضها تحتها، نحو ماء القناة وماء البئر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) قَالَ بَعْضُهُمْ: مرفوعة بعضها فوق بعض، ترتفع ما شاء اللَّه، فإذا جاء ولي اللَّه - تعالى - ليجلس عليها، تطامنت له، فإذا استوى عليها ارتفعت حيث شاء اللَّه تعالى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: معنى (مَرْفُوعَةٌ) هاهنا: أنها أنشئت مرفوعة القدر عند أهلها، فوعدوا

(14)

في الآخرة على ما هي عليه رغبتهم في الدنيا وإيثارهم لها، والمرء يرغب في الوجهين اللذين ذكرناهما في الدنيا؛ فعلى مثله جرى الوعد في الآخرة، وكذلك يرغب في الأكواب والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة؛ فوعد لهم مثلها في الآخرة. وقال في موضع: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ)، ورفعها يكون من الوجهين اللذين ذكرناهما في السرر؛ فوعدوا بها - أيضا - في الآخرة؛ ليرغبهم بها في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) الأكواب هي الكيزان التي لا عرا لها؛ فإما أن يكون وصفا لكبر تلك الأكواب في أنفسها حيث لا عرا لها كالحباب في الدنيا. أو يكون لهم خدم وولدان يتولون نقلها إلى أين أحبوا، وليست لها عرا يمدون أيديهم إليها فيرفعونها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) قيل: هي الوسائد وضعت على البسط، وكذلك تبسط الوسائد في الدنيا؛ فرغبوا كذلك في الآخرة. * * * قوله تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. . .) إلى قوله: (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ): خص الإبل بالذكر من بين جملة الدواب، وخص السماء والجبال والأرض بالذكر، وتخصيصها يكون لأحد وجهين: أحدهما: أن الإبل كانت من أخص دواب أهل مكة، عليها كانوا يسافرون، وعليها كانوا ينقلون ما احتاجوا إليه، وهي أيضا -أعني: مكة- منشأة بين الجبال، فكانت لا تفارقهم الجبال، وكانت السماء من فوقهم والأرض من تحتهم؛ فخصت هذه الأشياء با لذكر؛ ليعتبروا بها، ويتدبروا. ويحتمل وجها آخر: وهو أن المنافع المجعولة في الدواب كلها تجتمع في الإبل؛ لأن منافع الدواب أن ينتفع بطهرها وبضرعها وبصوفها وبلحمها ونسلها، فكل ذلك يوجد في

الإبل؛ فصارت الإبل كالأنعام تصلح للمنافع المتخذة في الدواب والبركات المعقودة فيها، وكذلك عظم المنافع والبركات المعقودة فيها متصلة بالسماء؛ ففيها جعلت أرزاقهم، وفيها عين الشمس التي بها مصالح الأغذية وتراها مزينة بزينة الكواكب، فهي - أيضا - كالأم في المنافع، وكذلك الأرض كالأم في المنافع؛ إذ فيها مأوى الخلق، وقدر فيها أقوات الخلق وأرزاقهم، ومنها يخرج ما يتخذون منه اللباس. ثم بالجبال قوام الأرض، ولولاها لكانت الأرض تميد بأهلها؛ فخصت هذه الأشياء بالذكر؛ لما ذكرنا. ثم قوله: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) يحتمل وجهين: أحدهما: على الأمر؛ أي: فلينظروا. والثاني: أن يكون على سؤال تقدم منهم لأمر اشتبه عليهم؛ فنزلت هذه الآية: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. . .) إلى آخر الآيات؛ أي: لو نظروا في هذه الأشياء لكان نظرهم فيها وتفكرهم بها ينزع عنهم الإشكال، ويوضح لهم ما اشتبه عليهم. وذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: لما ذكر اللَّه - تعالى - ما ذكر من نعيم الجنة عجبت قريش، وقالت: يا مُحَمَّد، ائتنا بآية أن ما تقوله حق؛ فأنزل اللَّه - تعالى -: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ). ثم النظر في رفع السماوات والتفكر في خلقها بغير عمد ترونها والنظر والاعتبار في خلق الإبل ونصب الجبال وسطح الأرض، وهو البسط - مما يوجب القول بالبعث، ويدعو إلى وحدانية الرب تعالى، وإلى القول بإثبات الرسالة، وذلك أن الذي كان يحملهم على إنكار البعث هو أنهم كانوا يقدرون الأشياء بقوى أنفسهم؛ فكانوا يظنون أن القوة لا تبلغ هذا؛ إذ إحياء الموتى خارج عن وسعهم، فلو نظروا، وتفكروا في خلق السماوات والأرض، لعلموا أن قوة اللَّه غير مقدرة بقوى الخلق، وذلك أن السماوات خلقت ورفعت في الهواء بغير عمد، وأقرت كذلك، لا تنحدر عن موضعها، ولا تتصعد، ولو أراد أحد أن يقر في الهواء ريشة حتى لا تسقط ولا تتصعد لم يقدر عليه؛ فيكون في ذلك تنبيه أن قدرته قدرة ذاتية ليست بمستفادة، وكذلك الجبال ترونها مع شموخها وارتفاعها وصلابتها

(21)

زينت بالمياه والأشجار الملتفة من وجه لو تفكر فيه الخلائق فاستفرغوا مجهودهم؛ ليعلموا من أي موضع يجتمع الماء؟ وكيف ينبع؟ وكيف تنبت الأشجار من بين الأحجار - لم يصلوا إلى معرفته؛ فيعلموا أن علمه ليس بالذي يحاط به، فيكون في ذكر هذا إنباء أنه لا يخفى عليه أمر، ولا يعجزه شيء، بل العالم كله تحت تدبيره يفعل بهم ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأن الذي قدر على خلق هذا لقادر على إحيائهم وبعثهم للجزاء. وفي خلق هذه الأشياء ما يدعوهم إلى الوحدانية؛ لأن اللَّه - تعالى - جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء؛ فالقطر ينزل من السماء إلى الأرض الغبراء المتهشمة؛ فينبت لهم من ألوان النبات رزقا لهم ولأنعامهم، فلو كان مدبر السماء غير مدبر الأرض، لكان يمنع منافع السماء عن خلق مدبر الأرض، فلو تفكروا فيها، لكان يزول عنهم الإشكال؛ فلا يدعون مع اللَّه إلها آخر، ولا يقولون: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا). وقولنا: إن فيه إثبات الرسالة، وذلك أنهم بما أنعموا من النعم التي ذكرناها لا بد أن يستأدي منهم الشكر، ولا يعرف شكر كل شيء على الإشارة إليه بم يكون؟ فلا بد من رسول يطلعهم على ذلك. فَإِنْ قِيلَ: كيف أمروا بالنظر في كيفية خلق هذه الأشياء، وهم لو نظروا آخر الأبد؛ ليعرفوا كيف خلقت هذه الأشياء، لم يهتدوا إلى ذلك الوجه؟ فجوابه: أنهم لو تداركوا ذلك الوجه وفهموه، لكان النظر فيها لا يرفع عنهم الإشكال؛ إذ يقدرونه بأفعال الخلق التي يهتدي إليها؛ فارتفاع التدارك، وخروجه عن أوهامهم هو الذي يوضح لهم المشكل، ويزيل عنهم الشبه؛ إذ به عرفوا أنه حاصل بقدرة من لا تقدر قوته بقدرتهم، وأنه خلافهم من جميع الوجوه، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) في هذه الآية - واللَّه أعلم - أمر من اللَّه تعالى لرسوله عليه السلام ألا يجازيهم بصنيعهم إذا استقبلوه بما يكره من أذى يوجد منهم واستخفاف يجيء منهم؛ فيقول: ذكرهم باللَّه تعالى، وذكرهم عظيم نعمه وذكرهم كيف هلك مكذبو الرسل، وكيف نجا من صدقهم وعظم أمرهم ولا تقهرهم، ولا تجازهم بصنيعهم، وكل ذلك إلى اللَّه تعالى.

(22)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) قَالَ بَعْضُهُمْ: بمسلط. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لست بجبار. فإن أريد به الوجه الأول فهو مما يحتمله، ويجوز أن يسلط عليهم في أن يؤذن بقتالهم، وأسرهم وقهرهم ببذل الجزية؛ ولهذا قيل: إن هذا كان قبل نزول سورة براءة. وإن كان تأويله: لست بجبار عليهم؛ على ما روي عن مجاهد؛ فهذا الوجه مما لا يرد عليه النسخ، ولا يجوز أن يصير جبارا عليهم، ولا يكون قوله: (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) استثناء، ويكون معناه: لكن من تولى وكفر فيعذبه اللَّه العذاب الأكبر، أي: من أعرض عن طاعة اللَّه تعالى وكفر بوحدانية اللَّه تعالى وبكتبه ورسله، فيعذبه اللَّه العذاب الأكبر. وعلى التأويل الذي قيل: إن المسيطر هو المسلط بالسيف والأسر والقهر بالجزية التي هي صغار عليهم - يكون قوله تعالى: (تَوَلَّى وَكَفَرَ) على الاستثناء، أي: من أعرض عن طاعة اللَّه تعالى، وكفر بوحدانيه اللَّه فسيسلط عليهم بالسيف، والأسر، وأخذ الجزية. وقيل: (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ)، أي: أعرض، ولزم الإعراض؛ فيكون مسيطرا عليهم. أو تولى وقت التذكير فسينتصر عليه، وباللَّه النجاة. وفي هذه الآية بشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالظفر على الذين تولوا عن طاعة اللَّه تعالى وكفروا به. وفيه آية رسالته؛ لأنه قال هذا في وقت ضعفه، وقلة أنصاره، وكان الأمر كما قال؛ إذ نصره اللَّه - تعالى - بالرعب مسيرة شهرين، وفتحت له الفتوح؛ ليعلم أنه باللَّه - تعالى - علم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) أي: مرجعهم. وقوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) أي: من الحكمة أن نحاسبهم، وإذا كانت الحكمة توجب حسابهم وتعذيبهم، كان عليه أن يحاسبهم لما في تركه ترك الحكمة، وفي تركها سفه، تعالى اللَّه عن ذلك، وباللَّه النجاة، ومنه التوفيق. * * *

سورة الفجر

سُورَةُ الْفَجْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ) كان العرب من عادتهم أنهم إذا استحسنوا شيئا عظموه، وإذا عظموه أقسموا به. ثم إن اللَّه - تعالى - جعل في الحج وأوقاته لطائف من الحكمة وعجائب من التدبير، فمن لطيف حكمته وعجائب تدبيره أنه جعل المكان الذي يحج فيه مأمنا للخلق من وجه لا يعرف الخلائق المعنى الذي به وقع الأمن والإلف بين الخلق؛ حتى رغبوا جميعا في الاجتماع هنالك مع تباغضهم وتعاديهم فيما بينهم من وجه لا يدرك معناه، وجعل أهلها يتقلبون في البلاد آمنين؛ حتى قال - عَزَّ وَجَلَّ - لنبيه - عليه السلام -: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ) وسخر أهل الآفاق في حمل ما يقع لأهل مكة إليه حاجة من الميرة وغيرها، وجعلهم بحيث يرغبون في الإتيان إليها مع عظم ما يلزمهم من المؤن في الإتيان إلى مكة للحج؛ فثبت أن فيها معاني ولطائف هي خارجة عن قواهم وتدبيرهم؛ فكان في ذكرها ما يوجب القول بالقدرة على البعث، ويزيل عنهم الشبهة في أمرهم؛ فأقسم لما عظم من شأنها لمكان أنها أوقات الحج، فعامة أركان الحج تؤدى فيها، وعادة أن عرب أنهم يقسمون بآبائهم وأجدادهم وأصنامهم؛ لما هي معظمة عندهم، وهذه الأشياء معظمة عندهم؛ فجرى القسم بها؛ جريا على عادتهم، ويدخل في أوقاتها الشفع والوتر والفجر، فقالوا: الشفع: يوم النحر؛ لأنه اليوم العاشر من الشهر، والوتر يوم عرفة؛ لأنه اليوم التاسع. وجائز أن يكون أريد بالشفع والوتر والليل إذا يسر: العبادات جملة إذ ما من عبادة إلا وفيها شفع ووتر.

(4)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) أي: يُسرى بها، وفي ذلك كناية عن الجهاد والإغارة بالليل، كما يذكر في قوله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا. فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا. فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا)؛ فيكون هذا كله إشارة إلى جملة العبادات. ووجه القسم بالعبادات: أن اللَّه - تعالى - عظم أمر العبادات في قلوب الخلائق؛ حتى تراهم جميعا يستحسنونها ويعظمون أمرها، وإنَّمَا يقع الاختلاف بينهم في ماهيتها -إلا أن يقع التمانع بينهم في أنفسها- فأقسم بها. وجائِز أن يكون أريد بالوتر هو اللَّه تعالى، وأريد بالشفع الخلائق؛ إذ خلقهم أزواجا، واللَّه تعالى هو الواحد بذاته؛ فيكون القسم بذاته وبجميع الخلق. ويحتمل أنه أريد بالشفع والوتر الخلائق جملة؛ إذ فيهم المعنيان جميعا: الشفع، والوتر؛ فيكون قسما بجميع الخلائق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) يحتمل أن يكون تأويله: أن وجه القسم بهذه الأشياء يعرفه ذوو الحجر، وهم ذوو الألباب والحجا، لا أن يعرفه الجهلة. قالوا: وموضع القسم على قوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ). وجائِز أن يكون وقع التنازع فيما بينهم، وكانوا يزعمون أن أوقات الحج، وهي الليالي العشر، والشفع والوتر، ليس يقسم بها؛ فقال: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)، أي: للعاقل إذا تدبر فيها عرف أن هذه الأوقات بالتي تحتمل أن يقسم بها أو هذه الأوقات بالتي تدلهم على القول بالبعث. وقيل: إنما أقسم بهذه الأيام؛ لعظم قدر هذه الأيام وخطرها عندهم؛ لما فيها من صلاح معايشهم، ويكون لهم فيها سعة العيش: أما الفقراء بالهدايا والبدن، وأما غيرهم بأنواع المكاسب والتجارات؛ فإنهم كانوا يستعدون الأشياء، ويهيئون من السنة إلى السنة للتجارة في هذه الأيام؛ فأقسم اللَّه - تعالى - بهذه الأيام لكونها معظمة عندهم. وقيل: إن موضع القسم غير مذكور في هذه السورة؛ لأنه كان على أثر حادثة عندهم معروفة، استغنى عن ذكرها؛ لشهرتها عندهم؛ فأقسم أنها لحق، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا

فِي الْبِلَادِ) في ذكر نبأ عاد وثمود وفرعون فوائد ثلاث: إحداها: في موضع التخويف لأهل مكة الذين كذبوا رسوله - عليه السلام - وهو أن أُولَئِكَ القوم كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا، وأكثر في القوة من هَؤُلَاءِ الذين كذبوا محمدا عليه أفضل الصلوات، فلم يغنهم ذلك كله من اللَّه تعالى شيئا؛ بل اللَّه تعالى انتقم منهم لرسله - عليهم السلام - بما كذبوهم، فما بال هَؤُلَاءِ الذين كذبوا محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يخافون مقته وحلول النقمة بهم بتكذيبهم رسوله، وليسوا بأكثر من أُولَئِكَ في العدد والمال والقوة؟! وفائدة أخرى: أن أُولَئِكَ كانوا يزعمون أنهم باللَّه - تعالى - أولى من مُحَمَّد عليه الصلاة والسلام وأتباعه؛ لما بسط لهم من النعيم، وضيق على الرسول وأتباعه؛ فبين أن الذين تقدمهم من مكذبي الرسل كانوا أرفع منهم في القوى والأموال والأولاد والأعداد، وكانت رسلهم في ضيق من العيش، ثم كانوا هم أولى باللَّه تعالى من المكذبين المفتخرين بكثرة الأعداد والقوى؛ فبين لهم هذا ليعلموا أن ليس الأمر على ما ظنوا وحسبوا. والثالثة: أنهم كانوا يمتنعون عن الإيمان باللَّه تعالى وبرسوله، وكانوا يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)؛ فيكون في ذكر هذا نفي التقليد لأُولَئِكَ؛ لأنه كان في آبائهم من أهلك بتكذيبهم الرسل، وهم الفراعنة وأتباعهم، وفيهم من نجا، وهم الرسل وأتباعهم المصدقون لهم، فما بأنهم قلدوا المهلكين منهم دون الذين نجوا؟!. ثم الآية لم تسق؛ لتعرف نسب عاد وثمود وفرعون حتى نشتغل بتعرفه، وإنما سيقت للأوجه التي ذكرنا؛ فالاشتغال بتعرف أنسابهم وأحوالهم نوع من التكلف. وقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) فقوله: (أَلَمْ تَرَ) يحتمل وجهين: أحدهما: أي: قد رأيت؛ أي: علمت؛ كما يقال في الشاهد: ألم تر إلى ما فعل

(7)

فلان؛ أي: قد رأيت وعلمت، فتخبره بصنيعه على جهة التشكي منه. ويحتمل أن يكون هذا ابتداء إعلام منه، فيقول له: اعلم أن ربك فعل بعاد كذا. واختلفوا في قوله: (إِرَمَ ... (7): فقَالَ بَعْضُهُمْ: هو أبو عاد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أبو القبيلة؛ فنسبت إليه عاد؛ كما يقال: هو من بكر بن وائل، وإن لم يكن ابنه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإرم مساكن عاد. وقيل: هو اسم الذي بني تلك الأماكن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَاتِ الْعِمَادِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: ذات الأجساد الطوال، أي: عاد ذات الأجساد الطوال، كما ذكر في القصة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذات البناء المشيد المرفوع في السماء كالعمد الطوال؛ فيرجع إلى الإرم على تأويل من جعله عبارة عن المساكن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذات العماد هي الخيام لها أطناب وعمد، وكانوا أصحاب خيام وقباب، وكانت مساكنهم مرفوعة بالعماد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8): قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا وصف القوم بالشدة والقوة وعظم الخلقة، وفضل البصر في الأمور؛ كقوله - تعالى -: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)، وقال حكاية عنهم: (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، وقال - تعالى -: (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)، فوصفهم بفضل البصر. وجائز أن يكون أريد بها المساكن التي بنوها أن ليس مثلها في البلاد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9): قَالَ بَعْضُهُمْ: اتخذوا من الصخور جوابي -أي: قصاعا- كما قال تعالى: (وَجِفَانٍ

(10)

كَالْجَوَابِ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: قطعوا في الصخور بيوتا؛ كقوله: (يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ)؛ فيكون في هذا إخبار عن قواهم وشدتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10): قَالَ بَعْضُهُمْ: سماه: ذا الأوتاد، والوتَد: الحبل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سمي: ذا الأوتاد؛ لأنه كانت له أوتاد نصبها لتعذيب من غضب عليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه كان نصب على الطرق أناسا، على كل طريق إنسانا راصدا وحافظا. وقيل: أي: ذو قصور وبنيان مشيدة مرفوعة تشبه الجبال؛ إذ هي أوتاد الأرض. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) طغيانهم في البلاد: تمردهم وعتوهم فيها. وقوله: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13): قَالَ بَعْضُهُمْ: عذبهم بسوطهم الذي كانوا به يعذبون الخلق، ويضربونهم. وقال أبو بكر الأصم: إن السوط لون من العذاب؛ فعذب عادًا بلون منه، وعذب ثمود بلون منه، وفرعون وأتباعه بلون منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14): قال أبو بكر الأصم: يرصد عذابه بأعدائه ينتظر به آجالهم، ثم يوقع بهم العذاب إذا أتى الأجل. وعندنا: أنه يرصد عليهم ما عملوا، فلا يشتد عليه، ولا يعزب عنه شيء من علمهم؛ بل يحفظ عليهم ما استتر منه وما ظهر. وقيل: أي: لا يجاوزه ظلم ظالم، ولا يفوته هارب. ثم لم ينصرف وهم أحد في قوله - تعالى -: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) إلى إتيان مكان، فما بال بعض الناس انصرف وهمهم في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)،

(15)

على: جعل العرش مكانا له. * * * قوله تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. كَلَّا) الإشكال أن يقول قائل: قول ذلك الإنسان: (رَبِّي أَكْرَمَنِ)، و (رَبِّي أَهَانَنِ) خرج موافقا لما قاله الرب تعالى؛ لأنه قال: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ)؛ فخرج قوله: (رَبِّي أَكْرَمَنِ) على الموافقة لما قال، وكذا قول هذا الإنسان حيث ابتلي بنقيضه: (رَبِّي أَهَانَنِ)، خرج موافقا لما قال: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ)، فإذا كان الأول إكراما كان الذي يضاده إهانة؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - سمى المال: خيرا، والفقر: شرا، وسمى المطيع: محسنا، والعاصي: مسيئا، فكذا إذا استقام القول بالإكرام عندما ينعم عليه ويكرم، استقام القول بالإهانة إذا ضيق عليه الرزق ولم يكرم، وإذا كان هكذا فكيف رد عليه مقالته بقوله: (كَلَّا)، وهو في ذلك صادق. ولكن نحن نقول: إن الرد بقوله: (كَلَّا) لم يقع على نفس القول، ولا انصرف إليه، وإنما انصرف إلى ما أراده بقوله؛ لأن القائل بهذا كافر باللَّه تعالى وباليوم الآخر، وكان يقول: لا بعث ولا جزاء، وإنَّمَا يجازون بأعمالهم في هذه الدنيا، فمن أحسن أحسن له، ومن أساء أهين؛ فيكون قوله: (كَلَّا)، أي: ليس الأمر كما صوره في

(17)

نفسه؛ بل الدنيا دار عمل، وللجزاء بالكفر والإيمان دار أخرى، وهذا كقوله: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، وهم لم يكونوا كاذبين في شهادتهم ومقالتهم، بل كانوا صادقين أنه رسول اللَّه، وإن اللَّه - تعالى - يعلم أنه رسوله، ولكنهم كانوا اعتقدوا تكذيبه في قلوبهم؛ فكانوا يظهرون خلاف ما أضمروا في أنفسهم؛ فإلى ما أضمروا انصرف التكذيب، لا إلى نفس القول؛ كذا هذا. ولأن أهل الكفر كانوا أصنافا: فمنهم من كان يرى إذا بسط عليه النعيم في الدنيا وأكرم فإنما بسط عليه لما استوجبه بفعله، وإذا ضيق عليه وابتلي بالشدة فإنما ضيق عليه بإساءته وبما كسبت يداه. ومنهم من كان يظن أنه من اللَّه - تعالى - بمنزلة، وأنه مستوجب للإنعام، وأنه إذا بلي بضيق العيش وأصابته شدة، أصابه ذلك من عند مُحَمَّد عليه الصلاة والسلام؛ فيتشاءمون به؛ ألا ترى إلى قوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)؛ وعلى هذا كان ظن فرعون وقومه؛ قال اللَّه - تعالى -: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ). فقوله: [(فَأَكْرَمَهُ)]، أي: أكرمه في نفسه بأن أصح جسمه، أو جعله رئيس قومه، (وَنَعَّمَهُ)، أي: بسط الدنيا عليه: (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ)؛ فكان ينظر بذلك. وقوله: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ) أي: إذا اختبره؛ نضيق عليه رزقه، فيقول: (رَبِّي أَهَانَنِ)؛ فكان يظهر بذلك الجزع واللَّه - تعالى - اختبره بالنعم؛ ليستأدي منه الشكر بما أنعم، وابتلاه بضيق العيش؛ ليصبر، لا ليجزع؛ فلا شكر هذه النعم بل بطر، ولا صبر على الشدائد؛ بل جزع؛ فجائز أن يكون المراد بقوله: (كَلَّا)، منصرفا إلى هذا ردا لاعتقادهم وصنيعهم، وهو أنه لم يكرم ولم ينعم ليبطر به، ولا ضيق عليه رزقه ليجزع، بل إنما أنعم ليشكر، وقدر عليه رزقه ليصبر، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) جائز أنهم كانوا لا يكرمونه ويهينونه مع ذلك؛ لأن إكرام اليتيم ليس بواجب، أما إهانته فحرام.

(18)

وجائز ألا يثبت الإهانة منهم مع نفي الإكرام؛ لأن الإيجاب إذا ذكر في مضادة الإيجاب اقتضى ذلك إثبات المقابلة وإذا ذكر الإيجاب في مضادة النفي، أمكن أن تثبت فيه المقابلة، وأمكن ألا تثبت؛ ألا ترى: أنه إذا قيل: فلان جائر، كان فيه إثبات المقابلة وهي نفي العدل؛ لأن في قوله: " جائر " إثبات الجور؛ فكان في ذكره نفي العدالة، وفيه إثبات المقابلة، وإذا قلت: ليس بعدل، لم يكن فيه تحقيق لإثبات المقابلة وهو الجور، بل يجوز أن يكون جائرًا، ويجوز ألا يكون، وقد يراد بالنفي إثبات المقابلة أيضا؛ قال اللَّه تعالى: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)؛ فكان في نفى الربح إثبات المقابلة في أنها خسرت. ثم إكرام اليتيم هاهنا يحتمل أوجها ثلاثة: أحدها: أن يكرمه في أن يحفظ عليه ماله حتى لا يضيعه، ويكرمه في نفسه، وهو أن يتعاهد أحواله عن أن يدخل فيها خلل. والوجه الثاني: أن يكرمه؛ فيعلمه آداب الشريعة، ويرشده إليها. والوجه الثالث: أن يكرمه؛ فيبذل له من ماله قدر حاجته إليه، ويصطنع إليه المعروف؛ فيكون التعيير هاهنا في إهانة اليتيم أن يترك الإكرام الذي هو من باب حفظ ماله؛ فيكون تضييعا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) أي: لا يحثون غيرهم على إطعام المساكين. وجائز أن يحضوا ولا يتولوا بأنفسهم الإطعام. ويحتمل ألا يتولوا ذلك بأنفسهم، ويحضوا غيرهم. ففي هذه الآية ترغيب للمسلمين بإكرام اليتيم وتعاهد ماله، وتبيين أن عليهم أن يطعموا بأنفسهم، وأن يحثوا الأغنياء بإطعام المساكين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) فاللم: الجمع؛ يقال: لم المال؛ إذا جمع؛ فكأنه يقول: يجمعون ما لم يرثوه بأنفسهم -وذلك نصيب الأيتام- إلى

(20)

ما يرثون من أنصبائهم، فيأكلونه جميعا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا)؛ أي: شديدا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) قال أبو بكر: أي: تحبوته حبا وفيا وافرًا ليس فيه قصور؛ فيكون فيه إخبار عن غاية حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها. وجائز أن يكون على التقديم والتأخير، وهو أنهم يحبون المال الجم حبا؛ أي: المال الكثير. وقوله: (كَلَّا ... (21)؛ ردع وتنبيه: فمنهم من رد هذا الردع إلى قوله: (رَبِّي أَكْرَمَنِ)، و (رَبِّي أَهَانَنِ)، فكأنه يقول: كلا ليست هذه الدار دار جزاء؛ فيكون الإهانة والإكرام بحق الجزاء، وإنما هي دار محنة وابتلاء. ومنهم من حمله على الابتداء، فقال: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) بمعنى حقا، يخبر عن ندمه في تركه الإكرام لليتيم، وترك إطعام المسكين والحض عليه: (إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ) أي: دقت وكسرت، وذلك يوم الحساب والبعث. وقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) يحتمل أوجها: أحدها: أن يكون معناه: وجاء ربك بالملك؛ إذ يجوز أن تستعمل الواو مكان الباء؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ)، ومعناه: بربك، وإذا حمل على هذا ارتفعت الشبهة، واتضح الأمر؛ لأنه لو كان قال: وجاء ربك بالملك، لكان لا ينصرف وهم أحد إلى الانتقال من مكان إلى مكان، وقال - تعالى -: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ)، ومعناه - واللَّه أعلم -: بظلل من الغمام؛ لأنه قال في موضع آخر: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ)؛ فثبت أن معناه ما ذكرنا وإذا ثبت هذا ارتفع الريب والإشكال. ومنهم من ذكر أن معنى قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، وقوله: (إِلَّا أَن يَأتِيَهُمُ اللَّهُ)، أي: أمر اللَّه؛ دليله ما ذكر في سورة النحل قوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)، فذكر مكان قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ): (أَمْرُ رَبِّكَ).

ويحتمل أن يكون قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، أي: جاء وعده ووعيده، فنسب المجيء إلى اللَّه تعالى، وإن لم يكن ذلك وصفا له؛ لأنه يجوز أن تنسب آثار الأفعال إلى اللَّه - تعالى - نسبة حقيقة الفعل وإن لم يوصف به، كما قال اللَّه - تعالى -: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)، فأضيف النفخ إليه وإن لم يوصف بأنه نافخ، وقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، فأضيفت الكتابة إليه وإن لم يوصف بأنه كاتب؛ لما أن ما ظهر من آثار فعله، ويقال: المطر رحمة اللَّه؛ أي: من آثار رحمته، لا أن يكون المطر صفة له، ويقال. الصلاة أمر اللَّه، والزكاة أمر اللَّه، أي: بأمر اللَّه نصلي، وبأمره نزكي، لا أن يكونا وصفين له. ووجه آخر: أن يكون معنى قوله - تعالى -: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، أي: جاء الوقت الذي به صار إنشاء هذا العالم حكمة؛ إذ لولا البعث للجزاء، لكان إنشاء هذا العالم ثم الإهلاك خارجا مخرج العبث؛ لما وصفناه من قبل؛ لقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)؛ فثبت أن خلقه إنما صار حكمة بالبعث، وقال اللَّه تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، وقد كان الملك له قبل ذلك اليوم، ولكن ملكه لكل أحد يتبين في ذلك الوقت، وقال: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا)، وقد كان كل شيء له بارزًا، ولكن معناه: أنه أتى الوقت الذي له برز الخلائق. ثم الأصل في كل ما أضيف إلى اللَّه - تعالى - أن ينظر إلى ما يليق أن يوصل بالمضاف إليه، فتصله به وتجعله مضمرا فيه، قال اللَّه - تعالى -: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)، ولم يفهم إثبات الحضور، وكان معناه: أن علمه محيط بهم، وهو مطلع عليهم. وقال: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)، ولم يفهم به الانتقال؛ بل كان معناه: أنه جاءهم بأسه، وجاء لأوليائه نصره. وقال: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ)، ولم يفهم بهذا الإتيان ما فهم من الإتيان الذي يضاف إلى الخلق.

وقال اللَّه، تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، وكان معناه: إن تنصروا دين اللَّه؛ لا أن اللَّه - تعالى - يلحقه ضعف يحتاج إلى من يقويه. وقال اللَّه، تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)، وكان معناه: أنه يحذركم عذابه؛ لا أن أريد به تحقيق النفس. ومثل هذا في القرآن أكثر من أن يحصى؛ فثبت أن محل الإضافات ما ذكرنا؛ فلذلك حمل على الوعد والوعيد، أو على الوقت الذي به صار خلق العالم حكمة، أو على ما صلح فيه من الإضمار. ومما يدل على أنه لا يفهم بالمجيء معنى واحد، بل يقتضي معاني: أن المجيء إذا أضيف إلى الأعراض، فُهِم به غير الذي يفهم به إذا أضيف إلى الأجسام؛ فإنه إذا أضيف إلى الأعراض أريد به الظهور؛ قال اللَّه تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ)، ومعناه: إذا ظهر نصره، ولم يرد به الانتقال، ولو كان مضافا إلى الجسم، فهم منه الانتقال من موضع إلى موضع. وقال اللَّه تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، ومعناه: ظهر الحق، واضمحل الباطل، لا أن يكون الحق في مكان، فنقل عنه إلى غيره؛ فثبت أن المجيء إذا أضيف إلى شيء وجب أن يوصل به ما يليق به؛ لا أن يفهم به كله معنى واحد. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال - حكاية عن اللَّه تعالى -: " من تقرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إليَّ ذراعا، تقربت إليه باعا، ومن أتاني ساعيا أتيته هرولة " ولم يفهم من هذا التقرب ما يفهم منه إذا أضيف إلى الخلق، وكان معناه: من تقرب إليَّ بالطاعة والعبادة تقربت إليه بالتوفيق والنصر أو بالإحسان والإنعام. وقال موسى - عليه أن سلام -: " يا رب أقريب أنت فأناجيك أو بعيد فأناديك؟! "، ولم يرد به المكان؛ وإنما أراد بقوله: أراضٍ أنت عني فأناجيك، أو ساخط عليَّ فأناديك في أن أعلن بالبكاء والتضرع؟! ثم الأصل في المجيء المضاف إلى اللَّه - تعالى - أن يتوقف فيه، ولا يقطع الحكم على شيء؛ لما ذكرنا أن المجيء ليس يراد به وجه واحد؛ لأنه إذا أضيف إلى الأعراض

(23)

أريد به غير الذي يراد به إذا أضيف إلى الأجسام والأشخاص، واللَّه أعلم. واللَّه تعالى لا يوصف بالجسمية حتى يفهم من مجيئه ما يفهم من مجيء الأجسام، ولا يوصف بالعرض؛ ليراد به ما يراد من مجيء الأعراض؛ فحقه الوقف في تفسيره مع اعتقاد ما ثبت بالتنزيل من غير تشبيه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23). قيل فيه من أوجه: أحدها: أنها أظهرت وبرزت لأهلها، على ما قال في آية أخرى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ)، لا أنها كانت في مكان فنقلت عنه، وقد يراد بالمجيء الظهور، قال اللَّه - تعالى -: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)، ومعناه: ظهو لكم، لا أن كان في مكان آخر فجيء به إليهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جيء بأهلها إليها -أي: إلى جهنم- فيكون حقيقة المجيء من الأهل، ثم نسب إليها؛ لأنهم إذا أتوها فقد أتتهم هي، وهو كقوله: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)؛ فنسب الإتيان إلى الذي يأتيه الوعد؛ فيكون الوعد هو الذي يأتي أهله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ)، أي: يجيء زفرتها وشهيقها وتغيظها على أهلها، لا أن تغير عن مكانها. ومنهم من حمله على حقيقة المجيء؛ فذكر أنه يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام، على كل زمام سبعون ألف ملك، واللَّه أعلم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ) يحتمل أن يتذكر إشفاق الأنبياء - عليهم السلام - ونصحهم لهم؛ فيعلم أنه كان فيما توهم بهم من الظنون القاسدة مبطلا؛ فيكون تذكره ذلك تصديقا منه للرسل، عليهم السلام. (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)، أي: لا ينفعه تصديقه إياهم، إذ لم يصدقهم في الدنيا.

(24)

أو يتذكر في أن يتلهف على ما فرط في جنب اللَّه من التقصير في حقوقه، والتضييع الذي سبق منه حيث لم يشكر نعمه، ولم يوجه إليه العبادة؛ فيكون تلهفه ذلك إيمانا، ولكن لا ينفعه تلهفه في ذلك الوقت؛ لأن تلك الدار ليست بدار امتحان، بل هي دار جزاء، والذي يحمله على التصديق مشاهدته الجزاء والحساب، وعند المشاهدة ترتفع المحنة، ويكون إيمانه ذلك ضروريا لا حقيقة؛ فلذلك لا ينفعه، وإنما ينفعه الطاعة وقت ملكه نفسه، فأما إذا خرج ملك نفسه من يده، لم يقع له بالإيمان جدوى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ)، أي: يتعظ، (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)، أي: أنى له الانتفاع بالموعظة. ثم في هذا التذكير بيان لطف من اللَّه تعالى بعظته حتى يتذكر، وإلا فالإنسان يذهب عليه ما قد كتبه في وقت إذا أتى عليه حين، حتى لو أراد أن يتذكر وقت كتابته لم يقدر عليه، ثم اللَّه - تعالى - يذكره في الآخرة جميع ما سبق منه في الدنيا فيتذكر ذلك؛ فيقول: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) أي: يا ليتني قدمت لنفسي حياة تسلم لي، أو حياة تبقى لي لذتها، فهذا هو تلهفه وتذكره في ذلك اليوم، يتلهف على ما فاته من الخيرات، ويندم على ارتكابه المعاصي وكفرانه نعم اللَّه تعالى. ومعنى قولنا: حياة تسلم لي؛ فأتلذذ بها: هو أن الكافر، وإن كانت له حياة في الظاهر، فإنما حياته للتعذيب، فتلك له في الحقيقة ليست بحياة، بل هي إهلاك؛ ألا ترى أن الإنسان إذا أخذ في النزع فهو في ذلك الوقت حي بعد، لكن حياته للإهلاك، فليست هي في الحقيقة حياة لكنها إهلاك فعلى ذلك حياة المخلد في النار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26): قرئت هذه الآية على نصب الذال والثاء، وعلى الخفض فيهما: فمن قرأهما على الخفض فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن العذاب في الدنيا وإن اشتد من الملوك على الإنسان، فهو لا يبلغ عذاب اللَّه تعالى لأعدائه في الآخرة وإن خف. أو (لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ)، أي: لا ينبغي لأحد في الدنيا أن يعذب أحدا بعذاب اللَّه -

(27)

تعالى - وهو النار، كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا يعذب أحد بعذاب اللَّه تعالى " وإن كان على النصب، فهو يحتمل وجهين أيضا: أحدهما: أن يكون التأويل منصرفا إلى صنف من الكفرة، وهم الذين بلغوا في الكفر أعلى مراتبه؛ فلا يعذب من دونهم بعذابهم. والثاني: ألا يعذب أحد مكان أحد كما يفعله ملوك الدنيا في أنهم يعذبون الوالد مكان الولد، ويعذبون من يتصل بالذين استوجبوا العذاب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27): فالمطمئنة: هي الساكنة التي لا ترتاب، ولا تضطرب؛ فتكون طمأنينتها بوعد الله ووعيده، وأمره ونهيه، وتوحيده. ثم يجوز أن يكون هذا في أمر الدنيا؛ فيكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ... (28)، أي: ارجعي إلى ما أمرك ربك (رَاضِيَةً) بوعد اللَّه ووعيده؛ فتكون راضية بالذي وعد لها في الآخرة جزاء لكدحها وسعيها في الدنيا، (مَرْضِيَّةً) عند اللَّه تعالى. (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) أي: مع عبادي الصالحين. (وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) أي: ادخلي فيما يستوجب به الجنة. وجائز أن يكون هذا في الآخرة، وهو: أن يقال للنفس التي اطمأنت في الدنيا بوعد اللَّه ووعيده، وعملت بطاعته: (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي). وقيل: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) بالدنيا (ارْجِعِي) إلى طلب الآخرة، وما أعد اللَّه تعالى لأوليائه فيها. وقيل: (الْمُطْمَئِنَّةُ) على عباده، (ارْجِعِي) إلى طاعة اللَّه تعالى؛ فإنك إذا فعلت ذلك، رضي اللَّه تعالى عنك، ورضيت بعطاء اللَّه تعالى وثوابه إياك في الآخرة، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. * * *

سورة (لا أقسم بهذا البلد)

سُورَةُ (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ): اختلف في قوله: (لَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَا) هاهنا في موضع الدفع والرد لمنازعة كانت بين قوم؛ فدفع اللَّه - تعالى - المنازعة من بينهم بقوله: (لَا)، وكانت تلك المنازعة معروفة فيما بينهم؛ فترك ذكرها لذلك، كما ذكر الجواب في بعض السور ولم يذكر السؤال؛ لما كان السؤال عندهم معروفا؛ فترك ذكره، وهو كقوله: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، وغير ذلك. ومنهم من يقول بأن حرف (لَا) مرة يستعمل في حق الصلة والتأكيد، ومرة في موضع النفي، ويظهر مراده بما يعقبه من الكلام: فإن كان الذي يعقبه إثباتا، فهو بحق التأكيد، وإن كان الذي يعقبه من الكلام نفيا فهو في موضع النفي. ثم الذي عقبه من الكلام إثبات، وليس بنفي؛ فدل أنه في موضع التأكيد؛ فكأنه قال: لأقسم بهذا البلد، ثم كان حقه أن يقول: " لأقسمن بهذا البلد " بإثبات النون، كما يقال: " لأفعلن "، في اليمين، لكن نون التأكيد قد تذكر في موضع القسم، وقد لا تذكر، قال الله تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بهَذَا الْبَلَدِ) قالوا: أريد بهذا البلد: مكة، فأقسم بها بما عظم شأنها بما سبق ذكرنا له، ولخاصة هي معظمة في أعين أهلها، ثم كان من عادة الكفرة القسم بكل ما يعظمونه؛ فعاملهم اللَّه - تعالى - من الوجه الذي جرت به العادة فيما بينهم؛ ليؤكد ما قصد إليه بالقسم؛ فيزيل عنه الشبه التي اعترضت لهم. وقوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2): قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَنْتَ حِلٌّ): نازلها من الحلول.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: وأنت حلال بهذا البلد، والحل والحلال لغتان. فإن كان على هذا فالحل غير منصرف إلى نفسه؛ وإنما انصرف إلى ما أحل له؛ لأنه لا يجوز أن يكون هو بنفسه حلالا أو حراما؛ فالحل والحرمة إذا أضيفا إلى من له الحل والحرمة فإنما يراد بالحل والحرمة الشيء الذي أحل له، والشيء الذي حرم عليه، لا أن يكون الوصف راجعا إلى المضاف إليه، فإذا قيل: هذا محرم، أريد به أن الأشياء محرمة عليه، وإذا قيل: هذا حلال ليس بمحرم أريد به أن الأشياء له حلال، وإذا أضيفا إلى من لا يخاطب بالحل والحرمة، أريد بهما عين ذلك الشيء كقوله: هذا لحم حلال أو صيد حلال، وهذا لحم حرام؛ فيريد أن ذلك اللحم حلال، وذلك الصيد حرام أو حلال. ثم اختلفوا في الذي أحل له: فمنهم من صرفه إلى القتال، فقال بأنه أحل له القتال فيها، وذلك يوم فتح مكة. ومنهم من قال بأنه أحل له الدخول فيها إذا جاء من الآفاق بغير إحرام، ولا يحل ذلك لغيره. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة: " إن مكة حرام، حرمها اللَّه - تعالى - يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، وهي ساعتي هذه، هي حرام بحرام اللَّه تعالى إلى يوم القيامة، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها، ولا يرفع لقطتها، إلا من نشدها "، فقال العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إلا الإذخر يا رسول اللَّه؛ فإنه لا غنى لأهل مكة عنه للقبر والبنيان؟ فقال - عليه السلام -: " إلا الإذخر " فبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنها قد أحلت له ساعة من نهار. والحل يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما. وذكر أبو بكر الأصم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يؤذيه أهل مكة؛ فيتأذى بهم؛ فيخرج من بين أظهرهم؛ فيحل له الصيد في ذلك الوقت. ولكن لا يسع صرف التأويل إلى هذا؛ إذ لا يعرف مثل هذا إلا بالخبر والنقل. ثم في قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على لسان العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إلا الإذخر " دلالة أن

(3)

التحريم لم يكن منصرفا إليه، ويحتمل أن يكون التحريم شاملاً له، ثم استثناه بما ذكر العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من حاجة أهل مكة إليه؛ لما لم يكن بين ما ذكر من التحريم والتحليل كثير مدة يجري في مثلها النسخ، ولكن ترك بيان الحل إلى أن سأله العباس - رضي اللَّه عته - ثم بين. وهو دليل قول أصحابنا - رحمهم اللَّه -: إن تأخير البيان جائز. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون القسم منصرفا إلى نفسه؛ فأقسم به؛ لما عظم من أمره وشأنه؛ كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: لا أقسم بهذا البلد وبالذي هو حل بهذا البلد. أو يكون منصرفا إلى مكة، ويكون قوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) خرج مخرج التعريف بمكة؛ لكونه فيها، أي: البلد الذي أنت نازل به، وحال به، أو حلال فيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3): قَالَ بَعْضُهُمْ: الوالد هو آدم عليه السلام (وَمَا وَلَدَ): هم أولاده وذريته، ولكن آدم - عليه السلام - وأولاده ليسوا بمخصوصين بالدخول تحت اسم الولد والوالد؛ بل ذلك فيهم، وفي جملة الروحانيين؛ فيكون القسم بالخلائق أجمع، ويكون (وَمَا) على هذا التأويل بمعنى " الذي ". ومنهم من جعل أن " ما ": " ما " جحد؛ ققال: " وما ولد " أي: الذي لا يلد وهو العاقر، فأقسم بالبشر جملة من يلد منهم ومن لا يلد، وأقسم بهم - أيضا - لما جعلهم مفضلين على كثير من الخلائق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4): قَالَ بَعْضُهُمْ: الكبد: الانتصاب، أخبر أنه خلق الإنسان منتصبا، وخلق كل دابة منكبا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكبد: الشدة والمعاناة.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلقه منتصبا في بطن أمه، ثم يقلب وقت الانفصال. ولقائل أن يقول: أي حكمة في ذكر هذا وفي تأكيده بالقسم، وكل يعلم أنه خلق كذلك؟ فجوابه أن في ذكر هذا إبانة أنهم لم يخلقوا عبثا باطلا، بل خلقهم اللَّه تعالى ليمتحنهم ويأمرهم بالعبادة، كما قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). فإن كان التأويل منصرفا إلى الشدة والمعاناة فتأويله: أنه خلقهم ليكابدوا المعاش والمعاد جميعا، وخلقهم للشدة؛ ليعتبروا ويتذكروا. وإن كان منصرفا إلى الانتصاب، ففيه تعريف لعظم نعم اللَّه - تعالى - عليهم من غير أن كانوا مستوجبين لذلك؛ ليستأدي منهم الشكر بذلك. وإن كان التأويل على ما ذكر أنه خلقه منتصبا في بطن أمه، ثم يقلب وقت الانفصال، ففيه أن اللَّه - تعالى - قادر على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء؛ لأنه لا يتهيأ لأحد أن يقلب أحدًا، فيجعل أعلاه أسفله، إلا أن يجد مثله في المكان سعة، ثم إن اللَّه - تعالى - قلبه، فجعله أعلاه أسفله في ذلك المكان الضيق، فتبين لهم ألا يعجزه شيء؛ فيحملهم ذلك على الإيمان بالبعث والنشور، واللَّه أعلم. ومعنى قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) عندنا: لقد خلقنا الإنسان لما له يكابد، فإن كانت مكابدته في طاعة اللَّه تعالى، وكان مؤثرا لها - فقد خلق للجنة، وإن كانت مكابدته في أمر الشيطان، فهو للنار خلق، وعلى هذا يخرج قوله - تعالى -: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)، أي: ذرأ من يعلم أنه يؤثر طاعة الشيطان وعصيان الرحمن لجهنم، وذرأ من يعلم أنه يعبد اللَّه ويوحده للعبادة بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). والأصل: أن الحكيم أبدا يقصد بفعله العاقبة إلا الذي ليست له معرفة بالعاقبة، فأما من عرف العاقبة فابتداء فعله يقع لتلك العاقبة، فإن كانت عاقبته النار؛ فابتداء الخلق من اللَّه - تعالى - يقع لذلك الوجه، وإن كانت عاقبته الجنة فهو لذلك الوجه ما خلق؛ فعلى هذا يخرج تأويل قوله - عليه السلام -: " السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه " وهو لا يوصف بالسعادة

(5)

والشقاوة في ذلك الوقت؛ ولكن معناه أنه: إذا آثر الشقاوة في حالة الامتحان خلق كذلك، وإذا آثر السعادة فكذلك أيضا. وقال نوح - عليه السلام -: (وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)، وهم في وقت ما وُلدوا غير موصوفين بواحد من الوصفين، بل يصيرون كذلك؛ فيتبين أنهم خلقوا لذلك؛ فموقع القسم على ما له يكابد، ليس على المكابدة نفسها؛ لأن المكابدة من الإنسان ظاهرة لا يحتاج إلى تأكيدها بالقسم. وقولنا: إن المقصود من ابتداء الفعل العاقبة قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " إذا أردت أمرا فدبر عاقبته، فإن كانت رشدا فأمضه، وإن كانت غيا فانته ". وزعمت المعتزلة أن اللَّه - تعالى - لم يخلق أحدا من البشر إلا ليعبده، ولو كان الأمر على ما زعموا وظنوا، لأدى ذلك إلى الجهل بالعواقب، أو وجب أن يكون الفعل خارجا مخرج الخطأ؛ لأن كل من صنع أمرا يريد غير الذي يكون جاهلا بالعواقب، أو عابثا بالفعل؛ لأن من يبنى لشيء يعلم أنه لا يكون، عد ذلك منه عبثا، ولو كان غير الذي يريده، وهو أن يبني ليسكن فيه، ثم ينقض قبل أن يسكن، كان الذي حمله على البناء جهله بالعواقب. وجل اللَّه - تعالى - من أن يلحقه خطأ في التدبير أو جهل بالعواقب؛ فثبت بما ذكرنا أن اللَّه - تعالى - شاء لكل فريق ما علم الذي يكون منهم، وخلقهم لذلك الوجه دون أن يكون خلق الجملة للعبادة، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا. أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ): فالآية تحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون حسب أن اللَّه - تعالى - لا يقدر على بعثه؛ فيكون قوله: (أَحَدٌ) هو اللَّه تعالى. (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أي: جما. (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أي: أنفقت منه مقدار ما يخرج عن حد الإحصاء. وقوله: (لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ)، أي: لم يعلم أحد مبلغ ما أنفق من ذلك.

(8)

أو يكون قوله: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ)، أي: لم يعلم أتباعه الذين أنفق عليهم مقدار ما أنفق عليهم؛ فيكون في قوله - تعالى -: (أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) إظهار منه لسخاوته وجوده، على الافتخار منه بذلك، وامتنانا منه على أتباعه، فإن كان على هذا فهو في أمر الدنيا، وقد علم اللَّه القدر الذي أنفق عليهم، وعلم الخلق سخاوته لا بقوله؛ فليس اشتغاله في إظهار الجود والامتنان إلا نوع من السفه، وكان الذي يحق عليه الاشتغال بالشكر لله - تعالى - أو توجيه الحمد إليه؛ لما علم أن الذي أنعم به من المال الكثير من اللَّه تعالى، وأن تلك المنقبة -وهي السخاوة- نالها باللَّه تعالى، وهذا كقوله - تعالى -: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ)، أي: آباؤكم لم ينالوا ما تذكرون من الشرف والمناقب الحميدة إلا باللَّه - تعالى - فاذكروه كذكركم آباءكم، وهذا النوع من الافتخار راجع إلى الخصائص من القوم لا إلى الجملة؛ إذ كل أحد يقول مثل ذلك: إنه أهلك مالا لبدا، وفعل كذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9): فإن كان قوله: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) على نفي القدرة على البعث، ففي ذكر العينين نفي تلك الشبهة، وهو أن اللَّه - تعالى - أنشأ له بصرا يرى بفتحة واحدة ما بين السماء والأرض، فمن بلغت قدرته هذا لا يعجزه شيء أو يخفى عليه أمر، فقوله: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ)، أي: ألم نخلق له عينين يدرك بهما المحسوسات بالنظر، وجعلنا لهما جفونا وأشفارا يدفع بهن القذى عن عينيه، ويغضهما بهن عن النظر إلى ما لا يعنيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِسَانًا) أي: خلقنا له لسانا يحضر به ما غاب واستتر. وقوله: (وَشَفَتَيْنِ) ففي خلق الشفتين وجهان من الحكمة. أحدهما: أنه جعلهما طبقا يستران قبح ما في فمه، ولولاهما لكان الناظر إليه وقت مضغه الطعام أو شيئا من الأشياء، استقذر ذلك منه. وجعلهما طبقا للسانه؛ لئلا يمده، ويستعمله فيما لا يعنيه. فذكرهم عظيم نعمه في خلق العينين واللسان والشفتين؛ ليستأدي منهم الشكر، وليعلموا أن الذي بلغت قدرته هذا، ليس بالذي يعجزه شيء. وقوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10).

(11)

أي: بينا له ما عليه، وما له، وما يحمد عليه، وما يذم، وما يقبح ويجمل، والنجد: الطريق، فبين للخلق الطريقين جميعا: طريق الخير والشر، ومكنهم من الفعلين جميعا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: النجدان: الثديان، أي: هديناه الثديين في حالة الإرضاع. ولكن التبيين والهداية لم ينصرف إلى هذا خصوصا، بل هذا من بعض ما هداه وبينه، فقد بين له غيره من الأمور، ولا قيد في اللفظ؛ فيحمل على الإطلاق والعموم. * * * قوله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ): قيل: فيه من وجهين: أحدهما: فهلا اقتحم العقبة. والثاني: أنه لم يقتحم. فإن كان على الأول، فمعناه: أن الذي قال: أنفقت مالا لبدا، كيف لا كان إنفاقه في فك الرقبة، وفي الإنفاق على اليتيم والمسكين الذي بلغ به الجهد إلى أن ألصق بالتراب؟ ويكون من جملة من آمن باللَّه - تعالى - وتواصى بالصبر والمرحمة؛ ليكون من أصحاب الميمنة، ويكسب بذلك الحياة الطيبة في الآخرة دون أن تكون العاقبة في الملاهي وشهوات النفس؛ فلم يحصل لنفسه حمدًا ولا أجرا في العقبى، بل صار من أصحاب المشأمة، فيكون ما بعد قوله: (أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا)، صلة له وتفسيرا. وإن كان التأويل على النفي، ففيه تكذيبه فيما زعم أنه أنفق مالا لبدا، فيقول: لو كان على ما يظن، لظهر ذلك، بفك الرقاب والموأساة على اليتيم وعلى المسكين الذي هو ذو متربة؛ فيكون هذا كله صلة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) أيضا. ثم قيل في العقبة من وجهين:

(12)

أحدهما: على تحقيق العقبة، وهو أن يكون في النار عقبة لا تجاوز ولا تقطع إلا بما ذكر من فك الرقبة والإطعام في يوم ذي مسغبة، كقوله - تعالى -: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) على تحقيق العقبة؟ معناه: وما يدريك بم تقطع تلك العقبة؟ ثم بين أنها تقطع بما ذكر من فك الرقبة ونحوه. وجائز أن يكون على التمثيل لا على التحقق، ووجهه: أنه يشتد عليه تحمل المؤن التي ذكر من فك الرقبة، وإطعام المساكين، ومواساة اليتيم؛ فتكون العقبة كناية عن تحمل المؤن، لا على العقبة نفسها، وهو كقوله: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)، أي: يصير الإيمان عليه في الشدة والثقل كأنه كلف الصعود إلى السماء، ويشتد على الأول تحمل المؤن، كما يشتد عليه قطع العقبة والصعود عليها. والاقتحام: هو رمي النفس في المهالك. وقيل: الاقتحام: هو تحمل المؤن: فإن كان على تحمل المؤن، فوجهه ما ذكرنا: أن كيف لم يتحمل هذه المؤن؛ ليصير من أهل الميمنة؟ وإن كان على الرمي في المهالك؛ فكأنه يقول: قد أهلك نفسه بتركه الإنفاق في الوجوه التي ذكر، والإعراض عن الإيمان باللَّه تعالى، بتركه فكاك الرقبة. وروى أبو بكر الأصم في تفسيره خبرا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن رجلا سأله فقال: يا رسول اللَّه، دلني على عمل أدخل به الجنة؟ فأمره بعتق النسمة، وفك الرقبة؛ فقال السائل: أليسا هما واحدا؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا؛ عتق النسمة: أن تعتقها، وفك الرقبة: أن تعين على فكاكها ". ففكاك الرقبة: أن تخلصها من وجوه المهالك، وذلك يكون بالتخليص عن ذل الرق، وأن ترى إنسانا يهم بقتل آخر بغير حق؛ فتدفع عن المظلوم شر الظالم، وتراه يغرق؛

(13)

فتخلصه عن ذلك؛ فيكون في ذلك كله فكاك الرقبة عن المهالك؛ لتكتسب بها الحياة الطيبة في الآخرة. واختلف القراء في هذا الحرف: فمنهم من قرأه: (فَكَّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ أطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) على النصب. ومنهم من قرأه: (فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعَامٌ) على الرفع. فإذا قرأته بالنصب، فمعناه: هلا فك رقبة، أو أطعم؛ فيكون راجعا إلى تفسير الاقتحام. وإذا قرأته بالرفع، انصرف التأويل إلى تفسير العقبة؛ فكأنه قال: قطع العقبة يكون بالفك وبما ذكر. وذكر عن سفيان بن عيينة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: كل ما في القرآن: (وَمَا أَدْرَاكَ)، فقد أعلمه ودرَّاه، وكل ما فيه (وَمَا يُدْرِيكَ)، فهو لم يعلمه، واللَّه أعلم. والمسغبة: المجاعة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَا مَقْرَبَةٍ (15): أي: ذا قرابة منه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَا مَتْرَبَةٍ (16): أي: ألصق بطنه بالتراب. وقيل: الذي ليس له شيء يحجبه عن التراب. ثم في قوله: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ) دلالة وجوب حق اليتيم على القريب إذا كان محتاجا؛ فيكون فيه حجة لقول أصحابنا: إن اليتيم إذا كان محتاجا، فرضت نفقته على أقربائه. وفي قوله: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) دلالة أن المسكين الذي وصفه، وهو ألا يكون بينه وبين التراب حائل، فكفايته تلزم الخلق جملة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17): فتأويله أنه لا ينفعه فك الرقبة ولا الإطعام؛ حتى يكون مؤمنا مع ذلك، متواصيا بالصبر

(18)

والمرحمة، فإذا كان كذلك؛ فحيئنذ يحصل قاطعا للعقبة. وجائز أن يكون الصبر أريد به الإيمان؛ كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أي: آمنوا. والتواصي بالصبر والمرحمة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ التواصي مأخوذ من الوصية، وهذا يوجب أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في اعتقاد الإيمان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18): أي: أصحاب الميامن، وهم أهل اليُمْن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19): أي: أصحاب الشؤم على أنفسهم؛ حيث عملوا بالمعاصي، واستوجبوا بها نارا مؤصدة، وهي المؤصدة المطبقة المبهمة، وصفة الإطباق ما ذكر في آية أخرى، وذلك قوله - تعالى -: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)، وقال اللَّه تعالى: (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) الآية، واللَّه أعلم. * * *

سورة الشمس

سُورَةُ الشَّمْسِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا). قالوا: تأويله: والشمس وضوئها. وقيل: وحرها. وقيل: وبهائها. وهذا في موضع القسم؛ وذلك لأن اللَّه - تعالى - جعل في الشمس معاني تدل على لطائف حكمته وعجائب تدبيره، وجعلها في النهاية من البركات، وفي النهاية من الآيات، فمن عجيب تدبيره أنه جعل نورها بحيث يهلك نور الظل حتى إذا بدت في مكان أذهبت نور الظل، ونور السراج، ونور القمر، وستر نورها الكواكب عن أن ترى، وجعلها بحيث يظهر بها هباء الهواء، فبين أن الهواء ذا هباء؛ ألا ترى أنك إذا نظرت في المشكاة حين سقوط الشمس فيها تبين لك بها هباء الهواء، ولو أراد أحد من الخلائق أن يتدارك المعنى الذي به استنار هذا الشَّمس كل هذا لم يقف عليه. ثم من بركتها أن بحرارتها مصالح الأغذية، وبها مصالح النبات، وبها ييبس الحب، وبها تنضج الفواكه. ومن عجيب تدبيره أنه جعلها بالنائي عن كل شيء له بها صلاح؛ إذ لو دنت منها، لكانت تحرق الأشياء كلها. ومن آياتها أن جعلت بحيث تسير وتقطع كل يوم مسيرة ألف عام ما يتعذر على الذي خلق للسير والمشي قطع تلك المسافة بمدد كثيرة. وهي أيضا تظهر جود الرب - جل جلاله - لأن منافعها تعم الخلق كلهم: برهم وفاجرهم، والولي منهم والعدو.

(2)

فأقسم اللَّه - تعالى - بها؛ ليزيل عن الكفرة الشبهة التي تعرض لهم في أمر الدِّين؛ إما في التوحيد، أو في الرسالة، أو في البعث، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2): جائز أن يتلوها في كل ما ذكرنا في الشمس من المنافع والمعاني؛ فيكون ثانيها في العمل، فإنه يقع به صلاح الأغذية أيضا، وهو ينير أيضا إلا أنه لا ينتهي منتهاها ولا يبلغ مبلغها، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا تلاها، أي: يتلوها في أول ما يهل؛ فإنه إذا وجبت الشمس في آخر اليوم من الشهر تلا غروبها طلوع الهلال. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه يتلوها إذا صار بدرا، وفي هذا دلالة أن منشئهما واحد؛ لأن منافعهما تعم الخلق جميعا، ولو لم يكن مدبرهما واحدا، لكانت لا تعم، بل يمنع كل واحد منهما مُنْشَأه عن إيصال النفع إلى قوم عدوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3): يحتمل أوجها: يحتمل أن يكون النهار جلى الدنيا. ويحتمل أن يكون جلى الأرض. ويحتمل أن يكون جلى الشمس. ويحتمل أن تكون تجلى الأبصار بنورها عن ظلمة الليل التي يغشاها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4): ينصرف إلى الأوجه التي ذكرنا أيضا، أي: يغشى الدنيا، أو الأرض، أو الشمس، أو يغشى الأبصار بظلمتها عن الخلائق، واللَّه أعلم. ثم لليل والنهار زيادة سلطان ليست للشمس ولا للقمر؛ لأن من سلطان الليل والنهار أنهما يفنيان الآجال، ويقطعان الأعمال، ولا يتهيأ لأحد الامتناع والتحرز من سلطانهما، ويتهيأ للخلق دفع أذى الشمس والقمر عن أنفسهم بالحيل والأسباب؛ فكان في ذكر الليل والنهار زيادة معنى ليس ذلك في ذكر الشمس والقمر.

(5)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5): قال الزجاج: " ما " بمعنى: " الذي "، وقد تستعمل في مثله، كقول العرب: " سبحان ما سبحت له السماوات والأرض "، أي: سبحان الذي سبحت له. وقَالَ بَعْضُهُمْ: " ما " هاهنا بمعنى " مَن "؛ كأنه يقول: والسماء ومَن بناها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: " ما " هاهنا تجعل الفعل الماضي بمعنى المصدر، تقول: أعجبني ما صنعت، أي: أعجبني صنعك؛ فيكون معناه: والسماء وبنائها. فإن كان التأويل على الوجهين الأولين، رجع القسم إلى اللَّه تعالى، والسماء، وإلى ما تقدم من الشمس والقمر والنهار والليل. وإن كان على التأويل الآخر، رجع القسم إلى ما خلق وهو السماء، فإن بناء السماء عينها. وقال أبو بكر الأصم: إن هذه الماءات في قوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا. وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)، تخرج على التعجب، على شرط التقديم، وإن كانت مؤخرة في اللفظ؛ كأنه يقول اللَّه، تعالى: وما السماء؟ ثم أجاب: بناها بأن رفع سمكها وسواها ورفعها بغير عمد ترونها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) أي: بسطها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7): قالوا: تسويتها في أن خلقها باليدين والرجلين والعينين ونحوها، فإن كان على هذا فالتسوية ترجع إلى الأغلب لا إلى الجملة؛ إذ ليس لكل نفس هذه الجوارح جملة؛ فيكون معناه: أنه سوى أكثر النفوس بما ذكر من اليدين والرجلين، وذلك جائز في الكلام، وهو كقوله - تعالى -: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا)، (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا)، ومعناه: أنه جعله سكنا ومقرا لأكثر الخلائق لا للجملة، وجعل النهار لأكثر الخلائق معاشا لا للجملة، واللَّه أعلم. وقيل: سوى جوارحها وأطرافها ما لو لم يكن له جارحة من تلك الجوارح يوصف

(8)

بالنقصان، وهذا أعم من الأول. ويحتمل: (سَوَّاهَا) على ما عليه مصلحتها، وتملك التقلب والتعيش، ليس على ما عليه سائر الحيوان. ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون قوله: (سَوَّاهَا)، أي: جعلها بحيث احتمال الكلفة والمحنة، كقوله - تعالى -: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى)، وتميز بين القبيح والحسن، وتعرف عواقب الأمور من الخير والشر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8): هذا يحتمل أوجها: أحدها: أي: بين لها فجورها وتقواها وعلمها، فمن زعم أن المعارف ضرورية خلقة، يحتج بهذه الآية، فيقول: أخبر - تعالى - أنه علمها فجورها وتقواها، وأنه وضع في نفسه ما يعرف به قبح كل قبيح، وحسن كل حسن. والأصل فيه عندنا: أنه يعرف حسن الأشياء وقبحها جملة ببداية العقول، ولكن العقول لا تعرف حسن كل شيء على الإشارة إليه، ولا قبح كل قبيح على الإشارة إليه؛ وإنما تعرف ذلك إما بخبر يرد على ألسن الرسل عليهم السلام، أو باستعمال الفكر؛ ألا ترى أنك تجد النفس من طبعها أنها تألف الملاذ والمنافع، وتنفر عن المكاره والآلام، ولكنها لا تعرف معرفة كل منتفع على الإشارة إليه ولا ضرارة أعين الأشياء؛ وإنما تعرف ذلك بالذوق. وكذلك العين تدرك الألوان، لكنها لا تعرف حسنه وقبحه؛ بل العقل هو الذي يفصل بينهما، فعلى ذلك قد جعل في طبع العقل قبح القبائح جملة وحسن الحسن، ولكن لا يفصل بينهما على الإشارة إلى كل في نفسه إلا بما ذكرنا؛ فيكون قوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، أي: جعل في نفسها ما يبين القبيح من الحسن، والخبيث من الطيب، ويبين قبح الفجور وحسن التقوى، ويلزمه المحنة والكلفة بذلك، ثم يصل إلى معرفة ذلك إما بالرسل، وإما باستعمال الفكر. ويحتمل وجها آخر، وهو أن يلهمها تقواها إذا وفَّى بما لله تعالى عليه من الاستقامة على الطريقة والمجاهدة؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا

(9)

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، فوعد الهداية بالجهاد، وقال - تعالى -: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ثم كانت الإجابة مضمنة شريطة، وهي أن يستجيب له الداعي فيما دعاه إليه؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، وقال - تعالى -: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)، وقال: (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ. . .) الآية؛ فثبت أن الذي يلهم التقوى هو الذي يقوم بوفاء ما عليه، فإذا قام به ألهمه التقوى، وبين له سبيل الفجور. وقال أبو بكر الأصم في قوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، أي: ألزمها فجورها وتقواها؛ فتكون تقواها لها، وفجورها عليها، لا يؤخذ أحد بفجور أحد، وفي هذا دليل على أن التقوى إذا ذكر مفردا انصرف إلى الخيرات أجمع، وإذا قرن به البر والإعطاء، انصرف إلى الاتقاء عن المحارم، كقوله - تعالى -: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ. . .)، وإذا قيل: بر، واتقى، أريد به: أنه بر بكل ما يحمد عليه، واتقى عن كل ما يذم عليه فاعله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10): فموقع ما تقدم من القسم بالشمس والقمر والليل والنهار على هذا، فقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) في الآخرة (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) في الآخرة؛ فيكون هذا منصرفا إلى الجزاء في الآخرة؛ على ما يذكر في قوله: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)؛ فيكون في هذا إيجاب القول بالبعث من الوجه الذي نذكره، إن شاء اللَّه تعالى. ثم اختلفوا في تأويل الفلاح: قَالَ بَعْضُهُمْ: أفلح، أي: سعد. ومنهم من يقول: أي: بقي في الخيرات، والفلاح: البقاء. ومنهم من يقول: أفلح، أي: فاز، والمفلح في الجملة هو الذي يظفر بما يأمل، وينجو عما يحذر؛ فيدخل في ذلك السعادة والبقاء والفوز. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ زَكَّاهَا): جائز أن يكون منصرفا إلى اللَّه تعالى. وجائز أن ينصرف إلى العبد، قال اللَّه - تعالى -: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى

(11)

مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)، وقال - تعالى -: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ. . .)، فبين اللَّه - تعالى - أنه هو الذي تفضل بتزكية من زكا. وجائز أن يصرف إلى العبد؛ فيكون قوله: (زَكَّاهَا)، أي: صاحبها، وكذلك قوله: (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) يحتمل هذين الوجهين؛ فيكون اللَّه - تعالى - هو الذي أنشأ فعل الضلال؛ فيكون الفعل من حيث الإنشاء من اللَّه تعالى، ومن حيث العمل من العبد. ثم قوله: (مَنْ دَسَّاهَا)، أي: أخفاها، وإخفاؤها: أنه صيرها بحيث لا تذكر في المحافل إلا بالذم، وزكى الأخرى، أي: أظهرها حتى ينظر إليها الناس بعين التبجيل والتعظيم. وهكذا شأن المتقي أن يكون مبجلا معظما فيما بين الخلق، والفاجر يعيش مذموما مهانا فيما بين الخلق. أو يرجع الإظهار والإخفاء إلى الآخرة: فيجلّ قدر المتقي المزكي، ويخمل ذكر الفاجر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (دَسَّاهَا) من " دسَّسْت "، فأسقط السين، وأبدل مكانها الياء. ثم الإضافة في قوله: (دَسَّاهَا) إلى اللَّه - تعالى - على خلق ذلك الفعل منه، وفي قوله: (مَن زكَّاهَا) على التوفيق. * * * قوله تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا): ولم يبين لمن كذبوا، وقد بينه في آية أخرى فقال: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِطَغْوَاهَا) يحتمل وجهين: أي: لأجل معصيتها وطغيانها؛ إذ الحامل لهم على التكذيب طغيانهم وتركهم التفكر في أمره؛ وإلا لو تفكروا فيما جاءهم به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يجدوا موضع التكذيب. والثاني: بأهل طغواها، أي: كذبت ثمود بسبب أهل الطغيان؛ فيكون في هذه الآية

(12)

إنباء أنهم لم يكذبوا رسولهم بشبهة اعترضت لهم، أو بحجة كانت لهم، بل كذبوه عن عناد منهم، وتيقن منهم برسالته، وذلك أن حجة نبيهم صالح - عليه السلام - جاوزت الحجج؛ لأنهم أوتوا الناقة على سؤال سبق منهم، وعلى تعد منهم في السؤال؛ إذ كان لهم أن يطالبوه بالحجة على دعوى الرسالة، ولم يكن لهم أن ينصوا السؤال على شيء يشيرون إليه، فهم بإشارتهم إلى سؤال الناقة كانوا معتدين فيه. ثم من حكمة اللَّه - تعالى - أن الحجة إذا كانت على أثر السؤال، ثم ظهر التكذيب من السائلين هو الاستئصال في الدنيا، وقد وجد من أُولَئِكَ القوم السؤال والتكذيب؛ فعوقبوا بالاستئصال، قال اللَّه - تعالى -: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)؛ فيبين اللَّه - تعالى - المعنى الذي لأجله لم يرسل الآيات التي سألت الكفرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو أنهم لو أوتوا، ثم عندوا، استؤصلوا؛ فقد أراد اللَّه - تعالى - إبقاء أمته إلى أن تقوم الساعة، وأرسله رحمة للعالمين، وجعل حجته من وجه فيها رحمة للعالمين، وهي القتال، ووجه الرحمة فيه: أنهم كانوا يمتنعون عن اتباعه؛ لحب الدنيا وشهواتها؛ فكان يمنعهم ذلك عن النظر في حججه وآيات رسالته؛ فكان في الجهاد ما يضيق عليهم المعاش، ويضطرهم إلى النظر في الحجج؛ فيحملهم ذلك على تصديقه والإيمان به؛ فثبت أن في القتال رحمة عليهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12). أي: قام أشقاها، وصار أشقاها بما أحدث من الكفر بعقر الناقة. وروي عن عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعلي. - رضي اللَّه عنه -: " ألا أخبرك بأشقى الناس، رجلين؟ " قال: بلى، يا رسول اللَّه. فقال: " أحيمر ثمود، عاقر الناقة، والذي يضرب على هذه -وأشار إلى هامته- حتى يبتل منها هذه، وأشار إلى لحيته " فصار عاقر الناقة أشقى الناس بما ذكرنا. وجائز أن يكون قاتل علي، صار أشقى الناس؛ لأنه استحل قتله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13): فهو يحتمل وجهين:

(14)

أحدهما: أي: احذروا ناقة اللَّه، وهو كقوله: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). والثاني: أي: قال لهم: ذروا ناقة اللَّه تأكل في أرض اللَّه، وذروا بين الناقة وسقياها -أي: شربها- ثم أضيفت الناقة إلى اللَّه - تعالى - لوجهين: أحدهما: أن اللَّه - تعالى - لم يأذن لأحد بالتملك عليها؛ حتى ينسب إليه الملك، بل بقيت غير مملوكة لأحد؛ فأضيفت إلى اللَّه - تعالى - كما أضيفت إليه المساجد؛ لما لا ملك لأحد عليها. أو أضيفت إلى اللَّه - تعالى - على معنى التفضيل، والأصل أن إضافة الأشياء إلى اللَّه - تعالى - بحق الجزئيات على تفضيل تلك الأجزاء من بين غيرها، وإضافة الأشياء إلى اللَّه - تعالى - بحق الكليات، تخرج مخرج تعظيم اللَّه تعالى، فإذا قيل: رب المساجد، أريد به: تفضيل المساجد من بين سائر البقاع، وإذا قيل: رب العرش، أريد به تعظيم العرش، وكذلك إذا قيل: رب الناقة، أريد به تعظيم أمرها، وإذا قيل: رب العالمين، ورب كل شيء، أريد به تعظيم الرب، جل جلاله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14): يحتمل أن يكونوا كذبوا صالحا في رسالته، أو كذبوه فيما أخبرهم من حلول العذاب بهم إذا عقروا الناقة، فعقروها مع ذلك. وقوله - تعالى -: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أطبق عليهم العذاب على الصغير والكبير، ومنه يقال: بعير مدموم؛ إذا كان سمينا أطبق شحمه على لحمه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: دمدم عليهم، أي: دمر عليهم بذنبهم، وذنبهم ما تعدوا من تكذيبهم الرسول، وعقرهم الناقة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَوَّاهَا): يحتمل وجهين:

(15)

أحدهما: أنه سواهم بالأرض؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ). أو سوى بين الصغير والكبير في الإهلاك؛ فالصغار منهم يومئذ ماتوا بآجالهم، والكبار منهم استؤصلوا بذنوبهم. وقوله: (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15): جائز أن تكون الإضافة منصرفة إلى اللَّه تعالى، وهو أن يكون اللَّه لما أهلكهم لم يخف تبعة الإهلاك. ووجه الخوف: هو أنه فيما أهلكهم، أهلكهم بما أوجبت الحكمة إهلاكهم، ولم يلحقه تقصير في الحكمة، ولا وجد العائب في ذلك مقالا. وهكذا قال الحسن: ذاك ربنا، لم يخف مما أنزل عليهم العذاب. أو يكون منصرفا إلى العاقر؛ فيكون معناه: أنه عقرها، ولم يخف العاقبة التي حذرهم بها صالح - عليه السلام - من قوله: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا)، أي: لم يعلم ما يحل به من عقر تلك الناقة، ولو علم لم يفعل. ويجوز استعمال الخوف في موضع العلم؛ لأن الخوف إذا بلغ غايته، صار علما. ثم الحكمة في ذكر قصة ثمود وجهان: أحدهما: أن في ذكرها تثبيت رسالة مُحَمَّد صلوات اللَّه عليه، وهو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يوجد منه الاختلاف إلى من عنده علم الأنباء والأخبار، ولا كان يعرف الكتابة؛ ليقع له المعرفة بهما؛ فثبت أنه بالوحي علم. والثاني: أن في ذكرها تحذيرًا لمكذبي الرسل، فحذروا بها ليمتنعوا عن تكذيبه؛ فلا يحل بهم كما حل بمكذبي صالح - عليه السلام - من بأسه وعذابه، واللَّه الهادي. * * *

سورة (والليل إذا يغشى)

سُورَةُ (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) جعل اللَّه - تعالى - الليل والنهار آيتين عظيمتين ظاهرتين مكررتين على الخلائق ما يعرف كل كافر ومؤمن، وجميع أهل التنازع الذين ينازعون أهل الإيمان والتوحيد من الجبابرة والفراعنة. والقسم بالليل والنهار، والقسم بقوله: (وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) واحد. وقد ذكرنا أن القسم إنما يذكر في تأكيد ما يقع به القسم، ما لولا القسم وإن ذلك يوجب دون القسم؛ وذلك لعظم ما فيهما؛ حتى قهرا جميع الفراعنة والجبابرة، وغلبا عليهم في إتيانهما وذهابهما، حتى أن من أراد منهم دفع هذا ومجيء هذا، ما قدروا عليه. وفيهما دلالة وحدانية اللَّه - تعالى - وألوهيته، وقدرته، وسلطانه، وعلمه، وتدبيره، وحكمته: أما دلالة وحدانيته وألوهيته: اتساقهما وجريانهما على حد واحد وسنن واحد مذ كانا وأنشئا من الظلمة والنور، والزيادة والنقصان؛ فدل جريانهما على ما ذكرنا أن منشئهما واحد؛ إذ لو كان فعل عدد، لكان إذا جاء هذا، وغلب الآخر، دامت غلبته عليه، وكذلك الآخر يكون مغلوبا أبدا، والآخر غالبا؛ فإذا لم يكن ذلك، دل أنه فعل واحد. ويدل - أيضا - على أن ليس ذلك عمل النور والظلمة، على ما تقوله الثنوية. ودل اتصال منافع أحدهما بمنافع الآخر على أن ذلك عمل واحد لا عدد. ودل اتساق ما ذكرنا، ودوامهما على حد واحد على الاستواء أن منشئهما مدبر عليم، عن تدبير وعلم خرج ذلك لا على الجزاف بلا تدبير.

(3)

ودل مجيء كل واحد منهما بطرفة عين على أن منشئهما قادر لا يعجزه شيء من بعث ولا غيره. ودل ما ذكرنا أن فاعل ذلك حكيم، على حكمة خرج فعله، لا يحتمل أن يتركهم سدى لا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم بأمور. وكذلك جعل فيما ذكر من الذكر والأنثى من الدلالات والآيات من الازدواج والتوالد والتناسل وغير ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) : قَالَ بَعْضُهُمْ: إن حرف (ما) متى قرن بالفعل الماضي، صار بمعنى المصدر؛ كأنه قال: وخلق الذكر والأنثى؛ فيكون قسما بجميع الخلائق، إذ لا يخلو شيء من أن يكون ذكرا وأنثى. وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (والذَّكَرِ وَالْأُنْثَى)، وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ كذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ما) هاهنا بمعنى " الذي "؛ كأنه قال: والذي خلق الذكر والأنثى؛ فيكون على هذا الوجه القسم باللَّه تعالى، وعلى التأويل الأول بالذكر والأنثى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4): قالوا: على هذا وقع القسم، فَإِنْ قِيلَ: إن كلا يعلم من كافر ومؤمن أن سعيهم لمختلف؛ فما الحكمة والفائدة من ذكر القسم على ما يعلم كل ذلك؟ فالوجه فيه - واللَّه أعلم -: أن ما يقع لهم بالسعي، وما يستوجبون به لمختلف في الآخرة، وهو جزاء السعي؛ كأنه قال: إن جزاء سعيكم وثوابه لمختلف، وذلك أنهم كانوا يقولون: إن كانت دار أخرى على ما يقوله مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - فنحن أحق بها من أتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كقوله: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا). أو يكون قوله: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)؛ لأن المعطي في الشاهد ينفع غيره، ويضر نفسه في الظاهر، والممسك ينفع نفسه، ثم المعطي محمود عند الناس؛ فلو لم يكن عاقبة ينتفع المعطي بما أعطى، ويضر البخيل المنع، لكان الناس بما حمدوا هذا وذموا الآخر سفهاء؛

(5)

فدل أن العاقبة هي التي تصير هذا محمودا. ولأن الخلق جميعا من مسلم وكافر، ومحسن ومسيء، قد استووا في نعم هذه الدنيا ولذاتها مما ذكرنا من ممر الليل والنهار ومما يخلق فيها من النبات والثمار والعيون والأشجار، فإذا وقع الاستواء في هذه الدار، وبه وردت الأخبار عن النبي المختار أن الناس شركاء في الماء والكلأ والنار - لا بد من دار أخرى للأشقياء والأبرار؛ ليقع بها التفاوت بين الأبرار والأشرار، والنافع منهم نفسه والضار، وإذا ثبت أنهما استويا في منافع الليل والنهار، وجميع ما في الدنيا من الأنزال وغيرها، فإذا وقع الاستواء بينهم في الدنيا لا بد من دار أخرى فيها يقع التفاوت والتفاضل بينهم، وفيها يميز بين ما ذكرنا. ثم بين أن السعي الذي يقع الجزاء له مختلف، ما ذكر بقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وهو يخرج على وجوه: يحتمل (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)، أي: أعطى ما أمر به، واتقى عصيانه وكفران نعمه، أو اتقى المنع، أو من أعطى التوحيد لله - تعالى - من نفسه، واتقى الشرك والكفران لنعمه، وصدق بموعود اللَّه - تعالى -: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى): للأعمال والشرائع؛ إذ نشرح صدره للتوحيد والإسلام ونيسره عليه. (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ)، ولم يأت بالتوحيد، (وَاسْتَغْنَى) عن اللَّه - تعالى - بما عنده، (وَكَذَّبَ) بموعود اللَّه (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)؛ لما بعده من الأعمال، واللَّه أعلم. والثاني: في حق القبول والعزم على وفاء ذلك بقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى)، أي: قبل الإعطاء، وعزم على وفاء ذلك، (وَاتَّقَى)، أي: عزم على اتقاء معاصي اللَّه - تعالى - ومحارمه. (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)، أي: بموعوده؛ (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، أي: سنيسره لوفاء ما عزم عليه، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ)، أي: عزم على البخل والمنع بذلك، (وَاسْتَغْنَى) وبالذي له وعنده، (وَكَذَّبَ) بموعود اللَّه تعالى (فَسَنُيَسِّرُهُ) لوفاء ما عزم عليه، من الخلاف لله

(11)

تعالى والمعصية له. وعلى ذلك يخرج ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن ذلك؛ فقال: " كل ميسر لما خلق له "، أو قال: " كل ميسر لما عمل ". والثالث: يخرج على حقيقة إعطاء ما وجب من الحق في المال وحقيقة المنع؛ يقول: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) ما وجب من حق اللَّه - تعالى - في ماله، (وَاتَّقَى) نقمة اللَّه ومقته وعذابه، (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)، أي: بموعود اللَّه تعالى، (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) في الخيرات والطاعات. (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ)، أي: منع حق اللَّه - تعالى - الذي في ماله، (وَكَذَّبَ) بالذي وعد على ذلك، (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) في الإفضاء إلى ما وعد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11): قيل: إذا هلك ومات، أو تردى في النار. وفي ظاهر قوله - تعالى -: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ) دلالة على أن الآية في حقيقة الإعطاء من المال والمنع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)، قَالَ بَعْضُهُمْ: بالجنة. وقيل: يشهادة: أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وقيل: بالخلف على ما أنفق. وجائز أن تكون " اليسرى " اسم للجنة وكذلك " الحسنى ". و " العسرى " و " السوءى ": النار. ويحتمل أن تكون " اليسرى " اسما لكل ما طاب وحسن من العمل، و " العسرى ": ما خبث، وقبح من العمل. ومنهم من قال: إن الآية نزلت في أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه اشترى

(12)

بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشر أواقٍ، فأعتقه لله - تعالى - فأنزل اللَّه تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. . .) إلى قوله: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، يعني: سعي أبي بكر وأمية وأبي. وذكر إلى آخر السورة: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى): أبو بكر، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى): أمية بن خلف، وأبي بن خلف؛ يرويه عبد اللَّه بن مسعود، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. * * * قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى): هذا يخرج على وجوه: أحدها: جائز أن يكون قوله: (عَلَيْنَا)، أي: لنا، وذلك جائز في اللغة جار؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)، أي: للنصب، وكقوله - تعالى -: (وَعَلَيْنَا الحسَابُ)، و (عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)، أي: لنا محاسبتهم، وقوله - تعالى -: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)، أي: لله قصد السبيل، وكقوله - تعالى -: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ)، أي: لربهم، كما قال: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، ونحو ذلك كثير أن يكون " علينا " بمعنى " لنا "؛ فيصير كأنه قال: إن لنا للهدى؛ كقوله: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)، وكقوله: (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا)، يكون فيه إخبار أن الهدى له والدِّين الخالص له، وأما سائر الأديان -فلما هي سبل الشيطان- ليست لله تعالى. على هذا جائز أن يخرج تأويل الآية، والوجهان الآخران يخرجان على حقيقة " على "، لكن أحدهما يخرج ذكر الهدى على إرادة البيان وتبيين الطريق، والآخر على إرادة حقيقة

(13)

الهدى، الذي هو ضد الكفر ومقابله. فأما على إرادة البيان؛ فكأنه قال: إن علينا غاية البيان في حق الحكمة والعدل فيما يمتحنون، حتى إن كان التقصير والتفريط فإنما يكون من قبل أنفسهم، لا من قبل الله تعالى، أي: يبين لهم كل شيء غاية البيان ونهايته؛ لتزول الشبهة عنهم، واللَّه أعلم. ويحتمل وجها آخر، وهو أن يقول: إن علينا هداية من استهدانا واجتهد في طلبها؛ كقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا). ووجه آخر: إن علينا إنجاز ما وعدنا على الهدى لمن اهتدى واختاره يخرج تأويل الآية على إرادة البيان من الوجوه التي ذكرنا. وأما على إرادة حقيقة الهدى الذي هو مقابل الكفر؛ فكأنه قال: إن علينا التوفيق والمعونة والعصمة في حق الإحسان والإفضال، لا على أن ذلك عليه لهم. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إن علينا بيان ما للآخرة والأولى؛ كي لا يزول عن قصد الطريق؛ فيهلك نفسه في كل مضيق ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13): فهو يخرج على وجهين: أحدهما: يقول - واللَّه أعلم: إنكم تعلمون أن لنا الآخرة والأولى، وليس لما تعبدون من الأصنام والأوثان لا آخرة ولا أولى، فكيف صرفتم عبادتكم عمن له الآخرة والأولى إلى من ليس له الآخرة والأولى، على علم منكم بذلك؟ يسفههم في اختيارهم عبادة الأصنام على عبادة اللَّه تعالى. والثاني: يقول - واللَّه أعلم -: إن لنا الآخرة والأولى؛ فما بالكم تبخلون بالإنفاق على أنفسكم، وما يرجع منفعته إليكم، بما ليس لكم في الحقيقة، وإنَّمَا هو لله تعالى؟! وهذا التأويل صلة قوله - تعالى -: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. . .) الآية، والأول يكون صلة قوله: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) أي: نارا تتوقد، وتتلهب، أو تتشعب، على ما ذكر من صفتها. ثم ذلك الإنذار يكون للفريقين: لأهل التوحيد، ولأهل الشرك جميعا، واللَّه أعلم.

(15)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16). قالت المعتزلة: هذا ليس على حقيقة التكذيب؛ ولكن على التقصير والتفريط في أمر اللَّه تعالى، والوقوع في مناهيه؛ فيصرفون الآية إلى أصحاب الكبائر بارتكابهم الكبيرة يصيرون مكذبين ومتولين؛ لأنهم في ابتداء اعتقادهم التوحيد والإيمان اعتقدوا وفاء كل ما وقع به الأمر، ووفاء كل ما يليق به، والانتهاء عن جميع ما لا يليق به، فإذا ترك ذلك صار مكذبا لما اعتقد في الأصل وفاء ذلك. لكن عندنا لا يصير بترك الوفاء مكذبا؛ لكن يصير مخالفا لما وعد واعتقد. واستدلت المرجئة الذين لا يرون العذاب إلا لأهل الشرك والكفر بهذه الآية يقولون: إنه لا يصلاها إلا الذي كذب وتولى، والمسلم وإن ارتكب الكبيرة أو الصغيرة فهو ليس بمكذب ولا متولٍّ. ولكن تأويل الآية عندنا في الكفرة، ليست في أهل التوحيد والإيمان. ثم يحتمل قوله: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) في باب ودرك دون درك وباب، فإن كل فريق دركا، قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)، وهذا كما قال: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ)، وقال في آية أخرى: (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)؛ فيكون الضريع الذي ذكر في باب ودرك منها، والغسلين في باب آخر، فجائز على هذا ألا يصلي ذلك الدرك إلا الأشقى. فأما يجوز أن يكون لصاحب الكبيرة درك خاص. وأما ما ذكروا أن أصحاب الكبائر قد أوعدوا وخوفوا بمواعيد شديدة، فلسنا ننكر المواعيد لهم، وأنهم يعذبون، ولكن نقول: لا يكونون في الدركات التي فيها الكفار إن أدخلوا في النار. وجائز - أيضا - أن يعذبوا بعذاب سوى العذاب الذي ذكر بالنار والتلظي. وعندنا: هم في مشيئة اللَّه - تعالى - إن شاء عذبهم وإن شاء تجاوز عنهم، وخلى عنهم سبيلهم، وأما النار التي ذكر بصفة التلظي فهي للكفار، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18):

(19)

أخبر أنه يجنب النار عن الأتقى ويقيه عنها. ثم فيه دلالة أنه إنما يجنبها ويقيها بالأعمال التي يعملها؛ فدل أن لله - تعالى - في أفعالهم صنعا، حيث أضاف الوقاية إليه والتجنب عنها، وهو كقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20). أي: ما لأحد عند اللَّه تعالى من نعمة يجزى بها ولا بد أن يستحق الثواب بها، لكن إذا أدى نعمة من نعم اللَّه - تعالى - التي أعطاها إياه لغيره؛ ابتغاء وجهه، وطلب رضاه - يجزيه بفضله؛ كأنه كانت له عنده نعمة يجزى بها. والثاني: يحتمل أن هذا صلة قوله: (يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)، أي: يتصدق ويتزكى؛ لابتغاء وجه اللَّه - تعالى - على من ليس عنده نعمة ويد يجازيه بها وينفق عليه جزاء لصنيع قد سبق منه في حقه؛ كأنه يقول: لا يعطي الزكاة أحدًا عن مجازاة لما سبق منه إليه من نعمة؛ إنما أعطاها له لا مجازاة، ولكن لله تعالى خالصا. وفيه دليل ألا يعطي الرجل زكاة ماله من عنده له نعمة أو منة؛ لأنه يخرج ذلك مخرج الإعطاء ببدل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) أي: يرضى بالذي يجزى به، ويساق إليه من الثواب. وحرف أو " سوف " والـ " عسى " من اللَّه تعالى واجب؛ كأنه يقول: يعطيه حتى يرضى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت هذه الآية - وهي قوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) - في أبي بكر الصديق، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذه الآية نزلت في أبي الدحداح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منه نخلة - إلى آخر القصة. وقال بعض أهل الأدب: تردى في النار، أي: سقط، ويقال: تردى: تفعل، من الردى، وهو الهلاك، و (إِذَا تَجَلَّى): إذا بدا، واليسرى من التيسير، والعسرى من التعسير، واللَّه أعلم.

(1)

سُورَةُ الضُّحَى، هي مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى). قَالَ بَعْضُهُمْ: الضحى: هو ضوء النهار، كقوله: (وَضُحَاهَا)، أي: ضوءها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو ساعة من النهار، وهي من أول النهار، ويقال: صلاة الضحى، وهي عند ضحوة النهار. ومنهم من يقول: هو كناية عن الحر؛ كقوله: (أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى)، إلى قوله: (وَلَا تَضْحَى)، أي: لا يصيبك الحر، واللَّه أعلم. ومنهم من يقول: هو كناية عن النهار كله، أقسم به، وبالليل الذي ذكر. فإن كان المراد من الضحى هو ضوء النهار، ومن (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى): ظلمته؛ فيخرج القسم به على أن ظلمة الليل تستر الخلائق كلهم في طرفة عين، وكذلك ضوء النهار يكشف الستر، ويجلي بطرفة عين جميع الخلائق، من غير أن يعلم أحد ثقل ذلك الستر أو خفة ذلك الضوء، فأقسم بذلك لعظيم ما فيهما من الآية. وإن كان المراد منه نفس الليل والنهار؛ فالقسم بهما لما جعل فيهما من المنافع الكثيرة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا سَجَى) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا استوى.

(3)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا سكن وركد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِذَا سَجَى): إذا غشي وأظلم، وغطى كل شيء وستر، وهو من التسجي والتستر؛ يقال: تسجى قبر المرأة؛ إذا تستر وتغطى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) على هذا وقع القسم، ثم اختلف في السبب الذي لأجله نزل هذا: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان سئل عن شيء إذ طلبوا منه شيئا، فقال: أفعل ذلك غدا، أو أجيبكم عنه غدا، ولم يستثن؛ فاحتبس عنه الوحي أياما لذلك؛ فقال المشركون: ودَّعه ربه وقلاه، أي: تركه وأبغضه. ومنهم من قال: إنه أبطأ عليه الوحي، فجزع جزعا شديدا، فقالت له خديجة - رضي اللَّه عنها -: " إني لأرى قلاك ربك وودعك "؛ مما ترى من جزعه؛ فنزل قوله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى). ولسنا ندري كيف كان الأمر؟ فإن كان نزل ذلك لقول قريش، فالقسم يحتمل كذلك؛ ردا لقولهم. والقول الثاني: أنه نزل لقول خديجة - رضي اللَّه عنها - فهو غير محتمل؛ لأن خديجة تعلم أن اللَّه - تعالى - لم يودعه ولا قلاه، وكذا كل مؤمن معتقد أن اللَّه - تعالى - لا يودع أحدا من رسله. ولأنها تصدق الرسول - عليه السلام - أنه لم يودعه ولا قلاه إذا أخبرها بغير قسم؛ فلا معنى للقسم؛ فدل أن هذا الوجه غير محتمل. ثم صرف تأويل الآية إلى غير ما قالوا أشبه عندنا وأقرب مما قالوا، وهو أنه - عليه السلام - بعث إلى الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم قتل من خالفهم، وإهلاك من

(4)

استقبلهم بالخلاف، ولم يكن معه فضل مال وسعة يستميل به قلوب الناس؛ فيقول أُولَئِكَ الكفرة: إن ربه قد خذله وتركه وقلاه، حيث بعثه إلى من ذكرنا من الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم القتل وعادتهم إهلاك من خالفهم بلا أنصار ولا أعوان من الملائكة، ولا مال وسعة يستميل به القلوب والأنفس؛ لأن من سلم إنسانا إلى أعدائه الذين يعلم أنهم أعداؤه، ويخلي بينه وبين الأعداء بلا أنصار وأعوان ولا مال وسعة من الدنيا - يقال: إنه قد خذله وتركه وقلاه؛ إذ لا يفعل ذلك في الأصل إلا لذلك؛ فعند ذلك قالوا: إنه ودعه وقلاه، وهو ما قالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا)، وقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، ونحو ذلك مما قالوا، فلولا صرف أهل التأويل تأويل الآية إلى ما ذكروا، وإلا صرفه إلى ما ذكرنا أشبه. وفي قولهم: " قد ودعه ربه " دلالة أنهم قد عرفوا أنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأقروا بذلك حتى قالوا؛ فنزل قوله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ). والثاني: أنه لو كان يخترع على ما كانوا يقولون أُولَئِكَ، لكان لا يحتبس عن الاختراع، ويكون يخترع أبدًا؛ حتى لا يقولوا: " إنه ودَّعه "؛ فدل ظهور احتباس الوحي: أنه عن أمر يخبر، وأنه مأمور بذلك، ثم أخبر أنه لم يبعث إلى هَؤُلَاءِ الفراعنة والجبابرة لما ذكر أُولَئِكَ الكفرة أنه خذله وتركه وقلاه، ولكن بعثه وهو ينصره ويعينه على تبليغ ما أمر بتبليغه إلى من أمر بتبليغه، ولم يقله، ولكنه اصطفاه واختاره؛ حتى يعلو أمره، ويكثر ذكره، وفي ذلك آية عظيمة على إثبات الرسالة، وهو ما ذكرنا أنه بعث إلى من همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم، فقهرهم جميعا، وغلب على الكل حتى أظهر الإسلام فيمن قرب منه ومن بعد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4): يقول: مع ما أعطيت في الدنيا من الشرف والذكر والغلبة على الفراعنة، فالآخرة خير لك من الأولى؛ يرغبه في الآخرة، ويزهده في الدنيا. أو يقول: إن أولى لك أن يكون سعيك للآخرة؛ فهو خير لك من الأولى، وهو

(5)

كقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5). أي: لتعطى في الآخرة ما ترضى من الكرامة والشرف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ولسوف يعطيك ربك فترضى في الدنيا من الذكر والشرف والمنزلة والغلبة على الأعداء. ويحتمل: يعطيك في أمتك ما ترجو وتأمل من الشفاعة لهم وترضى. ويقول بعض الناس: إن أرجى آية هذه؛ حيث وعد له أنه يعطيه ما يرضى، ولا يرضى أن يكون أمته في النار. ومنهم من قال: أرجى آية قوله - تعالى -: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)، وهو قول ابن مسعود، رضي الله عنه. وعندنا أرجى الآيات هي التي أمر اللَّه - تعالى - رسله بالاستغفار للمؤمنين، وكذلك ما أمر الملائكة بالاستغفار لهم؛ فاستغفروا لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6): ما ذكر من الأحوال التي ذكر فيه من قوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى. وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) الآية، وقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)، ونحو ذلك من الأحوال التي ذكر فيه وهي في الظاهر أحوال تذكر للشين فيمن تقال فيه، لكن في ذكر ما ذكر فيه من الأحوال: ذكر بشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر له والعون؛ وآية له على رسالته ونبوته؛ لأن نفاذ القول وغلبة الأمر مع الأحوال التي ذكر - أعظم في الأعجوبة من نفاذه في حال السعة وحال قوة الأسباب وتأكيدها. أو أن يكون قوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)، ونحوه، لأن أُولَئِكَ الكفرة كانوا ينسبونه إلى الافتراء

(7)

والاختراع من ذات نفسه، فأخبر أن اليتيم والفقير ليس يبلغ في العلم والمعرفة المبلغ الذي يقدر على الاختراع وإنشاء الشيء من نفسه على وجه يعجز عن مثله جميع الخلق؛ لما لا يجد ما ينفق في ذلك، ويتحمل من المؤن حتى يبلغ مبلغ الاختراع، وكذلك ما ذكر حيث قال: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ. . .) الآية؛ لأنهم قالوا: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، والبشر إنما يتعلمون بالكتابة والخط، فإذا لم يكن لرسول اللَّه - عليه الصلاة والسلام - شيء من ذلك؛ دلَّ أنه باللَّه - تعالى - عرف وحده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)، أي: وجدك يتيما فآواك. ثم يحتمل قوله: (فَآوَى) وجوها: أحدها: وجدك يتيما فآواك إلى عمك حتى ربَّاك ودفع عنك كل أذى وآفة، وساق إليك كل خير وبر، إلى أن بلغت المبلغ الذي بلغت. والثاني: يقول: قد وجدك يتيما فآواك إلى عدو من أعدائك حتى تولى تربيك وبرك، وعطف عليك، وتولى عنك دفع المكروه والأذى، يذكر منته وعظيم نعمه عليه أنه كان ما ذكر، ثم صير عدوا من أعدائه أشفق الناس عليه وأعطف، واللَّه أعلم. والثالث: قد وجدك يتيما فآواك إلى نفسه، وعطف عليك حتى اختصك واصطفاك للرسالة والنبوة؛ حتى صرت مذكورا في الدنيا والآخرة، وحتى أحوج جميع الناس إليك، وليس ذلك من أمر اليتيم أنه يبلغ شأنه وأمره إلى ما بلغ من أمرك وشأنك حتى صرت مخصوصا من بين الناس جميعا، فيما ذكرنا من اختصاصه إياك بالرسالة، وأحوج جميع الناس إليك؛ يذكر عظيم مننه ونعمه عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) هذا يخرج على وجوه: أحدها: يقول - واللَّه أعلم -: لولا أن اللَّه تعالى هداك لدينه، ووفقك له، وإلا وجدك ضالا؛ إذ كان نشوءه بين قوم ضلال، لم يكن أحد يهديه ويدعوه إلى اللَّه تعالى، ولكنه هداك وأرشدك، فلم يجدك ضالا، وهو كقوله - تعالى -: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا. . .)، أي: لولا أنه أنقذكم منها، وإلا صرتم على شفا حفرة من النار لو لم ينقذكم منها، وكقوله: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)؛ لأن البشر أنشئ وطبع على الركون والميل إلى النعم العاجلة،

واختيار الأيسر والألذ، ولكنه بفضله ولطفه ثبتك وعصمك، ولم يكلك على ما طبعت وأنشئت في أصل الخلقة؛ فعلى ذلك نقول في قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، أي: لولا أنه هداك؛ وإلا وجدك ضالا لو لم يهدك، ففيه أنه هداه ولم يجده ضالا. والثاني: يقول: ووجدك ضالا لا ضلال كسب واختيار، ولكن ضلال الخلقة التي أنشئ عليها الخلق، والضلال بمعنى الجهل؛ لأن الخلق في ابتداء أحوالهم يكونون جهالا، لا جهل كسب يذمون عليه، أو يكون لهم علم يحمدون عليه، ولكن جهل خلقة وضلال خلقة؛ لما ليس معهم آلة درك العلم؛ فلا صنع له في كسب الجهل، فأما بعد الظفر بآلة العلم يكون الجهل مكتسبا؛ فيذم عليه، وكذا العلم؛ فيترتب عليه الحمد والذم؛ فعلى هذا يكون قوله - تعالى -: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، أي: وجدك جاهلا على ما يكون في أصل الخلقة وحالة الصغر فهداك، أي: علمك، وهو كقوله - تعالى -: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا. . .)، وقوله - تعالى -: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ. . .)، يذكر أنه لم يكن يدري شيئا حتى أدراه وعلَّمه. والثالث: يقول: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا)، أي: غافلا عن الأنباء المتقدمة وأخبارهم حتى أطلعك اللَّه - تعالى - على ذلك، كقوله: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ). أو يقول: ووجدك في أمر القرآن أو ما فيه جاهلا غافلا عن علم ذلك، فأعلمك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا)، أي: وجدك بين قوم ضلال فهداك، أي: أخرجك من بينهم ما لو لم يخرجك من بين أظهرهم، لدعوك إلى ما هم عليه، ويجبرونك على ذلك، ولم يرضوا منك إلا ذلك، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) من طريق مكة فهداك الطريق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) حقيقة الضلال، فهداك للتوحيد. لكن هذا [وخش من القول]؛ إذ لا يليق به أن ينسب إلى ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) عن النبوة أي: جاهلا، فهداك للنبوة، وهو قريب مما ذكرناه.

(8)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) أي: فقيرا فأغناك بما أراك من أمر الآخرة، وما يسوق إليك من نعيمها، أي: بما أعد له في الآخرة، وما وعد له من النعيم والكرامات هانت عليه الدنيا، حتى ذكر أن الدنيا لم تكن تعدل عنده - عليه السلام - جناح بعوضة؛ ولذلك روى أن الغنى غنى القلب. ويحتمل أنه جعل فيه حالا بلطفه أغناه؛ كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن الوصال، فقيل: أنت تواصل، يا رسول اللَّه؟ فقال - عليه السلام -: " أنا لست كأحدكم؛ إن ربي يطعمني ويسقيني "؛ فجائز أن يكون لله - عَزَّ وَجَلَّ - فيه لطف أغناه به، وإن لم يطلعنا عليه، واللَّه أعلم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أغناك بمال خديجة، رضي اللَّه عنها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فأغناك، أي: فأرضاك بما أعطاك من الرزق، وأقنعك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: " فأما اليتيم فلا تكهر "، فالكهر: الزجر، كأنه قال: فلا تزجر. وجائز أن يكون قوله: (فَلَا تَقْهَرْ)، أي: لا تمنع حقه، وادفع إليه حقه وماله. أو يكون ذكر هذا، يقول: كنت يتيما ورأيت حال اليتيم؛ فلا تقهر اليتيم؛ فيكون على الصلة لقوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)، فلا تقهر اليتيم بعد ذلك. (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10): أي: كنت محتاجا فقيرا، فعرفت محل الفقر والحاجة وشدة حاله؛ فلا تنهر السائل -أي: لا تزجره- ولكن أعطه. وجائز أن يكون الأمر لا على النهي، ولكن على الأمر بالبر لهَؤُلَاءِ والإعطاء لهم. وجائز أن يراد من نفي شيء إثبات ضده، كقوله - تعالى -: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)، أي: خسرت، وعلى هذا الحديث، وهو ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إذا أتاكم السائل فلا تقطعوا عليه مسألته، حتى يفرغ منها، ثم ردوا عليه برفق ولين، إما ببذل يسير، أو برد جميل؛ فإنه قد يأتيكم من ليس بإنسٍ ولا جِنٍّ؛ يرى كيف صنيعكم فيما خولكم اللَّه تعالى ". وقال قوم: تزويج اليتيم قهره؛ لما فيه من الاستذلال والإضرار؛ فلم يجوزوه من غير

(11)

الأب والجد، وأجازوا بيع ماله من وصيه إن كان وصي الأب أو وصي أمه في تركتها؛ فدل أن تزويج اليتيم ليس من قهره في شيء، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه زوج بنت حمزة سلمة بن أبي سلمة، وهو صغير يتيم، وزوج ابن عمر بنت أخيه وهي صغيرة، وزوج عروة ابنته من مصعب وهي صغيرة. وقهر اليتيم في ظلمه والاعتداء عليه، وليس في التزويج ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) يحتمل وجهين: أحدهما: يقول: حدثهم بنعم اللَّه - تعالى - التي أنعم عليهم؛ ليعرفوا ويفوا بما فيه شكرها. أو يقول: حدثهم بما أنعم اللَّه عليك، وهو هذا القرآن؛ إذ القرآن من أعظم ما أنعم اللَّه عليه، فأمر بتحدث ما عليه من النعم؛ ليعرفوا عظيم ما أنعم اللَّه عليه من الاختصاص لهم؛ حيث جعلهم من أمته ومن قومه. أو أمر بأن يقرأه ويحدث بما فيه. وقد روي عن أبي رجاء العطاردي قال: خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف خز، لم نره عليه قبل، ولا بعد، فقال: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن اللَّه - تعالى - إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته عليه ". وعن عطية عن أبي سعيد عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن اللَّه - تعالى - جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتبؤس ". وعن أبي الأحوص عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " من أعطاه اللَّه - تعالى - خيرا؛ فلْيُرَ عليه، وابدأ بمن تعول، وارضخ من الفضل، ولا تلام على كفاف، ولا تعجز عن نفسك ". وعن يحيى بن عبد اللَّه عن أبيه عن أَبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إذا بسط اللَّه - تعالى - على عبد نعمة فلْتُرَ عليه " يعني به: الصدقة والمعروف، وقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " وابدأ بمن تعول " دليل عليه. قال أهل الأدب: عال: افتقر، وأعال، أي: كثر عياله، ويقال: أسجيته: أسكنته، وقالوا: الانتهار: الكلام الخشن. وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. * * *

سورة (ألم نشرح)

سُورَةُ (أَلَمْ نَشْرَحْ)، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ). المخاطب في هذه السورة من اللَّه - تعالى - رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاطبه إياه؛ حيث قال: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) إلى ما ذكر. والمخاطبة في سورة الضحى إنما كانت من غير اللَّه - تعالى - إياه، كان جبريل - عليه السلام - خاطبه في ذكر منن اللَّه تعالى إياه، وذكر نعمه ألا ترى أنه قال: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ)، ولم يقل: ما ودعناك. ويجوز أن يكون الخطاب في سورة (وَالضُّحَى) من اللَّه على المغايبة؛ كما يقال: إن أمير المؤمنين يقول كذا، ويريد نفسه. ثم اختلف في قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: شرح صدره للإسلام؛ كقوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ). أخبر أن من شرح صدره للإسلام فهو على نور من ربه. والشرح، قيل: هو التليين، والتوسيع، والفتح، أي: ألم نوسع لك صدرك ونفتح ونلين للإسلام. وقد روي في الخبر أنه لما نزل هذا، قيل: يا رسول اللَّه، وهل لذلك من علامة؟ فقال: " بلى، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله ".

لكن يعرف ذلك من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بطريق الحقيقة، ويظهر منه ذلك باليقين، فأما من غيره فإنما يعرف التجافي من دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود بالتقارب، وغالب الظن؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانت له الآخرة لا محالة، وأمورها كالمشاهدة والمعاينة، وكذلك جميع الأنبياء والرسل - عليهم السلام - فأما لغيرهم فلا نحكم بذلك؛ فلا يبلغ ذلك، وهو كما ذكر أن رؤيا الأنبياء كالعيان، أي: تعرف بطريق اليقين، بخلاف رؤيا غيرهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: شرح صدره؛ لأنه لما كلف بتبليغ الرسالة إلى الجن والإنس وإلى الفراعنة والجبابرة الذين همتهم إهلاك من يخالفهم، والإقلاع عن عبادة من يعبد اللَّه ضاق صدره لذلك، وثقل على قلبه؛ فوسع اللَّه صدره وشرحه حتى هان ذلك عليه وخف، وهو قول أبي بكر الأصم، إلا أنه يقول: فعل ذلك به، وحقق بالآيات والحجج، ونحن نقول باللطف منه، حتى قام بوفاء ما كلف وأمر، أما هو لا يقول باللطف والاختصاص للبعض دون البعض؛ لقوله بالأصلح. ويحتمل أن يكون ما ذكر من شرح صدره وتوسيعه هو ما ذكر في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وخلقه كان يجاوز وسعه وطاقته؛ حتى كادت نفسه تهلك لمكان كفر أُولَئِكَ، وما يعلم أنه ينزل بهم؛ إشفاقا عليهم، ورحمة، كقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الآية، وقوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ. . .) الآية، وغير ذلك من أمثال هذا، وذلك - والله أعلم - ما وصف من خلقه أنه عظيم، فوسع صدره وشرحه حتى يخفف ذلك عليه؛ حيث قال له: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ. . .)، وقال: (وَلَا تَحْزَن عَليهِم) الآية. وقال الحسن في قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ): بلى، قد شرح له صدره، وملأه علما وحكمة. ثم قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) إلى آخر ما ذكر، إن كان المخاطب به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو المعنيُّ والمراد به، فتأويل السورة يخرج على ما ذكرنا من تيسير الأمر عليه،

(2)

وتخفيف ما حمله عليه وأمر به. وقوله - تعالى -: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ): على ابتداء وضع الوزر والإثم على ما نذكر، وإن كان المخاطب به غيره وهم أمته، وإن كان الخطاب أضيف إليه، فالأمر فيه سهل، وإن كان الخطاب على الاشتراك، فيحتاج إلى التأويل أيضا. وقوله - تعالى -: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ): قال عامة أهل التأويل: على تحقيق الوزر له والإثم؛ كقوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. . .)، وقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) يقولون: أثبت له الذنب والوزر، فوضع ذلك عنه، ولكن هذا وحش من القول، لكنا نقول: إن قوله: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ): الوزر هو الحمل والثقل؛ كأنه يقول: قد خففنا عليك ما حمل عليك من أمر النبوة والرسالة والأحمال التي حملت عليك؛ كأنه يقول: قد خفف ذلك عليك، ما لو لم يكن تخفيفنا إياها عليك لأنقض ظهرك، أي: أثقل، واللَّه أعلم. والثاني: جائز أن يكون قوله: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ) ابتداء وضع الوزر، أي: عصمك وحفظك، ما لو لم يكن عصمته إياك لكانت لك أوزار وآثام، كقوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، أي: لو لم يهدك لوجدك ضالا؛ لأنه كان بين قوم ضلال، ولكن هداه فلم يجده ضالا؛ فعلى ذلك ما ذكر من وضع وزره ابتداء، وهو كقوله: (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، أي: عصمكم عن أن تدخلوا فيها، لا أن كانوا فيها، ثم أخرجهم، ولكن ابتداء إخراج، فعلى ذلك ما ذكر من وضع وزره. وقوله: (أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)، أي: أثقل ظهرك.

(4)

وقوله: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4): جائز أن يكون رفع ذكره؛ لما ألزم الخلق الإيمان به حتى لا يقبل من أحد الإيمان بالله تعالى، والتوحيد له، والطاعة، والعبادة إلا بالإيمان به والطاعة له، قال اللَّه - تعالى -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. . .)، وقال: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ. . .). وجائز أن يكون ما ذكر من رفع ذكره هو أنه يذكر حيث ذكر اللَّه، قرن ذكره بذكره في الأذان والإقامة، وفي الصلاة، وفي التشهد، وفي غيره من الخطب، واللَّه أعلم. والأول عندنا أرفع وأعظم من الثاني. وجائز أن يكون رفع ذكره ما أضاف اسمه إلى اسمه بما قال: رسول اللَّه، ونبي اللَّه، ولم يسمه باسمه على غير إضافة إلى الرسالة والنبوة، فقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. . .)، وقال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ. . .)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ. . .)، ونحو ذلك، وهو المخصوص بهذا دون غيره من إخوانه عليه السلام؛ لأنه قلما أضاف اسمهم إلى اسمه، وقلما قرن أسماءهم باسمه، بل ذكرهم بأسمائهم، كقوله: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ. . .)، وقوله: (وَيُونُسَ وَلُوطًا)، ونحو ذلك. أو رفع ذكره بما عظَّمه وشرفه عند الخلق كله، حتى إن من استخف به خسر الدنيا والآخرة. وقوله - تعالى -: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6): روي في الخبر أنه قال: " لن يغلب عسر يسرين ". قَالَ بَعْضُهُمْ: إنما كان عسرا واحدا، وإن ذكره مرتين " لأن العسر الثاني ذكره بحرف التعريف؛ فهو والأول واحد؛ واليسر ذكره بحرف النكرة؛ فهو غير الأول.

(7)

وقال أبو معاذ: كلما كررت المعرفة كان واحدا، والنكرة على العدد؛ يقال في الكلام: إن مع الأمير غلاما إن مع الأمير غلاما، فالأمير واحد ومعه: غلامان، وإذا قيل: إن مع الأمير الغلام، إن مع الأمير الغلام؛ فالأمير واحد والغلام واحد، وإذا قيل: إن مع أمير غلاما، إن مع أمير غلاما، فهما أميران وغلامان؛ فعلى ذلك ما ذكر هاهنا. ثم قوله: " يسرين " هو يسر الإسلام والهدى، ويجوز أن يطلق اسم اليسر على الإسلام والدِّين، قال اللَّه - تعالى -: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، ويسر آخر: ما وعد لهم من السعة في الدنيا. ويحتمل أن يكونا يسرين: أحدهما: رجاء اليسر، والآخر وجوده، فهما يسران: الرجاء، والوجود. ويحتمل أن يكون يسرًا في الدنيا، ويسرًا في الآخرة. أو أن يكون توسيعًا: توسع عليهم الدنيا، ويسرًا ثانيا: ما يفتح لهم الفتوح في الدنيا، ويسوق إليهم المغانم والسبايا، واللَّه أعلم. ثم قالوا في قوله: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، أي: بعد العسر يسر. وأصله أن حرف " مع " إذا أضيف إلى الأوقات والأحوال يقع على اختلاف الأوقات في المكان الواحد، وإذا أضيف إلى المكان يقع على اختلاف المكان في وقت واحد، وهاهنا أضيف إلى الوقت؛ فهو على اختلاف الأوقات واحدا بعد واحد؛ فإذا قيل: فلان مع فلان في مكان، فالوقت واحد، والمكان مختلف متفرق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8): قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا فرغت من دنياك فانصب لآخرتك، وهو من النصب، أي: التعب. وقال الحسن: أمره إذا فرغ من غزوة أن يجتهد في العبادة له، لكن هذا بعيد؛ لأنه نزل ذلك بمكة، ولم يكن أمر بالغزو والجهاد بمكة، إلا أن يكون أمر بالجهاد بمكة في أوقات تأتيه في المستقبل؛ فيكون الحكم لازما عليه في تلك الأوقات، لا في حال ورود الأمر.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: فإذا فرغت من الصلاة، فانصب في الدعاء. وقال قتادة: إذا فرغ من الصلاة أن يبالغ في دعائه وسؤاله إياه. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: فإذا فرغت من الفرائض، فانصب في قيام الليل. ويحتمل عندنا: إذا فرغت من تبليغ الرسالة إليهم، فانصب لعبادة ربك والأمور التي بينك وبين ربك، على ما ذكرنا في أحد التأويلين في قوله: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا)، في أمر الرسالة والتبليغ، واذكر اسم ربك فيما بينك وبين ربك. ويجب ألا نتكلف تفسير ما ذكر في هذه السورة من أولها إلى آخرها؛ لأنه أمر بينه وبين ربه، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعلم ما أراد به فيما خاطبه من الجميع، وأنه فيم كان؟ وقد كان خصوصا له، وليس شيئًا مما يجب علينا العمل به حتى يلزمنا التكلف لاستخراج ذلك سوى الشهادة على اللَّه تعالى؛ فكان الإمساك عنه أولى، وترك التكلف فيه والاشتغال به أرفق وأسلم، واللَّه الموفق. * * *

سورة التين

سُورَةُ التِّينِ، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ): قال: هذه السور كلها نزلت في محاجة أهل مكة، سوى سورة (وَالضُّحَى) و (أَلَمْ نَشْرَحْ)؛ فإنهما جاءتا في تذكير منن اللَّه تعالى لرسوله - عليه السلام -: إحداهما: خاطبه جبريل - عليه السلام - في تذكر ما من عليه، والأخرى خاطبه ربه - جل جلاله - بذلك، وأما غيرهما من السور فإنما جاءت في محاجة أهل مكة. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ): قسم؛ أقسم تأكيدا للحجج التي أقامها ما لولا القسم لكان ما ذكر يوجب ذلك، لكن في القسم تأكيد ما ذكر من الحجة. ثم اختلف أهل التأويل في قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: هو التين الذي يأكله الناس، والزيتون الذي يستخرجون منه الزيت، كذا روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه سئل عن قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ)؛ فقال: تينكم وزيتونكم هذا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هما جبلان بالشام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هما مسجدان في الشام: أحدهما: مسجد دمشق، والآخر: مسجد بيت المقدس.

(2)

وقيل: التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد نبينا عليه السلام. وعن قتادة: أنه قال: التين: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: الجبل الذي عليه مسجد بيت المقدس. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: التين والزيتون: جبلان بالشام، يقال لهما: طور تيناء، وطور زيتاء؛ بالسريانية، سميا بالتين والزيتون؛ لأنهما ينبتان فيهما. وقوله: (وَطُورِ سِينِينَ (2) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو جبل بسينين، والسينين: اسم موضع، والطور الجبل، وكذا قال أَبُو عَوْسَجَةَ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: جبل حسن، و " السينين ": الحسن بالحبشة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل جبل مشجر، له الثمر، فهو سينين. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الجبل الذي أوحي عليه إلى موسى - عليه السلام - وهو طور سيناء. وقيل: هو الجبل المبارك. ثم تخرج جهة القسم بالجبل، وبما ذكر على وجوه: أحدها: بما عظم شأن الجبال في قلوب الخلق حيث وصل إليهم أخبار السماء من جهة تلك الجبال، وجميع ما يرجع إلى منافع أنفسهم ودينهم، على ما ذكر أنه أوحي إلى موسى - عليه السلام - على جبل طور سيناء، وأوحي إلى عيسى - عليه السلام - على جبل ساعورا، وأوحي إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على جبل فاران، على ما ذكر في الخبر أن موسى - عليه السلام - قال: " أتاني ربي من جبل طور سيناء، وسيأتي من طور ساعورا، وسيطلع من جبل فاران "، أي: أتاني وحي ربي من جبل طور سيناء، وسيأتي وحي عيسى - عليه السلام - من جبل ساعورا، ويأتي الوحي إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من فاران ".

(3)

والثاني: أقسم بالجبال؛ لما أرساها في الأرض، وجعلها أوتادا لها؛ لئلا تميد بأهلها، ولا تميل، على ما ذكر في غير آي من القرآن عظم شأن الجبال من هذه الجهة في قلوب الخلق. والثالث: لما أخرج منها مع شدتها وصلابتها وغلظها وارتفاعها المياه الجارية وغير الجارية الصافية الباردة، وهي من ألين الأشياء وأخرج منها الأشجار الكثيرة المثمرة وغير المثمرة من غير إنبات أحد، ولا غرسها، وغير ذلك من المنافع التي جعل في الجبال مما لا يمكن للخلق استخراج ذلك منها بحيلهم وتكلفهم، فأقسم بها لعظم ما جعل في الجبال من المنافع والبركات. وكذلك إن كان القسم بالتين الذي يؤكل والزيتون الذي يخرج منه الزيت؛ لما جعل لهم في ذلك من المنافع العظام، كقوله - تعالى -: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) فمن هذه الوجوه التي ذكرنا يحتمل القسم بالجبال والتين والزيتون. أو ذكر التين والزيتون والمراد بهما: الجبل؛ لما في الجبل يكونان عندهم، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) هو مكة؛ سماه: أمينا؛ لما يأمن من دخله، أو يؤمن من دخله ويحفظه؛ لأن الأمين عند الناس هو الذي يحفظ من ائتمن عليه وفيه، وهو المأمون به. ثم جائز أن يكون القسم بالبلد لأهل مكة ولأهل الشرك؛ لما عظم شأنه وأمره عندهم وفي قلوبهم، وأقسم بالجبال؛ لعظم قدرها ومنزلتها ومحلها في قلوب أهل الكتاب؛ لما كانوا يؤمنون ببعض الوحي، وأهل مكة لا يؤمنون بالرسل وبالوحي؛ ولكن يعظمون ذلك البلد. وجائز أن يكون القسم بما ذكر كله لهم جميعا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) قال أهل التأويل: على هذا وقع القسم، لكن القسم بغيره أولى وأقرب؛ لأنهم قد شاهدوا وعرفوا أنه خلق الإنسان على

(5)

أحسن تقويم؛ إذ لم يتمن أحد أن يكون على غير هذا التقويم وعلى غير هذه الصورة التي أنشأه عليها؛ فالأشبه أن يكون القسم واقعا على قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)؛ لما فيه وقع الإنكار والتكذيب وهو نار جهنم؛ فأكد ذلك بالقسم كأنه قال: مع أنا خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، نردهم إلى أسفل السافلين؛ لكفرهم وعنادهم سوى المؤمنين. ثم قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) يخرج على وجوه: أحدها: أحسن صورة يشاهدون ويعاينون؛ لأن الملائكة لعلهم أحسن صورة وأحكم تقويما في الخلقة من البشر، ولكن يرجع إلى سائر الخلائق دونهم؛ وذلك لأنه خلق البشر على صورة لا يتمنى أحد منهم أن يكون على غير صورة البشر؛ دل أنه خلقهم على أحسن صورة. والثاني: على أحسن تقويم، أي: على أحكم تقويم وأتقنه؛ لأنه خلقهم وأنشأهم على هيئة يتهيأ لهم استعمال الأشياء كلها في منافعهم والانتفاع بها بحيل وأسباب علمهم وجعكل فيهم، ومكن لهم ذلك. ويحتمل (أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، أي: أحكم وأتقن على الدلالة على وحدانية اللَّه - تعالى - وألوهيته. أو جعلهم أهل تمييز ومعرفة، وبحيث يكون منهم الخيرات وأنواع الطاعات التي يثابون عليها، وينالون بها الثواب الجزيل، والكرامة العظيمة ما لا يكون لغيرهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) هو يحتمل وجوها: أحدها: رددناه إلى أسفل السافلين وهو جهنم، نرد الكافر إلى جهنم وهي أسفل السافلين، والمؤمن رددناه إلى الجنة وهي أعلى العليين، وهو ما استثنى بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) في الجنة. والثاني: رددناه إلى أسفل ما اختار من الأعمال والأفعال، وهو ما اختار من فعل الشرك والكفر، ورددنا المؤمن إلى أعلى ما اختار من الأعمال العالية الرفيعة، والله أعلم.

(6)

والثالث: ما قاله أهل التأويل: ثم رددناه إلى أرذل العمر وأسفله، ثم استثنى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا (6). . .) إلى آخره، أي: يجري عليهم ثواب أعمالهم التي عملوا بها في حال صحتهم وشبابهم، فأما أُولَئِكَ فإنهم إذا ردوا إلى ما ذكر، لم يجر لهم ذلك؛ وهذا التأويل إنما يصح، أن لو استثنى المحسنين من المؤمنين منهم، فأما إذا استثنى أهل الإيمان من أهل الكفر فإنه لا يحتمل، والأول أشبه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين (7): إن كان الخطاب به لكل إنسان كذب بالدِّين، يقول: ما الذي دعاك إلى تكذيبك بالدِّين؟ وقد عرفت أن اللَّه - تعالى - أحكم الحاكمين، لا يفعل إلا ما هو حكمه، ولو لم يكن يوم الدِّين كان فعله عبثا باطلا؛ لأنه أنشأكم، ثم رباكم إلى أن بلغتم إلى الحال التي بلغتم، فلو لم يكن بعث، لكان يخرج فعله عبثا باطلا. أو يقول: لما سوى بين من اختار ولايته وبين من اختار العداوة في هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما؛ فلا بد من مكان يفرق بينهما هنالك. وإن كان الخطاب في قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين) ولرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: أي حجة له في تكذيبك بما تخبره من الدِّين؟ أي: لا حجة له في ذلك. أو يقول: ما الذي دعاه إلى تكذيبه بالدِّين بعد ما عرف أني أحكم الحاكمين؟!. ثم اختلف في قوله: (بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8): قَالَ بَعْضُهُمْ: أحكم القاضين، أي: أعدلهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أحكم الحكماء، والإفناء بلا بعث فعل السفهاء، لا فعل الحكماء، وهو أحكم الحاكمين، أي: أعدل القاضين في التفريق بين الأولياء والأعداء، وقد اجتمعوا في الدنيا؛ فلا بد من دار يفرق بينهما فيها، واللَّه الموفق. * * *

سورة اقرأ

سُورَةُ اقْرَأْ، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ): ذكر أهل التأويل أن هذه أول سورة نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأول وحي أوحي إليه. وقيل: غير هذه هي الأولى. ثم الإشكال أنه أمره بأن يقرأ باسم ربك الذي خلق، وحق هذا ونحوه إذا قيل له: اقرأ، أو افعل: ألا يقول مثل ما قيل له: اقرأ أو افعل؛ لأنه أمر في الظاهر إنما يكون عليه الائتمار بذلك، وكذلك قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، وكذلك على هذا قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ. . .)، وأمثال ذلك، يجب ألا يقول هو مثل ما قيل له: (قُلْ)، أو: (اقْرَأْ)، ولكن يقول: " يَا أَيُّهَا الكافرون "، ويقول: " هو اللَّه أحد "، " أعوذ برب الفلق "، " أعوذ برب الناس "، هذا هو وجه الكلام ومعناه. وجوابه أنه يحتمل وجوها: أحدها: أنه أريد بهذا أن يكون قرآنا يقرأ هكذا في حق القراءة يبقى، ويثبت في المصاحف إلى آخر الدهر؛ ليعلم كيف قيل لرسول اللَّه؟ وكيف أوحي إليه؟ وأنه لم يترك مما قيل له حرفا واحدا؛ ليكون حجة لرسالته وآية لنبوته، واللَّه أعلم. ويحتمل أن يكون كذلك على خلاف المفهوم من كلام الناس؛ لئلا يكون المفهوم

(2)

من وحي السماء والمنزل منها كخطاب بعض بعضا، ولكن خلاف المفهوم منه. والثاني: أن يكون الخطاب منه لكل أحد، ومن كل أحد لآخر، خاطب جبريل - عليه السلام - رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - به، وأمره أن يقرأ، ثم يأمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - غيره بذلك، وذلك الغير يقول لآخر كذلك؛ فيكون الخطاب منه لكل أحد، ومن كل أحد لآخر، واللَّه أعلم. وقوله - تعالى -: (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) يحتمل أن يريد به أي: افتتح القراءة باسم ربك على ما جعل افتتاح كل شيء باسم الرب - تعالى - لينال بركة ذلك فيه. والثاني: أن يكون ما ذكر على أثر اسم ربه، هو تفسير اسم ربه؛ حيث قال: (الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ)؛ فيكون هذا تفسيرا لما ذكر من اسم ربه. أو يكون قوله: (بِاسْمِ رَبِّكَ) كما يقال: " أسألك باسمك الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت "، وذلك الاسم مكتوم بين أسمائه. ثم قوله: (بِاسْمِ رَبِّكَ) يخرج إضافته إليه مخرج التعظيم لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وخصوصيته له؛ على ما ذكرنا أن إضافة خاصية الأشياء إلى اللَّه - تعالى - تخرج مخرج تعظيم ذلك الخاص، من ذلك قوله: (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ)، و (نَاقَةُ اللَّهِ)، (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)، ونحو ذلك من إضافة خاصية الأشياء إليه، وإضافة كلية الأشياء إلى اللَّه - تعالى - تخرج مخرج تعظيم الرب والمحمدة له، نحو قوله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، و (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، و (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ). ثم لا يجوز إضافة الخاص الذي لا خصوصية ظهرت له إلى اللَّه - تعالى - لا يجوز أن يقال: يا رب زيد، ويا رب عمرو، ونحو ذلك؛ إنما يجوز ذلك فيمن ظهرت له خصوصية وفضل من الأنبياء والرسل والملائكة، عليهم السلام، والبقاع والأمكنة التي ظهرت لها خصوصية وفضل؛ ليكون ذلك تعظيما لها، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2):

(3)

العلق: الدم الجامد، ثم قوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ)، أراد به كل إنسان، و (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) كذلك؛ ليعلم أن الاسم الفرد إذا دخله لام التعريف أريد به العموم، وهو كقوله - تعالى -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ). ثم في الآية دلالة على إبطال قول من يدعي طهارة النطفة؛ بعلة أن الإنسان خلق منها؛ فإنه أخبر أنه خلق الإنسان من علق، نسب خلق الإنسان إليه، ولا شك أن العلق نجس، ثم أخبر أنه خلق الإنسان منه؛ فعلى ذلك جائز أن تكون النطفة التي منها يخلق الإنسان نجسة، وذلك غير مستحيل. ثم أضاف خلقه مرة أخرى إلى الأحوال التي قلب منها، حيث قال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ. . .)، إلى آخر ما ذكر، وأضاف هاهنا إلى حالة واحدة، وهي العلقة التي ذكر، وإن لم يكن الإنسان في الحقيقة مخلوقا من العلقة والنطفة والتراب الذي ذكر؛ لأن هذه الأسماء أسامي هذه الأشياء باعتبار خاصيات فيها، وتلك الخاصيات تنعدم باعتراض حال أخرى عليها، وإنما يخلق الإنسان من المضغة وإنما ذكر خلق الإنسان منه، ونسبه إلى ما ذكر؛ لما أن الإنسان هو المقصود من خلق ذلك، وهو النهاية التي ينتهي إليها، فذكر بالذي ينتهي إليه من الغاية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4): ذكر (الْأَكْرَمُ)؛ ليعلم أن اختياره واصطفاءه لرسالته ونبوته، وتعليم القرآن ابتداء إحسان منه إليه، وتفضل عليه، لا بحق له عليه؛ إذ ذكر في موضع المنة والفضل

(4)

والكرم؛ إذ الأكرم هو الوصف بغاية الكرم؛ كالأعلم وصف بإحاطة العلم وكماله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5): جعل اللَّه - تعالى - القلم سببا به يحفظ، وبه يثبت، وبه يوصل إلى حفظ ما يخاف فوته ونسيانه من أمر دينهم ودنياهم، ما لو لم يكن القلم، لم يستقم أمر دينهم رلا دنياهم. ثم قوله: (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)، أي: علم الخط والكتابة بالقلم. وكذا ذكر في حرف ابن مسعود وأبي وحفصة - رضي اللَّه عنهم -: (علم الخط بالقلم). ثم أضاف التعليم بالقلم إلى نفسه. وكذلك قوله: (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) فهو يخرج على وجهين: أحدهما: أن يكون أضاف ذلك إلى نفسه؛ لما يخلق منهم فعل تعلمهم. ويحتمل إضافته إليه؛ للأسباب التي جعلها لهم في التعليم، واللَّه أعلم. ثم ذلك التعليم بالقلم لأمته، لا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه علمه إياه بلا كتابة ولا خط؛ حيث قال: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)، ثم في تعليم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بلا قلم ولا كتابة آية عظيمة لرسالته، حيث جعله بحال يحفظ بقلبه بلا إثبات، ولا كتابة، ولا خط يخطه. ثم قوله: (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) يحتمل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لقوله: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)، وكقوله: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا)، وقوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ). ويحتمل قوله: (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ): كل إنسان؛ كقوله: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7): طغى بالغنى، أي: تكبر، وافتخر بما رأى نفسه غنية، وعلى هذا ما روي في الخبر

(7)

من التعوذ من غنى يطغي، وفقر ينسي؛ لأن الغنى يحمل على التكبر والافتخار، والطغيان هو المجاوزة عن الحد والتعدي فيه، والفقر المنسي: هو المجهد الذي ينسي غيره من النعم، أعني: ينسي غير المال من صحة البدن والعقل والعلم ونحو ذلك. وقوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) ليس هذا وصف ذلك الكافر بعينه على ما ذكره أهل التأويل -: أبي جهل لعنه اللَّه - ولكن كل كافر يطغى؛ إن رأى نفسه غنية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8): أي: المرجع كذا قال أبو عبيد. وقال غيره: الرجوع. ثم يحتمل قوله: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)، أي: المرجع للكل إلى ما أعد لهم: أعد للكافر النار، وللمؤمن الجنة؛ على ما ذكر في الآية. وجائز أن يكون إخبارا عن رجوع الكل إليه. ثم قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى)، أريد به إنسان دون إنسان؛ إذ لم يطغ كل إنسان، ولا خلف يقع في خبر اللَّه تعالى؛ فكأن المراد منه: البعض؛ ليعلم أن الفهم بظاهر الخطاب والعموم ليس بواجب، ولكن على حسب قيام الدليل على المراد منه. وفيه أن المراد منه قد يكون مبينا مقرونا به، وقد يكون مطلوبا غير مقرون به. * * * قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10): ذكر أهل التأويل أن الذي ينهى: أبو جهل - لعنه اللَّه - (عَبْدًا إِذَا صَلَّى): رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أنه كان يصلي في الحجر، فكان ينهاه أبو جهل؛ فنزل: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى). وجائز أن يجمع هذا كله في الوعيد الذي ذكره على أثر ذلك، وهو قوله: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ

(14)

اللَّهَ يَرَى)، كأنه قال: أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى، أرأيت الذي ينهى من كان على الهدى، أو أمر بالتقوى، وهو رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان ينهاه ذلك الكافر إذا صلى، وينهاه عن الهدى، وعن الأمر بالتقوى، أرأيت الذي كذب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتولى عن طاعة الله تعالى، ألم يعلم بأن اللَّه يرى؟! يدخل جميع ما ذكر في هذا الوعيد؛ فيكون ذلك جوابا لما تقدم من قوله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى. عَبْدًا إِذَا صَلَّى. . .) إلى آخر ما ذكر. وجائز أن يكون جواب قوله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى. عَبْدًا إِذَا صَلَّى) مسكوتا عنه؛ ترك للفهم. ثم قوله: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) أي: ألم يعلم بأن اللَّه يرى؛ فينتقم منه لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. أو: ألم يعلم بأن اللَّه يرى؛ فيدفعه عما هم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو وعيد. ثم قوله: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) يحتمل وجهين: أحدهما: قد علم بأن اللَّه يرى جميع ما يقوله، ويفعله، ويهم به، لكنه فعل ذلك على المكابرة والعناد. والثاني: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) على نفي العلم له بذلك؛ إذ لو علم بأن اللَّه يرى، ويعلم ما يفعله من النهي عن الصلاة والمكر به، لكان لا يفعل ذلك به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16): أي: حقا لئن لم ينته عن صنيعه الذي يصنع برسول اللَّه (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ)، أي: لنأخذن بالناصية؛ كأنه عبارة عن الأخذ الشديد، والجر الشديد على الناصية. ثم يحتمل أن يكون ذلك الوعيد له في الدنيا: أنه لو لم ينته عما ذكر: فإن كان في الدنيا فتكون السفع كناية عن العذاب، أي: لنعذبن. وقيل: قد أخذ بناصيته يوم بدر، فألقي بين يدي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قتيلا. وإن كان في الآخرة، فهو عن حقيقة أخذ الناصية؛ كقوله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا. . .)، وقوله: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ. . .).

(16)

وقال أهل العربية: (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ)، أي: نقبض، وسفعت ناصيته، أي: قبضت، ويقال: سفعه بالعصا، أي: ضربه بها، ويقال: أسفع بيده، أي: خذ بيده. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16): يحتمل ما ذكر من قوله: (كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) كناية عن النفس. ويحتمل أن يكون كناية عن الناصية التي تقدم ذكرها. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) أي: أبو جهل، (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ)، أي: أهل مجلسه في الإعانة له بما يهم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) نحن في الدفع عنه؛ لنرى هل يقدر أن يفعل به ما هم به. ثم يحتمل ذلك في الدنيا، وقد ذكر أنه قتل يوم بدر. وجائز أن يكون ذلك الدفع من الزبانية في الآخرة، وسموا: زبانية للدفع، أي: يدفعون أهل النار في النار. وقيل: الزبانية: الشرط، والواحد: زبينة، والنادي: المجلس، يريد به: قوله. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) أي: لا تطع ذلك الكافر، وكان ما ذكر، لم يطعه حتى مات؛ فكان فيه إثبات الرسالة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ): يحتمل قوله: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أن يكون هذا خطابا للنبي - عليه السلام - أي: صلِّ، واقترب إلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. ويحتمل أن يكون قوله: (وَاسْجُدْ) خطابا للنبي - عليه السلام - أي: صل، وقوله: (وَاقْتَرِبْ) خطابا لأبي جهل، أي: اقترب إلى مُحَمَّد؛ حتى ترى على سبيل الوعيد؛ لما كان يقصد المكر بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في حال الصلاة. ثم على التأويل الظاهر الآية حجة لنا على أهل التشبيه؛ فإنه لم يفهم من قوله: (وَاقْتَرِبْ): القرب من حيث المكان، وقرب الذات، ولكنْ قرب المنزلة والقدر، وكذلك ما ذكر في بعض الأخبار: " ومن تقرَّب إليَّ شبرا، تقربت إليه ذراعا "، ونحو ذلك، لا

يفهم منه قرب الذات، ولكن قرب المنزلة والقدر بالإجابة، وكذلك جميع ما ذكر في القرآن من القرب: قرب المنزلة والقدر. ثم في هذه السورة السجدة؛ لما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سجد فيها. وروي عن ابن سيرين عن أبي هريرة أنه قال: " سجد في (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) - أبو بكر، وعمر، ومَن هو خير منهما ". وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " في (اقْرَأْ): من عزائم السجود ". وروى أبو عبيدة عن عبد اللَّه أنه سجد فيها، واللَّه أعلم. * * *

سورة القدر

سُورَةُ الْقَدْرِ، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ): قال أهل التأويل: إن قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ)، يعني: القرآن. ويحتمل أن يكون قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ)، يعني: السلام الذي ذكره في آخر السورة، حيث قال: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ): فمن قال: أنزل القرآن في ليلة القدر، فهم مختلفون فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ في تلك الليلة، وهي في شهر رمضان؛ لقوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. . .)، أي: أنزل من اللوح المحفوظ، ثم أنزل من السماء الدنيا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتفاريق على قدر الحاجة من الأمر والنهي، والحلال والحرام، والمواعظ، وكل ما يحتاج إليه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أنزل من اللوح المحفوظ في تلك الليلة المقدار الذي يحتاج إليه إلى العام القابل جملة، ثم ينزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نجوما بالتفاريق، واللَّه أعلم. ثم لا ندري أن تلك الفضيلة التي جعلت لهذه الليلة؛ لفضل عبادة جعلت فيها، امتحن الخلق بأدائها على الترغيب والأدب، أو فضلت لمكان ما امتحن الملائكة وكلفهم بالنزول فيها والعبادة لله في الأرض، وإنزال القرآن، ونحو ذلك؛ أو لحكمة ومعنى فضلت لم يطلع على ذلك المعنى أحد، وقد جعلت لبعض الأمكنة الفضيلة لعبادات جعلت فيها، نحو ما ذكر: " صلاة واحدة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره، وصلاة واحدة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره سوى المسجد الحرام ".

(2)

وقال - تعالى -: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ. . .)، خصت هذه البقاع بالفضيلة على غيرها؛ لعبادات جعلت فيها؛ فعلى ذلك جائز أن يخص بعض الأوقات دون بعض بالفضيلة؛ لمكان عبادات جعلت فيها، لكنْ بيَّن تلك الأماكن، ولم يبين تلك الأوقات المفضلة، وجعلها مطلوبة من بين غيرها من الأوقات؛ فهو - واللَّه أعلم -: أن لو بين، وأشير إليها؛ لكان لا مؤنة تلزم لطالبه في ذلك؛ لأنه يحفظ ذلك الوقت وتلك الليلة خاصة، وأما المكان تلزم المؤنة في إتيان ذلك المكان، وعلى ذلك يخرج ما لم يبين وقت خروج روح الإنسان من بدنه؛ لأنه لو بين، وأعلم نهاية عمره، لتعاطى الفسق، وارتكب المعاصي؛ آمنا إلى آخر أجزاء حياته، ثم يتوب؛ فلم يبين؛ ليكون أبدا على خوف وحذر ورجاء؛ فعلى ذلك لم يبين تلك الليلة؛ لتطلب من بين الليالي جميعا؛ ليحيوا ليالي غيرها، واللَّه أعلم. ثم إن كان السؤال عن القرآن هو المنزل في تلك الليلة، يكون دليله قوله: (حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍةٍ. . .). وإن كان السؤال عن ليلة القدر؛ فيكون البيان عنها. ثم قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: يقول: ما كنت تدري حتى أدراك؛ كقوله: (مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا. . .). ويحتمل قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ) على التعظيم لها والتعجيب، واللَّه أعلم. وقيل: نزول هذه الآية يكون على معنى التسلي، أعطاه فضل هذه الليلة، والعمل فيها، ثم بين فضلها حيث قال: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أُري بني أمية على منبره؛ فساءه ذلك؛ فنزل قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. . .)، أي: من ألف شهر يملكها بعدك بنو أمية يا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

(4)

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، أي: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها. وقيل - أيضا -: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذكر لأصحابه أن رجلا من بني إسرائيل جاهد ألف شهر في سبيل اللَّه؛ فعظم ذلك عليهم؛ فنزل قوله - تعالى -: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، أي: العمل فيها خير من جهاد ذلك الرجل في ألف شهر. ويحتمل أن يكون ذكر ألف شهر على سبيل التمثيل، لا على التوقيت، أي: خير من ألف شهر وأكثر؛ إذ التقدير قد يكون لبيان العدد نفسه، وقد يكون لبيان شرف ذلك الشيء وعظمته؛ فلا يكون الغرض هو القصر على العدد، وهو كقوله: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)، ونحو ذلك. ثم اختلف في تسمية ليلة القدر: قَالَ بَعْضُهُمْ: هي ليلة الحكم والقضاء، فيها يحكم ويقضي ما يريد أن يكون في ذلك العام المقبل؛ لقوله - تعالى -: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ). أو سميت: ليلة القدر؛ لأنها ليلة لها قدر ومنزلة عند اللَّه تعالى؛ لما يوصف الشيء العظيم بالقدر والمنزلة. وسميت: ليلة مباركة؛ لأنه تنزل فيها البركات والرحمة من اللَّه - تعالى - على خلقه. أو سميت: مباركة؛ لكثرة ما يعمل فيها من العبادات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ. . .): قَالَ بَعْضُهُمْ: الروح هاهنا: جبريل - عليه السلام - كقوله - تعالى -: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: خلق موكلون بالملائكة، كما أن الملائكة موكلون ببني آدم. وجائز أن يكون الروح هاهنا هو الرحمة، أي: تنزل الملائكة بالرحمة فيها، على ما

(5)

سميت: مباركة بما ينزل فيها من البركات. ثم اختلفوا في قوله: (فِيهَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: في تلك الليلة تنزل الملائكة والروح. وقيل: (فِيهَا): أي: في الملائكة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)، أي: ينزلون بأمر ربهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ): قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: بكل أمر تقدر في تلك السنة على الأرض، وكذا قَالَ الْقُتَبِيُّ: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ)، أي: بكل أمر سلام. وقيل: من كل أمر يدبره اللَّه تعالى، أي: الملائكة لا علم لهم فيما يقدر اللَّه - تعالى - إلا أن يطلعهم اللَّه عليه؛ فكأنهم يطلعون على ما يقدر في تلك السنة من الأمور؛ فينزلون بها بأمر اللَّه تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَلَامٌ هِيَ ... (5): قيل: تنزل الملائكة تخفق بأجنحتها بالسلام من اللَّه تعالى والرحمة والمغفرة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: هي ليلة سالمة، لا يحدث فيها شر، ولا يرسل فيها شيطان إلى مطلع الفجر. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو سلام الملائكة، أي: تسلم الملائكة على كل مؤمن ومؤمنة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ)، أي: من كل آفة وبلاء سلام. وكذلك ذكر في قوله - تعالى -: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ): قَالَ بَعْضُهُمْ: يحفظونه من عذاب اللَّه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحفظونه بأمر اللَّه تعالى؛ فكذلك يحتمل قوله: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ) هذين الوجهين. وقوله: (هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) يحتمل: أي تلك البركات التي ذكرت إلى مطلع الفجر. ويحتمل ذلك السلام الذي ذكر إلى مطلع الفجر. ويحتمل الملائكة يكونون في الأرض إلى مطلع الفجر، وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي

اللَّه عنهما - أنه قرأ: (من كل امْرئٍ سلام)، وقال: يعني: الملائكة. ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: اختلفت الروايات عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ليلة القدر متى تكون؟ واختلفت الصحابة - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - فيها: روى عبد اللَّه بن أنيس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " التمسوها في العشر الأواخر، واطلبوها في كل وتر ". وروى عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ليلة تسع عشرة من رمضان، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين ". وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -أنه قال: " تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر ". وروي أنها في سبع وعشرين. وعن عبد اللَّه بن عمر أنه: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ليلة القدر -وأنا أسمع- قال: " هي في كل رمضان ". وعن زر قال: قلت لأبي بن كعب: أخبرني عن ليلة القدر، يا أبا المنذر؛ فإن صاحبنا عبد اللَّه بن مسعود سئل عنها، فقال: من يقم الحول يصبها فقال: نعم، رحم الله أبا عبد الرحمن، واللَّه لقد علم أنها في رمضان، كره أن تتكلوا، واللَّه إنها في رمضان، ليلة سبع وعشرين. ثم ليس لنا، ولا لأحد أن يشير إلى تلك الليلة، فيقول: هي ليلة كذا: ليلة سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، إلا أن يثبت بالتواتر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك خبر بالإشارة إليها؛ فعند ذلك يسع، وإلا كانت مطلوبة في الليالي. وعلى هذا الوجه تخرج الأخبار المروية على التوافق دون المناقضة، وتكون كلها صحيحة؛ فتكون في سنة بعض الليالي، وفي سنة أخرى في غيرها، وفي سنة في العشر الأواخر من رمضان، وفي سنة العشر الأوسط من رمضان، وفي سنة في العشر الأول، وفي سنة في غير رمضان، واللَّه أعلم بالصواب.

سورة البينة

سُورَةُ الْبَيِّنَةِ، وهي مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ): ذكر في حق أهل الكتاب: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) بحرف (مِنْ)، وهو للتبعيض، ولم يقل: " أهل الكتاب "، وذكر في حق أهل الشرك: (وَالْمُشْرِكِينَ)؛ لأن أهل الكتاب كانوا فرقا: منهم من كان آمن برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به، ومنهم من كان كافرًا به، فلما بعث آمن به، فلزم الإيمان به، ومنهم من كان كافرا به، فلما بعث، وأرسل، لزم الكفر به، ولم يؤمن، فلما كانوا أصنافا وفرقا؛ لذلك قال: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) بحرف " من ". وأما المشركون: فإنهم كانوا صنفا واحدا، ثم لم يبين: أنهم إذا أتاهم البينة ينفكون أو لا؟. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَمْ يَكُنِ. . .) إلى قوله: (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)، أي: لم يكن بعض أهل الكتاب وبعض المشركين منفكين من الكفر؛ لأنه عطف المشركين على أهل الكتاب؛ كأنه قال: من أهل الكتاب ومن المشركين؛ ولذلك خفض المشركين، ولم يقل: " والمشركون "، بل كانوا أهل كفر وشرك إلى آخر عمرهم، وإن أتتهم البينة، والبينة: هي ما في خلقة كل أحد مما يدل على ألوهيته ووحدانيته. ويحتمل أن بعضا من الفريقين على الشرك حتى تأتيهم البينة، وهي معاينة العذاب عند

(2)

الموت؛ كقوله - تعالى -: (فَلَمَّا رَأَوا بَأسَنَا. . .)، ونحو ذلك. وذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين)، وفي حرف أبي: (ما كان الذين أشركوا من أهل الكتاب والمشركين). ثم اختلف في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُنْفَكِّينَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منتهين، زائلين عن الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين خارجين من الدنيا حتى تأتيهم البينة. ثم اختلفوا في البينة التي ذكر أنها تأتيهم: قَالَ بَعْضُهُمْ: البينة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ حيث قال على أثره: (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً). وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما جاء به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو القرآن، وما جاء به مُحَمَّد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الحجج: فمن جعل قوله: (مُنْفَكِّينَ): منتهين، زائلين، يجعل البينة: رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ورسول اللَّه - عليه السلام - سمي بينة؛ لأنه به يعرف كل خير وكل إحسان، وبه يتبين الحق من الباطل، وكل شيء من أمر المعاد والمعاش، وكذلك القرآن جاء به. ومن قال: (مُنْفَكِّينَ): خارجين من الدنيا: يجعل البينة التي ذكر أنها تأتيهم: العذاب معاينة جهارا؛ كقوله - تعالى -: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. . .)، أي: خارجين من الدنيا؛ حتى يعلموا العذاب؛ فعند ذلك يؤمنون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2): على التأويل الأول في البينة يكون ما ذكر من قوله: (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ) تفسيرا للبينة. وعلى الثاني يخرج على الابتداء، يقول: رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يتلو صحفا مطهرة. ثم جائِز أن يكون سمى القرآن وحده: صحفا؛ على المبالغة؛ إذ قد يسمى الواحد باسم الجميع على المبالغة.

(3)

وجائز أن يكون قوله: (يَتْلُو صُحُفًا): القرآن، وسائر الصحف؛ لأن سائر الصحف فيه. وكذلك: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)، جائز أن يكون سمى كتابه المنزل على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: كتبا؛ على الإبلاع، والتأكيد؛ على ما ذكرنا. وجائز أن يكون: يتلو صحفا وكتبا عليهم، وهي التوراة والإنجيل والزبور، كأن هذا القرآن في تلك الكتب، وتلك الكتب في هذا، وهو كقوله - تعالى -: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)، أخبر أنه في تلك الكتب، وأن الكتب الأولى فيه؛ فيصير بتلاوة هذا عليهم كأنه تلا تلك الكتب عليهم، وعلى هذا قوله - تعالى -: (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي. . .)، وقوله - تعالى -: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. . .)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُم. . .)، ففى هذا ما في تلك الكتب. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (صُحُفًا مُطَهَّرَةً): التي كانت في أيدي السفرة البررة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُطَهَّرَةً)، يحتمل: مطهرة من أن يكون للباطل فيها حجة أو مدخل. أو مطهرة من الافتعال والافتراء. أو مطهرة من أن تحتمل ما ذكره أُولَئِكَ الكفرة. وقال قتادة: سمى كتابه بأحسن الأسماء، وأثنى عليه بأحسن الثناء، سماه: نورا، وهدى، ورحمة، وبركة، وآية، [وشفاء]، ونحوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَيِّمَةٌ (3) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: فيها كتب صادقة. وقَالَ بَعْضُهُمْ: عادلة. قال غيرهم: مستقيمة على ما توجبه الحكمة.

(4)

وجائز أن يكون قوله - تعالى -: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)، أي: أحكام كثيرة مستقيمة؛ على ما توجبه الشريعة والحكمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4): يقول أهل التأويل: إنما تفرقوا من بعد ما جاءتهم البينة، وهو مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. قال أبو بكر: هذا التأويل خطأ؛ لأنهم كانوا متفرقين قبل ذلك؛ فلا معنى لهذا. وعندنا: ليس كما توهم هو، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: وما تفرقوا في مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلا من بعد ما جاءهم العلم به، عند ذلك تفرقوا فيه، فأما قبل ذلك، كانوا مجتمعين فيه كلهم. أو ما تفرقوا في الدِّين والمذهب إلا من بعد ما جاءتهم البينة، أي: عن بيان وعلم تفرقوا في الدِّين، وفيما تفرقوا فيه، وهو ما جعل في خلقة كل أحد دلالة التوحيد والربوبية له ما لو تفكروا، لعرفوا بأن اللَّه - تعالى - واحد، والبينة تحتمل من هذا الموضع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والقرآن، ونفس الخلقة على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5). أي: ما أمر أوائلهم وأواخرهم في تلك الكتب إلا ليعبدوا اللَّه - تعالى - ولا يعبدوا من دونه. أو ما أمروا إلا ليجعلوا الألوهية لله والوحدانية له. ودل قوله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ) على أن تأويل قوله - تعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، على إضمار الأمر، أي: إلا ليأمرهم بالعبادة على كل حال؛ لأنه لو خلقهم للعبادة ما قدروا على غيره. أو أن يكون قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) على الخصوص، خلق من علم أنه يعبده للعبادة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ): إخلاص الدِّين له يخرج على وجهين: أحدهما: أن يخلص له الدِّين، ويصفى، لا يشرك فيه غيره، ويكون من خلوصه وصفائه. والثاني: الدِّين الخالص هو الدائم، كقوله (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا. . .)،

أي: دائما. وكذلك يحتمل قوله: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ. . .). وقوله: (حُنَفَاءَ): قال أهل التأويل: المسلمون. وقَالَ بَعْضُهُمْ: حنفاء: متبعين، والحنف: الميل، كأنه قال: مائلين إلى الإسلام. وقيل: (حُنَفَاءَ): الحجاج. وقيل: الحنف: المستقيم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ): يحتمل القبول، أي: قبلوا إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ كقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ)، أي: تابوا، وقبلوا ذلك، ليس على حقيقة الإقامة. ويحتمل أن يكون حقيقة الإقامة والإيتاء، وأيهما كان، ففيه أن أوائلهم كانوا مأمورين بالصلاة والزكاة. ثم المعنى الذي في الصلاة والزكاة لا يحتمل النسخ في وقت من الأوقات؛ لأن الصلاة معناها: هو الاستسلام، والخضوع له، والزكاة: هي تزكية النفس وطهارتها، وذلك لا يحتمل النسخ أصلا. ثم قال: (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) والدِّين مذكر، والقيمة مؤنث؛ فجائز أن يكون الذي ذكر هو الملة القيمة، ويحتمل دين الأمة القيمة، وهو قول الزجاج. أو يقول: ذلك الذي قومته الحجج والبراهين، أضيف إلى الحجج. وجائز أن يكون ذكر القَيِّمة، على التسوية بين ما سبق وما تقدم من أواخر الآي، من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)، و (مُطَهَّرَةً)، و (كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)، ثم قال على ذلك: (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)، تسوية بين ما تقدم وما تأخر من قوله: (خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)، و (شَرُّ الْبَرِيَّةِ). وفي حرف أُبي: (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمِ) بغير هاء. وفي قوله - تعالى -: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) - وجهان:

(6)

أحدهما: تحذير لهذه الأمة؛ لئلا يتفرقوا كما تفرق أُولَئِكَ في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفيما جاء به. والثاني: يكونون أبدا فزعين إلى اللَّه - تعالى - في كل وقت، خائفين منه، وألا يكلوا إلى البيان الذي جاءهم؛ فيتفرقوا كما تفرق أُولَئِكَ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6). ظاهر هذا أن يكون تأويل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ)، أي: بعض المشركين في النار، لا كل المشركين، ولكن من كفر من المشركين، كان كمن كفر من أهل الكتاب في نار جهنم، لكن الكفر هو الشرك، والشرك هو الكفر؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. . .)؛ فدل أن الكفر والشرك واحد؛ فكل كافر مشرك؛ فكأنه قال: إن الذين أشركوا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أُولَئِكَ هم شر البرية. ثم جاء كل هذا التشديد لهَؤُلَاءِ؛ لأن أهل الكتاب ادعوا أنهم من نسل الأنبياء، ثمِ تركوا اتباعهم، والمشركون قد (. . . أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ. . .)، ثم نقضوا ذلك العهد. وأهل الكتاب قالوا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، فتركوا اتباع الصالحين من آبائهم. والعرب - أيضا - كانوا أقرب إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من غيرهم؛ فحقه عليهم ألزم وأوجب؛ فشدد على هَؤُلَاءِ لهذا المعنى. ثم إن كان البرية مأخوذًا مقدرا من البري وهو التراب، ويرجع تأويل الآية إلى البشر؛ كأنه قال: أُولَئِكَ هم شر ما أنشئ من الأرض. وإن كان مأخوذا مقدرا من البرا وهو الخلق؛ فيصير كأنه قال: أُولَئِكَ هم شر ما خلقوا؛ فيدخل في ذلك الملائكة والجن والبشر، وفي الأول لا يدخل إلا البشر خاصة.

(7)

وكذلك ما ذكر من أهل الإيمان؛ حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7): فإن كان البرية مأخوذا من البرى، فهو يرجع إلى الأصناف جميعا، وإن كان من البري -وهو التراب- فهو يرجع إلى البشر خاصة؛ فيصير كأنه قال: شر أهل البشر من جنسهم، وخير أهل الخير من جنسهم؛ لأنهم صاروا قادة في الهدى والخير. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8): فإن كان العدن هو المقام، فجميع الجنان عدن، وجميع الجنان نعيم. ثم قد قسم الخلق صنفين: صنفا جعله شر البرية، وصنفا جعله خير البرية، ثم يكون من كل صنف شر من شر، وخير من خير، وسوى بين من نشأ على الكفر، وداوم عليه في التأبيد والتخليد وبين من أحدث الكفر في آخر عمره، وكذلك من دام على الإيمان، ومن أحدث سوى بينهما، ولم يجعل لما مضى من الكفر والإيمان جزاء ولا عقابا؛ وذلك - واللَّه أعلم - هو أن من اعتقد إيمانا إنما يعتقده للأبد، وكذلك من يعتقد الكفر، إنما يعتقده للأبد، فإذا أحدث الإيمان بعد الكفر اعتقد قبح ما عمل في حال كفره وشره، وحسن ما أحدث من الإيمان والتوحيد، وكذلك من أحدث الكفر بعد الإيمان، اعتقد فساد ما عمل في حال إيمانه؛ لذلك سوى بين من أحدث، وبين من دام عليه، وليس كمن يذنب في وقت، ويتوب في وقت؛ لأنه ليس يعتقد حسن ذلك، ولا قبحه في الأبد، واللَّه الموفق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) يحتمل وجهين: أحدهما: يقول: رضي اللَّه عنهم، بعملهم الذي عملوا لأنفسهم، وسعيهم الذي سعوا في الدنيا لهم؛ رضي سعيهم لهم، (وَرَضُوا عَنْهُ)، أي: رضوا هم عنه بما أكرمهم، ووفقهم للأعمال التي عملوا لأنفسهم في الدنيا، وهو كقوله - تعالى -: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)، أي: إن قبلوا ما أحسن إليهم، وأحسنوا صحبة إحسانه إليهم يرضى ذلك لهم.

وهذا يدل أن ما يعملون من خير أو شر إنما يعملون لأنفسهم، ولمنفعة ترجع إليهم، أو مضرة تندفع عنهم. والثاني: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) بما أكرمهم من الثواب لأعمالهم التي عملوا لأنفسهم، ورضوا عنه بكرامته التي أكرمهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) هذا منه إفضال وإنعام؛ حيث ذكر رضاه عنهم، وإن ذكر العفو والتجاوز كان حقا، ولكن هذا كما ذكر من لطيف معاملته عباده؛ حيث سمى ما ادخروا في وقت حاجتهم إليه: قرضا؛ حيث قال: (. . . وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا. . .)، وسمى بذلهم أنفسهم وأموالهم سرًّا، وما يعملون لأنفسهم - جزاء وشكرا، وأموالهم وأنفسهم في الحقيقة له، ولكن سمى بالذي ذكرنا؛ لطفا منه وفضلا؛ فعلى ذلك ما ذكر من رضاه عنهم به، وكذلك قوله: (وَرَضُوا عَنْهُ) وذكر رضاهم عنه بفضله ولطفه، وإلا من هم حتى يذكر منهم الرضا عن اللَّه تعالى؟!. ثم هو يخرج على وجهين سوى ما ذكرنا: أحدهما: رضوا عنه بما امتحنهم في الدنيا بالمحن الشديدة العظيمة، وإن اشتدت تلك، وثقلت على أنفسهم إذا رأوا إحسان اللَّه - تعالى - وفضله في الآخرة. والثاني: رضوا عنه بالنعم التي أكرمهم في الجنة، (. . . لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)، ولا يريدون غيرها، ولا يملون على ما يملون في الدنيا. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مُنْفَكِّينَ)، أي: لا يزالون على هذه الحال، يقول الرجل: ما انفككت أفعل كذا وكذا، أي: ما زلت أفعل كذا وكذا. وقَالَ الْقُتَبِيُّ وأبو عبيد وغيرهما: المنفكين: زائلين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ): أي: الذي ذكر من الجزاء لمن خشي نقمته، أو خشي سوء صحبة نعمه، وأصله أن من اجتنب المعاصي وعمل بالطاعات، فإنما يفعل ذلك؛ لخشية ربه - تعالى - وكل من كان أعلم بربه فهو أخشى لربه تعالى، ومن كان أجهل به فهو أجرأ؛ قال اللَّه - تعالى -: (. . . إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ. . .). وقال الحسن: الخشية: هي الخوف اللازم في القلب الدائم فيه، أو خشي خلافه وكفران نعمه، واللَّه أعلم، والحمد لله رب العالمين. * * *

سورة (إذا زلزلت)

سُورَةُ (إِذَا زُلْزِلَتِ)، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا): قد ذكرنا أن حرف (إِذَا) إنما يذكر عن سؤال سبق منهم؛ كأنهم سألوا عن الوقت الذي كانوا يوعدون فيه، وإن لم يذكر السؤال؛ لأنه قد يكون في الجواب بيان السؤال، وفي السؤال بيان الجواب، وإن لم يذكر، فعند ذلك قال: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، أخبرهم عن أحوال يوم القيامة والحساب، ولم يخبرهم عن وقتها، وقد ذكرناه في غير موضع. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، أي: حركت الأرض تحريكا شديدًا؛ لهول ذلك اليوم، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: جائز أن تكون تتزلزل وتتحرك؛ حتى تلقي ما ارتفع منها من الجبال الرواسي في الأودية، حتى تستوى الأرض، لا يبقى فيها هبوط ولا صعود، كقوله - تعالى -: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107). وجائز أن يكون قوله: (زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ)، أي: تتزلزل، وتتحرك؛ لتغير الجبال الرواسي حتى تصير كما ذكر: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ. وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)، وإذا فنيت وتلاشت بقيت الأرض مستوية على ما ذكر. ويحتمل أن تكون تتزلزل وتتحرك؛ حتى تصير غير تلك؛ كقوله - تعالى -: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ. . .) الآية. ويحتمل أن يكون تبديلها وتحريكها ومدها هو تغير صفاتها؛ على ما ذكرنا في الوجهين الأولين. قال الزجاج: لا تصح هذه القراءة؛ لأن الزلزال من المضاعف، والمضاعف إنما يكون بالخفض مصادرها، أما من الأسماء قد يكون نصبا؛ كقوله تعالى: (مِنْ صَلْصَالٍ)

(2)

، ونحوه، والزلزال: مصدر؛ فيكون الأصل المطرد فيه هو الكسر، والنصب يكون نادرا، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2). أي: أحمالها؛ لهول ذلك اليوم، وقال في آية أخرى: (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ)، ثم يحتمل (وَأَخْرَجَتِ) (وَأَلْقَتْ) ما فيها من الموتى من أول ما دفن فيها من كل شيء من الحيوان وغيرها، إلى آخر ما يجعل فيها من الكنوز وغيرها مما يحتمل الحساب، ومما لا يحتمل من البشر، وجميع الممتحنين وغيرهم. ويحتمل: أخرجت أثقالها: الممتحنين خاصة: ممن يحاسبون، ويثابون، ويجزون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3). أي: قال الكافر: ما لها تتحرك؟ فقَالَ بَعْضُهُمْ: أحمق في الدنيا، وأحمق في الآخرة؛ حيث يسأل الأرض ما لها تتزلزل وتتحرك؟ يظن أنها بنفسها تفعل ذلك لا لفزعة ما ترى من أهوال ذلك اليوم وتغيير أحوالها؛ على ما لم ينظر في الدنيا في الآيات والحجج حتى يقبلها، ويخضع لها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التقديم والتأخير؛ كأنه يقول: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)، (وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا)، تشهد وتخبر بما عمل على ظهرها. ثم إخبارها يخرج على وجوه: أحدها: ما قاله أهل التأويل: إنها تخبر وتحدث بما عمل على ظهرها من خير أو شر، أو طاعة أو معصية. لكن لا يحتمل إخبارها الخير؛ لأنها إنما تشهد عليهم؛ لإنكار أهل الكفر ما كان منهم من فعل الكفر والمعصية، وأما أهل الجنة فإنهم يكونون مقرين بالخيرات، واللَّه - تعالى - يصدقهم على ذلك، واللَّه أعلم. وكذلك ما ذكر من شهادة الجوارح إنما تشهد عليهم على ما ينكرون من الشرك والكفر وغير ذلك من المعاصي؛ فعلى ذلك التأويل يكون إخبارها على حقيقة النطق والكلام. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إخبارها: ما ذكر من تزلزلها وتحركها، والأحوال التي تكون فيها هو تحديثها وأخبارها التي تكون منها.

(5)

وقَالَ بَعْضُهُمْ يومئذ تبين وتقع أخبارها التي أخبروا في الدنيا فكذبوها، يومئذ يتبين لهم ذلك، ويقع لهم مشاهدة عيانا من الحساب والثواب والعقاب، وفي الخبر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أتدرون ما أخبارها؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: " أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5): من قال بأن أخبارها من شهادتها بما عملوا على ظهرها، يكون تأويله قوله - تعالى -: (أَوْحَى لَهَا)، أي: أذن لها ربها بالشهادة؛ فتشهد. ومن قال: إخبارها هو تزلزلها وتحركها والأحوال التي تكون منها يقول على إسقاط (لَهَا) يقول: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)، أي: فعل ذلك بها، والوحي قد يكون الوحي والإلهام والأمر، ويستعمل فيما يليق به. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) يحتمل صدور الناس من وجهين: أحدهما: يصدرون من قبورهم إلى الحساب؛ ليروا كتابة أعمالهم، أي: ليروا ما كتب من أعمالهم التي عملوا في الدنيا، ويحتمل صدورهم على ما أعد لهم في الآخرة من الثواب والعقاب؛ فعلى هذا التأويل؛ ليروا جزاء أعمالهم التي عملوا في الدنيا، كقوله - تعالى -: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، وقوله - تعالى -: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا. . .)، هذا تفسير قوله: (أَشْتَاتًا). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8): قَالَ بَعْضُهُمْ: يرى الكافر ما عمل من خير في الدنيا، وأما في الآخرة فلا يرى؛ لأنه لا يؤمن بها، ولا يعمل لها؛ كقوله - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ. . .)، والمؤمن يرى ما عمل من شر في الدنيا، وما عمل في الآخرة؛ وعلى ذلك روي في الخبر أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان جالسا

مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية؛ فقال أبو بكر الصديق: يا رسول اللَّه: كل من عمل منا شر يراه؟ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما يرون في الدنيا مما يكرهون فهو من ذاك، ويؤخر الخير لأهله في الآخرة ". وجائز أن يكون قوله - تعالى -: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) و (شَرًّا يَرَهُ)، على الإحصاء والحفظ؛ كقوله - تعالى -: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا. . .)، أي: لا يذهب عنه شيء قليل ولا كثير حتى الذرة. ويحتمل وجها آخر، وهو أن قوله - تعالى -: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. . .)، أي: من يعمل من المؤمنين مثقال ذرة خيرا يره في الآخرة، ومن يعمل من الكفار مثقال ذرة شرا يره في الآخرة؛ لأن اللَّه - تعالى - قد أخبر في غير آي من القرآن أنه يتقبل حسنات المؤمنين، ويتجاوز عن سيئاتهم؛ كقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ونحو ذلك من الآيات. وقوله: (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) ليس على إرادة حقيقة الذرة؛ ولكن على التمثيل. ثم قيل من إخبار الأرض وما ذكر من شهادة الجوارح: أن كيف احتمل ذلك، وهي أموات، والموات لا علم لها؟ فجائز أن يكون اللَّه - تعالى - يجعل لها علما، وينطقها بذلك، وأن لها بذلك علما على جعلها آية. ثم في قوله - تعالى -: (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) دلالة أن قوله - تعالى -: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، وقوله: " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو "، وقول الناس: " نقرأ كلام رب العالمين "، و " في المصاحف قرآن " ألا يراد به حقيقة كون كلام اللَّه - تعالى - في المصاحف، ولا حقيقة كون القرآن فيها والسفر به، ولا حقيقة سماع كلامه، ويكون على ما أراد من سماع ما به يفهم كلامه، أو يسمع ما يعبر به عن كلامه، وكذلك يكون في المصاحف ما يفهم به كلامه، أو ما يعبر به عن كلامه؛ على ما ذكر من رؤية الأعمال، وأعين الأعمال لا ترى، ولكن يرى ما يدل عليها، وهو المكتوب من أعمالهم في الكتب التي فيها أعمالهم؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم بالصواب.

سورة (والعاديات)

سُورَةُ (وَالْعَادِيَاتِ)، مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا. . .) إلى آخره. قال على - كرم اللَّه وجهه - وعبد اللَّه - رضي اللَّه عنهما -: هي الإبل. وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره من أهل التأويل: هي الخيل؛ غير أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ذلك يوم بدر. وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذلك في الحج. ومن قال: هي الخيل، قال: ذلك في سرية بعثها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فأبطأ عليه خبرها؛ فاغتم لذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فنزل جبريل - عليه السلام - بخبرها على ما ذكر ووصف؛ فسر بذلك المؤمنون. فإن كان في أمر السرية والخيل على ما قاله ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - فجهة القسم بذلك تحتمل وجوها: أحدها: أنه من علم الغيب؛ إذ لا يعلم بحالهم وما وصف من أمر الخيل لا يكون إلا بالوحي من السماء، أو لمن شهد ذلك، فإذا لم يحضرهم أحد ممن شهدها، ثم أخبر بذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم ظهر عندهم على ما أخبر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، علموا بذلك أنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأنه إنما عرف بالوحي من اللَّه تعالى إليه، وذلك من أعظم آيات الرسالة.

(2)

أو أن يكون القسم بما ذكر من شدة الخيل وقوتها وحدة بصرها؛ حيث عدت في ليل مظلم، لا قمر فيه، ولا نور - عدوا يخرج النار من شدة عدوها من الحجارة التي تضرب بحوافرها ما لا يقدر الإنسان العدو في مكان مستو، فضلا أن يقدر على ذلك من الصعود والهبوط، وما ذكر من إثارة النقع من شدة عدوها، وتوسطها في العدو. أو يذكر موافقة مرادهم وحصول غرضهم في الإغارة على عدوهم في أغفل ما يكون العدو، وهو وقت الصبح. ثم القسم بقوله: (وَالْعَادِيَاتِ)، وما ذكر من الموريات وغيره، هو صفة العاديات ونعوتها. وفيه بشارات ثلاثة: أحدها: أنه لم تحدث لهم حادثة. والثاني: الإغارة على العدو. والثالث: أنهم قد توسطوا العدو. ومن قال: هي الإبل، وذلك في أمر الحج، يذكر سرعة سيرها، وشدة عدوها في الليلة المظلمة التي فيها الأودية والهبوط والصعود. ثم قوله: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) على هذا التأويل، أي: تضرب الحجر بالحجر؛ فتخرج منه النار من شدة سيرها وعدوها، وفي الخيل شدة ضرب الحوافر على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) على هذا التأويل، يقول بعضهم: نزولهم في تلك المغارات والأودية في وقت الصبح. والأشبه أن يكون خروجهم من تلك المغارات والأودية في ذلك الوقت؛ لأن ذلك الوقت وقت الخروج منها والدفع، لا وقت المقام. أو يكون قد استقبلهم العدو هنالك، ومن أراد بهم الشر؛ فتكون المغيرات على الإغارة عليهم؛ إن كان ثم عدو. (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) على هذا التأويل: الجمع في الحجج، وهو الجمع المعروف. ومن قال: ذلك في الخيل، يكون توسطهن في جمع العدو.

(6)

ثم الذي وقع به القسم قوله - تعالى -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) أي: الإنسان لنعم ربه لكفور، لا يشكرها، وهو أن الإنسان يذكر مصائبه وما يصيبه من الشدة في عمره أبدا، وينسى جميع ما أنعم اللَّه عليه، وإن لا يفارقه طرفة عين؛ ولذلك قال الحسن: الكنود: هو الذي يعد المصائب وينسى النعم. وقيل: الكنود: القتور البخيل الشحيح في الإنفاق، ويجب أن يكون وصف كل إنسان ما ذكر، لكن المؤمن يتكلف شكر نعم اللَّه - تعالى - ويجتهد في ذلك، ويصبر على المصائب، وهو كقوله - تعالى -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا)، وخلق (عَجُولًا)، هو كل إنسان، ثم استثنى المصلين منهم، وهم المؤمنون؛ أي: كذلك خلق وطبع كل إنسان، لكن المؤمن يتكلف إخراج نفسه من ذلك الطبع الذي أنشئ عليه، وطبع إلى غيرها من الطبائع؛ كالبهائم والسباع التي طبعها النفور من الناس بالاستيحاش عنهم، ثم تصير بالرياضة ما تستقر عندهم وتجيبهم عند دعوتهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن ذلك الإنسان على ما فعله في الدنيا لشهيد في الآخرة على ما جمعه؛ أي: يشهد ذلك ويعلمه؛ كقوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنَّهُ)، أي: ذلك الإنسان لبخله وامتناعه عن الإنفاق (لَشَهِيدٌ)، أي: يتولى حفظ ماله وإحصاءه بنفسه، لا يثق بغيره. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنَّهُ) ويعني: الله تعالى (عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) أي: عالم، يحصيه؛ ويحفظه، كقوله: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا. . .). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أي: ذلك الإنسان لشديد الحب للمال، فذكر بخله، وشحه في المال، في ترك الإنفاق والبذل، وعلى ذلك طبع كل إنسان؛ على ما ذكرنا، لكن المؤمن يتكلف إخراج نفسه مما طبع بالرياضة، ويجتهد في الإنفاق، والحب هاهنا: حب إيثار، أي: يؤثر لنفسه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) يقول - واللَّه أعلم -: فهلا

(11)

يعلم قدرة ربه وسلطانه وحكمته في إنشائه أنه يستخرج ما في القبور ويحييهم. أو يكون قوله: (أَفَلَا يَعْلَمُ)، أي: فيعلم (إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) أي: إن ربهم يومئذ لخبير بما كان منهم في الدنيا، (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ)، يقول: فهلا يعلم - أيضا - أنه يميز ما في الصدور، ويبين ويظهر ما فيها، لا يترك كذلك غير مميز، ولا مبين، بل يظهر ويميز، كقوله: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ). ثم قوله: (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)، أي: عن علم له بذلك يأخذهم، ويجزيهم بما يجزيهم. وفي قوله - تعالى -: (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) دلالة أن حصول الأعمال وخلوصها وما يثاب عليها ويعاقب بالقلوب وبالنيات، لا بنفس الأعمال؛ حيث قال: (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ). قال أهل اللغة وأَبُو عَوْسَجَةَ: (ضَبْحًا): الضبح: صوت في الصدر؛ ضبح يضبح ضبحا، فهو ضابح. (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا)، أي: هيجن الغبار بحوافرهن، والنقع: الغبار، والنقوع: جماعة، (فَوَسَطْنَ) من التوسط، أي: صرن في الوسط، و (لَكَنُودٌ): كفور، (وَحُصِّلَ)، أي: اختبر؛ يقال: حصلت: أي: اختبرت. وقَالَ بَعْضُهُمْ والْقُتَبِيّ: (وَالْعَادِيَاتِ): الخيل، والضبح: صوت حلوقها إذا عدت. وقيل: الضبح والضبع واحد في السير؛ يقال: ضبحت الناقة، وضبعت. (فَالْمُورِيَاتِ)، أي: أورت النار بحوافرها، والأرض الكنود: التي لا تنبت شيئا، ويقال: بعثرت، أي: قلبت، فجعل أسفلها أعلاها. قوله تعالى: (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ)، أي: ميز ما فيها من الخير والشر، والشك، واليقين، والله أعلم. * * *

سورة القارعة

سُورَةُ الْقَارِعَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ. وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْقَارِعَةُ) قال: القارعة عندهم هي الداهية الشديدة من الأمور، وهي في هذا الموضع وصف لشدة هول يوم القيامة، وهو من اللَّه - تعالى - تذكير لعباده، وتعجيب لهم عما يكون في ذلك اليوم من الأهوال في الأحوال والأفعال وسمى اللَّه - تعالى - في كتابه ذلك اليوم بما يكون فيه من اختلاف الأحوال، نحو قوله: (الْحَاقَّةُ)، و (الْوَاقِعَةُ)، وما أشبه ذلك، فكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْقَارِعَةُ) تذكير لهم بما وصف من حال ذلك اليوم وشدته؛ ليتفكروا في العواقب، ويتدبروا ما يستقبلهم في الأواخر من العذاب؛ فيمتنعوا بذلك عما نهاهم اللَّه - تعالى - عنه. ثم إن اللَّه - تعالى - خلق في بني آدم نفسا يدرك بها الشهوات واللذات في الدنيا، وعقلا يتذكر به عواقب الأمور وأواخرها، ويزيده ذلك تيقظا وتبصرا، ثم العقل مرة يدعوه إلى نفسه حتى يميل إلى ما يدعوه في جزاء ما أطمع في العاقبة، والنفس مرة تدعوه إليها؛ فيصير هواه وميله فيما يتلذذ به من الشهوات في دنياه، وعلى ذلك تأويل قوله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي. . .)، أي: يرحمه ويعصمه عن اختيار السوء. أو رحمه حتى جعل هواه فيما توجبه العواقب من الجزاء والثواب؛ فلذلك ذكر اللَّه - تعالى - عباده بما يستقبلهم من الأهوال في ذلك اليوم؛ ليعملوا عقولهم في أفكاره، والتذكر عنه؛ فيزدجروا عما زجرهم عنه. أو يتذكروا ما وعد لهم من الجزاء في ذلك اليوم؛ فيزدادوا بذلك حرصا في الخيرات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) اختلفوا في تأويله من

(5)

وجوه، ولكنه في الحاصل يرجع إلى معنى واحد: فمنهم من قال: أي: كالجراد المنتشر حين أرادت الطيران. ومنهم من قال: كالجراد الذي يموج بعضه في بعض. ومنهم من قال: كالفراش المبثوث الذي يتهافت في النار؛ فيحترق؛ وكل ذلك يؤدي معنى الحيرة والاضطراب من هول ذلك اليوم. وأصل ذلك قوله - تعالى -: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)، فكأن اللَّه - تعالى - قال: إنهم يصيرون في الحيرة من هول ذلك اليوم وشدته كالطائر الذي لا يدري أين يطير؟ وأين يثبت؟ وأين ينزل؟ وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) قَالَ بَعْضُهُمْ: كالصوف المصبوغ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كالمندوف من الصوف. فإن كان على التأويل الأول، فمعناه - واللَّه أعلم -: أن الجبال في ذلك اليوم تتلون ألوانا من شدة ذلك اليوم بلون العهن؛ ألا تراه يقول: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً)، وقال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)؛ فكذلك هذا على ذلك المعنى. وإن كان على التأويل الآخر، فمعناه: أن الجبال مع شدتها وصلابتها، تصير في الرخاوة والضعف من هول ذلك اليوم كالصوف المندوف؛ إذ ذلك أضعف أحواله. وقال قتادة: شبههم بغنم لا راعي لها، ذكر العهن كناية عن الغنم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) اختلفوا في تأويل الميزان من وجوه، ولكنَّ أقربها عندنا وجهان: أحدهما: أن يكون المراد من قوله: (ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) جملة المؤمنين، وقوله - عز وجل -: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) جملة الكفار، ويكون الوجه في ذلك أن المؤمن لما عظم حق اللَّه - تعالى - وأقام حدوده كان له ميزان وقيمة وخطر عند اللَّه - تعالى - في ذلك اليوم، والكافر لما ترك ذلك، خف وزنه وقيمته وخطره، وقد يطلق - واللَّه أعلم -

(9)

هذا الكلام على معنى الجاه والمنزلة، يقال: لفلان عند فلان وزن وقيمة، وليس عنده ذلك الوزن، فكذلك هذا. والوجه الثاني: من وزن السرائر التي لم يطلع اللَّه - تعالى - ملائكته الذين يكتبون أعمال بني آدم ذلك، ومعلوم أن ذلك إنما يحصل من المؤمنين دون الكفرة، وقد وصفنا مسألة الميزان وبيناها؛ فلذلك اختصرنا الكلام في ذا الموضع، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ)، منهم من قال: مرضية، يرضى أهل الجنة بتلك العيشة؛ فهي مرضية. ومنهم من قال: ذات رضاء؛ كقوله: (مَاءٍ دَافِقٍ)، أي: ذات اندفاق. ومنهم من قال: إنه أضاف الرضاء إلى العيش؛ لأنه به يرضى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) منهم من قال: سمى النار: أما للكافر؛ لأنه إليها يأوي. ومنهم من قال: المراد من الأم: أم رأسه؛ أي: يلقى في جهنم على أم رأسه منكوسا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَاوِيَةٌ)، أي: تهوي به؛ حيث لا يكون له ثبات ولا قرار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَارٌ حَامِيَةٌ (11) أي: تحميه، وتنضجه. ومنهم من قال: (نَارٌ حَامِيَةٌ)، أي: شديدة الحر، واللَّه أعلم، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. * * *

سورة (ألهاكم التكاثر)

سُورَةُ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)، أي: شغلكم التفاخر بالتكاثر، ثم لم يقل: عماذا شغلتم؟ فيجوز أن يكون (أَلْهَاكُمُ)، أي: شغلكم التكاثر عن توحيد اللَّه - تعالى - أو عن التفكر في حجج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو عن ذكر البعث. ثم قوله - تعالى -: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون الغرض من الخطاب بهذه الآية: آباءهم وسلفهم الذين تقدموا بالإخبار عن قبح صنيعهم واشتغالهم بالسفه؛ فيكون هذا صلة آيات أخر، من نحو قوله - تعالى -: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، وغير ذلك؛ فكأن اللَّه - تعالى - يخبرهم بآبائهم، ونهاهم عن الاقتداء بآبائهم؛ لأنهم تعاطوا أفعالا تخرج عن الحكمة حتى ماتوا، وذلك يقع من وجهين: أحدهما: أن من أنعم عليه نعمة، فجحدها، ولم يؤد شكرها، استوجب المقت والعقوبة؛ يقول: كيف تقتدون بآبائكم، وإنهم كفروا بنعمة اللَّه، وجحدوا بها، بل الواجب عليكم أن تتبعوا النبي الذي جاء بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم. والثاني: أن يكون فيه علامة ودلالة للبعث: أن آباءهم لما فعلوا ما يستوجب به المقت والعقوبة، وماتوا من غير أن يصيبهم ذلك في دنياهم: أن لهم دارا أخرى يعاقبون فيها بما فعلوا. وإن كان الخطاب إنما انصرف إليهم، ففيه إخبارهم عن سفههم: أنه شغلهم التفاخر بالتكاثر حتى جحدوا آيات رسوله، عليه السلام. أو أن يكون فيه إخبار عن سفههم من وجه آخر، وهو أن الافتخار كيف وقع بالأموات، والتفاخر بالأموات غير مستقيم.

(2)

أو يكون فيه وجه ثالث: إنما تفاخروا بما لا صنع لهم فيه؛ لأنهم: إنما افتخروا بالأموال والأولاد، وذلك من لطف اللَّه - تعالى - وجميل صنعه؛ فيكون في هذا كله ذكرهم بما فيهم من السفه والخرق. ثم التعيير بذكر هذه الأسباب إنما وقع - واللَّه أعلم - دون ما هم فيه من الكفر؛ لأن هذه الأسباب مما يبتلى به المؤمن في بعض الأحوال؛ فعيرهم اللَّه - تعالى - بذلك؛ ليكون فيه تذكير وموعظة للمؤمنين، ولو خرج ذكر الكفار في هذا، لكان لا يجتنب المؤمن شيئا من هذه الأفعال. وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)، فقال: " يقول ابن آدم: مالي، مالي، وما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت. . . " الخبر؛ فهذا يدل على أن الوعيد على الإطلاق من غير تصريح بأهل الكفر؛ لموعظة المسلمين، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) يحتمل: حقيقة زيارة الموتى، وذلك مما يذكرهم أن التكاثر مما لا ينفعهم إذا كان عاقبتهم هذا. ويحتمل: أي: صرتم إلى المقابر بعد الموت؛ فحينئذ تذكرون حق اللَّه - تعالى - ثم لا ينفعكم، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ بَعْضُهُمْ: كَلَّا، بمعنى: النفي، والتعطيل. وقَالَ بَعْضُهُمْ: معنى قوله: (كَلَّا)، أي: حقا. فإن كان على الوجه الأول، فكأنه قال: ليس كما حسبتم، وتوهمتم، وقدرتم عند أنفسكم وتعلمون ذلك إذا نزل بكم العذاب، وهو على الابتداء. وإن كان على معنى: حقا، فكأنه قال: حقا ستعلمون أنه ليس كما قدرتم عند أنفسكم، وكل ذلك يرجع إلى الوجوه التي وصفنا أنكم ستعلمون غدا حقا يقينا: أن الذي ألهاكم، وشغلكم عن توحيد اللَّه تعالى والتفكر في حجج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والإيمان بالبعث كان عبثا باطلاً، وأنه كان من الواجب عليكم: أن تؤمنوا باللَّه ورسوله،

(5)

وتنظروا في حجج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتؤمنوا بالبعث. وفائدة التكرار: ما جرى من العادة في تكرار الكلام عند الوعيد أو عند الإياس أو الرجاء؛ نحو قولهم: الويل الويل، وقولهم: بخ بخ، وغير ذلك؛ فكذلك هذا. ومنهم من حمل كل لفظة من ذلك على تأويل على حدة: أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وعند الموت عندما ترون العذاب: أن الأمر ليس كما حسبتم، وتعلمون في يوم البعث أنه حق يقين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) يعني بهذا - واللَّه أعلم -: إبطال ما كانوا عليه من الظنون والحسبان في هذه الدنيا؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)، فإذا نزل بهم العذاب تحقق عندهم، وعلموا علما يقينا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) حين نزل بكم الموت، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في القبر، وكذلك روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة. وفيه وجه ثان: وهو أنهم كانوا عند أنفسهم علماء، وأنهم على حق، ولكن اللَّه - تعالى - بين لهم أن علمهم كان حسبانا؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)؛ فيظهر لهم عند ذلك: أن اليقين ما نزل بهم، وأن الذي علموا لم يكن علم يقين؛ بل كان شكا وحسبانا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) يحتمل وجهين: أحدهما: يرونها عند الموت. والثاني: أي: يرونها بالتفكر والنظر في آيات اللَّه وحججه في الدنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)، له معنيان: أحدهما: عيانا ومشاهدة. والثاني: أن تكون رؤيتهم بعين اليقين، ليس على ما كان عندهم: أنهم لو فتح لهم باب من السماء وعرجوا إليها، لقالوا: (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)

(8)

يقول اللَّه، تعالى: يرتفع عنهم السحر عن أبصارهم، فيرونها عين اليقين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) ظاهر هذا يقتضي أن يكون سؤالهم بعدما دخلوا النار؛ لأنه قال: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ) بعدما وصف أنهم يدخلون النار؛ فبان أنه في ذلك الوقت، فإن كان على ذلك، فهو في موضع التقرير عندهم: أنهم استوجبوا المقت والعقوبة؛ لأنه كان عندهم أن من أنعم عليه بنعمة، فلم يشكرها، استوجب المقت والعقوبة؛ فاللَّه - تعالى - يسألهم في ذلك الوقت عن شكر ما أنعم عليهم؛ ليقرر عندهم استيجاب العقوبة، ويجوز أن يكون هذا عند الحساب؛ لأنه قال: (يَوْمَئِذٍ)، ولم يقل: قبل ذلك، أو بعده؛ بل قال على الإطلاق؛ فيعمل به. وإذا احتمل ذلك الوجه أن ينصرف إلى المؤمنين والكافرين كان الوجه في سؤال المؤمنين تذكيرهم أن أعمالهم لم تبلغ ما يستوفي بها شكر النعمة التي أنعمها عليهم، وليعلموا أن اللَّه - تعالى - تفضل عليهم، وتجاوز عنهم، لا أن بلغت إليه حسناتهم، فاستوجبوا رحمته بها؛ بل بكرمه وفضله. وإن كان في الكافرين، فهو تقرير ما استوجبوا من نقمته حيث تركوا شكر نعمه. ثم قوله - تعالى -: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) إن كان السؤال من الكفرة فإنهم يسألون عما تركوا من الإيمان باللَّه - تعالى - وبما أتى إليهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبغير ذلك من النعيم. وإن كان في المؤمنين فهو في سائر النعم من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها، واللَّه أعلم. * * *

سورة العصر

سُورَةُ الْعَصْرِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، خرج قوله: (وَالْعَصْرِ) مخرج القسم، والقسم موضوع في الشاهد؛ لتأكيد ما ظهر من الحق الخفي، أو لنفي شبهة اعترضت، أو دعوى ادعيت؛ فكذلك في الغائب. ثم الأصل بعد هذا: أنه ليس في جميع القرآن شيء مما وقع عليه القسم إلا إذا تأمله المرء واستقصى فيه، وجد فيه المعنى الذي أوجبه القسم لولا القسم. ثم اختلفوا في تأويل قوله: (وَالْعَصْرِ): فمنهم من قال: هو الدهر والزمان. ومنهم من قال: هو آخر النهار، فذلك وقت يشتمل على طرفي النهار، وهو آخر النهار وأول الليل؛ فكأنه أراد به: الليل والنهار. وقال أبو معاذ: تقول العرب: " لا أكلمك العصران "، يريدون: الليل والنهار، وفي مرور الليل والنهار مرور الدهور والأزمنة؛ لأنهما يأتيان على الدهور والأزمنة وما فيهما؛ فكان في ذكر الليل والنهار ذكر كل شيء، والقسم بكل شيء قسم بمنشئه؛ لأن كل شيء من ذلك إذا نظرت فيه، دلك على صانعه ومنشئه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إن الدنيا وما فيها كأنها خلقت وأنشئت متجرًا للخلق، والناس فيها تجار؛ كما ذكره في غير آي من القرآن، قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، وقال: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، أي: إن الإنسان لفي خسار من تجارته ومبايعته (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. . .) الآية. ولقائل أن يقول: كيف استثنى أهل الربح من أهل الخسران، ولم يستثن أهل الخسران من أهل الربح؟! فيقول: " إن الإنسان لفي ربح إلا الذين كفروا "، واستثناء هذه الفرقة من تلك أولى في العقول من تلك؟!

والجواب عن هذا: أن هذه الآية إنما نزلت بقرب من مبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والقوم بأجمعهم كانوا أهل كفر وخسار؛ فلذلك وقع الاستثناء على ما ذكر؛ إذ استثناء القليل من الكثير هو المستحسن عند أهل اللغة، وإن كان القسم الثاني في حد الجواز، والقرآن في أعلى طبقات الكلام في الفصاحة. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ) اسم جنس؛ فكأنه أراد: جميع الناس؛ ألا ترى أنه قال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، ولا تستثنى الجماعة من الفرد؛ فكأنه يقول -على هذا-: إن الناس في أحوالهم واختياراتهم في خسر إلا من كانت تجارته في تلك الحالة ما ذكر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يحتمل أن يكون تأويله: الصالحات التي كانت معروفة في الكفر والإسلام من حسن الأخلاق وغيره؛ ألا ترى أنه قال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، نقول: المعروف هو المعروف الذي هو معروف في الطبع والعقل، والمنكر الذي ينكره العقل، وينفر عنه الطبع. وإن كان المراد منه: الكفر، فكأنه قال: إن الكافرين في هلاك وخسار، إلا من آمن باللَّه تعالى ورسوله وعمل صالحا. ثم في هذه السورة ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكذلك ذكر الصالحات في سُورَة " التين "، وترك ذكر الصالحات في سورة " الكَبَد "؛ فكأن اللَّه - تعالى - ذكر الصالحات في تلك السورة؛ لما قد كان ذكرها قبل ذلك؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ)، وغير ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ): الحق في الأصل كل ما يحمد عليه فاعله، والصبر: هو الكف عن كل ما يذم عليه فاعله؛ فكأن التواصي بالحق تواصٍ بكل ما يحمد عليه، والتواصي بالصبر تواصٍ عن كل ما يذم عليه. ثم في ظاهر قوله - تعالى -: (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية - ما يوجب أن من لم يجمع بين هذه الأشياء التي ذكرها (لَفِي خُسْرٍ)؛ فيكون ظاهره حجة للخوارج والمعتزلة، إلا أن الانفصال عن هذا - واللَّه أعلم -: أن اللَّه تعالى وعد الجنة لمن جمع هذه الأشياء التي ذكر في هذه الآية، وذكر الإيمان مفردا في آية أخرى، ووعد عليه الجنة؛ فلا يخلو وعده الجنة عن الإيمان المفرد في تلك الآية من أحد

وجهين: إما أن يكون ذكر الإيمان مفردا، وأراد به الاكتفاء عن ذكر الجملة؛ فيكون في ذكر طرف منه ذكر لجملته. أو يكون في إيجاب الجنة له على مفرد الإيمان، فالحال فيه موقوفة. ولأن اللَّه - تعالى - أوجب الجنة، ولم ينف إيمانه عمن ينقص عن ذلك، فالحال فيه موقوفة على كليته، وإذا كان كذلك لم يقطع القول على إيجاب الجنة لمن أتى بالإيمان مفردا، أو على إيجاب النار؛ فيكون السبيل فيه على الرجاء؛ لأنه لو لم يذكر كان يقع فيه اليأس، وأصل كل عبادة في الدنيا إنما بنيت على الرجاء والخوف؛ فلذلك كان الأمر على ما وصفنا. أو نقول بأن اللَّه - تعالى - أوجب النار على من أتى بجميع السيئات، ولم يكن فيه دليل على أن من أتى بالكفر وحده لا يستوجب به نارا، فكذلك اللَّه - سبحانه وتعالى - وإن أوجب الجنة لمن جمع بين هذه الأعمال؛ فلا يدل على أن من أتى بالإيمان وحده، لا يستوجب به الجنة. وعلى أنه يجوز أن يكون استثناء كل من أتى بشيء من هذه الأعمال بالانفراد؛ فيكون فيه استثناء كل طائفة من ذلك على حدة، كأنه قال: إلا الذين آمنوا وإلا الذين عملوا الصالحات، وإلا الذين تواصوا بالحق. وإذا كان كذلك لا يكون حجة لهم، وإذا أريد به الجمع يكون حجة؛ فجاء التعارض والاحتمال؛ فوجب التوقف. ويحتمل أن يراد به الاعتقاد، أي: إن الإنسان لفي خسر، إلا من آمن، واعتقد هذه الأعمال الصالحة؛ كقوله - تعالى -: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ. . .) الآية، واللَّه أعلم. * * *

سورة الهمزة

سُورَةُ الْهُمَزَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)، اختلفوا في معنى الهمزة واللمزة: فقَالَ بَعْضُهُمْ: معناهما واحد، وهو الدفع والطعن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الهمزة: هو الذي يؤذي جليسه بلسانه، واللمزة: الذي يؤذي بعينيه وغير ذلك. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الهمزة: الذي يطعنه عند حضرته، واللمزة: الذي يطعنه عند غيبته، وهذا إنما يسمى به من يعتاد ذلك الفعل. وأهل اللغة وضعوا هذا المثال، وهو " فُعَل " لمن يعتاد ذلك الفعل ويحترفه. قال أهل التأويل: إن الآية في الكفار؛ لكن بعضهم قالوا: نزلت في الأخنس بن شريق. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. ولقائل أن يقول: إن الآية نزلت في الكفار، وكذلك كثير من الآي من نحو قوله - تعالى -: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)، ونحوها، ومعلوم أنه وجد منهم هذا الفعل أو عدم، استوجبوا ما ذكر من العقوبات وأشد، مع أن الذي فيه من الكفر أقبح من هذين الفعلين، فكيف وقع تعييرهم بذلك؟!. والجواب عن هذا وأمثاله من نحو قوله - تعالى -: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)، وقوله: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ)، فهم وإن أقاموا الصلاة، وأعطوا الزكاة، لم تزل عنهم عقوبة النار. والجواب عنه: أن الإيمان لم يحسن لاسمه، ولا قبح الكفر لنفس اسم الكفر؛ لأنه ليس أحد ممن يذهب مذهبا ويدين دينا إلا وهو يكفر بشيء ويؤمن بشيء؛ لأن المسلم

(2)

مؤمن باللَّه - تعالى - كافر بالطاغوت، والكافر يكفر بالرحمن ويؤمن بالطاغوت ويعبده؛ فثبت أن الإيمان ليس يحسن لنفس اسم الإيمان، ولا قبح الكفر؛ لعين اسم الكفر ولكن الإيمان باللَّه - تعالى - إنما حسن من حيث أوجبت الحكمة الإيمان به، وقبح الكفر؛ لأن الحكمة أوجبت ترك الكفر باللَّه تعالى، فالإيمان حسن؛ لما فيه من المعنى، والكفر قبح، لما فيه من معنى الكفر، وهذان الفعلان قبيحان في أنفسهما، لا بغيرهما؛ فكان التعيير الذي يقع بهذين الفعلين أكثر وأبلغ منه في تعييرهم بالكفر؛ لذلك عيرهم اللَّه - تعالى - بهذين الفعلين. ووجه آخر: أن هذا يخرج مخرج الموعظة لأمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يهمز به ويسخر منه؛ لما يأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ولا يحمله ما كانوا يتعاطونه على ترك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؛ لئلا يمتنع أحد من أمته عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما يخشى أن يسخر به أو يستهزأ. والثالث: أن يكون هذا على وجه المكافأة والانتقام لما كانوا يفعلون بنبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الزجر والردع عن ذلك؛ إذ العقلاء يمتنعون عن الأفعال القبيحة؛ فعلى هذه الوجوه يحتمل معنى تعييرهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) قرئ على التخفيف (جَمَعَ) من الجمع؛ أي: جمع ماله عنده ولم يفرقه وعدده وذكره -أي: حفظ عدده، وذكره على الدوام- لئلا ينقصه، وصفه بالبخل والشح. ومن قرأه بالتشديد، فمعناه: أنه جمعه وادخره بممر الزمان، لم يجمع ذلك في أيام قصيرة. والأصل (جمعه) بالتخفيف، لكن شدده لما فيه من زيادة الجمع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) يتوجه وجهين: أحدهما: أن يكون على الحقيقة أنه قدر عند نفسه أنه يبقى لبقاء الأموال له؛ لما يرى بقاءه من حيث الظاهر بها؛ فتقرر عنده أن ما آتاه اللَّه - تعالى - من الأموال هو رزقه؛ فيعيش إلى أن يستوفي جميع رزقه؛ فيجمعه، ويدخره؛ لكي يزيد في عمره. والوجه الثاني: أن يكون على الظن والحسبان، كأنه يقول: جمع مالا وعدده جمع من

(4)

يظن أن ماله يزيد في عمره. فإن كان على التأويل الأول فقوله: (كَلَّا (4) رد عليه؛ أي: ليس كما قدره عند نفسه. وإن كان على التأويل الثاني، فعلى إيجاب عقوبة مبتدأة. وقيل: (وَعَدَّدَهُ) أي: أكثر عدده. وقال الحسن: عدده، أي: صنفه؛ فجعل ماله أصنافا، وأنواعا من الإبل، والغنم والبقر والدور، والعقار، والمنقول، وغيرها. وقيل: (وَعَدَّدَهُ)، أي: استعده، وأعده، وهيأه. وقوله: (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ): قيل: باب من أبواب النار. وقيل: هي صفة النار. والحطمة: هو الكسر؛ فكأنه قال: النار التي يعذب بها الكفرة، وتكسر عظامهم وتحطمهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7): قيل: إن النار تأتي على جلودهم وعروقهم ولحومهم وعظامهم حتى تأكلها، وتكسر العظام، فتطلع على أفئدتهم؛ فحينئذٍ يتبدلون جلودًا غيرها؛ ليذوقوا العذاب. وقيل: إنما تحرق النار منهم كل شيء سوى الفؤاد؛ لأن الفؤاد إذا احترق، لم يتألم بعد ذلك، ولم يشعر بالعذاب، والمراد من الإحراق إلحاق الألم والضرر بهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) قرئ: (عُمُدٍ): برفع العين والميم، وقرئ بالنصب فيهما. وذكر عن الفراء أنه قال: العَمَد والعُمُد: جماعات للعمود، والعماد. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العَمَد: جمع العَمَدَة؛ نحو: بقرة، وبقر. وقال الكلبي: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ)، أي: النار عليهم مطبقة؛ يقول: طبقها ممددة في عمد من نار ممددة عليهم من فوقهم، والعمد كعمد أهل الدنيا، غير أنها من نار تمد عليهم، واللَّه أعلم، والحمد لله رب العالمين. * * *

سورة الفيل

سُورَةُ الْفِيلِ، وهي مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)، اختلفوا في السبب الذي به وقع القصد من أصحاب الفيل إلى تهديم البيت وتخريبه. فمنهم من قال: إنهم اتخذوا بيتا في بلادهم، وسموه: كعبة؛ لكي ينتاب الناس إليه كما ينتابون إلى الكعبة، فأبي الناس إتيان ذلك البيت؛ فغاظهم ذلك حتى قصدوا تهديم البيت. ومنهم من قال: إن العرب حرقوا بيعة كانت لهم، وخربوها؛ فغاظهم ذلك حتى أرادوا تهديم هذا البيت؛ جزاء بما فعلت العرب بهم. ومنهم من قال: إنهم كانوا ملوكا وفراعنة، ومن عادتهم أنهم يعادون من ضادهم في ملكهم وسلطانهم. وأي ذلك كان، فلا حاجة إلى معرفته، وإنما حاجتنا إلى تعريف المعنى الذي به أنزلت السورة وثبتت. وتأويل ذلك يخرج على أوجه ثلاثة: أحدها: أن اللَّه - تعالى - ذكرهم تلك النعمة التي أنعمها عليهم في صرف من أراد إهلاكهم؛ فإنهم كانوا قصدوا قتل أهل مكة، وسبي نسائهم وذراريهم، وأخذ أموالهم؛ فذكرهم اللَّه - تعالى - جميل صنعه بهم؛ ليشكروا له، ويعبدوه حق عبادته، وينزجروا عن عبادة غيره. والوجه الثاني: أن اللَّه - تعالى - خوف أهل مكة. ووجه ذلك: أن اللَّه - تعالى - لما أهلك أصحاب الفيل بما ضيعوا حرمة بيته؛ فلا يأمن أهل مكة من إهلاكه إياهم وتعذيبهم بما ضيعوا حرمة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع أن

(2)

حرمة الرسول أعظم من حرمة البيت، فلما نزل بأُولَئِكَ ما نزل لما جاء منهم من تضييع حرمة بيته؛ فلأن تخشى عذابه ونقمته من تضييع حرمة رسوله أولى. والوجه الثالث: أن اللَّه - تعالى - أهلك أُولَئِكَ لما أراهم من آياته فلم ينصرفوا؛ لأنه ذكر أنهم كانوا إذا وجهوا الفيل نحو البيت امتنع ووقع، وإذا وجهوه نحو أرضهم هرول وسارع، فلما رأوا ذلك، ولم ينصرفوا أهلكهم اللَّه - تعالى - فلا يؤمن على أهل مكة - أيضا - أنهم لما رأوا الآيات المعجزة من الرسول - عليه السلام - فلم يؤمنوا، أن يهلكهم اللَّه - تعالى - فينتقم منهم بعقوبته؛ فعلى ما ذكرنا يخرج معنى نزول السورة. وقيل: إنه على البشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى الإشارة أنه لم يكن للبيت ناصر في ذلك الوقت ولا معين؛ بل كان وحده، فنصره اللَّه - تعالى - حتى لم يتمكن أعداؤه من هدمه؛ فعلى ذلك ينصرك ويعينك، ويهلك عدوك، وإن كنت أنت وحدك؛ إذ كان وقت نزول هذه السورة لم يكن له كثير أعوان، وقد فعل ذلك يوم بدر. ثم قوله: (أَلَمْ تَرَ) حرف استعمل في تذاكر أعجوبة قد كانت، وعرفوها، ثم غفلوا عنها، أو فيما لم يكن؛ فيعجبهم بما فعل بأعدائه؛ ليحملهم على الزجر والانتهاء عما حرم اللَّه - تعالى - فكأنه قال: رأيت ربك كيف فعل بأصحاب الفيل؟!. ويجوز أن يكون الخطاب منه للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والمراد غيره. ويجوز أن يكون هذا خطابا لكل واحد منهم. ثم تسميتهم: أصحاب الفيل، ونسبة الفيل إليهم يحتمل وجهين: أحدهما: أي: الذي صحبوا الفيل. والثاني: (بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)، أي: أرباب الفيل؛ كما يقال: رب الدار، وصاحب الدار. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) أي: أبطل ما قدروه عند أنفسهم من تخريب البيت وتهديمه؛ فالكيد: ما ذكرنا بدءا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) جماعات متفرقة، جماعة جماعة، وهكذا السنة في الخروج لمحاربة أعداء اللَّه - تعالى - أن يخرجوا جماعة جماعة. وقيل: هي طير لم ير قبلها ولا بعدها مثلها، لها رءوس كالسباع.

(4)

وقيل: شبيهة برجال الهند. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) اختلفوا في السجيل: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو اسم موضع، خلقت حجارته؛ لتعذيب الفراعنة، وإهلاكهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: فارسية معربة، وهي " سنك وكل "، وهو الآجر في التقدير. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذه عبارة عن شدة الحجارة وقوتها. وقوله: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) قالوا: العصف: هو ورق الزرع، أو ورق كل نابت. ْوقوله: (مَأْكُولٍ) ينحو نحوين، ويتوجه وجهين: إلى ما قد أكل وإلى ما لم يؤكل؛ إذ ما يؤكل إذا ما كان معدا للأكل، سمي: مأكولا، فإن كان غير المأكول، فكأنه قال: جعلهم في الضعف والرخاوة -مع قوتهم وسلطانهم- كعلف الدواب؛ حتى لا يخاف منهم بعد ذلك أبدا. وإن كان على المأكول فهو أنه تعالى جعلهم كالمأكول التي أكلتها الدواب؛ فيكون فيها ثقب، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة (لإيلاف قريش)

سُورَةُ (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ)، هذا يخرج على وجوه: أحدها: ما قال الفراء: إن اللام لام الاعتدال؛ لأن السورة صلة لسورة (أَلَمْ تَرَ)، قال: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)، (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ)؛ كأنه يقول: أهلكت أصحاب الفيل، وفعلت بهم ما فعلت لتألف قريش بذلك المكان كما ألفوا به الرحلتين اللتين جعلتا لهم في الشتاء والصيف. والثاني: يحتمل أن يقول: ألزمت الخلق عبادة رب هذا البيت حتى ألفوا ذلك البيت، وحملوا ما تحتاج إليه قريش، وأهل ذلك المكان من الطعام، وما يتعيشون به؛ لتألف قريش بعبادة رب ذلك البيت ما لولا ذلك لم يتهيأ لهم المقام بذلك المكان؛ لأنه لا زرع فيه، ولا نبات، ولا ما يتعيش به، وهو كما قال إبراهيم - عليه السلام -: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)، وإنما تعيشهم في ذلك المكان بما يحمل إليهم من الآفاق والأمكنة النائية؛ كقوله: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا. . .) الآية. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمرت قريش بأن يألفوا عبادة رب هذا البيت كإيلافهم رحلة الشتاء والصيف؛ يقول: كما ألفتم هاتين الرحلتين، فألفوا عبادة رب هذا البيت. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن أهل مكة كانوا يرتحلون تجارا آمنين في البلدان، لا يخافون شيئا؛ لحرمتهم؛ لأن الناس يحترمونهم لمكان الحرم، حتى لا يتعرض لهم بشيء، ولا يؤذيهم أحد حتى إن كان الرجل منهم ليصاب في حيّ من الأحياء؛ يقال: هذا حرمى؛ فيخلى عنه، وعن ماله؛ تعظيما لذلك المكان، وهو ما قال: (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

(3)

وقيل: إن العرب كانت تغير بعضهم على بعض، ويسبي بعضهم بعضا، وأهل مكة كانوا آمنين في حرم اللَّه - تعالى - كقوله - تعالى -: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)، فذكر عظيم نعمه عليهم ومننه؛ ليعلموا ذلك أنه منه. وأصله أن اللَّه - تعالى - لما كان من حكمته وإرادته جعل الرسالة في قريش وإبقاؤها إلى الوقت الذي أراد أن يبقى، جعل لهم من الأمن في ذلك المكان والأرزاق التي تجبى إليهم، وما يتعيشون به في ذلك؛ ليبقوا إلى الوقت الذي أراد بقاءهم إليه؛ فيكون ما أراد على ما أراد، فكما أنشأ هذا العالم للبقاء إلى الوقت الذي أراد أن يبقوا فيه جعل لهم من الأرزاق ما يبقون إلى الوقت الذي أراد؛ ليكون ما أراد؛ فعلى ذلك الأول. قَالَ الْقُتَبِيُّ: الإيلاف: مصدر آلفت فلانا إيلافا؛ كما تقول: ألزمته إلزاما. وقال الكسائي: آلفت المكان، وألفته؛ لغتان. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ)، أي: كصنع قريش (إِيلَافِهِمْ)، أي: صنيعهم، (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ (4) السنين الذي أصابهم، (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) العدو، واللَّه أعلم. * * *

سورة الماعون

سُورَةُ الْمَاعُون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ)، اختلف في نزوله: قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - هي مدنية. وقال مقاتل ومجاهد وجماعة: هي مكية. وجائز أن يكون أولها نزل بمكة؛ لأن الذي ذكر أنها نزلت في شأنه كان مكيا، وهو العاص بن وائل السهمي مع ما أنهم هم الذين يكذبون بيوم الدِّين، وآخرها نزل بالمدينة؛ لأن في أواخرها وصف المنافقين، وهو ما ذكر من المراءاة في الصلاة، ومنع ما ذكر. ثم إن كان نزولها في الكفرة، فالجهة فيه والمعنى غير الجهة والسبب لو كانت نزلت في المنافقين. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَرَأَيْتَ) حرف يستعمل في موضع السؤال والاستفهام. ويجوز أن يكون استعماله على وجه التقرير عند السائل؛ لما يراد به إعلامه؛ على سبيل ما روي في الخبر: " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما قبل منك؟ "، وكان ذلك في موضع التقرير؛ فكذلك قوله: (أَرَأَيْتَ)، معناه - واللَّه أعلم -: أن اعلم أن الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين هو الذي يكذب بالدِّين. قال أهل التأويل جميعا: (يُكَذِّبُ بِالدِّينِ)، أي: بالحساب، والبعث. وجائز أن يكون يكذب بالدِّين الذي يظهر، أي: يكذب بالدِّين الذي أظهر لك. ولا نحقق أن كان في المنافقين؛ لأن أهل النفاق كانوا يكذبون ما يظهرون من الموافقة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين. وإن كان في أهل الكفر، فهو على الرؤساء منهم؛ فتكذيبهم بالدِّين هو ما كانوا يظهرون لأتباعهم من الجهد والشدة، يموهون بذلك على أتباعهم؛ ليقع عندهم أن الذي هم عليه

(2)

حق، وأن الذي عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - باطل؛ فيكذبون بالدِّين الذي يرون من أنفسهم، ويظهرون بالتمويهات التي يموهون بها عليهم. فكيفما كان إن كانت نزلت في المنافقين، أو في أهل الكفر، أو في الذي كذب بالحساب والبعث، أو بالذي ذكرنا أنه يظهر خلاف ما يضمر - ففيها عظة وتنبيه للمؤمنين وزجر لهم عن مثل صنيعهم؛ لأنه نعت الذي كذب بالدِّين إن كان المراد به الحساب، أو الدِّين نفسه؛ حيث قال: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) كأنه قال: الذي يكذب بالدِّين هو الذي يدع اليتيم؛ أي: يظلم اليتيم، ويمنع حقه. (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) يقول - واللَّه أعلم - للمؤمنين: لا تظلموا اليتيم، ولا تمنعوا حقه، ولا تسيئوا صحبة اليتيم، كما فعل من كذب بالدِّين وحضوا على طعام المسكين؛ يصف بخلهم واستهانتهم باليتيم والمساكين، وسوء معاملتهم التي عاملوهم، يعظ المؤمنين ويزجرهم عن ذلك. وجائز أن يكون قوله: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)؛ لما عندهم أن من أعطي المال، ووسع عليه الدنيا إنما أعطي ذلك لكرامة له عند اللَّه - تعالى - ومن ضيق عليه، ومع ذلك عنه؛ لهوان له عنده وحقارة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ. . .) الآية، يظنون أن اللَّه - تعالى - منع من منع ذلك؛ لهوان له عنده، ومن وسع عليه، وسع لكرامة له عنده؛ فيقول: كيف أكرم من أهانه اللَّه تعالى؛ فيحتمل أن يكون ما ذكر أنه لا يحض على طعام المسكين. ويحتمل أن يكون الذي حمله على ظلمه اليتيم، وتركه إطعامه تكذيبه بالبعث؛ لأنه ليس لليتيم من ينصره، ويقوم بدفع من يقصد ظلمه، ويمنع حقه، وكان لا يخاف عقوبة البعث؛ إذ لا يؤمن به. ثم يحتمل قوله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا

(4)

يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. . .) الآية؛ أن يكون في الاعتقاد والرؤية. ويحتمل أن يكون في حق الفعل نفسه؛ فإن كان في الاعتقاد والرؤية، فأهل الإسلام لا يعتقدون ذلك، وإن كان في حق الفعل فإنهم ربما يفعلون ذلك. وحمله عندنا على الاعتقاد أوجب وأقرب؛ لما وصفنا أن اليتيم لا ناصر له، وليس للكافر خوف العاقبة؛ لما لا يؤمن بذلك، وإنما يمتنع المرء في الغالب من سوء الصحبة؛ لهذين: إما رغبة في جزاء الآخرة، أو خوف المكافأة في الدنيا، والمساكين ليس لهم في الدنيا ما يكافئهم ويجازيهم، وليس لليتيم ناصر؛ ليخاف منه، ولم يكن للكافر رغبة في ثواب الآخرة، ولا خوف من العقاب؛ لعدم تصديقه بذلك. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) هو النهاية في وصفه بالبخل؛ لأن الحث على الصدقة أن يرجيه ويطمعه في ثوابه، فإذا لم يرج هو نفسه، فكيف يرجي غيره؟ مع ما أن الحكمة عند هَؤُلَاءِ الكفرة أن من جر إلى نفسه نفعا فهو الحكيم، ومن ضر نفسه فهو جائر غير حكيم، وهو إذا منع الصدقة نفع نفسه، وإذا أوفى اليتيم حقه ضرها؛ فلذلك لا يرغب فيها؛ فهذا المعنى الذي وصفناه، دعانا إلى توجيه التأويل إلى الاعتقاد. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) إن كان هذا في أهل النفاق، فأهل النفاق كذلك كانوا لا يفعلون شيئا من الطاعات إلا وكانوا عنها لاهين ساهين، وإذا فعلوا شيئا منها، فعلوا مراءاة؛ كقوله - تعالى -: (يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)، وقوله: (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)، فذكر كسلهم وبخلهم؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. . .) إلى آخر ما ذكر في المنافقين على ما ذكرنا من نعتهم. وجائز أن يكون في أهل الكفر، وأهل الكفر كانوا يصلون، كقوله: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً. . .)، أخبر أن صلاتهم في الحقيقة ليست بصلاة؛ فجائز أن تكون على صورة الصلاة الحقيقية، وقد ذكر أنهم كانوا يصلون مستقبلين نحو أصنامهم، يرون الناس كثرة اجتهادهم في طاعة الأصنام، حتى إذا رآهم من نأى عنهم ظن أن ذلك حق، فيكون في ذلك صد عن إجابة الرسول،

(5)

ودفع وجوه القوم عنه، وذلك قوله: (إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً). ويحتمل أن يكون كناية عن الخضوع والتذلل؛ فيكون معناه: ويل للذين لا يخضعون ولا يخشعون. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) يحتمل وجهين: أحدهما: أي: سهوا عن صلاتهم لأنفسهم، وصلاتهم التي هي لأنفسهم هي أن تكون الصلاة لله - تعالى - ويجعلوها له، ولا يصلوا لغير اللَّه من الأصنام وغيرها؛ لأن من صلى لله - تعالى - يرجع منفعتها في الحقيقة إليه؛ لما تعلق بها من الجزاء الجميل، فهم بالسهو عن تلك الصلاة وتركها يلحقون الضرر بأنفسهم ويجعلونها للأصنام التي لا تضر ولا تنفع. والثاني: سهوهم عن الصلاة حين أضاعوها، وهو ما ذكر في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. . .)؛ فيقول: سهيتم عن الصلاة فلم تمنعهم عما ذكر. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - مرفوعا: " هم الذين يؤخرونها عن وقتها ". وقال مجاهد: الساهي: الذي لا يبالي صلى أم لا؟ ألا ترى أنه قال: (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ). وقال الحسن: هم المنافقون، يؤخرونها عن وقتها، ويراءون إذا صلوا. وقال سعد: الترك عن الوقت. وقال أبو العالية: الساهي: هو الذي لا يدري على شفع انصرف أو على وتر؟ وروي عن عطاء بن يسار، أنه قال: الحمد لله حيث لم يقل: " في صلاتهم ساهون "، ولكنه قال: (عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ).

(7)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو الزكاة، رواه ابن الزبير، وعكرمة، ومجاهد عنه. وروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو الزكاة. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية أخرى هو العارية. وعن ابن عمر قال: هو الذي لا يعطي حقه، وهو الزكاة. وروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية: (الْمَاعُونَ): منع القدر، والدلو، والفأس. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله، وكذا عن ابن عَبَّاسٍ في رواية أخرى. وقال أبو عبيدة: كل ما فيه نفعه فهو الماعون. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: ما جاء أهلها بعد. فإن كان ذلك على العواري، فالمعنى منها ذم البخل، وأشده منع الفرض. وجائز أن يكون الماعون كل معروف وكل ما يعار، يدخل في ذلك الزكاة وغيرها؛ ففيه ذكر بخلهم وشحهم ومنع الحق من المستحق. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، أي: يضرب، ويدفع في قفاه؛ يقال: دع يدع دعا، فهو داع، ومدعوع. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، أي: يدفعه، وكذلك في قوله: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)، أي: يدفعون. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَلَا يَحُضُّ): لا يحرض، ولا يحث، (سَاهُونَ) غافلون. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لاهون)، و (أرأيتك) بالكاف، وكذلك في حرف أبي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، واللَّه أعلم بحقيقة ما أراد. * * *

سورة (إنا أعطيناك الكوثر)

سُورَةُ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) هذا خرج مخرج الامتنان على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والإنعام عليه والإفضال؛ ليستأدي بذلك شكره والخضوع له. ثم اختلفوا في (الْكَوْثَرَ): فقيل: هو الخير الكثير، والخير الكثير: ما أعطي من النبوة والرسالة وما لا ينجو أحد من سخط اللَّه - تعالى - إلا به، وهو الإيمان به والتصديق له، وما صيره معروفا مذكورا في الملائكة، وما قرن ذكره بذكره، ورفع قدره ومنزلته في جميع الخلائق، وغير ذلك مما لا يحصى، وهو ما قال: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ). وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْكَوْثَرَ): نهر في الجنة، وعلى ذلك جاءت الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن (الْكَوْثَرَ) فقال: " نهر في الجنة "، أو قال ذلك من غير سؤال. فإن ثبتت الأخبار فهو ذاك كفينا عن ذكره، وإن لم تثبت الأخبار فالوجه الأول أقرب عندنا؛ لأنه ليس في إعطائه النهر تخصيص في التشريف والعطية؛ لأن اللَّه - تعالى - وعد لأمته ما هو أكثر من هذا؛ لما روي في الأخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن لأهل الجنة في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "، ونحن نعلم أن هذا في الإنعام أكثر من النهر الذي وصف. وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْكَوْثَرَ): شيء أعطاه اللَّه - تعالى - رسوله لا يعرف. وأصله: أنه شيء خاطب به رسوله، وهو قد عرفه؛ فلا يجب أن يتكلف معرفته وتفسيره؛ لأنه إن أخطأ لحقه الضرر، وإن أصابه لم ينفع كثير نفع. وقيل: (الْكَوْثَرَ): هو حرف أخذ من الكتب المتقدمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: حقيقة الصلاة هي الخضوع والخشوع والدعاء، أمره بجميع ما يعبده في نفسه، وأمره أن يأتي بما تعبده من القرابين، والذبائح، والضحايا التي فيها نفار الطباع؛

حتى أن من الكفرة من يحرم الذبائح والنحر؛ للآلام التي فيها، والطباع تنفر عن ذلك؛ فتعبده بالذي فيه مناقصة طبعه ونفاره عنه. وجائز أن يكون لا على الأمر بالصلاة والنحر، ولكن معناه: إذا فعلت ذلك فافعل لله؛ لأن أُولَئِكَ الكفرة كانوا يصلون للأصنام، ويذبحون لها؛ كقوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)، أي: للنصب، فأمره أن يجعل ذلك لله تعالى. وقال أن من: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) هو صلاة العيد، وانحر البدن بعدها. وقال مجاهد وعطاء: صل الصبح بجمع، وانحر بمنى. وقال بعضهم: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) حقيقة الصلاة، وهي الصلاة المعروفة المفروضة، وهي مخ العبادة؛ على ما ذكر في الخبر. وكذلك ما ذكر أن المصلي مناجٍ الرب تعالى، وهو - واللَّه أعلم - لأنه ما من عبادة إلا وفيها شيء من اللذة وقضاء شهوة النفس وأمانيها من السير، والركوب، والأكل، والشرب، والكلام، والانتقال من موضع إلى موضع، وغير ذلك من الطاعات مما فيه شيء من اللذة للنفس وقضاء شهوتها -وإن قل- من الحج والزكاة والجهاد وغير ذلك، إلا الصلاة نفسها؛ فإن فيها قطع النفس عن جميع شهواتها وأمانيها، وعن جميع ما يتلذذ به من أنواع اللذات، وعلى ذلك ما سمي موسى - عليه السلام -: كليم اللَّه، ونجيه؛ لأنه فارق قومه وجميع ما للنفس فيه لذة وراحة، وأتى جبلا ليس فيه أحد، وكلمه ربه في ذلك؛ فسمي: نجي اللَّه، وعلى ذلك سمي المصلي: مناجيا ربه، وخص بذلك الاسم؛ لما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَانْحَرْ): هو ما ذكرنا من نحر البدن الذي تعبده للكل؛ لما فيه من نفار النفس بالتألم الذي يحصل لغيره بفعل غيره؛ فالتألم به بفعل نفسه أكثر من التألم بفعل غيره، وهو مجاهدة النفس وتغير ما امتحنه - عليه السلام - بتحمل المشقة لوجهه تعالى مرة بالتبليغ إلى الكفرة مع الخطر على نفسه، ومرة بمجاهدة نفسه بالقيام بالليل، ومرة بإتيان خلاف الطبع، وهو ذبح البدن؛ إذ الطبائع تنفر عن إراقة الدماء مع أنه أشفق

(3)

الناس وأرحمهم على خلقه، فبلغ من حسن إجابته له، وطاعته له أن ساق مائة بدنة، فنحر ستين منها بيده، وولى عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحر أربعين؛ على ما ذكر في الخبر. [وروى أبو الجوزاء] عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ): وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وكذا روي عن عليٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وعن عاصم الجحدري، قال: هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة. ومن قول الثنوية: أنهم لا يرون ذبح شيء من الأشياء؛ لما فيه من الألم والأذى. وقولهم هذا ليس بصحيح؛ لأنا نعلم أن إفاتة الروح بالذبح أهون على المذبوح من موته حتف أنفه؛ فإذا جاز في الحكمة أن تزهق روحه بغير الذبح فلأن يجوز في الذبح أحق. وأصله: ما ذكرنا أن هذه السورة نزلت في مخاطبة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو المقصود به من بين الناس، وهو يعلم بالذي خاطبه به من الصلاة؛ والنحر، والكوثر، وغير ذلك؛ فلا نتكلف نحن تفسيره مخافة الكذب على اللَّه - تعالى - سوى أن نذكر أقاويل أهل التأويل. وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) يذكر أهل التأويل: أن فلانا سمى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أبتر؛ فنزل: إن الذي سماك أبتر هو الأبتر - لا نعرفه حقيقة؛ لأنه لم يذكر أن أحدا من أولاد الفراعنة وأعداء الرسل - عليهم السلام - افتخر بأبيه أو بأحد من أوليائه والمنتمين بهم افتخروا بهم، وافتخر أولاد أولياء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الناس حتى يتعينوا بذلك فيما بينهم؛ يقول: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي: معاديك ومبغضك هو الأبتر دونك. أو يقول: أعداؤك هم الذين يبتر ذكرهم، وأولياؤك مذكورون أبدا على ما قلنا.

وأصله ما ذكرنا أنه خاطب به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وقد عرف ذلك، ونحن لا نعلم في أي شيء كانت القصة؟ وفيم نزلت الآية؟ واللَّه ورسوله أعلم. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الشانئ: المبغض، يقال: شنئته: أبغضته، والأبتر: هو الذي لا ولد له ذكر، ولا عقب له. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) هو بشارة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالغلبة عليهم، والقهر لهم، والنصرة عليهم، وإظهار دين اللَّه - تعالى - في البلاد والآفاق؛ إذ أخبر أن الذي عاداه وباغضه هو المنقطع والأبتر لا هو، واللَّه المستعان. * * *

سورة الكافرون

سُورَةُ الْكَافِرُونَ مَكِّيَّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. . .) إلى آخرها. ذكر أنها نزلت في منابذة المتمردين المعاندين منهم، الذين علم اللَّه - تعالى - منهم أنهم لا يؤمنون أبدا، ولا يرجعون عما هم عليه من عبادة الأوثان إلى التوحيد والإسلام؛ لأنه لا كل كافر يكون على وصف أنه لا يعبد اللَّه - تعالى - في وقت من الأوقات؛ إذ قد يجوز أن يكون كافرًا في وقت، ثم يسلم في وقت آخر؛ فدل ما ذكرنا أنها نزلت في المتمردين المعاندين الذين علم اللَّه - تعالى - أنهم يثبتون على الكفر، ولا يؤمنون أبدا، وكان كما أخبر؛ ففيه دلالة إثبات الرسالة؛ إذ أخبر أنهم لا يؤمنون، فلم يؤمنوا، وماتوا على الكفر. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) أنتم الآن، (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ ... (3) اليوم (مَا أَعْبُدُ) فيما بعد اليوم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأول: فيما مضى من الوقت، والثاني إخبار عن الحال، والآخر فيما بقي من الوقت. ولكن لا يجيء أن يكون هكذا؛ بل يجيء أن يكون قوله: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) في حادث الوقت؛ لأن حرف " ما " إنما يستعمل في حادث الأوقات، يقول الرجل: لا أفعل كذا، يريد به: حادث الوقت. وقوله: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) وكذلك - أيضا - في حادث الأوقات، أو إخبار عن الحال. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) إنما هو إخبار عن الماضي من الأوقات؛ كأنه يقول: لم أكن أنا عابدا قط في وقت من الأوقات، وهذا يدل على أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عبد غير اللَّه قط. وفي هذه السورة وجهان من الدلالة: أحدهما: ما ذكرنا من إثبات الرسالة.

(6)

والثاني: إخبار عن الإياس لهم من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن أن يرجع إلى دينهم أبدا، وقطع رجائهم وطمعهم في ذلك. وفيه - أيضا - أن من أشرك غيره في عبادة اللَّه - سبحانه وتعالى - أو عبد غيره دونه على رجاء القربة إلى اللَّه - تعالى - فهو ليس بعابد لله - تعالى - ولا موحد له؛ لأن أُولَئِكَ إنما عبدوا الأصنام رجاء أن تشفع لهم، ورجاء أن تقربهم إلى اللَّه - تعالى - زلفى؛ أخبر أنها لا تقربهم زلفى، وأنهم ليسوا بموحدين، ولا عابدين لله تعالى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) يحتمل وجهين: أحدهما: لكم جزاء دينكم الذي دنتم، ولي جزاء ديني الذي دنت. والثاني: على المنابذة والإياس، لكم ما اخترتم من الدِّين، ولي ما اخترت، لا يعود واحد منا إلى دين الآخر، وكان قبل ذلك يطمع كل فريق عود الفريق الآخر إلى دينهم الذي هم عليه. وقوله - تعالى -: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ليس على الأمر، على ما نذكر في سورة الإخلاص والمعوذتين؛ إذ لو كان على الأمر فهو يلزم أن يقول كل واحد منا لكل كافر ذلك، فإذا لم يلزم دل أنه ليس على الأمر. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (قل للذين كفروا لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين). وعنه أنه قال: " من قرأ هذه السورة فقد أكثر وأطنب ". وفي حديث مرفوع عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لرجل: " إذا أويت إلى فراشك فاقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)؛ فإنه براءة من الشرك ". وأهل التأويل يقولون: إن سبب نزول هذه ومنابذته إياهم: أن رهطا من قريش قالوا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: هلم فلنعبد ما تعبد، واعبد أنت ما نعبد نحن؛ فيكون أمرنا أمرا واحدا؛ فنزلت هذه السورة. قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الدِّين: [العبادة]، تقول: هذا ديني، أي: [عبادتي]. ثم المعنى الذي وقع عليه التكرار لهذه الأحرف عندنا: أن التكرار حرف جرى

الاستعمال به في موضع المبالغة والتأكيد لما قصد به من الكلام في أي كلام كان، رجاء كان، أو وعيدًا أو غيره، كقولهم: بخ بخ، والويل الويل، وهيهات هيهات، وغير ذلك، فكذلك في هذا الموضع لما وقع الإياس عن إيمانهم باللَّه - تعالى - بما علم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بطريق الوحي أنهم لا يؤمنون، كرر هذا الكلام؛ تأكيدا للإياس وإبلاغا فيه، والله أعلم. وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. * * *

سورة النصر

سُورَةُ النَّصْرِ وهي مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ): قال عامة أهل التأويل: إن قوله - تعالى -: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) هو مكة، والنصر الذي نصر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أهل مكة. قال أبو بكر الأصم: هذا لا يحتمل؛ لأن فتح مكة كان بعد الهجرة بثماني سنين، ونزول هذه السورة كان بعد الهجرة بعشر سنين، ولا يقال للذي مضى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، ولكن أراد سائر الفتوح التي فتحها له، أو كلام نحو هذا، ولكن يحتمل أن يكون قوله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ) يعني: إذ جاء. وجائز ذلك في اللغة، وفي القرآن كثير " إذا " مكان " إذ "، فإن كان على هذا فيستقيم حمله على فتح مكة؛ على ما قاله أُولَئِكَ. أو يكون قوله - تعالى -: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ)، أي: قد جاء نصر اللَّه. أو أن يكون أراد بما ذكر من النصر والفتح: الفتوح التي كانت له من بعد حين دخل الناس في دين اللَّه أفواجا؛ على ما ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَصْرُ اللَّهِ)، أي: عون اللَّه وخذلانه لأعدائه. أو أن يكون قوله - تعالى -: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ): هي فتوح الأمور التي فتحها اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عليه من تبليغ الرسالة إلى من أمر بتبليغها إليهم، والقيام بالأمور التي أمره أن يقوم بها، فتح تلك الأمور عليه وأتمها، فإن كان على هذا، تصير فتوح تلك الأمور له نعيا له؛ بالدلالة على ما قاله أهل التأويل: إنه نعى لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نعيه،

(2)

وجهة الاستدلال الوجوه التي ذكرنا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2). ذكر أهل التأويل أنه كان قبل ذلك يدخل واحدًا واحدًا، فلما كان فتح مكة، جعلوا يدخلون دينه أفواجا أفواجا، وقبيلة قبيلة. ويحتمل ما ذكرنا من سائر الفتوح، أي: فتوح الأمور التي ذكرنا، على ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " نصرت بالرعب مسيرة شهرين، شهرا أمامي، وشهرا ورائي ". ثم في قوله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) الآية، نعي لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من وجوه، وقد ذكر في الأخبار: أنه نعى إليه نفسه بهذه السورة. أحدها: ما ذكرنا من جهة الاستدلال عرف أنه قد دنا أجله؛ حيث أتم ما أمر به، وفرغ منه: من التبليغ والدعاء. والثاني: عرف ذلك اطلاعا من اللَّه تعالى، أطلعه عليه بعلامات جعلها له؛ ففهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما لا يدرك أفهامنا ذلك. والثالث: لما كفى مؤنة القيام بالتبليغ بنفسه بدخول الناس في الدِّين جماعة جماعة، وكان قبل ذلك يقوم بنفسه، عرف بذلك حضور أجله، وهو نوع من الدلالة. ووجه الدلالة: أن القوم لما دخلوا في دين اللَّه فوجا فوجا؛ دل ذلك على ظهور الإسلام وكثرة أهله؛ فكانت الغلبة والنصر دليل الأمن من الزوال عما هم عليه من الدِّين إذا زال الرسول. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ... (3) قال بعض أهل التأويل: أي: صل بأمر ربك، وأصله: ما ذكرنا فيما تقدم: أن التسبيح هو التنزيه، والتبرئة عن جميع معاني الخلق، والوصف بما يليق به، قال: نزهه وبرئه بالثناء عليه، وصفه بالصفات العلا، وسمه بالأسماء الحسنى التي علمك ربك. ويحتمل أن يكون معنى قوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)، أي: قل: " سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمده " على ما جاء في الأخبار أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يكثر في دعائه " سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمده، وأستغفر

اللَّه وأتوب إليه ". وهذا لأن " سُبْحَانَ اللَّهِ " حرف جامع يجمع جميع ما يستحق من الثناء عليه، والوصف له بالعلو والعظمة والجلال، والتنزيه عن جميع العيوب والآفات، وعن جميع معاني الخلق، جعل لهم هذا الحرف الجامع؛ لما عرف عجزهم عن القيام بالوصف بجميع ما يستحق من الثناء عليه. وكذلك حرف " الحمد لله "، هو حرف جامع يجمع شكر جميع ما أنعم اللَّه عليهم، جعل لهم ذلك؛ لما عرف من عجزهم، وقلة شكر ما أنعم عليهم واحدا بعد واحد. وعلى ذلك يخرج قوله: " اللهم صل على مُحَمَّد "، أمرهم أن يجعلوا الصلاة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، ولما لم يجعل في وسعهم القيام بما يستحقه أمروا أن يقولوا: " اللهم صل على مُحَمَّد "؛ ليكون هو المتولي ذلك بنفسه، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَغْفِرْهُ): قال أبو بكر الأصم: دل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَغْفِرْهُ) على أن كان منه تقصير وتفريط في أمره حتى أمره بالاستغفار عن ذلك. لكن هذا كلام [وخش]؛ لا يصف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتقصير في شيء، ولا بالتفريط في أمر قط، ولكن قد جعل اللَّه - تعالى - على كل أحد من نعمه وفضله وإحسانه في طرفة عين ولحظة بصر ما ليس في وسعه وطاقته القيام بشكر واحد منها، وإن لطف، وإن طال عمره؛ فأمره بالاستغفار؛ لما يتوهم منه التقصير في أداء شكر نعمه عن القيام بذلك. أو أن يكون لأمته لا لنفسه. فإن قال قائل: ما معنى أمره بالاستغفار، وقد ذكر أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه يجوز أن يكون أمر بالاستغفار لأمته، نحو قوله - تعالى -: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ). أو أن يكون اللَّه - تعالى - وعد له المغفرة إذا لزم الاستغفار، ودام عليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا): أي: كان لم يزل توابا، ليس أن صار توابا بأمر اكتسبه وأحدثه، على ما تقول المعتزلة: إنه صار توابا.

ثم قوله: (تَوَّابًا)، على التكثير، أي: يقبل توبة بعد توبة، أي: إذا تاب مرة، ثم ارتكب الجرم وعصاه؛ ثم تاب ثانيا، وثالثا، وإن كثر؛ فإنه يقبل توبته. والثاني: (تَوَّابًا)، أي: رجَّاعا يرجعهم ويردهم عن المعاصي، إلى أن يتوبوا، أي: هو الذي يوفقهم على التوبة. ثم قال: (تَوَّابًا)، ولم يقل: " غفارًا "، وحق مثله من الكلام أن يقال: " إنه كان غفار "؛ كما قال في آية أخرى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، ولكن المعنى فيه عندنا: أن المراد من الاستغفار ليس قوله: " أستغفر اللَّه "، ولكن أن يتوب إليه، ويطلب منه المغفرة بالتوبة؛ (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا). ويجوز أن يكون فيه إضمار؛ كأنه قال: " واستغفره، وتب إليه؛ إنه كان توابا ". ويجوز أن يستغنى بذكر الاستغفار في السؤال عن ذكره في الجواب، وأحرى أن يستغنى بذكر التوبة في الجواب عن ذكرها في السؤال، وقد يجوز مثل هذا في الكلام. ثم الدِّين اسم يقع على ما يدين به الإنسان، حقا كان أو باطلا، وعلى ذلك أضاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما كان يدين به إلى نفسه، وما دان به الكفرة إليهم، حيث قال: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وأما إضافته إلى اللَّه - تعالى - حيث قال: (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) الآية؛ لأنه الدِّين الذي أمرهم به، ودعاهم إليه؛ لذلك خرجت الإضافة والنسبة إليه، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة (تبت يدا أبي لهب)

سُورَةُ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ): أي: خسرت، وخابت، كذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ، يقال: تب يتب تبا وتبابا. ثم ما ذكر من قوله: (يَدَا أَبِي لَهَبٍ) يحتمل حقيقة اليد. ويحتمل أن يكون ذكر اليد على الصلة. فإن كان على إرادة حقيقة اليد، فهو يخرج على وجوه: أحدها: ما ذكر: أنه كان كثير الإحسان إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، والإنفاق عليه، والصنائع إليه، وكان يقول: إن كان الأمر لمُحَمَّد يومئذ؛ فيكون لي عنده يد، وإن كان لقريش فلي عندها يد؛ فأخبر - واللَّه أعلم - أنه خسر فيما طمع ورجا من اليد التي له عنده والإحسان الذي أحسن إليه؛ إذ لم يصدقه، ولم يؤمن به، وخسر - أيضا - ما ادعى من اليد له عند قريش. والثاني: يحتمل أن يكون من أبي لهب تخويف لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالبطش والأخذ باليد؛ فأمن اللَّه - تعالى - رسوله عما خوفه به حيث قال: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)، أي: خسرت يداه، ولا يقدر على البطش. والثالث: يحتمل أن يكون اليد كناية عن القوة في نفسه وماله في دفع العذاب عن نفسه، وكذلك كانوا يدعون دفع العذاب عن أنفسهم؛ بقولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ). وذكر بعض أهل التأويل: أنه لما نزل قوله - تعالى -: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، جمع عشائره الأقرب فالأقرب منهم، وقال: " إني لا أملك لكم من اللَّه نفعا في الدنيا والآخرة إلا بعد أن تقولوا شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأني رسول اللَّه " فقال أبو لهب عند ذلك: " تبا لك يا مُحَمَّد، ألهذا دعوتنا؟! " فنزل عند ذلك: (تَبَّتْ يَدَا

أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) ومجازاة له. فهذا وإن لم يكن في فعله في القصة استعمال اليدين، فيجوز أنه كان يصرف الناس عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بيده، أو حين دعى إلى الإيمان باللَّه - تعالى - مد يديه على التعجب من ذلك، وقال: " ألهذا دعوتنا؟ " فرد اللَّه - تعالى - عليه ذلك، وعيره به. وقد يجوز أن يظهر في الجواب مقدمة السؤال وإن لم يذكر ذلك في السؤال؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ)؛ فعلم بذلك أن السؤال إنما كان عن قربانهن في المحيض؛ فكذلك الأول. وإن كان ذكر اليد على الصلة، فهو يخرج على وجهين: أحدهما: ذكر اليد كناية عن العمل والفعل، إلا أنه ذكر اليد؛ لما باليد يقوم ويعمل؛ كقوله تعالى: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)، و (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، وذلك على الكناية عما كان منه من الصنيع، أي: خسرت أعماله وبطلت. والثاني: يذكر اليد على إرادة: قدام وأمام؛ كقوله - تعالى -: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، أي: أمامه وخلفه؛ فيكون معناه: ما قدم من الأعمال، واللَّه أعلم. ثم تخصيص أبي لهب بالذكر من بين سائر الكفرة يحتمل وجوها: أحدها: خصه بالاسم؛ لأنه كان من الفراعنة والأكابر، وهو المقصود به، والفراعنة قد يذكرون بأسمائهم؛ لما هم المقصودون به، وإن كان من دونهم يشاركونهم في ذلك؛ كذكر فرعون، وعاد، وثمود، وغيرهم. والثاني: كان شديد الهيبة والخوف؛ فذكره باسمه، وخصه به؛ ليعلم أن محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يهابه، ولا يخافه، واللَّه أعلم. والثالث: أنه كثير الأيادي والصنائع بحق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلو كان الخطاب بهذا يعم الكفرة، لكان يظن بما سبق منه من الأيادي أنه غير داخل تحت الخطاب؛ فخصه بالذكر؛ ليعلم أنه لا يغنيه من اللَّه شيء. ثم ذكره بالكنية يخرج على وجوه:

(2)

أحدها: يحتمل أن يكون بالكنية عرف عند الناس، وبها كان معروفا دون اسمه؛ فذكره بالذي كان معروفا به. والثاني: ما ذكر أن اسمه كان عبد العزى؛ فلم يرد أن ينسبه إلى غيره، وهو العزى؛ فذكره بالكنية لهذا. والثالث: أنه عيره بأشياء، وخوفه بمواعيد؛ فلو ذكره باسمه، فلعله يصرف ذلك الخطاب والوعيد الذي كان له إلى غيره؛ لما شرك غيره في الاسم؛ إذ كانوا يسمون أولادهم وينسبونهم إلى أصنامهم، ولم يكن أحد شركه في كنيته؛ فلا يمكنه التحويل إلى غيره. وقيل: ذكره بالكنية يخرج مخرج الوعيد له، أي: تصير النار له كالابن، وهو كالأب لها؛ وذلك لأن هذه الكنى إنما تذكر في المتعارف على وجه التفاؤل، كما يقال: أبو منصور؛ على رجاء أن يولد له ابن يسمى: منصورًا. ثم إن اللَّه - تعالى - سمى النار في بعض الآيات: أما للكافر، كقوله: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ)، وفي بعضها: مولى؛ حيث قال: (هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)؛ فجاز - أيضا - أن تكون النار إذا قربت منه، وانضمت إلى حجره أن تصير في التمثيل كالولد، ويصير هو أبا لها؛ فقال: (أَبِي لَهَبٍ)؛ على هذا الوجه من التأويل. ووجه آخر: وهو أن ذكر الكنية وإن كان يراد بها التعظيم، فعند ذكر المواعيد والعقوبات يراد بها الاستخفاف والإهانة، وهو على ما ذكرنا في البشارة: أنها وإن كانت تذكر عندما يسر ويبهج في الأغلب، فعند ذكر العقوبة نذارة، كقوله - تعالى -: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)؛ فعلى ذلك الكنية، واللَّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) هذا يخرج على وجهين: أحدهما: أي: لم يغن ماله وقوته وما كسب من عذاب اللَّه شيئا؛ على ما يقولون: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ). والثاني: أي شيء أغنى عنه ماله وما كسب؟!. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَسَبَ) يحتمل الولد، أي: ما أغنى عنه ما جمع من ماله وما كسب من الولد؛ على ما ذكر في الخبر، روى أبو الأسود عن عائشة - رضي الله

(3)

عنها - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه ". وسئل ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: أيأخذ الرجل من مال ولده؟ فتلا (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا. . .) الآية، فهو مما وهب اللَّه لنا؛ فهم وأموالهم لنا، والله أعلم. ويحتمل ما أغنى عنه ما جمع من المال، وما كسب من العمل والإنفاق الذي أنفق على الطمع الذي فعل، أي: لم يغنه شيئا. أو لم يغنه ما كسب عن صد الناس عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والدخول في دينه والاتباع له، وسوء المقال الذي قال فيه. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تبت يدا أبي لهب وقد تب ما أغنى عنه ماله وما اكتسب). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3): أي: ذات التهاب. وفيه دلالة إثبات رسالته، حيث أخبر أنه سيصلى نارا، ولا يصلي النار إلا بعد ما يختم بالكفر، ثم كان كما أخبر؛ دل أنه علم ذلك باللَّه تعالى. وفي هذه السورة دلالتان أخريان يدلان على نبوته: إحداهما: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما قرأ هذه السورة عليهم بمكة حين لم يكن له ناصر في الدِّين، وكانت المنعة والقوة للكفرة، وكانوا جميعا أولياء أبي لهب وأنصارا له عن آخرهم، ولا يحتمل أن يكون مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقرأ هذه السورة عليه، وفيها سب له وتعيير إلى يوم القيامة، مع قلة أوليائه وكثرة أعدائه؛ إذ فيه خوف هلاكه - إلا برب العالمين. ومعنى آخر: أنه - عليه السلام - كان موصوفا بحسن العشرة وإجمال الصحبة مع الأجانب؛ فما ظنك بالعشيرة والأقارب مع ما أنه كان متنزها عن الفحش في جميع أوقاته؛ فما جاز له هذا إلا بالأمر من اللَّه تعالى؛ فدل ذلك على نبوته ورسالته. وقوله - - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4): قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: كانت حمالة النميمة والحديث بين الناس، فأوعدها اللَّه -

(5)

تعالى - لذلك في الآخرة ما ذكر: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) وهي السلسلة، ومنه يقال: فلان يحطب؛ إذا أغرى. وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانت حمالة الحطب حقيقة، كانت تحمل الحطب الذي فيه الشوك، وتطرحه في طريق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين؛ فأوعدها اللَّه - تعالى - بما ذكر من حبل من مسد في الآخرة. ومنهم من قال: إنها كانت كذلك في الدنيا، كانت تحمل الحطب إلى منزلها، وكان في جيدها حبل من ليف؛ فعيرها بذلك؛ لأنها كانت تعير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالفقر والحاجة. وذكر أنها كانت تمسك في عنقها حبلا من ليف سرا من زوجها، وذلك مما لا يتحلى به النساء، وليس هو من أسباب الزينة؛ فأخبر اللَّه - تعالى - عن سفهها وجهلها؛ ليكون ذلك سبًّا وتعييرًا مجازاة لما كانت تقوله في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ولذلك قالت لأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أما رضي مُحَمَّد أن يهجو عمه حتى هجاني؟! " أو قالت: " حتى هجاني رب مُحَمَّد؟! " - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم. * * *

سورة الإخلاص

سُورَةُ الْإِخْلَاصِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ): ذكر أن أهل مكة سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن نسب اللَّه تعالى. وقيل: عن صفته. وقيل عن اللَّه تعالى: ما هو؟. فنزلت هذه السورة معلمة بجميع من يُسأل عنه وجوابه؛ ولذلك أثبت (قُلْ)؛ ليكون مخاطبة كل مسئول عن ذلك أن قل، لا على تخصيص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بهذا الأمر؛ إذ ليس في حق الائتمار بالأمر إعادة حرف الأمر في الائتمار؛ فتبين بذلك أنه ليس على تخصيص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالتعليم، بل هو أحق من سبق له الغناء عن تعليم الإجابة لهذا عند حضرة هذا السؤال، كما سبقت منه الدعوة إلى اللَّه - تعالى - بحقيقة ما يقتضي ما جرى به السؤال، وكما أثبت كذلك؛ ليقرأه أبدا، وحق المخصوص بالأمر أن يأتمر، ولا يجعل ذلك متلوا كذلك في الوقت الذي يحتمل المأمور الأمر به، والوقت الذي لا يحتمل؛ فثبت أن ذلك على ما بينا، ودل قوله: (قُلْ): أنه على أمر سبق عنه السؤال؛ فيكون في ذلك إجابة لما سبق عنه السؤال، وكذلك جميع ما في القرآن (قُلْ) ففيه أحد أمرين: إما إجابة عن أمر سبق عنه السؤال؛ فينزل بحق تعريف كل مسئول عن مثله. أو يكون اللَّه - تعالى - إذ علم أنه - عليه السلام - أو من يتبعه يسأل عما يقتضي ذلك الجواب؛ فأنزل ما به يبقى في أهل التوحيد؛ منا منه وفضلا. ثم لم يجب تحقيق الحرف الذي وقع عنه السؤال إلا لمن شهد وسمع، وقد يتوجه ذلك الحرف الذي وقع عنه إلى ما ذكروا من الأسباب وغيرها، وفيما نزل يصلح جواب ذلك كله ويليق به، وإن كنا لا نشهد على حقيقة ما كان أنه ذا، دون ذا ونجيب بذلك لو سئلنا عما ذكرنا، وعن كل حرف يصح في العقل والحكمة الجواب بمثل ما اقتضته هذه السورة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ): اختلف في تأويله: من الناس من قال: هو إضافة إلى الذي عنه كان -أو يكون- السؤال المقتضي ما جرى به البيان من الجواب، أي: الذي يسألون عنه: (اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ) إلى آخر السورة. ومنهم من قال: هو اسم اللَّه الأكبر، يروى ذلك عن بعض أولاد علي بن أبي طالب - رضي اللَّه عنهم - أنه كان يقول في دعائه: " يا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من به كانت هوية كل هو "، وذلك يخرج على وجهين: أحدهما: أنه هو لذاته هوية كل من سواه؛ لما هو يكون محتملا للتلاشي والوجود، إلا هو سبحانه لم يزل ولا يزال هو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على ما اقتضى بيان وحدانيته في هذه السورة؛ وعلى ذلك قيل: هو الأحد بذاته، المنشيء أحدية كل الآحاد، المتعالى عن كل معاني أحدية من سواه. والثاني: أن يكون إضافه إلى اسمه الذي لا يحتمله اللسان، وهو الذي لم يطلع عليه الخلائق، وهو الذي يراد في الدعاء: " باسمك الذي من سألك به أعطيته، ومن دعاك به أجبته " فيكون السؤال به بما يكنى عنه من الوجه الذي ذكرت، لا أن يسعه اللسان أو يحتمل الطوق التفوه به تعالى. والتأويل الأول هو أقرب إلى الأفهام، وأحق أن يكون على ذكر من يقتضي عنه السؤال، ثم التفسير على ما جرى. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللََّهُ): اختلف في المعنى الذي جرى هذا في حق أهل هذا اللسان أنه مما اشتق من أمر عرفوه أو لا عن أمر عرفوه؟ إذ في كل لسان لما أريد به عند الذكر لسان العرب اسم يدعى به ويسمى، وإن اختلف وزن كل من ذلك على اختلاف الألسن؛ ليعلم أن الأحرف والتقطيع في التكلم إنما هو ليفهم المقصود، لا على توهم حقيقة الاسم بتلك الحروف والتقطيع، وذلك كما يعبر عن تكوينه الخلائق بـ " كن "، لا على تحقيق كاف أو نون في التكوين؛ فعلى ذلك جميع ما يسمى اللَّه - تعالى - لا على تحقيق الحروف التي تجري بها

التسمية ممن لا يحتمل طوقه إلا بها؛ لكن على ما يقرب إلى الأفهام المراد في التفوه به. وقال قوم: (اللَّهُ) هو المعبود في لسان العرب لا على الاستحقاق، لكن على وضع ذلك كذلك؛ دليله تسميتهم كل من عبدوه وكل شيء عبدوه: إلها، وإن كان جميع ما سوى إله الحق ممن عبد لا يحتمل شيئا من تلك المعاني التي زعم من ادعى الاشتقاق عنها من الاحتجاب، أو الالتجاء إليه، ونحو ذلك؛ فثبت أنه اسم موضوع للمعبود. وعلى ذلك قوله - تعالى -: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، أي: معبوده ما يهواه، لا أن للهوى شيئا من ذلك؛ فيكون المعبود الحق هو اللَّه - تعالى - لما له في كل شيء أثر عبودة ذلك الشيء ودلالة الربوبية له عليه سبحانه فهو المعبود بذاته، بمعنى المستحق بذاته العبادة من جميع خلقه والاستسلام له والخضوع بما ذكرت من الموضوع في كل آية ذلك، ولا قوة إلا باللَّه، وهذا تحقيق ما ذهبنا إليه أنه خالق بذاته؛ رحمن رحيم بذاته، موصوف به في الأزل، وإن كان الذي وصل إليه أثر رحمته وفيه ظهور دلالة تدبيره حدث بعد أن لم يكن على ما كانت العبادة والاستحقاق كان ممن حدث وفيمن كان بعد أن لم يكن، وهو إله لِيم يزل ولا يزال. وعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، و (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)، وإن كان من الأشياء ما سيكون، لا أنها كانت كائنة، وكذلك يوم الدِّين؛ فعلى ذلك أمر " خالق "، ونحو ذلك؛ ومن هذا الوجه أنكر قوم أن يكون الإله اسم معبود في الحقيقة، أو اسما مشتقا عن لسان؛ إذ هو لم يزل إلها، ومن به العبادة أو عنه الاشتقاق حادث. والأصل عندنا: ما ذكرنا: أنه بجميع ما وصف به وصف بذاته؛ إذ لا يحتمل التغير والاستحالة، ولا نيل مدح بغير ممدح، وإنما يمدح به لذاته: لأنه استحق من كلٍّ ذلك لوقت كون ذلك، وعلى ذلك القول بـ " العالم " و " القادر ": أنه كذلك، وإن كان الذي علمه ممن سواه وكل مقدور عليه حادث بعد أن لم يكن، ولا قوة إلا باللَّه. وقال الضحاك: اللَّه اسمه الأكبر؛ لأنه يبتدأ به في كل موضع. ثم اختلف في معنى الاشتقاق: فمنهم من يقول: أصله: إله، من أَله الرجل إلى آخر، أي: التجأ إليه واستجاره؛ فآلهه، بمعنى: أجاره وآمنه؛ فسمي: إلها على وزن الفعال؛ كما يسمى: إماما؛ لما يؤتم

به، وفخم بإدخال الألف واللام، ثم لين وحذف الهمزة كما هو لغة قريش، ثم أدغم أحد اللامين في الآخر، فشدد؛ فصار اللَّه. وعلى ذلك تأويل الصمد: أن يصمد إليه من الحوائج، ويستغاث به ويلتجأ إليه. وقيل: إن اشتقاقه من وله يله ولها؛ إذا فزع إليه، فسمي به؛ لأن المفزع إليه، وهو قريب من الأول. ولكن حق ذلك في الاسم أن يكون ولاه، فأبدل الواو ألفا، كما يقال في وكاف: إكاف، وكذلك أهل الحجاز يجعلون الواو ألفا، قال الشاعر: فأقبلت ألهي ثكلى على عجل وقيل: سمي به؛ لأنه أَله كل شيء، أي: ذلله وعبَّدَه؛ فتأله له، أي: عبده، قال قائلهم: وأَله إلهك واحدا متفردا ... ساد الملوك بعزه وتمجدا وقال آخرون: سمي به؛ لاستتاره، ومنه يقال: لهت؛ فلا ترى، وقال الشاعر: لاه ربي عن الخلائق طرا ... خالق الخلق لا يرى ويرانا وقيل: سمي به؛ لتحير القلوب عن التفكر في عظمته؛ كقوله: ألاهني الشيء حتى ألهت، ومنه مفازة ملهة، يعني: العقل يحار عند النظر إلى عظمته، ومنه أَله يأله؛ فهو إله. وقال الشاعر: وبهما تيه تأله العين وسطها ... مخففة الأعلام بيد ضر ما تتملق قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والأصل عندنا: الإغضاء عن هذا؛ لما أن الحاجة إلى تعَرُّف الاشتقاق والوضع؛ لتعرف محل الأمر، وموقع الحكم، ومن جميع ما اشتقوا به الاسم يحتمل تسمية الغير بكل ذلك، وتحقيق الإضافة إلى ذلك وتسميته: إلها، أو إضافة ما به عرف الحقيقة - لا يحتمل غيره سبحانه وتعالى، ولا يجوز التسمية به؛ فثبت الغَناء في معرفته عن جميع الوجوه التي أريد الاستخراج منها؛ إذ هي طرق توصلهم إلى العلم بالمقصود والوقوف على المراد، وقد عرف دون الذي ذكروا، واللَّه أعلم.

والأصل عندنا في ذلك: أن اللَّه - سبحانه وتعالى - بلطفه يمنع الخلق عن تسمية أحد: إلها، إلا من جهة أحوال تعترض؛ فسموا به على معنى جعل الاسم الذي جرت التسمية به حقيقة له؛ فسموا؛ ظنا منهم أن بذلك التوسل والتقرب، لا أن يروا لشيء من ذلك حقيقة ذلك، بل قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، وقالوا: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)؛ ليعلم أنهم عرفوا لله - تعالى - بما دعوا لأنفسهم في ذلك معاني تردهم إلى اللَّه سبحانه وتعالى، فذكروا مجازا من أحد لسانين، واللَّه أعلم. أما لسان الرسل في ذكر اللَّه ففي أمور تقربهم إلى اللَّه تعالى، لقوله: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، وقال: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)، وصف مبايعة العبد ونصره أو نصر دينه نصرًا لله ومبايعته، بما يقرب ذلك إليه؛ فعلى ذلك تسميتهم ما عبدوها، لا أنهم رأوها آلهة في الحقيقة. أو عن ألسن الفلاسفة أن ليس لله اسم ذاتي؛ وإنما سمي هو بذكر كل ذي شرف ومنزلة عنده؛ فعلى ذلك إذ محل من يعبدون عندهم ما ذكرنا من القول عنهم؛ فسموا به، لا أن حققوا كما ذكروا حقيقة ذلك الاسم إلى من عرفوه أنه إله، ردوا أمرهم في ذلك، وذلك من لطف اللَّه - تعالى - فيما سخرهم عليه؛ كتسمية الخالق والرحمن: أنهم لا يسمون أحدا بهما، وإن كثرت أفعاله، وعظمت رحمته في الخلق؛ ليعلم أنها أسماء اللَّه - تعالى - منع الخلق عن التسمي بها باللطف من حيث لا يعرف سببه. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أي: الأمر هو اللَّه أحد؛ كما تقول: إنه زيد قائم، أي: الأمر زيد قائم، جواب من يسألك: ما الأمر والشأن في أن قمت هاهنا؟ فتقول: الأمر زيد قائم، أي: قمت لأجله، إلى هذا يذهب الزجاج؛ كأنه يذهب إلى أنه لما قال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فقيل له: ما الأمر والشأن؛ فقال: الأمر الله أحد؛ أي: ليعرفوا أنه كذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَحَدٌ) يتوجه إلى واحد، ثم " واحد " اسم ينفي المثل في الإضافة، كما يقال: هو واحد الزمان، وواحد الخلق؛ على نفي التشبيه له عما أضيف

إليه، ويكون واحدا من حيث العدد بما عن مثله يبتدأ الحساب، ولا يبتدأ من أحد؛ فيصير أحدا من ذا الوجه، وإن كان اللَّه - تعالى - بأي حرف ذكر، ففيه ذلك، وهو الواحد الذي يستحيل أن تكون وحدانيته من وجه يحتمل ثانيا، أو من وجه تعديل، هو الواحد الإله الحق المتعالي عن معنى الأعداد والأنداد، وهو على ما ذكر الحكيم في الآحاد أنها أربع: واحد هو كلٌّ لا يحتمل التضعيف؛ لإحالة كون وراء الكل. وواحد هو الأقل، وهو الذي لا يحتمل التضعيف والتجزؤ؛ لأنه أقل الأشياء، فإذا تنصف يكون ذلك النصف أقل منه. وواحد هو وسط، وهو الذي يحتمل التنصيف والتضعيف جميعا. والرابع: هو الذي قام به الآحاد هو، ولا هو أخفى من هو، هو الذي انخرس عنه اللسان، وانقطع دونه البيان، وانحسرت عنه الأوهام، وحارت فيه الأفهام، فذلك الله رب العالمين. والأصل في ذلك: أنه لا سبيل إلى العبارة عنه بغير هذا اللسان، ولا وجه للتقريب إلى الأفهام بهذا اللسان إلا بما جرى به الاعتياد، وظهرت به المعارف؛ فلما ذكرنا من الضرورة جعل التوحيد في الحقيقة بالأدلة والبراهين في ضمن التسمية في عبارة اللسان، وحقه مما أخبرت من ضرورات الأحوال في إرادة التقريب إلى الأفهام إلى عبارات اللسان المؤسس على الاعتياد في إظهار المعارف؛ فعلى ذلك القول بـ " واحد "، وبـ " أحد "، لا على أحدية غيره من جهة التوسط، أو من جهة القلة، أو من جهة الكثرة، مع ما كل من هو في معنى واحد، فهو واحد الآحاد المجتمعة، إلا الواحد الذي يقال جزء لا يتجزأ، وهو من غير في الجملة متجزئ عن توهم ذلك الجزء غير متجزئ في الوهم، أو هو الأقل منه، وهو جزء في الحقيقة، واللَّه يتعالى عن الوصف بالكل والبعض، والقليل والكثير، والواحد مما له حق الأبعاض، أو الكل، أو رتبة القليل والكثير، جل ثناؤه؛ بل هو الذي خلق جميع ما وصفت، وجعل لكل من ذلك مقابلا بما ذكر؛ ليصير كل من

(2)

ذلك زوجا؛ فتكون الوحدانية الحق له، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ الصَّمَدُ (2). فذكر أنه أحد، وذكر أنه الصمد في تحقيق ما وصف من الأحدية، وهو - واللَّه أعلم - أن أحوج جميع من سواه؛ حتى تحقق قصد جميع من سواه بالحاجات إليه بالكون في الخلقة وفي الصلاح بعد الكون، وفي الذي به الدوام بعد الوجود، والوجود بعد العدم ما احتمل الوجود دونه، ولا البقاء إلا به، أحاطت الحاجات بكلٍّ؛ ليكون له الغَناء عن الكل في الوجود والبقاء؛ ليتحقق أنه الموجود بذاته والباقي بذاته، والمتعالي عن معنى وجود غيره سبحانه، وهو على ما ذكرنا من عجز الألسن عن البيان عنه بالعبارة إلا على التقريب إلى الأفهام بالمجعول من آثار هويته في جميع الأنام. ثم قيل في (الصَّمَدُ) بوجوه يرجع جميع ذلك إلى ما بينا. أحدها: السيد الذي قد انتهى سؤدده، ومعنى ذلك في المفهوم من السؤدد في صرف الحوائج إليه، ورجاء كل المحاوج به. والثاني: في أن لا جوف له، وذلك في وصف الوحدانية والتعالي عن معنى أحدية غيره من اجتماع أجزاء ممكن فيها الفرج والثقب التي هي كالأجواف. أو على ما فسر قوم بالذي هو في ظاهر العبارة مخرج الكتاب، وهو الذي ذكر على أثره، وهو قوله - تعالى -: (لَمْ يَلِدْ)؛ لأن كل ذي الكون ذو جوف عنه يتولد الأولاد، ويكون في ذلك إحالة قول من نسب إليه الولد؛ فيقول: كيف يكون له ولد، وقد تعلمون أنه ليس بذي جوف؟ كما قال: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ)، في قوم نزهوه عن الصاحبة، وهم لم يشهدوا الولادة إلا بها، كما لم يشهدوا الولادة إلا عن ذي جوف؛ فيكون في هذا نقض قول هذا الفريق فيه بالولادة بما نزهوه عن الجوف، كما في الأول بما برءوه عن الصاحبة. وقيل: بما لذي الأجواف من الحاجات؛ فيرجع إلى التأويل الأول: أنه المصمود إليه

(3)

بالحوائج. وظن قوم: أنه إذا نفى عنه الجوف ثبت أنه مصمت، وذلك معنى اجتماع أجزاء تتداخل فتتكاثر كذي الجوف هو اجتماع أجزاء تتفق، فإذا تحقق التنزيه عن أحد الوجهين تحقق التنزيه عن الوجه الآخر؛ ففي الوجهين نفي الوحدانية، وتحقيق ازدواج الأجساد مع ما قد ينفى عن أشياء أمور لا تحقق لها المقابلة؛ كما ينفى عن الأعراض: السمع والبصر والعلم، لا على إثبات مقابلتها بما علموا أن الأعراض لا تحتمل الإعراضات؛ فعلى ذلك العلم بوحدانية اللَّه - تعالى - والتنزيه عن احتمال الأزواج يحقق القول الذي ذكرت. وقد قيل في الصمد: إنه الدائم، وذلك - أيضا - يرجع إلى ما ذكرت: أنه لا يحتمل التغير والاستحالة وإصابة أثر الحاجة، وهو المصمود إليه بالحوائج. وقد قال قائل في التأويل الأول: لقد بكر الناعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد ويقال: صمدت إلى فلان، أي: قصدت إليه، وهذا يوضح معنى الصمد: أنه يصمد إليه في الحوائج. وقيل في ذلك: إن الصمد تأويله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ). قال الشيخ أبو منصور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأصل: أنه - تعالى - عظم القول بالولاد ما عظم بجعل الشركاء؛ وذلك أن معنى الولاد: أن يكون بجوهر من له ولد؛ فيكون بذلك شريكا، وذلك ينفي التوحيد؛ فعلى ذلك القول بالولاد؛ لذلك عظم القول به، وألزم على من عرفه بالأدلة القول ببراءته عن الولاد؛ كما ثبت الاشتراك من الوجه الذي بينا، وقد شهد العالم بكليته بحق الخلقة على أنه - تعالى - منشئه عن الشركاء والأشباه جميعا؛ فيبطل القول بالذي ذكرنا، مع ما كان جميع الخلائق على الإشارة إلى كل منه يحتمل الازدواج، ومنه يكون التوالد، واللَّه تعالى متعالٍ عن ذلك. وبعد: فإن كلام العالم على الإشارة إلى آحاد متولد عن غير، أو يتولد منه غير، وهما أمران راجعان إلى ما عليه حق هذا العالم، وعليه موضوعهم؛ وقد ثبت تعاليه عن

جميع معاني غيره؛ إذ كل غير له بجميع معانيه حدث بعد أن لم يكن أتى عليه تدبير غيره، وجرى عليه تقدير سلطان غيره، واللَّه - تعالى - لو كان يتوهم شيء من ذلك فيه تسقط له الألوهية، وتحقق له الحاجة إلى غيره، ويوجب جري سلطان غيره عليه، وذلك يوجب غيرًا خارجا عن هذه المعاني؛ حتى تسلم الأدلة له على حد الموضوع، وتصفو له الشهادة على ما قامت وانقطعت بالخلقة، وبما فيه من الحكمة، ولا قوة إلا باللَّه. وعلى ذلك ختم السورة: أن ليس له أحد كفُؤًا؛ لأنه من ذلك توجب المماثلة، وفي المماثلة اشتراك، وقد ثبت فساد العالم بتوهم الاشتراك في تدبيره، وقد لزم التعالي عن المعاني التي للأرواح بها يقوم التدبير، ويجري سلطان التقدير. وجائز أن يكون مخرج السورة في تحقيق نعت من قد عرفوه بإحدى خصال ثلاث: إما بالتلقين لكل عن كل، إلى أن ينتهي ذلك إلى علام الغيوب، فسخرهم بذلك وأنشأهم على ذلك؛ حتى أيقن من جحد ذلك أنه بعد تلقين متوارث ظاهر لا يحتمل مثله الخطأ في حق توارث الأمور بما يبطل المعارف كلها بأسرها - أنشئوا وبها تعالموا، وذلك كأول علوم الخلق وكالشيء المطبوع الذي لا يستطاع جحده إلا بما لعل الطباع المخلوقة على جهة الرياضة وأنواع الحيل. وإما بالتأمل فيها في كل جزء من أجزاء العالم من الأدلة عليه والشهادة له؛ فبين بالآية للذين عرفوه بأحد الوجوه التي ذكرنا أن نعته كذا؛ ليقطع به توهم المثل له، أو العدل في أمر؛ وليعرفوا أن القول بغير خارج عن الوجوه التي ذكرنا، وأنه يرجع إلى ضرب من التلقين، ليس له حق الطباع ولا حق التلقين الذي له صفة الكافية والكلية في التلقين، ولا في حق شهادة الكل بالخلقة يدرك بالتأمل والتفكر؛ فيمتنع عن ذلك، ويرجع إلى حقيقة ما جرى به النعت دون غيره مما ألفوا فيه يرجع إلى تلقين من ذكر، وتلبيس بلا حجة؛ لذلك لا يضاهي شيئا مما ذكرت، مع ما في كل ذلك جميع ما في غير ذلك من شهادة الخلقة، والحاجة فيها إلى غيره من الإيجاد والإبقاء، وهو الأحد بما لا دليل لغيره؛ بل في ذلك إحالة الألوهية من كل الوجوه الثلاثة، وهو الصمد بمعنى المصمود إليه في

(4)

الحوائج، المالك لقضائها، وهو الذي لم يلد ولم يولد، وهو المتعالي عن احتمال ولاد فيه ومنه؛ لما ذكرت من فساد الألوهية الثابتة له بما ذكر من الوجوه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) لما في كل أحد سواه جميع الوجوه التي منها يعرف سلطان غيره عليه، وأنه ذليل لمن ذل له كل شيء على السواء، ولا قوة إلا باللَّه، ومنه الاستهداء، ولما ذكرت سميت هذه السورة: سورة الإخلاص؛ لأنها في إخلاص التوحيد لله، ونفي الأشباه والشركاء في الألوهية والربوبية، وأن كل شيء سواه مربوب ومملوك له، ولا قوة إلا باللَّه. * * *

سورة الفلق

سُورَةُ الْفَلَقِ، وهي مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ): قال الفقيه - رحمه اللَّه -: الأمر بالتعوذ به يحتمل وجوها ثلاثة: أحدها: على التعليم، لا لنازلة كانت في ذلك الوقت؛ لكن لما علم اللَّه - تعالى - من عظيم شر من ذكر بما يظن بالأغلب أن شر ما ذكر يتصل بالذي ذكر في علم الله تعالى؛ فأمرهم بالتعوذ به، كما أخبر في أمر الشيطان: أنه عدو لهم، وأنه يراهم من حيث لا يرونه؛ ليكونوا أبدا معدين متيقظين فزعين إلى اللَّه - تعالى - معتصمين، وهذا أحق في التعليم من الذي ذكر في سورة الناس؛ لأنه أضر من ذلك العدو؛ لأن ضرره إنما يتصل به بإتيانه ما دعاه إليه الشيطان، وما يوسوس في صدره الوسواس، وذلك فعله يمكنه الامتناع عنه، وهذا الضرر يقع بفعل غيره من وجه لا يعلم مأتاه -أعني: شر النفاثات ونحو ذلك- فهو أحق في تعليم العباد فيه، والأمر بالفزع إلى من بلطفه جعل ذلك الفعل ممن ذكرنا معمولا فيه مؤثرا. والثاني: ما قيل: نزل جبريل - عليه السلام - على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إن عفريتا من الجن يكيدك؛ فتعوذ بأعوذ برب الفلق، وبرب الناس من شره إذا أويت إلى الفراش ". والثالث: قيل: إن واحدًا من اليهود سحر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فنزل هذا. قال أبو بكر الأصم: ذكروا في هذه السورة حديثا فيه ما لا يجوز؛ فتركته. قال الفقيه - رحمه اللَّه -: ولكن عندنا فيما قيل: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سحر - وجهان في إثبات رسالته ونبوته. أحدهما: بما أعلمه بالوحي أنه سحر، وذلك فعل فعلوه سرا منه، ولا وقوف لأحد على الغيب إلا بالوحي. والثاني: بما أبطل عمل السحر بتلاوة القرآن؛ فيصير لتلاوته في إبطال عمل السحر ما

لعصا موسى - عليه السلام - وأن هذا في كونه آية أعظم مما فعل موسى عليه السلام؛ لأن ذلك يتنوع بتنوع ما له الفعل والعمل من حيث الجوهر والطبع من حيث مرأى العين؛ فإنه ثعبان يلقف ما صنعوا. فأما إبطال السحر وعمله بتلاوة القرآن لا يكون إلا باللطف من اللَّه تعالى، واللَّه أعلم. ثم الأصل في هذا عندنا: أنه قد ثبت الأمر بالتعوذ بقوله: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، وقد بينا حق الاشتراك فيما يتضمن هذا الأمر إن كان على نازلة في واحد، أو على ابتداء التعليم، فهو أمر فيه رجاء للفرج والمخرج من الأمور الضارة بما يعتصم فيها باللَّه - تعالى - بما عنده من اللطائف؛ فجائز تمكينه من أمور ضارة باللطف من حيث لا يعلم البشر مأتاه، ولعل الذي يعمل به لا يعلم حقيقة ذلك العمل الذي جعل اللَّه لذلك العمل إلا بما سبق من وقوع ذلك، وقد يجوز الأمر والنهي بأشياء بعينها من الأفعال؛ لمكان ما يتولد عنها من المنافع والمضار باللطف من حيث لا فعل في حقيقة ذلك للخلق؛ وإنما ذلك لطف من اللَّه - تعالى - نحو ما نهى عن أكل أشياء، وأمر بها، مما بها الاعتداء والقتل، من غير أن نعلم حقيقة وصول ذلك إلى ما يعدو أو يقتل وأي حكمة في ذلك ومعنى له؟. وكذلك الموضوع من المناكح لطلب الولد وسقي الأشجار والزروع بما يحدث الله فيها، وإن كان وجه العمل بالمأمور به، والمنهي عنه، وحقيقته بغير الذي له ذلك. وعلى ذلك الأمر بالاستماع، والنظر لما يلقى إليه ويراه، وإن لم يكن حقيقة الإدراك فعله. وعلى ذلك التقدير جائز أن يكون اللَّه - تعالى - يجعل النفث بالعزائم، أو بأنواع السحر، أو بأنواع الرقى - أعمالا في المقصود بها من النفع والضر، لا يعلم حقيقة الوقوع والمعنى الموضوع فيه له من فيه ذلك الفعل، وهو به مأمور، وعنه منهي؛ بما له من حقيقة الفعل، وإن لم يكن النافع به في حقيقة فعله. ثم قوله - عز وجل -: (الْفَلَقِ) اختلفوا فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: الصبح.

(2)

وقيل: كل شيء ينفلق من جميع ما خلق، نحو الأرحام؛ ليتعرف ما فيها، والحب، والنوى، والهوام، وكل شيء. فمن ذهب إلى تخصيص الصبح؛ فهو لأنه آخر الليل، وأول النهار، وقد جرى تدبير اللَّه - تعالى - في إنشاء هذين الوقتين على جميع العالم، بحيث لا يملك أحد الامتناع عن حكمهما فيما جعل لهما، وهما النهاية في العلم بعلم اللَّه - تعالى - الغيب؛ إذ جرى من تدبيره في أمر الأوقات في الليل والنهار على حد واحد كل عام، بما فيهما من الرحمة للخلق وأنواع المحنة، ومَنَّ عليهما بما يأتيان الخلق ويذهبان؛ فكأنما ذكر جميع الخلق على ما ذكر في تأويل قوله - تعالى -: (بِرَبِّ النَّاسِ)؛ فيكون فيه لو قصد بالذكر ما في كل ذلك، ولا قوة إلا باللَّه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) له وجهان: أحدهما: من شر خلقه؛ لما أضاف إلى فعله؛ كما يقال: " من شر فعل فلان "، أي: من شر ما يفعله. ويحتمل من شر يكون من خلقه، لكن الإضافة إليه بما هو خالق كل شيء من فعل خلقه، ومن خلق ما له الفعل ولا فعل. والأول كأنه أقرب؛ لما ذكر في بقية السورة من الواقع بخلقه المكتسب من جهتهم، وأضيف إليه؛ لما بينا، ولأن كل شر اكتسبه الخلق فذلك منسوب إلى اللَّه - تعالى - خلقا، وهو فعل المكتسب وكسبه، فمتى كان المراد من قوله - تعالى -: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) هذا النوع؛ فكأن ذكر ما بعده يكون تكريرا. وإذا حمل الأول على محض التخليق فيما لا صنع للخلق فيه من الشرور، كان ذكر ما لهم صنع فيه -وإن كان بخلق اللَّه تعالى، لا يكون تكريرا- فيكون هذا التأويل أحق، مع ما قد بينا أنه يمنع في فعل غيره بلطف، أو إعجاز، وفي الإعجاز لا يحتمل التعوذ من شر من لا يقدر على فعل يتصل به الشر، وفي ذلك إثبات التمكين لما يقع به الشر؛ فيجوز التعوذ من الذي منه أذية تكون من غيره، على ما بينا من جواز الأمر والنهي عن

(3)

أفعال لمكان ما يقع بها، وإن لم يكن الواقع في الحقيقة لهم؛ فعلى ذلك التعوذ من شر خلقه، وهو التمكين واللَّه الموفق والمعين. وفي هذا تعلق بعض من يقول بأن القوة تسبق الفعل: أنه لو لم يكن له قوة على الشر كيف كان يتعوذ من شر من لا يقوى عليه؟. والجواب من وجهين: أحدهما: أن التعوذ يكون بما سيفعل بما يملك هو ما يقع لديه الفعل، وهو الآلات السليمة والقدر تحدث تباعًا على حدوث الأفعال، وتحدث لما يختار هو؛ فصارت القدرة في كونها لما يختار؛ ككون ما يختار من الفعل بالاختيار بحدوث القدرة حالة الفعل؛ فيتعوذ منه؛ لعلمه أن الذي به كأنه في يده. والثاني: أن قد جرت العادة بالعلم بما يقع في المتعارف: كالعلم بما هو واقع في الرغبة والرهبة؛ ألا ترى أنه يتعوذ من ظلم الجبابرة والظلمة، على ما بينهم من بعد الأمكنة وطول المدد؛ لإمكان الوصول بما اعتيد منهم بلوغ أمثال ذلك، وإن كانت القدرة على الظلم في حقه للحال معدومة، لا تبقى في مثل هذه المدة؛ فعلى ذلك الأمر الأول: وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) اختلف فيه: قيل: الغاسق: هو الليل المظلم: والغسق الظلمة. وقيل: سمي الليل: غاسقا؛ لأن الغاسق: البارد، قال اللَّه تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا)، والليل أبرد من النهار؛ لذلك سمي: غاسقا. والأصل في هذا: أن الذي ذكر لا يكون منه ضرر يتعوذ منه، لكنه يرجع إلى من كان في ظلمة الليل، أو في نور القمر من الذي يأتي منه المضار، ومعلوم أن من الشرور ما لا يمكن منها إلا في ظلمة الليل، ومنها في الليالي لا يمكن إلا بنور القمر؛ فأمر بالتعوذ مما يكون فيها، لا أن يكون منها، وهو كقوله - تعالى -: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)، لما يقع به الإبصار؛ لا أنه يقع منه ذلك. وهذا - واللَّه أعلم - ليس على تخصيص الليل بذلك؛ لأنه ليس له فعل الضر، لكن قد يعرض به الإمكان من الشر؛ لما المعلوم أن من الشرور ما لا يمكن منها إلا في ظلمة

(4)

الليل، ومنها في الليل لا يمكن إلا بنور القمر؛ فأمر بالتعوذ منه عما يتحقق فيه؛ فعلى ذلك يجوز التعوذ من شر النهار، على تأويل ما يقع به من التمكين من الشر، ويوجد فيه، واللَّه أعلم. وقوله: (إِذَا وَقَبَ) واختلفوا في معنى (وَقَبَ): قيل: إذا جاء ودخل. وقيل: ذهب. وقيل: معناه: القمر إذا خسف، أمر بالاستعاذة من ذلك؛ إذ هو علم من أعلام الساعة؛ لهذا قال: (إِذَا وَقَبَ)؛ إذ القمر لا يخسف إلا في الليل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4): فهذا تعوذ من شرهم بحسب سببه، لكنه في الحقيقة فعل لهم، وفي الأول يقع سببه بلا صنع لهم، فكأنه في الجملة أمر بالتعوذ من كل سبب خيف تولد الشر منه، فعلا كان ذلك له أو لم يكن؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)، وقد يكون للشيطان فعل في الحقيقة، ولا يكون للحياة الدنيا فعل؛ فوقع النهي عن الاغترار بهما؛ فعلى ذلك التعوذ من شر الأمرين وإن لم يكن لأحدهما فعل بما يقع فيه. وجائز أن يكون من هذا الوجه في الملائكة محنة في الدفع والحفظ؛ لقوله - عز وجل -: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، قيل فيه: أي: بأمر اللَّه يقع حفظه؛ فجائز أن يكون في هذه الأمور الخفية، وأنواع المضار من حيث لا يعلم إلا بعد جهد يقع الحفظ باللَّه - تعالى - على استعمال الملائكة. وعلى ذلك يجوز أن يكون أمر سلامة المطاعم والمشارب والمنافع التي للبشر عن إفساد الجن، يحفظ ما ذكر؛ ليكون فيها محنة للملائكة، على ما كان مكان وسواس الشيطان إيقاظ الملائكة ومعونتهم. ويحتمل أن يكون اللَّه - تعالى - لم يمكنهم إفساد ما ذكرنا وإن مكنهم الوسواس؛ إذ باللطف يمنع من حيث لايعلم.

(5)

وقيل - أيضا -: من أمر اللَّه: عذابه وأنواع البلايا إلى وقت إرادة اللَّه - تعالى - الوقوع. وقوله - عَزَّ وجل -: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) يخرج على وجهين: أحدهما: إذا كان الحاسد دون المحسود، لا يقوى على الشر ليفعل به، والشر المتوهم منه يكون من شر عينه، وعمل الحسد إرادة زوال نعم المحسود وذهاب دولته. وإنه جائز أن يكون اللَّه - عَزَّ وجل - بلطفه يجعل في بعض الأعيان عملا يتأدى بالنظر إلى ما يستحسنه من النعم إلى الزوال، ويؤثرون ذهاب الدولة عنه؛ فأمر بالتعوذ لهذا، وقد بينا لك المتولدات من الأفعال بما جعل اللَّه - تعالى - فيها من المضار والمنافع ما لا يبلغها علوم الخلق، بل لو أراد الخلق أن يعرفوا ما في البصر من الحكمة التي تدرك بفتح البصر ما بين السماء والأرض من غير كثير مهلة، لم يقدروا عليه. وروى عمران بن حصين أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " العين حق، فإن كان شيء يسبق القدر لسبقه العين ". وفي خبر آخر: " لا شر في الهام، والعين حق ". ويدل عليه في قصة إخوة يوسف - عليه السلام -: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ). وقد فسر قوم وجه عمل العين وكيفيته، لكنه أمر كعمل الشمس في العين نفسها فيما تبصر الشمس وتنظر إليها، فإنها تضره وتغلبه عن النظر على بعدها من العين بما جعل اللَّه - تعالى - وذلك من اللطف والحكمة، وكذلك عمل العين في المعيون. والثاني: أن يكون بما حسد أن يبعث حسده على الحيل وأنواع ما به العين من السعي في الأمور التي بها الفساد على ضعفه في نفسه؛ قال اللَّه - تعالى - في صفة المنافقين: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)، فمع ما بين من فشلهم وضعفهم، أمرهم بالحذر عنهم، وقال: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)، ثم أمر بالتعوذ من شره؛ فكذلك الحاسد، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

سورة الناس

سُورَةُ النَّاسِ، مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس ِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6). قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ): ظاهره أمر لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بشيء مشار إليه، وهو التعوذ، وحق الإجابة في مثله أن يقول: أعوذ، لا أن يقول: (قُلْ أَعُوذُ) لكنه - واللَّه أعلم - يخرج على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك أنزل بحق أن يصير ذلك أمرا لكل من بلغه، وتعليما بالذي عليه من الاعتصام باللَّه - تعالى - والالتجاء إليه من شر الذي ذكره؛ ليعيذه، وتكون الإعاذة بوجهين: أحدهما: في تذكير ما عرفه من الحجج في دفع ما يخطر بباله من المكروه. والثاني: باللطف الذي لا يبلغه علم الخلق، ولا تدركه عقولهم مما لديه نفع الأمن من الزيغ مما حقه الإفضال، والذي ذلك حقه، فلله - تعالى - أن يكرم به العبد مبتدئا، وله أن يقدم فيه محنة السؤال والاعتصام به؛ على الإكرام أيضا، ويلزم على من عصم به عن الزلة، أو هدي إلى حسنة: الشكر لله - تعالى - فيما ابتدأه أو أكرمه به عند السؤال. والوجه الثاني من وجهي الخطاب: أن يكون الخطاب لغيره، وإن كان راجعا إلى مشار إليه، فهو مما يشترك في معناه غيره؛ فأبقى وأثبت ما به يصير مخاطبا من بلغ ذلك، وهو قوله - تعالى -: (قُلْ) حتى يدوم هذا إلى آخر الدهر، وعلى هذا جميع ما فيه حرف الكلفة والمحنة -أعني: صيغة الأمر- واللَّه الموفق. ثم في قوله - تعالى -: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. . .) إلى آخر السورة وجهان من الحكمة، فيهما نقض قول أهل الاعتزال: أحدهما: أن المحنة قد ثبتت بالامتناع عن طاعة الشيطان والمخالفة له: فإما أن كان

(2)

اللَّه - تعالى - أعطاه جميع ما يقع به الامتناع حتى لا يبقى عنده مزيد، أو لا يعطيه جميع ذلك، بل بقي عنده شيء منه. فإن كان قد أعطاه، فهو بطلب ذلك بالتعوذ والاعتصام باللَّه - تعالى - كاتم لما أعطاه، طالب ما ليس عند اللَّه - تعالى - فيكون الأمر بالتعوذ محنة وأمرا بما به كتمان ذلك، وذلك حين استوفاه يكون إنكاره ستر نعم اللَّه - تعالى - وقد تبرأ عن الأمر بالفحشاء والمنكر، وبين أن ذلك عمل الشيطان. ثم في المحنة بهذا محنة بالاستهزاء باللَّه تعالى؛ لأنه يطلب منه ما يعلم أنه لا يملكه، ولا يجده عند نفسه، وذلك من علَم الهزء عند ذوي العقول، فمن ظن أن اللَّه - تعالى - يمتحن عباده ويأمرهم بشيء مما ذكرنا، فهو جاهل باللَّه - تعالى - وبحكمته وإن لم يكن اللَّه تعالى يمتحن عباده، ويأمرهم بشيء مما ذكرنا؛ فهو جاهل بما أعطاه وعنده بعد ذلك. ثم كان من مذهبهم أنه ليس لله - تعالى - أن يمتحنهم بفعل إلا بعد إيتاء جميع ما عنده مما به قوامه ووجوده؛ ففي ذلك اعتراف بلزوم المحنة وتوجه التكليف قبل إيتاء جميع ما عنده مما به الوصول إلى ما أمر به، وذلك ترك مذهبهم مع ما كان عندهم أنه لو كان عند اللَّه - تعالى - أمر ومعنى، لا يقع فعل المختار؛ لأجل أنه لا يعطيه ذلك - لم يكن له أن يمتحنه، وهو بالامتحان جائر. وإما أن سألوه بفعل قد أمر به، وإن لم يكن أعطاه ذلك، وهم ما وصفوا اللَّه - تعالى - بمثل ذلك أو بفعل يتلو وقت الأمر ذلك؛ فيكون إعطاء ذلك وقت الأمر؛ فكأنه ظن أن يأمر ولا يعطي حتى يُسأل، وذلك حرف الجور. ثم الأصل الذي اطمأن به قلوب الذين يعرفون اللَّه - تعالى - أنه متى هدى الهداية التي يسأل أو عصم العصمة التي يطلب، أو وفق لما يرجو من الفعل، أو أعانه عندما يخاف أنه كان ذلك لا محالة، وتحقق بلا شبهة، ويأمن لديه من الزيغ والضلال، وعلى ذلك جبلوا مما لا نجد غير معتزلي إلا وقد اطمأن قلبه به، حتى يعلم أن هذا منه وقع المجبول عليه بالتقليد، ولا قوة إلا باللَّه تعالى. وقوله - عز. وجل -: (بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) ولم يقل:

" أعوذ برب الخلق "، وهذا أعم من الأول، وإضافة كلية الأشياء إليه، أو إضافته إلى الكل بالربوبية من باب التعظيم لله - تعالى - فما كان أعم فهو أقرب في التعظيم، فهذا - واللَّه أعلم - يخرج على أوجه: أحدها: أراد التعريف، وبهذا يقع الكفاية في معرفة من يفزع إليه ممن يملك ذلك، ليعوذ منه، لكنه ذكر (بِرَبِّ الْفَلَقِ)، في موضع، و (باللَّهِ) في موضع، وقوله في موضع، كقوله - تعالى -: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ)، وقال: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)؛ ليعلم به من سعة الأمر وتحقيق الفزع، والرجوع إلى اللَّه - تعالى - عند نزول ما ينزل بالمرء مما يخاف على نفسه، ويشغل قلبه - أن له ذكر ما يحضره من أسماء اللَّه - تعالى - أي اسم كان؛ إذ ما من اسم إلا وفيه دلالة على نعمه وسلطانه وقدرته وعظمته؛ ليكون في ذلك توجيه الملك إليه وإخلاص الحمد له بإضافة النعم؛ فيكون ذلك من بعض ما به التشفع إلى اللَّه - تعالى - من ذكر قدرته وإحسانه، وأرفع ذلك في ذكر الناس بالإضافة إليه. والثاني: أن الذين عرف فيهم الأرباب والملوك والعبادات لمن دون اللَّه - تعالى - هم الإنس دون غيرهم؛ فأمر أهل الكرامة بمعرفة اللَّه - تعالى - والعصمة عن عبادة غيره، والاعتراف بالملك والربوبية له -: أن يفزعوا إليه عما ذكر، ذاكرين لذلك، واصفين بأنه الرب لهم، والملك عليهم، والمستحق للعبادة لا غير. أو لما كان للوجوه التي ذكرنا ضل القوم من اتخاذهم أربابا دون اللَّه تعالى. أو نزولهم على رأي ملوكهم في الحل والحرمة، وفي البسط والقبض. أو عبادتهم غير اللَّه - تعالى - وفزعهم إليه؛ فأمر اللَّه - تعالى - أهل الكرامة بما ذكرت الفزع إلى الذي يذكر بهذه الأوصاف على الحقيقة على نحو فزع الضالين إلى أربابهم وملوكهم والذين عبدوهم دونه؛ إذ إليه مفزع الكفرة - أيضا - عند الإياس عمن اتخذوهم دون اللَّه؛ لنصرتهم ومعونتهم، واللَّه أعلم. والثالث: أن المقصود من خلق هذا العالم هم الذين نزلت فيهم هذه السورة، وغيرهم

(4)

كالمجعول المسخر لهم، قال اللَّه - تعالى -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، وقال: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُم. . .) الآية، وقال اللَّه - تعالى -: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا. . .) الآية، فإذا قيل: (بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ)، فكأنه قيل: " برب كل شيء "، لأن ما سواهم جعل لهم، وذكر الخلق والتوجيه إليه في الاستعاذة والاستعانة هو اعتراف بألا يملك غيره ذلك؛ فاستوى الأمران، واللَّه أعلم. وقيل في (بِرَبِّ النَّاسِ): مصلح الناس، وذلك يرجع إلى أن به صلاحهم في الدِّين وفي النفس. وقيل: ملك الناس؛ على الإخبار بأن الملك له فيهم جميعا، وفي الخلق مما لم يذكر فيه جهة الملك؛ فبين أن ذلك كله في التحقيق لله - تعالى - وملكه، ولغيره يكون من جهته على ما أعطي لهم بقدر ما احتاجوا إليه. وقيل: سيدهم، لكن لفظة " السيد " لا تذكر لمالك غير الناس، ويوصف بالرب والملك والمالك على الإضافة لا مطلقا، يقال: رب الدار، ومالك الجارية، وملك المصر، ونحو ذلك، فكأنه أقرب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4): سمى الذي يوسوس بأنه وسواس وخناس، وقيل في تأويله من وجهين: أحدهما: أنه يوسوس لدى الغفلة، ويخنس عند ذكر اللَّه تعالى، أي: يخرج ويذهب. وقيل: يخنس: لا يرى، ولا يظهر، كقوله - تعالى -: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)؛ ولهذا قيل في الجواري الكنس: إنهن يطلعن من مطالعهن، ويخنسن بالنهار، أي: يختفين. وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس ِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) صير الموسوس في صدور الناس من الجنة والناس. وقيل - أيضا -: على التقديم والتأخير، معناه: قل أعوذ برب الناس من الجنة والناس

الذي يوسوس في صدور الناس. أما الوسوسة فهي أمر معروف، وذلك بما يلقى من الكلمات التي تشغل القلب وتحير في أمر الدِّين، بما لا يعرف الذي يلقى إليه المخرج من ذلك، وعلى ذلك أمر أهل الأهواء، وأصناف الكفرة؛ كقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ)، وأما شياطين الجن، فهو أمر ظاهر عند جميع أهل الأديان ومن آمن بالرسل عليهم السلام، لكن الدهرية ومنكري الرسل يقولون: ليس في الجن شياطين؛ وإنما هو أمر يُخَوَّف به مدعو الرسالة؛ ليلزموا الخلق الاستماع إليهم في تعرف الجهل وما عندهم في دعواهم من العلوم والمعارف، وهذا لسفههم قالوا، ولو أنهم تأملوا في ذلك، لعرفوا أنهم على غير بحث عما ألزمهم ضرورة العقل الطلب، ودعتهم إلى البحث عنه ما مستهم من الحاجة، وهي الخواطر التي تقع في القلوب، والخيالات التي تعرض في الصدور، منها ما إذا صورت وجدت قباحا، ومنها ما إذا صورت وجدت حسانا، ولا يجوز وقوع أمر أو كون شيء بعد أن لم يكن من قبل نفسه؛ للإحالة في أن يصير لا شيء بنفسه شيئا قبيحا أو حسنا بلا مدبر، وقد علم جميع الإنسان بالذي ذكرت من الابتلاء به مما يعلم أنه لم يكن من نفسه معنى يحدث له ذلك؛ فثبت أن قد كانت الضرورة تلزم البحث عن ذلك. ثم لا يعلم من حيث طلب الأبدان الموجبة لها ولا في العقول - أيضا - دركها؛ فيجب بها أمران منعهم عن العلم بهما القنوع بالجهل وحب الراحة: أحدهما: القول بالصانع، ودخول العالم تحت تدبير حكيم عليم قدير. والآخر: القول بالرسالة تأتيهم من عند علام الغيوب، وإذا كان ذلك بحيث لا يبلغه علم البشر فيعرف حقيقة ذلك؛ فَيُعْلم عند النظر والبحث أمران عظيمان: أحدهما: الرسل بما معهم من المعجزات، فيقولون بهم، وبالتوحيد بما رأوا من الآيات الصدق؛ إذ قد علموا أن في الأخبار صدقا، لولا ذلك لكانوا لا يدعون شيئا؛ إذ هو خبر له. والثاني: يلزمهم بما يعاينوا من مرجح الأمر من غير الحكماء أنها تقع متفاوتة مضطربة، والعالم بما خرج متسقًا على الحكمة والمصلحة؛ فعلموا أنه كان بمدبر حكيم

يعلم ما به المصالح؛ فيلزمهم به أمران أيضًا: التوحيد والرسالة، ولا قوة إلا باللَّه. والأصل عندنا بتمكين الشيطان ما ذكرنا من الوسوسة أن الشيطان والملك خَلْقَان لله تعالى عرفناهما بالرسل - عليهم السلام - وبما بيَّنَّا من ضرورة الحاجة إلى العلم ممن بإلقائه يصير عند التصوير قبيحًا أو حسنًا، فيأتيان جميعًا بما مكنهما اللَّه تعالى من الأمرين جميعًا: أمر الملائكة الخير والحكمة فيسهل عليه سبيله بتيسير اللَّه تعالى وفضله، وأمر الشيطان الضلال والشر فييسر عليه، حتى صار الخير للأول كالطبع، والشر للثاني كذلك، فإذن كان كل واحد ممكنًا من الأمرين، قال اللَّه تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ. . .) إلى قوله - عز جل -: (لِلْعُسْرَى)، وقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ. . .) إلى قوله تعالى: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ). ثم الأصل في الإنس أنهم امتحنوا بحقوق بينهم وبين اللَّه تعالى وبحقوق فيما بينهم، وكلفوا تثبيت الملائكة إياهم بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا)، وأمروا برد ما يوسوس إليهم الشيطان بقوله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، وغير ذلك. وعلى ذلك خلقت الملائكة ممتحنين بالكتابة على البشر بقوله: (كِرَامًا كَاتِبِينَ) فتكون الحكمة في تكليف التمكين ما وصف من محنة اللَّه تعالى إياهم طاعتهم في أنفسهم وفيما مكنوا من غيرهم، على ما ذكرت من أمر الإنس، وحكمة ذلك للإنس إلزام التيقظ والنظر فيما يقع في قلبه من الخواطر؛ ليعلم الذي له والذي عليه. وكذلك في تكليف الملائكة كتابة قوله وفعله؛ ليكون متيقظًا ومتنبهًا في كل أفعاله وأحواله كتيقظه فيما كان الأولياء والأعداء من الكاتبين الظاهرين عليه أنه يحذر كل الحذر عما يؤذي وليه، ويقبل على كل أمر فيه نفع بما أمَّل، ويحذر عدوه أشد الحذر؛ لئلا يؤذيه من حيث لا يعلم، فيتهمه كل تهمة. ثم معلوم ألا يمل الكتبة إلا بعد إحكامه وإصلاحه غاية ما يحتمل الوسع، فعلى ذلك فيما خفي؛ إذ هم في العقول في درك ما منهم وما عليهم كالذين ذكر لهم ممن ظهروا لأبصارهم، واللَّه الموفق.

وكذلك صلحت المحنة والأمر في صحبة الأولياء والأعداء بحق الولاية والعداوة فيما لا يرون صلاحها وفيما يرون؛ إذ من الوجه الذي فيه الولاية والعداوة مرئية لأبصار القلوب والعقول؛ فيمكن الحذر والمعاملة جميعًا، وعلى هذا التقدير لم يمكن اللَّه أعداءه الذين لا يرون من معاداتهم بأفعال من أبدانهم وأموالهم بالسلب والتنجيس والإفساد، وقد مكن أعداءهم من الإنس ذلك؛ ليمكنهم الدفع عن ذلك والحذر عنه بما وقع الوقوف لبعض على حيل بعض والصرف عن ذلك، وما هذا إلا كدرك الحواس بأفعالها وأسبابها بالحس، وكذلك أمر الملائكة، لكن من لا يحتمل عقله معرفة الصانع والتوحيد مع شهادة العقل وكل شيء فجهله بالشيطان غير مستبعد ولا مستنكر، واللَّه أعلم. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثم اختلف في وجه تمكن الشيطان من الإنس فيما يوسوس إليه: قد روي في بعض الأخبار أنه يجري فيه مجرى الدم، فأنكر ذلك قوم، وليس ذلك مما ينكر بعد العلم باحتمال جري الدم فيه وجري قوة الطعام والشراب وما به حياة الأبدان والحواس مما لطف مجراه في جميع العروق والأعصاب وكل شيء؛ بلطافة ذلك؛ فعلى ذلك الشيطان. وعلى ما روي في أمر الملك مما يكتب ما لا يعلم موضع قعوده ولا يسمع صريف قلمه ولا ما يكتبه علينا من ذلك، فعلى ذلك أمر الذي ذكرت. ثم قد ثبت القول بأمر اللَّه تعالى نبيه أن يتعوذ به عن همزه ونزغه وحضوره بقوله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. . .) الآية، وقوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. . .)، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا)، وقال: (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. . .) الآية، فثبت أن أمره على ما بيناه. ثم القول في أي موضع لوقت ما له من الوحي والمس والنزغ أمر لا يحتاج إليه بحق؛ لأن اللَّه تعالى وعَزَّ وَجَلَّ أخبرنا أنا لا نراه بقوله: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)، ولكن الذي رجعت المحنة إلى أفعاله التي يقع لها آثار في

الصدور، وقد مُكِنَّا بحمد اللَّه تعالى ومَنِّهِ لندرك منه، وإنما علينا التيقظ لما يقع في الصدور من أفعاله ووساوسه لندفع بما مكننا اللَّه تعالى وعَزَّ وَجَلَّ من الأسباب، وعرفنا من الحجج نقض الباطل والتمسك بالحق، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا)، وتوجهوا إلى اللَّه تعالى بالتعوذ في طلب اللطف الذي جعله اللَّه تعالى للدفاع، كقول يوسف - عليه الصلاة والسلام -: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ. . .) الآية، على العلم فيه بطوائف الأشياء من المجعول لدفع كيدهن، وكذلك قول الراسخين في العلم: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً. . .) الآية. لكن من الناس من يقول: هو يعلم النفس فيما تهوى فيزين لها ذلك، والعقل فيما يدعو من ذلك فيمنعه عن ذلك. ومنهم من يقول: لا، لكن في ذلك آثار من الظلمة والنور والطيِّب والخبيث، فيعرف بالآثار وفيها موقع وسواسه حتى يصل إلى الفعل، وقد يكون عمل الهوى والعقل جميعًا في الجسد وخارجًا منه، وبخاصة آثار الأعمال. ومنهم من يقول: ليس له بشيء من ذلك علم، لكن بكل ما يرجو العمل من التغرير أو في التمويه والتلبيس كالأعمى فيما يمس ويطلب المضار من المنافع ونحو ذلك، لكن ذلك كله طريق عمل الشيطان وطريق إمكانه وحِيَله، وذلك أمر لم نؤمر بمعرفته، وإنما علينا مجاهدته في منع ذلك بالتيقظ أو بدفعه بما نتذكر، هكذا ذكرت في الآيات، أو بالفزع إلى اللَّه سبحانه وتعالى في دفعه ومنعه إن حضر بما عنده من اللطائف التي لديها يقع الأمن عن الزيغ والظفر بالرشد. وتأول كثير منهم أنه يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الناس، وذلك ممكن؛ لما قد يكون من كل جنس ضُلَّالٌ وغُواة وأخيار وأبرار، فأما حق تأويل السورة على ما وصفنا في ذكر وسواس الجن والإنس. ثم القول في المعوِّذتين أنهما من القرآن أو ليستا من القرآن، قال الفقيه - رحمه اللَّه -: لنا من أمرهما أنهما انتهتا بما انتهت إلى أهل هذا العصر معرفة القرآن في الجمع بين

اللوحين بتوارث الأمة، ولسنا نحن ممن يعرف بالمحنة والسير بما به نعلم أنهما معجزتان أو لا، وإنما حق ذلك الأخذ عن أهل ذلك والشهادة له بعد الثبات أنه من القرآن وأنه معجز، حقُّ أمثالنا فيه الاتباع، وقد اتضح بما به جرى التعارف في جميع الشرائع التي بها يشهد أنها عن اللَّه تعالى وأنها حق، فعلى ذلك هذا. لكن ذكر عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لم يكتبها في مصحفه، وذلك عندنا يخرج على وجهين: أحدهما: أنه لم يكن سمع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال فيهما شيئًا أنهما من القرآن أم لا، ولم يكن أيضًا رأى على نفسه السؤال عن ذلك حقًّا واجبًا؛ لأن القرآن وما جاء به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما يلزم علم الشهادة والعمل به واحدٌ؛ إذ المقصود من كل ذلك القيام بالمقصود من حق الكلفة لا التسمية، ولم يكن النجباء يمتحنون أنفسهم بالسير في الوجوه التي بها يعرفون المعجز من غير ذلك أنه قرآن أو غيره، وإنما ذلك من عمل المرتابين الشاكين في خبر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليعرفوا أنه مبعوث مرسل، فأما من تقرر عنده واطمأن به قلبه وزال عنه الحرج فيما آتاهم فقد كُفُوا ذلك، وكذلك يجوز ترك البحث عن ذلك لما ذكرت، لا أن عنده أنهما ليستا من القرآن، وفي خبر عقبة الجهني أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه: " نزل اليوم آيات لم ير مثلهن قط " قيل: ما هن يا رسول اللَّه؟ فقال: " المعوِّذتان "، دل أنهما من القرآن. وأيد أيضا ما ذكرت في ترك الكتابة ما روي عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لنا: " فقولوا "، فنحن نقول بقولٍ لم يشهد في تلك بأنهما منه ولا ليستا منه بما لم يكن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأخبره بهما، فعلى ذلك أمر عبد اللَّه بن مسعود، رضي الله عنه. ويؤيد ذلك أيضا أمر استعاذة القرآن أنها مقدمة على القراءة، وحق هاتين السورتين لو كانتا منه بيقين أن تكونا في افتتاح المصحف كالاستعاذة للقرآن، فهذا أيضًا بعض الذي يمنع العلم بحقيقة ذلك عنه، وقد بينا جواز وجه الإشكال مع ما كان الإنزال

لحاجة العباد، وعلى ذلك جرى العمل بهما من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وغيره، فهو أمر لا يضر الجهل بالوجه الذي ذكرت. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لو علمت أن أحدًا أعلم بالقرآن مني وحملتني مطيتي لأتيته. وقد روي عمن ذكر عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يعرض على جبريل - عليه السلام - كل عام مرة إلا في العام الذي قبض عرض عليه مرتين، وقد شهدهما جميعًا عبد اللَّه، فعلَّه لم يعرض ما شاء اللَّه، وإذا كان كذلك لم يكن هو ممن يسأل في هذا الباب غيره ليثبت عنده السماع بأنهما أثبتتا في المصحف؛ فبقي قوله بحيث لا نعرف حقيقته، ووجه آخر أن يكون رآهما منه لكن لم يكتب؛ لوجهين: أحدهما: لما لم يكن موضع الكتاب والتدبير، على ما ذكرنا أن يكون في أول المصاحف، فكره أن يكتب بتدبيره، ويتخير له موضعًا للكتابة؛ فلم يكتب كذلك. والثاني: أنه يكتب ليحفظ ولا ينسى، وقد أمن عليهما النسيان؛ لأنهما بحيث يجب تلاوتهما في أوائل النهار ومبادئ الليل، وعند النوازل ينفع التعوذ بهما من كل شر وكيد، على نحو الاستعاذة وأنواع الدعوات المدعوة، فلما أمن خفاءهما لم يكتب، وعلى ذلك ترك كتابة فاتحة الكتاب، واللَّه أعلم بالصواب. * * *

§1/1